أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد رباص - قصة الحذاء البلاستيكي وشرائح اللحم التي نخرتها الديدان














المزيد.....

قصة الحذاء البلاستيكي وشرائح اللحم التي نخرتها الديدان


أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)


الحوار المتمدن-العدد: 8323 - 2025 / 4 / 25 - 17:39
المحور: الادب والفن
    


خلال هذا الفصل من كتاب حياتي في الجنوب المغربي، يحلو لي أن أعود بالذاكرة إلى مجمع (الفكارة) وأن أفتح المذكرة الحاوية لوقائع عشتها وعايشتها هناك ابتداءً من بداية خريف عام 1988 إلى بداية صيف العام الموالي. من هذه الوقائع ما خضع لآلية السرد ومنها ما زال مادة خاما ثاوية في في تلافيف الذاكرة.
لم أعد أذكر السبب الذي جعلني ذات يوم أستعمل حجرة دراسية خاصة بمعلم القسم الثاني، مبنية بالتابوت ومسقفة بالقصب والخشب، عوض قسم مبني بالمفكك كان من نصيبي منذ انطلاق السنة الدراسية. وضعت الأقسام القابلة للتفكيك قبالة عين الشمس، في حين كان باب القسم الاخر ونوافذه مواجهة لجبل (أزكيغ) الذي يحجب عن الأهالي دينامية السير على طريق معبدة (تستعملها أيضا الشاحنات المحملة بالمعادن المستخرجة من منجمي (البليدة) و(بووزار)).
في هذا القسم المبني بالطين، استقبلت تلاميذ القسم الثالث لأقدّم ما أعددت لهم في هذا اليوم من حصص في مواد مختلفة باللغة العربية. تذكرت اليوم الذي مررت فيه أمام هذا القسم وألقيت نظرة خاطفة إلى السبورة حيث اكتشفت أن المعلم المتحدر من نواحي( قلعة مكونة) كتب عليها كلمة “أمرؤ” بواوين.
ربما لهذا السبب قال كارل ماركس: “المربي في حاجة دائما إلى تربية”. انتهت الحصص ودقت ساعة الخروج، فلاحطت أن تلميذا ينتعل صندلا بلاستيكيا متآكلا يعرف باسم “حلُّومة”، ويجد صعوبة في المشي لأنه من كثرة ما فقد من الأجزاء لم يعد صالحا للاستعمال.
سألت التلاميذ عن إمكانية اقتناء حذاء بلاستيكي جديد في المجمع من عدمها، فأعلموني أن “المقدم” يتوفر في متجره على على الحذاء الذي أبحث عنه. تطوع إثنان من التلاميذ للذهاب إلى الحانوت قصد شراء الحذاء والإتيان به في أسرع وقت ممكن، قبل أن يتناول مني أحدهما قطعة نقدية معدنية بقيمة عشرة دراهم. عادا الطفلان بخفين جديدين من اللدائن؛ لم يسبق لأي ابن أنثى أن انتعلهما اللهم إلا إذا حدث مثل ذلك من قبل طفل آخر أثناء المقايسة. ناديت على الطفل ذي الصندل المهترئ وطلبت منه أن يستبدله بالجديد، فعل ما أمرته به، فبان لنا أن مقاس فردتي الحذاء مواتٍ لحجم قدميه.
فرح تلميذي بالهدية التي بدرت مني فكرتها وحرصت على تنفيذها على الفور انطلاقا من إحساس عاطفي تجاه الطفل الذي عملت عن طيب خاطر وخالصه على تخليصه من التعثرات التي تعيق خطوه بسبب صندله المتآكل. لم أكن أتوقع، لسذاجتي وحداثة عهدي بطبائع وعادات الأهالي في هاذي الربوع، أن التلاميذ شاهدوا المبادرة وتشخيصاتها وكأنها فرجة مسرحية لم يرتجلها الخيال بل هندسها الواقع وجسدها في بناء درامي مؤثر. لم يدر بخلدي أن الأطفال سوف يصرفون التأثير الذي مارسته عليهم الواقعة من خلال رفع تقارير شفوية لآبائهم وأمهاتهم اعتمادا على روايات مختلفة مضافا إليها توابل وبهارات من خيالهم.
في الغد، جاء أب التلميذ المعني إلى المدرسة في حالة غضب ورد إلي ثمن الصندل بطريقة لا تخلو من نذالة. استغربت وتساءلت: كيف لأنفة هذا الرجل أن منعته من تقبل هديتي وسمحت له بأن يرسل ابنه إلى المدرسة حافي القدمين إلا من أسمال بلاستيكية متلاشية؟! عندما انصرف الأب إلى حال سبيله، ظهر لي ابنه وقد انتعل حذاء رياضيًا جديدا كان يباع أنذاك بنفس الثمن. المهم أن مبادرتي أتت أكلها وانتهت إلى النتيجة التي رغبت في بلوغها؛ ألا وهي تمكين الطفل من حقه في الخطو والقفز بدون مشاكل.
لأن أصله أمازيغي ويتقن لغة قومه من مخارج حروفها، كان المعلم الأزيلالي في كل ليلة على موعد مع طائفة من أبناء الدوار. يزداد عددهم أو يتقلص في كل ليلة تبعا للظروف المعيشية والأحوال المناخية. أحيانا، أدخل عليهم باستئذان، فأجدهم منخرطين في حديث لا ينتهي!
من المناسب هنا التنبيه إلى أن ما أسترجعه الآن بقايا صور رسخت في ذاكرتي من المدة الزمنية التي كنت فيها حبيس “الگصر”. كانت الغرفة الضيقة والمظلمة التي لم أختر السكن فيها تقع مباشرة فوق غرفة المعلم الأزيلالي، لهذا كانت تصل إلى سمعي أصوات تدل على أن في بيت زميلي شباب جاؤوا عنده لتزجية الوقت في القيل والقال إلى أن يبلغ الليل منتصفه ويتعداه أحيانا.
من عادة صديقي أن يهيء طعام عشائه بحضور ضيوفه وأمام أعينهم، رأيته مرارا يقشر حبات البصل والبطاطس والبندورة.
في بعض المرات، يطهو في قدره المعدني قدرا كافيًا له وحده من حبوب اللوبيا. في كلتا الحالتين، لا بد له من إعداد مرق بإضافة قليل من اللحم إلى القدر حتى يكون للأكلة مذاق يفتح الشهية. لكن ما يبعث على التقزز هو تلك الديدان التي يجدها المعلم عالقة بشرائح اللحم التي كان قد ملّحها بعد عودته من أخر سوق أسبوعي. في غياب البديل، يضطر المعلم لأن يحتفظ بالشرائح التي نخرها الدود مكتفيا بنفضها ليتساقط على الأرض.
من خلال احتكاكي بهذا المعلم أثناء فلتات زمنية جادت بها المدة التي جاورته فيها، أدركت أنه كلما نضجت أكلته وطابت يسرع إلى إخماد نار الكانون تاركا القدر في مكانه، ولا يتناول عشاءه إلا بعد أن ينصرف من عنده آخر واحد من أبناء المجمع الذين اعتادوا أن يلتموا ليلا في بيته. ورغم أن التحلي بفضيلة الكرم والاتصاف بخصلة القناعة في مثل هذه الحالة قد يعرضان صاحبهما لأن يبيت على الطوى، وهو يتقلب على دفتيه، لم أجرؤ يوما على منع ضيوفي من أن يتقاسموا معي الأكل ساخنا حالما انتهي من إعداده، حتى وإن لم يزد نصيبي منه عن مضغة أو لقمة واحدة.



