|
في البن البرازيلي
فهمي عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 8137 - 2024 / 10 / 21 - 22:47
المحور:
الادب والفن
كل عقدة ولها حلال 1- تميز جارنا وصديقنا نبيل زكي بين افراد شلتنا بميزتين ثمينتين، أولهما براعته الشديدة في لعب الكرة الشراب ويعتبر من النجوم البارزين في هذا المجال، أما المزية الثانية فهى لاتقل أهمية فهى جرأته الشديدة وجسارته في المشاجرات. اعتدنا أن نلعب الكرة الشراب في عدة شوارع، يوسف الجندي وأرض الفوالة وكثيرا ما لعبنا في شارعنا، وكثيرا ما ضايقنا الأسطى عزت الحلاق بمطالبته لنا بأن نتوقف عن اللعب وأن نلعب بعيدا خشية أن تحطم الكرة زجاج صالون الحلاقة الذي يمتلكه، كنا نتجاهله ونعده بالحرص، فكان بعد ان ن وذات يوم ألح الأسطى عزت ووقف لنا في وسط الشارع وراح يهلل واختطف الكرة وصاح: - غور بعيد منك له... تحلقنا حول الأسطى عزت ورحنا نترجاه - سوف نحترس يا أسطى عزت - الكرة أصابت الزجاج اليوم ثلاث مرات.. - دعنا نكمل المباراة بالله عليك يأسطى عزت كشر الأسطى عزت البارد الملامح الغضوب الطباع عن أنيابه وتهيأ للإنصراف، وفوجئنا بصديقنا نبيل زكي يخترق الحلقة ويقول في لهجة تهديد واضحة - هات الكرة يا أسطى عزت - ألعب بعيد منك له فوجئنا بصديقنا نبيل زكي يهرع إلى الحجر الثقيل الذي اتخذناه كمرمى ويحمله ويتوجه جريا إلى دكان الأسطى عزت، ويقذف بالحجر بكل قوته فيحطم الفاترينة الزجاجية الكبير فتتناثر - هى الكرة وحدها التي تحطم الزجاج هكذا قال نبيل زكي موجها حديثه إلى الأسطى عزت الذي شلته المفاجأ وساد صمت ثقيل لم يقطعه سوى عواء الأسطى عزت وقد تأهب نبيل زكي للقتال 2-
" لا نقود لك عندي وعندك نبيل فافعل به ماشئت فقد وضعت أصابعي في الشق منه ومن مشاكله وقرفه " هكذا قال عم زكي جارنا والد نبيل زكي عندما طالبه الأسطى عزت بثمن الزجاج الذي حطمه نبيل عمدا. منذ عشرين عاما كان عم زكي يعمل مساعد طباخ في قصر عابدين أيام الملكية، وأحيل للمعاش منذ عشرة سنوات، ويملك بيتا صغيرا في حارة السقائيين في سوق الأثنين في منطقة عابدين، وعدة قراريط في أبو زعبل. ولا يغادر منزله إلا للضرورة القصوى، وإبان موجة التمصير في مطلع الستينيات وتحت ضغوط شديدة من زوجته انتقل وأسرته إلى شارعنا بالقرب من ميدان التحرير.
- نبيل زكي معلم كبير هكذا قال أحمد عصام أحد أفراد شلتنا، قالها بانبهار ثم أردف: - لا يجالسنا نحن لأننا بالنسبة له صبية لم نخرج من البيضة، نأكل تين شوكي وكبيرنا نشرب سيجارة في ظلام شارع يوسف الجندي، اما نبيل لا يجلس إلا في قهوة" العنبة " في عابدين مع معلمين كبار، فهو لا يكف عن المقامرة وعن النسوان وتدخين المخدرات.... نبيل يا جماعة معلم.
-3
كان يكبرني بسبع سنوات، خمري اللون متوسط القامة رشيق القوام، له شعر ناعم ووجه وسيم، وكنت مبهورا به لجرأته الشديدة ولاستهتاره البالغ، ورحب بصاقتي به ودعاني لزيارته في مقهى العنبة في عابدين، أما عن الدراسة فقد كان من كبار الفاشلين ويضرب به المثل في الخيبة الثقيلة، مدمن رسوب وظل يرسب في الإعدادية حتى قررت الدولة أن تغير نظام التعليم بتخفيض سنوات الدراسة في المرخلة الاعدادية من أربع سنوات إلى ثلاث سنوات، فوجد نبيل نفسه يهبط من الرابعة إلى الثالثة، وذبحت أمه عنزة فرحا بحصوله على الشهادة الاعدادية، وتكررت المأساة في الثانوية العامة، وظل يرسب حتى قررت الدولة أن تصفي نظام البكالوريا وتستبدل به شهادة الثانوية العام، وفي أكازيون حكومي قررت الدولة أن تتخلص من كل طلاب النظام القديم، بأن لا ينجحوا فحسب ولكن بالتساهل في التصحيح والإغداق عليهم في الدرجات، فلم ينجح نبيل زكي فحسب لكنه حصل على مجموع مرتفع من الدرجات أهله للإلتحاق بكلية الطب! - نبيل شاطر ودخل الطب من شطارته! هكذا راحت أمه تردد ذلك متباهية به، وتعوض السنوات الطويلة من تعثره ورقبتها التي أضحت أمام الجيران مثل "السمسمة"، والذي لم يكن يجلب لها إلا المشاحنات والعار، وأشترت له- قبل بدء الدراسة - ثلاثة معاطف بيضاء من شيكوريل ولم تتوقف عن تعليقها منشورة في شرفتها وكأنها رايات النصر. وبعد مرور أربعة شهور على الدراسة، بينما كنا في طريقنا لنلعب مباراة في الكرة الشراب في منطقة الوايلي وكنت أمشي إلى جوار نبيل، الذي قال لي: - تصدق بالله لم يدعني نبيل ارد فأردف على الفور: - أنا لم أذهب إلى الكلية منذ ثلاث شهور. لم أعلق وسبقني في المشي، ورحت أرقبه وهو يسير في رشاقة، وقد ارتدى نعلا بلاستيكيا رخيصا وصغيرا، وكعب قدمه يطئ أرض الشارع.
-4
لم يرسب مبيل في كلية الطب لكنه خلال سنتين كان استنفذ مرات الرسوب، وفصلته الكلية وحولت اوراقه إلى كلية التجارة - نبيل إبني شاطر ونبيه... لكن أصحابه هم من يخيبون أمله هكذا راحت أمه تردد بلا انقطاع مدافعة عنه أمام الجارات، وفي أغلب الظن أنها كانت مقتنعة بهذا، فقد اتخذت قرارا عمليا في هذا الشأن، فقد أقنعته بأن ينتق من تجارة القاهرة إلى تجارة الاسكندرية، بعيدا عن رفاق السوء الذين خيبوا أمله، وكلفت والدة نبيل صديقنا بكر خليفة المعروف بالجدية والرزانة ويدرس في حقوق الإسكندرية، أنيكون نبيل تحت رعايته، وأذعن نبيل وانتقل إلى الأسكندرية، ودبر له بكر خليفة حجرة مناسبة في منطقة الإبراهيمية. - نبيل!؟... نبيل لا أمل فيه وحالة ميئوس منها هكذا قال لنا بكر خليفة وقد وقفنا على الناصية، وأردف: - أنا قلت هذا لمحمد شقيقه - لماذا لا أمل منه؟ - سكن في الإبراهيمية بالقرب مني، ومارس تأثيره السئ على شباب الشارع، فجعلهم مقامرون، وتحولت غرفته الصغيرة إلى وكر للمقامرة والحشيش والنساء - والعمل؟ - العمل عمل ربنا.
وكما فصل نبيل زكي من طب القاهرة فٌصل من تجارة الإسكندرية، ولأنه لم يعد طالبا، زال السبب في تأجيل التجنيد، وفوجئنا بشيخ الحارة يطلب نبيل زكي عليوه للتجنيد الإجباري، وتم تجنيده، ولكنه لم يطق صبرا على الجيش والجندية والانضباط، بعد عدة شهور لم يعد من الاجازة إلى وحدته، ومكث في البيت، وعاد إلى حياته اللاهية، الكرة الشراب في يوسف الجندي والمقامرة في مقهى العنبة مع الحثالة تدخين الحشيش في غرزة الجباصي في سوق الأثنين والعودة إلى البيت فجرا، حتى فبضت عليه الشرطة العسكرية ورحلوه إلى وحدته، ونال محاكمة عسكرية سريعة بتهمة " الغياب "، ووقعت عليه عقوبة " الحبس " ثلاثة شهور يقضيها في سجن الوحدة، وبعد شهرين، وبفضل " نعومته " الشديدة، وتظاهره المدهش بالطيبة والرقة والود الشديد، استطاع نبيل أن يخدع حراسه، فقد اوهمهم أنه يعيش أزمة كبيرة لأن أمه مريضة للغاية ويتمنى لو يراها نصف ساعة فحسب، ورق قلب الحارسين الريفيين لمطلبه الذي يدعو للشفقة، وخرجوا به سرا واصطحبوه إلى البيت، وأستطاع أن يخدعهما وأن بلوذ بالفرار فخرج من باب غرفة المسافرين التي لها بتب بفضي إلى السلم، وبعد نصف ساعة كان الجنديان الحارسان يندبان ويولولان وقد أدركا أنهما سيدخلان السجن عقوبة لهما على فرار نبيل زكي.
-5
ذات مساء وكنت في عيادتي، وبعد أن انتهيت، دخل شعبان الممرض وقال وهو يبتسم ابتسامته الكلبية : - واحد في الخارج طلبت منه الكشف ولكمه رفض ويقول أنه صديق سيادتك! - من؟ - نبيل زكي عليوه مرت سنوات طويلة تخرجت وتزوجت وانقطعت بننا الأسباب، وهاهو زعيمي القديم يظهر بعد سنوات طويلة - دعه يدخل عانقني في حرارة وود صادق وجلس فطلبت القهوة والماء المثلج - أنا سعيد جدا بما وصلت إليه.. وكنت أتابع مسيرتك الرائعة هكذا قال وأردف - والحقيقة أنت تستحق كل خير - أشكرك... وأنت؟ - أنا تمام... خطبت واستعد للزواج - ألف مبروك - وأعمل في السيدة زينب لم يزد، ولم أقل له ماذا تعمل، وأغلب الظن أن طالب الطب السابق يعمل سفرجيا أو قهوجيا أو ما شابه من المهن الرثة، كل هذا ظهر من ثيابه ومظهره البسيط كنت مضطرا للإنصراف لارتباطي بموعد عائلي، فسكت برهة وجدته ينهض وقد فطن إلى رغبتي في انهاء اللقاء، اعتذرت له في صدق واكدت له أنني أريد أن نواصل صداقتنا الحميمة، وأشرق وجهه بالسرور. - لى خدمة عندك هل تسمح لي - طبعا ... تفضل - حماتي أسنانها الأمامية مخلوعة هل من الممكن أن نركبها لها - جدا ... جدا أعطيته موعدا لى نبدأ العمل وجاء في الموعد، ودخل شعبان الممرض يبلغني بوصول الأستاذ نبيل زكي، ودخل وفي صحبته امرأة تقترب من الخمسين لها بطن كبيرة وقد كحلت عينيها بكثافة ملحوظة، ولها وجه - على العموم - لا يطمئن، قمت بالواجب وانتهيت من العمل، وعرض غلى استحياء أن يسدد الأتعاب، فرفضت في حسم، فتهلل بالفرحة وبالدعاء - أريد ان نستعيد لقاءتنا هكذا قال - أريد أن نستعيد الماضي في الزمان والمكان هكذا قلت وأنا أرقب شعره الأسود الناعم بلا أثر للشيب - نأخذ موعدا... نلتقي في العاشرة عند فندق شبرد - ستجدني هناك في العاشرة وسأنتظر الموعد على أحر من الجمر انصرف نبيل زكي وحماته ورحت أفكر في حجم التردي الذي وصل إليه زعيمي القديم، وأفقت من شرودي وانا أستعد للمغادرة على صوت الممرض شعبان يقول وهو عابس الوجه - صاحب سيادتك؟ - الأستاذ نبيل؟ ما شأنه؟ - كدت أن أفعلها معه لأنه لم يحترم نفسه؟ شعرت بالانزعاج لتطاول شعبان الوغد على نبيل الذي تربطه بى صلة - لماذا؟ - دخلت أعد الشاي، وتركته هو والمرأة التي معه يجلسان وحدهما في الصالة، وخرجت فوجدته يقبلها - يقبلها؟ - نعم يقبلها قبلة عنيفة - ماذا تقول؟ - وجدته يقبلها فنهرته وقلت له أن العيادة مكان محترم وأن عليه أن يحترم نفسه1 - معقولة راح شعبان يقسم ويحلف أنه لا يدعى عليهما، ولم أصدق حرفا من ادعاءات شعبان لسببين، أولهما أن ذمة شعبان مطاطة ولا يعول عليها مطلقا، وثانيا لأان المرأة حماة نبيل زكي لا علاقة لها بالأنوثة من قريب أو من بعيد، وان شعبان على سحنته التي تقطع الخميرة من البيت به أنوثة تفوق أنوثة تلك المرأة الشنيعة، قلت لنفسي أغلب الظن أن شعبان كان يروم بقشيشا سخيا فلم يظفر به، فألف تلك القصة التي لاتصدق.
-6
جلسنا على الكورنيش خلف فندق شبرد كما كنا نفعل منذ خمسة عشرة عاما، كان النيل أمامنا غارقا في الظلام والصمت، وانعكست من الكازينو في الضفة الأخرى الأضواء الملونة على صفحة النهر، ورف نورسا أمامنا على صفحة النيل، وعبر الفندق القريب، سرت أغنية طروب. - هل تتذكر أيام أن كنت طالبا بكلية الطب هكذا قال. لم تكن المرة الأولى التي يستعيد فيها أنه كان طالب طب، لاحظت أنه يختلق حديثا لا علاقة له بأي شئ سوى أن يكرر" عندما كنت طالب طب " شعرت بالأسى له وأنا أرقب مظهره الرقيق، وتذكرت أن الحياة قاسية للغاية وبلا رحمة، ومن " يهجص " معها ستلقنه الدرس الذي لم يكن يخطر له على بال. - كيف حال حماتك؟ - كويسة... تبعث لك بالسلام - بالمناسبة أين زوجها؟ لقد رأيته معك على مقهى العنبة - نعم... رجل نطع كان يأتيني على القهوة ليحتسي شاي بالحليب على حسابي - وأين هو الآن؟ - طفش... بلغ فرار - كيف؟ - عمل استبدال معاش وأخذ النقود وفص ملح وداب - اختفي نهائيا؟ - لاأحد يعلم عنه شيئا... انقطعت أخباره وترك زوجته وبيته وابنته وشقيقتها... الآن عندي مشكلة مع مراته ... حماتي؟ - خير - حامل... - حامل؟ كيف وزوجها مختفي، ومن الفاعل؟ هل تعرف؟ - حامل مني أفقت ولم أصدق ما سمعت - حامل منك؟ حماتك؟ - نعم - يخرب بيتك .. كيف؟ - عادي - كيف؟ هذه مصيبة - فعلا مشكلة - كيف حدث الله يخرب بيتك - كنت أدخل معها الغرفة - أين - في شقتها في الناصرية، كنا ندخل الغرفة ونغلقها علينا بالمفتاح - وخطيبتك؟ كنا نقول أننا نتكلم في الجهاز - تتلكموا في الجهاز ؟ - نعم ماذا نشتري ومن أين.. - ماذا فعلتما في بطنها وهي تكبر - لاشئ فهى أصلا بطنها كبيرة تنهدت وأنا أرمق زعيمي القديم بنظرات ثاقبة وأنا تتملكني رغبة عارمة أن أخترق جمجمته الصغيرة لأعرف ماذا يدور في عقل عذا الكائن العجيب. - ليست المرة الأولى - يا نهارك الأسود ... ماذا تقول... ليست المرة الأولى؟ - نعم في العام الماضي حدث الحمل - وبعد؟ - عندما اقترب موعد الولادة اصطحبتها إلى مستشفى الجلاء للولادة، وحجزوها بها - وبعد؟ - ولدت طفل.. - طفل؟... ولدت طفل؟ - نعم... انتظرنا قبيل الفجر وتسللت وخرجت به وكنت انتظرها خارج المستشفى وذهبنا بالطفل إلى ملجأ في الزيتون، ووضعناه على الباب اصابني الذهول، ورنوت إلى النافورة التي تتوسط النيل بألوانها البديعة، النيل الذي يتدفق وعلى ضفافه تنسج المأسي والمصائر، ألقوا به على باب الملجأ؟ - هذا معناه أنك لك إبن الآن في هذه اللحظة يعيش في الملجأ تنهد مدعيا الأسف وقال في تسليم - نعم - وحماتك حامل للمرة الثانية؟ - بنت كلب لم تأخذ الحبوب - لم تأخذ الحبوب هكذا رددت في بلاهة ساد صمت ثقيل بيننا وشرد كل منا في أفكاره، وبعد برهة وجدت نفسي أقول له - كل عقدة ولها حلال رد على في بساطة وقال - فعلا كل عقدة ولها حلال ا
ا الامتحان
في ليلة شتوية من ليالي شهر ديسمبر، جلس طالب الطب إسماعيل فهمي يستذكر دروسه، استعدادا لاختبار مادة الميكروبيولوجي، تلك المادة الجافة التي تعتمد على الحفظ، لقد ذاكرها أكثر من مرة، وهاهى في خضم استعداده ومراجعته لبقية المواد، يجدها و قد تبخرت من ذاكرته، كانت الساعة الثامنة، أمامه ليلة طويلة، سيستعيد الميكروبيولوجي في ذاكرته في ستة ساعات وربما ثمانية ساعات، سيراجعها بكل جدية من الثامنة حتى الخامسة فجرا وربما السادسة، ثم سينام إلى العاشرة فيراجعها ساعة أخرى، ثم يتوجه إلى الامتحان في الثانية عشرة ظهرا. - زميلاك علي وعادل هكذا قالت أمه وأدخلتهما عليه، رحب بهما وخرجت أمه لتعد لهما الشاي وغمغمت لهم بالنجاح والتوفيق، شعر بالدهشة وظن أنهما حضرا لي يذاكرا معه، فشعر بالقلق والحيرة، اعتادا أن يأتوا إليه فيتولى شرح المادة وتلخيصها لهم، فيستفيد من ذلك استفادة هائلة، من ناحيته فالشرح يثبت المعلومات في عقله، ويستفيدا من الشرح بتسهيل المذاكرة والحفظ، وتذكر أن كلاهما دخلا كلية الطب باستثناءات من المجموع في الثانوية العامة، على المغربي والده أستاذ جامعي، وأبناء الأساتذة يحق لهم ذلك الإستثناء، أما علدل عبد الفتاح الخمري اللون فكان استثناءه بسبب تفوقه الرياضي، فهو كابتن فريق نادي " س" في لعبة الهوكي، فكر إسماعيل في أنهما لو ظنا أنه سيتفرغ للشرح لهما الليلة فهما واهمان، يريد أن يخلو إلى نفسه وللمايكروبيولوجي بغباوتها وسيتغلب عليها بإذن الله، فقال إسماعيل في تحفز - خير قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي - ابن الوسخة علي معه بلابل؟ - بلابل؟ هكذا قال إسماعيل - بلابل من التي يحبها قلبك دعه يرى البلابل يا ابن الكلب كانت الشتائم التي يتبادلوها من باب حميمية الصداقة والزمالة، أخرج على المغربي من الكيس البلاستيكي الذي يحمله عددا من زجاجات البارفان الحريمي الفاخرة وخاتم ذهبي صغير. فهم إسماعيل الحكاية كلها، وعرف أن عادل عبد الفتاح ذهب إلى علي المغربي في بيته في مصر الجديدة، بغرض أن يذاكرا سويا استعدادا للإمتحان في الغد، وكانا كلاهما من الفاقدين، وجلسا أمام مذكرة الميكروبيولوجي وكأهما طور الله في برسيمه، ومن باب تزجية الوقت فتح على المغربي دولاب أمه، فشاهد عادل عبد الفتاح الدولاب وبه حقيبة كبيرة مكتظة بالهدايا الثمينة التي يشتريها أبيه من السوق الحرة ليهديها إلى زوجته والدة على المغربي، فالدكتور المغربي عالم الجغرافيا الشهير والحاصل على الدكتوراة معار بشكل دائم في الدول العربية، واقترح عادل عبد الفتاح على علي أن يختلسا عددا من زجاجات العطور الباريسية، وأن يتولى عادل بيعها في قصر النيل، وأن يأخذا حصيلة البيع ليقضيا سهرة رائعة في كباريه الناسيونال في شارع قصر النيل - نأخذ كأسين.. وشاهد الرقاصات.. وممكن نأخذ معنا امرأة - شقة جدتي في الكيت كات فاضية - حلو جدا - هيا هات البلابل توقف على المغربي وأغلق الدولاب وقال - لن آخذ شيئا - لماذا؟... نريد أن نفرفش الليلة - والامتحان غدا؟ ... الميكروبيولوجي - هاهى المذكرة أمامك ... لن نستطيع أن نذاكر اربعة ورقات.. صح؟... صح أم لا؟ أمسك على المغربي المذكرة وراح يفر الأوراق الثمانين المطلوبة في الامتحان وقال في تسليم - لا... لن نستطيع... . - لمذاكرة هذه الكمية يلزمنا شهر على الأقل... صح أم لا؟ - صح اقتنع على المغربي بمنطق عادل عبد الفتاح، لكنه اشترط على عادل أنه لن يأخذ البلابل إلا اصطحبا زميلهم المتفوق إسماعيل فهمي. - إسمع يا علي.. أنا سأريحك، سوف نمر على سعيد، نأخذه معنا لكي نستخدم سيارته، ونبيع البلابل، ونمر على إسماعيل فهمي - بسيارة سعيد... ماشي - ولكننا لن نخبر إسماعيل فهمي بأننا سنذهب إلى الكباريه.. لن يأتي معنا فهو " دحيح " ولن ينزل ليلة الامتحان إلا لو قلنا له أننا سنلتقط نسوان من شارع نوال لأن شقة جدتك في الكيت كات خالية - وامتحان الغد؟ - ممكن اللجان تكون سهلة... - ممكن - وإن لم تكن سهنة... هذا امتحان أعمال سنة... والتقيل وراء... الدرجات معظمها في امتحان نهاية العام، سنعمل المعسكر المتين وسنقضي شهرين لاشئ نفعله سوى المذاكرة.. مثل العام الماضي والعام الذي سبقه.
-2-
- شقة جدتك خالية؟ هكذا سأل إسماعيل فهمي في جدية شديدة - فاضية والله هكذا أجاب عادل عبد الفتاح وأردف - ارتدي ثيابك بسرعة كي لا نبدد الوقت. شعر صاحب المنزل الطالب إسماعيل فهمي بالحيرة الشديدة التي تصل إلى درجة التعذيب، فهو مولع بالجنس، جربه مرة في شقة فوزي أنور مع مومس فلم ينسى المتعة الحسية التي لا مثيل لها، لقد سمع من أحد الأطباء في التليفزيون أن الشاب يقع تحت سيطرة الهرمونات التي تلغي عقله، وشعر أنه واقع تحت سيطرة الهرمونات، و الميكروبيولوجي؟ كيف سيذهب إلى الامتحان وهو لايتذكر من الثمانين صفجة سوى ضبابيات لاتذكر - كم الساعة الآن؟ هكذا سأل عادل عبد الفتاح - السابعة والنصف - في العاشرة سنعيدك إلى هنا، منتعش بممارسة الجنس الجميل مع امرأة من نسوان شارع نوال، ستعود وقد تخففت من الرغبات التي تضنيك، لن أقول شيئا ولكن سأقول لك تخيل ان امامك امرأة عارية .. تخيلها وأعطني عقلك !! - والميكروبيولوجي؟ - سنعود في الحادية عشرة - ورانا ورانا...أين سنذهب منها ومن غباوته!ا هكذا قال على المغربي صاحب البلابل وهو يتذكر أستاذ المادة الذي أطلقوا عليه عباس" كوكاس " - هيا أرتدى ثيابك لا تضيع الوقت، دعنا نرفه عن نفسنا قليلا، نتخفف قليلا من الرغبة الفظيعة، هل تصدقان انني لا أنقطع عن التفكير في الجنس. "سوف ننتهى في العاشرة" هكذا قال إسماعيل لنفسه وقد استسلم للإغراء والغواية، لو لم يقولوا له أنه مدعو للمارسة الجنس، لا توجد قوة على الأرض قادرة على زحزحته عن مراجعة الميكروبيولوجي، ألم يقل فرويد أن الجنس محرك التاريخ، فل يعجز الجنس بكل جبروته عن تحريك إسماعيل فهمي وهو مجرد طالب متفوق لا راح ولا جاء راح إسماعيل فهمي يرتدي ثيابه بسرعة وانتبه من أفكاره التي يبرر بها ضعفه المشين أمام شهواته، على دخول أمه - هل ستنزل؟ شعر بأنه يهوي من حالق، جائك الموت يا تارك الصلاة، ماذا يقول لها تلك المرأة الطيبة التي يعتبرها تجسيدا حيا لإنكار الذات والتفاني في أبنائها - ساعة واحدة... ساعة واحدة وسأعود،.. امتحان الغد تم تسريبه، والامتحان حاليا عند عز الدين القليوبي، سأعرفه وسأعود فورا، لن أغيب. - ربنا ينجح لك المقاصد... سأنتظر عودتك لم يرد عليها وهو يشعر بالخزي الشديد، وغادر مع زميلية على المغربي وعادل عبد الفتاح ببشرته الداكنة وقوامه المتين ووجهه الشعبي الملامح، ومنحتهم أمهم " في أمان الله "
-3-
عندما نزلوا وجدوا زميلهم على سعيد ينتظرهم داخل سيارته، ليست سيارته ولكنها سيارة أبيه الموظف الكبير في مصلحة الكهرباء، تصافحوا و أقترح إسماعيل أن يضموا عز الدين القليوبي الذي يقطن في الجيزة، فمروا عليه. وعادوا بالسيارة إلى وسط البلد، وتولى عادل عبد الفتاح ومعه على المغربي بيع المسروقات، وعادا وهم يتشاحنان لأن على المغربي يتهم عادل عبد الفتاح تواطئ مع البائع واختلس خمسة جنيهات لنفسه، وانطلقت السيارة - لما أختليت بالبائع ماذا قال لك؟ هذه أولا، وبعد أن ناولني النقود، لماذا رجعت له وقلت أنك نسيت سجائرك، وأنت تخفي علبة سجائرك في الشراب انفجر عادل عبد الفتاح في الضحك.. فتوجه على المغربي إلي المجموعة بالسؤال قائلا: - صح ولا لأ.. - لا... لأنه لا يشتري سجائر أصلا... ويعتمد على سجائرنا - أليست البلاد تتبنى المذهب الإشتراكي.. نحن نطبقها لا أكثر هكذا قالت التعليقات فقال على سعيد الذي يقود السيارة - إلى أين؟ - الوقت يمر يا ابناء الأفاعي ولم نراجع المايروبيولوجي... سنذهب إلى شارع نوال... شارع نوال دعك من هؤلاء الصياع - يبدأ الفسق من كورنيش العجوزة - نبدأ من مجطات التروللي باس على الكورنيش، بعرض مستشفى العجوزة - شارع نوال أولا... كانت شوارع منطقة العجوزة خاوية وموحشة ومظلمة، ولاسيما الكورنيش، والمصابيح القليلة تعتصر نورها الذابل، واعتصر الألم قلب إسماعيل لأنه يبدد وقته مع هؤلاء الضائعين، لولا الجنس لتركتهم فورا، وتذكر أمه ودعواتها فشعر بوخزة في قلبه، وراح يفكر في علي المغربي وعلاقته الغريبة بأبيه، وهو الولد الأكبر الذي دللته أمه، فأصبح يسرقها ويسمي المسروقات "بلابل" أما بيعها فيطلق عليه" تسويح البلابل " وفكر اسماعيل أن علاقته بهؤلاء الصياع كانت السبب في أن تسوء سمعته في الدفعة، وكثير منهم يحبونه ويقدرونه لتفوقه وأدبه. - ولا واحدة هكذا قال على سعيد القابع خلف عجلة القيادة، الذي راح يبطئ السيارة ويمشي بها إلى جوار الرصيف، وانتهى من شارع الكورنيش ودخل إلى شارع نوال، وتهادى بها وعبر باعة الفاكهة الجائلين وعلى نور الكلوبات والمصابيح القوية تلألأت تلال البرتقال والموز - نقضيها سجائر وموز هكذا قال على المغربي متهكما - نذهب إلى ميدان التحرير - بعد ميدان التحرير علينا بميدان كصطفى كامل، هناك كباريه " كوبانا" - هل ندخله؟ - لا... ربما سألنا قوادا يقف على الباب، وربما وجدنا امرأة خارجة لتوها فنصطادها - أين سنبحث في ميدان التحرير - مجطة التروللي خلف لاباس، حديقة الزهور أمام المجمع، عند النافورة، وخلف مسجد عمر مكرم تلك مناطق تجمعات الموامس، هذه منطقتي يا جماعة لأنني أسكن بالقرب من الميدان هكذا قال إسماعيل وهو يتألم لأن الوقت يمر والميكروبيولجي مثل كالسيف الذي سيقطعه لا محالة ، ودارت السيارة وانطلقت نحو الشيراتون وانحنت يمينا لتدخل إلى كوبري الجلاء، كانت الشوارع مقفرة، وكافيتيريا أسترا خاوية إلا من ثلاث زبائن جلسوا في موائد متباعدة، ومحطة التروللي خاوية إلا من رجل بلدي ومعه صبي - الساعة ما زالت التاسعة، وفرصتنا أفضل كلما تأخر الوقت - والامتحان؟ - لف من شارع منصور... - سوق باب اللوق؟... لا داعي للتهريج!! لفت الجماعة ودارت بالسيارة في الشوارع المظلمة يفتشون عن صيد يقضون بها ليلتهم كما خططوا لها، ولكن جهودهم ذهبت سدى، لم يجدوا غير شوارع مقفرة ومحلات مغلقة والميادين الخاوية إلا من مصابيحها التي تعتصر الأنوار وكأنها الحلي الذهبية وقد رصعت الليل الذي بدا كأنه المخمل الأسود. - أفضل شئ أن نذهب إلى المنبع - يالك من فيلسوف.. وأين ذلك المنبع يا فيلسوف؟ - الكباريه نبع الموامس والعاهرات - لا فض فوك يا مسئول الفسق في دفعتنا... إلى الكباريه هكذا قال إسماعيل متوجها بحديثه إلى عادل عبد الفتاح، فضجت السيارة بالضحك، وشعر فجأة بوخزة في قلبه وهو يتذكر وجه أمه المتغضن ونظرتها الطيبة وهى تدعوا له بالصلاح وبالفلاح. وأفاق من شروده وقال في وهن - أنزلوني هنا لأعود للبيت - على جثثنا... إما أن نفسق سوا... أو نذاكر سوا.. والليلة حرام فيها العلم. استقر الرأي على كباريه "الفيروكيه" وهو الملهى الليلى لفندق الناسيونال في شارع سليمان باشا، لقد جرى الزمن على الفندق والكباريه الذي بات شعبيا، ودفع علي المغربي صاحب البلابل تذاكر الدخول، وجلست الجماعة على مائدة تجاور البيست، وأحتسوا الشراب، ولعبت الخمر المغشوشة برؤوسهم، وصيحوا كثيرا، وحجز الأمن بينهم وبين مجموعة من الشباب الليبي، وصفقوا وهللوا ومر الوقت سريعا وغادروا بعد أن دفعوا الحساب، وكانت الرابعة فجراً.
-4-
" ماذا فعلت بنفسك " هكذا قال طالب الطب إسماعيل فهمي وصداع رهيب يحطم جمجمته، أضاع ليلته وهاهو من شدة السكر لايكاد أن يجد ثقب الباب ليضع في المفتاح، وهاهو الباب يفتح، ليجد أمه تقف - صباح الخير هكذا قالت وهى تفسح له لكي يدخل وترمقه في محبة تصل إلى درجة الوله، وزادت نظرتها الحانية من عذابه، لماذا لا تقوم القيامة؟ لو انشقت الأرض وابتلعته لما كان عذابه كما يشعر الآن. - كنت أصلي الفجر، فوجدتك تعبث بالمفتاح... ذاكرت؟ - آه... هكذا أجاب في اقتضاب ةالندم ينهشه. وشعر بالماء البارد يغمر رأسه ووجهه وقد وضع رأسه تحت الصنبور، وتذكر المشاجرة السوقية التي دخلها مع الشباب الليبي، وشعر بالخجل لترديه إلى ذلك المستوى" سكران في بار و مشاغب فقد عقله في كأس" - ماذا فعلت... قاطعها قائلا: - تمام الحمد لله وقف في الحمام يجفف رأسه ووجهه وصداع رهيب يحطم رأسه، قالت أمه - سأعد لك إفطارا خفيفا وتدخل لتستريح حتى موعد الأمتحان..سأبقظك في العاشرة، امتحانك في الثانية عشرة - لا... سأكمل ولن أنام.. - ستظل مستيقظا حت الإمتحان؟ - نعم... أنا لا أريد إفطارا.. أنا أريد أسبرينتين وقدح من القهوة، أريدها دوبل، في الكوب الكبيرة. أعدت له القهوة ومعها سندويتش خفيف - كل هذا أولا هل يقول لها أن الخمرة المغشوشة التي احتساها في كباريه ترسو بنقود زميل فاسد سرق أمه وأبيه، تلك الخمرة تمزق له معدته، ليته تقيأ فيرتاح، لكن القئ لم يسعفه، وكأن معدته قررت أن تنتقم منه من أجل أمه، تلك الدجاجة الطيبة العجوز التي تقئقئ لتربيته وشقيقيه، مات أباه منذ عشر سنوات، عن تجارة تحمل عبئها ابنها الأكبر الذي لا يتورع عن سرقة اخوته بتحريض من زوجته، وتحملت الكثير من أجل تربيتهم، خاب أملها في الأربعة اولاد، ويعرف أن أمه تتعزى به، تحبه لأنها المطيع الذي لا يرهقها بطلبات مدللة، تحبه لأنه يعرف واجباته فيستذكر دروسه من تلقاء نفسه، شرفها أمام المتلمظين بها غيرة وحسدا والتحق بكلية الطب بمجموع عالى، يحصل كل عام على مكافئة من الكلية لحصوله على تقدير جيد جدا، أما شقيقيه الأصغر منه بعامين وشقيقه الأكبر منه بعامين فهما مدللان يرهقانها بالطلبات التي تعكس عدم شعورهما بها ولا بالمسئولية الملقاة على عاتقها، إهمالهما لدروسهما تعثرهما في دراستهما. جلس إسماعيل على مائدة السفرة المستديرة، وربتت أمه على كتفه في حنان وقالت: - هل أعمل لك شيئا... - لا... - ربنا ينجح لك المقاصد انصرفت أمه وتركته وجها لوجه مع مذكرة الميكرو بيولوجي الضخمة الرديئة الطباعة، وورقها الخشن السئ، وهاهي الصفحات الثمانين بطلاسمها تتحداه، وهاهو الصداع الرهيب يحطم رأسه، لن ينام مهما أصابه، سيتحمل الصداع و آلام أحشائه وسخافة المكروبيولوجي لكي لا يشعر بالمزيد من الذنب، ونظر من النافذة القريبة ونور الصباح الأزرق الفاتح يخيم على السماء في روعة، وآشعة الشمس الذهبية تتسلل من الأفق وقد تغطت بسحابات رمادية وفضية، اتهم نفسه بالاستهتار وبالتفاهة وبقلة الاحترام، ونظر في الساعة، لقد مرت نصف ساعة، لم يستذكر سوى خمس صفحات، وعندا اختبر نفسه في التحصيل لم يستطع استعادتهم من الذاكرة، شعر باليأس الأسود ينتابه، اليأس ترف لا تملكه، عقوبتك أن تستمر وأنت تعرف أن لا جدوى، فلن تستعيد أكثر من عشرة في المائة من المطلوب في الامتحان خلال الثلاث ساعات المتبقية على الامتحان، حيث ستبيض وجوه وستسود وجوه. على مثل ذلك النحو جرت أفكار إسماعيل، وقرر أن يتبع سياسة "التنشين" أن يختار عددا من الموضوعات التي يرجح أن تأتي في الامتحان، وراح يدعو الله في حرارة، أن تترفق به الأقدار هذه المرة فحسب، فيجد تخميناته في ورقة الامتحان، ولن يكررها ثانية، ليس من أجلي أنا، بل من أجل المسكينة التي صدقتني وأنا العابث المستهتر الذي أستحق الحرق. وفي العاشرة والنصف أخذ حماما ساخنا وارتدى ثيابه ودعوات أمه تلاحقه شعر بها وكانها الجمرات التي تلقى على إبليس.
-5- تجمعت الشلة في الكوريدور أمام المدرج - هل راجعت الميكرو أم نمت على الفور - نمت مثل القتيل، وكيف أراجعها وأنا لم أذاكرها أصلاُ هكذا قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي وهو ينظر إلى إسماعيل الذي وقف عابسا لا يتكلم ولا يشاركهم الحديث لم يرد - مالك؟ هكذا قال عادل - لماذا جئت بعلى المغربي إلى، لماذا راح عادل يقسم بأنها فكرة على المغربي الذي قال أنه لن يأخذ البلابل ليسوحها إلا إذا جئت معنا - لعنة الله على ديك أمك لديك أمه هكذا قال اسماعيل في سخطوغضب، في ذلك الوقت كان على المغربي يستعيد المشادة بينهم وبين الشباب الليبي. وتبين أنهم لن يدخلوا سويا إلى نفس اللجنة، فالشلة كلها سوف تمتحن في قاعة صغيرة، وأنه سوف يمتحن في القاعة الصغير المواجهة لها. دخل إسماعيل إلى اللجنة وجلس في الصف ما قبل الأخير، وجائت ورقة الأسئلة، طيلة عمره وهو يحسب ألف حساب لرهبة الامتحان والمرور السريع على الأسئلة، كأنها لحظة السؤال المرعبة وقد بعث الميت في القبر، هل تصيب تخميناتي يارب العالمين من أجل حبيبك النبي ومن أجل المسكينة أمي؟ مسح الأسئلة بعينيه ولم يجد تخميناته، خابت كلها فلم تصب إلا ربع سؤال من أربعة اسئلة، كل سؤال من أربع نقاط، هذا معناه أنه لا يعرف إلا نقطة واحدة من اثناعشرة نقطة، "ضعت يا إسماعيل" هكذا قال لنفسه. أجاب عن الفقرة الوحيدة التي يعرفها، وبدت له بقية الاسئلة كأنها الطلاسم، وحاول أن يسأل جاره فنهره المراقب في غلظة وهدده بأن يخرجه، وقضى إسماعيل الساعتين وهو في كرب لم يشعر به من قبل، وتعاسة لا حدود لها، ولم تغب أفكاره المضنية عن أمه، فكر في وجهها البرئ وهى تدعوا له وهو يخدعها أنه سيخرج لأن الامتحان قد تسرب. فكر في شقائها عندما تشاحن شقيقيه بالأمس القريب، وتطورت المشادة إلى تضارب، فدخلت بينهما فنالت بالخطأ لكمة عنيفة أسالت الدماء من فمها!! فكر في فمها الأهتم وقد فقدت معظم أسنانها وطاقم الأسنان الصناعية التي تستخده، جسدها الثقيل وقد هزلت وساقيها المقوستين من تهالك مفصليها، لماذا لا تنشق الأرض كي تبتلعه؟ لماذا خذلتها؟ - مضى نصف الوقت من الممكن أن ينصرف من انتهى من الإجابة هكذا قال المراقب بصوت عالي، فخرج عدد من الطلاب وسلموا ورقة الإجابة وانصرفوا الواقع يقول أن أسلم ورقتي الهزيلة وأنصرف، لكن لا، سأشرب كأس الذل حتى آخره، وظل إسماعيل في مكانه، والأفكار السوداء تعذبه وكأنها الجرح الذي يدفعه لكي يهرش فيه فيتألم فيزيد الألم من الرغبة في المزيد من الهرش وهكذا، ومضى الوقت وسلم الورقة، وخرج ليجد الشلة واقفة تتحدث وتضحك - ماذا عملت؟ هكذا قال على المغربي صاحب البلابل - زفت؟ راح يضحك في هيستيريا وتوجه بالحديث للشلة - يقول أنه عمل زفت - وماذا عملت؟ هكذا قال إسماعيل فهمي متعجبا - غششنا... المراقب طلع هايل قال لنا من معه " حاجة " يطلعها واكتبوا من سكات - وطلعتم كتب؟ - نقلنا من المذكرة... روعة، وأنت؟ - زفت.... تركهم دون كلام وأشعل سيجارة ومشى في الكوريدور وتذكر وجه أمه وهى تكاد أن تسقط على وجهها من اللكمة الطائشة التي نالتها، وفكر الطالب المتفوق إسماعيل فهمي في فكرة الانتحار.
.
في البن البرازيلي -1- اانتهى الطبيب الشاب إسماعيل فهمي من آخر مرضاه في عيادته الشعبية في حى الظاهر، وصرف الممرض شعبان وخلا إلى نفسه، لقد اعتاد أن يخرج النقود التي دفعها مرضاه كأتعاب، أن يخمن مهن مرضاه بالتدقيق في الرائحة المرتبطة بالأوراق النقدية التي دفعوها كأتعاب، فذلك بائع طعمية، وهذا بياع سمك، وتلك امرأة متفانية في غسيل الصحون وهذا بائع لحمة راأس... إلى آخره، لكنه الليلة لم يفعل ذلك فقد دس النقود في جيبه وهو مشغول البال ومعتكر المزاج، فقد داهمته الليلة نوبة من الأحزان التي تجتاحه بين الحين والآخر، فيمعن خلالها في التفكير من في المنغصات التي تسمم له حياته، أولها تلك المشاجرة الكئيبة التي نشبت أمس الأول بينه وبين شقيقه على ميراث تافه، ومنها مشاكله في العمل كمعيد في كلية الطب واضطهاد رئيس القسم له، وعجزه عن الزواج لضيق ذات اليد. لقد تجاوز الطبيب الشاب الثلاثين عاما بعم واحد، طويل القامة لا يخلو من وسامة، لقد أطال شعرة الأجعد، وأطال سالفيه مجاريا الموضة،و رسم على وجهه نظرة استعلاء وسخرية أصبحت تلازمهة، وهى نظرة جديرة بشاب في عمره، وفتح باب العيادة ليخرج ففوجئ بمن يقف على الباب وينظر إليه، واستطاع بعد برهة أن يستعيد شخصية القادم، إنه زميله السابق سمير، سمير جي كيه كما كان يقول عن نفسه، سمير جندي كامل، جعلها من خفة عقله سمير جيه كيه - انت نازل؟ - كنت نازل... اهلا ومرحبا - دعني أدخل أولا - ادخل يا صديقي العزيز ... تفضل... أي ريح طيبة ألقت بكا ؟ ا هكذا قال الطبيب الشاب لضيفه - انا وقعت من السماء وانت ستتلقفني صمت د. إسماعيل صاحب العيادة وهو يسمع ويتأمل في ضيفه وهما يحتسيان القهوة التي أعدها إسماعيل في عجالة، مازال أنيقا كما هو، الجاكيت البيج والبنطلون البني المحروق والحذاء الهافان الأجلسيه، طويل وعريض ضخم الجثة وهرقلي القوة، وعيناه تطلقان نظرات مفعمة بالتزلف والرياء، لكن داخل هذا التزلف بصيص ماكر وزيف أكيد. - خيرا يا عزيزي ا - لقد حصلت على حكم المحكمة لكي تمنحني كليتكم الوسخة فرصة اخيرة..... هكذا قال سمير الضيف في حنق وتأذي الطبيب الشاب من لفظه" الوسخة" فهو ينتمي إلي الكلية، ووجد نفسه يجاري ضبفه المحنق فقال: - من ناحية الوساخة فهى كما تقول... لكن أى فرصة؟ - فرصة دخول الامتحان، فأنا لا يوجد عندي مواد سوى مادتكم، المادة التي تدرسوها، لو اجتزتها لوصلت للسنة الرابعة واتخرج وأصبح طبيبا مثلكم!! لاذ إسماعيل بالصمت حائرا ومشفقا على زميله السابق المتعثر البائس - ساعدنى - انا تحت أمرك لكن كيف؟ - سوف أدخل الامتحان في مايو القادم وأنا في عرضك سوف تشرح لى المادة ستشرح لى المادة شعر إسماعيل بالحيرة، لا يعطي دروسا بنقود، فيورطه سامي في درس في أغلب الظن سيكون مجانيان ثم انه لم يكن من اصدقائه المقربين منه، مجرد زميل، ورنا إلى زميله وهو ينظر إليه بنظرات متوسلة، وعينيه السوداويين يكادا ان يغرورقا بالدموع، فشعر بالرثاء له، وبعد صمت قصير وجد المعيد الشاب نفسه يقول: - على خيرة الله. قاطعه سامي ونهض وقبل رأس إسماعيل، وهو يلهج بالشكر والامتنان وكلمات من نوع لن أنسى جمائلك طيلة عمري وأنا أردد للجميع أنك أجدع واحد في دفعتنا ابتسم إسماعيل في اشفاق وخجل وقال: - أشكرك... المهم أن نتفق على مواعيد بعد انتهاء العمل في العيادة تأتي إلى وسوف أشرح لك المنهج ... وعليك بالمذاكرة. المادة جافة وصعبة، ما أن تنتهي معي عليك بمذاكرتها أولا بأول. - طبعا.. طبعا..سترى.
