أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - السيد إبراهيم أحمد - موقع التراث العلمي العربي الإسلامي في الفكر الاستشراقي...















المزيد.....


موقع التراث العلمي العربي الإسلامي في الفكر الاستشراقي...


السيد إبراهيم أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 8332 - 2025 / 5 / 4 - 23:59
المحور: قضايا ثقافية
    


هناك مسافة فاصلة تجاه التراث العربي الإسلامي بعامة والتراث العلمي العربي الإسلامي بخاصة وبين الاستشراق بكافة مدارسه؛ فكان نصيب هذا التراث الإنصاف من بعض المستشرقين، في حين واجه الجحود والإنكار والتنمر والتذمر والنفي والتهميش من أغلبهم، وهم الذين يدَّعون العلمية في دراستهم وبحوثهم بينما تحركهم أصوليتهم وعصبيتهم الدينية، وعقليتهم العنصرية الاستعمارية، حيث كان من بينهم القسيس والاستعماري ومن يدين باليهودية.

لهذا عكفوا على دراسة الدين الإسلامي منذ نهاية الحروب الصليبية التي هُزُموا فيها عسكريا وسياسيا، ساعدهم في هذا تدهور الأحوال السياسية والعسكرية والاقتصادية الذي عم العالم الإسلامي، ليأخذ الغرب فرصته في الاستيلاء على أكثر بلاد المسلمين، فنمت الدراسات الاستشراقية واستشرت، وجاسوا خلال المكتبات العربية يجمعون المخطوطات النادرة لبلادهم.

ولقد وضع الدكتور مصطفى السباعي يده على بداية النظرة الدونية من بعض المستشرقين تجاه الحضارة الإسلامية، في كتابه "الاستشراق والمستشرقون ما لهم وما علينا"، فيقول: (إنَّ القوة المادية والعلمية التي وصل إليها الغَرْبِيُّونَ في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أدخلت في نفوس علمائهم وَمُؤَرِّخِيهِمْ وَكُتَّابِهِمْ قدراً كبيراً من الغرور حتى اعتقدوا أنَّ الغَرْبِيِّينَ أصل جميع الحضارات في التاريخ، ما عدا المصرية، وَأَنَّ العقلية الغربية هي العقلية الدقيقة التأمل التي تستطيع أَنْ تفكر تفكيراً منطقياً سليماً، أما غيرهم من الشعوب، وخاصة الإسلامية، فَإِنَّ عقليتهم بسيطة ساذجة، أو بالأصح "ذرية" كما عبر بذلك المستشرق "جب" في كتابه "وجهة الإسلام" ويقصد بذلك أَنَّ العقلية الإسلامية تدرك الأمور بواسطة الجزئيات ولا تدركها إدراكاً كُلِياً).

المؤسف أن المستشرقين انفردوا بنقل ودراسة المخطوطات وصدَّروا للعرب والمسلمين فهمهم عن تراثهم ككل والتراث العلمي بخاصة، حتى انبهر علماء العرب والمسلمين بهذا النتاج الغربي، ووثقوا في أحكامهم بالسلب أو الإيجاب على تراثنا، ومع بداية الصحوة التحررية الاستقلالية من ربقة الاستعمار واسترداد الوعي السياسي والعلمي، نظر العرب والمسلمين في تراث أجدادهم حتى بدت لهم حقيقته الناصعة وأثره في حضارة الغرب، ليكتشفوا حقائق الاستشراق الخبيث وأهدافه في زعزعة الثقة بين المسلمين وتراثهم، وإيهامهم أن الغرب وعلومه هم أصل المدنية والحضارة.