#أحمد_رباص (هاشتاغ)       Ahmed_Rabass#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جان بيير-فرنان: لسنا في حاجة إلى الرجوع للقديس أوغسطين لإثبا ...
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...
- التجارة الخارجية: إطلاق التأمين العمومي التكميلي للصادرات في ...
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء
- سقوط الأطفال في الآبار: أين مشروع قانون حفر الآبار المنتظر ف ...
- تمارة: ندوة دولية حول موضوع: اليسار العالمي والمحلي وآفاق إع ...
- الإصلاح الجديد المرتقب لأنظمة التقاعد: استطلاع آراء بعض المو ...
- البيان الختامي للمجلس الوطني لقطاع التعليم المنضوي تحت لواء ...
- الرباط-الجزائر-باريس: مثلث الاضطرابات
- وقائع الندوة الفكرية الأولى ضمن فعاليات المجلس الوطني لقطاع ...
- ارتفاع نسبة الطلاق خطر حقيقي يهدد الأسرة المغربية
- بوزنيقة: هل ستطال حملة تحرير الملك العمومي المخالفين للقانون ...
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...
- وفاة معلمة ومؤطر تربوي بعد الاعتداء عليهما يقلص فرح أستاذات ...
- الحراك التعليمي في المغرب: مقاربة سوسيولوجية
- عندما هدد ظهير بشكل مباشر عرش الحسن الثاني
- الأساتذة المقصيون من الترقية إلى خارج السلم يرفضون الجواب ال ...
- الهجمات الإلكترونية: جبهة جديدة في التنافس بين المغرب والجزا ...
- المغرب: دراسة سوسيولوجية للحراك التعليمي الذي عكس أزمة عميقة
- لقاء نتنياهو بترامب: مفاوضات دبلوماسية مع إيران وتركيا


المزيد.....




- شاركت في -باب الحارة- و-هولاكو-.. الموت يغيب فنانة سورية شهي ...
- هل تنجو الجامعات الأميركية من تجميد التمويل الحكومي الضخم؟
- كوكب الشرق والمغرب.. حكاية عشق لا تنتهي
- مهرجان الفيلم العربي في برلين: ماض استعماري يشغل بال صناع ال ...
- شاركت في -باب الحارة- و-ليالي روكسي-.. وفاة الفنانة السورية ...
- ارتفاع شعبية فرقة -آي يولاه- البشكيرية في روسيا وخارجها (فيد ...
- معرض الكتاب العربي العاشر في صور.. ثقافة تقاوم الدمار الإسرا ...
- سينمائيو ذي قار يردون على هدم دور السينما بإقامة مهرجان للأ ...
- بحضور رسمي إماراتي.. افتتاح معرض -أم الأمة- في متحف -تريتياك ...
- مسلسل مصري شهير يشارك في مهرجان أمريكي عالمي


المزيد.....

- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد رباص - قصة الحذاء البلاستيكي وشرائح اللحم التي نخرتها الديدان