-2-
انظلق المعيد الشاب إسماعيل فغادر عيادته في شارع الشيخ قمر، وطالعه مبنى جامع الظاهر بيبرس الجهم الضخم في الميدان، وراح يرقب أحجار السور الضخمة ومن خلفها السماء المرصعة بالنحوم، ولف حول الميدان وخرج إلى شارع بورسعيد وهو يفكر في مقابلة زميله السابق سمير جى كيه، وفكر في الوضع الزري الذي تردى سمير إليه، وفكر أن وضعه في الحياة لا يتناسب مع تأنقه الشديد، كيف - وهو المفصول من الجامعة لاستفاذ مرات الرسوب- يقف في محل البن البرازيللي في شارع سليمان كل يوم وقد تعطر وتأنق؟ تعجب إسماعيل من طباع زميله السابق، لو كان في موضعه لمات من الهم والحزن والهوان، لقد التحق اسماعيل بالكلية ووجد سمير طالبا من طلاب السنة الأولى، تخرج أسماعيل من الكلية وسمير مازال طالبا، وقضى إسماعيل سنة الامتياز وسمير مازال طالبا، ثم أدى إسماعيل الخدمة العسكرية وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على وظيفة معيد، وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على الماجيستير وسمير مازال طالبا. لقد سمع من الزملاء في الكلية الذين يسكنون في حى شبرا، أن سمير وحيد أمه وتوفى أباه وربته أمه ودللته فنشأ ضعيف الإرادة والعزيمة، والتحق بكلية الطب باستثناء في المجموع، فقد كان سمير لاعبا في فريق كرة اليد بالتوفيقية الثانوية، ذلك الفريق الذي حصل في تلك السنة، على بطولة اللعبة على مستوى مدارس الجمهورية في، وكافأت الدولة أعضاء الفريق بحصولهم على درجات تفوق أوصلتهم للالتحاق بكلية الطب، لكى تبدأ مأساة سامي جي كيه. -3-
ساقته قدماه إلى شارع بورسعيد، فركب تاكسي - شارع سليمان باشا... سيذهب إلى بار الناسيونال، سيدفن أحزانه في كئوس البراندي المحلي القوي الرخيص، فكر أن مشكلته لا تقل سوءا عن مشكلة سمير جى كيه، سمير يتوق إلى الحصول على بكالريوس طب، وهو يتوق إلى الزواج، وكلتاهما رغبات تستعصي على المنال، عندما وصل إلى ميدان العتبة، وفي نوبة من نوبات مصارحة النفس، أعترف الطبيب الشاب لنفسه أنه مسئول إلى حد كبير عن تعاسته، وتعاسته تتلخص حاليا في عدم قدرته على الزواج لضيق ذات اليد، ومسئوليته في ذلك لأنه رفض أن يعطي دروسا خصوصية، إذ كان في استطاعته أن يعطي الدروس الخصوصية للطلاب، مثل عدد كبير من زملائه، الذين على الرغم من سطحيتهم الشديدة وافتتقارهم إلى أبسط درجات الثقافة والوعي، تمكنوا خلال سنوات من تحقيق كل تطلعاتهم العملية، الشقة الفارهة والعروس الجميلة والعيادة في الموقع الرائع وكلها من الدروس الخصوصية، لكنه اعتبر أن الدروس الخصوصية مسألة مبتذلة ورخيصة، ولخصها في كلمتين وهما " اللف على البيوت "، لكنه الليلة يعترف بأنه كان يخبئ خلف هذا الشعار الطنان حبه الجارف للحياة واللهو، وأنه استبدل اللف على البيوت" التي ستحميه من المسغبة باللف على البارات كما يفعل كل ليلة، وآية ذلك أنه ذاهب الآن إلى بار الناسيونال، وسيجد هناك الشلة من غرائب الطبيعة، وسيشرب البراندي القوي، وسيدفن في الكأس أحزانه، وسيدخن الحشيش في الغليون، وسيقضي ليلة ليلاء، صخب ضحك ولعب وغناء ومناقشات. أختار أن يحيا كما يحب وهاهو يدفع الثمن، أن تتحمل ما لا تحب، اخترت أن لا تبتذل نفسك و ولن تمتهن العلم بقدسيته في اللف على البيوت، لن تتحول من باحث وعالم إلى تاجر شنطة الذي يحمل شنطته ويلف بها على الزبائن الأثرياء و يبيع بضاعته لهم، حسنا عليك أن تدفع الثمن، والثمن هو أنك لن تستطيع الهروب من الأزمات المالية المتلاحقة وستظل تلهث لكي تطفو فحسب في بحيرة البراندي التي تحيط بك. فراتب الجامعة هزيل، أما العيادة الشعبية التي افتتحها منذ سنوات ، صحيح أنه حقق شعبية لابأس بها في المنطقة، لكن مرضاه في المجمل من الشرائح السفلى من البورجوازية الصغيرة، موظفون صغار وسعاة في مصالح حكومية بائسة، وصغار الحرفيين والأرزقية وستات بيوت يستحققن الرثاء من الفقر والأسى. ودخله الشهري من هذا وذاك بالكاد يغطيان نفقاته، فكيف يدخر الألوف اللازمة لنفقات الزواج، ومازال يتذكر مقولة كتبها كاتبه المفضل في إحدى رواياته" يطلب الرجل المرأة ولو أقعده الكساح"، فما بالك بشاب رياضي وفي الثلاثين من عمره. أنى له بزوجة تبدد وحشة حياته الجافة، وكثيرا ما يتهيأ له أنه أشبه بصبارة بائسة تنتصب وحيدة في صحراء قاحلة. إفاق من شروده على وصوله إلى بار الناسيونال. لم يصل أحد من الشلة، اختار مقعدا على البار لكي يثرثر مع البارمان أحمد، يريد أن يهرب من مواجهة نفسه بخيباته وتعاساته، سوف يزجي الوقت حتى مجئ الشلة بالثرثرة مع البارمان " أحمد " والجرسون سيد وينادونه " شجرة " - أنا مٌعلم مثل سيادتك هكذا قال البارمان وهو يصب له كأسا، وأضاف - هذه الكأس مني لسيادتك... تحية وتقدير ومعزة هذه المقدمة يجقظها إسماعيل عن ظهر قلب، ويعرف الجملة التي ستليها إذ يقول بلكنته الصعيدية: - سيادتك معلم في الطب والعبد لله معلم للفتيات المعوقات...و اتعامل مع العاهات ليلا في البار. حكى له البارمان قصته مرات عديدة، حصل على الدبلوم من المنيا، وألحقته القوى العاملة معلما للمعوقات في مدرسة بالزيتون، وأتاحت له وظيفة الساقي أن يحصل من الفندق على غرفة صغيرة فوق السطح لينام بها، وحلت له مشكلة السكن والإقامة في هذه المدينة المتوحشة، ويحب أحمد الساقي الشاب أن يؤكد للدكتور إسماعيل أنه أنه عازم على تسجيل الماجيستير، ولن يتنازل عن تحقيق تلك الأمنية الغالية. آنس إسماعيل إلى بار الناسيونال، آثار مجده الغابر مازالت بقاياه ماثلة تتباهى بنفسها، المساحة الفسيجة والسقف العالي المزين بتهاويل الركوكو، النوافذ المرتفعة التي تطل على الشارع الجانبي ، الستائر مخملية فاخرة بلون النبيذ تغطي النوافذ، البيانو الكبير وقد انعكست علية الإضائة الصفراء الكابية التي تعتصرها المصابيح الحزانى في شحوب ، البار العريض بلون البن المحروق والمرايا البلجيكي الكبيرة والرفوف الكريستال تحمل زجاجات الخمر الملونة. فكر في سمير جى كيه، كان من المفترض أن يعتذر له، بعد العمل في طوال اليوم في الجامعة وبعدها في العيادة، وبدلا من أن يرفه عن نفسه بكأسين أو سيجارتين وصحبة حلوة ورفقة ممتعة يطلع له سمير جى كيه، ولم يكن يوما صديقه ولا عشم له! وجائت الشلة والتأم الشمل وضج البار بالضحكات والمناقشات وعلت الأصوات بالغناء، وعلى صوته وغنى بصوته " ياما قلبي قال لي لأ... وأنا ألاوعه/ لما قلبي اتشق شق... قلت أطاوعه... واندمج في الغناء ونسى سامي جي كيه ومشكلة سامي حي كيه؟ -4-
انتهى د. إسماعيل من آخر مرضاه، لقد أخبره الممرض شعبان أن الدكتور سامي في الاستراحة - هو من قال لك "دكتور" سامي؟ - نعم ! - دعه يتفضل قال إسماعيل لنفسه" ياله من نطع... دكتر نفسه بلا خجل" ودخل شعبان وخلفه سامي جي كيه، وتبادلا التحية، وجلس سامي خلف المكتب - جئت حسب الموعد هكذا قال سامي في استجداء يثير الشفقة وترقرقت نظرته وشعر إسماعيل بمزيج من الخجل وعدم الارتياح - سوف تنقذ مستقبلي ولن أنسى لك هذا الجميل يا دكتور إسماعيل... هل تعلم أن أمي لولا أنها قعيدة لأتت لك لكي تشكرك..وعندما علمت أنك تعيش وحدك، أصرت على أدعوك على صينية سمك كزبرية على الطريقة الدمياطية شعر إسماعيل بالخجل وابتسم وهو يدخن الغليون - متى ستأتي لكي أقول لماما - دعنا نبدأ العمل أولا لكي لا نتأخر... هل معك كتاب القسم - وماذا أقول لماما؟ - سنتفق بعد أن ننتهي... أين كتابك؟ لوح بيده وقال - لا أملك كتابا... ضاع مني... آخر مرة امتحنت فيها كانت من خمسة سنولت وبعد ظهور النتيجة ألقيت بالكتاب في مكان ما وبحثت عنه بالأمس وقلبت الدنيا فلم أجده. - لابد ان تشتري كتابا... أنا سأشرح لك هنا، رغم أنني لا أعطي دروسا خصوصية، لكن واجب الزمالة القديمة يحتم على مساعدتك ؟ا - أشكرك .. وأول الشهر لما ماما تقبض المعاش حا أشتري نسخة... هل يباع في القسم؟... سأشتري واحدا قال إسماعيل معتذرا - وزعوا نسخة مجانية واحدة لأعضاء القسم...ولولا هذا لأعطيتك نسختي... شعر بالندم، وشعر بالشفقة على زميله القديم، وتذكر أن سامي وحيد أم متسلطة مستبدة لاتخلو من ضعف العقل، وهى التي جعلت من سامي هذا الرجل المعدوم الإرادة الذي لا يخلو من تفاهة، وتذكر حكاية رواها له زميل كان وطيد الصلة بسامي، بحكم تجاورهما في حى شبرا العريق، والزميل نفس أخبره من قبل، أن أم سامي التي ترملت في سن الشباب، والتي رفضت الزواج بعد أبيه الصائغ، فأوكلت إدارة الدكان إلى خاله، الذي خدعها واستطاع بالدهاء والحيلة أن يستولي على ميراث سامي وأمه ولا يمنحهما إلا الفتات، وحكى لي واقعة شاهدها في بيت سامي، بينما كان في زيارة له، وبينما يحتسيان الشاي فوجئا بأم سامي تقتحم الغرفة كالإعصار، غاضبة والشرر يتطاير من عينيها، وبدون سلام ولا كلام راحت توبخ سامي وتنهرة في غلظة شديدة، لأنه أخرج الطاقم الكريستال لاحتساء الشاي، لم ينطق سامي وانكمش خزيا وهوانا.
رنا إسماعيل ببصره إلى زميله السابق وشعر بالشفقة، وانتابه إحساس بذنبٍ ما حيال ما آل إليه سامي جي كيه، ما ذنبه في وفاة أبيه؟ ما ذنبه في ترمل أمه؟ لم يختار سامي أن يتحول من طفل برئ إلى شاب تافه معدوم الإرادة. انتبه إسماعيل من شروده على صوت سامي : - أول الشهر ... لم يتبق على الشهر إلا أيام... قاطعه إسماعيل وقال: - أنت ستأخذ هذه النسخة...وتجلبها معك كلما أتيت هنا ترقرق سامي جي كيه وكادت عيناه تغرورقا بالدموع وقال: - جمائلك فوق رأسي ولن أنسى لك مروئتك وكرم أخلاقك - أنظر ياسامي .. سوف نضع خطة لكي تنجح.. سوف تمتحن مع الدفعة كلها؟ ا - نعم في سبعة مايو... والعملي والشفوي يوم 22 مايو. فكر د. إسماعيل في طريقة للعمل مع تلك الحالات المستعصية، وقال ليقلل من جدية الموقف - جميل سندخل عليهم بطريقة أربعة إثنين أربعة... سنبدأ بباب لابد أن تجد فيه سؤال أكيد، لماذا؟ لأنه الباب الذي يشرحه للطلاب رئيس القسم الدكتور على الغمراوي بجلالة قدره ورضي الله عنه وأرضاه ...سوف أحاول أن أبسط لك علمنا الصعب بقدر الإمكان، ودوري معك أن أخلق منطقا في الدرس من اللامنطق الذي ستجده.. فالطب أقل العلوم انضباطا لأنه يتعامل مع الحي، والحي لغز في النهاية فأنت يا عزيزي جي كيه ستجابه ألغاز الحي. قطع د. أسماعيل استرساله وقد تعمد أن يدهش سامي وأن بربكه وبدأ شرح الدرس، وبعد عشرة دقائق من الشرح، كان خلالها ينظر إلى سامي، كاد أن يضحك وقد بدا له سامي المنتبه بشدة ومع هذا تهيأ للدكتور إسماعيل كما لو كان سامي ملاكم يتلقى من خصم قوي لكمات شديدة يترنح من قوتها، فهاهو سامي يتلقى دشم العلم الجيرانيتية فيتهاوى من قوتها، كان من الواضح أن سامي حالة ميأوس منها، فاستيعابه – كما يبدو من تعبيرات وجهه الذاهلة، والغباء المطل من عينيه- كان شبه معدوم، وشعر إسماعيل بالشفقة، واستمر في شرح الدروس حريصا على أن لا تظهر أفكاره على وجهه.
-5-
وقف د. إسماعيل في عيادته في الشرفة وهو يشعر بالاضطراب والذنب والتعاسة، لقد انتهى لتوه من ممارسة الحب مع مريضة من مرضاه، ويشعر بالذنب لعدة أسباب، أولها أنه لم يتمالك نفسه فمارس ما مارس في العيادة، صحيح أنه علماني ولا يعتقد في تلك الخزعبلات، لكن شيئا ما داخله لم يتخلص من الوجدان الشعبي، لكن العيادة مكان "لقمة العيش"، والبعض يعتبرها من الكبائر، وتجلب النجاسة وتقطع الرزق، ماذا أفعل وأنا تحت وطأة الهرمونات وما أدراك ماالهرومونات وعذابها الهرم، ماذا أفعل والمريضة الشابة التي تقترب من عامها الثلاثين هى من منحتني الضوء الأخضر، ولم تكن المرة الأولى التي تتأوه وتثيرني، في الأربع زيارات السابقة بدأت مناوشاتها، في كل زيارة كانت تتأوه وتتلوى وتوحوح وأنا أكشف عليها، لا يغادره الآن وجهها بالحول الواضح في عينيها بكحلهما الكثيف، وجهها الداكن وزينتها المتبرجة في بهرج من الألوان لتداري بشرتها الداكنة، فمها العريض وشفتيها المكتنزتين النهمتين وقد صبغتهما بلون قاني ، استجاب لها بجسدها الثري، الصدر الريان والبطن الطرية مثل العجين والأفخاذ المستديرة العفية، الاختلاس ضاعف من متعتهما الجنونية، وقد فوجئ بأنها امرأة! قالت وهى ترتدي ثيابها: - تعرف .. أن الحب ما أن يتمكن من قلب الإنسان أو الإنسانة.. يسيطر عليه ويلغي عقله. إنه نهبٌ لمشاعر متلاطمة من الإنتشاء والندم والحرج، ماذا لوكان أحدهم اقتحم غرفة الكشف، عاد إلى المقعد خلف المكتب وجلست وقد عدلت من ثيابها وشعرها، وشعر بالخوف الشديد، لقد وجد مريضته الشابة فاقدة للعذرية، كانت امرأة وخاض الشوط لآخره، لم يسبق لها الزواج، وفكر أن حديثها عن الحب محاولة للتوريط، ربما كانت بداية لتطالبه بالزواج، وهل يصوم ويفطر على هذه البصلة البائسة، صحيح أنها تتمتع بجسد مثير لكن هل يكفي؟ وشعر بخوف يقترب من الزعر والهلع من المصير الذي قد يحيق به، فيتزوج من تلك المرأة الشعبية ذات التعليم المتوسط فيهبط من علٍ. أشاح بوجهه وشمخ بأنفه وقال: - عن أى حب تتكلمين؟ - عن الحب.. الحب أشاح بوجهه ثانية ورسم علامات الإنكار التام - هه... لا يوجد شئ اسمه الحب.. بهتت الابتسامة على وجهها وقد تبرجت بالمكياج وسال العرق فلطخ وجهها بالألوان - ألا تعتقد في الحب - في الأفلام فحسب ظهرت على وجهها خيبة الأمل والتعاسة، وبدت له وقد تقدمت في العمر عشر سنوات، غادرت وهى تغمغم بالسلام، وما أن خرجت شعر بالتعاسة، واهتز من الأعماق بسبب النهاية البائسة مع مريضته، وظل طوال اليوم التالي لا يفكر إلا في هذا الموضوع، واستقر على لوم نفسه وتأنيبها، على غلظته وعلى "معيلته"، ما أن تكلمت عن الحب لقد فٌزِعَ كطفل رعديد ، استشعر الخطورة قبل الأوان بفراسخ بعيدة، لقد سلمت نفسها إليه، كانت تطمع في أن يجاملها ويقول لها أنه أحبها، لكي تبرأ نفسها من انها امرأة سهلة ومنحلة،... لكنه أناني وخواف واساء لها وجرحها بقسوته. في اليوم التالي بعد انتهاء العمل، نبهه شعبان الممرض بأن الدكتور سامي جي كيه في الاستراحة. - مساء الخير هكذا قال سامي ولاحظ إسماعيل أن تلميذه قد زجج حاجبيه بشكل سخيف - مساء النور إجلس يا سامي.. اشتريت كتابا؟ - متأسف والله... لم أفرغ... لوذهبت للكلية سيضيع اليوم - لا بأس هات الكتاب راح يقلب في الصفحات فوجد رسومات لم يرسمها في كتابه، إنها رسومات لسهام كيوبيد وهى تخترق قلبا، واسم ليلى بخط جميل مكتوب في نهاية السهم، أما قمة السهم المدببة مكتوب عليها بحروف جميلة اسم" سامي "، انتاب د. إسماعيل الضيف من تلميذه، تسائل ليس كتابه لماذا يشوه هذا التافه كتابي؟، ووجد أنه كرر تلك الخيابات في الكتاب أربعة مرات، ما هذه المراهقة المتأخرة؟ فسامي لا يقل عن الخامسة والثلاثين، وشعر إسماعيل بالضيق الشديد، ونظر إلى سامى فوجده قد ارتبك وقال: - سوف أشتري كتابا جديدا... واحتفظ أنا بهذه النسخة فكر إسماعيل وموقفه مع مريضة الأمس مازال يجثم على تفكيره، وندمه الشديد على غلظته، ماذا كان سيحدث لو طيب خاطرها بكلمتين! لذا شعر أن الواجب أن لا يتمادى مع سامي في غلظته، من السهل جدا أن يوبخ سامي وينهره على سلوكه التافه والمتنطع، وفكر أنه ليس من المرؤة أن يفعل ذلك مع زميل سابق في وضع ضعيف.
-6-
استمرت الدروس، وقاربت على نهايتها - لقد وضعت كل خبرتي لكي تنجح في هذه المادة الصعبة - أعرف يا دكتور إسماعيل - الإمتحان أربعة أسئلة مطلوب أن تجيب على ثلاثة منها، حسب أهمية الأساتذة في القسم وهم أربعة، كل واحد منهم يشرح بابا للطلاب، وكل واحد منهم سوف يضع سؤالا، المطلوب منك أن تحفظ عن ظهر قلب الأبواب الأربعة. بدت عليه علامات التحرج كما لوكان يريد أن يطلب طلبا لكنه يخجل قال إسماعيل: - ماذا تريد... قل لي - هل توافقني - لو في مقدرتي سأوافقك - ماذا لو وضعت لي الكتاب في دورة المياه؟ - ماذا؟ - تضع لي الكتاب في دورة المياه يوم الامتحان فأطلب أن أذهب إلى دورة المياه وافتح الكتاب لأتذكر الإجابة. شعر إسماعيل بالضيق والغيظ من زميله السابق، ذلك البليد الذي يريد أن يورطه في التدليس والغش ويضعه موضع المسائلة - لا طبعاً، لن أفعل ذلك. - هذه آخر فرصة لى لتنقذ مستقبلي فكر إسماعيل أن يغلظ له وأن ينهره، ولكنه كتم رغبته وقال في حسم: - لن يحدث ولن أشترك معك في الغش أردف د. إسماعيل في غضب مكتوم - متى امتحانك - بعد أربعة أيام - اتكل على الله... اذهب واستذكر دروسك وهى الأربعة أبواب تقع في اربعين صفحة، أحفظهم كما نحفظ القرآن والأسئلة مباشرة وبالتوفيق بإذن الله هكذا أنهى إسماعيل اللقاء، فرسم سامي ابتسامة ودودة متزلفة وانصرف. اختلى إسماعيل بنفسه وهو يتعجب من هذا الإنسان المتبلد، وشعر بالغيظ منه لعدة أسباب، أولها لأنه مازال يتأنق ويتعطر ويدخل عليه بتلك الهيئة متبخترا وكأنه يعيش أجمل أيامه، ولم يشتري كتابا ومازال محتفظا بكتابه، ولأنه ملأ الكتاب بسهام كيوبيد وبالقلوب وكأنه مراهقا خالى البال، ولأنه لم يذاكر شيئا وسوف يرسب لا محالة، لماذا؟ من ردوده ومن نظرته له في غباء والتي تؤكد له أن سامي لم يستوعب حرفا مما يقول، من ناحية الاستفادة فهى أشبه بالعدم، أضاع هذا البائس له وقته، يرفض الدروس الخصوصية بالمقابل المادي، لكن هذا السامي الجي كيه التافه ورطه في درس مجاني، وليت المسألة اقتصرت على الدرس، يريد أن يتورط معه في عملية غش حقيرة. الحقيقة أن إسماعيل كان في مزاج نفسي سئ للغاية، لقد دفع بالأمس ثمن غلظته مع المريضة التي نام معها في حجرة الكشف، فقد فوجئ أمس الأول بمن ينادي عليه، كان ينزل سلم الكلية في طريقه للكافيتريا - إسماعيل... إسماعيل التفت وفوجئ بطبيب يحضر رسالة دكتوراة من خارج الكلية، يعرفه إسماعيل بالشكل ويراه كثيرا، ويعلم أنه ضابط طبيب، ويعرف أنه لديه عيادة خاصة في شارع بورسعيد ولا تبعد كثيرا عن عيادة إسماعيل في حي الظاهر وقال الطبيب الضابط وهو ينظر إلى إسماعيل في تعال - امس الأول جائتني مريضة من مرضاك واسمها... - مالها هكذا قال إسماعيل في حدة - اشتكت منك - طظ ...طظ فيها انصرف إسماعيل وبينما يستدير - علاجك غلط - احترم نفسك وليس طظ فيها فقط لكن طظ فيك قبلها نزل إسماعيل وعندما اختلى بنفسه شعر بحزن عميق، ليست عيادة شعبية فحسب لكنها موطئ للدنس وتشهير بكفائته بين هؤلاء الحثالة، وذلك الفسل الذي تصيد مريضته إنسان شرس وعدواني وقليل الأدب، يتواقح عليك وهو يحمل حقائب المشرفين عليه في الرسالة، خادم نموذجي يتطاول عليك ومشاحنة مزرية على مريضة تعبانة...
وجاء يوم الامتحان الشفوي، وكان كالعادة يتم في معمل القسم، وهى قاعة كبيرة مستطيلة بها العديد من " البنشات " الخشبية، شاء القدر أن الطبيب إسماعيل كان المشرف على دخول الطلاب للمثول بين يدي السادة الممتحنين، كان كل شئ يتم كالمعتاد، إسماعيل يقف على باب المعمل ممسكا بكشف الطلاب الذين سيؤدون الإمتحان ، وقد تجمهروا أمامه وفي الكوريدور، لقد انتحى سامي ركنا مبتعدا لكي لا يبدو غريبا بسنه الكبير بين التلاميذ الذين يصغرونه بخمسة عشر عاما، تحلق الطلاب أمام الباب في كوريدور القسم، وقد أمسك الواحد منهم بالمذكرة أو بالكتاب وراح يسترجع، فينادي إسماعيل على أربعة طلاب فيهرعوا إلى داخل المعمل، ويتبوأ كل طالب منهم مقعدا، وعلى الناحية الأخرى من " البنش" يجلس الممتحنين الأربعة، ثلاثة منهم هم أقدم اساتذة القسم، اما الرابع فهو زميل لهم وجاءوا به من جامعة الأزهر باعتباره ممتحن خارجي تطبيقا للوائح الجامعية، اما عن نرجسية الأساتذة واستعلائهم الذي لا يصدق، يكفي أن احدهم- وهم أشباه الآلهة- يقول جادا لمعيد شاب: - رحم الله الدكتور الصديق الذي كان يقول أيامنا كنا نحمد الله إذا أسعدنا الحظ ورأينا أستاذاَ جامعياَ. وجاء دور سامي – طبقا للكشف – لكي يدخل امتحان الشفوي، وما أن خطا وسامي خلفه إلى داخل المعمل، قال د. على الغمراوي رئيس القسم - لا...تدع سامي يدخل الآن... سيمتحن وحده بعد أن ننتهي هكذا قال رئيس القسم الأصلع الرأس، وأكمل - دعه ينتظر حتى نفرغ من الدفعة كلها ثم يدخل لنا وحده - أمرك يا أفندم هكذا قال إسماعيل في امتثال وخرج سامي ببنيانه الضخم ووقف بعيدا وقد تصبب عرقا. لم يكن إسماعيل يتوقع أن تكون معاملة سامي بهذه السادية، لقد انتظر سامي حتى الساعة الثانية وهو واقف ينتظر من الثامنة صباحا، ولم يدخل سوى في الثانية والنصف، لقد انصرف الطلاب والموظفين ولم يتبق إلا سامي وإسماعيل الذي وقف على الباب منتظرا أن يطلبوا سامي - دعه يدخل دخل سامي وهو ممتقع اللون ويفرك يديه وينكمش كما لوكان يتمنى أن يختفي، أما الإمتحان فلم يكن سوى مذبحة بمعنى الكلمة، نظراتهم الجامدة والجهامة التي تعتلي وجوه السادة الممتحنين كانت كلها استهجان ورفض واحتقار، ولسان حالهم أنت تحديتنا وجئت لكي تمتجن رغم أنفنا؟ وبحكم محكمة!؟ حسنا دع " المحكمة تنفعك " كان التربص واضحاً، كل الطلاب يمتحنون أربعة كل مرة، لكن تعمدوا أن يمتحن وحده، وأن يتركوه لآخر وقت. جلس سامي في مواجهة الممتحنين، وانهالت الأسئلة كالحمم البركانية في صعوبتها، وسامي كما يقولون ماحي في كل النواحي، وراح يترنح من الاسئلة السامة، يعصر رأسه وينظر إلى السماء كأنه يعرف الإجابة لكنه السهو، فيتركوه ويحدجوه بالنظرات السامة ويقولوا له: - على مهلك... تمر دقيقتان وسامي يعصر جبينه - ماذا؟ هل تعرف الإجابة؟ يهز سامي رأسه بالنفي في مذلة وخزي ويغمغم - لا وبعد نصف ساعة من جحيم الاسئلة العويصة، بدأوا في النزول بمستوى الأسئلة، وبعد ربع ساعة من الأسئلة العادية والمتوسطة المستوى، التي رد عليها سامي بالصمت المطبق، ثم هبطوا بالاسئلة إلى مستوى عناوين الفصول وسامي لا حياة لمن تنادي - اسأل نفسك سؤال هكذا قال أحدهم، ورسم سامي ابتسامة لا معنى لها، فلم يكن يتخيل أن يسمحوا له بأن يسأل نفسه - اسأل نفسك سؤالا. المهم ان اساتذة المادة نكلوا به، ومسحوا به البلاط، حتى السؤال الذي سأله سامي لنفسه لم يجب عليه، وانتهى الامتحان بالمزيد من السادية فقال أحدهم - ما رأيك في اجاباتك - - هل تعجبك؟ - - هل تريد شيئا آخر؟ هز سامي رأسه وقد أمسك برأسه وأطرق بها إلى الأرض ونهض وهو يغمغم بصوت لا يبين: - شكرا انصرف سامي يجرجر قدميه.
انقطع سامي عن زيارتي في العيادة، وعلمت أنه ما زال يقف عند البن البرازيلي كل مساء، قدرت أنه لا يريد أن يراني لأنني أذكره بفشله المرير، لكنني كنت أريد كتابي ولو كان مرصعا بسهام كيوبيد وبقلوب المحبين، لن يمنحني القسم كتابا مجانيا ثانيا، هل أشتري كتابا ثانيا وأترك كتابي لسامي، سأستعيد منه كتابي، وأغلب الظن أنه نسى أن يعيده، والآن بعد فصله نهائيا، ومعرفة سامي بأنه لا جدوى من احتفاظ سامي بكتابي، قابلته في البن البرازيللي، صافحني في فتور - ما أخبارك هكذا قلت له - لا شئ راح يجيب اجابات مقتضبة وجافة، وكلها تخبرني أنه غير سعيد باللقاء، وأنه يتمنى انصرافي وان لا يراني ثانية، فشعرت بالحيرة وبالضيق. - من فضلك أريد كتابي - أي كتاب - كتابي الذي كنت تذاكر فيه؟ أشاح بوجهه بعيدا ثم نظر في عيني وقال في تبجح لانهائي - كتابي الذي أخته مني ورسمت عليه قلوب وسهام - لم آخذ منك شيئا أستدار سامي جي كيه وطالعني ظهره الضخم وقفاه السمين وشعر رأسه الحليق وخرج من المحل.
انتهت
إله حارة أبو النجا -1-
في صبائج قائظ من صباحات شهر أغسطس، استيقظ محمود زكي طلبة من النوم على نور شمس الضحى الحارقة وهى تلسع وجهه، فنهض وصداع مؤلم يكاد أم يحطم رأسه، صداع بسبب قلة النوم والأرق الذي يصاحبه طيلة الصيف، لم ينم طيلة الليل إلا خطفا، فما ان يغط في النوم سرعان ما يستيقظ غارقا في العرق، فهو لا ينام في غرفته، ولا في شقته، لقد ترك لها الشقة كلها، وينام في الطابق الأخير، في نفس المكان الذي شاهد رخائه وممتلكا لمقدراته و شاهده سيدا لمصيره، هاهو ينام في المكان نفسه، المكان الذي شهد أمجاده وقد تحول إلى أطلال وخرائب، غرفة الفرن وغرفة الصاجات المعدنية السوداء وغرفة التشكيل وصب العجين، الفرن الحديدي الضخم وقد علاه التراب من الإهمال، من كان يصدق أن زينب حنفي أبو قملة تنتصر على وتطردني من بيتي، وتدفعني للنوم هنا في الطابق الأخير، الطابق الذي تصليه الشمس بلهيبها طيلة النهارات الحارقة، فإذا ما حل المساء تصهل الجدران النيران التي اختزنتها طيلة اليوم، وتنام زينب العفنة مع أولادي محتمية فيهم في فراشي، وفي النهاية تقول لى في شاسة وتشفي: ... عالج نفسك. تذكر محمود كلمات صديقه الشاعر الراحل الذي كتب قبل أن يموت: متى يقبل موتي قبل أن أصبح مثلك صقرا مستباحاً. نهض من فوق الكنبة البلدية المتهالكة التي يتخذ منها فراشا ينام عليه، وذهب إلى الحمام البلدي الضيق، تلك الشقة الصغيرة لم تكن للسكنى، استغلها لعمله في الخزف، أمه ورثت البيت عن أبيها، يقع البيت البلدي الصغير المساحة في زقاق "الملط" الضيق الذي يطل على حارة "أبو النجا"، في هذا البيت الصغير الضيق المساحة ولد محمود، خمسون عاما قضاها في هذا البيت، الذي لا تتجاوز مساحته الثلاثين مترا، يتكون البيت من أربعة طوابق،كل طابق عبارة عن شقة واحدة لا تزيد مساحتها عن عشرين مترا، تسكن العائلة الطوابق الثلاث، ماعدا الأرضى يقطن فيه عبد الرحمن ابن حلمي العربجي طابق أرضي، في الطابق الأرضي شقة يسكنها عبد الرحمن حلمي المهنس الذي يعمل في السعودية، مات أباه وسافر عبد الرحمن الإبن للعمل مهندسا في السعودية، يصغر المهندس عبد الرحمن بثلاث سنوات، كان الأب حلمي عربجيا على عربة كارو يجرها حمار، كل الحارة تعلم أن حلمي العربجي أطلق على الحمار لقب يطلق اسنم "فرج"، عندما كان صاحبنا محمود طالبا في هندسة عين شمس، كان عبد الرحمن طالبا في المعهد العالي الهندسي في حلوان، يتذكر محمود كيف كان عم حلمي العربجي يحتسي البوظة في بوظة " مصر عتيقة " في أدغال الجيارة، ويمزجها بالخمر من عند الرشيدي في سوق الإثنين، ويشرب معه الحمار " فرج " البوظة، كل ليلة تشهد حارة أبو النجا عم حلمي وقد وقف بالفانلة واللباس الصعيدي، يجرى حوارا مع حماره فرج، فيقف حلمى امام الحمار وقد وقفا تحت البيت، ويقول حلمي: - يا فرج يا ابن ديك الكلب فيبدأ عم حلمي. ينظر حلمي بعيمين حمراويين إلى الحمار ويقول - لا تنظر لي تلك النظرات السماوية يا ابن ديك الكلب. تستمر شتائم عم حلمي الصعيدي الذي نزح من سوهاج إلى حماره ويحمل في النهاية حجرا يريد أن يهوي به على رأس الحمار فرج. تتابع الأم الضجة من النافذة المطلة على الحارة حيث يرقد الحمار بجوار العلربة، فتستشعر الخطر أن يقتل عم حلمي الحمار مورد رزق الأسرة، فيهب عبد الرحمن ينزل ليساعد أمه في أن لا يقتل حلمي الحمار فرج: يثور عم حلمي ويقول لزوجته: - احترمي نفس أمك يا بنت دين.... يهجم الإبن على أبيه ليمنعه من قتل الحمار - هل أنت أب أنت؟ يهرع الاب بخطوات مترنحة إلى البيت ويخرج وهو يحمل عددا من كتب ابنه وهى مكتوبة باللغة الإنجليزية يرقب محمود المشاجرة من الطابق الثاني ويضحك بشدة لأن المرجع مكتوب عليه “ metalleregy” يثير حفيظة الأب العربجي حفيظة الأب السكران -- يا ابن الوسخة... هكذا يردد الأب وهو يمسك إبنه من تلابيب ثيابه، ويمسك بالكتاب باليد الأخرى ويقول متهكما على ابنه -بتذاكر الكتاب ده!؟ بتتباهى على به يا ابن الوسخة!؟ لا ياشيخ... ابن الحذاء يريد أن يعمل على مهندس... بفلوسي يا ابن الوسخة - أنت أب أنت.. أنت أب أنت؟ تدخل الأم بينهما وتبعد الأب الذي يمسك حجراً ويتجه للحمار فرج فيقول: - كله منك يا فرج ياابن الوسخة يرفع حجراً ثقيلاً ويقف قبالة الحمار الراقد تحت النافذه يظهر عددا من الجيران فيأخذون العربجي الذي أصابه السكر والوهن فيسير معهم وهو يشتم ويسب.
وضع محمود رأسه تحت الصنبور فشعر بانتعاش من الماء البارد، وغادر الحمام وهو يرتدي جلبابه الذي حال لونه من القدم، وتطلع إلى المرآة القديمة ورنا إلى صورته، وشعر بالحزن فقد شاب وأضاع في الأوهام عمره، هاهى البشرة الخمرية والجبهة السمراء العريضة والرأس الكبيرة التي حلمت يوما بحكم مصر، الشعر الأجعد الذي اشتعل شيبا، العينان والنظرة المقتحمة الثاقبة، تنطلقان من عينين تختلط في مقلتيها الألوان، العسلي يمتزج بالأخضر والرمادي. - حسني... شعر، ومحمود ... عينان هكذا كانت أمه تردد، مشيرة أن أجمل مافي ملامح ابنها الأكبر محمود هو عينيه الملونتين، وأجمل ما يتميز به شقيقه حسني في- نظرها- هو شعره الأسود الناعم الغزير. تذكر تلك الكلمات وتذكر أمه والدور المشئوم الذي لعبته في حياته، حطمته وحاكت المؤامرات لكي تهدمه فصار ما صار. - عارف نلك المرأة البلدية التي ترتدي السواد وتراها بجثمانها الثقيل والملامح الشعبية الساذجة، وتظن أنها عبيطة أو على نياتها أو فهمها محدود بجهلها، فهى أمية، وقد تظن أن فهمها على قده، فأنت لا تعرف شيئا، لأنها قطعة من الدهاء والفطنة وتذهب بك إلى البحر وترجعك عطشان يتذكر محمود ذكي تلك الكلمات التي قالها عن أمه وهو يشتكي منها لصديقه الوحيد الدكتور خالد.
