أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - برهان غليون - خسارة العراق من المحاكمات الصورية















المزيد.....

خسارة العراق من المحاكمات الصورية


برهان غليون

الحوار المتمدن-العدد: 1784 - 2007 / 1 / 3 - 12:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تعكس الطريقة التي أعدم فيها الرئيس العراقي صدام حسين، الحليف السابق للدول الغربية في مواجهة مخاطر تمدد الثورة الاسلامية، والصديق الشخصي للعديد من الرؤساء العرب والأجانب، في المحاكمة الصورية التي سبقتها، والأسلوب المهين الذي اتخذته، واختيار يوم الإعدام، "الأخطاء" المأساوية نفسها التي حكمت على مشروع الولايات المتحدة في بناء عراق جديد، يكون نموذجا للدول العربية، ويضمن في الوقت نفسه تجديد أسس سيطرة الولايات المتحدة، السياسية والاستراتيجية على المنطقة، بالإخفاق الذريع. فلهذا الإخفاق في الحالتين أسباب واحدة: الاستهتار بمبدأ الحق، وتحكيم غريزة الانتقام محل تأكيد العدالة، واحتقار مشاعر الشعوب وعدم الخوف من إهانتها. وهذه هي للأسف المباديء نفسها التي يقوم عليها الحكم في معظم البلاد العربية، والتي قوضت مجتمعاتها، وفتحت فيها الثغرات العميقة التي جلبت التدخلات الأجنبية، والتي تهدد كل يوم بانفجار حروب أهلية جديدة.
لم يكن المهم في محاكمة صدام حسين إدانة شخص بالجريمة ولا إرضاء عطش أولئك الذين نكل بهم عن غير حق إلى الانتقام، ولا تقديم انتصار بخس لرئيس فاشل في مواجهة معارضته الديمقراطية. فليس هناك من لا يعرف، في العراق وخارجه، ما قام به صدام حسين من عمليات بطش واغتيال وقهر لخصومه وشعبه بأكمله. وليس هناك من ينكر على ضحايا صدام حسين حقهم في الاقتصاص ممن أصبح رمزا للعسف والتجبر والطغيان. ولن يعيد إعدام صدام المبادرة إلى الرئيس الأمريكي في الكونغرس، مهما عملت على تضخيم الحدث ردود أفعال الرأي العام الاسلامي الغاضب من انتهاك مشاعره الدينية. كما لا يمكن أن يشكل هذا الإعدام بديلا عن مراجعة حتمية لسياسة الإدارة الجمهورية.
كان المهم من محاكمة صدام وإنزال القصاص به هدفين يشكل تحقيقهما قاعدة لإعادة بناء عراق جديد بالفعل. الهدف الأول هو الكشف عن طريقة بناء – وعمل - هذه الآلة الجهنمية التي طوعت شعبا كاملا خلال عقود، وانتزعت منه إرادته، وانتهكت حقوقه، وروعته، من دون أن تبقي له أي أمل أو خيار، لا من داخل المؤسسات ولا من خارجها، في الرد عليه ووضع حد له، أعني آلة الطغيان والاستبداد. وكان تفكيك هذه الآلة، أي معرفة حقيقة الأسس التي قامت عليها، والكشف عن آلياتها، ومن وراء ذلك تطوير الفكر السياسي والتنظيم المؤسسي الذي يساعد على منع تركيبها ثانية في المستقبل، من أي طرف كان، هو الذي يحتاجه شعب العراق والشعوب العربية الأخرى. كان المهم من وراء محاكمة صدام، محاكمة الديكتاتورية العربية نفسها، أي معرفة كيف بنيت، بأية طرق وأية وسائل، وكيف أمكن استمرارها وإعادة إنتاجها، في فكر الرئيس السابق، وفي تحالفاته الاستراتيجية، وتكتيكاته السياسية، وحروبه الداخلية والخارجية، وفي المؤسسات التي بناها أو ابتدعها والقوانين التي سنها. وكان الهدف الثاني لهذه المحاكمة هو التأسيس لمبدأ الحق، بمعنى الحق القانوني، الذي فقدت نظمنا وشعوبنا تماما معناه ومحتواه، والذي لا يمكن لنظام مدني أن يقوم من دونه. وهو ما يستدعي احترام القواعد الإجرائية والاحتياطات القانونية الضرورية لإظهار الحقيقة كما هي، وتبيان جميع المسؤوليات والحيثيات المرتبطة بالجريمة والدافعة لها. ومثل هذه المحاكمة القانونية العادلة التي تحترم جميع الحقوق، حقوق المتهم وحقوق الضحايا معا، وتبحث فيها بموضوعية، كانت ستشكل نموذجا لبناء دولة الحق والقانون التي قام نظام الاستبداد على أنقاضها، ومدخلا لتأسيس فكرة الحق القانوني في مجتمع دحرته الديكتاتورية ورده الطغيان إلى خنادق العصبية الطائفية والعشائرية والعائلية، بعيدا عن أي مباديء أخلاقية وإنسانية عمومية.
