أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - برهان غليون - العرب بعد 12 يوليو : بين مطرقة -الدولة- وسندان -المقاومات-















المزيد.....



العرب بعد 12 يوليو : بين مطرقة -الدولة- وسندان -المقاومات-


برهان غليون

الحوار المتمدن-العدد: 1699 - 2006 / 10 / 10 - 10:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


نزاع الدولة والمقاومة

قلت في مقال سابق أن الحرب الاسرائيلية اللبنانية الأخيرة قد طرحت أسئلة، أو أعادت طرح أسئلة مصيرية على الفكر والسياسة العربيين، سيكون من الصعب علينا التحرك مستقبلا في أي اتجاه قبل الإجابة عنها. وفي مقدمة هذه الأسئلة سؤال العرب المستمر منذ أكثر من قرن، والذي شكل ضعف الجواب، أو الأجوبة المبسطة والسطحية عنه، مصدرا لجميع الانقسامات والتوترات داخل الحركة الوطنية العربية ولا يزال. وهو الذي أدان غياب النقاش الجدي والمعمق فيه تاريخنا الحديث بالتذبذب الذي لا ينتهي بين الوطنية الشعبوية الانفعالية والتبعية الخانعة، بين التمرد الطائش والعمل في خدمة الاستراتيجيات الأجنبية. وأعني سؤال: لمن الأولوية في تركيز الجهد الوطني؟ للمقاومة والتصدي للاحتلال والهيمنة الأجنبية، في سبيل تحرير الإرادة الشعبية، أم هي لبناء الدولة وتطوير أدائها كأداة قانونية سياسية وتحقيق التنمية الانسانية، الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية والتقنية، وبالتالي الاندراج في حضارة العصر وتمثل أفكاره وقيمه وأخلاقياته؟
وعلى أي واحدة من هاتين الاستراتيجيتين ينبغي الرهان؟ على الثورة أو، كما نقول اليوم، المقاومة، وما يمكن أن تولده من أثر على إرادة الخصم، الغربي والاسرائيلي معا، تدفعه إلى التراجع والتنازل عن الأرض ومشاريع الهيمنة الإقليمية، أم على الدولة وما ينجم عن تطويرها وتحسين شروط عملها وأدائها بالتعاون مع الدول الكبرى، والتفاهم معها، من إنقلاب في شروط حياة المجتمعات العربية، يجعلها أكثر قدرة في المستقبل على التعامل الندي مع الدول الأخرى القوية، الإقليمية والعالمية؟ وهل هناك أمل في أن نحقق عن طريق المقاومة، والمواجهة الجذرية للهيمنة الغربية، بأشكالها المختلفة، كخيار أول، من الأهداف المادية والسياسية، أكثر مما نحققه عن طريق تحسين عمل الدولة وانخراطنا في المنظومة العالمية التي تؤطرها، والقبول بمعايير عملها ووسائلها السياسية والقانونية، أو ما يسمى بالشرعية الدولية، كما يقول أصحاب خيار الدولة والنظام والتفاهم والتسوية مع الدول الكبرى أو النظام الدولي؟ والعكس أيضا صحيح. فهل تساعدنا الدولة بشكل أكبر على تحرير مجتمعاتنا من التأخر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والقانوني والعلمي والأخلاقي، من المقاومة التي تبعث بالضرورة، بسبب المواجهة وروح التحدي، قيم البطولة والتضحية والفداء والتجدد الحضاري؟ وهل تقدم الدولة فرصا أكبر للأمة كي تتجاوز انقساماتها الطائفية والمذهبية والقبلية والاجتماعية، وبالتالي كي تجدد شبابها وحيويتها وتستعيد لحمتها الوطنية الممزقة، كما يقول أنصار خط المقاومة، التي تضع الجميع أمام عدو واحد وهدف واحد ؟ وهل يشكل التنظيم العقلاني والقانوني الذي تجسده الدولة، ويشكل غاية وجودها، لمصالح البشر وحرياتهم وحقوقهم وواجباتهم، منهجا أفضل لتحقيق التقدم المادي والأخلاقي، وبالتالي الارتقاء إلى مستوى المجتمعات المتقدمة والتعامل بندية معها، والاندراج في التاريخ العالمي للحضارة الراهنة، من المنهج الذي تمثله المقاومة، بما يفجره من عاطفة وطنية والتزام عميق بالجماعة وولاء لها وتماه جماعي معها يؤسس لوحدة الأمة واستقلال إرادتها، ويزيد من طموحها لارتقاء معارج التقدم ومباراة الأمم الأخرى في الوصول إلى أقصى درجات التقدم والرقي الحضاري؟
هذه ليست المرة الأولى التي يطرح فيها هذا السؤال، كما يمكن لبعضنا أن يعتقد. فقد طرح منذ بداية دخول المجتمعات العربية في الحقبة الحديثة، وما رافق هذا الدخول من اختلاط بين بناء دولة حديثة لكن تابعة، وفي سياق التبعية أيضا، وصراع ضد الهيمنة الأجنبية وفي سبيل الاستقلال وتحقيق السيادة والحفاظ على الهوية. ونجد أصداءا كبرى لهذا السؤال في موقف محمد عبده من الثورة العرابية التي وجد فيها توريطا للأمة في معركة كبرى قبل أن تنضج شروطها وفي الاتهامات التي ستوجه لهذا المصلح الكبير أيضا بالمشاركة في تطبيق برنامج إصلاح إدارة كرومر البريطانية أو على الأقل القبول بالعمل في ظلها.
وكما هو واضح، لا يتعلق السؤال المطروح بانقسامات عقائدية ولا دينية وإنما بإمكانية بلورة أجندة وطنية مقبولة من الجميع. وهو سؤال تكاد الوطنية العربية تنفرد وحدها في طرحه بطريقة درامية والفشل في ايجاد رد ايجابي موحدعليه.