خرج من الحمام ودخل غلى الغرفة، ووقف في الناقذة، ورنا بنظره يمينا فطالعه مسجد عمرو ابن العاص ببناءه الكبير والخلاء من خلفه والسماء الزرقاء الصافية من السحب ووهج الشمس يغشى عينيه. الساعة تجاوزت العاشرة، لو ظل طيلة اليوم لما سألت زينب الكلب عني ، ابنة الكلب ال" جزمة" الجربوعة كانت تتمنى رضاى وتقول لي يا سيد الناس، ابنة القديمة كونت حزبا من ابننا هيثم و ابنتنا هبة، ألبتهم ضدي وأنا سيد البيت وسبب وجودهم في الحياة والبيت، نظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى العاشرة، تعالت أصواتهم من الطابق الثالث، وقال لنفسه " ولو بقيت طول اليوم لما سأل أحدهم عني". -2-
السلم الضيق المتهالك، ست درجات لا غبر يحفظها عن ظهر قلب، لو الأحجار تتكلم لنطقت عن علاقتي بها، الباب مفتوح وهيثم راقد في غرفة النوم، وصفيحة القمامة بها كمية كبيرة من الكشري. " يا بنت الوسخة" هكذا قال لنفسه وهو يتفحص كمية الكشري الهائلة التي ألقت بها زوجته في القمامة. دخل وجدها جالسة على الكنبة في الصالة الضيقة، ما أن رأته حتى رسمت على وجهها تكشيرة كأنها اللعنة - هل ستفطر؟ هكذا غمغمت بوجه جامد كأنها فقدت أباها، الضحك والابتسامات للعيال أما انا فالتكشيرة والوجوم والخلقة التي تقطع الخميرة من البيت - نعم.. ساتزفت هكذا قال في غضب مكتوم، وأردف - لماذا ألقيت بكل ذلك الكشري في الزبالة... حرام على أهلك، والآن ستقولين هات نشتري طعام الغذاء قاطعته في حدة - معمول منذ أمس الأول ولن تطعمنا طعاما فاسدا - ولماذا عملت يا مصيبة كل تلك الكمية... ألا تميزين...؟ لماذا عملت كل تلك الكمية، كان نصفها يكفينا امس الأول وأمس وكنا وفرنا تكاليف الكمية التي في الزبالة، لكنك لا تدفعي مليما هكذا قال غاضبا ساخطا - هذا كشري وليس حماما ولا لحوم... رضينا بالهم - هم في وجه أمك.. أنظر ماذا تقول بنت أبو قملة، من أين جائت بها امي؟ لاذ بالصمت، وفكر في أن أ بنت القحبة كانت تتمنى رضاه والآن تقول أنني تتقبلني كما تتقبل الهموم الثقيلة، آه يا بنت القحبة. وجلس على الكنبة البلدية، طبق الفول البارد كالعادة، على أن أتحمل قلة أدبها، والخبز منذ أمس الأول، لم تضعه في الفريزر كما أقول لها، لو سخنته لأصبح مقبولا، والفول الماسخ مثل خلقتها، كان لابد أن تسخنه على النار لكي يصبح له طعم مستساغ، لكنها لا تريد أن تبذل أقل مجهود، تعاقبني أبنة الكلب الواطية، تذوق الفول البارد الذي بدا له ماسخا وبلا طعم، منها لله أمه حاكت المؤامرات ودبرت من الخطط الجهنمية التي لا تخطر لى على بال لكي أطلق هيام، هيام زوجتي الأولى التي قضيت معها أجمل الأيام وأسعدها، أين أنت يا هيام؟ هيام امرأة تسوى ثقلها ذهبا، خدعتي أمي وغررت بي وجعلتني أطلق هيام وأقسو وأفتري عليها، وجلبت لي هذه البلوى، زينب ابنة أبو قملة عامل النظافة في دورة مياه في البساتين، من أين أتت بها أمي؟ تزوجتها منذ عشرين عاما فنحستني وجلبت لى المرار والفشل، هيام كانت فنانة في أصول الطعام، بأقل الإمكانيات تصنع بلمساتها وجبة شهية وفي غاية الجمال، افطارها من خمسة صحون، بيضة مسلوقة لا تقدمها هكذا لكن تحمرها في الزيت المغلى فتزداد طعامة، طبق الفول الساخن المزين بقطع الفلفل الحار والزيت يسبح فوقه والكمون والبهارات وقطع الطماطم المقلية في الزيت، الجبن الأبيض تقدمه هيام وقد غمرته بالزيت والشطة والطماطم، هيام كانت تصنع من الفسيخ شربات، من لا شئ تصنع وجبة شهية، أتت من بيت ثري ومطبخ عامر، لو طلبت من بنت القحبة أن تسخن لى الفول ستأتي بوجهها الذي يقطع الخميرة من البيت وستأخذه في صمت وستغيب دقيقة وستعيده كما هو، هيام ابنة المعلم صالح الفرماوي صاحب مطعم للفول والطعمية في الجيارة، رجل كسيب وينفق على بيته عن سعة، أم هيام أستاذة مطبخ، علمتها أصول الصنعة، بيت عامر تتصاعد من المطبخ أروع الروائح، الفتة والضأن والكشري والطعام المسبك. المعلم صبحي عرفة، جهز ابنته بثلاث غرف، دفعت أمي بشطارتها مهرا صغيرا، وقال المعلم صبحي" سنقبل ما تدفعون مهرا لهيام، نحن نشتري رجل يا أم الباشمهندس محمود" - لابد أن تدفع فابنتك لم تأخذ سوى سنة ستة، والباشمهندس اسمه مازال مقيدا في كلية الهندسة في عين شمس. - على عيني وراسي يا حاجة..أنا اشتري رجل لإبنتي - ومحمود سيد الشباب وقرة عيني وسيسكن في بيته الملك. - سيسكن في قلبي لأنه سيأخذ ابنتي الوحيدة هيومة. - سنحملها في عيوننا، وسأعتبرها ابنتي. أفاق محمود من شروده على صوت هيثم ابنه الأكبر الذي كان يجلس في الصالة. جلست أمه قبالته وقد أعدت له الإفطار، الشاي بالحليب المعمول كما يحب، تسخن له الحليب حتى يغلى وتضع كمية كبيرة منه في الكوب وتضع الشاي الثقيل وتقلبه له بعناية تكاد أن تلتهمه بعينيها من الوله. قال محمود لنفسه " آه يا بنت الوسخة " لولاي لما كان هيثم، تنكريني وتعاملينني أسوأ معاملة، لم أرى ابتسامتها منذ خمس سنوات - هيثم... هيثم نادى محمود على ولده الأكبر وقال: - صباح الخير - صباح النور هكذا رد هيثم باقتضابن وصاحت أمه من الخارج - افطارك سيبرد هكذا قالت زينب في جفاء - هاتيه هنا... أريده في كلمتين جلس هيثم، ورث عن أمه قصر قامتها وملامحها الشعبيةن عيناه سوداويين ولم يرث ألوانهما، ورث مني البريق الحاد النافذ، ذكي للغاية ويفهمها وهى طائرة، لكن من أين أتى هيثم بتلك الرأس المستطيلة وكأنها صندوق أحذية. - على فين؟ عيناه تقولان وأنت مالك، لا أتذكر قائل بيت الشعر" ذريني للغنى أسعى- فإني رأيت الناس شرهم الفقير"... تنهد محمود وهو يلمس جفاء ابنه - سأذهب إلى الكلية - ماذا عندك في الكلية؟ يكاد أن يقول له " ما شأنك " دخلت أمه وجلست على الكنبة، وشعر محمود بالضيق الشديد، فقال لها: - نعم... لماذا جئت؟ - عادي!... لديك مانع - أريده في كلمتين ترامقا في كراهية وقالت: - براحتك... لكن يا هيثم كن حريصا على فلوسك وتعبك وشقاك - ارتحتِ... غوري بقى من هنا خرجت وهى تغمغم بكلمات غاضبة، وتبعها هيثم بوجه واجم يخفي به غضبه من أبيه، تجاهل محمود نظرات هيثم وقال: - كيف أحوال العمل - يعني - كم تلميذ لديك - هه.. عد غنمك يا جحا.. نظر في ساعته وقال وهو يقف - تأخرت عندي محاضرة في الثانية عشرة وسألحقها بالكاد - كنت محتاج عشرون جنيها هكذا قال محمود، فجفل هيثم، وعلا صوت الأم من الداخل - يا هبة هذا ما كنت أخشاه... كنت عارفة... يارب يتوب عليك يا هبة تتظاهر ابنة الحذاء بأنها تتحدث إلى ابنتهما هبة وهى توجه كلماتها السامة المسمومة إليه، اجتاح محمود الغضب وقال: - نقطينا بسكات أمك - أنا أكلم هبة... ومن على رأسه بطحة - احترمي نفس أهلك لأخرج لأمك سكتت زينب وصاحت هبة - حرام عليكما .. لم تعد عيشة سكتوا جميعا ولم تتبق إلا ضوضاء الشارع وصياح الصبية وأصحاب الدكاكين والورش. جلس هيثم ووضع رأسه بين كفيه وأطرق برأسه المدببة إلى الأرض، ولبث محمود ينظر له منتظرا - ماذا قلت؟ - فيم؟ - في العشرين جنيها..سوف أردهم لك أول الشهر.
-3-
كل عقدة ولها حلال 1- تميز جارنا وصديقنا نبيل زكي بين افراد شلتنا بميزتين ثمينتين، أولهما براعته الشديدة في لعب الكرة الشراب ويعتبر من النجوم البارزين في هذا المجال، أما المزية الثانية فهى لاتقل أهمية فهى جرأته الشديدة وجسارته في المشاجرات. اعتدنا أن نلعب الكرة الشراب في عدة شوارع، يوسف الجندي وأرض الفوالة وكثيرا ما لعبنا في شارعنا، وكثيرا ما ضايقنا الأسطى عزت الحلاق بمطالبته لنا بأن نتوقف عن اللعب وأن نلعب بعيدا خشية أن تحطم الكرة زجاج صالون الحلاقة الذي يمتلكه، كنا نتجاهله ونعده بالحرص، فكان بعد ان ن وذات يوم ألح الأسطى عزت ووقف لنا في وسط الشارع وراح يهلل واختطف الكرة وصاح: - غور بعيد منك له... تحلقنا حول الأسطى عزت ورحنا نترجاه - سوف نحترس يا أسطى عزت - الكرة أصابت الزجاج اليوم ثلاث مرات.. - دعنا نكمل المباراة بالله عليك يأسطى عزت كشر الأسطى عزت البارد الملامح الغضوب الطباع عن أنيابه وتهيأ للإنصراف، وفوجئنا بصديقنا نبيل زكي يخترق الحلقة ويقول في لهجة تهديد واضحة - هات الكرة يا أسطى عزت - ألعب بعيد منك له فوجئنا بصديقنا نبيل زكي يهرع إلى الحجر الثقيل الذي اتخذناه كمرمى ويحمله ويتوجه جريا إلى دكان الأسطى عزت، ويقذف بالحجر بكل قوته فيحطم الفاترينة الزجاجية الكبير فتتناثر - هى الكرة وحدها التي تحطم الزجاج هكذا قال نبيل زكي موجها حديثه إلى الأسطى عزت الذي شلته المفاجأ وساد صمت ثقيل لم يقطعه سوى عواء الأسطى عزت وقد تأهب نبيل زكي للقتال 2-
" لا نقود لك عندي وعندك نبيل فافعل به ماشئت فقد وضعت أصابعي في الشق منه ومن مشاكله وقرفه " هكذا قال عم زكي جارنا والد نبيل زكي عندما طالبه الأسطى عزت بثمن الزجاج الذي حطمه نبيل عمدا. منذ عشرين عاما كان عم زكي يعمل مساعد طباخ في قصر عابدين أيام الملكية، وأحيل للمعاش منذ عشرة سنوات، ويملك بيتا صغيرا في حارة السقائيين في سوق الأثنين في منطقة عابدين، وعدة قراريط في أبو زعبل. ولا يغادر منزله إلا للضرورة القصوى، وإبان موجة التمصير في مطلع الستينيات وتحت ضغوط شديدة من زوجته انتقل وأسرته إلى شارعنا بالقرب من ميدان التحرير.
- نبيل زكي معلم كبير هكذا قال أحمد عصام أحد أفراد شلتنا، قالها بانبهار ثم أردف: - لا يجالسنا نحن لأننا بالنسبة له صبية لم نخرج من البيضة، نأكل تين شوكي وكبيرنا نشرب سيجارة في ظلام شارع يوسف الجندي، اما نبيل لا يجلس إلا في قهوة" العنبة " في عابدين مع معلمين كبار، فهو لا يكف عن المقامرة وعن النسوان وتدخين المخدرات.... نبيل يا جماعة معلم.
-3
كان يكبرني بسبع سنوات، خمري اللون متوسط القامة رشيق القوام، له شعر ناعم ووجه وسيم، وكنت مبهورا به لجرأته الشديدة ولاستهتاره البالغ، ورحب بصاقتي به ودعاني لزيارته في مقهى العنبة في عابدين، أما عن الدراسة فقد كان من كبار الفاشلين ويضرب به المثل في الخيبة الثقيلة، مدمن رسوب وظل يرسب في الإعدادية حتى قررت الدولة أن تغير نظام التعليم بتخفيض سنوات الدراسة في المرخلة الاعدادية من أربع سنوات إلى ثلاث سنوات، فوجد نبيل نفسه يهبط من الرابعة إلى الثالثة، وذبحت أمه عنزة فرحا بحصوله على الشهادة الاعدادية، وتكررت المأساة في الثانوية العامة، وظل يرسب حتى قررت الدولة أن تصفي نظام البكالوريا وتستبدل به شهادة الثانوية العام، وفي أكازيون حكومي قررت الدولة أن تتخلص من كل طلاب النظام القديم، بأن لا ينجحوا فحسب ولكن بالتساهل في التصحيح والإغداق عليهم في الدرجات، فلم ينجح نبيل زكي فحسب لكنه حصل على مجموع مرتفع من الدرجات أهله للإلتحاق بكلية الطب! - نبيل شاطر ودخل الطب من شطارته! هكذا راحت أمه تردد ذلك متباهية به، وتعوض السنوات الطويلة من تعثره ورقبتها التي أضحت أمام الجيران مثل "السمسمة"، والذي لم يكن يجلب لها إلا المشاحنات والعار، وأشترت له- قبل بدء الدراسة - ثلاثة معاطف بيضاء من شيكوريل ولم تتوقف عن تعليقها منشورة في شرفتها وكأنها رايات النصر. وبعد مرور أربعة شهور على الدراسة، بينما كنا في طريقنا لنلعب مباراة في الكرة الشراب في منطقة الوايلي وكنت أمشي إلى جوار نبيل، الذي قال لي: - تصدق بالله لم يدعني نبيل ارد فأردف على الفور: - أنا لم أذهب إلى الكلية منذ ثلاث شهور. لم أعلق وسبقني في المشي، ورحت أرقبه وهو يسير في رشاقة، وقد ارتدى نعلا بلاستيكيا رخيصا وصغيرا، وكعب قدمه يطئ أرض الشارع.
-4
لم يرسب مبيل في كلية الطب لكنه خلال سنتين كان استنفذ مرات الرسوب، وفصلته الكلية وحولت اوراقه إلى كلية التجارة - نبيل إبني شاطر ونبيه... لكن أصحابه هم من يخيبون أمله هكذا راحت أمه تردد بلا انقطاع مدافعة عنه أمام الجارات، وفي أغلب الظن أنها كانت مقتنعة بهذا، فقد اتخذت قرارا عمليا في هذا الشأن، فقد أقنعته بأن ينتق من تجارة القاهرة إلى تجارة الاسكندرية، بعيدا عن رفاق السوء الذين خيبوا أمله، وكلفت والدة نبيل صديقنا بكر خليفة المعروف بالجدية والرزانة ويدرس في حقوق الإسكندرية، أنيكون نبيل تحت رعايته، وأذعن نبيل وانتقل إلى الأسكندرية، ودبر له بكر خليفة حجرة مناسبة في منطقة الإبراهيمية. - نبيل!؟... نبيل لا أمل فيه وحالة ميئوس منها هكذا قال لنا بكر خليفة وقد وقفنا على الناصية، وأردف: - أنا قلت هذا لمحمد شقيقه - لماذا لا أمل منه؟ - سكن في الإبراهيمية بالقرب مني، ومارس تأثيره السئ على شباب الشارع، فجعلهم مقامرون، وتحولت غرفته الصغيرة إلى وكر للمقامرة والحشيش والنساء - والعمل؟ - العمل عمل ربنا.
وكما فصل نبيل زكي من طب القاهرة فٌصل من تجارة الإسكندرية، ولأنه لم يعد طالبا، زال السبب في تأجيل التجنيد، وفوجئنا بشيخ الحارة يطلب نبيل زكي عليوه للتجنيد الإجباري، وتم تجنيده، ولكنه لم يطق صبرا على الجيش والجندية والانضباط، بعد عدة شهور لم يعد من الاجازة إلى وحدته، ومكث في البيت، وعاد إلى حياته اللاهية، الكرة الشراب في يوسف الجندي والمقامرة في مقهى العنبة مع الحثالة تدخين الحشيش في غرزة الجباصي في سوق الأثنين والعودة إلى البيت فجرا، حتى فبضت عليه الشرطة العسكرية ورحلوه إلى وحدته، ونال محاكمة عسكرية سريعة بتهمة " الغياب "، ووقعت عليه عقوبة " الحبس " ثلاثة شهور يقضيها في سجن الوحدة، وبعد شهرين، وبفضل " نعومته " الشديدة، وتظاهره المدهش بالطيبة والرقة والود الشديد، استطاع نبيل أن يخدع حراسه، فقد اوهمهم أنه يعيش أزمة كبيرة لأن أمه مريضة للغاية ويتمنى لو يراها نصف ساعة فحسب، ورق قلب الحارسين الريفيين لمطلبه الذي يدعو للشفقة، وخرجوا به سرا واصطحبوه إلى البيت، وأستطاع أن يخدعهما وأن بلوذ بالفرار فخرج من باب غرفة المسافرين التي لها بتب بفضي إلى السلم، وبعد نصف ساعة كان الجنديان الحارسان يندبان ويولولان وقد أدركا أنهما سيدخلان السجن عقوبة لهما على فرار نبيل زكي.
-5
ذات مساء وكنت في عيادتي، وبعد أن انتهيت، دخل شعبان الممرض وقال وهو يبتسم ابتسامته الكلبية : - واحد في الخارج طلبت منه الكشف ولكمه رفض ويقول أنه صديق سيادتك! - من؟ - نبيل زكي عليوه مرت سنوات طويلة تخرجت وتزوجت وانقطعت بننا الأسباب، وهاهو زعيمي القديم يظهر بعد سنوات طويلة - دعه يدخل عانقني في حرارة وود صادق وجلس فطلبت القهوة والماء المثلج - أنا سعيد جدا بما وصلت إليه.. وكنت أتابع مسيرتك الرائعة هكذا قال وأردف - والحقيقة أنت تستحق كل خير - أشكرك... وأنت؟ - أنا تمام... خطبت واستعد للزواج - ألف مبروك - وأعمل في السيدة زينب لم يزد، ولم أقل له ماذا تعمل، وأغلب الظن أن طالب الطب السابق يعمل سفرجيا أو قهوجيا أو ما شابه من المهن الرثة، كل هذا ظهر من ثيابه ومظهره البسيط كنت مضطرا للإنصراف لارتباطي بموعد عائلي، فسكت برهة وجدته ينهض وقد فطن إلى رغبتي في انهاء اللقاء، اعتذرت له في صدق واكدت له أنني أريد أن نواصل صداقتنا الحميمة، وأشرق وجهه بالسرور. - لى خدمة عندك هل تسمح لي - طبعا ... تفضل - حماتي أسنانها الأمامية مخلوعة هل من الممكن أن نركبها لها - جدا ... جدا أعطيته موعدا لى نبدأ العمل وجاء في الموعد، ودخل شعبان الممرض يبلغني بوصول الأستاذ نبيل زكي، ودخل وفي صحبته امرأة تقترب من الخمسين لها بطن كبيرة وقد كحلت عينيها بكثافة ملحوظة، ولها وجه - على العموم - لا يطمئن، قمت بالواجب وانتهيت من العمل، وعرض غلى استحياء أن يسدد الأتعاب، فرفضت في حسم، فتهلل بالفرحة وبالدعاء - أريد ان نستعيد لقاءتنا هكذا قال - أريد أن نستعيد الماضي في الزمان والمكان هكذا قلت وأنا أرقب شعره الأسود الناعم بلا أثر للشيب - نأخذ موعدا... نلتقي في العاشرة عند فندق شبرد - ستجدني هناك في العاشرة وسأنتظر الموعد على أحر من الجمر انصرف نبيل زكي وحماته ورحت أفكر في حجم التردي الذي وصل إليه زعيمي القديم، وأفقت من شرودي وانا أستعد للمغادرة على صوت الممرض شعبان يقول وهو عابس الوجه - صاحب سيادتك؟ - الأستاذ نبيل؟ ما شأنه؟ - كدت أن أفعلها معه لأنه لم يحترم نفسه؟ شعرت بالانزعاج لتطاول شعبان الوغد على نبيل الذي تربطه بى صلة - لماذا؟ - دخلت أعد الشاي، وتركته هو والمرأة التي معه يجلسان وحدهما في الصالة، وخرجت فوجدته يقبلها - يقبلها؟ - نعم يقبلها قبلة عنيفة - ماذا تقول؟ - وجدته يقبلها فنهرته وقلت له أن العيادة مكان محترم وأن عليه أن يحترم نفسه1 - معقولة راح شعبان يقسم ويحلف أنه لا يدعى عليهما، ولم أصدق حرفا من ادعاءات شعبان لسببين، أولهما أن ذمة شعبان مطاطة ولا يعول عليها مطلقا، وثانيا لأان المرأة حماة نبيل زكي لا علاقة لها بالأنوثة من قريب أو من بعيد، وان شعبان على سحنته التي تقطع الخميرة من البيت به أنوثة تفوق أنوثة تلك المرأة الشنيعة، قلت لنفسي أغلب الظن أن شعبان كان يروم بقشيشا سخيا فلم يظفر به، فألف تلك القصة التي لاتصدق.
-6
جلسنا على الكورنيش خلف فندق شبرد كما كنا نفعل منذ خمسة عشرة عاما، كان النيل أمامنا غارقا في الظلام والصمت، وانعكست من الكازينو في الضفة الأخرى الأضواء الملونة على صفحة النهر، ورف نورسا أمامنا على صفحة النيل، وعبر الفندق القريب، سرت أغنية طروب. - هل تتذكر أيام أن كنت طالبا بكلية الطب هكذا قال. لم تكن المرة الأولى التي يستعيد فيها أنه كان طالب طب، لاحظت أنه يختلق حديثا لا علاقة له بأي شئ سوى أن يكرر" عندما كنت طالب طب " شعرت بالأسى له وأنا أرقب مظهره الرقيق، وتذكرت أن الحياة قاسية للغاية وبلا رحمة، ومن " يهجص " معها ستلقنه الدرس الذي لم يكن يخطر له على بال. - كيف حال حماتك؟ - كويسة... تبعث لك بالسلام - بالمناسبة أين زوجها؟ لقد رأيته معك على مقهى العنبة - نعم... رجل نطع كان يأتيني على القهوة ليحتسي شاي بالحليب على حسابي - وأين هو الآن؟ - طفش... بلغ فرار - كيف؟ - عمل استبدال معاش وأخذ النقود وفص ملح وداب - اختفي نهائيا؟ - لاأحد يعلم عنه شيئا... انقطعت أخباره وترك زوجته وبيته وابنته وشقيقتها... الآن عندي مشكلة مع مراته ... حماتي؟ - خير - حامل... - حامل؟ كيف وزوجها مختفي، ومن الفاعل؟ هل تعرف؟ - حامل مني أفقت ولم أصدق ما سمعت - حامل منك؟ حماتك؟ - نعم - يخرب بيتك .. كيف؟ - عادي - كيف؟ هذه مصيبة - فعلا مشكلة - كيف حدث الله يخرب بيتك - كنت أدخل معها الغرفة - أين - في شقتها في الناصرية، كنا ندخل الغرفة ونغلقها علينا بالمفتاح - وخطيبتك؟ كنا نقول أننا نتكلم في الجهاز - تتلكموا في الجهاز ؟ - نعم ماذا نشتري ومن أين.. - ماذا فعلتما في بطنها وهي تكبر - لاشئ فهى أصلا بطنها كبيرة تنهدت وأنا أرمق زعيمي القديم بنظرات ثاقبة وأنا تتملكني رغبة عارمة أن أخترق جمجمته الصغيرة لأعرف ماذا يدور في عقل عذا الكائن العجيب. - ليست المرة الأولى - يا نهارك الأسود ... ماذا تقول... ليست المرة الأولى؟ - نعم في العام الماضي حدث الحمل - وبعد؟ - عندما اقترب موعد الولادة اصطحبتها إلى مستشفى الجلاء للولادة، وحجزوها بها - وبعد؟ - ولدت طفل.. - طفل؟... ولدت طفل؟ - نعم... انتظرنا قبيل الفجر وتسللت وخرجت به وكنت انتظرها خارج المستشفى وذهبنا بالطفل إلى ملجأ في الزيتون، ووضعناه على الباب اصابني الذهول، ورنوت إلى النافورة التي تتوسط النيل بألوانها البديعة، النيل الذي يتدفق وعلى ضفافه تنسج المأسي والمصائر، ألقوا به على باب الملجأ؟ - هذا معناه أنك لك إبن الآن في هذه اللحظة يعيش في الملجأ تنهد مدعيا الأسف وقال في تسليم - نعم - وحماتك حامل للمرة الثانية؟ - بنت كلب لم تأخذ الحبوب - لم تأخذ الحبوب هكذا رددت في بلاهة ساد صمت ثقيل بيننا وشرد كل منا في أفكاره، وبعد برهة وجدت نفسي أقول له - كل عقدة ولها حلال رد على في بساطة وقال - فعلا كل عقدة ولها حلال ا
ا الامتحان
في ليلة شتوية من ليالي شهر ديسمبر، جلس طالب الطب إسماعيل فهمي يستذكر دروسه، استعدادا لاختبار مادة الميكروبيولوجي، تلك المادة الجافة التي تعتمد على الحفظ، لقد ذاكرها أكثر من مرة، وهاهى في خضم استعداده ومراجعته لبقية المواد، يجدها و قد تبخرت من ذاكرته، كانت الساعة الثامنة، أمامه ليلة طويلة، سيستعيد الميكروبيولوجي في ذاكرته في ستة ساعات وربما ثمانية ساعات، سيراجعها بكل جدية من الثامنة حتى الخامسة فجرا وربما السادسة، ثم سينام إلى العاشرة فيراجعها ساعة أخرى، ثم يتوجه إلى الامتحان في الثانية عشرة ظهرا. - زميلاك علي وعادل هكذا قالت أمه وأدخلتهما عليه، رحب بهما وخرجت أمه لتعد لهما الشاي وغمغمت لهم بالنجاح والتوفيق، شعر بالدهشة وظن أنهما حضرا لي يذاكرا معه، فشعر بالقلق والحيرة، اعتادا أن يأتوا إليه فيتولى شرح المادة وتلخيصها لهم، فيستفيد من ذلك استفادة هائلة، من ناحيته فالشرح يثبت المعلومات في عقله، ويستفيدا من الشرح بتسهيل المذاكرة والحفظ، وتذكر أن كلاهما دخلا كلية الطب باستثناءات من المجموع في الثانوية العامة، على المغربي والده أستاذ جامعي، وأبناء الأساتذة يحق لهم ذلك الإستثناء، أما علدل عبد الفتاح الخمري اللون فكان استثناءه بسبب تفوقه الرياضي، فهو كابتن فريق نادي " س" في لعبة الهوكي، فكر إسماعيل في أنهما لو ظنا أنه سيتفرغ للشرح لهما الليلة فهما واهمان، يريد أن يخلو إلى نفسه وللمايكروبيولوجي بغباوتها وسيتغلب عليها بإذن الله، فقال إسماعيل في تحفز - خير قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي - ابن الوسخة علي معه بلابل؟ - بلابل؟ هكذا قال إسماعيل - بلابل من التي يحبها قلبك دعه يرى البلابل يا ابن الكلب كانت الشتائم التي يتبادلوها من باب حميمية الصداقة والزمالة، أخرج على المغربي من الكيس البلاستيكي الذي يحمله عددا من زجاجات البارفان الحريمي الفاخرة وخاتم ذهبي صغير. فهم إسماعيل الحكاية كلها، وعرف أن عادل عبد الفتاح ذهب إلى علي المغربي في بيته في مصر الجديدة، بغرض أن يذاكرا سويا استعدادا للإمتحان في الغد، وكانا كلاهما من الفاقدين، وجلسا أمام مذكرة الميكروبيولوجي وكأهما طور الله في برسيمه، ومن باب تزجية الوقت فتح على المغربي دولاب أمه، فشاهد عادل عبد الفتاح الدولاب وبه حقيبة كبيرة مكتظة بالهدايا الثمينة التي يشتريها أبيه من السوق الحرة ليهديها إلى زوجته والدة على المغربي، فالدكتور المغربي عالم الجغرافيا الشهير والحاصل على الدكتوراة معار بشكل دائم في الدول العربية، واقترح عادل عبد الفتاح على علي أن يختلسا عددا من زجاجات العطور الباريسية، وأن يتولى عادل بيعها في قصر النيل، وأن يأخذا حصيلة البيع ليقضيا سهرة رائعة في كباريه الناسيونال في شارع قصر النيل - نأخذ كأسين.. وشاهد الرقاصات.. وممكن نأخذ معنا امرأة - شقة جدتي في الكيت كات فاضية - حلو جدا - هيا هات البلابل توقف على المغربي وأغلق الدولاب وقال - لن آخذ شيئا - لماذا؟... نريد أن نفرفش الليلة - والامتحان غدا؟ ... الميكروبيولوجي - هاهى المذكرة أمامك ... لن نستطيع أن نذاكر اربعة ورقات.. صح؟... صح أم لا؟ أمسك على المغربي المذكرة وراح يفر الأوراق الثمانين المطلوبة في الامتحان وقال في تسليم - لا... لن نستطيع... . - لمذاكرة هذه الكمية يلزمنا شهر على الأقل... صح أم لا؟ - صح اقتنع على المغربي بمنطق عادل عبد الفتاح، لكنه اشترط على عادل أنه لن يأخذ البلابل إلا اصطحبا زميلهم المتفوق إسماعيل فهمي. - إسمع يا علي.. أنا سأريحك، سوف نمر على سعيد، نأخذه معنا لكي نستخدم سيارته، ونبيع البلابل، ونمر على إسماعيل فهمي - بسيارة سعيد... ماشي - ولكننا لن نخبر إسماعيل فهمي بأننا سنذهب إلى الكباريه.. لن يأتي معنا فهو " دحيح " ولن ينزل ليلة الامتحان إلا لو قلنا له أننا سنلتقط نسوان من شارع نوال لأن شقة جدتك في الكيت كات خالية - وامتحان الغد؟ - ممكن اللجان تكون سهلة... - ممكن - وإن لم تكن سهنة... هذا امتحان أعمال سنة... والتقيل وراء... الدرجات معظمها في امتحان نهاية العام، سنعمل المعسكر المتين وسنقضي شهرين لاشئ نفعله سوى المذاكرة.. مثل العام الماضي والعام الذي سبقه.
-2-
- شقة جدتك خالية؟ هكذا سأل إسماعيل فهمي في جدية شديدة - فاضية والله هكذا أجاب عادل عبد الفتاح وأردف - ارتدي ثيابك بسرعة كي لا نبدد الوقت. شعر صاحب المنزل الطالب إسماعيل فهمي بالحيرة الشديدة التي تصل إلى درجة التعذيب، فهو مولع بالجنس، جربه مرة في شقة فوزي أنور مع مومس فلم ينسى المتعة الحسية التي لا مثيل لها، لقد سمع من أحد الأطباء في التليفزيون أن الشاب يقع تحت سيطرة الهرمونات التي تلغي عقله، وشعر أنه واقع تحت سيطرة الهرمونات، و الميكروبيولوجي؟ كيف سيذهب إلى الامتحان وهو لايتذكر من الثمانين صفجة سوى ضبابيات لاتذكر - كم الساعة الآن؟ هكذا سأل عادل عبد الفتاح - السابعة والنصف - في العاشرة سنعيدك إلى هنا، منتعش بممارسة الجنس الجميل مع امرأة من نسوان شارع نوال، ستعود وقد تخففت من الرغبات التي تضنيك، لن أقول شيئا ولكن سأقول لك تخيل ان امامك امرأة عارية .. تخيلها وأعطني عقلك !! - والميكروبيولوجي؟ - سنعود في الحادية عشرة - ورانا ورانا...أين سنذهب منها ومن غباوته!ا هكذا قال على المغربي صاحب البلابل وهو يتذكر أستاذ المادة الذي أطلقوا عليه عباس" كوكاس " - هيا أرتدى ثيابك لا تضيع الوقت، دعنا نرفه عن نفسنا قليلا، نتخفف قليلا من الرغبة الفظيعة، هل تصدقان انني لا أنقطع عن التفكير في الجنس. "سوف ننتهى في العاشرة" هكذا قال إسماعيل لنفسه وقد استسلم للإغراء والغواية، لو لم يقولوا له أنه مدعو للمارسة الجنس، لا توجد قوة على الأرض قادرة على زحزحته عن مراجعة الميكروبيولوجي، ألم يقل فرويد أن الجنس محرك التاريخ، فل يعجز الجنس بكل جبروته عن تحريك إسماعيل فهمي وهو مجرد طالب متفوق لا راح ولا جاء راح إسماعيل فهمي يرتدي ثيابه بسرعة وانتبه من أفكاره التي يبرر بها ضعفه المشين أمام شهواته، على دخول أمه - هل ستنزل؟ شعر بأنه يهوي من حالق، جائك الموت يا تارك الصلاة، ماذا يقول لها تلك المرأة الطيبة التي يعتبرها تجسيدا حيا لإنكار الذات والتفاني في أبنائها - ساعة واحدة... ساعة واحدة وسأعود،.. امتحان الغد تم تسريبه، والامتحان حاليا عند عز الدين القليوبي، سأعرفه وسأعود فورا، لن أغيب. - ربنا ينجح لك المقاصد... سأنتظر عودتك لم يرد عليها وهو يشعر بالخزي الشديد، وغادر مع زميلية على المغربي وعادل عبد الفتاح ببشرته الداكنة وقوامه المتين ووجهه الشعبي الملامح، ومنحتهم أمهم " في أمان الله "
-3-
عندما نزلوا وجدوا زميلهم على سعيد ينتظرهم داخل سيارته، ليست سيارته ولكنها سيارة أبيه الموظف الكبير في مصلحة الكهرباء، تصافحوا و أقترح إسماعيل أن يضموا عز الدين القليوبي الذي يقطن في الجيزة، فمروا عليه. وعادوا بالسيارة إلى وسط البلد، وتولى عادل عبد الفتاح ومعه على المغربي بيع المسروقات، وعادا وهم يتشاحنان لأن على المغربي يتهم عادل عبد الفتاح تواطئ مع البائع واختلس خمسة جنيهات لنفسه، وانطلقت السيارة - لما أختليت بالبائع ماذا قال لك؟ هذه أولا، وبعد أن ناولني النقود، لماذا رجعت له وقلت أنك نسيت سجائرك، وأنت تخفي علبة سجائرك في الشراب انفجر عادل عبد الفتاح في الضحك.. فتوجه على المغربي إلي المجموعة بالسؤال قائلا: - صح ولا لأ.. - لا... لأنه لا يشتري سجائر أصلا... ويعتمد على سجائرنا - أليست البلاد تتبنى المذهب الإشتراكي.. نحن نطبقها لا أكثر هكذا قالت التعليقات فقال على سعيد الذي يقود السيارة - إلى أين؟ - الوقت يمر يا ابناء الأفاعي ولم نراجع المايروبيولوجي... سنذهب إلى شارع نوال... شارع نوال دعك من هؤلاء الصياع - يبدأ الفسق من كورنيش العجوزة - نبدأ من مجطات التروللي باس على الكورنيش، بعرض مستشفى العجوزة - شارع نوال أولا... كانت شوارع منطقة العجوزة خاوية وموحشة ومظلمة، ولاسيما الكورنيش، والمصابيح القليلة تعتصر نورها الذابل، واعتصر الألم قلب إسماعيل لأنه يبدد وقته مع هؤلاء الضائعين، لولا الجنس لتركتهم فورا، وتذكر أمه ودعواتها فشعر بوخزة في قلبه، وراح يفكر في علي المغربي وعلاقته الغريبة بأبيه، وهو الولد الأكبر الذي دللته أمه، فأصبح يسرقها ويسمي المسروقات "بلابل" أما بيعها فيطلق عليه" تسويح البلابل " وفكر اسماعيل أن علاقته بهؤلاء الصياع كانت السبب في أن تسوء سمعته في الدفعة، وكثير منهم يحبونه ويقدرونه لتفوقه وأدبه. - ولا واحدة هكذا قال على سعيد القابع خلف عجلة القيادة، الذي راح يبطئ السيارة ويمشي بها إلى جوار الرصيف، وانتهى من شارع الكورنيش ودخل إلى شارع نوال، وتهادى بها وعبر باعة الفاكهة الجائلين وعلى نور الكلوبات والمصابيح القوية تلألأت تلال البرتقال والموز - نقضيها سجائر وموز هكذا قال على المغربي متهكما - نذهب إلى ميدان التحرير - بعد ميدان التحرير علينا بميدان كصطفى كامل، هناك كباريه " كوبانا" - هل ندخله؟ - لا... ربما سألنا قوادا يقف على الباب، وربما وجدنا امرأة خارجة لتوها فنصطادها - أين سنبحث في ميدان التحرير - مجطة التروللي خلف لاباس، حديقة الزهور أمام المجمع، عند النافورة، وخلف مسجد عمر مكرم تلك مناطق تجمعات الموامس، هذه منطقتي يا جماعة لأنني أسكن بالقرب من الميدان هكذا قال إسماعيل وهو يتألم لأن الوقت يمر والميكروبيولجي مثل كالسيف الذي سيقطعه لا محالة ، ودارت السيارة وانطلقت نحو الشيراتون وانحنت يمينا لتدخل إلى كوبري الجلاء، كانت الشوارع مقفرة، وكافيتيريا أسترا خاوية إلا من ثلاث زبائن جلسوا في موائد متباعدة، ومحطة التروللي خاوية إلا من رجل بلدي ومعه صبي - الساعة ما زالت التاسعة، وفرصتنا أفضل كلما تأخر الوقت - والامتحان؟ - لف من شارع منصور... - سوق باب اللوق؟... لا داعي للتهريج!! لفت الجماعة ودارت بالسيارة في الشوارع المظلمة يفتشون عن صيد يقضون بها ليلتهم كما خططوا لها، ولكن جهودهم ذهبت سدى، لم يجدوا غير شوارع مقفرة ومحلات مغلقة والميادين الخاوية إلا من مصابيحها التي تعتصر الأنوار وكأنها الحلي الذهبية وقد رصعت الليل الذي بدا كأنه المخمل الأسود. - أفضل شئ أن نذهب إلى المنبع - يالك من فيلسوف.. وأين ذلك المنبع يا فيلسوف؟ - الكباريه نبع الموامس والعاهرات - لا فض فوك يا مسئول الفسق في دفعتنا... إلى الكباريه هكذا قال إسماعيل متوجها بحديثه إلى عادل عبد الفتاح، فضجت السيارة بالضحك، وشعر فجأة بوخزة في قلبه وهو يتذكر وجه أمه المتغضن ونظرتها الطيبة وهى تدعوا له بالصلاح وبالفلاح. وأفاق من شروده وقال في وهن - أنزلوني هنا لأعود للبيت - على جثثنا... إما أن نفسق سوا... أو نذاكر سوا.. والليلة حرام فيها العلم. استقر الرأي على كباريه "الفيروكيه" وهو الملهى الليلى لفندق الناسيونال في شارع سليمان باشا، لقد جرى الزمن على الفندق والكباريه الذي بات شعبيا، ودفع علي المغربي صاحب البلابل تذاكر الدخول، وجلست الجماعة على مائدة تجاور البيست، وأحتسوا الشراب، ولعبت الخمر المغشوشة برؤوسهم، وصيحوا كثيرا، وحجز الأمن بينهم وبين مجموعة من الشباب الليبي، وصفقوا وهللوا ومر الوقت سريعا وغادروا بعد أن دفعوا الحساب، وكانت الرابعة فجراً.
-4-
" ماذا فعلت بنفسك " هكذا قال طالب الطب إسماعيل فهمي وصداع رهيب يحطم جمجمته، أضاع ليلته وهاهو من شدة السكر لايكاد أن يجد ثقب الباب ليضع في المفتاح، وهاهو الباب يفتح، ليجد أمه تقف - صباح الخير هكذا قالت وهى تفسح له لكي يدخل وترمقه في محبة تصل إلى درجة الوله، وزادت نظرتها الحانية من عذابه، لماذا لا تقوم القيامة؟ لو انشقت الأرض وابتلعته لما كان عذابه كما يشعر الآن. - كنت أصلي الفجر، فوجدتك تعبث بالمفتاح... ذاكرت؟ - آه... هكذا أجاب في اقتضاب ةالندم ينهشه. وشعر بالماء البارد يغمر رأسه ووجهه وقد وضع رأسه تحت الصنبور، وتذكر المشاجرة السوقية التي دخلها مع الشباب الليبي، وشعر بالخجل لترديه إلى ذلك المستوى" سكران في بار و مشاغب فقد عقله في كأس" - ماذا فعلت... قاطعها قائلا: - تمام الحمد لله وقف في الحمام يجفف رأسه ووجهه وصداع رهيب يحطم رأسه، قالت أمه - سأعد لك إفطارا خفيفا وتدخل لتستريح حتى موعد الأمتحان..سأبقظك في العاشرة، امتحانك في الثانية عشرة - لا... سأكمل ولن أنام.. - ستظل مستيقظا حت الإمتحان؟ - نعم... أنا لا أريد إفطارا.. أنا أريد أسبرينتين وقدح من القهوة، أريدها دوبل، في الكوب الكبيرة. أعدت له القهوة ومعها سندويتش خفيف - كل هذا أولا هل يقول لها أن الخمرة المغشوشة التي احتساها في كباريه ترسو بنقود زميل فاسد سرق أمه وأبيه، تلك الخمرة تمزق له معدته، ليته تقيأ فيرتاح، لكن القئ لم يسعفه، وكأن معدته قررت أن تنتقم منه من أجل أمه، تلك الدجاجة الطيبة العجوز التي تقئقئ لتربيته وشقيقيه، مات أباه منذ عشر سنوات، عن تجارة تحمل عبئها ابنها الأكبر الذي لا يتورع عن سرقة اخوته بتحريض من زوجته، وتحملت الكثير من أجل تربيتهم، خاب أملها في الأربعة اولاد، ويعرف أن أمه تتعزى به، تحبه لأنها المطيع الذي لا يرهقها بطلبات مدللة، تحبه لأنه يعرف واجباته فيستذكر دروسه من تلقاء نفسه، شرفها أمام المتلمظين بها غيرة وحسدا والتحق بكلية الطب بمجموع عالى، يحصل كل عام على مكافئة من الكلية لحصوله على تقدير جيد جدا، أما شقيقيه الأصغر منه بعامين وشقيقه الأكبر منه بعامين فهما مدللان يرهقانها بالطلبات التي تعكس عدم شعورهما بها ولا بالمسئولية الملقاة على عاتقها، إهمالهما لدروسهما تعثرهما في دراستهما. جلس إسماعيل على مائدة السفرة المستديرة، وربتت أمه على كتفه في حنان وقالت: - هل أعمل لك شيئا... - لا... - ربنا ينجح لك المقاصد انصرفت أمه وتركته وجها لوجه مع مذكرة الميكرو بيولوجي الضخمة الرديئة الطباعة، وورقها الخشن السئ، وهاهي الصفحات الثمانين بطلاسمها تتحداه، وهاهو الصداع الرهيب يحطم رأسه، لن ينام مهما أصابه، سيتحمل الصداع و آلام أحشائه وسخافة المكروبيولوجي لكي لا يشعر بالمزيد من الذنب، ونظر من النافذة القريبة ونور الصباح الأزرق الفاتح يخيم على السماء في روعة، وآشعة الشمس الذهبية تتسلل من الأفق وقد تغطت بسحابات رمادية وفضية، اتهم نفسه بالاستهتار وبالتفاهة وبقلة الاحترام، ونظر في الساعة، لقد مرت نصف ساعة، لم يستذكر سوى خمس صفحات، وعندا اختبر نفسه في التحصيل لم يستطع استعادتهم من الذاكرة، شعر باليأس الأسود ينتابه، اليأس ترف لا تملكه، عقوبتك أن تستمر وأنت تعرف أن لا جدوى، فلن تستعيد أكثر من عشرة في المائة من المطلوب في الامتحان خلال الثلاث ساعات المتبقية على الامتحان، حيث ستبيض وجوه وستسود وجوه. على مثل ذلك النحو جرت أفكار إسماعيل، وقرر أن يتبع سياسة "التنشين" أن يختار عددا من الموضوعات التي يرجح أن تأتي في الامتحان، وراح يدعو الله في حرارة، أن تترفق به الأقدار هذه المرة فحسب، فيجد تخميناته في ورقة الامتحان، ولن يكررها ثانية، ليس من أجلي أنا، بل من أجل المسكينة التي صدقتني وأنا العابث المستهتر الذي أستحق الحرق. وفي العاشرة والنصف أخذ حماما ساخنا وارتدى ثيابه ودعوات أمه تلاحقه شعر بها وكانها الجمرات التي تلقى على إبليس.