على الرغم من أن التراث العلمي العربي يشمل جزءًا كبيرًا من التاريخ العلمي والحضاري فيما يخص الحضارة العربية الإسلامية ودورها الرائد في مسيرة الحضارة الإنسانية، بشهادة المنصفين من المؤرخين، يرصد الدكتور أحمد فؤاد باشا في مقاله عن "أهمية التراث العلمي العربي" عدد من بعض المُنَظرين الذين يغفلون هذا الدور العربي الإسلامي الرائد، في الوقت الذي يحاولون فيه أن يؤرخوا لنظرية العلم بإيجاد أساس لها عند أفلاطون وأرسطو في الحضارة الإغريقية، أو عند بيكون وديكارت ومِلْ وغيرهم من رواد النهضة الأوروبية الحديثة، بل إننا نجد أن هناك من يثني كثيرًا على ما يُسمى بـ"العلم العبري" و"العلم المسيحي"، كما تساق التبريرات الواهية لاعتبار إسرائيل ضمن الحضارات الكبرى القديمة في الشرق، وللإشادة بالعصر الذهبي للعبقرية السامية في حضارة بابل وآشور.

لقد تحيز بعض المستشرقين لحضارة الإغريق والرومان والفرس، ومنهم أحد أشهر العلماء البريطانيين والرائد في مجال علم الأحياء الجزيئي، والماركسي المتحمس في تدوينه لتاريخ العلم بتمجيد القيم الاشتراكية في كتابه الشهير: "العلم في التاريخ" والذي اتخذ فيه موقفًا عدائيًا تجاه دين الإسلام متهمًا إياه بأنه أقام ثقافة متلاحمة مازالت باقية حتى هذا العصر على الرغم من أنها ليست ثقافة تقدمية، كما يرى أن اللغة العربية لعبت دورًا كبيرًا في منع ظهور الدور الكبير للعنصر الفارسي في العلوم الإسلامية الشرقية، بل يُحَمل المسلمين مسؤولية كبيرة في إقامة الحواجز بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية لكونهم لم يترجموا إنسانيات الإغريق مثلما ترجموا معارفهم العلمية والفلسفية، ولم يرى لعلماء المسلمين من مآثر تذكر سوى أنهم حفظوا فقط مواريث القدماء، وأن أغلب علماء المسلمين اكتفوا بالتمسك بالنمط الكلاسيكي للعلوم، ووثقوا في هذا النمط ولم يكن لديهم أي طموح لأن يطوروه تطويرًا ثوريًّا.

لم يفلت العمران الإسلامي من رؤية المستشرقين المتحيزة في دراساتهم التي حاولوا من خلالها إظهار العجز التام للعنصر العربي في الإبداع، ومنهم كريزويل، ولامينس، ولاسنر، وكوبياك، على الرغم من تأثر الفنون والعمارة الأوربية بالعمارة والفنون الإسلامية، وقد اعترف بهذا العديد من كبار باحثي الغرب المنصفين بهذا التأثير وأهميته، وهي شهادة لها مصداقيتها وأهميتها العلمية لأنها ترد على غير المنصفين من أهل الغرب والذين لا يعترفون بتلك الحقيقة.

وقد تمسك بنفس النهج المتحيز الأستاذ في الأكاديمية الطبية الفرنسية "جان شارل سورنيا" في كتابه "تاريخ الطب" عندما زعم أن المسلمين يؤسسون علومهم الطبية على ركائز "الطب النبوي"، وأوقعه تحيزه الأعمى في خطأ منهجي حين نعت كتاب "القانون في الطب" للفيلسوف ابن سينا بالغموض، وخلوه من أي فائدة عملية للمرضى، مع كونه يذكر أن نفس الكتاب كان أحد المصادر الأساسية للحقيقة، ومادة تعليمية إجبارية في الجامعات الأوروبية طوال ثمانية قرون من عمر الطب الغربي.

يقول الأكاديمي اللبناني رضوان السيد في مقاله: "الإسلام من الاستشراق إلى المراجعين الجدد": (لقد عَملتْ مدرسة الحوليات الفرنسية منذ الثلاثينيات من القرن العشرين على نقض مقولة انحطاط العصور الوسطى الأوروبية. ومنذ عقودٍ عدة ما عاد أحدٌ معتبرٌ يقول بها في أوساط كبار المؤرخين، وهناك تيارٌ قويٌّ في أوساط الدارسين الغربيين اليوم يذهب باتجاه نقض مقولة العصور الوسطى الإسلامية، أبرز مفكريه الأستاذ توماس باور من جامعة مونستر وقد أصدر عام 2018 كتاباً بعنوان: "لماذا لم تكن في الإسلام عصورٌ وسطى؟" وهو مهتمٌّ بنقض مقولة الانحطاط الإسلامي خلال ألف عام).