والسؤال مهم لما يتوقف عليه من اختيارات وما يربتط به من استثمارات معنوية وسياسية ومادية. إذ تفترض عملية بناء الدولة وتطوير قدراتها والاستفادة منها خيارات مختلفة كليا عن خيارات المقاومة. فلا تستخدم كلاهما الأساليب نفسها ولا الوسائل ذاتها، وليس لهما غايات واحدة. فخيار الدولة يفترض بالضرورة القبول بسياسة الممكن، والعمل على تطوير أحوال المجتمعات كخطوة ضرورية على طريق تحقيق استقلالها، والمراهنة في هذا التطوير على ترقية النظم القانونية ومناهج العمل السياسية والتربوية التي لا غنى عنها في تحسين شروط حياة البشر المادية والارتقاء بكفاءات الأفراد السياسية والفكرية. ولا مجال لبناء الدولة وتطويرها والاستفادة منها من دون الانخراط في المنظومة الدولية، والاندماج فيها، والقبول بالعمل حسب معاييرها القانونية. فالدولة جزء من نظام عالمي لا تستقيم ولا تظهر نجاعتها إلا بقدر ما تتفاعل معه وتحترم قواعد عمله وتخضع لمحدداته، أي تأخذ منه وتعطيه. وهو ما يطلق عليه اسم العمل ضمن الشرعية الدولية اليوم. فلا توجد دولة خارج منظومة النظام الدولي، ولا تستمر من دون مراعاة القواعد التي تحكم هذا النظام وتضبط سلوك أعضائه. وليس النظام الدولي نظام مساواة وندية، على الأقل حتى الآن، وربما لن يكون أبدا. فهو محكوم بعلاقات الهيمنة التي تعكس تفاوت الدول في قوتها وقدراتها الاستراتيجية. ومع ذلك، لا توجد الدولة منفلتة من أي قيد خارجي وداخلي، ولا تقوم في فراغ. وارتباطها بالنظام الدولي هو شرط لتطورها وتطور أدائها معا، بقدر ما يرتبط هذا التطور والتطوير بنمو التعاون والشراكة الاقتصادية والثقافية والعلمية والتقنية بين الدول وعبرها بين الشعوب والمجتمعات. ونجاح سلطة ما في إدراة الدولة في الوضعية الدولية وتعظيم فرص سيادتها وازدهارها بالرغم من غياب المساواة في العلاقات الدولية هو هدف السياسات الخارجية ومعيار صوابها. فالدولة أداة لتنظيم علاقات الأفراد في ما بينهم في إطار تنظيم العلاقات الدولية بين المجتمعات نفسها. فالقانون المحلي له أساسه في قواعد العلاقات الدولية التي تنص على السيادة، والعكس صحيح أيضا.
وبالعكس، تفترض الثورة أو المقاومة نقض الشرعية القائمة لتحقيق ما يبدو مستحيل التحقيق على قاعدتها، أي تكسير النظام، الداخلي أو الدولي، أو تغييره وتعديله، لفتح آفاق جديدة، وانتزاع حقوق مشروعة وجوهرية لا تسمح طبيعته بتأمينها، أو تحول دون تحقيقها بصورة طبيعية. وهي لا تركز على الارتقاء بشروط الحياة القانونية والتربوية والأخلاقية بقدر ما تراهن على تعبئة العصبية الوطنية أو الدينية لقلب السلطة أو السيطرة القائمة. ولا تهتم ببناء المؤسسات والأطر الإدارية التنظيمية العقلانية بقدر ما تركز استثماراتها في بناء الهوية، وتأكيد الخصوصية، وتعميق الشعور بالولاء للجماعة الثورية والمقاومة. فليس هناك في نظرها أفضل من إبراز التمايز والانفصال والاستقلال عن الآخر، بل وتحويل هذا الأخير إلى عدو، سبيلا لتوليد الطاقات الكفاحية المتجددة الضرورية لكسر إرادة الخصم وتعظيم فرص النجاح وضمانها. ولا تتردد في سبيل الوصول إلى هذا الهدف في التضحية بشيء، ماديا كان أم معنويا، مما يعتبره أنصار الدولة بنى تحتية أو مرافق عامة أو مؤسسات ضرورية لسير الحياة المدنية أو موارد اقتصادية، بما في ذلك أحيانا زوال الدولة التابعة او ما يشبه الدولة أو تخريب وسائل الانتاج المادية والثقافية. فالثورة مثل المقاومة لا تهتم إلا بالمصائر الجماعية. أما تحسين شروط حياة الفرد الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والسياسية فليست من أولوياتها أو من الغايات الرئيسية لها. إن غايتها تحقيق أغراض عمومية وجامعة، تشكل شرطا لأي حياة فردية صالحة، وفي مقدمها، استقلال الجماعة والحفاظ على الهوية أو التخلص من السيطرة والوصاية الأجنبية. ولا تفيد الوسائل القانونية والإدارية والتقنية التي تتبعها الدولة لتحقيق أهدافها في تحقيق غايات المقاومة وأهدافها. فهدف القوانين تكريس الأمر الواقع، الدولي والاجتماعي، بينما تغيير هذا الأمر هو الذي يشكل مبرر وجود المقاومة ومطلبها الأول. لذلك كثيرا ما تتهم المقاومات من قبل خصومها وأعدائها معا بالارهاب لأنها تقف بالتعريف ضد الأمر القائم، وبالتالي ضد القانون السياسي والشرعي الذي يحفظ هذا الأمر القائم ويساعد على استمراره.
فما الذي يضمن بالفعل، بشكل أفضل، تجديد المجتمعات العربية الخربة والمفوتة والمنحلة، ويعيد لها الحيوية ويجعل منها مجتمعات منتجة وفاعلة ومبدعة، تعامل بندية من قبل المجتمعات العالمية الأخرى، هل هي استراتيجية المقاومة أو الثورة التي يدعو إليها اليوم الاسلاميون على اختلاف مذاهبهم واتجاهاتهم، ومن ورائهم كثير من القوى القومية العربية التي فقدت الأمل هي أيضا بنظام الدولة الوطنية أو القومية الحديث الذي نادت به طويلا، أم استراتيجية إصلاح الدولة وتحسين شروط عملها وأدائها، والارتقاء بفعاليتها في إطار المنظومة الدولية، حتى لو عنى ذلك القبول بشروط الهيمنة العالمية والعمل من خلالها على توسيع هامش سيادة الدولة وتعظيم قدراتها وتطوير وسائل عملها بالتفاعل مع البيئة الدولية، كما تدعو إليها القوى الليبرالية أو شبه الليبرالية المنبعثة من ركام التجارب القومية أو المنقلبة عليها؟.