-5- تجمعت الشلة في الكوريدور أمام المدرج - هل راجعت الميكرو أم نمت على الفور - نمت مثل القتيل، وكيف أراجعها وأنا لم أذاكرها أصلاُ هكذا قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي وهو ينظر إلى إسماعيل الذي وقف عابسا لا يتكلم ولا يشاركهم الحديث لم يرد - مالك؟ هكذا قال عادل - لماذا جئت بعلى المغربي إلى، لماذا راح عادل يقسم بأنها فكرة على المغربي الذي قال أنه لن يأخذ البلابل ليسوحها إلا إذا جئت معنا - لعنة الله على ديك أمك لديك أمه هكذا قال اسماعيل في سخطوغضب، في ذلك الوقت كان على المغربي يستعيد المشادة بينهم وبين الشباب الليبي. وتبين أنهم لن يدخلوا سويا إلى نفس اللجنة، فالشلة كلها سوف تمتحن في قاعة صغيرة، وأنه سوف يمتحن في القاعة الصغير المواجهة لها. دخل إسماعيل إلى اللجنة وجلس في الصف ما قبل الأخير، وجائت ورقة الأسئلة، طيلة عمره وهو يحسب ألف حساب لرهبة الامتحان والمرور السريع على الأسئلة، كأنها لحظة السؤال المرعبة وقد بعث الميت في القبر، هل تصيب تخميناتي يارب العالمين من أجل حبيبك النبي ومن أجل المسكينة أمي؟ مسح الأسئلة بعينيه ولم يجد تخميناته، خابت كلها فلم تصب إلا ربع سؤال من أربعة اسئلة، كل سؤال من أربع نقاط، هذا معناه أنه لا يعرف إلا نقطة واحدة من اثناعشرة نقطة، "ضعت يا إسماعيل" هكذا قال لنفسه. أجاب عن الفقرة الوحيدة التي يعرفها، وبدت له بقية الاسئلة كأنها الطلاسم، وحاول أن يسأل جاره فنهره المراقب في غلظة وهدده بأن يخرجه، وقضى إسماعيل الساعتين وهو في كرب لم يشعر به من قبل، وتعاسة لا حدود لها، ولم تغب أفكاره المضنية عن أمه، فكر في وجهها البرئ وهى تدعوا له وهو يخدعها أنه سيخرج لأن الامتحان قد تسرب. فكر في شقائها عندما تشاحن شقيقيه بالأمس القريب، وتطورت المشادة إلى تضارب، فدخلت بينهما فنالت بالخطأ لكمة عنيفة أسالت الدماء من فمها!! فكر في فمها الأهتم وقد فقدت معظم أسنانها وطاقم الأسنان الصناعية التي تستخده، جسدها الثقيل وقد هزلت وساقيها المقوستين من تهالك مفصليها، لماذا لا تنشق الأرض كي تبتلعه؟ لماذا خذلتها؟ - مضى نصف الوقت من الممكن أن ينصرف من انتهى من الإجابة هكذا قال المراقب بصوت عالي، فخرج عدد من الطلاب وسلموا ورقة الإجابة وانصرفوا الواقع يقول أن أسلم ورقتي الهزيلة وأنصرف، لكن لا، سأشرب كأس الذل حتى آخره، وظل إسماعيل في مكانه، والأفكار السوداء تعذبه وكأنها الجرح الذي يدفعه لكي يهرش فيه فيتألم فيزيد الألم من الرغبة في المزيد من الهرش وهكذا، ومضى الوقت وسلم الورقة، وخرج ليجد الشلة واقفة تتحدث وتضحك - ماذا عملت؟ هكذا قال على المغربي صاحب البلابل - زفت؟ راح يضحك في هيستيريا وتوجه بالحديث للشلة - يقول أنه عمل زفت - وماذا عملت؟ هكذا قال إسماعيل فهمي متعجبا - غششنا... المراقب طلع هايل قال لنا من معه " حاجة " يطلعها واكتبوا من سكات - وطلعتم كتب؟ - نقلنا من المذكرة... روعة، وأنت؟ - زفت.... تركهم دون كلام وأشعل سيجارة ومشى في الكوريدور وتذكر وجه أمه وهى تكاد أن تسقط على وجهها من اللكمة الطائشة التي نالتها، وفكر الطالب المتفوق إسماعيل فهمي في فكرة الانتحار.
.
في البن البرازيلي -1- اانتهى الطبيب الشاب إسماعيل فهمي من آخر مرضاه في عيادته الشعبية في حى الظاهر، وصرف الممرض شعبان وخلا إلى نفسه، لقد اعتاد أن يخرج النقود التي دفعها مرضاه كأتعاب، أن يخمن مهن مرضاه بالتدقيق في الرائحة المرتبطة بالأوراق النقدية التي دفعوها كأتعاب، فذلك بائع طعمية، وهذا بياع سمك، وتلك امرأة متفانية في غسيل الصحون وهذا بائع لحمة راأس... إلى آخره، لكنه الليلة لم يفعل ذلك فقد دس النقود في جيبه وهو مشغول البال ومعتكر المزاج، فقد داهمته الليلة نوبة من الأحزان التي تجتاحه بين الحين والآخر، فيمعن خلالها في التفكير من في المنغصات التي تسمم له حياته، أولها تلك المشاجرة الكئيبة التي نشبت أمس الأول بينه وبين شقيقه على ميراث تافه، ومنها مشاكله في العمل كمعيد في كلية الطب واضطهاد رئيس القسم له، وعجزه عن الزواج لضيق ذات اليد. لقد تجاوز الطبيب الشاب الثلاثين عاما بعم واحد، طويل القامة لا يخلو من وسامة، لقد أطال شعرة الأجعد، وأطال سالفيه مجاريا الموضة،و رسم على وجهه نظرة استعلاء وسخرية أصبحت تلازمهة، وهى نظرة جديرة بشاب في عمره، وفتح باب العيادة ليخرج ففوجئ بمن يقف على الباب وينظر إليه، واستطاع بعد برهة أن يستعيد شخصية القادم، إنه زميله السابق سمير، سمير جي كيه كما كان يقول عن نفسه، سمير جندي كامل، جعلها من خفة عقله سمير جيه كيه - انت نازل؟ - كنت نازل... اهلا ومرحبا - دعني أدخل أولا - ادخل يا صديقي العزيز ... تفضل... أي ريح طيبة ألقت بكا ؟ ا هكذا قال الطبيب الشاب لضيفه - انا وقعت من السماء وانت ستتلقفني صمت د. إسماعيل صاحب العيادة وهو يسمع ويتأمل في ضيفه وهما يحتسيان القهوة التي أعدها إسماعيل في عجالة، مازال أنيقا كما هو، الجاكيت البيج والبنطلون البني المحروق والحذاء الهافان الأجلسيه، طويل وعريض ضخم الجثة وهرقلي القوة، وعيناه تطلقان نظرات مفعمة بالتزلف والرياء، لكن داخل هذا التزلف بصيص ماكر وزيف أكيد. - خيرا يا عزيزي ا - لقد حصلت على حكم المحكمة لكي تمنحني كليتكم الوسخة فرصة اخيرة..... هكذا قال سمير الضيف في حنق وتأذي الطبيب الشاب من لفظه" الوسخة" فهو ينتمي إلي الكلية، ووجد نفسه يجاري ضبفه المحنق فقال: - من ناحية الوساخة فهى كما تقول... لكن أى فرصة؟ - فرصة دخول الامتحان، فأنا لا يوجد عندي مواد سوى مادتكم، المادة التي تدرسوها، لو اجتزتها لوصلت للسنة الرابعة واتخرج وأصبح طبيبا مثلكم!! لاذ إسماعيل بالصمت حائرا ومشفقا على زميله السابق المتعثر البائس - ساعدنى - انا تحت أمرك لكن كيف؟ - سوف أدخل الامتحان في مايو القادم وأنا في عرضك سوف تشرح لى المادة ستشرح لى المادة شعر إسماعيل بالحيرة، لا يعطي دروسا بنقود، فيورطه سامي في درس في أغلب الظن سيكون مجانيان ثم انه لم يكن من اصدقائه المقربين منه، مجرد زميل، ورنا إلى زميله وهو ينظر إليه بنظرات متوسلة، وعينيه السوداويين يكادا ان يغرورقا بالدموع، فشعر بالرثاء له، وبعد صمت قصير وجد المعيد الشاب نفسه يقول: - على خيرة الله. قاطعه سامي ونهض وقبل رأس إسماعيل، وهو يلهج بالشكر والامتنان وكلمات من نوع لن أنسى جمائلك طيلة عمري وأنا أردد للجميع أنك أجدع واحد في دفعتنا ابتسم إسماعيل في اشفاق وخجل وقال: - أشكرك... المهم أن نتفق على مواعيد بعد انتهاء العمل في العيادة تأتي إلى وسوف أشرح لك المنهج ... وعليك بالمذاكرة. المادة جافة وصعبة، ما أن تنتهي معي عليك بمذاكرتها أولا بأول. - طبعا.. طبعا..سترى.
-2-
انظلق المعيد الشاب إسماعيل فغادر عيادته في شارع الشيخ قمر، وطالعه مبنى جامع الظاهر بيبرس الجهم الضخم في الميدان، وراح يرقب أحجار السور الضخمة ومن خلفها السماء المرصعة بالنحوم، ولف حول الميدان وخرج إلى شارع بورسعيد وهو يفكر في مقابلة زميله السابق سمير جى كيه، وفكر في الوضع الزري الذي تردى سمير إليه، وفكر أن وضعه في الحياة لا يتناسب مع تأنقه الشديد، كيف - وهو المفصول من الجامعة لاستفاذ مرات الرسوب- يقف في محل البن البرازيللي في شارع سليمان كل يوم وقد تعطر وتأنق؟ تعجب إسماعيل من طباع زميله السابق، لو كان في موضعه لمات من الهم والحزن والهوان، لقد التحق اسماعيل بالكلية ووجد سمير طالبا من طلاب السنة الأولى، تخرج أسماعيل من الكلية وسمير مازال طالبا، وقضى إسماعيل سنة الامتياز وسمير مازال طالبا، ثم أدى إسماعيل الخدمة العسكرية وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على وظيفة معيد، وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على الماجيستير وسمير مازال طالبا. لقد سمع من الزملاء في الكلية الذين يسكنون في حى شبرا، أن سمير وحيد أمه وتوفى أباه وربته أمه ودللته فنشأ ضعيف الإرادة والعزيمة، والتحق بكلية الطب باستثناء في المجموع، فقد كان سمير لاعبا في فريق كرة اليد بالتوفيقية الثانوية، ذلك الفريق الذي حصل في تلك السنة، على بطولة اللعبة على مستوى مدارس الجمهورية في، وكافأت الدولة أعضاء الفريق بحصولهم على درجات تفوق أوصلتهم للالتحاق بكلية الطب، لكى تبدأ مأساة سامي جي كيه. -3-
ساقته قدماه إلى شارع بورسعيد، فركب تاكسي - شارع سليمان باشا... سيذهب إلى بار الناسيونال، سيدفن أحزانه في كئوس البراندي المحلي القوي الرخيص، فكر أن مشكلته لا تقل سوءا عن مشكلة سمير جى كيه، سمير يتوق إلى الحصول على بكالريوس طب، وهو يتوق إلى الزواج، وكلتاهما رغبات تستعصي على المنال، عندما وصل إلى ميدان العتبة، وفي نوبة من نوبات مصارحة النفس، أعترف الطبيب الشاب لنفسه أنه مسئول إلى حد كبير عن تعاسته، وتعاسته تتلخص حاليا في عدم قدرته على الزواج لضيق ذات اليد، ومسئوليته في ذلك لأنه رفض أن يعطي دروسا خصوصية، إذ كان في استطاعته أن يعطي الدروس الخصوصية للطلاب، مثل عدد كبير من زملائه، الذين على الرغم من سطحيتهم الشديدة وافتتقارهم إلى أبسط درجات الثقافة والوعي، تمكنوا خلال سنوات من تحقيق كل تطلعاتهم العملية، الشقة الفارهة والعروس الجميلة والعيادة في الموقع الرائع وكلها من الدروس الخصوصية، لكنه اعتبر أن الدروس الخصوصية مسألة مبتذلة ورخيصة، ولخصها في كلمتين وهما " اللف على البيوت "، لكنه الليلة يعترف بأنه كان يخبئ خلف هذا الشعار الطنان حبه الجارف للحياة واللهو، وأنه استبدل اللف على البيوت" التي ستحميه من المسغبة باللف على البارات كما يفعل كل ليلة، وآية ذلك أنه ذاهب الآن إلى بار الناسيونال، وسيجد هناك الشلة من غرائب الطبيعة، وسيشرب البراندي القوي، وسيدفن في الكأس أحزانه، وسيدخن الحشيش في الغليون، وسيقضي ليلة ليلاء، صخب ضحك ولعب وغناء ومناقشات. أختار أن يحيا كما يحب وهاهو يدفع الثمن، أن تتحمل ما لا تحب، اخترت أن لا تبتذل نفسك و ولن تمتهن العلم بقدسيته في اللف على البيوت، لن تتحول من باحث وعالم إلى تاجر شنطة الذي يحمل شنطته ويلف بها على الزبائن الأثرياء و يبيع بضاعته لهم، حسنا عليك أن تدفع الثمن، والثمن هو أنك لن تستطيع الهروب من الأزمات المالية المتلاحقة وستظل تلهث لكي تطفو فحسب في بحيرة البراندي التي تحيط بك. فراتب الجامعة هزيل، أما العيادة الشعبية التي افتتحها منذ سنوات ، صحيح أنه حقق شعبية لابأس بها في المنطقة، لكن مرضاه في المجمل من الشرائح السفلى من البورجوازية الصغيرة، موظفون صغار وسعاة في مصالح حكومية بائسة، وصغار الحرفيين والأرزقية وستات بيوت يستحققن الرثاء من الفقر والأسى. ودخله الشهري من هذا وذاك بالكاد يغطيان نفقاته، فكيف يدخر الألوف اللازمة لنفقات الزواج، ومازال يتذكر مقولة كتبها كاتبه المفضل في إحدى رواياته" يطلب الرجل المرأة ولو أقعده الكساح"، فما بالك بشاب رياضي وفي الثلاثين من عمره. أنى له بزوجة تبدد وحشة حياته الجافة، وكثيرا ما يتهيأ له أنه أشبه بصبارة بائسة تنتصب وحيدة في صحراء قاحلة. إفاق من شروده على وصوله إلى بار الناسيونال. لم يصل أحد من الشلة، اختار مقعدا على البار لكي يثرثر مع البارمان أحمد، يريد أن يهرب من مواجهة نفسه بخيباته وتعاساته، سوف يزجي الوقت حتى مجئ الشلة بالثرثرة مع البارمان " أحمد " والجرسون سيد وينادونه " شجرة " - أنا مٌعلم مثل سيادتك هكذا قال البارمان وهو يصب له كأسا، وأضاف - هذه الكأس مني لسيادتك... تحية وتقدير ومعزة هذه المقدمة يجقظها إسماعيل عن ظهر قلب، ويعرف الجملة التي ستليها إذ يقول بلكنته الصعيدية: - سيادتك معلم في الطب والعبد لله معلم للفتيات المعوقات...و اتعامل مع العاهات ليلا في البار. حكى له البارمان قصته مرات عديدة، حصل على الدبلوم من المنيا، وألحقته القوى العاملة معلما للمعوقات في مدرسة بالزيتون، وأتاحت له وظيفة الساقي أن يحصل من الفندق على غرفة صغيرة فوق السطح لينام بها، وحلت له مشكلة السكن والإقامة في هذه المدينة المتوحشة، ويحب أحمد الساقي الشاب أن يؤكد للدكتور إسماعيل أنه أنه عازم على تسجيل الماجيستير، ولن يتنازل عن تحقيق تلك الأمنية الغالية. آنس إسماعيل إلى بار الناسيونال، آثار مجده الغابر مازالت بقاياه ماثلة تتباهى بنفسها، المساحة الفسيجة والسقف العالي المزين بتهاويل الركوكو، النوافذ المرتفعة التي تطل على الشارع الجانبي ، الستائر مخملية فاخرة بلون النبيذ تغطي النوافذ، البيانو الكبير وقد انعكست علية الإضائة الصفراء الكابية التي تعتصرها المصابيح الحزانى في شحوب ، البار العريض بلون البن المحروق والمرايا البلجيكي الكبيرة والرفوف الكريستال تحمل زجاجات الخمر الملونة. فكر في سمير جى كيه، كان من المفترض أن يعتذر له، بعد العمل في طوال اليوم في الجامعة وبعدها في العيادة، وبدلا من أن يرفه عن نفسه بكأسين أو سيجارتين وصحبة حلوة ورفقة ممتعة يطلع له سمير جى كيه، ولم يكن يوما صديقه ولا عشم له! وجائت الشلة والتأم الشمل وضج البار بالضحكات والمناقشات وعلت الأصوات بالغناء، وعلى صوته وغنى بصوته " ياما قلبي قال لي لأ... وأنا ألاوعه/ لما قلبي اتشق شق... قلت أطاوعه... واندمج في الغناء ونسى سامي جي كيه ومشكلة سامي حي كيه؟ -4-
انتهى د. إسماعيل من آخر مرضاه، لقد أخبره الممرض شعبان أن الدكتور سامي في الاستراحة - هو من قال لك "دكتور" سامي؟ - نعم ! - دعه يتفضل قال إسماعيل لنفسه" ياله من نطع... دكتر نفسه بلا خجل" ودخل شعبان وخلفه سامي جي كيه، وتبادلا التحية، وجلس سامي خلف المكتب - جئت حسب الموعد هكذا قال سامي في استجداء يثير الشفقة وترقرقت نظرته وشعر إسماعيل بمزيج من الخجل وعدم الارتياح - سوف تنقذ مستقبلي ولن أنسى لك هذا الجميل يا دكتور إسماعيل... هل تعلم أن أمي لولا أنها قعيدة لأتت لك لكي تشكرك..وعندما علمت أنك تعيش وحدك، أصرت على أدعوك على صينية سمك كزبرية على الطريقة الدمياطية شعر إسماعيل بالخجل وابتسم وهو يدخن الغليون - متى ستأتي لكي أقول لماما - دعنا نبدأ العمل أولا لكي لا نتأخر... هل معك كتاب القسم - وماذا أقول لماما؟ - سنتفق بعد أن ننتهي... أين كتابك؟ لوح بيده وقال - لا أملك كتابا... ضاع مني... آخر مرة امتحنت فيها كانت من خمسة سنولت وبعد ظهور النتيجة ألقيت بالكتاب في مكان ما وبحثت عنه بالأمس وقلبت الدنيا فلم أجده. - لابد ان تشتري كتابا... أنا سأشرح لك هنا، رغم أنني لا أعطي دروسا خصوصية، لكن واجب الزمالة القديمة يحتم على مساعدتك ؟ا - أشكرك .. وأول الشهر لما ماما تقبض المعاش حا أشتري نسخة... هل يباع في القسم؟... سأشتري واحدا قال إسماعيل معتذرا - وزعوا نسخة مجانية واحدة لأعضاء القسم...ولولا هذا لأعطيتك نسختي... شعر بالندم، وشعر بالشفقة على زميله القديم، وتذكر أن سامي وحيد أم متسلطة مستبدة لاتخلو من ضعف العقل، وهى التي جعلت من سامي هذا الرجل المعدوم الإرادة الذي لا يخلو من تفاهة، وتذكر حكاية رواها له زميل كان وطيد الصلة بسامي، بحكم تجاورهما في حى شبرا العريق، والزميل نفس أخبره من قبل، أن أم سامي التي ترملت في سن الشباب، والتي رفضت الزواج بعد أبيه الصائغ، فأوكلت إدارة الدكان إلى خاله، الذي خدعها واستطاع بالدهاء والحيلة أن يستولي على ميراث سامي وأمه ولا يمنحهما إلا الفتات، وحكى لي واقعة شاهدها في بيت سامي، بينما كان في زيارة له، وبينما يحتسيان الشاي فوجئا بأم سامي تقتحم الغرفة كالإعصار، غاضبة والشرر يتطاير من عينيها، وبدون سلام ولا كلام راحت توبخ سامي وتنهرة في غلظة شديدة، لأنه أخرج الطاقم الكريستال لاحتساء الشاي، لم ينطق سامي وانكمش خزيا وهوانا.
رنا إسماعيل ببصره إلى زميله السابق وشعر بالشفقة، وانتابه إحساس بذنبٍ ما حيال ما آل إليه سامي جي كيه، ما ذنبه في وفاة أبيه؟ ما ذنبه في ترمل أمه؟ لم يختار سامي أن يتحول من طفل برئ إلى شاب تافه معدوم الإرادة. انتبه إسماعيل من شروده على صوت سامي : - أول الشهر ... لم يتبق على الشهر إلا أيام... قاطعه إسماعيل وقال: - أنت ستأخذ هذه النسخة...وتجلبها معك كلما أتيت هنا ترقرق سامي جي كيه وكادت عيناه تغرورقا بالدموع وقال: - جمائلك فوق رأسي ولن أنسى لك مروئتك وكرم أخلاقك - أنظر ياسامي .. سوف نضع خطة لكي تنجح.. سوف تمتحن مع الدفعة كلها؟ ا - نعم في سبعة مايو... والعملي والشفوي يوم 22 مايو. فكر د. إسماعيل في طريقة للعمل مع تلك الحالات المستعصية، وقال ليقلل من جدية الموقف - جميل سندخل عليهم بطريقة أربعة إثنين أربعة... سنبدأ بباب لابد أن تجد فيه سؤال أكيد، لماذا؟ لأنه الباب الذي يشرحه للطلاب رئيس القسم الدكتور على الغمراوي بجلالة قدره ورضي الله عنه وأرضاه ...سوف أحاول أن أبسط لك علمنا الصعب بقدر الإمكان، ودوري معك أن أخلق منطقا في الدرس من اللامنطق الذي ستجده.. فالطب أقل العلوم انضباطا لأنه يتعامل مع الحي، والحي لغز في النهاية فأنت يا عزيزي جي كيه ستجابه ألغاز الحي. قطع د. أسماعيل استرساله وقد تعمد أن يدهش سامي وأن بربكه وبدأ شرح الدرس، وبعد عشرة دقائق من الشرح، كان خلالها ينظر إلى سامي، كاد أن يضحك وقد بدا له سامي المنتبه بشدة ومع هذا تهيأ للدكتور إسماعيل كما لو كان سامي ملاكم يتلقى من خصم قوي لكمات شديدة يترنح من قوتها، فهاهو سامي يتلقى دشم العلم الجيرانيتية فيتهاوى من قوتها، كان من الواضح أن سامي حالة ميأوس منها، فاستيعابه – كما يبدو من تعبيرات وجهه الذاهلة، والغباء المطل من عينيه- كان شبه معدوم، وشعر إسماعيل بالشفقة، واستمر في شرح الدروس حريصا على أن لا تظهر أفكاره على وجهه.
-5-
وقف د. إسماعيل في عيادته في الشرفة وهو يشعر بالاضطراب والذنب والتعاسة، لقد انتهى لتوه من ممارسة الحب مع مريضة من مرضاه، ويشعر بالذنب لعدة أسباب، أولها أنه لم يتمالك نفسه فمارس ما مارس في العيادة، صحيح أنه علماني ولا يعتقد في تلك الخزعبلات، لكن شيئا ما داخله لم يتخلص من الوجدان الشعبي، لكن العيادة مكان "لقمة العيش"، والبعض يعتبرها من الكبائر، وتجلب النجاسة وتقطع الرزق، ماذا أفعل وأنا تحت وطأة الهرمونات وما أدراك ماالهرومونات وعذابها الهرم، ماذا أفعل والمريضة الشابة التي تقترب من عامها الثلاثين هى من منحتني الضوء الأخضر، ولم تكن المرة الأولى التي تتأوه وتثيرني، في الأربع زيارات السابقة بدأت مناوشاتها، في كل زيارة كانت تتأوه وتتلوى وتوحوح وأنا أكشف عليها، لا يغادره الآن وجهها بالحول الواضح في عينيها بكحلهما الكثيف، وجهها الداكن وزينتها المتبرجة في بهرج من الألوان لتداري بشرتها الداكنة، فمها العريض وشفتيها المكتنزتين النهمتين وقد صبغتهما بلون قاني ، استجاب لها بجسدها الثري، الصدر الريان والبطن الطرية مثل العجين والأفخاذ المستديرة العفية، الاختلاس ضاعف من متعتهما الجنونية، وقد فوجئ بأنها امرأة! قالت وهى ترتدي ثيابها: - تعرف .. أن الحب ما أن يتمكن من قلب الإنسان أو الإنسانة.. يسيطر عليه ويلغي عقله. إنه نهبٌ لمشاعر متلاطمة من الإنتشاء والندم والحرج، ماذا لوكان أحدهم اقتحم غرفة الكشف، عاد إلى المقعد خلف المكتب وجلست وقد عدلت من ثيابها وشعرها، وشعر بالخوف الشديد، لقد وجد مريضته الشابة فاقدة للعذرية، كانت امرأة وخاض الشوط لآخره، لم يسبق لها الزواج، وفكر أن حديثها عن الحب محاولة للتوريط، ربما كانت بداية لتطالبه بالزواج، وهل يصوم ويفطر على هذه البصلة البائسة، صحيح أنها تتمتع بجسد مثير لكن هل يكفي؟ وشعر بخوف يقترب من الزعر والهلع من المصير الذي قد يحيق به، فيتزوج من تلك المرأة الشعبية ذات التعليم المتوسط فيهبط من علٍ. أشاح بوجهه وشمخ بأنفه وقال: - عن أى حب تتكلمين؟ - عن الحب.. الحب أشاح بوجهه ثانية ورسم علامات الإنكار التام - هه... لا يوجد شئ اسمه الحب.. بهتت الابتسامة على وجهها وقد تبرجت بالمكياج وسال العرق فلطخ وجهها بالألوان - ألا تعتقد في الحب - في الأفلام فحسب ظهرت على وجهها خيبة الأمل والتعاسة، وبدت له وقد تقدمت في العمر عشر سنوات، غادرت وهى تغمغم بالسلام، وما أن خرجت شعر بالتعاسة، واهتز من الأعماق بسبب النهاية البائسة مع مريضته، وظل طوال اليوم التالي لا يفكر إلا في هذا الموضوع، واستقر على لوم نفسه وتأنيبها، على غلظته وعلى "معيلته"، ما أن تكلمت عن الحب لقد فٌزِعَ كطفل رعديد ، استشعر الخطورة قبل الأوان بفراسخ بعيدة، لقد سلمت نفسها إليه، كانت تطمع في أن يجاملها ويقول لها أنه أحبها، لكي تبرأ نفسها من انها امرأة سهلة ومنحلة،... لكنه أناني وخواف واساء لها وجرحها بقسوته. في اليوم التالي بعد انتهاء العمل، نبهه شعبان الممرض بأن الدكتور سامي جي كيه في الاستراحة. - مساء الخير هكذا قال سامي ولاحظ إسماعيل أن تلميذه قد زجج حاجبيه بشكل سخيف - مساء النور إجلس يا سامي.. اشتريت كتابا؟ - متأسف والله... لم أفرغ... لوذهبت للكلية سيضيع اليوم - لا بأس هات الكتاب راح يقلب في الصفحات فوجد رسومات لم يرسمها في كتابه، إنها رسومات لسهام كيوبيد وهى تخترق قلبا، واسم ليلى بخط جميل مكتوب في نهاية السهم، أما قمة السهم المدببة مكتوب عليها بحروف جميلة اسم" سامي "، انتاب د. إسماعيل الضيف من تلميذه، تسائل ليس كتابه لماذا يشوه هذا التافه كتابي؟، ووجد أنه كرر تلك الخيابات في الكتاب أربعة مرات، ما هذه المراهقة المتأخرة؟ فسامي لا يقل عن الخامسة والثلاثين، وشعر إسماعيل بالضيق الشديد، ونظر إلى سامى فوجده قد ارتبك وقال: - سوف أشتري كتابا جديدا... واحتفظ أنا بهذه النسخة فكر إسماعيل وموقفه مع مريضة الأمس مازال يجثم على تفكيره، وندمه الشديد على غلظته، ماذا كان سيحدث لو طيب خاطرها بكلمتين! لذا شعر أن الواجب أن لا يتمادى مع سامي في غلظته، من السهل جدا أن يوبخ سامي وينهره على سلوكه التافه والمتنطع، وفكر أنه ليس من المرؤة أن يفعل ذلك مع زميل سابق في وضع ضعيف.
-6-
استمرت الدروس، وقاربت على نهايتها - لقد وضعت كل خبرتي لكي تنجح في هذه المادة الصعبة - أعرف يا دكتور إسماعيل - الإمتحان أربعة أسئلة مطلوب أن تجيب على ثلاثة منها، حسب أهمية الأساتذة في القسم وهم أربعة، كل واحد منهم يشرح بابا للطلاب، وكل واحد منهم سوف يضع سؤالا، المطلوب منك أن تحفظ عن ظهر قلب الأبواب الأربعة. بدت عليه علامات التحرج كما لوكان يريد أن يطلب طلبا لكنه يخجل قال إسماعيل: - ماذا تريد... قل لي - هل توافقني - لو في مقدرتي سأوافقك - ماذا لو وضعت لي الكتاب في دورة المياه؟ - ماذا؟ - تضع لي الكتاب في دورة المياه يوم الامتحان فأطلب أن أذهب إلى دورة المياه وافتح الكتاب لأتذكر الإجابة. شعر إسماعيل بالضيق والغيظ من زميله السابق، ذلك البليد الذي يريد أن يورطه في التدليس والغش ويضعه موضع المسائلة - لا طبعاً، لن أفعل ذلك. - هذه آخر فرصة لى لتنقذ مستقبلي فكر إسماعيل أن يغلظ له وأن ينهره، ولكنه كتم رغبته وقال في حسم: - لن يحدث ولن أشترك معك في الغش أردف د. إسماعيل في غضب مكتوم - متى امتحانك - بعد أربعة أيام - اتكل على الله... اذهب واستذكر دروسك وهى الأربعة أبواب تقع في اربعين صفحة، أحفظهم كما نحفظ القرآن والأسئلة مباشرة وبالتوفيق بإذن الله هكذا أنهى إسماعيل اللقاء، فرسم سامي ابتسامة ودودة متزلفة وانصرف. اختلى إسماعيل بنفسه وهو يتعجب من هذا الإنسان المتبلد، وشعر بالغيظ منه لعدة أسباب، أولها لأنه مازال يتأنق ويتعطر ويدخل عليه بتلك الهيئة متبخترا وكأنه يعيش أجمل أيامه، ولم يشتري كتابا ومازال محتفظا بكتابه، ولأنه ملأ الكتاب بسهام كيوبيد وبالقلوب وكأنه مراهقا خالى البال، ولأنه لم يذاكر شيئا وسوف يرسب لا محالة، لماذا؟ من ردوده ومن نظرته له في غباء والتي تؤكد له أن سامي لم يستوعب حرفا مما يقول، من ناحية الاستفادة فهى أشبه بالعدم، أضاع هذا البائس له وقته، يرفض الدروس الخصوصية بالمقابل المادي، لكن هذا السامي الجي كيه التافه ورطه في درس مجاني، وليت المسألة اقتصرت على الدرس، يريد أن يتورط معه في عملية غش حقيرة. الحقيقة أن إسماعيل كان في مزاج نفسي سئ للغاية، لقد دفع بالأمس ثمن غلظته مع المريضة التي نام معها في حجرة الكشف، فقد فوجئ أمس الأول بمن ينادي عليه، كان ينزل سلم الكلية في طريقه للكافيتريا - إسماعيل... إسماعيل التفت وفوجئ بطبيب يحضر رسالة دكتوراة من خارج الكلية، يعرفه إسماعيل بالشكل ويراه كثيرا، ويعلم أنه ضابط طبيب، ويعرف أنه لديه عيادة خاصة في شارع بورسعيد ولا تبعد كثيرا عن عيادة إسماعيل في حي الظاهر وقال الطبيب الضابط وهو ينظر إلى إسماعيل في تعال - امس الأول جائتني مريضة من مرضاك واسمها... - مالها هكذا قال إسماعيل في حدة - اشتكت منك - طظ ...طظ فيها انصرف إسماعيل وبينما يستدير - علاجك غلط - احترم نفسك وليس طظ فيها فقط لكن طظ فيك قبلها نزل إسماعيل وعندما اختلى بنفسه شعر بحزن عميق، ليست عيادة شعبية فحسب لكنها موطئ للدنس وتشهير بكفائته بين هؤلاء الحثالة، وذلك الفسل الذي تصيد مريضته إنسان شرس وعدواني وقليل الأدب، يتواقح عليك وهو يحمل حقائب المشرفين عليه في الرسالة، خادم نموذجي يتطاول عليك ومشاحنة مزرية على مريضة تعبانة...
وجاء يوم الامتحان الشفوي، وكان كالعادة يتم في معمل القسم، وهى قاعة كبيرة مستطيلة بها العديد من " البنشات " الخشبية، شاء القدر أن الطبيب إسماعيل كان المشرف على دخول الطلاب للمثول بين يدي السادة الممتحنين، كان كل شئ يتم كالمعتاد، إسماعيل يقف على باب المعمل ممسكا بكشف الطلاب الذين سيؤدون الإمتحان ، وقد تجمهروا أمامه وفي الكوريدور، لقد انتحى سامي ركنا مبتعدا لكي لا يبدو غريبا بسنه الكبير بين التلاميذ الذين يصغرونه بخمسة عشر عاما، تحلق الطلاب أمام الباب في كوريدور القسم، وقد أمسك الواحد منهم بالمذكرة أو بالكتاب وراح يسترجع، فينادي إسماعيل على أربعة طلاب فيهرعوا إلى داخل المعمل، ويتبوأ كل طالب منهم مقعدا، وعلى الناحية الأخرى من " البنش" يجلس الممتحنين الأربعة، ثلاثة منهم هم أقدم اساتذة القسم، اما الرابع فهو زميل لهم وجاءوا به من جامعة الأزهر باعتباره ممتحن خارجي تطبيقا للوائح الجامعية، اما عن نرجسية الأساتذة واستعلائهم الذي لا يصدق، يكفي أن احدهم- وهم أشباه الآلهة- يقول جادا لمعيد شاب: - رحم الله الدكتور الصديق الذي كان يقول أيامنا كنا نحمد الله إذا أسعدنا الحظ ورأينا أستاذاَ جامعياَ. وجاء دور سامي – طبقا للكشف – لكي يدخل امتحان الشفوي، وما أن خطا وسامي خلفه إلى داخل المعمل، قال د. على الغمراوي رئيس القسم - لا...تدع سامي يدخل الآن... سيمتحن وحده بعد أن ننتهي هكذا قال رئيس القسم الأصلع الرأس، وأكمل - دعه ينتظر حتى نفرغ من الدفعة كلها ثم يدخل لنا وحده - أمرك يا أفندم هكذا قال إسماعيل في امتثال وخرج سامي ببنيانه الضخم ووقف بعيدا وقد تصبب عرقا. لم يكن إسماعيل يتوقع أن تكون معاملة سامي بهذه السادية، لقد انتظر سامي حتى الساعة الثانية وهو واقف ينتظر من الثامنة صباحا، ولم يدخل سوى في الثانية والنصف، لقد انصرف الطلاب والموظفين ولم يتبق إلا سامي وإسماعيل الذي وقف على الباب منتظرا أن يطلبوا سامي - دعه يدخل دخل سامي وهو ممتقع اللون ويفرك يديه وينكمش كما لوكان يتمنى أن يختفي، أما الإمتحان فلم يكن سوى مذبحة بمعنى الكلمة، نظراتهم الجامدة والجهامة التي تعتلي وجوه السادة الممتحنين كانت كلها استهجان ورفض واحتقار، ولسان حالهم أنت تحديتنا وجئت لكي تمتجن رغم أنفنا؟ وبحكم محكمة!؟ حسنا دع " المحكمة تنفعك " كان التربص واضحاً، كل الطلاب يمتحنون أربعة كل مرة، لكن تعمدوا أن يمتحن وحده، وأن يتركوه لآخر وقت. جلس سامي في مواجهة الممتحنين، وانهالت الأسئلة كالحمم البركانية في صعوبتها، وسامي كما يقولون ماحي في كل النواحي، وراح يترنح من الاسئلة السامة، يعصر رأسه وينظر إلى السماء كأنه يعرف الإجابة لكنه السهو، فيتركوه ويحدجوه بالنظرات السامة ويقولوا له: - على مهلك... تمر دقيقتان وسامي يعصر جبينه - ماذا؟ هل تعرف الإجابة؟ يهز سامي رأسه بالنفي في مذلة وخزي ويغمغم - لا وبعد نصف ساعة من جحيم الاسئلة العويصة، بدأوا في النزول بمستوى الأسئلة، وبعد ربع ساعة من الأسئلة العادية والمتوسطة المستوى، التي رد عليها سامي بالصمت المطبق، ثم هبطوا بالاسئلة إلى مستوى عناوين الفصول وسامي لا حياة لمن تنادي - اسأل نفسك سؤال هكذا قال أحدهم، ورسم سامي ابتسامة لا معنى لها، فلم يكن يتخيل أن يسمحوا له بأن يسأل نفسه - اسأل نفسك سؤالا. المهم ان اساتذة المادة نكلوا به، ومسحوا به البلاط، حتى السؤال الذي سأله سامي لنفسه لم يجب عليه، وانتهى الامتحان بالمزيد من السادية فقال أحدهم - ما رأيك في اجاباتك - - هل تعجبك؟ - - هل تريد شيئا آخر؟ هز سامي رأسه وقد أمسك برأسه وأطرق بها إلى الأرض ونهض وهو يغمغم بصوت لا يبين: - شكرا انصرف سامي يجرجر قدميه.
انقطع سامي عن زيارتي في العيادة، وعلمت أنه ما زال يقف عند البن البرازيلي كل مساء، قدرت أنه لا يريد أن يراني لأنني أذكره بفشله المرير، لكنني كنت أريد كتابي ولو كان مرصعا بسهام كيوبيد وبقلوب المحبين، لن يمنحني القسم كتابا مجانيا ثانيا، هل أشتري كتابا ثانيا وأترك كتابي لسامي، سأستعيد منه كتابي، وأغلب الظن أنه نسى أن يعيده، والآن بعد فصله نهائيا، ومعرفة سامي بأنه لا جدوى من احتفاظ سامي بكتابي، قابلته في البن البرازيللي، صافحني في فتور - ما أخبارك هكذا قلت له - لا شئ راح يجيب اجابات مقتضبة وجافة، وكلها تخبرني أنه غير سعيد باللقاء، وأنه يتمنى انصرافي وان لا يراني ثانية، فشعرت بالحيرة وبالضيق. - من فضلك أريد كتابي - أي كتاب - كتابي الذي كنت تذاكر فيه؟ أشاح بوجهه بعيدا ثم نظر في عيني وقال في تبجح لانهائي - كتابي الذي أخته مني ورسمت عليه قلوب وسهام - لم آخذ منك شيئا أستدار سامي جي كيه وطالعني ظهره الضخم وقفاه السمين وشعر رأسه الحليق وخرج من المحل.
انتهت
إله حارة أبو النجا -1-
في صبائج قائظ من صباحات شهر أغسطس، استيقظ محمود زكي طلبة من النوم على نور شمس الضحى الحارقة وهى تلسع وجهه، فنهض وصداع مؤلم يكاد أم يحطم رأسه، صداع بسبب قلة النوم والأرق الذي يصاحبه طيلة الصيف، لم ينم طيلة الليل إلا خطفا، فما ان يغط في النوم سرعان ما يستيقظ غارقا في العرق، فهو لا ينام في غرفته، ولا في شقته، لقد ترك لها الشقة كلها، وينام في الطابق الأخير، في نفس المكان الذي شاهد رخائه وممتلكا لمقدراته و شاهده سيدا لمصيره، هاهو ينام في المكان نفسه، المكان الذي شهد أمجاده وقد تحول إلى أطلال وخرائب، غرفة الفرن وغرفة الصاجات المعدنية السوداء وغرفة التشكيل وصب العجين، الفرن الحديدي الضخم وقد علاه التراب من الإهمال، من كان يصدق أن زينب حنفي أبو قملة تنتصر على وتطردني من بيتي، وتدفعني للنوم هنا في الطابق الأخير، الطابق الذي تصليه الشمس بلهيبها طيلة النهارات الحارقة، فإذا ما حل المساء تصهل الجدران النيران التي اختزنتها طيلة اليوم، وتنام زينب العفنة مع أولادي محتمية فيهم في فراشي، وفي النهاية تقول لى في شاسة وتشفي: ... عالج نفسك. تذكر محمود كلمات صديقه الشاعر الراحل الذي كتب قبل أن يموت: متى يقبل موتي قبل أن أصبح مثلك صقرا مستباحاً. نهض من فوق الكنبة البلدية المتهالكة التي يتخذ منها فراشا ينام عليه، وذهب إلى الحمام البلدي الضيق، تلك الشقة الصغيرة لم تكن للسكنى، استغلها لعمله في الخزف، أمه ورثت البيت عن أبيها، يقع البيت البلدي الصغير المساحة في زقاق "الملط" الضيق الذي يطل على حارة "أبو النجا"، في هذا البيت الصغير الضيق المساحة ولد محمود، خمسون عاما قضاها في هذا البيت، الذي لا تتجاوز مساحته الثلاثين مترا، يتكون البيت من أربعة طوابق،كل طابق عبارة عن شقة واحدة لا تزيد مساحتها عن عشرين مترا، تسكن العائلة الطوابق الثلاث، ماعدا الأرضى يقطن فيه عبد الرحمن ابن حلمي العربجي طابق أرضي، في الطابق الأرضي شقة يسكنها عبد الرحمن حلمي المهنس الذي يعمل في السعودية، مات أباه وسافر عبد الرحمن الإبن للعمل مهندسا في السعودية، يصغر المهندس عبد الرحمن بثلاث سنوات، كان الأب حلمي عربجيا على عربة كارو يجرها حمار، كل الحارة تعلم أن حلمي العربجي أطلق على الحمار لقب يطلق اسنم "فرج"، عندما كان صاحبنا محمود طالبا في هندسة عين شمس، كان عبد الرحمن طالبا في المعهد العالي الهندسي في حلوان، يتذكر محمود كيف كان عم حلمي العربجي يحتسي البوظة في بوظة " مصر عتيقة " في أدغال الجيارة، ويمزجها بالخمر من عند الرشيدي في سوق الإثنين، ويشرب معه الحمار " فرج " البوظة، كل ليلة تشهد حارة أبو النجا عم حلمي وقد وقف بالفانلة واللباس الصعيدي، يجرى حوارا مع حماره فرج، فيقف حلمى امام الحمار وقد وقفا تحت البيت، ويقول حلمي: - يا فرج يا ابن ديك الكلب فيبدأ عم حلمي. ينظر حلمي بعيمين حمراويين إلى الحمار ويقول - لا تنظر لي تلك النظرات السماوية يا ابن ديك الكلب. تستمر شتائم عم حلمي الصعيدي الذي نزح من سوهاج إلى حماره ويحمل في النهاية حجرا يريد أن يهوي به على رأس الحمار فرج. تتابع الأم الضجة من النافذة المطلة على الحارة حيث يرقد الحمار بجوار العلربة، فتستشعر الخطر أن يقتل عم حلمي الحمار مورد رزق الأسرة، فيهب عبد الرحمن ينزل ليساعد أمه في أن لا يقتل حلمي الحمار فرج: يثور عم حلمي ويقول لزوجته: - احترمي نفس أمك يا بنت دين.... يهجم الإبن على أبيه ليمنعه من قتل الحمار - هل أنت أب أنت؟ يهرع الاب بخطوات مترنحة إلى البيت ويخرج وهو يحمل عددا من كتب ابنه وهى مكتوبة باللغة الإنجليزية يرقب محمود المشاجرة من الطابق الثاني ويضحك بشدة لأن المرجع مكتوب عليه “ metalleregy” يثير حفيظة الأب العربجي حفيظة الأب السكران -- يا ابن الوسخة... هكذا يردد الأب وهو يمسك إبنه من تلابيب ثيابه، ويمسك بالكتاب باليد الأخرى ويقول متهكما على ابنه -بتذاكر الكتاب ده!؟ بتتباهى على به يا ابن الوسخة!؟ لا ياشيخ... ابن الحذاء يريد أن يعمل على مهندس... بفلوسي يا ابن الوسخة - أنت أب أنت.. أنت أب أنت؟ تدخل الأم بينهما وتبعد الأب الذي يمسك حجراً ويتجه للحمار فرج فيقول: - كله منك يا فرج ياابن الوسخة يرفع حجراً ثقيلاً ويقف قبالة الحمار الراقد تحت النافذه يظهر عددا من الجيران فيأخذون العربجي الذي أصابه السكر والوهن فيسير معهم وهو يشتم ويسب.