لم يكن هناك عصور وسطى في الإسلام بل عصر ذهبي في العلوم والفنون والآداب، وهو الأمر الذي كان يعلمه يقينًا البروفيسور "دونالد كاردويل" أحد الأساتذة المشهورين المؤسسين لمتاحف تاريخ العلوم والصناعة ببريطانيا، ومؤسس مدرسة تاريخ العلوم والتكنولوجيا بجامعة مانشستر، وكان أيضًا مدركًا لأهمية البحث في الفجوة التي تقدر بالف عام في تاريخ العلوم أثناء فترة العصور المظلمة بأوروبا وما يقابلها من فترة العصر الذهبي الاسلامي، ولهذا أوصى البروفيسور سليم الحسني، رئيس مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة بإنجلترا، قائلا: (يا سليم، إن فترة ألف سنة ضاعت من تاريخ الهندسة وهي فترة نسميها "العصور المظلمة"، إلا أن أغلب المعرفة المفقودة منها بقيت موجودة بالمخطوطات العربية، التي تملأ أقبية العديد من المكتبات الشهيرة، وأنت أستاذ هندسة متميز في جامعة شهيرة، وتعرف اللغة العربية؛ لذلك فأنت خير من يقوم بملء هذه الفجوة).

إن المشكلة مُلحة وقائمة في التعليم البريطاني إن لم يكن الأوروبي، ذلك أن الطلاب يتدربون على تحليل الأفكار ونقضها؛ ولكنهم عندما تواجههم فكرة غياب أو سقوط عشرة قرون مظلمة، يقال لهم: إن التطورات التي ظهرت فجأة خلال عصر النهضة التي ظهرت فجأة كما لو كانت بفضل معجزة، فإنهم يقبلونها كحقيقة مسلمة، وإن في هذا تحديًا للمنطق؛ فقضايا الاكتشافات والاختراعات لا يمكن أن تظهر بالمصادفة بحسب التفكير العلمي، لكونها تأتي نتاجًا لاستمرار التطور والتواصل في العلوم، وفي الجوانب والحقول المعرفية كلها.

جاءت كلمات الأمير تشارلز المنصفة للإسلام في محاضرة له في مسرح شيلدونيان بأكسفورد عام 1993، والتي حملت عنوان: "الإسلام والغرب"، قال فيها؛ (إذا كان هناك الكثير من سوء الفهم في الغرب حول طبيعة الإسلام، فهناك أيضا الكثير من الجهل بما تدين به ثقافتنا وحضارتنا للعالم الإسلامي. إنه لإخفاق يضرب بجذوره، حسب ظني، إلى قيود التاريخ التي ورثناها، لقد كان العالم الإسلامي في العصور الذهبية، من آسيا الوسطى حتى شواطئ الأطلسي، عالمًا ازدهر فيه العلماء والمتعلمون. لكننا وبسبب نزوعنا إلى رؤية الإسلام عدوًا للغرب وجدناه غريبا عنا في الثقافة والمجتمع والنظام العقائدي؛ فنزعنا إلى تجاهل علاقته الإيجابية بتاريخنا، بل إلى محوها).

لقد كان البروفيسور سليم الحسني رئيس مؤسسة العلوم والتكنولوجيا والحضارة، ورئيس مبادرة ألف اختراع واختراع بالمملكة المتحدة، من بين الحاضرين واستمع لهذه الكلمات في معقل الاستشراق، وكانت دافعًا له لكي يعمل على إصدار كتاب: "ألف اختراع واختراع .. التراث الإسلامي في عالمنا" يشاركه في تحرير الكتاب مجموعة من العلماء بلغ عددهم (21) بروفيسور ودكتور، أساتذة لمختلف العلوم البشرية والكونية، ويقع الكتاب في (395) صفحة من القطع المتوسط، ويضم سبعة فصول غير المصادر، وعنوانها كالتالي: البيت، المدرسة، السوق، المستشفي، المدينة، العالم، الكون.

