|
يسطات واكشاك بصرة
خيرالله قاسم المالكي
الحوار المتمدن-العدد: 8258 - 2025 / 2 / 19 - 20:57
المحور:
الادب والفن
بسطات واكشاك بصرية كانت شمس الجمعة المائلة نحو الغروب تلوّن سماء البصرة بلونٍ انتقته من تاج مجدها، الموشوم بالخط المسماري المنقوش على المسلات والأحجار والتماثيل، حيث يقف إله الحكمة والحب والجمال شاهدًا على الأزمنة المتعاقبة. بينما تتهامس أوراق النخيل مع نسيم شط العرب الخفيف، يظل شارع الفراهيدي شاهدًا على تحوّلٍ ثقافي لم تنجح السنوات العجاف في كسره، حيث يلتقي الضوء الذهبي بأعمدة الإنارة الشمسية، في مشهدٍ يمتزج فيه الماضي بالحاضر. على مدخل الشارع، جلست هيفاء خلف كشكها الخشبي الصغير، تتراص أمامها الكتب بمختلف اللغات والعناوين. كانت تلمس غلاف كتابٍ قديم بعناية، وكأنها تلامس ذاكرة المدينة. قبل سنوات، كانت هيفاء باحثةً تائهة بين رفوف المكتبات المهجورة، لكنها اليوم تحولت إلى حارسة لهذا الكشك، الذي أصبح جسرًا بين الماضي والحاضر. تذكرت كيف بدأ الشارع كفكرةٍ بين مجموعة شبابٍ متحمسين عام ، وكيف تحوّل من رصيفٍ ترابيٍ مهمل إلى ملتقى للثقافة والفنون بمختلف مدارسها الأدبية والفكرية. في زاويةٍ أخرى من الشارع، كانت هيفاء تقرأ شعرًا لكريم جخيور وكاظم الحجاج وعلي نوير، بينما تزين رفوف مكتبتها كتب محمد خضير. أما في الفن التشكيلي، فقد كان الفنان صبري المالكي منزويًا في إحدى الجلسات النقاشية، حيث احتشد الأدباء والفنانون والقراء المهتمون بالأدب والعلوم والفنون، إضافةً إلى المتبضعين الذين جاؤوا ليحملوا معهم جزءًا من ذاكرة المكان. عبر الشارع، كانت أم ظافر توزّع دولمتها الشهيرة على الزبائن، بينما تعبق رائحة الأرز المتبل بالبهارات والليمون في الأجواء. حولها، عرضت نسوةٌ أخريات حلوياتٍ ومعجناتٍ صنعتها أيديهنّ الماهرة. ابتسمت أم ظافر لامرأةٍ شابةٍ وسيمةٍ اشترت طبقًا صغيرًا، ثم سألتها: "هل ستذهبين إلى الأمسية الشعرية صباح الغد؟" اتظر ما سيكرمنا يوم الغد في مقهى الشعراء، كانت الأمسيات جزءًا من روح الشارع، حيث يجتمع الشعراء والفنانون حول المنصة الخشبية، بينما تتدلى الأضواء الشمسية مثل نجومٍ أرضية، تنثر نورها على رواد الثقافة. في أحد الأكشاك المجاورة، كان مأمون الحافي يرتّب كتبًا عن تاريخ البصرة. ورغم أن أرباحه قليلة، إلا أنه يصرّ على البيع بأسعارٍ زهيدة. يقول مبتسمًا كعادته لأحد الزبائن الذي كان يتصفح روايةً قديمة: "الكتب ليست سلعةً، بل رسالة." كان مأمون أحد الذين صمدوا أمام الإهمال السياسي والظروف المناخية القاسية، مؤمنًا بأن الثقافة قد تبني ما دمرته الحروب، كما يقول احد الحكماء مع حلول المساء، بدأ الشارع يمتلئ بالحياة: عائلاتٌ تتجول بين الأكشاك، شبابٌ يناقشون كتابًا جديدًا، وفنانةٌ تشكيلية تعرض لوحاتها على رصيفٍ من الرخام. حتى الكراسي الخشبية المصطفّة تحت الأعمدة لم تخلُ من جلساتٍ حميمية، حيث كان كل شيء هنا يشي بجهدٍ جماعي، من الباعة الذين بنوا أكشاكهم بأيديهم، إلى البلدية التي دعمت الإنارة الشمسية والأرصفة الحديثة. في زاويةٍ هادئة، وقفت ماجدة، طالبةٌ جامعيةٌ تزور الشارع لأول مرة، تتأمل مشهدًا لم تتخيله يومًا في مدينتها. التقطت كتابًا عن تاريخ الأدب العربي، ثم نظرت إلى لوحةٍ معلقة وسط الطريق كُتب عليها: "شارع الفراهيدي: واجهة البصرة الثقافية." شعرت أن الأكشاك الخشبية ليست مجرد أماكن بيع، بل خلايا نحلٍ تنتج عسلًا من الأفكار. كان الشارع في قلب المدينة ينبض بالحياة، كأنه ذاكرةٌ حيّةٌ للعابرين، حيث تلتقي الأرواح التوّاقة للمعرفة بين أكشاك الكتب، وصدى الشعر العالق في الهواء، والمناقشات التي لا تنتهي حول الفلسفة والسياسة والأحلام الضائعة. صابر ، ذلك الشاب الحالم، كان يسير بين الأكشاك كما لو كان يمشي في متاهةٍ من الأفكار. لم يكن مجرد قارئٍ يبحث عن كتابٍ جديد، بل كان يلاحق ذاته بين العناوين، يبحث عن صوته وسط الحروف المتناثرة فوق الطاولات الخشبية. توقف عند أحد الأكشاك التي امتلأت بروايات ماركيز وكامو وسارتر، وتيشخوف وكتاب الادب الروسي واللاتيني عدى الكتاب العرب تلمّس غلاف كتاب "الغريب"، ثم رفع رأسه ليسأل البائع العجوز: صابر: "هل يمكن لكاتبٍ أن يكون نبيًا دون أن يحمل رسالةً سماوية؟" ابتسم العجوز، الذي بدا وكأنه جزءٌ من الشارع نفسه، وقال: البائع: "الكتّاب العظماء هم أنبياء زمانهم، لكن رسائلهم تُقرأ بدل أن تُوحى." أومأ صابر برأسه متأملًا، ثم تحرك إلى الأمام، حيث كانت هناك حلقة نقاش تحت شجرةٍ كبيرةٍ عند طرف الشارع. اقترب ليستمع إلى نقاشٍ حاد بين رجلٍ مسنٍّ يرتدي نظاراتٍ سميكة، وشابٍ في منتصف الثلاثينيات يحمل سيجارة بين أصابعه. الرجل المسن: "الكتب لم تعد تغيّر العالم كما في السابق، الناس يقرؤون لكنهم لا يفعلون شيئًا!" الشاب: "القراءة ليست سحرًا، بل هي ضوءٌ في الظلام، ومن يمتلك النور عليه أن يقرر كيف يستخدمه." جلس صابرعلى طرف الرصيف، مستمتعًا بالنقاش، وكأنه مشهدٌ من مسرحيةٍ لم تُكتب بعد. في ذلك المساء، وبينما كانت الشمس تودّع الشارع، وقف صابر أمام أحد الأكشاك التي تبيع كتبًا قديمة بغلافٍ ممزق وصفحاتٍ صفراء، فوقع بصره على كتاب يحمل عنوان "مسلة حمورابي". ابتسم ساخرًا وقال بصوتٍ خافت: "هل ما زالت القوانين تُكتب على الحجر بينما تُمحى العدالة من القلوب؟" أخذ الكتاب، دفع ثمنه، وغادر، تاركًا وراءه أصوات الباعة، وحبر الورق، وأحلام الشارع الذي لم ينم يومًا. مع إغلاق آخر كشكٍ أبوابه، بقيت أضواء الطاقة الشمسية تُنير الشارع، كأنها تحرس أحلام البصريين. منتهى، تلك البائعة المثقفة، أغلقت كشكها بغطاءٍ قماشي، ثم همست لنفسها: "هذا الشارع لم يُبنَ بالإسمنت فقط، بل بالإرادة التي لا تعرف المستحيل." في بلدٍ كان أول من صنع العجلة، وأول من خطّ الحرف، وترك لنا مسلةً ما زالت تحمل في متونها قوانين نقشها حاكمٌ أسمر من ذات البشر.
#خيرالله_قاسم_المالكي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عيد المسنين
-
تراتيل أنسية
-
بساتين
-
لحن الفصول
-
خطوات خطوات
-
صور
-
هيفاء
-
صهيل
-
كلمات
-
سحاب
-
قلم أبيض
-
نسيت
-
وطن جريح
-
سأرحل
-
أوراق
-
سماء عاشقة
-
الرجل الهرم
-
أعراس
-
سميه
-
النهر
المزيد.....
-
مصر.. وفاة الفنان بهاء الخطيب خلال مباراة والعثور على -تيك ت
...
-
فيلم -درويش-.. سينما مصرية تغازل الماضي بصريا وتتعثّر دراميا
...
-
شهدت سينما السيارات شعبية كبيرة خلال جائحة كورونا ولكن هل يز
...
-
ثقافة الحوار واختلاف وجهات النظر
-
جمعية البستان سلوان تنفذ مسابقة س/ج الثقافية الشبابية
-
مهرجان الجونة 2025 يكشف عن قائمة أفلامه العالمية في برنامجه
...
-
بيت المدى يحتفي بمئوية نزار سليم .. الرسام والقاص وأبرز روا
...
-
الرواية الملوَّثة التي تسيطر على الغرب
-
تركيا تعتمد برنامجا شاملا لتعليم اللغة التركية للطلاب الأجان
...
-
مسرحية -طعم الجدران مالح-.. الألم السوري بين توثيق الحكايات
...
المزيد.....
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
المزيد.....
|