وضع محمود رأسه تحت الصنبور فشعر بانتعاش من الماء البارد، وغادر الحمام وهو يرتدي جلبابه الذي حال لونه من القدم، وتطلع إلى المرآة القديمة ورنا إلى صورته، وشعر بالحزن فقد شاب وأضاع في الأوهام عمره، هاهى البشرة الخمرية والجبهة السمراء العريضة والرأس الكبيرة التي حلمت يوما بحكم مصر، الشعر الأجعد الذي اشتعل شيبا، العينان والنظرة المقتحمة الثاقبة، تنطلقان من عينين تختلط في مقلتيها الألوان، العسلي يمتزج بالأخضر والرمادي. - حسني... شعر، ومحمود ... عينان هكذا كانت أمه تردد، مشيرة أن أجمل مافي ملامح ابنها الأكبر محمود هو عينيه الملونتين، وأجمل ما يتميز به شقيقه حسني في- نظرها- هو شعره الأسود الناعم الغزير. تذكر تلك الكلمات وتذكر أمه والدور المشئوم الذي لعبته في حياته، حطمته وحاكت المؤامرات لكي تهدمه فصار ما صار. - عارف نلك المرأة البلدية التي ترتدي السواد وتراها بجثمانها الثقيل والملامح الشعبية الساذجة، وتظن أنها عبيطة أو على نياتها أو فهمها محدود بجهلها، فهى أمية، وقد تظن أن فهمها على قده، فأنت لا تعرف شيئا، لأنها قطعة من الدهاء والفطنة وتذهب بك إلى البحر وترجعك عطشان يتذكر محمود ذكي تلك الكلمات التي قالها عن أمه وهو يشتكي منها لصديقه الوحيد الدكتور خالد.
خرج من الحمام ودخل غلى الغرفة، ووقف في الناقذة، ورنا بنظره يمينا فطالعه مسجد عمرو ابن العاص ببناءه الكبير والخلاء من خلفه والسماء الزرقاء الصافية من السحب ووهج الشمس يغشى عينيه. الساعة تجاوزت العاشرة، لو ظل طيلة اليوم لما سألت زينب الكلب عني ، ابنة الكلب ال" جزمة" الجربوعة كانت تتمنى رضاى وتقول لي يا سيد الناس، ابنة القديمة كونت حزبا من ابننا هيثم و ابنتنا هبة، ألبتهم ضدي وأنا سيد البيت وسبب وجودهم في الحياة والبيت، نظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى العاشرة، تعالت أصواتهم من الطابق الثالث، وقال لنفسه " ولو بقيت طول اليوم لما سأل أحدهم عني". -2-
السلم الضيق المتهالك، ست درجات لا غبر يحفظها عن ظهر قلب، لو الأحجار تتكلم لنطقت عن علاقتي بها، الباب مفتوح وهيثم راقد في غرفة النوم، وصفيحة القمامة بها كمية كبيرة من الكشري. " يا بنت الوسخة" هكذا قال لنفسه وهو يتفحص كمية الكشري الهائلة التي ألقت بها زوجته في القمامة. دخل وجدها جالسة على الكنبة في الصالة الضيقة، ما أن رأته حتى رسمت على وجهها تكشيرة كأنها اللعنة - هل ستفطر؟ هكذا غمغمت بوجه جامد كأنها فقدت أباها، الضحك والابتسامات للعيال أما انا فالتكشيرة والوجوم والخلقة التي تقطع الخميرة من البيت - نعم.. ساتزفت هكذا قال في غضب مكتوم، وأردف - لماذا ألقيت بكل ذلك الكشري في الزبالة... حرام على أهلك، والآن ستقولين هات نشتري طعام الغذاء قاطعته في حدة - معمول منذ أمس الأول ولن تطعمنا طعاما فاسدا - ولماذا عملت يا مصيبة كل تلك الكمية... ألا تميزين...؟ لماذا عملت كل تلك الكمية، كان نصفها يكفينا امس الأول وأمس وكنا وفرنا تكاليف الكمية التي في الزبالة، لكنك لا تدفعي مليما هكذا قال غاضبا ساخطا - هذا كشري وليس حماما ولا لحوم... رضينا بالهم - هم في وجه أمك.. أنظر ماذا تقول بنت أبو قملة، من أين جائت بها امي؟ لاذ بالصمت، وفكر في أن أ بنت القحبة كانت تتمنى رضاه والآن تقول أنني تتقبلني كما تتقبل الهموم الثقيلة، آه يا بنت القحبة. وجلس على الكنبة البلدية، طبق الفول البارد كالعادة، على أن أتحمل قلة أدبها، والخبز منذ أمس الأول، لم تضعه في الفريزر كما أقول لها، لو سخنته لأصبح مقبولا، والفول الماسخ مثل خلقتها، كان لابد أن تسخنه على النار لكي يصبح له طعم مستساغ، لكنها لا تريد أن تبذل أقل مجهود، تعاقبني أبنة الكلب الواطية، تذوق الفول البارد الذي بدا له ماسخا وبلا طعم، منها لله أمه حاكت المؤامرات ودبرت من الخطط الجهنمية التي لا تخطر لى على بال لكي أطلق هيام، هيام زوجتي الأولى التي قضيت معها أجمل الأيام وأسعدها، أين أنت يا هيام؟ هيام امرأة تسوى ثقلها ذهبا، خدعتي أمي وغررت بي وجعلتني أطلق هيام وأقسو وأفتري عليها، وجلبت لي هذه البلوى، زينب ابنة أبو قملة عامل النظافة في دورة مياه في البساتين، من أين أتت بها أمي؟ تزوجتها منذ عشرين عاما فنحستني وجلبت لى المرار والفشل، هيام كانت فنانة في أصول الطعام، بأقل الإمكانيات تصنع بلمساتها وجبة شهية وفي غاية الجمال، افطارها من خمسة صحون، بيضة مسلوقة لا تقدمها هكذا لكن تحمرها في الزيت المغلى فتزداد طعامة، طبق الفول الساخن المزين بقطع الفلفل الحار والزيت يسبح فوقه والكمون والبهارات وقطع الطماطم المقلية في الزيت، الجبن الأبيض تقدمه هيام وقد غمرته بالزيت والشطة والطماطم، هيام كانت تصنع من الفسيخ شربات، من لا شئ تصنع وجبة شهية، أتت من بيت ثري ومطبخ عامر، لو طلبت من بنت القحبة أن تسخن لى الفول ستأتي بوجهها الذي يقطع الخميرة من البيت وستأخذه في صمت وستغيب دقيقة وستعيده كما هو، هيام ابنة المعلم صالح الفرماوي صاحب مطعم للفول والطعمية في الجيارة، رجل كسيب وينفق على بيته عن سعة، أم هيام أستاذة مطبخ، علمتها أصول الصنعة، بيت عامر تتصاعد من المطبخ أروع الروائح، الفتة والضأن والكشري والطعام المسبك. المعلم صبحي عرفة، جهز ابنته بثلاث غرف، دفعت أمي بشطارتها مهرا صغيرا، وقال المعلم صبحي" سنقبل ما تدفعون مهرا لهيام، نحن نشتري رجل يا أم الباشمهندس محمود" - لابد أن تدفع فابنتك لم تأخذ سوى سنة ستة، والباشمهندس اسمه مازال مقيدا في كلية الهندسة في عين شمس. - على عيني وراسي يا حاجة..أنا اشتري رجل لإبنتي - ومحمود سيد الشباب وقرة عيني وسيسكن في بيته الملك. - سيسكن في قلبي لأنه سيأخذ ابنتي الوحيدة هيومة. - سنحملها في عيوننا، وسأعتبرها ابنتي. أفاق محمود من شروده على صوت هيثم ابنه الأكبر الذي كان يجلس في الصالة. جلست أمه قبالته وقد أعدت له الإفطار، الشاي بالحليب المعمول كما يحب، تسخن له الحليب حتى يغلى وتضع كمية كبيرة منه في الكوب وتضع الشاي الثقيل وتقلبه له بعناية تكاد أن تلتهمه بعينيها من الوله. قال محمود لنفسه " آه يا بنت الوسخة " لولاي لما كان هيثم، تنكريني وتعاملينني أسوأ معاملة، لم أرى ابتسامتها منذ خمس سنوات - هيثم... هيثم نادى محمود على ولده الأكبر وقال: - صباح الخير - صباح النور هكذا رد هيثم باقتضابن وصاحت أمه من الخارج - افطارك سيبرد هكذا قالت زينب في جفاء - هاتيه هنا... أريده في كلمتين جلس هيثم، ورث عن أمه قصر قامتها وملامحها الشعبيةن عيناه سوداويين ولم يرث ألوانهما، ورث مني البريق الحاد النافذ، ذكي للغاية ويفهمها وهى طائرة، لكن من أين أتى هيثم بتلك الرأس المستطيلة وكأنها صندوق أحذية. - على فين؟ عيناه تقولان وأنت مالك، لا أتذكر قائل بيت الشعر" ذريني للغنى أسعى- فإني رأيت الناس شرهم الفقير"... تنهد محمود وهو يلمس جفاء ابنه - سأذهب إلى الكلية - ماذا عندك في الكلية؟ يكاد أن يقول له " ما شأنك " دخلت أمه وجلست على الكنبة، وشعر محمود بالضيق الشديد، فقال لها: - نعم... لماذا جئت؟ - عادي!... لديك مانع - أريده في كلمتين ترامقا في كراهية وقالت: - براحتك... لكن يا هيثم كن حريصا على فلوسك وتعبك وشقاك - ارتحتِ... غوري بقى من هنا خرجت وهى تغمغم بكلمات غاضبة، وتبعها هيثم بوجه واجم يخفي به غضبه من أبيه، تجاهل محمود نظرات هيثم وقال: - كيف أحوال العمل - يعني - كم تلميذ لديك - هه.. عد غنمك يا جحا.. نظر في ساعته وقال وهو يقف - تأخرت عندي محاضرة في الثانية عشرة وسألحقها بالكاد - كنت محتاج عشرون جنيها هكذا قال محمود، فجفل هيثم، وعلا صوت الأم من الداخل - يا هبة هذا ما كنت أخشاه... كنت عارفة... يارب يتوب عليك يا هبة تتظاهر ابنة الحذاء بأنها تتحدث إلى ابنتهما هبة وهى توجه كلماتها السامة المسمومة إليه، اجتاح محمود الغضب وقال: - نقطينا بسكات أمك - أنا أكلم هبة... ومن على رأسه بطحة - احترمي نفس أهلك لأخرج لأمك سكتت زينب وصاحت هبة - حرام عليكما .. لم تعد عيشة سكتوا جميعا ولم تتبق إلا ضوضاء الشارع وصياح الصبية وأصحاب الدكاكين والورش. جلس هيثم ووضع رأسه بين كفيه وأطرق برأسه المدببة إلى الأرض، ولبث محمود ينظر له منتظرا - ماذا قلت؟ - فيم؟ - في العشرين جنيها..سوف أردهم لك أول الشهر.
-3-
كل عقدة ولها حلال 1- تميز جارنا وصديقنا نبيل زكي بين افراد شلتنا بميزتين ثمينتين، أولهما براعته الشديدة في لعب الكرة الشراب ويعتبر من النجوم البارزين في هذا المجال، أما المزية الثانية فهى لاتقل أهمية فهى جرأته الشديدة وجسارته في المشاجرات. اعتدنا أن نلعب الكرة الشراب في عدة شوارع، يوسف الجندي وأرض الفوالة وكثيرا ما لعبنا في شارعنا، وكثيرا ما ضايقنا الأسطى عزت الحلاق بمطالبته لنا بأن نتوقف عن اللعب وأن نلعب بعيدا خشية أن تحطم الكرة زجاج صالون الحلاقة الذي يمتلكه، كنا نتجاهله ونعده بالحرص، فكان بعد ان ن وذات يوم ألح الأسطى عزت ووقف لنا في وسط الشارع وراح يهلل واختطف الكرة وصاح: - غور بعيد منك له... تحلقنا حول الأسطى عزت ورحنا نترجاه - سوف نحترس يا أسطى عزت - الكرة أصابت الزجاج اليوم ثلاث مرات.. - دعنا نكمل المباراة بالله عليك يأسطى عزت كشر الأسطى عزت البارد الملامح الغضوب الطباع عن أنيابه وتهيأ للإنصراف، وفوجئنا بصديقنا نبيل زكي يخترق الحلقة ويقول في لهجة تهديد واضحة - هات الكرة يا أسطى عزت - ألعب بعيد منك له فوجئنا بصديقنا نبيل زكي يهرع إلى الحجر الثقيل الذي اتخذناه كمرمى ويحمله ويتوجه جريا إلى دكان الأسطى عزت، ويقذف بالحجر بكل قوته فيحطم الفاترينة الزجاجية الكبير فتتناثر - هى الكرة وحدها التي تحطم الزجاج هكذا قال نبيل زكي موجها حديثه إلى الأسطى عزت الذي شلته المفاجأ وساد صمت ثقيل لم يقطعه سوى عواء الأسطى عزت وقد تأهب نبيل زكي للقتال 2-
" لا نقود لك عندي وعندك نبيل فافعل به ماشئت فقد وضعت أصابعي في الشق منه ومن مشاكله وقرفه " هكذا قال عم زكي جارنا والد نبيل زكي عندما طالبه الأسطى عزت بثمن الزجاج الذي حطمه نبيل عمدا. منذ عشرين عاما كان عم زكي يعمل مساعد طباخ في قصر عابدين أيام الملكية، وأحيل للمعاش منذ عشرة سنوات، ويملك بيتا صغيرا في حارة السقائيين في سوق الأثنين في منطقة عابدين، وعدة قراريط في أبو زعبل. ولا يغادر منزله إلا للضرورة القصوى، وإبان موجة التمصير في مطلع الستينيات وتحت ضغوط شديدة من زوجته انتقل وأسرته إلى شارعنا بالقرب من ميدان التحرير.
- نبيل زكي معلم كبير هكذا قال أحمد عصام أحد أفراد شلتنا، قالها بانبهار ثم أردف: - لا يجالسنا نحن لأننا بالنسبة له صبية لم نخرج من البيضة، نأكل تين شوكي وكبيرنا نشرب سيجارة في ظلام شارع يوسف الجندي، اما نبيل لا يجلس إلا في قهوة" العنبة " في عابدين مع معلمين كبار، فهو لا يكف عن المقامرة وعن النسوان وتدخين المخدرات.... نبيل يا جماعة معلم.
-3
كان يكبرني بسبع سنوات، خمري اللون متوسط القامة رشيق القوام، له شعر ناعم ووجه وسيم، وكنت مبهورا به لجرأته الشديدة ولاستهتاره البالغ، ورحب بصاقتي به ودعاني لزيارته في مقهى العنبة في عابدين، أما عن الدراسة فقد كان من كبار الفاشلين ويضرب به المثل في الخيبة الثقيلة، مدمن رسوب وظل يرسب في الإعدادية حتى قررت الدولة أن تغير نظام التعليم بتخفيض سنوات الدراسة في المرخلة الاعدادية من أربع سنوات إلى ثلاث سنوات، فوجد نبيل نفسه يهبط من الرابعة إلى الثالثة، وذبحت أمه عنزة فرحا بحصوله على الشهادة الاعدادية، وتكررت المأساة في الثانوية العامة، وظل يرسب حتى قررت الدولة أن تصفي نظام البكالوريا وتستبدل به شهادة الثانوية العام، وفي أكازيون حكومي قررت الدولة أن تتخلص من كل طلاب النظام القديم، بأن لا ينجحوا فحسب ولكن بالتساهل في التصحيح والإغداق عليهم في الدرجات، فلم ينجح نبيل زكي فحسب لكنه حصل على مجموع مرتفع من الدرجات أهله للإلتحاق بكلية الطب! - نبيل شاطر ودخل الطب من شطارته! هكذا راحت أمه تردد ذلك متباهية به، وتعوض السنوات الطويلة من تعثره ورقبتها التي أضحت أمام الجيران مثل "السمسمة"، والذي لم يكن يجلب لها إلا المشاحنات والعار، وأشترت له- قبل بدء الدراسة - ثلاثة معاطف بيضاء من شيكوريل ولم تتوقف عن تعليقها منشورة في شرفتها وكأنها رايات النصر. وبعد مرور أربعة شهور على الدراسة، بينما كنا في طريقنا لنلعب مباراة في الكرة الشراب في منطقة الوايلي وكنت أمشي إلى جوار نبيل، الذي قال لي: - تصدق بالله لم يدعني نبيل ارد فأردف على الفور: - أنا لم أذهب إلى الكلية منذ ثلاث شهور. لم أعلق وسبقني في المشي، ورحت أرقبه وهو يسير في رشاقة، وقد ارتدى نعلا بلاستيكيا رخيصا وصغيرا، وكعب قدمه يطئ أرض الشارع.
-4
لم يرسب مبيل في كلية الطب لكنه خلال سنتين كان استنفذ مرات الرسوب، وفصلته الكلية وحولت اوراقه إلى كلية التجارة - نبيل إبني شاطر ونبيه... لكن أصحابه هم من يخيبون أمله هكذا راحت أمه تردد بلا انقطاع مدافعة عنه أمام الجارات، وفي أغلب الظن أنها كانت مقتنعة بهذا، فقد اتخذت قرارا عمليا في هذا الشأن، فقد أقنعته بأن ينتق من تجارة القاهرة إلى تجارة الاسكندرية، بعيدا عن رفاق السوء الذين خيبوا أمله، وكلفت والدة نبيل صديقنا بكر خليفة المعروف بالجدية والرزانة ويدرس في حقوق الإسكندرية، أنيكون نبيل تحت رعايته، وأذعن نبيل وانتقل إلى الأسكندرية، ودبر له بكر خليفة حجرة مناسبة في منطقة الإبراهيمية. - نبيل!؟... نبيل لا أمل فيه وحالة ميئوس منها هكذا قال لنا بكر خليفة وقد وقفنا على الناصية، وأردف: - أنا قلت هذا لمحمد شقيقه - لماذا لا أمل منه؟ - سكن في الإبراهيمية بالقرب مني، ومارس تأثيره السئ على شباب الشارع، فجعلهم مقامرون، وتحولت غرفته الصغيرة إلى وكر للمقامرة والحشيش والنساء - والعمل؟ - العمل عمل ربنا.
وكما فصل نبيل زكي من طب القاهرة فٌصل من تجارة الإسكندرية، ولأنه لم يعد طالبا، زال السبب في تأجيل التجنيد، وفوجئنا بشيخ الحارة يطلب نبيل زكي عليوه للتجنيد الإجباري، وتم تجنيده، ولكنه لم يطق صبرا على الجيش والجندية والانضباط، بعد عدة شهور لم يعد من الاجازة إلى وحدته، ومكث في البيت، وعاد إلى حياته اللاهية، الكرة الشراب في يوسف الجندي والمقامرة في مقهى العنبة مع الحثالة تدخين الحشيش في غرزة الجباصي في سوق الأثنين والعودة إلى البيت فجرا، حتى فبضت عليه الشرطة العسكرية ورحلوه إلى وحدته، ونال محاكمة عسكرية سريعة بتهمة " الغياب "، ووقعت عليه عقوبة " الحبس " ثلاثة شهور يقضيها في سجن الوحدة، وبعد شهرين، وبفضل " نعومته " الشديدة، وتظاهره المدهش بالطيبة والرقة والود الشديد، استطاع نبيل أن يخدع حراسه، فقد اوهمهم أنه يعيش أزمة كبيرة لأن أمه مريضة للغاية ويتمنى لو يراها نصف ساعة فحسب، ورق قلب الحارسين الريفيين لمطلبه الذي يدعو للشفقة، وخرجوا به سرا واصطحبوه إلى البيت، وأستطاع أن يخدعهما وأن بلوذ بالفرار فخرج من باب غرفة المسافرين التي لها بتب بفضي إلى السلم، وبعد نصف ساعة كان الجنديان الحارسان يندبان ويولولان وقد أدركا أنهما سيدخلان السجن عقوبة لهما على فرار نبيل زكي.
-5
ذات مساء وكنت في عيادتي، وبعد أن انتهيت، دخل شعبان الممرض وقال وهو يبتسم ابتسامته الكلبية : - واحد في الخارج طلبت منه الكشف ولكمه رفض ويقول أنه صديق سيادتك! - من؟ - نبيل زكي عليوه مرت سنوات طويلة تخرجت وتزوجت وانقطعت بننا الأسباب، وهاهو زعيمي القديم يظهر بعد سنوات طويلة - دعه يدخل عانقني في حرارة وود صادق وجلس فطلبت القهوة والماء المثلج - أنا سعيد جدا بما وصلت إليه.. وكنت أتابع مسيرتك الرائعة هكذا قال وأردف - والحقيقة أنت تستحق كل خير - أشكرك... وأنت؟ - أنا تمام... خطبت واستعد للزواج - ألف مبروك - وأعمل في السيدة زينب لم يزد، ولم أقل له ماذا تعمل، وأغلب الظن أن طالب الطب السابق يعمل سفرجيا أو قهوجيا أو ما شابه من المهن الرثة، كل هذا ظهر من ثيابه ومظهره البسيط كنت مضطرا للإنصراف لارتباطي بموعد عائلي، فسكت برهة وجدته ينهض وقد فطن إلى رغبتي في انهاء اللقاء، اعتذرت له في صدق واكدت له أنني أريد أن نواصل صداقتنا الحميمة، وأشرق وجهه بالسرور. - لى خدمة عندك هل تسمح لي - طبعا ... تفضل - حماتي أسنانها الأمامية مخلوعة هل من الممكن أن نركبها لها - جدا ... جدا أعطيته موعدا لى نبدأ العمل وجاء في الموعد، ودخل شعبان الممرض يبلغني بوصول الأستاذ نبيل زكي، ودخل وفي صحبته امرأة تقترب من الخمسين لها بطن كبيرة وقد كحلت عينيها بكثافة ملحوظة، ولها وجه - على العموم - لا يطمئن، قمت بالواجب وانتهيت من العمل، وعرض غلى استحياء أن يسدد الأتعاب، فرفضت في حسم، فتهلل بالفرحة وبالدعاء - أريد ان نستعيد لقاءتنا هكذا قال - أريد أن نستعيد الماضي في الزمان والمكان هكذا قلت وأنا أرقب شعره الأسود الناعم بلا أثر للشيب - نأخذ موعدا... نلتقي في العاشرة عند فندق شبرد - ستجدني هناك في العاشرة وسأنتظر الموعد على أحر من الجمر انصرف نبيل زكي وحماته ورحت أفكر في حجم التردي الذي وصل إليه زعيمي القديم، وأفقت من شرودي وانا أستعد للمغادرة على صوت الممرض شعبان يقول وهو عابس الوجه - صاحب سيادتك؟ - الأستاذ نبيل؟ ما شأنه؟ - كدت أن أفعلها معه لأنه لم يحترم نفسه؟ شعرت بالانزعاج لتطاول شعبان الوغد على نبيل الذي تربطه بى صلة - لماذا؟ - دخلت أعد الشاي، وتركته هو والمرأة التي معه يجلسان وحدهما في الصالة، وخرجت فوجدته يقبلها - يقبلها؟ - نعم يقبلها قبلة عنيفة - ماذا تقول؟ - وجدته يقبلها فنهرته وقلت له أن العيادة مكان محترم وأن عليه أن يحترم نفسه1 - معقولة راح شعبان يقسم ويحلف أنه لا يدعى عليهما، ولم أصدق حرفا من ادعاءات شعبان لسببين، أولهما أن ذمة شعبان مطاطة ولا يعول عليها مطلقا، وثانيا لأان المرأة حماة نبيل زكي لا علاقة لها بالأنوثة من قريب أو من بعيد، وان شعبان على سحنته التي تقطع الخميرة من البيت به أنوثة تفوق أنوثة تلك المرأة الشنيعة، قلت لنفسي أغلب الظن أن شعبان كان يروم بقشيشا سخيا فلم يظفر به، فألف تلك القصة التي لاتصدق.
-6
جلسنا على الكورنيش خلف فندق شبرد كما كنا نفعل منذ خمسة عشرة عاما، كان النيل أمامنا غارقا في الظلام والصمت، وانعكست من الكازينو في الضفة الأخرى الأضواء الملونة على صفحة النهر، ورف نورسا أمامنا على صفحة النيل، وعبر الفندق القريب، سرت أغنية طروب. - هل تتذكر أيام أن كنت طالبا بكلية الطب هكذا قال. لم تكن المرة الأولى التي يستعيد فيها أنه كان طالب طب، لاحظت أنه يختلق حديثا لا علاقة له بأي شئ سوى أن يكرر" عندما كنت طالب طب " شعرت بالأسى له وأنا أرقب مظهره الرقيق، وتذكرت أن الحياة قاسية للغاية وبلا رحمة، ومن " يهجص " معها ستلقنه الدرس الذي لم يكن يخطر له على بال. - كيف حال حماتك؟ - كويسة... تبعث لك بالسلام - بالمناسبة أين زوجها؟ لقد رأيته معك على مقهى العنبة - نعم... رجل نطع كان يأتيني على القهوة ليحتسي شاي بالحليب على حسابي - وأين هو الآن؟ - طفش... بلغ فرار - كيف؟ - عمل استبدال معاش وأخذ النقود وفص ملح وداب - اختفي نهائيا؟ - لاأحد يعلم عنه شيئا... انقطعت أخباره وترك زوجته وبيته وابنته وشقيقتها... الآن عندي مشكلة مع مراته ... حماتي؟ - خير - حامل... - حامل؟ كيف وزوجها مختفي، ومن الفاعل؟ هل تعرف؟ - حامل مني أفقت ولم أصدق ما سمعت - حامل منك؟ حماتك؟ - نعم - يخرب بيتك .. كيف؟ - عادي - كيف؟ هذه مصيبة - فعلا مشكلة - كيف حدث الله يخرب بيتك - كنت أدخل معها الغرفة - أين - في شقتها في الناصرية، كنا ندخل الغرفة ونغلقها علينا بالمفتاح - وخطيبتك؟ كنا نقول أننا نتكلم في الجهاز - تتلكموا في الجهاز ؟ - نعم ماذا نشتري ومن أين.. - ماذا فعلتما في بطنها وهي تكبر - لاشئ فهى أصلا بطنها كبيرة تنهدت وأنا أرمق زعيمي القديم بنظرات ثاقبة وأنا تتملكني رغبة عارمة أن أخترق جمجمته الصغيرة لأعرف ماذا يدور في عقل عذا الكائن العجيب. - ليست المرة الأولى - يا نهارك الأسود ... ماذا تقول... ليست المرة الأولى؟ - نعم في العام الماضي حدث الحمل - وبعد؟ - عندما اقترب موعد الولادة اصطحبتها إلى مستشفى الجلاء للولادة، وحجزوها بها - وبعد؟ - ولدت طفل.. - طفل؟... ولدت طفل؟ - نعم... انتظرنا قبيل الفجر وتسللت وخرجت به وكنت انتظرها خارج المستشفى وذهبنا بالطفل إلى ملجأ في الزيتون، ووضعناه على الباب اصابني الذهول، ورنوت إلى النافورة التي تتوسط النيل بألوانها البديعة، النيل الذي يتدفق وعلى ضفافه تنسج المأسي والمصائر، ألقوا به على باب الملجأ؟ - هذا معناه أنك لك إبن الآن في هذه اللحظة يعيش في الملجأ تنهد مدعيا الأسف وقال في تسليم - نعم - وحماتك حامل للمرة الثانية؟ - بنت كلب لم تأخذ الحبوب - لم تأخذ الحبوب هكذا رددت في بلاهة ساد صمت ثقيل بيننا وشرد كل منا في أفكاره، وبعد برهة وجدت نفسي أقول له - كل عقدة ولها حلال رد على في بساطة وقال - فعلا كل عقدة ولها حلال ا
ا الامتحان
في ليلة شتوية من ليالي شهر ديسمبر، جلس طالب الطب إسماعيل فهمي يستذكر دروسه، استعدادا لاختبار مادة الميكروبيولوجي، تلك المادة الجافة التي تعتمد على الحفظ، لقد ذاكرها أكثر من مرة، وهاهى في خضم استعداده ومراجعته لبقية المواد، يجدها و قد تبخرت من ذاكرته، كانت الساعة الثامنة، أمامه ليلة طويلة، سيستعيد الميكروبيولوجي في ذاكرته في ستة ساعات وربما ثمانية ساعات، سيراجعها بكل جدية من الثامنة حتى الخامسة فجرا وربما السادسة، ثم سينام إلى العاشرة فيراجعها ساعة أخرى، ثم يتوجه إلى الامتحان في الثانية عشرة ظهرا. - زميلاك علي وعادل هكذا قالت أمه وأدخلتهما عليه، رحب بهما وخرجت أمه لتعد لهما الشاي وغمغمت لهم بالنجاح والتوفيق، شعر بالدهشة وظن أنهما حضرا لي يذاكرا معه، فشعر بالقلق والحيرة، اعتادا أن يأتوا إليه فيتولى شرح المادة وتلخيصها لهم، فيستفيد من ذلك استفادة هائلة، من ناحيته فالشرح يثبت المعلومات في عقله، ويستفيدا من الشرح بتسهيل المذاكرة والحفظ، وتذكر أن كلاهما دخلا كلية الطب باستثناءات من المجموع في الثانوية العامة، على المغربي والده أستاذ جامعي، وأبناء الأساتذة يحق لهم ذلك الإستثناء، أما علدل عبد الفتاح الخمري اللون فكان استثناءه بسبب تفوقه الرياضي، فهو كابتن فريق نادي " س" في لعبة الهوكي، فكر إسماعيل في أنهما لو ظنا أنه سيتفرغ للشرح لهما الليلة فهما واهمان، يريد أن يخلو إلى نفسه وللمايكروبيولوجي بغباوتها وسيتغلب عليها بإذن الله، فقال إسماعيل في تحفز - خير قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي - ابن الوسخة علي معه بلابل؟ - بلابل؟ هكذا قال إسماعيل - بلابل من التي يحبها قلبك دعه يرى البلابل يا ابن الكلب كانت الشتائم التي يتبادلوها من باب حميمية الصداقة والزمالة، أخرج على المغربي من الكيس البلاستيكي الذي يحمله عددا من زجاجات البارفان الحريمي الفاخرة وخاتم ذهبي صغير. فهم إسماعيل الحكاية كلها، وعرف أن عادل عبد الفتاح ذهب إلى علي المغربي في بيته في مصر الجديدة، بغرض أن يذاكرا سويا استعدادا للإمتحان في الغد، وكانا كلاهما من الفاقدين، وجلسا أمام مذكرة الميكروبيولوجي وكأهما طور الله في برسيمه، ومن باب تزجية الوقت فتح على المغربي دولاب أمه، فشاهد عادل عبد الفتاح الدولاب وبه حقيبة كبيرة مكتظة بالهدايا الثمينة التي يشتريها أبيه من السوق الحرة ليهديها إلى زوجته والدة على المغربي، فالدكتور المغربي عالم الجغرافيا الشهير والحاصل على الدكتوراة معار بشكل دائم في الدول العربية، واقترح عادل عبد الفتاح على علي أن يختلسا عددا من زجاجات العطور الباريسية، وأن يتولى عادل بيعها في قصر النيل، وأن يأخذا حصيلة البيع ليقضيا سهرة رائعة في كباريه الناسيونال في شارع قصر النيل - نأخذ كأسين.. وشاهد الرقاصات.. وممكن نأخذ معنا امرأة - شقة جدتي في الكيت كات فاضية - حلو جدا - هيا هات البلابل توقف على المغربي وأغلق الدولاب وقال - لن آخذ شيئا - لماذا؟... نريد أن نفرفش الليلة - والامتحان غدا؟ ... الميكروبيولوجي - هاهى المذكرة أمامك ... لن نستطيع أن نذاكر اربعة ورقات.. صح؟... صح أم لا؟ أمسك على المغربي المذكرة وراح يفر الأوراق الثمانين المطلوبة في الامتحان وقال في تسليم - لا... لن نستطيع... . - لمذاكرة هذه الكمية يلزمنا شهر على الأقل... صح أم لا؟ - صح اقتنع على المغربي بمنطق عادل عبد الفتاح، لكنه اشترط على عادل أنه لن يأخذ البلابل إلا اصطحبا زميلهم المتفوق إسماعيل فهمي. - إسمع يا علي.. أنا سأريحك، سوف نمر على سعيد، نأخذه معنا لكي نستخدم سيارته، ونبيع البلابل، ونمر على إسماعيل فهمي - بسيارة سعيد... ماشي - ولكننا لن نخبر إسماعيل فهمي بأننا سنذهب إلى الكباريه.. لن يأتي معنا فهو " دحيح " ولن ينزل ليلة الامتحان إلا لو قلنا له أننا سنلتقط نسوان من شارع نوال لأن شقة جدتك في الكيت كات خالية - وامتحان الغد؟ - ممكن اللجان تكون سهلة... - ممكن - وإن لم تكن سهنة... هذا امتحان أعمال سنة... والتقيل وراء... الدرجات معظمها في امتحان نهاية العام، سنعمل المعسكر المتين وسنقضي شهرين لاشئ نفعله سوى المذاكرة.. مثل العام الماضي والعام الذي سبقه.
-2-
- شقة جدتك خالية؟ هكذا سأل إسماعيل فهمي في جدية شديدة - فاضية والله هكذا أجاب عادل عبد الفتاح وأردف - ارتدي ثيابك بسرعة كي لا نبدد الوقت. شعر صاحب المنزل الطالب إسماعيل فهمي بالحيرة الشديدة التي تصل إلى درجة التعذيب، فهو مولع بالجنس، جربه مرة في شقة فوزي أنور مع مومس فلم ينسى المتعة الحسية التي لا مثيل لها، لقد سمع من أحد الأطباء في التليفزيون أن الشاب يقع تحت سيطرة الهرمونات التي تلغي عقله، وشعر أنه واقع تحت سيطرة الهرمونات، و الميكروبيولوجي؟ كيف سيذهب إلى الامتحان وهو لايتذكر من الثمانين صفجة سوى ضبابيات لاتذكر - كم الساعة الآن؟ هكذا سأل عادل عبد الفتاح - السابعة والنصف - في العاشرة سنعيدك إلى هنا، منتعش بممارسة الجنس الجميل مع امرأة من نسوان شارع نوال، ستعود وقد تخففت من الرغبات التي تضنيك، لن أقول شيئا ولكن سأقول لك تخيل ان امامك امرأة عارية .. تخيلها وأعطني عقلك !! - والميكروبيولوجي؟ - سنعود في الحادية عشرة - ورانا ورانا...أين سنذهب منها ومن غباوته!ا هكذا قال على المغربي صاحب البلابل وهو يتذكر أستاذ المادة الذي أطلقوا عليه عباس" كوكاس " - هيا أرتدى ثيابك لا تضيع الوقت، دعنا نرفه عن نفسنا قليلا، نتخفف قليلا من الرغبة الفظيعة، هل تصدقان انني لا أنقطع عن التفكير في الجنس. "سوف ننتهى في العاشرة" هكذا قال إسماعيل لنفسه وقد استسلم للإغراء والغواية، لو لم يقولوا له أنه مدعو للمارسة الجنس، لا توجد قوة على الأرض قادرة على زحزحته عن مراجعة الميكروبيولوجي، ألم يقل فرويد أن الجنس محرك التاريخ، فل يعجز الجنس بكل جبروته عن تحريك إسماعيل فهمي وهو مجرد طالب متفوق لا راح ولا جاء راح إسماعيل فهمي يرتدي ثيابه بسرعة وانتبه من أفكاره التي يبرر بها ضعفه المشين أمام شهواته، على دخول أمه - هل ستنزل؟ شعر بأنه يهوي من حالق، جائك الموت يا تارك الصلاة، ماذا يقول لها تلك المرأة الطيبة التي يعتبرها تجسيدا حيا لإنكار الذات والتفاني في أبنائها - ساعة واحدة... ساعة واحدة وسأعود،.. امتحان الغد تم تسريبه، والامتحان حاليا عند عز الدين القليوبي، سأعرفه وسأعود فورا، لن أغيب. - ربنا ينجح لك المقاصد... سأنتظر عودتك لم يرد عليها وهو يشعر بالخزي الشديد، وغادر مع زميلية على المغربي وعادل عبد الفتاح ببشرته الداكنة وقوامه المتين ووجهه الشعبي الملامح، ومنحتهم أمهم " في أمان الله "
-3-
عندما نزلوا وجدوا زميلهم على سعيد ينتظرهم داخل سيارته، ليست سيارته ولكنها سيارة أبيه الموظف الكبير في مصلحة الكهرباء، تصافحوا و أقترح إسماعيل أن يضموا عز الدين القليوبي الذي يقطن في الجيزة، فمروا عليه. وعادوا بالسيارة إلى وسط البلد، وتولى عادل عبد الفتاح ومعه على المغربي بيع المسروقات، وعادا وهم يتشاحنان لأن على المغربي يتهم عادل عبد الفتاح تواطئ مع البائع واختلس خمسة جنيهات لنفسه، وانطلقت السيارة - لما أختليت بالبائع ماذا قال لك؟ هذه أولا، وبعد أن ناولني النقود، لماذا رجعت له وقلت أنك نسيت سجائرك، وأنت تخفي علبة سجائرك في الشراب انفجر عادل عبد الفتاح في الضحك.. فتوجه على المغربي إلي المجموعة بالسؤال قائلا: - صح ولا لأ.. - لا... لأنه لا يشتري سجائر أصلا... ويعتمد على سجائرنا - أليست البلاد تتبنى المذهب الإشتراكي.. نحن نطبقها لا أكثر هكذا قالت التعليقات فقال على سعيد الذي يقود السيارة - إلى أين؟ - الوقت يمر يا ابناء الأفاعي ولم نراجع المايروبيولوجي... سنذهب إلى شارع نوال... شارع نوال دعك من هؤلاء الصياع - يبدأ الفسق من كورنيش العجوزة - نبدأ من مجطات التروللي باس على الكورنيش، بعرض مستشفى العجوزة - شارع نوال أولا... كانت شوارع منطقة العجوزة خاوية وموحشة ومظلمة، ولاسيما الكورنيش، والمصابيح القليلة تعتصر نورها الذابل، واعتصر الألم قلب إسماعيل لأنه يبدد وقته مع هؤلاء الضائعين، لولا الجنس لتركتهم فورا، وتذكر أمه ودعواتها فشعر بوخزة في قلبه، وراح يفكر في علي المغربي وعلاقته الغريبة بأبيه، وهو الولد الأكبر الذي دللته أمه، فأصبح يسرقها ويسمي المسروقات "بلابل" أما بيعها فيطلق عليه" تسويح البلابل " وفكر اسماعيل أن علاقته بهؤلاء الصياع كانت السبب في أن تسوء سمعته في الدفعة، وكثير منهم يحبونه ويقدرونه لتفوقه وأدبه. - ولا واحدة هكذا قال على سعيد القابع خلف عجلة القيادة، الذي راح يبطئ السيارة ويمشي بها إلى جوار الرصيف، وانتهى من شارع الكورنيش ودخل إلى شارع نوال، وتهادى بها وعبر باعة الفاكهة الجائلين وعلى نور الكلوبات والمصابيح القوية تلألأت تلال البرتقال والموز - نقضيها سجائر وموز هكذا قال على المغربي متهكما - نذهب إلى ميدان التحرير - بعد ميدان التحرير علينا بميدان كصطفى كامل، هناك كباريه " كوبانا" - هل ندخله؟ - لا... ربما سألنا قوادا يقف على الباب، وربما وجدنا امرأة خارجة لتوها فنصطادها - أين سنبحث في ميدان التحرير - مجطة التروللي خلف لاباس، حديقة الزهور أمام المجمع، عند النافورة، وخلف مسجد عمر مكرم تلك مناطق تجمعات الموامس، هذه منطقتي يا جماعة لأنني أسكن بالقرب من الميدان هكذا قال إسماعيل وهو يتألم لأن الوقت يمر والميكروبيولجي مثل كالسيف الذي سيقطعه لا محالة ، ودارت السيارة وانطلقت نحو الشيراتون وانحنت يمينا لتدخل إلى كوبري الجلاء، كانت الشوارع مقفرة، وكافيتيريا أسترا خاوية إلا من ثلاث زبائن جلسوا في موائد متباعدة، ومحطة التروللي خاوية إلا من رجل بلدي ومعه صبي - الساعة ما زالت التاسعة، وفرصتنا أفضل كلما تأخر الوقت - والامتحان؟ - لف من شارع منصور... - سوق باب اللوق؟... لا داعي للتهريج!! لفت الجماعة ودارت بالسيارة في الشوارع المظلمة يفتشون عن صيد يقضون بها ليلتهم كما خططوا لها، ولكن جهودهم ذهبت سدى، لم يجدوا غير شوارع مقفرة ومحلات مغلقة والميادين الخاوية إلا من مصابيحها التي تعتصر الأنوار وكأنها الحلي الذهبية وقد رصعت الليل الذي بدا كأنه المخمل الأسود. - أفضل شئ أن نذهب إلى المنبع - يالك من فيلسوف.. وأين ذلك المنبع يا فيلسوف؟ - الكباريه نبع الموامس والعاهرات - لا فض فوك يا مسئول الفسق في دفعتنا... إلى الكباريه هكذا قال إسماعيل متوجها بحديثه إلى عادل عبد الفتاح، فضجت السيارة بالضحك، وشعر فجأة بوخزة في قلبه وهو يتذكر وجه أمه المتغضن ونظرتها الطيبة وهى تدعوا له بالصلاح وبالفلاح. وأفاق من شروده وقال في وهن - أنزلوني هنا لأعود للبيت - على جثثنا... إما أن نفسق سوا... أو نذاكر سوا.. والليلة حرام فيها العلم. استقر الرأي على كباريه "الفيروكيه" وهو الملهى الليلى لفندق الناسيونال في شارع سليمان باشا، لقد جرى الزمن على الفندق والكباريه الذي بات شعبيا، ودفع علي المغربي صاحب البلابل تذاكر الدخول، وجلست الجماعة على مائدة تجاور البيست، وأحتسوا الشراب، ولعبت الخمر المغشوشة برؤوسهم، وصيحوا كثيرا، وحجز الأمن بينهم وبين مجموعة من الشباب الليبي، وصفقوا وهللوا ومر الوقت سريعا وغادروا بعد أن دفعوا الحساب، وكانت الرابعة فجراً.
