زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8316 - 2025 / 4 / 18 - 12:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نافذة على الصحافة الروسية
نطل منها على أهم الأحداث في العالمين الروسي والعربي والعالم أجمع
*اعداد وتعريب د. زياد الزبيدي بتصرف*
18 أبريل 2025
الجزء الثاني والاخير
-----
الصناعة
أطلق خروتشوف إصلاحات واسعة النطاق في قطاع الصناعة. ففي عام 1957، تم اتخاذ مسار نحو لامركزية الاقتصاد الوطني، حيث أُلغيت الوزارات القطاعية على المستويين الإتحادي والجمهوري، وتم استبدالها بمجالس الإقتصاد الشعبي (سوفنارخوز) على أساس إقليمي. فأصبحت المصانع والمعامل، التي كانت سابقًا تابعة لوزارات وقطاعات مختلفة، تدار بشكل موحد ضمن منطقة واحدة.
لكن هذه السياسة أدت إلى الفوضى، وتعطُّل الإمدادات والتمويل، وانهيار الروابط القطاعية، وغيرها من النتائج السلبية. فبدأت السلطات بتكبير مجالس الاقتصاد الشعبي، ثم أنشئت مجالس على مستوى الجمهورية، وأخيرًا مجلس على مستوى الاتحاد، إلا أن ذلك لم يحل المشكلة. وبعد إقالة خروتشوف، تقرر التخلي عن نظام السوفنارخوز، والعودة إلى الإدارة القطاعية، وأُعيدت الوزارات الصناعية إلى سابق عهدها.
وكانت هناك أيضًا "اختلالات" أخرى. ففي عهد ستالين، خُصصت الأولوية خلال فترتي التصنيع وإعادة الإعمار بعد الحرب للصناعة الثقيلة وإنتاج وسائل الإنتاج، وكان ذلك مبررًا في وقته. أما في عهد خروتشوف، فقد زادت الانحرافات لصالح الصناعة الثقيلة حتى تفوقت على تلك التي حصلت في عهد ستالين؛ ففي عام 1954 كانت الصناعة الثقيلة تشكل 70٪ من الإنتاج، بينما بلغت 75٪ في أوائل الستينيات. واختفت سلع الاستهلاك من الأسواق، في الوقت الذي كانت فيه الزراعة تنهار.
كما أدت تجارب خروتشوف في الاقتصاد الوطني إلى استنزاف احتياطي الذهب في البلاد. فقد باعت الحكومة بحلول عام 1965 أكثر من 3 آلاف طن من الذهب، معظمها بين عامي 1963-1964، حين وصلت الإصلاحات الاقتصادية لعام 1957 إلى ذروتها. وفي عام 1964، واجهت البلاد نقصًا حادًا في الخبز، وكادت تتعرض لمجاعة، ما اضطر القيادة السوفياتية لأول مرة في تاريخ البلاد إلى شراء الحبوب من الخارج. ففي حين كان الفلاحون السوفيات يعانون في العشرينات والأربعينات، كانت البلاد تصدر الخبز، وتكسب من العملة الأجنبية، أما في عهد خروتشوف فقد تدفّق الذهب السوفياتي إلى الغرب.
التقسيمات الإدارية والإقليمية
وضع خروتشوف أيضًا "ألغامًا" في التقسيمات الإدارية والإقليمية للإتحاد السوفياتي. ففي عام 1954، وبمبادرته، نُقلت منطقة القرم من جمهورية روسيا السوفياتية إلى أوكرانيا، رغم أن القرم لم تكن يومًا تابعة لأوكرانيا. ولا يزال غير معروف من الذي نصحه بذلك، لكن التنفيذ جرى على يديه. اللافت أن فكرة نقل القرم إلى أوكرانيا طُرحت لأول مرة عام 1919 من قبل الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون ومستشاره هاوس، خلال مؤتمر السلام في باريس. وبهذا يكون خروتشوف، من دون أن يدري، قد نفذ مخططًا استراتيجيًا أنغلوساكسونيًا.