وعلى قدر الفرحة والسعادة بالنجاح المدوي للكتاب في طبعته الإنجليزية، على قدر الحزن الذي يصيبنا من التقصير والإهمال في حق تراثنا العربي الإسلامي؛ إذ لم نقم بالجهد الذي يستحقه على الرغم من امتلاك عدد من الدول العربية والإسلامية المال، والقامات العربية العلمية ومنهم من يقيم في بلاد الغرب. لقد نفذت الطبعة الإنجليزية الأولى بمجرد طرحها في الأسواق في غضون ثلاثة أشهر، فأتبعوها بطبعة ثانية، وطبعة تركية أوشكت على النفاذ أو تفذت بالفعل، ثم كانت الطبعة العربية التي يجب على كل عربي أن يقرأها، ليزداد عزةً وعلمًا وفخارًا بتراثه العلمي غير المسبوق في وقته، حيث يشكل مقدمات وممهدات لكثير من علوم اليوم.

لقد كانت ردود أفعال الطبعة الإنجليزية من الكتاب مذهلا على أقوال السابقين واللاحقين من غير ذوي النصفة من المستشرقين المتحيزين المتعصبين؛ إذ أصبحت هذه الطبعة جزء من مشروع "ألف اختراعٍ واختراع" الذي يشكل معرضًا جوالا، وكتابا، ودليلا للمعلمين، وملصقات تعليمية تربوية، وموقعا الكترونيا، حتى حصل المعرض على جائزة أحسن معرض متجول من لجنة المتاحف والمعارض العالمية لعام 2011م، ولقد تجاوز عدد من زاروا هذا المعرض المليون زائر في نيويورك، ولوس انجيليس، ولندن واسطنبول، وحظى المشروع بمديح وسائل الإعلام الشعبية والمتخصصة، والجمهور، والمجتمع التربوي التعليمي، والأوساط الأكاديمية.

يقول السير رولاند جاكسون، الرئيس التنفيذي للجمعية العلمية البريطانية في تصديره للكتاب: (أرحب بهذا الكتاب الشيق الأخاذ بوصفه إسهامًا مهمًا في فهم أوسع للعلوم والتكنولوجيا ضمن الحضارة الإسلامية، وفهمًا أوضح لما نحن مدينون به في المجتمعات الحديثة لهذا التراث بوجه خاص… فهذا الكتاب يعد تَذكِرة مطلوبة لنا، لأنه يروي ما قدمه المسلمون من إسهامات عديدة مهمة بعيدة الأثر في تطوير ما لدينا من تكنولوجيا ومعرفة مشتركة، وكلنا أمل في أن يلهم هذا الكتاب المسلمين وغير المسلمين، بل وحتى الذين لا يدينون بدين، وأن يصبح مرشدًا للسبل التي تقود العلم إلى الكشف عن أعاجيب العالم الطبيعي، ومن خلاله يمكن أيضًا للتكنولوجيا أن تساهم بدور فعال في الوسائل التي نستطيع بفضلها العمل معًا يدًا بيدٍ).

لقد ضرب نشر هذا الكتاب القيم عددًا من الأهداف تمثلت في إقرار بعض علماء الغرب الكبار بضرورة دراسة علوم المسلمين التي امتدت لألف سنة بين القرنين السابع والسابع عشر الميلاديين من التراث الإسلامي، وحظي إسهام المسلمين في تطوير العلوم والتكنولوجيا المعاصرة على نطاق العالم بالتقدير الذي يستحقه، أن يعلم كل مهتم بالعلوم الحديثة من المسلمين أن له من الآباء الأوائل من علماء كبار، رواد وأوائل يُقتدىَ بعلمهم، والاعتزاز القوي في قلب كل عربي ومسلم بالتراث العلمي العربي الإسلامي بخاصة والتراث بكل جوانبه بشكل عام.