-4-
" ماذا فعلت بنفسك " هكذا قال طالب الطب إسماعيل فهمي وصداع رهيب يحطم جمجمته، أضاع ليلته وهاهو من شدة السكر لايكاد أن يجد ثقب الباب ليضع في المفتاح، وهاهو الباب يفتح، ليجد أمه تقف - صباح الخير هكذا قالت وهى تفسح له لكي يدخل وترمقه في محبة تصل إلى درجة الوله، وزادت نظرتها الحانية من عذابه، لماذا لا تقوم القيامة؟ لو انشقت الأرض وابتلعته لما كان عذابه كما يشعر الآن. - كنت أصلي الفجر، فوجدتك تعبث بالمفتاح... ذاكرت؟ - آه... هكذا أجاب في اقتضاب ةالندم ينهشه. وشعر بالماء البارد يغمر رأسه ووجهه وقد وضع رأسه تحت الصنبور، وتذكر المشاجرة السوقية التي دخلها مع الشباب الليبي، وشعر بالخجل لترديه إلى ذلك المستوى" سكران في بار و مشاغب فقد عقله في كأس" - ماذا فعلت... قاطعها قائلا: - تمام الحمد لله وقف في الحمام يجفف رأسه ووجهه وصداع رهيب يحطم رأسه، قالت أمه - سأعد لك إفطارا خفيفا وتدخل لتستريح حتى موعد الأمتحان..سأبقظك في العاشرة، امتحانك في الثانية عشرة - لا... سأكمل ولن أنام.. - ستظل مستيقظا حت الإمتحان؟ - نعم... أنا لا أريد إفطارا.. أنا أريد أسبرينتين وقدح من القهوة، أريدها دوبل، في الكوب الكبيرة. أعدت له القهوة ومعها سندويتش خفيف - كل هذا أولا هل يقول لها أن الخمرة المغشوشة التي احتساها في كباريه ترسو بنقود زميل فاسد سرق أمه وأبيه، تلك الخمرة تمزق له معدته، ليته تقيأ فيرتاح، لكن القئ لم يسعفه، وكأن معدته قررت أن تنتقم منه من أجل أمه، تلك الدجاجة الطيبة العجوز التي تقئقئ لتربيته وشقيقيه، مات أباه منذ عشر سنوات، عن تجارة تحمل عبئها ابنها الأكبر الذي لا يتورع عن سرقة اخوته بتحريض من زوجته، وتحملت الكثير من أجل تربيتهم، خاب أملها في الأربعة اولاد، ويعرف أن أمه تتعزى به، تحبه لأنها المطيع الذي لا يرهقها بطلبات مدللة، تحبه لأنه يعرف واجباته فيستذكر دروسه من تلقاء نفسه، شرفها أمام المتلمظين بها غيرة وحسدا والتحق بكلية الطب بمجموع عالى، يحصل كل عام على مكافئة من الكلية لحصوله على تقدير جيد جدا، أما شقيقيه الأصغر منه بعامين وشقيقه الأكبر منه بعامين فهما مدللان يرهقانها بالطلبات التي تعكس عدم شعورهما بها ولا بالمسئولية الملقاة على عاتقها، إهمالهما لدروسهما تعثرهما في دراستهما. جلس إسماعيل على مائدة السفرة المستديرة، وربتت أمه على كتفه في حنان وقالت: - هل أعمل لك شيئا... - لا... - ربنا ينجح لك المقاصد انصرفت أمه وتركته وجها لوجه مع مذكرة الميكرو بيولوجي الضخمة الرديئة الطباعة، وورقها الخشن السئ، وهاهي الصفحات الثمانين بطلاسمها تتحداه، وهاهو الصداع الرهيب يحطم رأسه، لن ينام مهما أصابه، سيتحمل الصداع و آلام أحشائه وسخافة المكروبيولوجي لكي لا يشعر بالمزيد من الذنب، ونظر من النافذة القريبة ونور الصباح الأزرق الفاتح يخيم على السماء في روعة، وآشعة الشمس الذهبية تتسلل من الأفق وقد تغطت بسحابات رمادية وفضية، اتهم نفسه بالاستهتار وبالتفاهة وبقلة الاحترام، ونظر في الساعة، لقد مرت نصف ساعة، لم يستذكر سوى خمس صفحات، وعندا اختبر نفسه في التحصيل لم يستطع استعادتهم من الذاكرة، شعر باليأس الأسود ينتابه، اليأس ترف لا تملكه، عقوبتك أن تستمر وأنت تعرف أن لا جدوى، فلن تستعيد أكثر من عشرة في المائة من المطلوب في الامتحان خلال الثلاث ساعات المتبقية على الامتحان، حيث ستبيض وجوه وستسود وجوه. على مثل ذلك النحو جرت أفكار إسماعيل، وقرر أن يتبع سياسة "التنشين" أن يختار عددا من الموضوعات التي يرجح أن تأتي في الامتحان، وراح يدعو الله في حرارة، أن تترفق به الأقدار هذه المرة فحسب، فيجد تخميناته في ورقة الامتحان، ولن يكررها ثانية، ليس من أجلي أنا، بل من أجل المسكينة التي صدقتني وأنا العابث المستهتر الذي أستحق الحرق. وفي العاشرة والنصف أخذ حماما ساخنا وارتدى ثيابه ودعوات أمه تلاحقه شعر بها وكانها الجمرات التي تلقى على إبليس.
-5- تجمعت الشلة في الكوريدور أمام المدرج - هل راجعت الميكرو أم نمت على الفور - نمت مثل القتيل، وكيف أراجعها وأنا لم أذاكرها أصلاُ هكذا قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي وهو ينظر إلى إسماعيل الذي وقف عابسا لا يتكلم ولا يشاركهم الحديث لم يرد - مالك؟ هكذا قال عادل - لماذا جئت بعلى المغربي إلى، لماذا راح عادل يقسم بأنها فكرة على المغربي الذي قال أنه لن يأخذ البلابل ليسوحها إلا إذا جئت معنا - لعنة الله على ديك أمك لديك أمه هكذا قال اسماعيل في سخطوغضب، في ذلك الوقت كان على المغربي يستعيد المشادة بينهم وبين الشباب الليبي. وتبين أنهم لن يدخلوا سويا إلى نفس اللجنة، فالشلة كلها سوف تمتحن في قاعة صغيرة، وأنه سوف يمتحن في القاعة الصغير المواجهة لها. دخل إسماعيل إلى اللجنة وجلس في الصف ما قبل الأخير، وجائت ورقة الأسئلة، طيلة عمره وهو يحسب ألف حساب لرهبة الامتحان والمرور السريع على الأسئلة، كأنها لحظة السؤال المرعبة وقد بعث الميت في القبر، هل تصيب تخميناتي يارب العالمين من أجل حبيبك النبي ومن أجل المسكينة أمي؟ مسح الأسئلة بعينيه ولم يجد تخميناته، خابت كلها فلم تصب إلا ربع سؤال من أربعة اسئلة، كل سؤال من أربع نقاط، هذا معناه أنه لا يعرف إلا نقطة واحدة من اثناعشرة نقطة، "ضعت يا إسماعيل" هكذا قال لنفسه. أجاب عن الفقرة الوحيدة التي يعرفها، وبدت له بقية الاسئلة كأنها الطلاسم، وحاول أن يسأل جاره فنهره المراقب في غلظة وهدده بأن يخرجه، وقضى إسماعيل الساعتين وهو في كرب لم يشعر به من قبل، وتعاسة لا حدود لها، ولم تغب أفكاره المضنية عن أمه، فكر في وجهها البرئ وهى تدعوا له وهو يخدعها أنه سيخرج لأن الامتحان قد تسرب. فكر في شقائها عندما تشاحن شقيقيه بالأمس القريب، وتطورت المشادة إلى تضارب، فدخلت بينهما فنالت بالخطأ لكمة عنيفة أسالت الدماء من فمها!! فكر في فمها الأهتم وقد فقدت معظم أسنانها وطاقم الأسنان الصناعية التي تستخده، جسدها الثقيل وقد هزلت وساقيها المقوستين من تهالك مفصليها، لماذا لا تنشق الأرض كي تبتلعه؟ لماذا خذلتها؟ - مضى نصف الوقت من الممكن أن ينصرف من انتهى من الإجابة هكذا قال المراقب بصوت عالي، فخرج عدد من الطلاب وسلموا ورقة الإجابة وانصرفوا الواقع يقول أن أسلم ورقتي الهزيلة وأنصرف، لكن لا، سأشرب كأس الذل حتى آخره، وظل إسماعيل في مكانه، والأفكار السوداء تعذبه وكأنها الجرح الذي يدفعه لكي يهرش فيه فيتألم فيزيد الألم من الرغبة في المزيد من الهرش وهكذا، ومضى الوقت وسلم الورقة، وخرج ليجد الشلة واقفة تتحدث وتضحك - ماذا عملت؟ هكذا قال على المغربي صاحب البلابل - زفت؟ راح يضحك في هيستيريا وتوجه بالحديث للشلة - يقول أنه عمل زفت - وماذا عملت؟ هكذا قال إسماعيل فهمي متعجبا - غششنا... المراقب طلع هايل قال لنا من معه " حاجة " يطلعها واكتبوا من سكات - وطلعتم كتب؟ - نقلنا من المذكرة... روعة، وأنت؟ - زفت.... تركهم دون كلام وأشعل سيجارة ومشى في الكوريدور وتذكر وجه أمه وهى تكاد أن تسقط على وجهها من اللكمة الطائشة التي نالتها، وفكر الطالب المتفوق إسماعيل فهمي في فكرة الانتحار.
.
في البن البرازيلي -1- اانتهى الطبيب الشاب إسماعيل فهمي من آخر مرضاه في عيادته الشعبية في حى الظاهر، وصرف الممرض شعبان وخلا إلى نفسه، لقد اعتاد أن يخرج النقود التي دفعها مرضاه كأتعاب، أن يخمن مهن مرضاه بالتدقيق في الرائحة المرتبطة بالأوراق النقدية التي دفعوها كأتعاب، فذلك بائع طعمية، وهذا بياع سمك، وتلك امرأة متفانية في غسيل الصحون وهذا بائع لحمة راأس... إلى آخره، لكنه الليلة لم يفعل ذلك فقد دس النقود في جيبه وهو مشغول البال ومعتكر المزاج، فقد داهمته الليلة نوبة من الأحزان التي تجتاحه بين الحين والآخر، فيمعن خلالها في التفكير من في المنغصات التي تسمم له حياته، أولها تلك المشاجرة الكئيبة التي نشبت أمس الأول بينه وبين شقيقه على ميراث تافه، ومنها مشاكله في العمل كمعيد في كلية الطب واضطهاد رئيس القسم له، وعجزه عن الزواج لضيق ذات اليد. لقد تجاوز الطبيب الشاب الثلاثين عاما بعم واحد، طويل القامة لا يخلو من وسامة، لقد أطال شعرة الأجعد، وأطال سالفيه مجاريا الموضة،و رسم على وجهه نظرة استعلاء وسخرية أصبحت تلازمهة، وهى نظرة جديرة بشاب في عمره، وفتح باب العيادة ليخرج ففوجئ بمن يقف على الباب وينظر إليه، واستطاع بعد برهة أن يستعيد شخصية القادم، إنه زميله السابق سمير، سمير جي كيه كما كان يقول عن نفسه، سمير جندي كامل، جعلها من خفة عقله سمير جيه كيه - انت نازل؟ - كنت نازل... اهلا ومرحبا - دعني أدخل أولا - ادخل يا صديقي العزيز ... تفضل... أي ريح طيبة ألقت بكا ؟ ا هكذا قال الطبيب الشاب لضيفه - انا وقعت من السماء وانت ستتلقفني صمت د. إسماعيل صاحب العيادة وهو يسمع ويتأمل في ضيفه وهما يحتسيان القهوة التي أعدها إسماعيل في عجالة، مازال أنيقا كما هو، الجاكيت البيج والبنطلون البني المحروق والحذاء الهافان الأجلسيه، طويل وعريض ضخم الجثة وهرقلي القوة، وعيناه تطلقان نظرات مفعمة بالتزلف والرياء، لكن داخل هذا التزلف بصيص ماكر وزيف أكيد. - خيرا يا عزيزي ا - لقد حصلت على حكم المحكمة لكي تمنحني كليتكم الوسخة فرصة اخيرة..... هكذا قال سمير الضيف في حنق وتأذي الطبيب الشاب من لفظه" الوسخة" فهو ينتمي إلي الكلية، ووجد نفسه يجاري ضبفه المحنق فقال: - من ناحية الوساخة فهى كما تقول... لكن أى فرصة؟ - فرصة دخول الامتحان، فأنا لا يوجد عندي مواد سوى مادتكم، المادة التي تدرسوها، لو اجتزتها لوصلت للسنة الرابعة واتخرج وأصبح طبيبا مثلكم!! لاذ إسماعيل بالصمت حائرا ومشفقا على زميله السابق المتعثر البائس - ساعدنى - انا تحت أمرك لكن كيف؟ - سوف أدخل الامتحان في مايو القادم وأنا في عرضك سوف تشرح لى المادة ستشرح لى المادة شعر إسماعيل بالحيرة، لا يعطي دروسا بنقود، فيورطه سامي في درس في أغلب الظن سيكون مجانيان ثم انه لم يكن من اصدقائه المقربين منه، مجرد زميل، ورنا إلى زميله وهو ينظر إليه بنظرات متوسلة، وعينيه السوداويين يكادا ان يغرورقا بالدموع، فشعر بالرثاء له، وبعد صمت قصير وجد المعيد الشاب نفسه يقول: - على خيرة الله. قاطعه سامي ونهض وقبل رأس إسماعيل، وهو يلهج بالشكر والامتنان وكلمات من نوع لن أنسى جمائلك طيلة عمري وأنا أردد للجميع أنك أجدع واحد في دفعتنا ابتسم إسماعيل في اشفاق وخجل وقال: - أشكرك... المهم أن نتفق على مواعيد بعد انتهاء العمل في العيادة تأتي إلى وسوف أشرح لك المنهج ... وعليك بالمذاكرة. المادة جافة وصعبة، ما أن تنتهي معي عليك بمذاكرتها أولا بأول. - طبعا.. طبعا..سترى.
-2-
انظلق المعيد الشاب إسماعيل فغادر عيادته في شارع الشيخ قمر، وطالعه مبنى جامع الظاهر بيبرس الجهم الضخم في الميدان، وراح يرقب أحجار السور الضخمة ومن خلفها السماء المرصعة بالنحوم، ولف حول الميدان وخرج إلى شارع بورسعيد وهو يفكر في مقابلة زميله السابق سمير جى كيه، وفكر في الوضع الزري الذي تردى سمير إليه، وفكر أن وضعه في الحياة لا يتناسب مع تأنقه الشديد، كيف - وهو المفصول من الجامعة لاستفاذ مرات الرسوب- يقف في محل البن البرازيللي في شارع سليمان كل يوم وقد تعطر وتأنق؟ تعجب إسماعيل من طباع زميله السابق، لو كان في موضعه لمات من الهم والحزن والهوان، لقد التحق اسماعيل بالكلية ووجد سمير طالبا من طلاب السنة الأولى، تخرج أسماعيل من الكلية وسمير مازال طالبا، وقضى إسماعيل سنة الامتياز وسمير مازال طالبا، ثم أدى إسماعيل الخدمة العسكرية وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على وظيفة معيد، وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على الماجيستير وسمير مازال طالبا. لقد سمع من الزملاء في الكلية الذين يسكنون في حى شبرا، أن سمير وحيد أمه وتوفى أباه وربته أمه ودللته فنشأ ضعيف الإرادة والعزيمة، والتحق بكلية الطب باستثناء في المجموع، فقد كان سمير لاعبا في فريق كرة اليد بالتوفيقية الثانوية، ذلك الفريق الذي حصل في تلك السنة، على بطولة اللعبة على مستوى مدارس الجمهورية في، وكافأت الدولة أعضاء الفريق بحصولهم على درجات تفوق أوصلتهم للالتحاق بكلية الطب، لكى تبدأ مأساة سامي جي كيه. -3-
ساقته قدماه إلى شارع بورسعيد، فركب تاكسي - شارع سليمان باشا... سيذهب إلى بار الناسيونال، سيدفن أحزانه في كئوس البراندي المحلي القوي الرخيص، فكر أن مشكلته لا تقل سوءا عن مشكلة سمير جى كيه، سمير يتوق إلى الحصول على بكالريوس طب، وهو يتوق إلى الزواج، وكلتاهما رغبات تستعصي على المنال، عندما وصل إلى ميدان العتبة، وفي نوبة من نوبات مصارحة النفس، أعترف الطبيب الشاب لنفسه أنه مسئول إلى حد كبير عن تعاسته، وتعاسته تتلخص حاليا في عدم قدرته على الزواج لضيق ذات اليد، ومسئوليته في ذلك لأنه رفض أن يعطي دروسا خصوصية، إذ كان في استطاعته أن يعطي الدروس الخصوصية للطلاب، مثل عدد كبير من زملائه، الذين على الرغم من سطحيتهم الشديدة وافتتقارهم إلى أبسط درجات الثقافة والوعي، تمكنوا خلال سنوات من تحقيق كل تطلعاتهم العملية، الشقة الفارهة والعروس الجميلة والعيادة في الموقع الرائع وكلها من الدروس الخصوصية، لكنه اعتبر أن الدروس الخصوصية مسألة مبتذلة ورخيصة، ولخصها في كلمتين وهما " اللف على البيوت "، لكنه الليلة يعترف بأنه كان يخبئ خلف هذا الشعار الطنان حبه الجارف للحياة واللهو، وأنه استبدل اللف على البيوت" التي ستحميه من المسغبة باللف على البارات كما يفعل كل ليلة، وآية ذلك أنه ذاهب الآن إلى بار الناسيونال، وسيجد هناك الشلة من غرائب الطبيعة، وسيشرب البراندي القوي، وسيدفن في الكأس أحزانه، وسيدخن الحشيش في الغليون، وسيقضي ليلة ليلاء، صخب ضحك ولعب وغناء ومناقشات. أختار أن يحيا كما يحب وهاهو يدفع الثمن، أن تتحمل ما لا تحب، اخترت أن لا تبتذل نفسك و ولن تمتهن العلم بقدسيته في اللف على البيوت، لن تتحول من باحث وعالم إلى تاجر شنطة الذي يحمل شنطته ويلف بها على الزبائن الأثرياء و يبيع بضاعته لهم، حسنا عليك أن تدفع الثمن، والثمن هو أنك لن تستطيع الهروب من الأزمات المالية المتلاحقة وستظل تلهث لكي تطفو فحسب في بحيرة البراندي التي تحيط بك. فراتب الجامعة هزيل، أما العيادة الشعبية التي افتتحها منذ سنوات ، صحيح أنه حقق شعبية لابأس بها في المنطقة، لكن مرضاه في المجمل من الشرائح السفلى من البورجوازية الصغيرة، موظفون صغار وسعاة في مصالح حكومية بائسة، وصغار الحرفيين والأرزقية وستات بيوت يستحققن الرثاء من الفقر والأسى. ودخله الشهري من هذا وذاك بالكاد يغطيان نفقاته، فكيف يدخر الألوف اللازمة لنفقات الزواج، ومازال يتذكر مقولة كتبها كاتبه المفضل في إحدى رواياته" يطلب الرجل المرأة ولو أقعده الكساح"، فما بالك بشاب رياضي وفي الثلاثين من عمره. أنى له بزوجة تبدد وحشة حياته الجافة، وكثيرا ما يتهيأ له أنه أشبه بصبارة بائسة تنتصب وحيدة في صحراء قاحلة. إفاق من شروده على وصوله إلى بار الناسيونال. لم يصل أحد من الشلة، اختار مقعدا على البار لكي يثرثر مع البارمان أحمد، يريد أن يهرب من مواجهة نفسه بخيباته وتعاساته، سوف يزجي الوقت حتى مجئ الشلة بالثرثرة مع البارمان " أحمد " والجرسون سيد وينادونه " شجرة " - أنا مٌعلم مثل سيادتك هكذا قال البارمان وهو يصب له كأسا، وأضاف - هذه الكأس مني لسيادتك... تحية وتقدير ومعزة هذه المقدمة يجقظها إسماعيل عن ظهر قلب، ويعرف الجملة التي ستليها إذ يقول بلكنته الصعيدية: - سيادتك معلم في الطب والعبد لله معلم للفتيات المعوقات...و اتعامل مع العاهات ليلا في البار. حكى له البارمان قصته مرات عديدة، حصل على الدبلوم من المنيا، وألحقته القوى العاملة معلما للمعوقات في مدرسة بالزيتون، وأتاحت له وظيفة الساقي أن يحصل من الفندق على غرفة صغيرة فوق السطح لينام بها، وحلت له مشكلة السكن والإقامة في هذه المدينة المتوحشة، ويحب أحمد الساقي الشاب أن يؤكد للدكتور إسماعيل أنه أنه عازم على تسجيل الماجيستير، ولن يتنازل عن تحقيق تلك الأمنية الغالية. آنس إسماعيل إلى بار الناسيونال، آثار مجده الغابر مازالت بقاياه ماثلة تتباهى بنفسها، المساحة الفسيجة والسقف العالي المزين بتهاويل الركوكو، النوافذ المرتفعة التي تطل على الشارع الجانبي ، الستائر مخملية فاخرة بلون النبيذ تغطي النوافذ، البيانو الكبير وقد انعكست علية الإضائة الصفراء الكابية التي تعتصرها المصابيح الحزانى في شحوب ، البار العريض بلون البن المحروق والمرايا البلجيكي الكبيرة والرفوف الكريستال تحمل زجاجات الخمر الملونة. فكر في سمير جى كيه، كان من المفترض أن يعتذر له، بعد العمل في طوال اليوم في الجامعة وبعدها في العيادة، وبدلا من أن يرفه عن نفسه بكأسين أو سيجارتين وصحبة حلوة ورفقة ممتعة يطلع له سمير جى كيه، ولم يكن يوما صديقه ولا عشم له! وجائت الشلة والتأم الشمل وضج البار بالضحكات والمناقشات وعلت الأصوات بالغناء، وعلى صوته وغنى بصوته " ياما قلبي قال لي لأ... وأنا ألاوعه/ لما قلبي اتشق شق... قلت أطاوعه... واندمج في الغناء ونسى سامي جي كيه ومشكلة سامي حي كيه؟ -4-
انتهى د. إسماعيل من آخر مرضاه، لقد أخبره الممرض شعبان أن الدكتور سامي في الاستراحة - هو من قال لك "دكتور" سامي؟ - نعم ! - دعه يتفضل قال إسماعيل لنفسه" ياله من نطع... دكتر نفسه بلا خجل" ودخل شعبان وخلفه سامي جي كيه، وتبادلا التحية، وجلس سامي خلف المكتب - جئت حسب الموعد هكذا قال سامي في استجداء يثير الشفقة وترقرقت نظرته وشعر إسماعيل بمزيج من الخجل وعدم الارتياح - سوف تنقذ مستقبلي ولن أنسى لك هذا الجميل يا دكتور إسماعيل... هل تعلم أن أمي لولا أنها قعيدة لأتت لك لكي تشكرك..وعندما علمت أنك تعيش وحدك، أصرت على أدعوك على صينية سمك كزبرية على الطريقة الدمياطية شعر إسماعيل بالخجل وابتسم وهو يدخن الغليون - متى ستأتي لكي أقول لماما - دعنا نبدأ العمل أولا لكي لا نتأخر... هل معك كتاب القسم - وماذا أقول لماما؟ - سنتفق بعد أن ننتهي... أين كتابك؟ لوح بيده وقال - لا أملك كتابا... ضاع مني... آخر مرة امتحنت فيها كانت من خمسة سنولت وبعد ظهور النتيجة ألقيت بالكتاب في مكان ما وبحثت عنه بالأمس وقلبت الدنيا فلم أجده. - لابد ان تشتري كتابا... أنا سأشرح لك هنا، رغم أنني لا أعطي دروسا خصوصية، لكن واجب الزمالة القديمة يحتم على مساعدتك ؟ا - أشكرك .. وأول الشهر لما ماما تقبض المعاش حا أشتري نسخة... هل يباع في القسم؟... سأشتري واحدا قال إسماعيل معتذرا - وزعوا نسخة مجانية واحدة لأعضاء القسم...ولولا هذا لأعطيتك نسختي... شعر بالندم، وشعر بالشفقة على زميله القديم، وتذكر أن سامي وحيد أم متسلطة مستبدة لاتخلو من ضعف العقل، وهى التي جعلت من سامي هذا الرجل المعدوم الإرادة الذي لا يخلو من تفاهة، وتذكر حكاية رواها له زميل كان وطيد الصلة بسامي، بحكم تجاورهما في حى شبرا العريق، والزميل نفس أخبره من قبل، أن أم سامي التي ترملت في سن الشباب، والتي رفضت الزواج بعد أبيه الصائغ، فأوكلت إدارة الدكان إلى خاله، الذي خدعها واستطاع بالدهاء والحيلة أن يستولي على ميراث سامي وأمه ولا يمنحهما إلا الفتات، وحكى لي واقعة شاهدها في بيت سامي، بينما كان في زيارة له، وبينما يحتسيان الشاي فوجئا بأم سامي تقتحم الغرفة كالإعصار، غاضبة والشرر يتطاير من عينيها، وبدون سلام ولا كلام راحت توبخ سامي وتنهرة في غلظة شديدة، لأنه أخرج الطاقم الكريستال لاحتساء الشاي، لم ينطق سامي وانكمش خزيا وهوانا.
رنا إسماعيل ببصره إلى زميله السابق وشعر بالشفقة، وانتابه إحساس بذنبٍ ما حيال ما آل إليه سامي جي كيه، ما ذنبه في وفاة أبيه؟ ما ذنبه في ترمل أمه؟ لم يختار سامي أن يتحول من طفل برئ إلى شاب تافه معدوم الإرادة. انتبه إسماعيل من شروده على صوت سامي : - أول الشهر ... لم يتبق على الشهر إلا أيام... قاطعه إسماعيل وقال: - أنت ستأخذ هذه النسخة...وتجلبها معك كلما أتيت هنا ترقرق سامي جي كيه وكادت عيناه تغرورقا بالدموع وقال: - جمائلك فوق رأسي ولن أنسى لك مروئتك وكرم أخلاقك - أنظر ياسامي .. سوف نضع خطة لكي تنجح.. سوف تمتحن مع الدفعة كلها؟ ا - نعم في سبعة مايو... والعملي والشفوي يوم 22 مايو. فكر د. إسماعيل في طريقة للعمل مع تلك الحالات المستعصية، وقال ليقلل من جدية الموقف - جميل سندخل عليهم بطريقة أربعة إثنين أربعة... سنبدأ بباب لابد أن تجد فيه سؤال أكيد، لماذا؟ لأنه الباب الذي يشرحه للطلاب رئيس القسم الدكتور على الغمراوي بجلالة قدره ورضي الله عنه وأرضاه ...سوف أحاول أن أبسط لك علمنا الصعب بقدر الإمكان، ودوري معك أن أخلق منطقا في الدرس من اللامنطق الذي ستجده.. فالطب أقل العلوم انضباطا لأنه يتعامل مع الحي، والحي لغز في النهاية فأنت يا عزيزي جي كيه ستجابه ألغاز الحي. قطع د. أسماعيل استرساله وقد تعمد أن يدهش سامي وأن بربكه وبدأ شرح الدرس، وبعد عشرة دقائق من الشرح، كان خلالها ينظر إلى سامي، كاد أن يضحك وقد بدا له سامي المنتبه بشدة ومع هذا تهيأ للدكتور إسماعيل كما لو كان سامي ملاكم يتلقى من خصم قوي لكمات شديدة يترنح من قوتها، فهاهو سامي يتلقى دشم العلم الجيرانيتية فيتهاوى من قوتها، كان من الواضح أن سامي حالة ميأوس منها، فاستيعابه – كما يبدو من تعبيرات وجهه الذاهلة، والغباء المطل من عينيه- كان شبه معدوم، وشعر إسماعيل بالشفقة، واستمر في شرح الدروس حريصا على أن لا تظهر أفكاره على وجهه.
-5-
وقف د. إسماعيل في عيادته في الشرفة وهو يشعر بالاضطراب والذنب والتعاسة، لقد انتهى لتوه من ممارسة الحب مع مريضة من مرضاه، ويشعر بالذنب لعدة أسباب، أولها أنه لم يتمالك نفسه فمارس ما مارس في العيادة، صحيح أنه علماني ولا يعتقد في تلك الخزعبلات، لكن شيئا ما داخله لم يتخلص من الوجدان الشعبي، لكن العيادة مكان "لقمة العيش"، والبعض يعتبرها من الكبائر، وتجلب النجاسة وتقطع الرزق، ماذا أفعل وأنا تحت وطأة الهرمونات وما أدراك ماالهرومونات وعذابها الهرم، ماذا أفعل والمريضة الشابة التي تقترب من عامها الثلاثين هى من منحتني الضوء الأخضر، ولم تكن المرة الأولى التي تتأوه وتثيرني، في الأربع زيارات السابقة بدأت مناوشاتها، في كل زيارة كانت تتأوه وتتلوى وتوحوح وأنا أكشف عليها، لا يغادره الآن وجهها بالحول الواضح في عينيها بكحلهما الكثيف، وجهها الداكن وزينتها المتبرجة في بهرج من الألوان لتداري بشرتها الداكنة، فمها العريض وشفتيها المكتنزتين النهمتين وقد صبغتهما بلون قاني ، استجاب لها بجسدها الثري، الصدر الريان والبطن الطرية مثل العجين والأفخاذ المستديرة العفية، الاختلاس ضاعف من متعتهما الجنونية، وقد فوجئ بأنها امرأة! قالت وهى ترتدي ثيابها: - تعرف .. أن الحب ما أن يتمكن من قلب الإنسان أو الإنسانة.. يسيطر عليه ويلغي عقله. إنه نهبٌ لمشاعر متلاطمة من الإنتشاء والندم والحرج، ماذا لوكان أحدهم اقتحم غرفة الكشف، عاد إلى المقعد خلف المكتب وجلست وقد عدلت من ثيابها وشعرها، وشعر بالخوف الشديد، لقد وجد مريضته الشابة فاقدة للعذرية، كانت امرأة وخاض الشوط لآخره، لم يسبق لها الزواج، وفكر أن حديثها عن الحب محاولة للتوريط، ربما كانت بداية لتطالبه بالزواج، وهل يصوم ويفطر على هذه البصلة البائسة، صحيح أنها تتمتع بجسد مثير لكن هل يكفي؟ وشعر بخوف يقترب من الزعر والهلع من المصير الذي قد يحيق به، فيتزوج من تلك المرأة الشعبية ذات التعليم المتوسط فيهبط من علٍ. أشاح بوجهه وشمخ بأنفه وقال: - عن أى حب تتكلمين؟ - عن الحب.. الحب أشاح بوجهه ثانية ورسم علامات الإنكار التام - هه... لا يوجد شئ اسمه الحب.. بهتت الابتسامة على وجهها وقد تبرجت بالمكياج وسال العرق فلطخ وجهها بالألوان - ألا تعتقد في الحب - في الأفلام فحسب ظهرت على وجهها خيبة الأمل والتعاسة، وبدت له وقد تقدمت في العمر عشر سنوات، غادرت وهى تغمغم بالسلام، وما أن خرجت شعر بالتعاسة، واهتز من الأعماق بسبب النهاية البائسة مع مريضته، وظل طوال اليوم التالي لا يفكر إلا في هذا الموضوع، واستقر على لوم نفسه وتأنيبها، على غلظته وعلى "معيلته"، ما أن تكلمت عن الحب لقد فٌزِعَ كطفل رعديد ، استشعر الخطورة قبل الأوان بفراسخ بعيدة، لقد سلمت نفسها إليه، كانت تطمع في أن يجاملها ويقول لها أنه أحبها، لكي تبرأ نفسها من انها امرأة سهلة ومنحلة،... لكنه أناني وخواف واساء لها وجرحها بقسوته. في اليوم التالي بعد انتهاء العمل، نبهه شعبان الممرض بأن الدكتور سامي جي كيه في الاستراحة. - مساء الخير هكذا قال سامي ولاحظ إسماعيل أن تلميذه قد زجج حاجبيه بشكل سخيف - مساء النور إجلس يا سامي.. اشتريت كتابا؟ - متأسف والله... لم أفرغ... لوذهبت للكلية سيضيع اليوم - لا بأس هات الكتاب راح يقلب في الصفحات فوجد رسومات لم يرسمها في كتابه، إنها رسومات لسهام كيوبيد وهى تخترق قلبا، واسم ليلى بخط جميل مكتوب في نهاية السهم، أما قمة السهم المدببة مكتوب عليها بحروف جميلة اسم" سامي "، انتاب د. إسماعيل الضيف من تلميذه، تسائل ليس كتابه لماذا يشوه هذا التافه كتابي؟، ووجد أنه كرر تلك الخيابات في الكتاب أربعة مرات، ما هذه المراهقة المتأخرة؟ فسامي لا يقل عن الخامسة والثلاثين، وشعر إسماعيل بالضيق الشديد، ونظر إلى سامى فوجده قد ارتبك وقال: - سوف أشتري كتابا جديدا... واحتفظ أنا بهذه النسخة فكر إسماعيل وموقفه مع مريضة الأمس مازال يجثم على تفكيره، وندمه الشديد على غلظته، ماذا كان سيحدث لو طيب خاطرها بكلمتين! لذا شعر أن الواجب أن لا يتمادى مع سامي في غلظته، من السهل جدا أن يوبخ سامي وينهره على سلوكه التافه والمتنطع، وفكر أنه ليس من المرؤة أن يفعل ذلك مع زميل سابق في وضع ضعيف.
-6-
استمرت الدروس، وقاربت على نهايتها - لقد وضعت كل خبرتي لكي تنجح في هذه المادة الصعبة - أعرف يا دكتور إسماعيل - الإمتحان أربعة أسئلة مطلوب أن تجيب على ثلاثة منها، حسب أهمية الأساتذة في القسم وهم أربعة، كل واحد منهم يشرح بابا للطلاب، وكل واحد منهم سوف يضع سؤالا، المطلوب منك أن تحفظ عن ظهر قلب الأبواب الأربعة. بدت عليه علامات التحرج كما لوكان يريد أن يطلب طلبا لكنه يخجل قال إسماعيل: - ماذا تريد... قل لي - هل توافقني - لو في مقدرتي سأوافقك - ماذا لو وضعت لي الكتاب في دورة المياه؟ - ماذا؟ - تضع لي الكتاب في دورة المياه يوم الامتحان فأطلب أن أذهب إلى دورة المياه وافتح الكتاب لأتذكر الإجابة. شعر إسماعيل بالضيق والغيظ من زميله السابق، ذلك البليد الذي يريد أن يورطه في التدليس والغش ويضعه موضع المسائلة - لا طبعاً، لن أفعل ذلك. - هذه آخر فرصة لى لتنقذ مستقبلي فكر إسماعيل أن يغلظ له وأن ينهره، ولكنه كتم رغبته وقال في حسم: - لن يحدث ولن أشترك معك في الغش أردف د. إسماعيل في غضب مكتوم - متى امتحانك - بعد أربعة أيام - اتكل على الله... اذهب واستذكر دروسك وهى الأربعة أبواب تقع في اربعين صفحة، أحفظهم كما نحفظ القرآن والأسئلة مباشرة وبالتوفيق بإذن الله هكذا أنهى إسماعيل اللقاء، فرسم سامي ابتسامة ودودة متزلفة وانصرف. اختلى إسماعيل بنفسه وهو يتعجب من هذا الإنسان المتبلد، وشعر بالغيظ منه لعدة أسباب، أولها لأنه مازال يتأنق ويتعطر ويدخل عليه بتلك الهيئة متبخترا وكأنه يعيش أجمل أيامه، ولم يشتري كتابا ومازال محتفظا بكتابه، ولأنه ملأ الكتاب بسهام كيوبيد وبالقلوب وكأنه مراهقا خالى البال، ولأنه لم يذاكر شيئا وسوف يرسب لا محالة، لماذا؟ من ردوده ومن نظرته له في غباء والتي تؤكد له أن سامي لم يستوعب حرفا مما يقول، من ناحية الاستفادة فهى أشبه بالعدم، أضاع هذا البائس له وقته، يرفض الدروس الخصوصية بالمقابل المادي، لكن هذا السامي الجي كيه التافه ورطه في درس مجاني، وليت المسألة اقتصرت على الدرس، يريد أن يتورط معه في عملية غش حقيرة. الحقيقة أن إسماعيل كان في مزاج نفسي سئ للغاية، لقد دفع بالأمس ثمن غلظته مع المريضة التي نام معها في حجرة الكشف، فقد فوجئ أمس الأول بمن ينادي عليه، كان ينزل سلم الكلية في طريقه للكافيتريا - إسماعيل... إسماعيل التفت وفوجئ بطبيب يحضر رسالة دكتوراة من خارج الكلية، يعرفه إسماعيل بالشكل ويراه كثيرا، ويعلم أنه ضابط طبيب، ويعرف أنه لديه عيادة خاصة في شارع بورسعيد ولا تبعد كثيرا عن عيادة إسماعيل في حي الظاهر وقال الطبيب الضابط وهو ينظر إلى إسماعيل في تعال - امس الأول جائتني مريضة من مرضاك واسمها... - مالها هكذا قال إسماعيل في حدة - اشتكت منك - طظ ...طظ فيها انصرف إسماعيل وبينما يستدير - علاجك غلط - احترم نفسك وليس طظ فيها فقط لكن طظ فيك قبلها نزل إسماعيل وعندما اختلى بنفسه شعر بحزن عميق، ليست عيادة شعبية فحسب لكنها موطئ للدنس وتشهير بكفائته بين هؤلاء الحثالة، وذلك الفسل الذي تصيد مريضته إنسان شرس وعدواني وقليل الأدب، يتواقح عليك وهو يحمل حقائب المشرفين عليه في الرسالة، خادم نموذجي يتطاول عليك ومشاحنة مزرية على مريضة تعبانة...
وجاء يوم الامتحان الشفوي، وكان كالعادة يتم في معمل القسم، وهى قاعة كبيرة مستطيلة بها العديد من " البنشات " الخشبية، شاء القدر أن الطبيب إسماعيل كان المشرف على دخول الطلاب للمثول بين يدي السادة الممتحنين، كان كل شئ يتم كالمعتاد، إسماعيل يقف على باب المعمل ممسكا بكشف الطلاب الذين سيؤدون الإمتحان ، وقد تجمهروا أمامه وفي الكوريدور، لقد انتحى سامي ركنا مبتعدا لكي لا يبدو غريبا بسنه الكبير بين التلاميذ الذين يصغرونه بخمسة عشر عاما، تحلق الطلاب أمام الباب في كوريدور القسم، وقد أمسك الواحد منهم بالمذكرة أو بالكتاب وراح يسترجع، فينادي إسماعيل على أربعة طلاب فيهرعوا إلى داخل المعمل، ويتبوأ كل طالب منهم مقعدا، وعلى الناحية الأخرى من " البنش" يجلس الممتحنين الأربعة، ثلاثة منهم هم أقدم اساتذة القسم، اما الرابع فهو زميل لهم وجاءوا به من جامعة الأزهر باعتباره ممتحن خارجي تطبيقا للوائح الجامعية، اما عن نرجسية الأساتذة واستعلائهم الذي لا يصدق، يكفي أن احدهم- وهم أشباه الآلهة- يقول جادا لمعيد شاب: - رحم الله الدكتور الصديق الذي كان يقول أيامنا كنا نحمد الله إذا أسعدنا الحظ ورأينا أستاذاَ جامعياَ. وجاء دور سامي – طبقا للكشف – لكي يدخل امتحان الشفوي، وما أن خطا وسامي خلفه إلى داخل المعمل، قال د. على الغمراوي رئيس القسم - لا...تدع سامي يدخل الآن... سيمتحن وحده بعد أن ننتهي هكذا قال رئيس القسم الأصلع الرأس، وأكمل - دعه ينتظر حتى نفرغ من الدفعة كلها ثم يدخل لنا وحده - أمرك يا أفندم هكذا قال إسماعيل في امتثال وخرج سامي ببنيانه الضخم ووقف بعيدا وقد تصبب عرقا. لم يكن إسماعيل يتوقع أن تكون معاملة سامي بهذه السادية، لقد انتظر سامي حتى الساعة الثانية وهو واقف ينتظر من الثامنة صباحا، ولم يدخل سوى في الثانية والنصف، لقد انصرف الطلاب والموظفين ولم يتبق إلا سامي وإسماعيل الذي وقف على الباب منتظرا أن يطلبوا سامي - دعه يدخل دخل سامي وهو ممتقع اللون ويفرك يديه وينكمش كما لوكان يتمنى أن يختفي، أما الإمتحان فلم يكن سوى مذبحة بمعنى الكلمة، نظراتهم الجامدة والجهامة التي تعتلي وجوه السادة الممتحنين كانت كلها استهجان ورفض واحتقار، ولسان حالهم أنت تحديتنا وجئت لكي تمتجن رغم أنفنا؟ وبحكم محكمة!؟ حسنا دع " المحكمة تنفعك " كان التربص واضحاً، كل الطلاب يمتحنون أربعة كل مرة، لكن تعمدوا أن يمتحن وحده، وأن يتركوه لآخر وقت. جلس سامي في مواجهة الممتحنين، وانهالت الأسئلة كالحمم البركانية في صعوبتها، وسامي كما يقولون ماحي في كل النواحي، وراح يترنح من الاسئلة السامة، يعصر رأسه وينظر إلى السماء كأنه يعرف الإجابة لكنه السهو، فيتركوه ويحدجوه بالنظرات السامة ويقولوا له: - على مهلك... تمر دقيقتان وسامي يعصر جبينه - ماذا؟ هل تعرف الإجابة؟ يهز سامي رأسه بالنفي في مذلة وخزي ويغمغم - لا وبعد نصف ساعة من جحيم الاسئلة العويصة، بدأوا في النزول بمستوى الأسئلة، وبعد ربع ساعة من الأسئلة العادية والمتوسطة المستوى، التي رد عليها سامي بالصمت المطبق، ثم هبطوا بالاسئلة إلى مستوى عناوين الفصول وسامي لا حياة لمن تنادي - اسأل نفسك سؤال هكذا قال أحدهم، ورسم سامي ابتسامة لا معنى لها، فلم يكن يتخيل أن يسمحوا له بأن يسأل نفسه - اسأل نفسك سؤالا. المهم ان اساتذة المادة نكلوا به، ومسحوا به البلاط، حتى السؤال الذي سأله سامي لنفسه لم يجب عليه، وانتهى الامتحان بالمزيد من السادية فقال أحدهم - ما رأيك في اجاباتك - - هل تعجبك؟ - - هل تريد شيئا آخر؟ هز سامي رأسه وقد أمسك برأسه وأطرق بها إلى الأرض ونهض وهو يغمغم بصوت لا يبين: - شكرا انصرف سامي يجرجر قدميه.
انقطع سامي عن زيارتي في العيادة، وعلمت أنه ما زال يقف عند البن البرازيلي كل مساء، قدرت أنه لا يريد أن يراني لأنني أذكره بفشله المرير، لكنني كنت أريد كتابي ولو كان مرصعا بسهام كيوبيد وبقلوب المحبين، لن يمنحني القسم كتابا مجانيا ثانيا، هل أشتري كتابا ثانيا وأترك كتابي لسامي، سأستعيد منه كتابي، وأغلب الظن أنه نسى أن يعيده، والآن بعد فصله نهائيا، ومعرفة سامي بأنه لا جدوى من احتفاظ سامي بكتابي، قابلته في البن البرازيللي، صافحني في فتور - ما أخبارك هكذا قلت له - لا شئ راح يجيب اجابات مقتضبة وجافة، وكلها تخبرني أنه غير سعيد باللقاء، وأنه يتمنى انصرافي وان لا يراني ثانية، فشعرت بالحيرة وبالضيق. - من فضلك أريد كتابي - أي كتاب - كتابي الذي كنت تذاكر فيه؟ أشاح بوجهه بعيدا ثم نظر في عيني وقال في تبجح لانهائي - كتابي الذي أخته مني ورسمت عليه قلوب وسهام - لم آخذ منك شيئا أستدار سامي جي كيه وطالعني ظهره الضخم وقفاه السمين وشعر رأسه الحليق وخرج من المحل.