ما حصل كان عكس ذلك تماما. محاكمة صورية أعدت للقيام باغتيال سياسي سريع، يكون عبرة للشعوب العربية. وأقول لاغتيال لا لتنفيذ حكم العدالة، لأن الاغتيال كل إعدام لا يستند إلى محاكمة قانونية محققة لشروطها الفعلية والنزيهة. فقد نجحت المحكمة في لفلفة قضية الديكتاتورية الدموية برمتها من خلال قصر الاتهامات على جريمتين، تم اختيارهما على حساب الجريمة الأساسية، وهي بناء نظام القهر والقتل والاغتيال نفسه، أي خرق الدستور وإقامة سلطة فردية استبدادية، هي أم الجرائم كلها. وكل ذلك في سبيل شخصنة القضية، وتركيز الاهتمام على التفكير الاجرامي لشخص أو لمجموعة محدودة من أصحاب القرار. وأخيرا جاء تنفيذ حكم الإعدام بسرعة مذهلة لم تترك للرأي العام فرصة الاطلاع على الحقيقة وجميع حيثيات القضية والاحتجاج او الاعتراض على أسلوب المحاكمة غير العادلة وغير القانونية. ولا أقصد هنا غير العادلة وغير القانونية بالنسبة للمتهم. فليس هناك أي أخلاق تدفع إلى التسامح مع المتهم هنا أو بتخفيف الحكم عليه. إنها محاكمة غير عادلة وغير منصفة بحق الشعب العراقي الذي خطفت منه فرصة استثنائية لاستعادة ذاكرته وإعادة بناء هويته الممزقة، أي فرصة الكشف عن حقيقة ما جرى، وتبين المسؤوليات المختلفة، بما فيها مسؤولياته هو أيضا. باختصار، بدل أن تساعد المحاكمة على إبراز حقيقة الاستبداد والطغيان، وتحرر العراقيين من شياطينهم، وتسمح لهم بالارتفاع على انقساماتهم الطائفية التي عملت الديكتاتورية على ترسيخها لتأمين بقاءها، عمقت الشروخ التي أنجبها الاستبداد واعتمد عليها لضمان بقائه، وصبت بالأسلوب الذي تم فيه تنفيذ الحكم بالاعدام الزيت على نار الصراع الأهلي المتقد.
ولعل السبب الرئيسي الذي دعا إلى استبدال محاكمة الشخص بمحاكمة النظام، هو أن محاكمة النظام الاستبدادي والعدواني كانت ستظهر حجم المسؤولية التي تقع على سياسات العواصم الغربية، والولايات المتحدة في مقدمها، في بناء نظام القهر والطغيان وتسليحه وترسيخ قواعده وتحريره من أي ضغوط داخلية. وفي المناسبة ذاتها إبراز المسؤوليات المتعددة، التي لا تقتصر على شخص الرئيس العراقي، في بناء سلطة الطغيان في عموم المنطقة العربية. وهو ما يفسر أيضا الشروط اللاقانونية التي تمت فيها المحاكمة، أي الطابع التعسفي والكاريكاتوري الذي وسمها. فما كان من الممكن التغطية على هذه المسؤوليات وطمسها من خلال محاكمة تحترم الأصول المرعية، وتتقيد بالشروط القانونية.
لقد أظهر الإعدام السريع أن هدف المحاكمة كان إخفاء الحقيقة التي قام عليها النظام القهري وجرائمه لا إظهارها. وطمس المسؤوليات لا إبرازها. وبهذا المعنى كان إعدام صدام أشبه بعملية تخلص بأسرع ما يمكن من شاهد أكثر مما كان تنفيذ حكم العدالة، لصالح المجتمع، بمن أساء إليه. وكان دافعه الانتقام من شريك "مارق" لا إنصاف ضحاياه. من هنا كان إعدام صدام حسين كبش فداء قدمته الدول الكبرى المسؤولة بشكل رئيسي عن بناء نظام صدام حسين واستخدامه لأهدافها الخاصة، في أول أيام عيد الأضحى، للقوى العراقية المتضررة، طمعا في الاحتفاظ بولائها وترسيخ أسس التحالف الذي يقوم عليه النظام الحالي، والذي يجمع بين قوى الاحتلال والميليشيات الأهلية والطائفية.
من الصعب أن يخرج من هذه السياسة عراق جديد قائم على أسس الحق والقانون التي تستطيع وحدها لم الشتات العراقي وإعادة توحيده في وطنية جامعة فعلية. إن كل ما يمكن أن تعمل عليه هو تجديد مشاعر الحقد والانتقام والعصبية الطائفية والعشائرية، وبالتالي إعادة إنتاج نظام الطغيان الذي يشكل التعسف، والتمييز شبه العنصري، وغياب الشعور بالمسؤولية والمصلحة العمومية، والتفاهم مع القوى الخارجية، قيمه الرئيسية.