في أصل التعارض بين الدولة والمقاومة

فتحت الحرب الاسرائيلية اللبنانية الأخيرة النقاش كما لم يحصل من قبل بين المثقفين حول المسألة التي لا تزال تقسم الرأي العام العربي منذ عقود، والتي تقوض أي إمكانية لبلورة أجندة وطنية عربية واحدة، أعني التعارض بين خيار الدولة وخيار المقاومة. وبقدر ما يشكل تعزيز مكانة الدولة وتأكيد دورها ووجودها خيار بعض النخب الاجتماعية والسياسية المتميزة ماديا وثقافيا، يتحول مشروع المقاومة إلى ثقافة قومية أو شعبية شاملة يختلط فيها العداء للسيطرة الأجنبية وللنظم القائمة ونخبها في الوقت نفسه. وكان يكفي انتصار كبير واحد، كما حصل مع نجاح حزب الله في حرمان الجيش الاسرائيلي من تحقيق أهدافه في جنوب لبنان، حتى تشتعل شرارة هذه الثقافة في المنطقة العربية بأكملها وتضع الدولة/الدول القائمة أمام تحد لا مثيل له، يهدد بزعزعة استقرارها إن لم يقض على مبرر وجودها.
والواقع، يبدو هذا التعارض أمرا محيرا، ويكاد لا يطرح في أي منطقة أخرى في العالم، لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية. ففي الأصل لا تطلق المقاومات الوطنية إلا من أجل الوصول إلى الدولة التي تمثل إطارا أكثر تقدما لتنظيم قوى الشعوب وتطوير قدراتها على الوقوف في وجه أعدائها. وقد كان انتزاع الاعتراف بالحق في تشكيل دولة مستقلة، ولا يزال، الهدف الأول للثورات الوطنية جميعا، إدراكا من قبل الشعوب بأن الدولة الوطنية، أي الخاصة بالشعب نفسه والتي لا تتحكم بها شعوب أو نخب أجنبية، هي الضمانة الوحيدة للدفاع عن حقوقها ومواردها ومصالحها من خطر السيطرة الخارجية. فالدولة هي رمز استقلال الجماعة وسيادتها ووسيلتها لبناء القوة التي تحفظ مصالحها وحقوقها، والإطار الذي يرفع من درجة نجاعة الاستثمارات المادية والمعنوية، الفردية والجماعية، بالنسبة لأي شعب يأمل بأن يكون له موقع على ساحة الحياة الدولية. وخلال نصف القرن الماضي شكل الكفاح في سبيل بناء دولة قومية مستقلة، عند العرب وغيرهم، ولا يزال يشكل بالنسبة للشعوب التي حرمت منها، كالفلسطينيين والأكراد، الغاية الكبرى لمشروع الثورة والمقاومة في كل تنوعاتها السياسية والايديولوجية. فما الذي حدث حتى انقلب الرأي العام على الدولة التي حلم ببنائها وقدم التضحيات الكبيرة لإقامتها؟
تواجه الدولة في العالم الفقير عموما، وفي المشرق العربي بشكل خاص، تحديا كبير لوجودها بسبب الإخفاق الذي أظهرته في تحقيق الآمال المعلقة عليها، والفساد الذي أصاب مفهومها وفكرتها ومؤسساتها والنخب التي ارتبطت بها. ويولد هذا الإخفاق شعورا عميقا بالسخط عليها والخيبة منها، على نطاق واسع. فالدولة لم تفشل في ضمان الحد الأدنى من الأمن الخارجي فحسب، وإنما فشلت أيضا في تحقيق الوظائف الجوهرية التي لا مبرر لوجودها من دونها، أعني ضمان أمن الفرد وسلامته، وإقامة حد أدنى من حكم القانون والقضاء النزية والعادل. فإذا لم تستطع الدولة أن تحمي الفرد والجماعة من اعتداءات خارجية ولا تمكنت من تقديم فرص أفضل لتأمين شروط البقاء المادية، ولا نجحت في وضع قانون ولا تطبيقه، لم تعد دولة، وفقدت مبرر الاستثمار فيها، وربما مبرر وجودها. فما بالك عندما يصبح تقييد حرية الفرد والاعتداء عليه، وإرهابه لزعزعة استقراره وإخضاعه، قاعدة عمل السلطة وشرط استمرار الدولة وبقائها، كما هوالحال في العديد من البلدان العربية؟
يقول السياسيون: الدولة هي الأساس. وهو صحيح. لكن هل توجد بالفعل في عالم العرب اليوم شروط قيام دولة سيدة، تعبر عن إرادة سكانها وقادرة على العمل لحماية مصالحهم وتعظيمها؟ وهل تشكل أجهزة السيطرة وفرض الخضوع والاستسلام على الفرد، لصالح أقلية مسيطرة، دولة أو ما يمكن أن نصفه كذلك؟ وماذا لو لم توجد الظروف التي تسمح بنشوء دولة قادرة على القيام بواجباتها بالفعل، سواء في مواجهة الاعتداءات الخارجية أو في ضمان الأمن والاستقرار وتطبيق القانون والعدالة والمساواة على الأرض الوطنية؟
ويقول العسكريون وتابعوهم من قادة الاجهزة المخابراتية الحريصون على الدولة: الاستقرار والأمن هما الأصل. وهم أيضا على حق، لكن على شرط أن يكون وجودهما رديفا بالفعل للأمن والاستقرار. والأمر يختلف كليا عندما يصبح هذا الوجود رديفا للعجز عن رد العدوان الخارجي، ومصدرا لغياب الأمان والاستقرار الداخليين، أو عندما يكون حكمهم مثالا على التهديد اليومي لأمن المواطنين ونزع الاستقرار النفسي والجسدي عنهم.
ويقول المثقفون: العلمانية والقضاء على التعصب الديني، وما ينجم عنه من ولاء لحكم الملالي والشيوخ، هو مصدر الحداثة وقاعدة الاندماج في المنظومة الدولية الحضارية، مصدر التقدم العلمي والأخلاقي والسياسي. وهو صحيح أيضا، لكنهم ينسون أن الحداثة لا يمكن أن تبنى في ظروف الحجر على المجتمعات وتهميشها ونزع إرادتها وانتزاع حسها بالمسؤولية واستبعادها من المشاركة في المسؤوليات والمصائر الوطنية والعالمية.