انتهت
إله حارة أبو النجا -1-
في صبائج قائظ من صباحات شهر أغسطس، استيقظ محمود زكي طلبة من النوم على نور شمس الضحى الحارقة وهى تلسع وجهه، فنهض وصداع مؤلم يكاد أم يحطم رأسه، صداع بسبب قلة النوم والأرق الذي يصاحبه طيلة الصيف، لم ينم طيلة الليل إلا خطفا، فما ان يغط في النوم سرعان ما يستيقظ غارقا في العرق، فهو لا ينام في غرفته، ولا في شقته، لقد ترك لها الشقة كلها، وينام في الطابق الأخير، في نفس المكان الذي شاهد رخائه وممتلكا لمقدراته و شاهده سيدا لمصيره، هاهو ينام في المكان نفسه، المكان الذي شهد أمجاده وقد تحول إلى أطلال وخرائب، غرفة الفرن وغرفة الصاجات المعدنية السوداء وغرفة التشكيل وصب العجين، الفرن الحديدي الضخم وقد علاه التراب من الإهمال، من كان يصدق أن زينب حنفي أبو قملة تنتصر على وتطردني من بيتي، وتدفعني للنوم هنا في الطابق الأخير، الطابق الذي تصليه الشمس بلهيبها طيلة النهارات الحارقة، فإذا ما حل المساء تصهل الجدران النيران التي اختزنتها طيلة اليوم، وتنام زينب العفنة مع أولادي محتمية فيهم في فراشي، وفي النهاية تقول لى في شاسة وتشفي: ... عالج نفسك. تذكر محمود كلمات صديقه الشاعر الراحل الذي كتب قبل أن يموت: متى يقبل موتي قبل أن أصبح مثلك صقرا مستباحاً. نهض من فوق الكنبة البلدية المتهالكة التي يتخذ منها فراشا ينام عليه، وذهب إلى الحمام البلدي الضيق، تلك الشقة الصغيرة لم تكن للسكنى، استغلها لعمله في الخزف، أمه ورثت البيت عن أبيها، يقع البيت البلدي الصغير المساحة في زقاق "الملط" الضيق الذي يطل على حارة "أبو النجا"، في هذا البيت الصغير الضيق المساحة ولد محمود، خمسون عاما قضاها في هذا البيت، الذي لا تتجاوز مساحته الثلاثين مترا، يتكون البيت من أربعة طوابق،كل طابق عبارة عن شقة واحدة لا تزيد مساحتها عن عشرين مترا، تسكن العائلة الطوابق الثلاث، ماعدا الأرضى يقطن فيه عبد الرحمن ابن حلمي العربجي طابق أرضي، في الطابق الأرضي شقة يسكنها عبد الرحمن حلمي المهنس الذي يعمل في السعودية، مات أباه وسافر عبد الرحمن الإبن للعمل مهندسا في السعودية، يصغر المهندس عبد الرحمن بثلاث سنوات، كان الأب حلمي عربجيا على عربة كارو يجرها حمار، كل الحارة تعلم أن حلمي العربجي أطلق على الحمار لقب يطلق اسنم "فرج"، عندما كان صاحبنا محمود طالبا في هندسة عين شمس، كان عبد الرحمن طالبا في المعهد العالي الهندسي في حلوان، يتذكر محمود كيف كان عم حلمي العربجي يحتسي البوظة في بوظة " مصر عتيقة " في أدغال الجيارة، ويمزجها بالخمر من عند الرشيدي في سوق الإثنين، ويشرب معه الحمار " فرج " البوظة، كل ليلة تشهد حارة أبو النجا عم حلمي وقد وقف بالفانلة واللباس الصعيدي، يجرى حوارا مع حماره فرج، فيقف حلمى امام الحمار وقد وقفا تحت البيت، ويقول حلمي: - يا فرج يا ابن ديك الكلب فيبدأ عم حلمي. ينظر حلمي بعيمين حمراويين إلى الحمار ويقول - لا تنظر لي تلك النظرات السماوية يا ابن ديك الكلب. تستمر شتائم عم حلمي الصعيدي الذي نزح من سوهاج إلى حماره ويحمل في النهاية حجرا يريد أن يهوي به على رأس الحمار فرج. تتابع الأم الضجة من النافذة المطلة على الحارة حيث يرقد الحمار بجوار العلربة، فتستشعر الخطر أن يقتل عم حلمي الحمار مورد رزق الأسرة، فيهب عبد الرحمن ينزل ليساعد أمه في أن لا يقتل حلمي الحمار فرج: يثور عم حلمي ويقول لزوجته: - احترمي نفس أمك يا بنت دين.... يهجم الإبن على أبيه ليمنعه من قتل الحمار - هل أنت أب أنت؟ يهرع الاب بخطوات مترنحة إلى البيت ويخرج وهو يحمل عددا من كتب ابنه وهى مكتوبة باللغة الإنجليزية يرقب محمود المشاجرة من الطابق الثاني ويضحك بشدة لأن المرجع مكتوب عليه “ metalleregy” يثير حفيظة الأب العربجي حفيظة الأب السكران -- يا ابن الوسخة... هكذا يردد الأب وهو يمسك إبنه من تلابيب ثيابه، ويمسك بالكتاب باليد الأخرى ويقول متهكما على ابنه -بتذاكر الكتاب ده!؟ بتتباهى على به يا ابن الوسخة!؟ لا ياشيخ... ابن الحذاء يريد أن يعمل على مهندس... بفلوسي يا ابن الوسخة - أنت أب أنت.. أنت أب أنت؟ تدخل الأم بينهما وتبعد الأب الذي يمسك حجراً ويتجه للحمار فرج فيقول: - كله منك يا فرج ياابن الوسخة يرفع حجراً ثقيلاً ويقف قبالة الحمار الراقد تحت النافذه يظهر عددا من الجيران فيأخذون العربجي الذي أصابه السكر والوهن فيسير معهم وهو يشتم ويسب.
وضع محمود رأسه تحت الصنبور فشعر بانتعاش من الماء البارد، وغادر الحمام وهو يرتدي جلبابه الذي حال لونه من القدم، وتطلع إلى المرآة القديمة ورنا إلى صورته، وشعر بالحزن فقد شاب وأضاع في الأوهام عمره، هاهى البشرة الخمرية والجبهة السمراء العريضة والرأس الكبيرة التي حلمت يوما بحكم مصر، الشعر الأجعد الذي اشتعل شيبا، العينان والنظرة المقتحمة الثاقبة، تنطلقان من عينين تختلط في مقلتيها الألوان، العسلي يمتزج بالأخضر والرمادي. - حسني... شعر، ومحمود ... عينان هكذا كانت أمه تردد، مشيرة أن أجمل مافي ملامح ابنها الأكبر محمود هو عينيه الملونتين، وأجمل ما يتميز به شقيقه حسني في- نظرها- هو شعره الأسود الناعم الغزير. تذكر تلك الكلمات وتذكر أمه والدور المشئوم الذي لعبته في حياته، حطمته وحاكت المؤامرات لكي تهدمه فصار ما صار. - عارف نلك المرأة البلدية التي ترتدي السواد وتراها بجثمانها الثقيل والملامح الشعبية الساذجة، وتظن أنها عبيطة أو على نياتها أو فهمها محدود بجهلها، فهى أمية، وقد تظن أن فهمها على قده، فأنت لا تعرف شيئا، لأنها قطعة من الدهاء والفطنة وتذهب بك إلى البحر وترجعك عطشان يتذكر محمود ذكي تلك الكلمات التي قالها عن أمه وهو يشتكي منها لصديقه الوحيد الدكتور خالد.
خرج من الحمام ودخل غلى الغرفة، ووقف في الناقذة، ورنا بنظره يمينا فطالعه مسجد عمرو ابن العاص ببناءه الكبير والخلاء من خلفه والسماء الزرقاء الصافية من السحب ووهج الشمس يغشى عينيه. الساعة تجاوزت العاشرة، لو ظل طيلة اليوم لما سألت زينب الكلب عني ، ابنة الكلب ال" جزمة" الجربوعة كانت تتمنى رضاى وتقول لي يا سيد الناس، ابنة القديمة كونت حزبا من ابننا هيثم و ابنتنا هبة، ألبتهم ضدي وأنا سيد البيت وسبب وجودهم في الحياة والبيت، نظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى العاشرة، تعالت أصواتهم من الطابق الثالث، وقال لنفسه " ولو بقيت طول اليوم لما سأل أحدهم عني". -2-
السلم الضيق المتهالك، ست درجات لا غبر يحفظها عن ظهر قلب، لو الأحجار تتكلم لنطقت عن علاقتي بها، الباب مفتوح وهيثم راقد في غرفة النوم، وصفيحة القمامة بها كمية كبيرة من الكشري. " يا بنت الوسخة" هكذا قال لنفسه وهو يتفحص كمية الكشري الهائلة التي ألقت بها زوجته في القمامة. دخل وجدها جالسة على الكنبة في الصالة الضيقة، ما أن رأته حتى رسمت على وجهها تكشيرة كأنها اللعنة - هل ستفطر؟ هكذا غمغمت بوجه جامد كأنها فقدت أباها، الضحك والابتسامات للعيال أما انا فالتكشيرة والوجوم والخلقة التي تقطع الخميرة من البيت - نعم.. ساتزفت هكذا قال في غضب مكتوم، وأردف - لماذا ألقيت بكل ذلك الكشري في الزبالة... حرام على أهلك، والآن ستقولين هات نشتري طعام الغذاء قاطعته في حدة - معمول منذ أمس الأول ولن تطعمنا طعاما فاسدا - ولماذا عملت يا مصيبة كل تلك الكمية... ألا تميزين...؟ لماذا عملت كل تلك الكمية، كان نصفها يكفينا امس الأول وأمس وكنا وفرنا تكاليف الكمية التي في الزبالة، لكنك لا تدفعي مليما هكذا قال غاضبا ساخطا - هذا كشري وليس حماما ولا لحوم... رضينا بالهم - هم في وجه أمك.. أنظر ماذا تقول بنت أبو قملة، من أين جائت بها امي؟ لاذ بالصمت، وفكر في أن أ بنت القحبة كانت تتمنى رضاه والآن تقول أنني تتقبلني كما تتقبل الهموم الثقيلة، آه يا بنت القحبة. وجلس على الكنبة البلدية، طبق الفول البارد كالعادة، على أن أتحمل قلة أدبها، والخبز منذ أمس الأول، لم تضعه في الفريزر كما أقول لها، لو سخنته لأصبح مقبولا، والفول الماسخ مثل خلقتها، كان لابد أن تسخنه على النار لكي يصبح له طعم مستساغ، لكنها لا تريد أن تبذل أقل مجهود، تعاقبني أبنة الكلب الواطية، تذوق الفول البارد الذي بدا له ماسخا وبلا طعم، منها لله أمه حاكت المؤامرات ودبرت من الخطط الجهنمية التي لا تخطر لى على بال لكي أطلق هيام، هيام زوجتي الأولى التي قضيت معها أجمل الأيام وأسعدها، أين أنت يا هيام؟ هيام امرأة تسوى ثقلها ذهبا، خدعتي أمي وغررت بي وجعلتني أطلق هيام وأقسو وأفتري عليها، وجلبت لي هذه البلوى، زينب ابنة أبو قملة عامل النظافة في دورة مياه في البساتين، من أين أتت بها أمي؟ تزوجتها منذ عشرين عاما فنحستني وجلبت لى المرار والفشل، هيام كانت فنانة في أصول الطعام، بأقل الإمكانيات تصنع بلمساتها وجبة شهية وفي غاية الجمال، افطارها من خمسة صحون، بيضة مسلوقة لا تقدمها هكذا لكن تحمرها في الزيت المغلى فتزداد طعامة، طبق الفول الساخن المزين بقطع الفلفل الحار والزيت يسبح فوقه والكمون والبهارات وقطع الطماطم المقلية في الزيت، الجبن الأبيض تقدمه هيام وقد غمرته بالزيت والشطة والطماطم، هيام كانت تصنع من الفسيخ شربات، من لا شئ تصنع وجبة شهية، أتت من بيت ثري ومطبخ عامر، لو طلبت من بنت القحبة أن تسخن لى الفول ستأتي بوجهها الذي يقطع الخميرة من البيت وستأخذه في صمت وستغيب دقيقة وستعيده كما هو، هيام ابنة المعلم صالح الفرماوي صاحب مطعم للفول والطعمية في الجيارة، رجل كسيب وينفق على بيته عن سعة، أم هيام أستاذة مطبخ، علمتها أصول الصنعة، بيت عامر تتصاعد من المطبخ أروع الروائح، الفتة والضأن والكشري والطعام المسبك. المعلم صبحي عرفة، جهز ابنته بثلاث غرف، دفعت أمي بشطارتها مهرا صغيرا، وقال المعلم صبحي" سنقبل ما تدفعون مهرا لهيام، نحن نشتري رجل يا أم الباشمهندس محمود" - لابد أن تدفع فابنتك لم تأخذ سوى سنة ستة، والباشمهندس اسمه مازال مقيدا في كلية الهندسة في عين شمس. - على عيني وراسي يا حاجة..أنا اشتري رجل لإبنتي - ومحمود سيد الشباب وقرة عيني وسيسكن في بيته الملك. - سيسكن في قلبي لأنه سيأخذ ابنتي الوحيدة هيومة. - سنحملها في عيوننا، وسأعتبرها ابنتي. أفاق محمود من شروده على صوت هيثم ابنه الأكبر الذي كان يجلس في الصالة. جلست أمه قبالته وقد أعدت له الإفطار، الشاي بالحليب المعمول كما يحب، تسخن له الحليب حتى يغلى وتضع كمية كبيرة منه في الكوب وتضع الشاي الثقيل وتقلبه له بعناية تكاد أن تلتهمه بعينيها من الوله. قال محمود لنفسه " آه يا بنت الوسخة " لولاي لما كان هيثم، تنكريني وتعاملينني أسوأ معاملة، لم أرى ابتسامتها منذ خمس سنوات - هيثم... هيثم نادى محمود على ولده الأكبر وقال: - صباح الخير - صباح النور هكذا رد هيثم باقتضابن وصاحت أمه من الخارج - افطارك سيبرد هكذا قالت زينب في جفاء - هاتيه هنا... أريده في كلمتين جلس هيثم، ورث عن أمه قصر قامتها وملامحها الشعبيةن عيناه سوداويين ولم يرث ألوانهما، ورث مني البريق الحاد النافذ، ذكي للغاية ويفهمها وهى طائرة، لكن من أين أتى هيثم بتلك الرأس المستطيلة وكأنها صندوق أحذية. - على فين؟ عيناه تقولان وأنت مالك، لا أتذكر قائل بيت الشعر" ذريني للغنى أسعى- فإني رأيت الناس شرهم الفقير"... تنهد محمود وهو يلمس جفاء ابنه - سأذهب إلى الكلية - ماذا عندك في الكلية؟ يكاد أن يقول له " ما شأنك " دخلت أمه وجلست على الكنبة، وشعر محمود بالضيق الشديد، فقال لها: - نعم... لماذا جئت؟ - عادي!... لديك مانع - أريده في كلمتين ترامقا في كراهية وقالت: - براحتك... لكن يا هيثم كن حريصا على فلوسك وتعبك وشقاك - ارتحتِ... غوري بقى من هنا خرجت وهى تغمغم بكلمات غاضبة، وتبعها هيثم بوجه واجم يخفي به غضبه من أبيه، تجاهل محمود نظرات هيثم وقال: - كيف أحوال العمل - يعني - كم تلميذ لديك - هه.. عد غنمك يا جحا.. نظر في ساعته وقال وهو يقف - تأخرت عندي محاضرة في الثانية عشرة وسألحقها بالكاد - كنت محتاج عشرون جنيها هكذا قال محمود، فجفل هيثم، وعلا صوت الأم من الداخل - يا هبة هذا ما كنت أخشاه... كنت عارفة... يارب يتوب عليك يا هبة تتظاهر ابنة الحذاء بأنها تتحدث إلى ابنتهما هبة وهى توجه كلماتها السامة المسمومة إليه، اجتاح محمود الغضب وقال: - نقطينا بسكات أمك - أنا أكلم هبة... ومن على رأسه بطحة - احترمي نفس أهلك لأخرج لأمك سكتت زينب وصاحت هبة - حرام عليكما .. لم تعد عيشة سكتوا جميعا ولم تتبق إلا ضوضاء الشارع وصياح الصبية وأصحاب الدكاكين والورش. جلس هيثم ووضع رأسه بين كفيه وأطرق برأسه المدببة إلى الأرض، ولبث محمود ينظر له منتظرا - ماذا قلت؟ - فيم؟ - في العشرين جنيها..سوف أردهم لك أول الشهر.
-3-
كل عقدة ولها حلال 1- تميز جارنا وصديقنا نبيل زكي بين افراد شلتنا بميزتين ثمينتين، أولهما براعته الشديدة في لعب الكرة الشراب ويعتبر من النجوم البارزين في هذا المجال، أما المزية الثانية فهى لاتقل أهمية فهى جرأته الشديدة وجسارته في المشاجرات. اعتدنا أن نلعب الكرة الشراب في عدة شوارع، يوسف الجندي وأرض الفوالة وكثيرا ما لعبنا في شارعنا، وكثيرا ما ضايقنا الأسطى عزت الحلاق بمطالبته لنا بأن نتوقف عن اللعب وأن نلعب بعيدا خشية أن تحطم الكرة زجاج صالون الحلاقة الذي يمتلكه، كنا نتجاهله ونعده بالحرص، فكان بعد ان ن وذات يوم ألح الأسطى عزت ووقف لنا في وسط الشارع وراح يهلل واختطف الكرة وصاح: - غور بعيد منك له... تحلقنا حول الأسطى عزت ورحنا نترجاه - سوف نحترس يا أسطى عزت - الكرة أصابت الزجاج اليوم ثلاث مرات.. - دعنا نكمل المباراة بالله عليك يأسطى عزت كشر الأسطى عزت البارد الملامح الغضوب الطباع عن أنيابه وتهيأ للإنصراف، وفوجئنا بصديقنا نبيل زكي يخترق الحلقة ويقول في لهجة تهديد واضحة - هات الكرة يا أسطى عزت - ألعب بعيد منك له فوجئنا بصديقنا نبيل زكي يهرع إلى الحجر الثقيل الذي اتخذناه كمرمى ويحمله ويتوجه جريا إلى دكان الأسطى عزت، ويقذف بالحجر بكل قوته فيحطم الفاترينة الزجاجية الكبير فتتناثر - هى الكرة وحدها التي تحطم الزجاج هكذا قال نبيل زكي موجها حديثه إلى الأسطى عزت الذي شلته المفاجأ وساد صمت ثقيل لم يقطعه سوى عواء الأسطى عزت وقد تأهب نبيل زكي للقتال 2-
" لا نقود لك عندي وعندك نبيل فافعل به ماشئت فقد وضعت أصابعي في الشق منه ومن مشاكله وقرفه " هكذا قال عم زكي جارنا والد نبيل زكي عندما طالبه الأسطى عزت بثمن الزجاج الذي حطمه نبيل عمدا. منذ عشرين عاما كان عم زكي يعمل مساعد طباخ في قصر عابدين أيام الملكية، وأحيل للمعاش منذ عشرة سنوات، ويملك بيتا صغيرا في حارة السقائيين في سوق الأثنين في منطقة عابدين، وعدة قراريط في أبو زعبل. ولا يغادر منزله إلا للضرورة القصوى، وإبان موجة التمصير في مطلع الستينيات وتحت ضغوط شديدة من زوجته انتقل وأسرته إلى شارعنا بالقرب من ميدان التحرير.
- نبيل زكي معلم كبير هكذا قال أحمد عصام أحد أفراد شلتنا، قالها بانبهار ثم أردف: - لا يجالسنا نحن لأننا بالنسبة له صبية لم نخرج من البيضة، نأكل تين شوكي وكبيرنا نشرب سيجارة في ظلام شارع يوسف الجندي، اما نبيل لا يجلس إلا في قهوة" العنبة " في عابدين مع معلمين كبار، فهو لا يكف عن المقامرة وعن النسوان وتدخين المخدرات.... نبيل يا جماعة معلم.
-3
كان يكبرني بسبع سنوات، خمري اللون متوسط القامة رشيق القوام، له شعر ناعم ووجه وسيم، وكنت مبهورا به لجرأته الشديدة ولاستهتاره البالغ، ورحب بصاقتي به ودعاني لزيارته في مقهى العنبة في عابدين، أما عن الدراسة فقد كان من كبار الفاشلين ويضرب به المثل في الخيبة الثقيلة، مدمن رسوب وظل يرسب في الإعدادية حتى قررت الدولة أن تغير نظام التعليم بتخفيض سنوات الدراسة في المرخلة الاعدادية من أربع سنوات إلى ثلاث سنوات، فوجد نبيل نفسه يهبط من الرابعة إلى الثالثة، وذبحت أمه عنزة فرحا بحصوله على الشهادة الاعدادية، وتكررت المأساة في الثانوية العامة، وظل يرسب حتى قررت الدولة أن تصفي نظام البكالوريا وتستبدل به شهادة الثانوية العام، وفي أكازيون حكومي قررت الدولة أن تتخلص من كل طلاب النظام القديم، بأن لا ينجحوا فحسب ولكن بالتساهل في التصحيح والإغداق عليهم في الدرجات، فلم ينجح نبيل زكي فحسب لكنه حصل على مجموع مرتفع من الدرجات أهله للإلتحاق بكلية الطب! - نبيل شاطر ودخل الطب من شطارته! هكذا راحت أمه تردد ذلك متباهية به، وتعوض السنوات الطويلة من تعثره ورقبتها التي أضحت أمام الجيران مثل "السمسمة"، والذي لم يكن يجلب لها إلا المشاحنات والعار، وأشترت له- قبل بدء الدراسة - ثلاثة معاطف بيضاء من شيكوريل ولم تتوقف عن تعليقها منشورة في شرفتها وكأنها رايات النصر. وبعد مرور أربعة شهور على الدراسة، بينما كنا في طريقنا لنلعب مباراة في الكرة الشراب في منطقة الوايلي وكنت أمشي إلى جوار نبيل، الذي قال لي: - تصدق بالله لم يدعني نبيل ارد فأردف على الفور: - أنا لم أذهب إلى الكلية منذ ثلاث شهور. لم أعلق وسبقني في المشي، ورحت أرقبه وهو يسير في رشاقة، وقد ارتدى نعلا بلاستيكيا رخيصا وصغيرا، وكعب قدمه يطئ أرض الشارع.
-4
لم يرسب مبيل في كلية الطب لكنه خلال سنتين كان استنفذ مرات الرسوب، وفصلته الكلية وحولت اوراقه إلى كلية التجارة - نبيل إبني شاطر ونبيه... لكن أصحابه هم من يخيبون أمله هكذا راحت أمه تردد بلا انقطاع مدافعة عنه أمام الجارات، وفي أغلب الظن أنها كانت مقتنعة بهذا، فقد اتخذت قرارا عمليا في هذا الشأن، فقد أقنعته بأن ينتق من تجارة القاهرة إلى تجارة الاسكندرية، بعيدا عن رفاق السوء الذين خيبوا أمله، وكلفت والدة نبيل صديقنا بكر خليفة المعروف بالجدية والرزانة ويدرس في حقوق الإسكندرية، أنيكون نبيل تحت رعايته، وأذعن نبيل وانتقل إلى الأسكندرية، ودبر له بكر خليفة حجرة مناسبة في منطقة الإبراهيمية. - نبيل!؟... نبيل لا أمل فيه وحالة ميئوس منها هكذا قال لنا بكر خليفة وقد وقفنا على الناصية، وأردف: - أنا قلت هذا لمحمد شقيقه - لماذا لا أمل منه؟ - سكن في الإبراهيمية بالقرب مني، ومارس تأثيره السئ على شباب الشارع، فجعلهم مقامرون، وتحولت غرفته الصغيرة إلى وكر للمقامرة والحشيش والنساء - والعمل؟ - العمل عمل ربنا.
وكما فصل نبيل زكي من طب القاهرة فٌصل من تجارة الإسكندرية، ولأنه لم يعد طالبا، زال السبب في تأجيل التجنيد، وفوجئنا بشيخ الحارة يطلب نبيل زكي عليوه للتجنيد الإجباري، وتم تجنيده، ولكنه لم يطق صبرا على الجيش والجندية والانضباط، بعد عدة شهور لم يعد من الاجازة إلى وحدته، ومكث في البيت، وعاد إلى حياته اللاهية، الكرة الشراب في يوسف الجندي والمقامرة في مقهى العنبة مع الحثالة تدخين الحشيش في غرزة الجباصي في سوق الأثنين والعودة إلى البيت فجرا، حتى فبضت عليه الشرطة العسكرية ورحلوه إلى وحدته، ونال محاكمة عسكرية سريعة بتهمة " الغياب "، ووقعت عليه عقوبة " الحبس " ثلاثة شهور يقضيها في سجن الوحدة، وبعد شهرين، وبفضل " نعومته " الشديدة، وتظاهره المدهش بالطيبة والرقة والود الشديد، استطاع نبيل أن يخدع حراسه، فقد اوهمهم أنه يعيش أزمة كبيرة لأن أمه مريضة للغاية ويتمنى لو يراها نصف ساعة فحسب، ورق قلب الحارسين الريفيين لمطلبه الذي يدعو للشفقة، وخرجوا به سرا واصطحبوه إلى البيت، وأستطاع أن يخدعهما وأن بلوذ بالفرار فخرج من باب غرفة المسافرين التي لها بتب بفضي إلى السلم، وبعد نصف ساعة كان الجنديان الحارسان يندبان ويولولان وقد أدركا أنهما سيدخلان السجن عقوبة لهما على فرار نبيل زكي.
-5
ذات مساء وكنت في عيادتي، وبعد أن انتهيت، دخل شعبان الممرض وقال وهو يبتسم ابتسامته الكلبية : - واحد في الخارج طلبت منه الكشف ولكمه رفض ويقول أنه صديق سيادتك! - من؟ - نبيل زكي عليوه مرت سنوات طويلة تخرجت وتزوجت وانقطعت بننا الأسباب، وهاهو زعيمي القديم يظهر بعد سنوات طويلة - دعه يدخل عانقني في حرارة وود صادق وجلس فطلبت القهوة والماء المثلج - أنا سعيد جدا بما وصلت إليه.. وكنت أتابع مسيرتك الرائعة هكذا قال وأردف - والحقيقة أنت تستحق كل خير - أشكرك... وأنت؟ - أنا تمام... خطبت واستعد للزواج - ألف مبروك - وأعمل في السيدة زينب لم يزد، ولم أقل له ماذا تعمل، وأغلب الظن أن طالب الطب السابق يعمل سفرجيا أو قهوجيا أو ما شابه من المهن الرثة، كل هذا ظهر من ثيابه ومظهره البسيط كنت مضطرا للإنصراف لارتباطي بموعد عائلي، فسكت برهة وجدته ينهض وقد فطن إلى رغبتي في انهاء اللقاء، اعتذرت له في صدق واكدت له أنني أريد أن نواصل صداقتنا الحميمة، وأشرق وجهه بالسرور. - لى خدمة عندك هل تسمح لي - طبعا ... تفضل - حماتي أسنانها الأمامية مخلوعة هل من الممكن أن نركبها لها - جدا ... جدا أعطيته موعدا لى نبدأ العمل وجاء في الموعد، ودخل شعبان الممرض يبلغني بوصول الأستاذ نبيل زكي، ودخل وفي صحبته امرأة تقترب من الخمسين لها بطن كبيرة وقد كحلت عينيها بكثافة ملحوظة، ولها وجه - على العموم - لا يطمئن، قمت بالواجب وانتهيت من العمل، وعرض غلى استحياء أن يسدد الأتعاب، فرفضت في حسم، فتهلل بالفرحة وبالدعاء - أريد ان نستعيد لقاءتنا هكذا قال - أريد أن نستعيد الماضي في الزمان والمكان هكذا قلت وأنا أرقب شعره الأسود الناعم بلا أثر للشيب - نأخذ موعدا... نلتقي في العاشرة عند فندق شبرد - ستجدني هناك في العاشرة وسأنتظر الموعد على أحر من الجمر انصرف نبيل زكي وحماته ورحت أفكر في حجم التردي الذي وصل إليه زعيمي القديم، وأفقت من شرودي وانا أستعد للمغادرة على صوت الممرض شعبان يقول وهو عابس الوجه - صاحب سيادتك؟ - الأستاذ نبيل؟ ما شأنه؟ - كدت أن أفعلها معه لأنه لم يحترم نفسه؟ شعرت بالانزعاج لتطاول شعبان الوغد على نبيل الذي تربطه بى صلة - لماذا؟ - دخلت أعد الشاي، وتركته هو والمرأة التي معه يجلسان وحدهما في الصالة، وخرجت فوجدته يقبلها - يقبلها؟ - نعم يقبلها قبلة عنيفة - ماذا تقول؟ - وجدته يقبلها فنهرته وقلت له أن العيادة مكان محترم وأن عليه أن يحترم نفسه1 - معقولة راح شعبان يقسم ويحلف أنه لا يدعى عليهما، ولم أصدق حرفا من ادعاءات شعبان لسببين، أولهما أن ذمة شعبان مطاطة ولا يعول عليها مطلقا، وثانيا لأان المرأة حماة نبيل زكي لا علاقة لها بالأنوثة من قريب أو من بعيد، وان شعبان على سحنته التي تقطع الخميرة من البيت به أنوثة تفوق أنوثة تلك المرأة الشنيعة، قلت لنفسي أغلب الظن أن شعبان كان يروم بقشيشا سخيا فلم يظفر به، فألف تلك القصة التي لاتصدق.
-6
جلسنا على الكورنيش خلف فندق شبرد كما كنا نفعل منذ خمسة عشرة عاما، كان النيل أمامنا غارقا في الظلام والصمت، وانعكست من الكازينو في الضفة الأخرى الأضواء الملونة على صفحة النهر، ورف نورسا أمامنا على صفحة النيل، وعبر الفندق القريب، سرت أغنية طروب. - هل تتذكر أيام أن كنت طالبا بكلية الطب هكذا قال. لم تكن المرة الأولى التي يستعيد فيها أنه كان طالب طب، لاحظت أنه يختلق حديثا لا علاقة له بأي شئ سوى أن يكرر" عندما كنت طالب طب " شعرت بالأسى له وأنا أرقب مظهره الرقيق، وتذكرت أن الحياة قاسية للغاية وبلا رحمة، ومن " يهجص " معها ستلقنه الدرس الذي لم يكن يخطر له على بال. - كيف حال حماتك؟ - كويسة... تبعث لك بالسلام - بالمناسبة أين زوجها؟ لقد رأيته معك على مقهى العنبة - نعم... رجل نطع كان يأتيني على القهوة ليحتسي شاي بالحليب على حسابي - وأين هو الآن؟ - طفش... بلغ فرار - كيف؟ - عمل استبدال معاش وأخذ النقود وفص ملح وداب - اختفي نهائيا؟ - لاأحد يعلم عنه شيئا... انقطعت أخباره وترك زوجته وبيته وابنته وشقيقتها... الآن عندي مشكلة مع مراته ... حماتي؟ - خير - حامل... - حامل؟ كيف وزوجها مختفي، ومن الفاعل؟ هل تعرف؟ - حامل مني أفقت ولم أصدق ما سمعت - حامل منك؟ حماتك؟ - نعم - يخرب بيتك .. كيف؟ - عادي - كيف؟ هذه مصيبة - فعلا مشكلة - كيف حدث الله يخرب بيتك - كنت أدخل معها الغرفة - أين - في شقتها في الناصرية، كنا ندخل الغرفة ونغلقها علينا بالمفتاح - وخطيبتك؟ كنا نقول أننا نتكلم في الجهاز - تتلكموا في الجهاز ؟ - نعم ماذا نشتري ومن أين.. - ماذا فعلتما في بطنها وهي تكبر - لاشئ فهى أصلا بطنها كبيرة تنهدت وأنا أرمق زعيمي القديم بنظرات ثاقبة وأنا تتملكني رغبة عارمة أن أخترق جمجمته الصغيرة لأعرف ماذا يدور في عقل عذا الكائن العجيب. - ليست المرة الأولى - يا نهارك الأسود ... ماذا تقول... ليست المرة الأولى؟ - نعم في العام الماضي حدث الحمل - وبعد؟ - عندما اقترب موعد الولادة اصطحبتها إلى مستشفى الجلاء للولادة، وحجزوها بها - وبعد؟ - ولدت طفل.. - طفل؟... ولدت طفل؟ - نعم... انتظرنا قبيل الفجر وتسللت وخرجت به وكنت انتظرها خارج المستشفى وذهبنا بالطفل إلى ملجأ في الزيتون، ووضعناه على الباب اصابني الذهول، ورنوت إلى النافورة التي تتوسط النيل بألوانها البديعة، النيل الذي يتدفق وعلى ضفافه تنسج المأسي والمصائر، ألقوا به على باب الملجأ؟ - هذا معناه أنك لك إبن الآن في هذه اللحظة يعيش في الملجأ تنهد مدعيا الأسف وقال في تسليم - نعم - وحماتك حامل للمرة الثانية؟ - بنت كلب لم تأخذ الحبوب - لم تأخذ الحبوب هكذا رددت في بلاهة ساد صمت ثقيل بيننا وشرد كل منا في أفكاره، وبعد برهة وجدت نفسي أقول له - كل عقدة ولها حلال رد على في بساطة وقال - فعلا كل عقدة ولها حلال ا
ا الامتحان
في ليلة شتوية من ليالي شهر ديسمبر، جلس طالب الطب إسماعيل فهمي يستذكر دروسه، استعدادا لاختبار مادة الميكروبيولوجي، تلك المادة الجافة التي تعتمد على الحفظ، لقد ذاكرها أكثر من مرة، وهاهى في خضم استعداده ومراجعته لبقية المواد، يجدها و قد تبخرت من ذاكرته، كانت الساعة الثامنة، أمامه ليلة طويلة، سيستعيد الميكروبيولوجي في ذاكرته في ستة ساعات وربما ثمانية ساعات، سيراجعها بكل جدية من الثامنة حتى الخامسة فجرا وربما السادسة، ثم سينام إلى العاشرة فيراجعها ساعة أخرى، ثم يتوجه إلى الامتحان في الثانية عشرة ظهرا. - زميلاك علي وعادل هكذا قالت أمه وأدخلتهما عليه، رحب بهما وخرجت أمه لتعد لهما الشاي وغمغمت لهم بالنجاح والتوفيق، شعر بالدهشة وظن أنهما حضرا لي يذاكرا معه، فشعر بالقلق والحيرة، اعتادا أن يأتوا إليه فيتولى شرح المادة وتلخيصها لهم، فيستفيد من ذلك استفادة هائلة، من ناحيته فالشرح يثبت المعلومات في عقله، ويستفيدا من الشرح بتسهيل المذاكرة والحفظ، وتذكر أن كلاهما دخلا كلية الطب باستثناءات من المجموع في الثانوية العامة، على المغربي والده أستاذ جامعي، وأبناء الأساتذة يحق لهم ذلك الإستثناء، أما علدل عبد الفتاح الخمري اللون فكان استثناءه بسبب تفوقه الرياضي، فهو كابتن فريق نادي " س" في لعبة الهوكي، فكر إسماعيل في أنهما لو ظنا أنه سيتفرغ للشرح لهما الليلة فهما واهمان، يريد أن يخلو إلى نفسه وللمايكروبيولوجي بغباوتها وسيتغلب عليها بإذن الله، فقال إسماعيل في تحفز - خير قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي - ابن الوسخة علي معه بلابل؟ - بلابل؟ هكذا قال إسماعيل - بلابل من التي يحبها قلبك دعه يرى البلابل يا ابن الكلب كانت الشتائم التي يتبادلوها من باب حميمية الصداقة والزمالة، أخرج على المغربي من الكيس البلاستيكي الذي يحمله عددا من زجاجات البارفان الحريمي الفاخرة وخاتم ذهبي صغير. فهم إسماعيل الحكاية كلها، وعرف أن عادل عبد الفتاح ذهب إلى علي المغربي في بيته في مصر الجديدة، بغرض أن يذاكرا سويا استعدادا للإمتحان في الغد، وكانا كلاهما من الفاقدين، وجلسا أمام مذكرة الميكروبيولوجي وكأهما طور الله في برسيمه، ومن باب تزجية الوقت فتح على المغربي دولاب أمه، فشاهد عادل عبد الفتاح الدولاب وبه حقيبة كبيرة مكتظة بالهدايا الثمينة التي يشتريها أبيه من السوق الحرة ليهديها إلى زوجته والدة على المغربي، فالدكتور المغربي عالم الجغرافيا الشهير والحاصل على الدكتوراة معار بشكل دائم في الدول العربية، واقترح عادل عبد الفتاح على علي أن يختلسا عددا من زجاجات العطور الباريسية، وأن يتولى عادل بيعها في قصر النيل، وأن يأخذا حصيلة البيع ليقضيا سهرة رائعة في كباريه الناسيونال في شارع قصر النيل - نأخذ كأسين.. وشاهد الرقاصات.. وممكن نأخذ معنا امرأة - شقة جدتي في الكيت كات فاضية - حلو جدا - هيا هات البلابل توقف على المغربي وأغلق الدولاب وقال - لن آخذ شيئا - لماذا؟... نريد أن نفرفش الليلة - والامتحان غدا؟ ... الميكروبيولوجي - هاهى المذكرة أمامك ... لن نستطيع أن نذاكر اربعة ورقات.. صح؟... صح أم لا؟ أمسك على المغربي المذكرة وراح يفر الأوراق الثمانين المطلوبة في الامتحان وقال في تسليم - لا... لن نستطيع... . - لمذاكرة هذه الكمية يلزمنا شهر على الأقل... صح أم لا؟ - صح اقتنع على المغربي بمنطق عادل عبد الفتاح، لكنه اشترط على عادل أنه لن يأخذ البلابل إلا اصطحبا زميلهم المتفوق إسماعيل فهمي. - إسمع يا علي.. أنا سأريحك، سوف نمر على سعيد، نأخذه معنا لكي نستخدم سيارته، ونبيع البلابل، ونمر على إسماعيل فهمي - بسيارة سعيد... ماشي - ولكننا لن نخبر إسماعيل فهمي بأننا سنذهب إلى الكباريه.. لن يأتي معنا فهو " دحيح " ولن ينزل ليلة الامتحان إلا لو قلنا له أننا سنلتقط نسوان من شارع نوال لأن شقة جدتك في الكيت كات خالية - وامتحان الغد؟ - ممكن اللجان تكون سهلة... - ممكن - وإن لم تكن سهنة... هذا امتحان أعمال سنة... والتقيل وراء... الدرجات معظمها في امتحان نهاية العام، سنعمل المعسكر المتين وسنقضي شهرين لاشئ نفعله سوى المذاكرة.. مثل العام الماضي والعام الذي سبقه.