#برهان_غليون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاستنجاد بالعنصرية لإخفاء الإخفاقات السياسية
- من مشاريع الاصلاح إلى الحرب الأهلية
- في جذور الأزمة الشرق أوسطية
- المقاومة وشرط الديمقراطية المفتقد
- في أصل خراب الشرق الأوسط وعذاب قاطنيه
- تحدي القوة الايراني والرد العربي عليه
- من المسؤول عن انهيار آمال الاصلاح والديمقراطية من جديد في ال ...
- في معنى المقاومة الوطنية
- الاعتداء على الاسلام حوار الشروق الجزائرية 15 اكتوبر 06
- العرب بعد 12 يوليو : بين مطرقة -الدولة- وسندان -المقاومات-
- مصالح أمريكية وأوروبية وعربية وراء الحرب على لبنان
- حوار مع د. برهان عليون حول العراق والمسألة الكردية
- دروس ما بعد الحرب اللبنانية الاسرائيلية
- الطائفية في الدولة والمجتمع
- واجب العرب تجاه لبنان
- الخسارة الثانية للجولان
- من المسؤول عن دمار الشرق الأوسط ؟
- الهرب إلى الأمام لن يجنب أحدا الهزيمة
- مستقبل المفاوضات السورية مع الاكراد
- الحداثة وتجديد الفكر الديني


المزيد.....




- عباس: أمريكا هي الدولة الوحيدة القادرة على منع إسرائيل من ال ...
- هل غيرت الضربات الصاروخية الإيرانية الإسرائيلية الشرق الأوسط ...
- كيف وصل مصريون قُصّر غير مصحوبين بذويهم إلى اليونان؟
- جهود دولية حثيثة من أجل هدنة في غزة - هل تصمت المدافع قريبا؟ ...
- وسائل إعلام غربية تكشف لكييف تقارير سيئة
- الرئيس السوري يستعرض مع وزير خارجية البحرين التحضيرات للقمة ...
- -ما تم بذله يفوق الخيال-.. السيسي يوجه رسالة للمصريين بخصوص ...
- روبوتات -الساعي- المقاتلة الروسية تقتحم مواقع العدو وتحيّد 1 ...
- روسيا.. قانون جديد يمنح -روس كوسموس- حق بيع بيانات استشعار ا ...
- اكتشاف صلة بين فيتامين الشمس والاستجابة المناعية للسرطان


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - برهان غليون - خسارة العراق من المحاكمات الصورية