لكن، في ما وراء تهافت سياسات النخب الحاكمة وانانيتها الواضحة، يعكس إخفاق الدولة في الوضع العربي المشرقي الشروط التاريخية التي رافقت ولادتها، والعقبات الهيكلية التي حالت ولا تزال تحول دون تحقيق مشروعها أو تقدمه. وأقصد بالشروط التاريخية والعقبات الهيكلية التبعية والارتهان البنيويين لسلطة أو منظومة خارجية، وهي هنا النظام العالمي ومركزه الأطلسي بالدرجة الأولى. فطبيعة الدول القائمة هنا ومهامها ووظائفها قد تحددت جميعا بحاجة النظام الإقليمي الذي نشأ على أثر انهيار الحركة القومية العربية، التي كانت تطمح في الستينات إلى تحقيق الهدفيين الاستراتيجيين : توحيد المنطقة أو إزالة الحواجز التي تفصل بين بلدانها وتشتت جهودها، والقضاء على النفوذ الأجنبي، في سبيل بناء إطار للاستقلال، وهامش من السيادة الوطنية. ومنع تحقيق هذين الهدفين شكل ولا يزال محور استراتيجية الدول الغربية، والوظيفة الرئيسية للدولة القائمة في المنطقة العربية. وفي هذه المنظومة الإقليمية التي تهدف إلى الحفاظ على العلاقات شبه الاستعمارية، وتمنع شعوب المنطقة من التحكم بمصيرها، والمشاركة في الحياة السياسية والدولية، تشكل الدول القائمة لبنات أساسية لنظام الهيمنة الخارجية، ووكالات سياسية دولية تعمل، بصورة غير مباشرة، ومباشرة أحيانا، تحت أوامر العواصم الغربية وبالتنسيق الوثيق معها. وتكاد النخب الحاكمة والمسيطرة على هذه الدول تمثل العواصم الأجنبية وتعمل لها وباسمها أكثر مما تمثل شعوبها ورأيها العام. وهي في حقيقة الأمر موظفة عندها، وتشكل امتدادا طبيعيا لها، لا حول لها ولا قوة من دونها. أما الشعوب فهي خارج دائرة الفاعلية، لا كلمة لها ولا قرار.
من الطبيعي أن لا تنجح مثل هذه الدول في استكمال نموها وتحقيق فكرتها في الواقع. وأن تبقى دولا غير ناجزة، لا من الناحية الجيوسياسية ولا من الناحية السياسية ولا من الناحية القانونية والأخلاقية. فهي كالثمرة التي تسقط قبل نضوجها، عجرة، لم تحقق شروط وجودها، لا في علاقتها مع مجتمعها ولا في علاقتها مع المجتمع والنظام الدوليين. وككل ثمرة ساقطة، أصبحت الدولة الطرح مدعاة لإثارة سخط أصحابها أكثر من إرضائهم. فبدل أن تتحول إلى أداة في يد أبنائها للتنسيق بين مصالحهم وتكوين قاسم أعظم يبني وحدتهم وتفاهمهم وإجماعهم، شرط نجاعة وجودهم الجمعي، صارت أداة تقسيمهم، ومصدر زعزعة استقرارهم، وبث النزاعات في ما بينهم. وبدل أن يكون هدفها العمل على تعظيم مشاركتهم في الحياة العمومية والدولية، أخذت تجعل من العمل على تحييدهم وشل إرادتهم ومنعهم من التدخل في الشؤون السياسية، أي العمومية، محور نشاطها ونشاطهم هم أنفسهم. وهو ما ينعكس بصورة واضحة في طبيعة النظم السياسية التي نتجت عنها، ونوعية الايديولوجيات التي تؤسس شرعية نخبها الحاكمة وتوجهها، والتي تكاد تكون، بصراحة، عنصرية، تنكر على شعوبها وكل فرد فيها أي أهلية للمشاركة في الحياة السياسية، وتستبدل الحياة الأخلاقية، القائمة على الطاعة الذاتية للقاعدة والقانون، بمذهب عبادة الشخصية ونظم الوصاية الأبوية.
ومن الطبيعي أن تتطلع الشعوب المقهورة والمنبوذة والمهمشة إلى قوى من خارج الدولة تمثلها وتعبر عن مشاعرها وتنقل شكواها ونقمتها إلى الرأي العام الدولي. وهذه القوى لا يمكن أن تكون بالضرورة سوى قوى هامشية ومنبوذة أيضا من النظام الغربي والدولي الذي يقف وراء منظومة الهيمنة الإقليمية.
هكذا يمكن القول أن التعارض القائم بين استراتيجية بناء الدولة واستراتيجية التعبئة والمقاومة ليس مسألة ايديولوجية مصطنعة. فمن الممكن تتبع آثاره في الحقائق العملية وفي ميدان الأفكار معا. ويكفي لمعاينة ذلك النظر إلى النقاش السياسي الواسع الذي أثارته دعوات التحالف الغربي الأمريكي الأوروبي إلى الإصلاح، وردود فعل النخب الرسمية والأهلية، بما فيها المثقفين، عليه. فبقدر ما أصبح إصلاح الدولة ودمقرطتها، لا بل بناءها، مطلبا خارجيا، ومشروعا دوليا تركز عليه وترصد له الدول الكبرى ميزانيات فعلية، أصبح الدفاع عن المقاومات العربية، في أي منطقة ظهرت، ومهما استخدمت من وسائل واستراتيجيات، ودعمها والذود عن أعمالها وتصرفاتها، مهما كانت دموية، بل طائفية، مطلبا داخليا جامعا يقف في مواجهة مطلب بناء الدولة ويتناقض معه.
يعكس هذا التعارض العملي الشروط التاريخية التي تعمل فيها الدولة القائمة عندنا والنظرة التي طورها الجمهور والرأي العام إزاءها والعلاقة التي أنشأها معها. وبقدر ما يعيد هذا التعارض إنتاج نفسه في الوعي، ويؤسس لثقافة سياسية مشوشة تختلط فيها الوظائف والمفاهيم ويختفي مفهوم الدولة أو يغيب كما يفسد مفهوم المقاومة، فهو يساهم أيضا في تجديد هذا التعارض وتمديد أجله. ويعكس من وراء ذلك كله، القطيعة العميقة القائمة بين السلطة والمجتمع، وما ينجم عنها من نزاعات داخلية تبعدنا جميعا عن هدف المقاومة الوطنية وهدف بناء الدولة (الديمقراطية) معا، وبالتالي غياب المشروع الجمعي الواحد، وتنازع انتماءاتنا وولائتنا السياسية والعقيدية، أي افتقارنا إلى أجندة وطنية عربية وأحيانا محلية أيضا.