وفي عامي 1957-1958، أعيد الحكم الذاتي القومي إلى شعوب سبق ترحيلها، مثل الكالميك، الشيشان، الإنغوش، القراشاي والبلقار، وسمح لهم بالعودة إلى أراضيهم التاريخية، ما أدى إلى زعزعة الأثر "التربوي" للترحيل. والأسوأ أن هذه الشعوب المُعادة حصلت على امتيازات وتسهيلات. ففي يناير 1957، أعيد إنشاء جمهورية الشيشان-إنغوش السوفياتية الإشتراكية ذات الحكم الذاتي، واحتفظت بمناطق مثل ناورسكي وشيلكوفسكي، التي كانت تابعة لإقليم ستافروبول وسُكنت في الغالب من الروس. وكانت هذه المناطق سابقًا ضمن جمهوريات القوزاق، وتمت إعادتها إلى الجمهورية دون منحها وضعًا ذاتيًا.
وتم فصل منطقة كيزليار، ذات الأغلبية القوزاقية، عن ستافروبول وضُمّت إلى داغستان. وتم منع الشيشان العائدين من الاستيطان في مناطقهم الجبلية الأصلية، وأُعيد توطينهم في السهول التي كانت مأهولة من قبل القوزاق. وبدأت نسبة الشيشان بالارتفاع في ناور وشيلكوفسكي. أما عودة القراشاي، البلقار والإنغوش فقد تسببت في توترات مع الأوسيتيين، الشركس والقبرديين الذين كانوا قد وسّعوا أراضيهم عام 1944. وأدى ذلك إلى عمليات ترحيل جديدة، وزُرعت بذور صراعات قومية انفجرت لاحقًا عند تفكك الإتحاد السوفياتي.
ضرب التكاثر السكاني والكنيسة
كما أشرنا، ألحق خروتشوف أضرارًا جسيمة بالقرية السوفياتية، لكن ضربة أخرى للمجتمع تمثلت في تشريع الإجهاض. ففي عام 1936، ونتيجة للوضع الديموغرافي الصعب، حُرمت النساء من الإجهاض تحت طائلة العقوبة الجنائية، بقرار من اللجنة التنفيذية العليا ومجلس مفوضي الشعب في 27 يونيو 1936. كما شمل القرار تعزيز الدعم المادي للأمهات، وتوسيع شبكة المستشفيات ودور الحضانة. إلا أن الإجهاض سُمح به في حالات طبية خاصة.
وفي 23 نوفمبر 1955، صدر مرسوم يُلغي الحظر، ويُسمح بالإجهاض لكل النساء ما لم يكن هناك مانع طبي. يُذكر أن الإتحاد السوفياتي كان في هذا المجال متقدمًا على الغرب، فقد كان أول دولة تُشرّع الإجهاض في عام 1920، في عهد كان يسود فيه التيار التروتسكي. وفي 1955، عادت البلاد إلى نفس النهج التدميري. على سبيل المقارنة، لم تُشرع بريطانيا الإجهاض إلا في 1967، وأمريكا في 1973، وفرنسا في 1975.
أما "الذوبان الثقافي" في عهد خروتشوف، فقد ترافق مع موجة جديدة من إضطهاد الكنيسة الروسية. وكان ميخائيل سوسلوف، الأيديولوجي الحزبي الرئيسي، يقود تلك الحملة. فبدأت حملة إغلاق الكنائس وتحويلها إلى مخازن ونوادٍ. بينما كان هناك تفاهم نسبي بين الدولة والكنيسة في عهد ستالين، حيث بلغ عدد الكنائس العاملة 20 ألفًا، لم يبقَ منها سوى 7500 في عهد خروتشوف. واستُؤنفت الاعتقالات ضد الكهنة والمؤمنين.
وتعرض المذهب القديم (المنشقون الأرثوذكس) لضربات قوية، ووصِف أتباعه اللاكهنوتيين بـ"الطوائف". أُغلقت دور العبادة، وتم نهب الأيقونات القديمة وكتب ومخطوطات الكنيسة من قرى المذهب القديم، وضاع الكثير منها أو هُرّب إلى الخارج.