لا يخفي البروفيسور سليم الحسني سعادته بنجاح المشروع، فيقول: (إنه لما يبعث على السرور أن نرى قضية التراث العلمي الإسلامي تتصدر التغطية الإعلامية، والوثائقيات والمقالات والاحتفالات والأعياد والكتب والمشروعات الأكاديمية.. كما أثبتت استطلاعات الرأي العام العديدة التي أجريت حول المشروع أن أثره إيجابي لدى الجمهور؛ إذ أعاد مئات آلاف الناس مراجعة مفهومهم عما يسمى "العصور المظلمة" وعن دور الحضارة الإسلامية في إرساء أسس العلوم والتكنولوجيا الحديثة).

ولقد ظهرت العديد من المؤسسات العلمية العربية والإسلامية المهتمة بالتراث العربي الإسلامي بشكل عام وبالتراث العلمي العربي الإسلامي خاصة، كما تسابقت في هذا المضمار عدد من الجهود الجماعية والفردية. ومن العاصمة البريطانية انطلق برنامج "سفراء المعرفة ـ ملتقي الشباب العربي - لندن" الذي أسسه ويعده ويقدمه الإعلامي الدكتور شريف التميمي الذي يتناول العديد من القضايا العلمية والأدبية والفكرية التي تتصل بالحضارة العربية الإسلامية، ولقد شَرُفتُ بدعوته لي في تناول التراث العربي الإسلامي عبر حلقة شهرية، ولقد أنجزتُ عددٍ من الحلقات، وآثرتُ أن تكون الحلقات، بحسب موضوعها، مكتوبة تعميمًا للفائدة لمن لا يملك الوقت في متابعة الحلقة مذاعة على الهواء أو مسجلة في موقع البرنامج.

وإذا كنا قد أوردنا بعض المقولات المتحيزة ضد الحضارة الإسلامية منسوبة لبعض المستشرقين غير المنصفين، كان من الواجب بل من الحق أن نذكر بعض المقولات لمستشرقين منصفين يرون أن الفكر البشري كائن ينمو ويتطوّر، متداخل التاريخ في حلقات متتابعة، كان لليونانين قصب السبق، ثم تلاهم العرب، ثمّ أتى الغرب من بعدهم.

ولقد كانت المستشرقة "زيغريد هونكه" من الداعمات لهذ الرأي، بحرصها على تبيين أهميّة الحضارة العربيّة الإسلاميّة وأنها إحدى الروافد الأساسية في تقدّم العلوم، بما قام به علماء هذه الحضارة في إنقاذ التراث العلمي "المخطوطات" المنقول عن الحضارات الأخرى، ولا يتوقف الأمر على النقل، بل استوعبت تراث العالم القديم من علوم اليونان والفرس والهنود، وأبدعت فيه إبداعًا علميًا من قدح زناد قرائح علمائها، وتجاربهم، وصحَّحت ما به من أخطاء خاصة أخطاء تراث اليونانيين.

يقول الدكتور نهيان فانسي: (لقد بلغ التراث العلمي العربي من التطور ما أحدث به تغييرًا جذريًا في التراث اليوناني، مسفرًا عن نظرياتٍ وحقولٍ معرفيةٍ ما كانت لتخطر ببال المؤلفين القدامى. فلم يكن ذلك التراث الجديد محض إحياءٍ للتراث اليوناني، بل إن الفضل يعود إليه في التمهيد لبعض تطورات العلم الحديث).

يقول "توماس أرنولد": (كانت العلوم الإسلامية وهي في أوج عظمتها تضيء كما يضيء القمر فتُبدد غياهب الظلام الذي كان يلف أوربا في القرون الوسطى).