أزمة الدولة ومأزق المقاومة
أجهضت السياسات الدولية المرتبطة بتحقيق متطلبات ضمان أمن إسرائيل وتوسعها على حساب جيرانها، والحصار المفروض على المشرق العربي بأكمله للتأمين على الطاقة النفطية الاستراتيجية التي تعتمد عليها القوى الصناعية، والاستبداد الطويل الذي قاد إلى الانحطاط الأخلاقي والسياسي الكامل للنخب المحلية وانفصالها عن شعوبها، مشاريع بناء الدولة في المشرق العربي جميعا، وحول هذه الآلة التي تشبه الدولة إلى أداة تتحكم بها المصالح الخاصة وحاجات الاستراتيجيات الدولية. فلم يعد لها وظيفة أكبر من تحييد الشعوب وشل إرادتها الجمعية والفردية. وبدل أن يتقدم في اتجاه النضوح والاكتمال، تقهقر مشروع الدولة الحديثة إلى الوراء، وفي إثره ما تتضمنه الدولة من معاني السيادة الإقليمية، والقدرة على الانجاز، وتحمل المسؤولية تجاه الشعوب، والعمل على تأهيلها للمساهمة في الحياة الدولية وتحسين شروط وجودها وترقيتها سياسيا وأخلاقيا.
بل ليس من المؤكد أن هناك فرصة في إقامة مثل هذه الدولة في بلادنا، في الأوضاع والشروط الجيوسياسية الاقليمية والعالمية الراهنة، التي تجعل من منطقتنا مسرح تنازع مستمر، ذي أبعاد إقليمية وعالمية معا، وموضع إملاءات خارجية لا تنتهي، وتحولها إلى بؤرة توترات وصراعات وحروب دامية لا حل منظورا لها. ولا يبدو لي أن هناك رغبة أيضا في قيامها، لا عند الدول الكبرى الوصية على المنظومة الدولية، وعلى المنطقة بشكل خاص، ولا حتى عند النخب الحاكمة المرتبطة بهذه الدول أو الساعية للاستقلال عنها.
وما نعرفه منها إلى الآن في البلاد العربية كان، وسيبقى لفترة طويلة، أشباه دول، لا تملك من السيادة ما يجعلها ملك مواطنيها، ولا من الشرعية والاستقرار ما يجعل منها إطارا لتوليد إرادة جماعية موحدة ومستقلة، ولا من الثقة بالنفس ما يؤهلها لتطوير شروط الحياة القانونية والسياسية والأخلاقية، فيحولها إلى دولة طبيعية، أي سياسية، ديمقراطية، ولا من الموارد المعنوية والمادية ما يجعل منها أداة للارتقاء بمستوى حياة السكان عموما وتحقيق سعادتهم. فهي في الغالب مزرعة العاملين فيها وبقرتهم الحلوب.
فالدولة المجهضة سياسيا وأخلاقيا، أو المنقوصة السيادة، والمختزلة إلى وظائفها الأمنية، والتي تتحكم بها مصالح استراتيجية خارجية أو خاصة، هي بالتعريف ليست الدولة التي يقرر فيها مواطنوها مصيرهم ولكنها بالضرورة دولة أصحابها وأتباعهم. وهذا ما يفسر الوجهة التي تطورت إليها هذه المؤسسة الكبرى الجامعة والعلاقة التي تقيمها مع مجتمعاتها. كما يفسر عدم اكتراث الناس بها وتوجههم نحو مؤسسات أهلية كانت تعتبر لوقت قريب ثانوية وهامشية، لتامين مصالحهم وتحقيق ذواتهم وضمان شعورهم بآدميتهم. ولذلك وصل مشروع الدولة في المنقطة العربية إلى طريق مسدود. ولا تعبر شعارات المقاومة التي شهدنا اشتعالها كالنار في الهشيم بعد الحرب الاسرائيلية اللبنانية الأخيرة، إلا عن السخط العارم ضد هذه الدولة السالبة أو المقلوبة والمضادة، ورغبة الانتقام منها والاستعداد للخروج عليها.
أصحاب شعار المقاومة على حق إذن عندما يقولون: إن المقاومة هي الأساس، وينبغي ان تكون لها الأولوية، لأنه لا دولة من دون سيادة، ولا سيادة مع استمرار السيطرة الأجنبية. لكن السؤال هو: هل هناك بالفعل اليوم مشروع مقاومة وطنية جامعة تحرك النخب والمجتمعات العربية، بل ثقافة مقاومة حقيقية، تتجاوز مفهوم الصدام مع القوى الأجنبية، وتنطوي على مشروع إعادة بناء العلاقات العربية، داخل المجتمعات وفيما بينها، على أسس جديدة تقطع مع نموذج الدولة الوطنية الرثة السابقة، وتقيم على أنقاضها مجتمعات موحدة ومتفاهمة قابلة للحياة والعمل والانتاج والابداع؟
في مواجهة فشل الدولة في القيام بوظائفها، يزداد الحديث اليوم في العالم العربي عن المقاومة وثقافة المقاومة. ويدفع الحماس لها إلى التوحيد بين ما هو قائم منها، بصرف النظر عن أساليب عملها ووسائلها وأهدافها، وتدمج جميعا في حركة واحدة اسمها المقاومة الوطنية، كما لو كانت جميع الأعمال التي تستهدف المصالح الاجنبية في البلاد العربية تصب في هدف واحد هو تحرير العرب من السيطرة الاجنبية وتأكيد استقلالهم إزاءها. وهو ما تسعى إلى تسويده قوى أهلية وحكومات محلية فقدت هي نفسها ثقتها بالدولة التي تتحكم بها وأصبحت تراهن في تبرير وجودها على التلاعب بورقة المقاومة.
والواقع أن المقاومات ليست واحدة وليست جميعا وطنية او ذات أهداف وطنية حتى لو استهدفت مصالح أجنبية أو مواقع نفوذ لها. وقد يكون استهداف مثل هذه المصالح بالعكس من ذلك تقويضا للعلاقات الايجابية التي تحتاج إليها الشعوب والأمم للدفاع عن مصالحها على الساحة الدولية، وبالتالي سببا لتعريتها وتعريض مصالحها القومية لأعظم لأخطار.