السياسة الخارجية
في خريف 1954، قبل أن يُحكم قبضته على السلطة، زار خروتشوف الصين مع ميكويان وبولغانين. والنتيجة كانت تنازلًا عن كل حقوق الإتحاد السوفياتي في منشوريا، وخسارة بورت آرثر وداليان. بينما كان ستالين مستعدًا للتخلي عنهما بشرط الشراكة، فإن خروتشوف قدّمها للصين دون شروط. كما دُمّرت الشركات المشتركة، ونُقلت أصولها بالكامل إلى الصين، إضافة إلى منحها قروضًا ضخمة. وواصل الإتحاد السوفياتي بناء قاعدة علمية وصناعية للصين.
وفي 1955، وبعد تأسيس حلف وارسو، أبرم الإتحاد السوفياتي اتفاقًا مع الغرب يقضي بانسحاب القوات السوفياتية من النمسا، دون الحصول على أي تنازلات متبادلة. وفي المقابل، كان الغرب يؤسس تحالفات جديدة مثل سياتو وسينتو ويضم ألمانيا الغربية إلى الناتو.
وبينما كان الغرب يحشد عسكريًا، تخلت موسكو من جانب واحد عن قاعدة استراتيجية في قلب أوروبا — النمسا. والمثير أن النمساويين لم يكونوا معادين للسوفيات، ولم تكن هناك أي دوافع داخلية أو خارجية للانسحاب.
ثم تبع ذلك صيف 1955، حين زار خروتشوف ويوغوسلافيا واعتذر لتيتو، مُحمّلًا موسكو وحدها مسؤولية القطيعة، ووافق على مساعدات اقتصادية ضخمة لبلد معزول. لكنه لم يحصل في المقابل على شيء سوى كلمات "صداقة".
وفي صيف 1955 عُقد مؤتمر جنيف للدول الكبرى، الذي انتهى بالفشل التام. ورفضت الدول الغربية كل اقتراحات موسكو بشأن الأمن الجماعي و"القضية الألمانية". لكن الإعلام السوفياتي قدّمه كنجاح، وصُنع لخروتشوف صورة زعيم يسعى للسلام — وهي ذات الأساليب التي استخدمها الغرب لاحقًا مع غورباتشوف.
في سبتمبر 1955، زار المستشار الألماني أديناور موسكو، وتم تبادل العلاقات الدبلوماسية مع ألمانيا الغربية، من دون أي تنازل مقابل. وأطلق خروتشوف سراح الأسرى الألمان، وشمل العفو أيضًا المتعاونين مع الألمان (من أمثال "الڤلاسوفيين").
وفي أكتوبر 1955، قام خروتشوف بجولة إلى الهند، بورما وأفغانستان، وقدم لها قروضًا ضخمة، مثل 135 مليون دولار لبناء مصنع في الهند، رغم أنها لم تكن حليفة للإتحاد السوفياتي، بل حيادية. وأصبح حياد الدول يُكافأ على حساب الإقتصاد السوفياتي.
ومع تفكك النظام الاستعماري القديم، تبنّى الغرب شكلاً جديدًا للهيمنة: عبر الاقتصاد، التعليم، التكنولوجيا، الثقافة... بينما سعت موسكو لاستقطاب الدول الجديدة بتقديم دعم هائل — أغلبه ذهب سُدى. ومثال على ذلك: مصر، حيث دعمتها موسكو ضد العدوان الثلاثي، ومولّت بناء سد أسوان، لكن عبد الناصر واصل اتباع سياسة مرنة مع الغرب. وكذلك الحال في العراق.
خروتشوف والسباق نحو "السلام"
واصل خروتشوف دعواته للسلام من جانب واحد، فاقترح نزع السلاح بالكامل، والإبقاء فقط على قوات شرطة. وسيتبع غورباتشوف نفس المنهج لاحقًا، لكن الإتحاد السوفياتي وحده من نزع سلاحه.
فرض خروتشوف حظرًا على التجارب النووية، وخفّض القوات المسلحة من 5.8 مليون إلى 2.5 مليون. وجرى ذلك بسرعة كبيرة، وشملت التخفيضات آلاف الضباط المجربين. وحُلّت وحدات عسكرية وكليات، وجرى إلغاء مشاريع عسكرية كانت ستجعل الإتحاد السوفياتي يتقدم العالم بعقود. فيما الغرب لم يرد بالمثل، بل إستمر في تطويق موسكو بقواعده.
---
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