يعلن "جورج سارتون" في كتابه "مقدمة في تاريخ العلم"، فيقول: (حقّق المسلمون عباقرة الشرق أعظم المآثر في القرون الوسطي، فكُتبت أعظم المؤلفات قيمة وأكثرها أصالة وأغزرها مادة باللغة العربية، وكانت من منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي لغة العلم الارتقائية للجنس البشري،). واجه سارتون بعض المستشرقين المُتجنين على علماء الإسلام، بل والإسلام وحضارته فيقول: (إن بعض المؤرّخين يحاولوا أن يبخسوا ما قدّمه العرب والمسلمون للعالم، ويصرّحون بأنّ العرب والمسلمين نقلوا العلوم القديمة ولم يضيفوا إليها شيئًا ... إنّ هذا الرأي خطأٌ جسيم فقد كان العرب أعظم معلمين في العالم، وأنهم زادوا على العلوم التي أخذوها ولم يكتفوا بذلك بل أوصلوها لدرجةٍ كبيرة بالاعتبار من حيث النمو والارتقاء، وإذا لم ينقلوا إلينا كنوز الحكمة الإغريقية وما زادوها عليها من إضافات مهمة لتوقّفت المدنية عن التقدُّم عدة قرون).
لقد أشاد الطبيب الفرنسي، والأنثروبولوجي الاجتماعي"روبرت بريفولت" بالتراث العلمي العربي الإسلامي، بقوله: (إن القوة التي غيرت وضع العالم المادي كانت من نتاج الصلة الوثيقة بين الفلَكيين والكيميائيين والمدارس الطبية، وكانت هذه الصلة أثرًا من آثار البلاد الإسلامية والحضارة العربية، إن معظم النشاط الأوربي في مجال العلوم الطبيعية إلى القرن الخامس عشر الميلادي كان مستفادًا من علوم العرب ومعارفهم، وإني قد فَصلَّتُ الكلام في الدور الذي لعبته العربية في اليقظة الأوربية، لأن الكذب والافتراء كانا قد كثرا في العصر الحاضر، وكان التفصيل لا بد منه للقضاء عليهما).

والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا نهتم بالتراث العلمي العربي الإسلامي في هذه اللحظة الراهنة من حياة العرب والمسلمين، وكان يكفينا دراسة العلم الغربي، ونتجاهل تاريخ العلم العربي؟

من هنا وجب التنبيه على أهمية إحياء التراث العلمي العربي الإسلامي، للعديد من الأسباب:

ـ أن الغرب الذي وصل لهذه المكانة العلمية الفائقة لم يصل إليها إلا من خلال علوم العرب والمسلمين التي يتنكر لها بعض المستشرقين، كما أن علماء الغرب يمدون الجسور مع تراثهم، على الرغم مما وصلوا إليه، فعمدوا إلى إعادة نشر الأعمال الكاملة لكبار مؤلفيهم، وأنشأوا الأقسام الخاصة بالتراث العلمي في عدد من الجامعات والأكاديميات والمعاهد، كما نشروا مئات المجلات الدورية لهذا الشأن وحده، وأعتقد أننا الأولى بأن نفعل هذا بتراثنا الثمين.

ـ إن حياة الأمم ـ كما يقول الدكتور عمر فروخ ـ رهينة بحياة تراثها، وإن الأمة التي لا تراث لها لا تاريخ لها، وإن الأمة التي لا تاريخ لها ليست إلا كتلاً بشرية لا وزن لها في ميزان الأمم.

ـ إنَّ علماء العرب مطالبون اليوم ـ بحسب تخصصاتهم ـ في الزود عن تراثهم العربي الإسلامي، فما زالت الطغمة الكارهة للحضارة العربية الإسلامية بحسب المدارس الاستشراقية لا تلين ولا تستكين من أجل تقويض وضعضعة أركان التراث العربي الإسلامي، وهو ما يوجب التآزر والتعاضد والتعاون بين كافة المراكز والأكاديميات والمؤسسات العربية الإسلامية المعنية بأمر وقضايا التراث؛ بهدف تكوين جبهة قوية متماسكة متناغمة تعمل بفكر استراتيجي منظم، توفيرا للوقت والمال والجهود، والتنسيق فيما بينهم في تحقيق المخطوطات حتى لا يتكرر تحقيق ما تم تحقيقه منها، مع ضرورة جمع وفهرسة المخطوطات المبعثرة في جهات كثيرة من أجل الحفاظ عليها.

ـ لا يمكن فهم الثقافة العربية وحقيقة العقل العربي في غياب فهم عميق للتراث العلمي العربي/ الإسلامي، لأن تاريخ الحضارة العربية هو تاريخ العلم العربي، لهذا فإن أجيالنا العلمية اليوم مطالبة بالعودة إلى تراثها العلمي والحضاري من أجل فهمه والاستفادة من روحه ومنهجيته وحكمته. كما يقول الدكتور قديدير بو جمعة في دراسته عن العقل العلمي العربي.