فلا توصف المقاومة بالوطنية لأن من يحمل رايتها ناس من أهل البلاد في مواجهة أناس أو قوى أجنبية. ولكن لأنها تحمل في طياتها، وهو ما ينبغي أن ينعكس في سلوكها وعقيدتها وبرنامجها معا، مشروع بناء وطني يجمع الأطراف المتفرقة المكونة للأمة او الشعب، ويتيح لها فرص التفاهم والتآلف والعمل المشترك. وما يجعلها وطنية هو توجهها لبناء حياة سياسية سليمة، مرتبطة بغايات وقائمة على قواعد عمل وقيم ومعايير عامة تنطبق على الجميع بالتساوي وتحظى بحد كبير من الإجماع العام. وهو ما يجعل منها حاملا لبناء أمة بالمعنى الحديث للكملة وهو ما يقصد بصفة الوطنية. ولم تكن ثورة الاستقلال جامعة ومؤسسة لوطن إلا بقدر ما كان تحرير البلاد من الوصاية الأجنبية جزءا من مشروع بناء دولة وطنية يتساوى الجميع فيها أمام القانون ويؤسسون على الحرية الوطنية المكتسبة حرياتهم الفردية وحقوقهم الانسانية. وهو ما ينطبق كذلك على الانتفاضات السياسية الوطنية ضد الاستبداد والفساد.
ومن هذا المنظور، ليست وطنية تلك المقاومة التي تهدف إلى إرهاب السياح أو المستثمرين والعاملين الأجانب من الأرض الوطنية، ولا تلك التي تستهدف، بالسر أو العلن، تحسين مواقع فئة أو قوة سياسية أو اجتماعية في ساحة المنافسة الوطنية، ولا تلك التي تعمل على تحرير طائفة أو قبيلة أو أقلية من اضطهاد طوائف أو قبائل أو جماعات أخرى، حتى لو كانت هذه المقاومة شرعية. فصفة المقاومة مرتبطة بالغاية التي تعمل لأجلها، والمقاومة الوطنية هي التي تعمل لإعادة بناء الوطن من حيث هو اجتماع لوحدة الأرض والدولة والجماعة مما يستدعي التمسك بالوحدة الترابية وتعزيز سيادة الدولة وتأكيد الحقوق والواجبات المتساوية لجميع الأفراد. كل ما عدا ذلك مقاومات أخرى، دينية وطائفية واجتماعية ومذهبية، لا علاقة لها بالمقاومة الوطنية حتى لو كان لها ما يبررها ويفرض واجب دعمها أو التعاطف معها.
ومن هنا، بصرف النظر عما يبدو من مظاهر التماهي واسع الانتشار مع المقاومة والعداء للأجنبي، والغربي منه بشكل خاص، في البلاد العربية، لا أعتقد ان من الممكن ان نشمل كل ما تشهده الأوضاع العربية من مظاهر العداء للأجنبي والسخط على سياساته وتدخلاته العسكرية ومن حركات مقاومة مسلحة، إرهابية كما يقول البعض وغير إرهابية، ومن تعبئة شعبية واسعة ضد الغرب وسياساته المؤيدة لاسرائيل والمتسببة في تفجر الأوضاع العربية والإقليمية، تحت يافطة المقاومة الوطنية، أو أن ننظر إليها كما لو كانت مظاهر متفرقة ومتنوعة لمشروع مقاومة وطنية، لا على مستوى العالم العربي، أو حتى المشرق العربي، ولا على مستوى أي دولة من دوله. ولعل ما هو قائم من مقاومات يعبر عن تفاقم الانقسام الوطني والنزاعات المرتبطة به، ويعكس الميل المتزايد عند الجميع إلى الخروج على الدولة وإرادة تحطيمها، بوصفها رمزا دائما للإحباط والحرمان والقهر، اكثر مما يؤشر إلى ولادة مشاعر ولاء وطني جامع وإرادة مساواة وتضامن وطنية جديدة تشبه وتخلف تلك التي كانت وراء صعود الحركة القومية العربية في الخمسينات والستينات.
بل ربما كانت هذه المقاومات تعكس بشكل أكبر، في طبيعتها ووسائل عملها وانقسامها وانتشارها، غياب هذا المشروع الوطني الجمعي، وارتداد الجماعات المتميزة والمختلفة التي كانت تشارك فيه على الدولة التي ترمز إليه، وسعيها إلى تأمين مصيرها الخاص بها على أنقاضه، سواء أكان ذلك من خلال السيطرة على مواقع ومصالح الجماعات الأخرى الشريك، أو بالانفصال عنها والارتباط بقوى خارجية، أو بالخروج الكامل من الساحة السياسية الداخلية، للعمل على الساحة العالمية، وفي إطار جيوستراتيجي شامل، لزعزعة المنظومة الدولية باعتبارها مرتكز الدولة المضادة الناشزة وحاضنتها، وهو ما تمثله بعض الحركات المتطرفة الاسلاموية. وباستثناء فلسطين التي تحولت فيها حماس إلى امتداد بوسائل أخرى للحركة الوطنية الفلسطينية الساعية إلى التحرر من استعمار استيطاني بغيض، ليس في ما هو قائم بذرة أو جنين مشروع مقاومة وطنية، ولكن مشاريع مقاومة خصوصية تتغذى من بقايا المشروع الوطني وتعيش على حطامه.
ففي معظم هذه الحالات، لا يعكس رفض الدولة والعمل على تحطيمها نشوء مفهوم جديد وايجابي لإعادة بناء النظام على أسس مختلفة، لا على المستوى الوطني ولا العالمي، ولا يرتبط بوجود مكونات إعادة بناء الدولة نفسها على أسس أفضل، تضمن تجديد فكرتها وإعادة تأهيلها، وتحويلها إلى إطار لبناء حياة أو علاقات جمعية أخلاقية قائمة على قاعدة القانون والمساواة بين الأفراد، والمشاركة في المسؤولية عند الرأي العام. إنه يعبر عكس ذلك عن خيبة أمل الجماعات المختلفة بالدولة، ويأسها من إصلاحها وجعلها أقدر على تلبية مطالبها العينية الملموسة في المشاركة في السلطة، أو على تأمين شروط الحياة والخدمات الأساسية، والمادية منها بشكل خاص. فهي لا تزال تقوم على السلب ولا تملك بعد، لا في النظرية ولا في الممارسة ولا في الشروط التاريخية، فرصة تحولها إلى حركة ايجابية تنحو نحو التوحيد والتوليف والبناء والتأسيس الأخلاقي والقانوني. لذلك هي تتخذ في كل الحالات، حتى عندما تكون وطنية الأهداف، أشكالا خصوصية تتميز بها عن غريمتها الأخرى، مذهبية أو أقوامية أو طائفية، وتجعل من هذا التميز منبعا لتوليد عصبية جزئية تشكل قاعدة للتضامن والتفاهم والألفة التي تمكنها من توفير السلوكات والفعاليات الكفاحية، الخاصة بها وحدها، وعلى نطاقها المحدود. وليس هناك بعد أي عقيدة او ايديولوجية أو قيمة أو شعار أو رمزيات يمكن أن تجمع بين الأطراف المقاومة، أو تشكل قاسما مشتركا لها. فما يقرب الواحدة ينفر الاخرى، وما يشكل هدفا لبعضها يشكل مصدر قلق وثورة عند بعضها الآخر، حتى عندما تنتمي جميعها إلى الايديولوجية الاسلامية أو القومية نفسها. ومعظمها أقرب بالفعل إلى الممانعة منها إلى المقاومة، بقدر ما تعني الممانعة رفض النظام القائم فحسب من دون وجود أي مشروع بديل لإحلاله محله.
تعكس المقاومات العربية المتعددة إذن انحلال اللحمة الوطنية وما ينجم عنها من اندلاع الصراعات الداخلية وتفجرها بين مكونات الجماعة، أكثر مما تعبر عن انبثاق إجماع أو حصول تفاهم وطني جديد. فلا ترى هذه المقاومات الهيمنة الخارجية بعين واحدة، ولا من الزاوية نفسها. وحتى عندما تستهدف مظاهر هذه الهيمنة، فذلك لما تمثله في ميزان القوى المحلية أو الإقليمية، وعلى قدر مشاركتها في تحديد التوازنات الداخلية، أو عندما تشكل عائقا أمام تحقيق المشاريع الخصوصية. لذلك، بصرف النظر عن المظاهر السطحية الخادعة التي توحي بإجماع ضد الهيمنة الأجنبية، ما نعيشه بالعمق هو حرب أهلية، تكملها وتغطي عليها حروب خارجية. فالمقصود في النزاع هو دائما أطراف محلية متنافسة فيما بينها على السيطرة الداخلية، سواء من أجل تحييد منافسيها أو إحراجهم أو قطع الطريق عليهم أو إخضاعهم لأجندة خصوصية، في إطار إعادة اصطفاف القوى على أرضية النزاع على السلطة والموارد الوطنية. فكل الأطراف تسعى من خلال الممانعة وإعاقة مشاريع الغير إلى تحقيق مصالح جزئية خاصة بها. ولا يغير من ذلك، كما ذكرت، كون هذه الأهداف مشروعة أحيانا وإنسانية، كتعديل علاقات الهيمنة الأقوامية أو الطائفية. وهذا يفسر أن عداء بعض المقاومات لقوى أجنبية معينة لا يمنعها من تبرير تحالفاتها مع قوى أجنبية أخرى، أو التفاهم معها ضد الجماعات المحلية المنافسة لها. باختصار، تشكل هذه المقاومات، إلا في ما ندر، مظهرا من تفكك الجماعة الوطنية وتبعثر أطرافها واهدافها، أكثر مما تشير إلى تمخض إرادة وطنية جديدة تعيد جمع العناصر والكسور المتفرقة، وتخلق قوة موحدة استثنائية تمكن من وضع حد للسيطرة وانتزاع هامش مبادرة أكبر تجاه القوى الدولية، وتؤسس للحقوق والحريات الأساسية داخل المجتمعات والدول العربية. ومن هنا نشهد بموازاتها تفاقم الانقسامات والنزاعات داخل المجتمعات أكثر من محاولات تجاوزها أو توليد شروط أفضل للعمل المشترك والتآلف والالتقاء الوطني.
وبالمثل، وفي السياق نفسه، وللأسباب ذاتها، لا أعتقد أن هناك اليوم نموا في ما نسميه ثقافة مقاومة وطنية، ولا تربة صالحة لانبثاق إرادة مواجهة جامعة وتاريخية، تقبل التضحية بالحاضر لصالح المستقبل، وتضع العمومي قبل الخصوصي في الرؤى والمواقف والمصالح والغايات معا، وتتحمل ما ينجم عن ذلك، في سبيل نبذ الوصاية الأجنبية وفرض الاستقلال الناجز وتحرير إرادة الشعوب العربية، ولا حتى في سبيل هدف أكثر وضوحا ومحدودية مثل تحرير الأراضي العربية المحتلة. وما هو قائم هنا وهناك من مقاومات أو شبه مقاومات يرتبط بوضعيات خصوصية جدا، ويعبر عن ردود أفعال مشتتة على اعتداءات مباشرة وهمجية مستمرة أكثر مما يعكس نمو أخلاقية وطنية جامعة، ورؤية واضحة ومتسقة لتغيير الأمر الواقع. إن ما هو جامع في البلاد العربية هو أخلاقية تعميم الفساد والإفساد معا. وما نشهده من التأييد لردود الأفعال "المقاومة" هذه عند الرأي العام، بين فترة وأخرى، لا يمثل بأي حال ما تستدعيه المقاومة والوطنية معا، أي صعودا في موقع أخلاقيات التضحية والشهادة ونكران الذات عند الجماهير والمجتمعات العربية، بقدر ما يجسد نمو روح العصبية والخوف على الذات والقلق على المصائر الشخصية والفئوية. بل كثيرا ما يشير إلى نزعة الارضاء الذاتي التي تغطي على الاستقالة العملية وتبرر العطالة السياسية.