ـ إن عرض التراث العلمي العربي الإسلامي مترجما لعدد من اللغات، باعتبارها تراث إنساني مشترك يخلق مناخًا طيبًا بين المسلمين وبين أهل الديانات الأخرى. ولقد جاء هذا المطلب استلهامًا من قصة يحكيها البروفيسور سليم الحسني، يقول: (قبل بضع سنين كنت أقدم عرضًا لإسهامات المسلمين في العلوم والتكنولوجيا، أمام جمع غفير في مدينة "واتفورد"، فلما انتهيتُ انتفضت رئيسة الجلسة السيدة عمدة المدينة متسائلة بشكل غاضب: (لما لا يستخدم المسلمون مثل هذه اللغة للحوار بيننا، بدلا من لغة الدين والاختلافات السياسية؟! لماذا لا نجد مثل هذه المعلومات في مناهجنا الدراسية الوطنية؟!).



#السيد_إبراهيم_أحمد (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يكون الفكر رسالة... والقلم جسرًا للنور ..
- البنية المكانية في رواية -من أجل ذلك- لِ: خالد الجمال..
- سفراء المعرفة العرب بين المعاصرة والتراث..
- القفلات المدهشة وجمالياتها في القصة القصيرة جدًا:-بدون إبداء ...
- طهطاويون منسيون: -أَنْطُون زِكْرِي- أنموذجًا..
- قراءة في ديوان -فوق ختم العودة- للشاعر عادل نافع..
- استلهام التاريخ وتوظيفه في مسرحية: -يوم الطين- لخالد الجمال. ...
- الأب: بين النفي الجندري.. وإشكالية الرجل/الأم..
- تيار الوعي في رواية -الدخان- ل -أبا ذر آدم الطيب-..
- الروائي السوداني بين التحديات والإنجازات..
- -الإسراء والمعراج- في الفكر الاستشراقي ....
- بعض قصائد السنوسي في ضوء -اللحظة الراهنة الممتدة- ...
- رتوش -هزاع- على وجه الدين والوطن..
- -الذات-: بين الاسترداد والحسرة الوجودية: قراءة في ديوان -درو ...
- انهيار الحركة الإنسانية: بين رؤية -بلوك- وسيولة -باومان-..
- فلسفة المعاني في قصائد وأغاني جلال مصطفى
- نصف وجه -سوزان هيل-: بين النص والعرض
- -ليالي الحلمية-: مسلسل بين الريادة والعمادة..
- قراءة في التجربة الإبداعية للدكتورة عزيزة الصيفي
- عندما غنت -الست- في السويس: -توثيق فني وتاريخي-..


المزيد.....




- ترامب يتحدث عن إمكانية تخفيف الرسوم الجمركية على الصين.. هذا ...
- مالطا تقترح إصلاح سفينة من -أسطول الحرية- استُهدفت بمسيرات ف ...
- هذه كانت وصية البابا الأخيرة.. تحويل سيارته إلى عيادة متنقلة ...
- مصدران لـCNN: إسرائيل تصادق على خطة موسعة لاحتلال أراضي غزة ...
- زيلينسكي: بعض السياسيين الأوروبيين يسعون للحصول على مقعد أفض ...
- مجلس الوزراء الأمني الإسرائيلي يوافق على توسيع الهجوم في غزة ...
- الهباش: عباس يعتزم مناقشة الوضع في غزة والعلاقات الثنائية مع ...
- إنجاز روسي جديد.. أول قمرة قيادة بدون نوافذ للطائرات فوق الص ...
- الأمن الروسي يلقي القبض على مواطن تلقى تعليمات أوكرانية لتنف ...
- إسبانيا تعبر عن قلقها إزاء الأوضاع في سوريا وتدعو إسرائيل إل ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - السيد إبراهيم أحمد - موقع التراث العلمي العربي الإسلامي في الفكر الاستشراقي...