يدل على ذلك الاستسلام الشعبي الكامل تجاه شتى أنواع العدوان الداخلي، والاستسلام للأمر الواقع، وتحويل الاستسلام نفسه إلى منظومة فكرية وأخلاقية. وبالرغم من الانتشار الواسع النطاق للايديولوجية الدينية، والاسلامية منها بشكل خاص، لا تزال حركات المقاومة التي تسلتهم الفكر الديني أيضا، باستثناء فلسطين وشيعة لينان وربما العراق، تمثل نسبة محدودة جدا من جمهور المتدينين الواسع. فلا يمنع التدين من تمثل ثقافة الاستسلام وقيمها، أو ثقافة الهزيمة، كما سماها ياسين حاج صالح. فأمام الفساد والاستبداد والعدوان الخارجي لا يجد المتدين أمامه سوى طريقين: الثورة الشاملة على المجتمع الذي هو أصل الفساد والقهر ومثاله، وبالتالي الانخراط في السياسة التكفيرية التي تقود حتما إلى حمل السلاح ضد الطغاة وحماتهم الغربيين، وهو طريق القلة المتمردة، أو الانطواء على الحياة الخاصة على أمل إرضاء الله وكسب الآخرة ما دام من غير الممكن كسب الدنيا أو التأثير في شروط الحياة فيها، وهو طريق الأغلبية المنسحبة من اللعبة السياسية أي الوطنية. فبهذا الانسحاب يتبرأ هؤلاء من السلطة الاستبدادية المتوحشة، ومن المجتمع المدني المفعم بالفساد الحامل لها في الوقت نفسه. ومما يعزز نزعة الانسحاب من الحياة العامة ويبررها عند الأغلبية المتدينة انحسار الدلالات الدينية عن الأمة نفسها، وتحولها إلى خليط من قطاعات الرأي المتباينة والمتنازعة التي تسيطر عليها المصالح الخاصة المباشرة والمادية ولا تنطوي على أي معان روحية.
من الصعب في ظروف الفساد، وتأبيد الوصاية الروحية والاجتماعية والسياسية، وحكم الطغيان الذي يجعل من قتل المشاعر الانسانية وتفكيك عرى المجتمعات وتمزيقها وحرمانها من التواصل والتفاهم، شرط وجوده واستمراره، ولادة مقاومة، أو حتى ثقافة مقاومة وطنية، جوهرها التضحية والفداء ونكران الذات في خدمة الجماعة، وقاعدتها الوحدة العضوية والتضامن والاتحاد، أي كل ما هو أخلاقي ومثالي وبطولي معا. ما هو مسيطر على مناخ النخب الاجتماعية والرأي العام ومتاح اليوم، هو بالأحرى الأنانية والنذالة، والاستسلام للغرائز، وشهوة مراكمة الثروات وشره الاستهلاك، أكثر من أي شيء آخر. ولذلك يغلب على نظمنا السياسية حكم القوة والانتقام بدل حكم السياسة والقانون، وعلى مقاوماتنا وممانعاتنا سمة المقاومات والممانعات الجزئية، الانتهازية او الظرفية والانتقائية. وما أتاح استمرار حركات مقاومة مثل حزب الله وحركة حماس هو اندراجهما ضمن سياق مختلف عن سياق المجتمعات العربية الأخرى، المقسمة والمشتتة والمنهارة سياسيا ومعنويا، أعنى ارتباط الأول سياسيا واستراتيجيا بايران، وهي جمهورية فتية ذات استقلالية وإمكانيات كبيرة، وارتباط الثانية بالظروف الوطنية الخاصة بفلسطين التي أجهض فيها مشروع بناء دولة وطنية، حتى في حدودها الدنيا، وفي إطار التبعية الإقليمية والدولية. فالأول امتداد لحيوية القوة الايرانية، والثانية تعبير عن اليأس من الدولة والنظام الدولي في الوقت نفسه. وليس من المستغرب في هذه الحالة أن يشكل تحطيم مثالهما اليوم محور السياسات الإقليمية العربية والدولية الرامية إلى تخليد نظام السيطرة شبه الاستعمارية.
باختصار، بينما تقضي السيطرة الأجنبية على أي هامش استقلالية لا غنى عنه لبناء إرادة وطنية وسياسية محلية، أي دولة، يدمر الاستبداد الروح الأخلاقية التي لا غنى عنها لتوليد قيم التفاؤل والأمل والثقة والتضامن التي تشكل قاعدة أي مقاومة وطنية، وذلك بقدر ما يؤلف فرط العلاقات الاجتماعية وتدمير قيم التواصل والتفاعل والتكافل بين الأفراد أساس استمرار سلطة تعسفية، هي بالضرورة مطلقة، احتكارية، ولا إنسانية. وهو ما يفسر لماذا ولدت المقاومات العربية الراهنة جميعا على أسس مذهبية أو دينية او أقوامية ولم تولد مقاومات وطنية، أي ذات سياسات مختلفة عن تلك المعلقة بتعبئة العصبيات التقليدية والرهان على القيم الإنسانية العامة بدل التأكيد على قيم الهوية والخصوصية.



#برهان_غليون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مصالح أمريكية وأوروبية وعربية وراء الحرب على لبنان
- حوار مع د. برهان عليون حول العراق والمسألة الكردية
- دروس ما بعد الحرب اللبنانية الاسرائيلية
- الطائفية في الدولة والمجتمع
- واجب العرب تجاه لبنان
- الخسارة الثانية للجولان
- من المسؤول عن دمار الشرق الأوسط ؟
- الهرب إلى الأمام لن يجنب أحدا الهزيمة
- مستقبل المفاوضات السورية مع الاكراد
- الحداثة وتجديد الفكر الديني
- أسطورة الحداثة العربية
- الطائفية وتقويض الدولة الوطنية
- التوسع في العنف لا يحل مأزق النظام
- عندما يتحول الاصلاح إلى معضلة
- الأسدية في السياسة
- اغتيال الثقافة بعد اغتيال السياسة
- دفاعا عن ابن خلدون في مئويته السادسة
- في مخاطر إجهاض مشاريعنا الاصلاحية
- في سبيل مبادرة دولية لإطلاق الحوارات الوطنية الممنوعة
- إشكالية الاصلاح وإشكالاته في العالم العربي


المزيد.....




- تابعة لإسبانيا..نظرة على وجهة استثنائية تقع وسط شمال إفريقيا ...
- خبير مصري يعلق على قبول -حماس- وقف إطلاق النار ورد الفعل الإ ...
- نحل الخلافات -خلف الأبواب المغلقة-.. الجيش الإسرائيلي يتحدث ...
- هجوم روسي واسع على منشآت الطاقة في أوكرانيا
- رسمياً.. جزر البهاما تعترف بدولة فلسطين
- بيستوريوس من نيويورك: لا ينبغي لبوتين أن يفلت بحربه العدواني ...
- قصة غامضة.. -آية- من البحر الأحمر تنقل جاك كوستو من أعماق ال ...
- رئيس الصين يهنئ فلاديمير بوتين بتوليه منصب رئيس روسيا
- مسبار Chang-e 6 الصيني يصل مدار القمر
- زيلينسكي يكشف عن محاور القتال -الأكثر سخونة-


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - برهان غليون - العرب بعد 12 يوليو : بين مطرقة -الدولة- وسندان -المقاومات-