-2-
- شقة جدتك خالية؟ هكذا سأل إسماعيل فهمي في جدية شديدة - فاضية والله هكذا أجاب عادل عبد الفتاح وأردف - ارتدي ثيابك بسرعة كي لا نبدد الوقت. شعر صاحب المنزل الطالب إسماعيل فهمي بالحيرة الشديدة التي تصل إلى درجة التعذيب، فهو مولع بالجنس، جربه مرة في شقة فوزي أنور مع مومس فلم ينسى المتعة الحسية التي لا مثيل لها، لقد سمع من أحد الأطباء في التليفزيون أن الشاب يقع تحت سيطرة الهرمونات التي تلغي عقله، وشعر أنه واقع تحت سيطرة الهرمونات، و الميكروبيولوجي؟ كيف سيذهب إلى الامتحان وهو لايتذكر من الثمانين صفجة سوى ضبابيات لاتذكر - كم الساعة الآن؟ هكذا سأل عادل عبد الفتاح - السابعة والنصف - في العاشرة سنعيدك إلى هنا، منتعش بممارسة الجنس الجميل مع امرأة من نسوان شارع نوال، ستعود وقد تخففت من الرغبات التي تضنيك، لن أقول شيئا ولكن سأقول لك تخيل ان امامك امرأة عارية .. تخيلها وأعطني عقلك !! - والميكروبيولوجي؟ - سنعود في الحادية عشرة - ورانا ورانا...أين سنذهب منها ومن غباوته!ا هكذا قال على المغربي صاحب البلابل وهو يتذكر أستاذ المادة الذي أطلقوا عليه عباس" كوكاس " - هيا أرتدى ثيابك لا تضيع الوقت، دعنا نرفه عن نفسنا قليلا، نتخفف قليلا من الرغبة الفظيعة، هل تصدقان انني لا أنقطع عن التفكير في الجنس. "سوف ننتهى في العاشرة" هكذا قال إسماعيل لنفسه وقد استسلم للإغراء والغواية، لو لم يقولوا له أنه مدعو للمارسة الجنس، لا توجد قوة على الأرض قادرة على زحزحته عن مراجعة الميكروبيولوجي، ألم يقل فرويد أن الجنس محرك التاريخ، فل يعجز الجنس بكل جبروته عن تحريك إسماعيل فهمي وهو مجرد طالب متفوق لا راح ولا جاء راح إسماعيل فهمي يرتدي ثيابه بسرعة وانتبه من أفكاره التي يبرر بها ضعفه المشين أمام شهواته، على دخول أمه - هل ستنزل؟ شعر بأنه يهوي من حالق، جائك الموت يا تارك الصلاة، ماذا يقول لها تلك المرأة الطيبة التي يعتبرها تجسيدا حيا لإنكار الذات والتفاني في أبنائها - ساعة واحدة... ساعة واحدة وسأعود،.. امتحان الغد تم تسريبه، والامتحان حاليا عند عز الدين القليوبي، سأعرفه وسأعود فورا، لن أغيب. - ربنا ينجح لك المقاصد... سأنتظر عودتك لم يرد عليها وهو يشعر بالخزي الشديد، وغادر مع زميلية على المغربي وعادل عبد الفتاح ببشرته الداكنة وقوامه المتين ووجهه الشعبي الملامح، ومنحتهم أمهم " في أمان الله "
-3-
عندما نزلوا وجدوا زميلهم على سعيد ينتظرهم داخل سيارته، ليست سيارته ولكنها سيارة أبيه الموظف الكبير في مصلحة الكهرباء، تصافحوا و أقترح إسماعيل أن يضموا عز الدين القليوبي الذي يقطن في الجيزة، فمروا عليه. وعادوا بالسيارة إلى وسط البلد، وتولى عادل عبد الفتاح ومعه على المغربي بيع المسروقات، وعادا وهم يتشاحنان لأن على المغربي يتهم عادل عبد الفتاح تواطئ مع البائع واختلس خمسة جنيهات لنفسه، وانطلقت السيارة - لما أختليت بالبائع ماذا قال لك؟ هذه أولا، وبعد أن ناولني النقود، لماذا رجعت له وقلت أنك نسيت سجائرك، وأنت تخفي علبة سجائرك في الشراب انفجر عادل عبد الفتاح في الضحك.. فتوجه على المغربي إلي المجموعة بالسؤال قائلا: - صح ولا لأ.. - لا... لأنه لا يشتري سجائر أصلا... ويعتمد على سجائرنا - أليست البلاد تتبنى المذهب الإشتراكي.. نحن نطبقها لا أكثر هكذا قالت التعليقات فقال على سعيد الذي يقود السيارة - إلى أين؟ - الوقت يمر يا ابناء الأفاعي ولم نراجع المايروبيولوجي... سنذهب إلى شارع نوال... شارع نوال دعك من هؤلاء الصياع - يبدأ الفسق من كورنيش العجوزة - نبدأ من مجطات التروللي باس على الكورنيش، بعرض مستشفى العجوزة - شارع نوال أولا... كانت شوارع منطقة العجوزة خاوية وموحشة ومظلمة، ولاسيما الكورنيش، والمصابيح القليلة تعتصر نورها الذابل، واعتصر الألم قلب إسماعيل لأنه يبدد وقته مع هؤلاء الضائعين، لولا الجنس لتركتهم فورا، وتذكر أمه ودعواتها فشعر بوخزة في قلبه، وراح يفكر في علي المغربي وعلاقته الغريبة بأبيه، وهو الولد الأكبر الذي دللته أمه، فأصبح يسرقها ويسمي المسروقات "بلابل" أما بيعها فيطلق عليه" تسويح البلابل " وفكر اسماعيل أن علاقته بهؤلاء الصياع كانت السبب في أن تسوء سمعته في الدفعة، وكثير منهم يحبونه ويقدرونه لتفوقه وأدبه. - ولا واحدة هكذا قال على سعيد القابع خلف عجلة القيادة، الذي راح يبطئ السيارة ويمشي بها إلى جوار الرصيف، وانتهى من شارع الكورنيش ودخل إلى شارع نوال، وتهادى بها وعبر باعة الفاكهة الجائلين وعلى نور الكلوبات والمصابيح القوية تلألأت تلال البرتقال والموز - نقضيها سجائر وموز هكذا قال على المغربي متهكما - نذهب إلى ميدان التحرير - بعد ميدان التحرير علينا بميدان كصطفى كامل، هناك كباريه " كوبانا" - هل ندخله؟ - لا... ربما سألنا قوادا يقف على الباب، وربما وجدنا امرأة خارجة لتوها فنصطادها - أين سنبحث في ميدان التحرير - مجطة التروللي خلف لاباس، حديقة الزهور أمام المجمع، عند النافورة، وخلف مسجد عمر مكرم تلك مناطق تجمعات الموامس، هذه منطقتي يا جماعة لأنني أسكن بالقرب من الميدان هكذا قال إسماعيل وهو يتألم لأن الوقت يمر والميكروبيولجي مثل كالسيف الذي سيقطعه لا محالة ، ودارت السيارة وانطلقت نحو الشيراتون وانحنت يمينا لتدخل إلى كوبري الجلاء، كانت الشوارع مقفرة، وكافيتيريا أسترا خاوية إلا من ثلاث زبائن جلسوا في موائد متباعدة، ومحطة التروللي خاوية إلا من رجل بلدي ومعه صبي - الساعة ما زالت التاسعة، وفرصتنا أفضل كلما تأخر الوقت - والامتحان؟ - لف من شارع منصور... - سوق باب اللوق؟... لا داعي للتهريج!! لفت الجماعة ودارت بالسيارة في الشوارع المظلمة يفتشون عن صيد يقضون بها ليلتهم كما خططوا لها، ولكن جهودهم ذهبت سدى، لم يجدوا غير شوارع مقفرة ومحلات مغلقة والميادين الخاوية إلا من مصابيحها التي تعتصر الأنوار وكأنها الحلي الذهبية وقد رصعت الليل الذي بدا كأنه المخمل الأسود. - أفضل شئ أن نذهب إلى المنبع - يالك من فيلسوف.. وأين ذلك المنبع يا فيلسوف؟ - الكباريه نبع الموامس والعاهرات - لا فض فوك يا مسئول الفسق في دفعتنا... إلى الكباريه هكذا قال إسماعيل متوجها بحديثه إلى عادل عبد الفتاح، فضجت السيارة بالضحك، وشعر فجأة بوخزة في قلبه وهو يتذكر وجه أمه المتغضن ونظرتها الطيبة وهى تدعوا له بالصلاح وبالفلاح. وأفاق من شروده وقال في وهن - أنزلوني هنا لأعود للبيت - على جثثنا... إما أن نفسق سوا... أو نذاكر سوا.. والليلة حرام فيها العلم. استقر الرأي على كباريه "الفيروكيه" وهو الملهى الليلى لفندق الناسيونال في شارع سليمان باشا، لقد جرى الزمن على الفندق والكباريه الذي بات شعبيا، ودفع علي المغربي صاحب البلابل تذاكر الدخول، وجلست الجماعة على مائدة تجاور البيست، وأحتسوا الشراب، ولعبت الخمر المغشوشة برؤوسهم، وصيحوا كثيرا، وحجز الأمن بينهم وبين مجموعة من الشباب الليبي، وصفقوا وهللوا ومر الوقت سريعا وغادروا بعد أن دفعوا الحساب، وكانت الرابعة فجراً.
-4-
" ماذا فعلت بنفسك " هكذا قال طالب الطب إسماعيل فهمي وصداع رهيب يحطم جمجمته، أضاع ليلته وهاهو من شدة السكر لايكاد أن يجد ثقب الباب ليضع في المفتاح، وهاهو الباب يفتح، ليجد أمه تقف - صباح الخير هكذا قالت وهى تفسح له لكي يدخل وترمقه في محبة تصل إلى درجة الوله، وزادت نظرتها الحانية من عذابه، لماذا لا تقوم القيامة؟ لو انشقت الأرض وابتلعته لما كان عذابه كما يشعر الآن. - كنت أصلي الفجر، فوجدتك تعبث بالمفتاح... ذاكرت؟ - آه... هكذا أجاب في اقتضاب ةالندم ينهشه. وشعر بالماء البارد يغمر رأسه ووجهه وقد وضع رأسه تحت الصنبور، وتذكر المشاجرة السوقية التي دخلها مع الشباب الليبي، وشعر بالخجل لترديه إلى ذلك المستوى" سكران في بار و مشاغب فقد عقله في كأس" - ماذا فعلت... قاطعها قائلا: - تمام الحمد لله وقف في الحمام يجفف رأسه ووجهه وصداع رهيب يحطم رأسه، قالت أمه - سأعد لك إفطارا خفيفا وتدخل لتستريح حتى موعد الأمتحان..سأبقظك في العاشرة، امتحانك في الثانية عشرة - لا... سأكمل ولن أنام.. - ستظل مستيقظا حت الإمتحان؟ - نعم... أنا لا أريد إفطارا.. أنا أريد أسبرينتين وقدح من القهوة، أريدها دوبل، في الكوب الكبيرة. أعدت له القهوة ومعها سندويتش خفيف - كل هذا أولا هل يقول لها أن الخمرة المغشوشة التي احتساها في كباريه ترسو بنقود زميل فاسد سرق أمه وأبيه، تلك الخمرة تمزق له معدته، ليته تقيأ فيرتاح، لكن القئ لم يسعفه، وكأن معدته قررت أن تنتقم منه من أجل أمه، تلك الدجاجة الطيبة العجوز التي تقئقئ لتربيته وشقيقيه، مات أباه منذ عشر سنوات، عن تجارة تحمل عبئها ابنها الأكبر الذي لا يتورع عن سرقة اخوته بتحريض من زوجته، وتحملت الكثير من أجل تربيتهم، خاب أملها في الأربعة اولاد، ويعرف أن أمه تتعزى به، تحبه لأنها المطيع الذي لا يرهقها بطلبات مدللة، تحبه لأنه يعرف واجباته فيستذكر دروسه من تلقاء نفسه، شرفها أمام المتلمظين بها غيرة وحسدا والتحق بكلية الطب بمجموع عالى، يحصل كل عام على مكافئة من الكلية لحصوله على تقدير جيد جدا، أما شقيقيه الأصغر منه بعامين وشقيقه الأكبر منه بعامين فهما مدللان يرهقانها بالطلبات التي تعكس عدم شعورهما بها ولا بالمسئولية الملقاة على عاتقها، إهمالهما لدروسهما تعثرهما في دراستهما. جلس إسماعيل على مائدة السفرة المستديرة، وربتت أمه على كتفه في حنان وقالت: - هل أعمل لك شيئا... - لا... - ربنا ينجح لك المقاصد انصرفت أمه وتركته وجها لوجه مع مذكرة الميكرو بيولوجي الضخمة الرديئة الطباعة، وورقها الخشن السئ، وهاهي الصفحات الثمانين بطلاسمها تتحداه، وهاهو الصداع الرهيب يحطم رأسه، لن ينام مهما أصابه، سيتحمل الصداع و آلام أحشائه وسخافة المكروبيولوجي لكي لا يشعر بالمزيد من الذنب، ونظر من النافذة القريبة ونور الصباح الأزرق الفاتح يخيم على السماء في روعة، وآشعة الشمس الذهبية تتسلل من الأفق وقد تغطت بسحابات رمادية وفضية، اتهم نفسه بالاستهتار وبالتفاهة وبقلة الاحترام، ونظر في الساعة، لقد مرت نصف ساعة، لم يستذكر سوى خمس صفحات، وعندا اختبر نفسه في التحصيل لم يستطع استعادتهم من الذاكرة، شعر باليأس الأسود ينتابه، اليأس ترف لا تملكه، عقوبتك أن تستمر وأنت تعرف أن لا جدوى، فلن تستعيد أكثر من عشرة في المائة من المطلوب في الامتحان خلال الثلاث ساعات المتبقية على الامتحان، حيث ستبيض وجوه وستسود وجوه. على مثل ذلك النحو جرت أفكار إسماعيل، وقرر أن يتبع سياسة "التنشين" أن يختار عددا من الموضوعات التي يرجح أن تأتي في الامتحان، وراح يدعو الله في حرارة، أن تترفق به الأقدار هذه المرة فحسب، فيجد تخميناته في ورقة الامتحان، ولن يكررها ثانية، ليس من أجلي أنا، بل من أجل المسكينة التي صدقتني وأنا العابث المستهتر الذي أستحق الحرق. وفي العاشرة والنصف أخذ حماما ساخنا وارتدى ثيابه ودعوات أمه تلاحقه شعر بها وكانها الجمرات التي تلقى على إبليس.
-5- تجمعت الشلة في الكوريدور أمام المدرج - هل راجعت الميكرو أم نمت على الفور - نمت مثل القتيل، وكيف أراجعها وأنا لم أذاكرها أصلاُ هكذا قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي وهو ينظر إلى إسماعيل الذي وقف عابسا لا يتكلم ولا يشاركهم الحديث لم يرد - مالك؟ هكذا قال عادل - لماذا جئت بعلى المغربي إلى، لماذا راح عادل يقسم بأنها فكرة على المغربي الذي قال أنه لن يأخذ البلابل ليسوحها إلا إذا جئت معنا - لعنة الله على ديك أمك لديك أمه هكذا قال اسماعيل في سخطوغضب، في ذلك الوقت كان على المغربي يستعيد المشادة بينهم وبين الشباب الليبي. وتبين أنهم لن يدخلوا سويا إلى نفس اللجنة، فالشلة كلها سوف تمتحن في قاعة صغيرة، وأنه سوف يمتحن في القاعة الصغير المواجهة لها. دخل إسماعيل إلى اللجنة وجلس في الصف ما قبل الأخير، وجائت ورقة الأسئلة، طيلة عمره وهو يحسب ألف حساب لرهبة الامتحان والمرور السريع على الأسئلة، كأنها لحظة السؤال المرعبة وقد بعث الميت في القبر، هل تصيب تخميناتي يارب العالمين من أجل حبيبك النبي ومن أجل المسكينة أمي؟ مسح الأسئلة بعينيه ولم يجد تخميناته، خابت كلها فلم تصب إلا ربع سؤال من أربعة اسئلة، كل سؤال من أربع نقاط، هذا معناه أنه لا يعرف إلا نقطة واحدة من اثناعشرة نقطة، "ضعت يا إسماعيل" هكذا قال لنفسه. أجاب عن الفقرة الوحيدة التي يعرفها، وبدت له بقية الاسئلة كأنها الطلاسم، وحاول أن يسأل جاره فنهره المراقب في غلظة وهدده بأن يخرجه، وقضى إسماعيل الساعتين وهو في كرب لم يشعر به من قبل، وتعاسة لا حدود لها، ولم تغب أفكاره المضنية عن أمه، فكر في وجهها البرئ وهى تدعوا له وهو يخدعها أنه سيخرج لأن الامتحان قد تسرب. فكر في شقائها عندما تشاحن شقيقيه بالأمس القريب، وتطورت المشادة إلى تضارب، فدخلت بينهما فنالت بالخطأ لكمة عنيفة أسالت الدماء من فمها!! فكر في فمها الأهتم وقد فقدت معظم أسنانها وطاقم الأسنان الصناعية التي تستخده، جسدها الثقيل وقد هزلت وساقيها المقوستين من تهالك مفصليها، لماذا لا تنشق الأرض كي تبتلعه؟ لماذا خذلتها؟ - مضى نصف الوقت من الممكن أن ينصرف من انتهى من الإجابة هكذا قال المراقب بصوت عالي، فخرج عدد من الطلاب وسلموا ورقة الإجابة وانصرفوا الواقع يقول أن أسلم ورقتي الهزيلة وأنصرف، لكن لا، سأشرب كأس الذل حتى آخره، وظل إسماعيل في مكانه، والأفكار السوداء تعذبه وكأنها الجرح الذي يدفعه لكي يهرش فيه فيتألم فيزيد الألم من الرغبة في المزيد من الهرش وهكذا، ومضى الوقت وسلم الورقة، وخرج ليجد الشلة واقفة تتحدث وتضحك - ماذا عملت؟ هكذا قال على المغربي صاحب البلابل - زفت؟ راح يضحك في هيستيريا وتوجه بالحديث للشلة - يقول أنه عمل زفت - وماذا عملت؟ هكذا قال إسماعيل فهمي متعجبا - غششنا... المراقب طلع هايل قال لنا من معه " حاجة " يطلعها واكتبوا من سكات - وطلعتم كتب؟ - نقلنا من المذكرة... روعة، وأنت؟ - زفت.... تركهم دون كلام وأشعل سيجارة ومشى في الكوريدور وتذكر وجه أمه وهى تكاد أن تسقط على وجهها من اللكمة الطائشة التي نالتها، وفكر الطالب المتفوق إسماعيل فهمي في فكرة الانتحار.
.
في البن البرازيلي -1- اانتهى الطبيب الشاب إسماعيل فهمي من آخر مرضاه في عيادته الشعبية في حى الظاهر، وصرف الممرض شعبان وخلا إلى نفسه، لقد اعتاد أن يخرج النقود التي دفعها مرضاه كأتعاب، أن يخمن مهن مرضاه بالتدقيق في الرائحة المرتبطة بالأوراق النقدية التي دفعوها كأتعاب، فذلك بائع طعمية، وهذا بياع سمك، وتلك امرأة متفانية في غسيل الصحون وهذا بائع لحمة راأس... إلى آخره، لكنه الليلة لم يفعل ذلك فقد دس النقود في جيبه وهو مشغول البال ومعتكر المزاج، فقد داهمته الليلة نوبة من الأحزان التي تجتاحه بين الحين والآخر، فيمعن خلالها في التفكير من في المنغصات التي تسمم له حياته، أولها تلك المشاجرة الكئيبة التي نشبت أمس الأول بينه وبين شقيقه على ميراث تافه، ومنها مشاكله في العمل كمعيد في كلية الطب واضطهاد رئيس القسم له، وعجزه عن الزواج لضيق ذات اليد. لقد تجاوز الطبيب الشاب الثلاثين عاما بعم واحد، طويل القامة لا يخلو من وسامة، لقد أطال شعرة الأجعد، وأطال سالفيه مجاريا الموضة،و رسم على وجهه نظرة استعلاء وسخرية أصبحت تلازمهة، وهى نظرة جديرة بشاب في عمره، وفتح باب العيادة ليخرج ففوجئ بمن يقف على الباب وينظر إليه، واستطاع بعد برهة أن يستعيد شخصية القادم، إنه زميله السابق سمير، سمير جي كيه كما كان يقول عن نفسه، سمير جندي كامل، جعلها من خفة عقله سمير جيه كيه - انت نازل؟ - كنت نازل... اهلا ومرحبا - دعني أدخل أولا - ادخل يا صديقي العزيز ... تفضل... أي ريح طيبة ألقت بكا ؟ ا هكذا قال الطبيب الشاب لضيفه - انا وقعت من السماء وانت ستتلقفني صمت د. إسماعيل صاحب العيادة وهو يسمع ويتأمل في ضيفه وهما يحتسيان القهوة التي أعدها إسماعيل في عجالة، مازال أنيقا كما هو، الجاكيت البيج والبنطلون البني المحروق والحذاء الهافان الأجلسيه، طويل وعريض ضخم الجثة وهرقلي القوة، وعيناه تطلقان نظرات مفعمة بالتزلف والرياء، لكن داخل هذا التزلف بصيص ماكر وزيف أكيد. - خيرا يا عزيزي ا - لقد حصلت على حكم المحكمة لكي تمنحني كليتكم الوسخة فرصة اخيرة..... هكذا قال سمير الضيف في حنق وتأذي الطبيب الشاب من لفظه" الوسخة" فهو ينتمي إلي الكلية، ووجد نفسه يجاري ضبفه المحنق فقال: - من ناحية الوساخة فهى كما تقول... لكن أى فرصة؟ - فرصة دخول الامتحان، فأنا لا يوجد عندي مواد سوى مادتكم، المادة التي تدرسوها، لو اجتزتها لوصلت للسنة الرابعة واتخرج وأصبح طبيبا مثلكم!! لاذ إسماعيل بالصمت حائرا ومشفقا على زميله السابق المتعثر البائس - ساعدنى - انا تحت أمرك لكن كيف؟ - سوف أدخل الامتحان في مايو القادم وأنا في عرضك سوف تشرح لى المادة ستشرح لى المادة شعر إسماعيل بالحيرة، لا يعطي دروسا بنقود، فيورطه سامي في درس في أغلب الظن سيكون مجانيان ثم انه لم يكن من اصدقائه المقربين منه، مجرد زميل، ورنا إلى زميله وهو ينظر إليه بنظرات متوسلة، وعينيه السوداويين يكادا ان يغرورقا بالدموع، فشعر بالرثاء له، وبعد صمت قصير وجد المعيد الشاب نفسه يقول: - على خيرة الله. قاطعه سامي ونهض وقبل رأس إسماعيل، وهو يلهج بالشكر والامتنان وكلمات من نوع لن أنسى جمائلك طيلة عمري وأنا أردد للجميع أنك أجدع واحد في دفعتنا ابتسم إسماعيل في اشفاق وخجل وقال: - أشكرك... المهم أن نتفق على مواعيد بعد انتهاء العمل في العيادة تأتي إلى وسوف أشرح لك المنهج ... وعليك بالمذاكرة. المادة جافة وصعبة، ما أن تنتهي معي عليك بمذاكرتها أولا بأول. - طبعا.. طبعا..سترى.
-2-
انظلق المعيد الشاب إسماعيل فغادر عيادته في شارع الشيخ قمر، وطالعه مبنى جامع الظاهر بيبرس الجهم الضخم في الميدان، وراح يرقب أحجار السور الضخمة ومن خلفها السماء المرصعة بالنحوم، ولف حول الميدان وخرج إلى شارع بورسعيد وهو يفكر في مقابلة زميله السابق سمير جى كيه، وفكر في الوضع الزري الذي تردى سمير إليه، وفكر أن وضعه في الحياة لا يتناسب مع تأنقه الشديد، كيف - وهو المفصول من الجامعة لاستفاذ مرات الرسوب- يقف في محل البن البرازيللي في شارع سليمان كل يوم وقد تعطر وتأنق؟ تعجب إسماعيل من طباع زميله السابق، لو كان في موضعه لمات من الهم والحزن والهوان، لقد التحق اسماعيل بالكلية ووجد سمير طالبا من طلاب السنة الأولى، تخرج أسماعيل من الكلية وسمير مازال طالبا، وقضى إسماعيل سنة الامتياز وسمير مازال طالبا، ثم أدى إسماعيل الخدمة العسكرية وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على وظيفة معيد، وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على الماجيستير وسمير مازال طالبا. لقد سمع من الزملاء في الكلية الذين يسكنون في حى شبرا، أن سمير وحيد أمه وتوفى أباه وربته أمه ودللته فنشأ ضعيف الإرادة والعزيمة، والتحق بكلية الطب باستثناء في المجموع، فقد كان سمير لاعبا في فريق كرة اليد بالتوفيقية الثانوية، ذلك الفريق الذي حصل في تلك السنة، على بطولة اللعبة على مستوى مدارس الجمهورية في، وكافأت الدولة أعضاء الفريق بحصولهم على درجات تفوق أوصلتهم للالتحاق بكلية الطب، لكى تبدأ مأساة سامي جي كيه. -3-
ساقته قدماه إلى شارع بورسعيد، فركب تاكسي - شارع سليمان باشا... سيذهب إلى بار الناسيونال، سيدفن أحزانه في كئوس البراندي المحلي القوي الرخيص، فكر أن مشكلته لا تقل سوءا عن مشكلة سمير جى كيه، سمير يتوق إلى الحصول على بكالريوس طب، وهو يتوق إلى الزواج، وكلتاهما رغبات تستعصي على المنال، عندما وصل إلى ميدان العتبة، وفي نوبة من نوبات مصارحة النفس، أعترف الطبيب الشاب لنفسه أنه مسئول إلى حد كبير عن تعاسته، وتعاسته تتلخص حاليا في عدم قدرته على الزواج لضيق ذات اليد، ومسئوليته في ذلك لأنه رفض أن يعطي دروسا خصوصية، إذ كان في استطاعته أن يعطي الدروس الخصوصية للطلاب، مثل عدد كبير من زملائه، الذين على الرغم من سطحيتهم الشديدة وافتتقارهم إلى أبسط درجات الثقافة والوعي، تمكنوا خلال سنوات من تحقيق كل تطلعاتهم العملية، الشقة الفارهة والعروس الجميلة والعيادة في الموقع الرائع وكلها من الدروس الخصوصية، لكنه اعتبر أن الدروس الخصوصية مسألة مبتذلة ورخيصة، ولخصها في كلمتين وهما " اللف على البيوت "، لكنه الليلة يعترف بأنه كان يخبئ خلف هذا الشعار الطنان حبه الجارف للحياة واللهو، وأنه استبدل اللف على البيوت" التي ستحميه من المسغبة باللف على البارات كما يفعل كل ليلة، وآية ذلك أنه ذاهب الآن إلى بار الناسيونال، وسيجد هناك الشلة من غرائب الطبيعة، وسيشرب البراندي القوي، وسيدفن في الكأس أحزانه، وسيدخن الحشيش في الغليون، وسيقضي ليلة ليلاء، صخب ضحك ولعب وغناء ومناقشات. أختار أن يحيا كما يحب وهاهو يدفع الثمن، أن تتحمل ما لا تحب، اخترت أن لا تبتذل نفسك و ولن تمتهن العلم بقدسيته في اللف على البيوت، لن تتحول من باحث وعالم إلى تاجر شنطة الذي يحمل شنطته ويلف بها على الزبائن الأثرياء و يبيع بضاعته لهم، حسنا عليك أن تدفع الثمن، والثمن هو أنك لن تستطيع الهروب من الأزمات المالية المتلاحقة وستظل تلهث لكي تطفو فحسب في بحيرة البراندي التي تحيط بك. فراتب الجامعة هزيل، أما العيادة الشعبية التي افتتحها منذ سنوات ، صحيح أنه حقق شعبية لابأس بها في المنطقة، لكن مرضاه في المجمل من الشرائح السفلى من البورجوازية الصغيرة، موظفون صغار وسعاة في مصالح حكومية بائسة، وصغار الحرفيين والأرزقية وستات بيوت يستحققن الرثاء من الفقر والأسى. ودخله الشهري من هذا وذاك بالكاد يغطيان نفقاته، فكيف يدخر الألوف اللازمة لنفقات الزواج، ومازال يتذكر مقولة كتبها كاتبه المفضل في إحدى رواياته" يطلب الرجل المرأة ولو أقعده الكساح"، فما بالك بشاب رياضي وفي الثلاثين من عمره. أنى له بزوجة تبدد وحشة حياته الجافة، وكثيرا ما يتهيأ له أنه أشبه بصبارة بائسة تنتصب وحيدة في صحراء قاحلة. إفاق من شروده على وصوله إلى بار الناسيونال. لم يصل أحد من الشلة، اختار مقعدا على البار لكي يثرثر مع البارمان أحمد، يريد أن يهرب من مواجهة نفسه بخيباته وتعاساته، سوف يزجي الوقت حتى مجئ الشلة بالثرثرة مع البارمان " أحمد " والجرسون سيد وينادونه " شجرة " - أنا مٌعلم مثل سيادتك هكذا قال البارمان وهو يصب له كأسا، وأضاف - هذه الكأس مني لسيادتك... تحية وتقدير ومعزة هذه المقدمة يجقظها إسماعيل عن ظهر قلب، ويعرف الجملة التي ستليها إذ يقول بلكنته الصعيدية: - سيادتك معلم في الطب والعبد لله معلم للفتيات المعوقات...و اتعامل مع العاهات ليلا في البار. حكى له البارمان قصته مرات عديدة، حصل على الدبلوم من المنيا، وألحقته القوى العاملة معلما للمعوقات في مدرسة بالزيتون، وأتاحت له وظيفة الساقي أن يحصل من الفندق على غرفة صغيرة فوق السطح لينام بها، وحلت له مشكلة السكن والإقامة في هذه المدينة المتوحشة، ويحب أحمد الساقي الشاب أن يؤكد للدكتور إسماعيل أنه أنه عازم على تسجيل الماجيستير، ولن يتنازل عن تحقيق تلك الأمنية الغالية. آنس إسماعيل إلى بار الناسيونال، آثار مجده الغابر مازالت بقاياه ماثلة تتباهى بنفسها، المساحة الفسيجة والسقف العالي المزين بتهاويل الركوكو، النوافذ المرتفعة التي تطل على الشارع الجانبي ، الستائر مخملية فاخرة بلون النبيذ تغطي النوافذ، البيانو الكبير وقد انعكست علية الإضائة الصفراء الكابية التي تعتصرها المصابيح الحزانى في شحوب ، البار العريض بلون البن المحروق والمرايا البلجيكي الكبيرة والرفوف الكريستال تحمل زجاجات الخمر الملونة. فكر في سمير جى كيه، كان من المفترض أن يعتذر له، بعد العمل في طوال اليوم في الجامعة وبعدها في العيادة، وبدلا من أن يرفه عن نفسه بكأسين أو سيجارتين وصحبة حلوة ورفقة ممتعة يطلع له سمير جى كيه، ولم يكن يوما صديقه ولا عشم له! وجائت الشلة والتأم الشمل وضج البار بالضحكات والمناقشات وعلت الأصوات بالغناء، وعلى صوته وغنى بصوته " ياما قلبي قال لي لأ... وأنا ألاوعه/ لما قلبي اتشق شق... قلت أطاوعه... واندمج في الغناء ونسى سامي جي كيه ومشكلة سامي حي كيه؟ -4-
انتهى د. إسماعيل من آخر مرضاه، لقد أخبره الممرض شعبان أن الدكتور سامي في الاستراحة - هو من قال لك "دكتور" سامي؟ - نعم ! - دعه يتفضل قال إسماعيل لنفسه" ياله من نطع... دكتر نفسه بلا خجل" ودخل شعبان وخلفه سامي جي كيه، وتبادلا التحية، وجلس سامي خلف المكتب - جئت حسب الموعد هكذا قال سامي في استجداء يثير الشفقة وترقرقت نظرته وشعر إسماعيل بمزيج من الخجل وعدم الارتياح - سوف تنقذ مستقبلي ولن أنسى لك هذا الجميل يا دكتور إسماعيل... هل تعلم أن أمي لولا أنها قعيدة لأتت لك لكي تشكرك..وعندما علمت أنك تعيش وحدك، أصرت على أدعوك على صينية سمك كزبرية على الطريقة الدمياطية شعر إسماعيل بالخجل وابتسم وهو يدخن الغليون - متى ستأتي لكي أقول لماما - دعنا نبدأ العمل أولا لكي لا نتأخر... هل معك كتاب القسم - وماذا أقول لماما؟ - سنتفق بعد أن ننتهي... أين كتابك؟ لوح بيده وقال - لا أملك كتابا... ضاع مني... آخر مرة امتحنت فيها كانت من خمسة سنولت وبعد ظهور النتيجة ألقيت بالكتاب في مكان ما وبحثت عنه بالأمس وقلبت الدنيا فلم أجده. - لابد ان تشتري كتابا... أنا سأشرح لك هنا، رغم أنني لا أعطي دروسا خصوصية، لكن واجب الزمالة القديمة يحتم على مساعدتك ؟ا - أشكرك .. وأول الشهر لما ماما تقبض المعاش حا أشتري نسخة... هل يباع في القسم؟... سأشتري واحدا قال إسماعيل معتذرا - وزعوا نسخة مجانية واحدة لأعضاء القسم...ولولا هذا لأعطيتك نسختي... شعر بالندم، وشعر بالشفقة على زميله القديم، وتذكر أن سامي وحيد أم متسلطة مستبدة لاتخلو من ضعف العقل، وهى التي جعلت من سامي هذا الرجل المعدوم الإرادة الذي لا يخلو من تفاهة، وتذكر حكاية رواها له زميل كان وطيد الصلة بسامي، بحكم تجاورهما في حى شبرا العريق، والزميل نفس أخبره من قبل، أن أم سامي التي ترملت في سن الشباب، والتي رفضت الزواج بعد أبيه الصائغ، فأوكلت إدارة الدكان إلى خاله، الذي خدعها واستطاع بالدهاء والحيلة أن يستولي على ميراث سامي وأمه ولا يمنحهما إلا الفتات، وحكى لي واقعة شاهدها في بيت سامي، بينما كان في زيارة له، وبينما يحتسيان الشاي فوجئا بأم سامي تقتحم الغرفة كالإعصار، غاضبة والشرر يتطاير من عينيها، وبدون سلام ولا كلام راحت توبخ سامي وتنهرة في غلظة شديدة، لأنه أخرج الطاقم الكريستال لاحتساء الشاي، لم ينطق سامي وانكمش خزيا وهوانا.
رنا إسماعيل ببصره إلى زميله السابق وشعر بالشفقة، وانتابه إحساس بذنبٍ ما حيال ما آل إليه سامي جي كيه، ما ذنبه في وفاة أبيه؟ ما ذنبه في ترمل أمه؟ لم يختار سامي أن يتحول من طفل برئ إلى شاب تافه معدوم الإرادة. انتبه إسماعيل من شروده على صوت سامي : - أول الشهر ... لم يتبق على الشهر إلا أيام... قاطعه إسماعيل وقال: - أنت ستأخذ هذه النسخة...وتجلبها معك كلما أتيت هنا ترقرق سامي جي كيه وكادت عيناه تغرورقا بالدموع وقال: - جمائلك فوق رأسي ولن أنسى لك مروئتك وكرم أخلاقك - أنظر ياسامي .. سوف نضع خطة لكي تنجح.. سوف تمتحن مع الدفعة كلها؟ ا - نعم في سبعة مايو... والعملي والشفوي يوم 22 مايو. فكر د. إسماعيل في طريقة للعمل مع تلك الحالات المستعصية، وقال ليقلل من جدية الموقف - جميل سندخل عليهم بطريقة أربعة إثنين أربعة... سنبدأ بباب لابد أن تجد فيه سؤال أكيد، لماذا؟ لأنه الباب الذي يشرحه للطلاب رئيس القسم الدكتور على الغمراوي بجلالة قدره ورضي الله عنه وأرضاه ...سوف أحاول أن أبسط لك علمنا الصعب بقدر الإمكان، ودوري معك أن أخلق منطقا في الدرس من اللامنطق الذي ستجده.. فالطب أقل العلوم انضباطا لأنه يتعامل مع الحي، والحي لغز في النهاية فأنت يا عزيزي جي كيه ستجابه ألغاز الحي. قطع د. أسماعيل استرساله وقد تعمد أن يدهش سامي وأن بربكه وبدأ شرح الدرس، وبعد عشرة دقائق من الشرح، كان خلالها ينظر إلى سامي، كاد أن يضحك وقد بدا له سامي المنتبه بشدة ومع هذا تهيأ للدكتور إسماعيل كما لو كان سامي ملاكم يتلقى من خصم قوي لكمات شديدة يترنح من قوتها، فهاهو سامي يتلقى دشم العلم الجيرانيتية فيتهاوى من قوتها، كان من الواضح أن سامي حالة ميأوس منها، فاستيعابه – كما يبدو من تعبيرات وجهه الذاهلة، والغباء المطل من عينيه- كان شبه معدوم، وشعر إسماعيل بالشفقة، واستمر في شرح الدروس حريصا على أن لا تظهر أفكاره على وجهه.
-5-
وقف د. إسماعيل في عيادته في الشرفة وهو يشعر بالاضطراب والذنب والتعاسة، لقد انتهى لتوه من ممارسة الحب مع مريضة من مرضاه، ويشعر بالذنب لعدة أسباب، أولها أنه لم يتمالك نفسه فمارس ما مارس في العيادة، صحيح أنه علماني ولا يعتقد في تلك الخزعبلات، لكن شيئا ما داخله لم يتخلص من الوجدان الشعبي، لكن العيادة مكان "لقمة العيش"، والبعض يعتبرها من الكبائر، وتجلب النجاسة وتقطع الرزق، ماذا أفعل وأنا تحت وطأة الهرمونات وما أدراك ماالهرومونات وعذابها الهرم، ماذا أفعل والمريضة الشابة التي تقترب من عامها الثلاثين هى من منحتني الضوء الأخضر، ولم تكن المرة الأولى التي تتأوه وتثيرني، في الأربع زيارات السابقة بدأت مناوشاتها، في كل زيارة كانت تتأوه وتتلوى وتوحوح وأنا أكشف عليها، لا يغادره الآن وجهها بالحول الواضح في عينيها بكحلهما الكثيف، وجهها الداكن وزينتها المتبرجة في بهرج من الألوان لتداري بشرتها الداكنة، فمها العريض وشفتيها المكتنزتين النهمتين وقد صبغتهما بلون قاني ، استجاب لها بجسدها الثري، الصدر الريان والبطن الطرية مثل العجين والأفخاذ المستديرة العفية، الاختلاس ضاعف من متعتهما الجنونية، وقد فوجئ بأنها امرأة! قالت وهى ترتدي ثيابها: - تعرف .. أن الحب ما أن يتمكن من قلب الإنسان أو الإنسانة.. يسيطر عليه ويلغي عقله. إنه نهبٌ لمشاعر متلاطمة من الإنتشاء والندم والحرج، ماذا لوكان أحدهم اقتحم غرفة الكشف، عاد إلى المقعد خلف المكتب وجلست وقد عدلت من ثيابها وشعرها، وشعر بالخوف الشديد، لقد وجد مريضته الشابة فاقدة للعذرية، كانت امرأة وخاض الشوط لآخره، لم يسبق لها الزواج، وفكر أن حديثها عن الحب محاولة للتوريط، ربما كانت بداية لتطالبه بالزواج، وهل يصوم ويفطر على هذه البصلة البائسة، صحيح أنها تتمتع بجسد مثير لكن هل يكفي؟ وشعر بخوف يقترب من الزعر والهلع من المصير الذي قد يحيق به، فيتزوج من تلك المرأة الشعبية ذات التعليم المتوسط فيهبط من علٍ. أشاح بوجهه وشمخ بأنفه وقال: - عن أى حب تتكلمين؟ - عن الحب.. الحب أشاح بوجهه ثانية ورسم علامات الإنكار التام - هه... لا يوجد شئ اسمه الحب.. بهتت الابتسامة على وجهها وقد تبرجت بالمكياج وسال العرق فلطخ وجهها بالألوان - ألا تعتقد في الحب - في الأفلام فحسب ظهرت على وجهها خيبة الأمل والتعاسة، وبدت له وقد تقدمت في العمر عشر سنوات، غادرت وهى تغمغم بالسلام، وما أن خرجت شعر بالتعاسة، واهتز من الأعماق بسبب النهاية البائسة مع مريضته، وظل طوال اليوم التالي لا يفكر إلا في هذا الموضوع، واستقر على لوم نفسه وتأنيبها، على غلظته وعلى "معيلته"، ما أن تكلمت عن الحب لقد فٌزِعَ كطفل رعديد ، استشعر الخطورة قبل الأوان بفراسخ بعيدة، لقد سلمت نفسها إليه، كانت تطمع في أن يجاملها ويقول لها أنه أحبها، لكي تبرأ نفسها من انها امرأة سهلة ومنحلة،... لكنه أناني وخواف واساء لها وجرحها بقسوته. في اليوم التالي بعد انتهاء العمل، نبهه شعبان الممرض بأن الدكتور سامي جي كيه في الاستراحة. - مساء الخير هكذا قال سامي ولاحظ إسماعيل أن تلميذه قد زجج حاجبيه بشكل سخيف - مساء النور إجلس يا سامي.. اشتريت كتابا؟ - متأسف والله... لم أفرغ... لوذهبت للكلية سيضيع اليوم - لا بأس هات الكتاب راح يقلب في الصفحات فوجد رسومات لم يرسمها في كتابه، إنها رسومات لسهام كيوبيد وهى تخترق قلبا، واسم ليلى بخط جميل مكتوب في نهاية السهم، أما قمة السهم المدببة مكتوب عليها بحروف جميلة اسم" سامي "، انتاب د. إسماعيل الضيف من تلميذه، تسائل ليس كتابه لماذا يشوه هذا التافه كتابي؟، ووجد أنه كرر تلك الخيابات في الكتاب أربعة مرات، ما هذه المراهقة المتأخرة؟ فسامي لا يقل عن الخامسة والثلاثين، وشعر إسماعيل بالضيق الشديد، ونظر إلى سامى فوجده قد ارتبك وقال: - سوف أشتري كتابا جديدا... واحتفظ أنا بهذه النسخة فكر إسماعيل وموقفه مع مريضة الأمس مازال يجثم على تفكيره، وندمه الشديد على غلظته، ماذا كان سيحدث لو طيب خاطرها بكلمتين! لذا شعر أن الواجب أن لا يتمادى مع سامي في غلظته، من السهل جدا أن يوبخ سامي وينهره على سلوكه التافه والمتنطع، وفكر أنه ليس من المرؤة أن يفعل ذلك مع زميل سابق في وضع ضعيف.
-6-
استمرت الدروس، وقاربت على نهايتها - لقد وضعت كل خبرتي لكي تنجح في هذه المادة الصعبة - أعرف يا دكتور إسماعيل - الإمتحان أربعة أسئلة مطلوب أن تجيب على ثلاثة منها، حسب أهمية الأساتذة في القسم وهم أربعة، كل واحد منهم يشرح بابا للطلاب، وكل واحد منهم سوف يضع سؤالا، المطلوب منك أن تحفظ عن ظهر قلب الأبواب الأربعة. بدت عليه علامات التحرج كما لوكان يريد أن يطلب طلبا لكنه يخجل قال إسماعيل: - ماذا تريد... قل لي - هل توافقني - لو في مقدرتي سأوافقك - ماذا لو وضعت لي الكتاب في دورة المياه؟ - ماذا؟ - تضع لي الكتاب في دورة المياه يوم الامتحان فأطلب أن أذهب إلى دورة المياه وافتح الكتاب لأتذكر الإجابة. شعر إسماعيل بالضيق والغيظ من زميله السابق، ذلك البليد الذي يريد أن يورطه في التدليس والغش ويضعه موضع المسائلة - لا طبعاً، لن أفعل ذلك. - هذه آخر فرصة لى لتنقذ مستقبلي فكر إسماعيل أن يغلظ له وأن ينهره، ولكنه كتم رغبته وقال في حسم: - لن يحدث ولن أشترك معك في الغش أردف د. إسماعيل في غضب مكتوم - متى امتحانك - بعد أربعة أيام - اتكل على الله... اذهب واستذكر دروسك وهى الأربعة أبواب تقع في اربعين صفحة، أحفظهم كما نحفظ القرآن والأسئلة مباشرة وبالتوفيق بإذن الله هكذا أنهى إسماعيل اللقاء، فرسم سامي ابتسامة ودودة متزلفة وانصرف. اختلى إسماعيل بنفسه وهو يتعجب من هذا الإنسان المتبلد، وشعر بالغيظ منه لعدة أسباب، أولها لأنه مازال يتأنق ويتعطر ويدخل عليه بتلك الهيئة متبخترا وكأنه يعيش أجمل أيامه، ولم يشتري كتابا ومازال محتفظا بكتابه، ولأنه ملأ الكتاب بسهام كيوبيد وبالقلوب وكأنه مراهقا خالى البال، ولأنه لم يذاكر شيئا وسوف يرسب لا محالة، لماذا؟ من ردوده ومن نظرته له في غباء والتي تؤكد له أن سامي لم يستوعب حرفا مما يقول، من ناحية الاستفادة فهى أشبه بالعدم، أضاع هذا البائس له وقته، يرفض الدروس الخصوصية بالمقابل المادي، لكن هذا السامي الجي كيه التافه ورطه في درس مجاني، وليت المسألة اقتصرت على الدرس، يريد أن يتورط معه في عملية غش حقيرة. الحقيقة أن إسماعيل كان في مزاج نفسي سئ للغاية، لقد دفع بالأمس ثمن غلظته مع المريضة التي نام معها في حجرة الكشف، فقد فوجئ أمس الأول بمن ينادي عليه، كان ينزل سلم الكلية في طريقه للكافيتريا - إسماعيل... إسماعيل التفت وفوجئ بطبيب يحضر رسالة دكتوراة من خارج الكلية، يعرفه إسماعيل بالشكل ويراه كثيرا، ويعلم أنه ضابط طبيب، ويعرف أنه لديه عيادة خاصة في شارع بورسعيد ولا تبعد كثيرا عن عيادة إسماعيل في حي الظاهر وقال الطبيب الضابط وهو ينظر إلى إسماعيل في تعال - امس الأول جائتني مريضة من مرضاك واسمها... - مالها هكذا قال إسماعيل في حدة - اشتكت منك - طظ ...طظ فيها انصرف إسماعيل وبينما يستدير - علاجك غلط - احترم نفسك وليس طظ فيها فقط لكن طظ فيك قبلها نزل إسماعيل وعندما اختلى بنفسه شعر بحزن عميق، ليست عيادة شعبية فحسب لكنها موطئ للدنس وتشهير بكفائته بين هؤلاء الحثالة، وذلك الفسل الذي تصيد مريضته إنسان شرس وعدواني وقليل الأدب، يتواقح عليك وهو يحمل حقائب المشرفين عليه في الرسالة، خادم نموذجي يتطاول عليك ومشاحنة مزرية على مريضة تعبانة...
وجاء يوم الامتحان الشفوي، وكان كالعادة يتم في معمل القسم، وهى قاعة كبيرة مستطيلة بها العديد من " البنشات " الخشبية، شاء القدر أن الطبيب إسماعيل كان المشرف على دخول الطلاب للمثول بين يدي السادة الممتحنين، كان كل شئ يتم كالمعتاد، إسماعيل يقف على باب المعمل ممسكا بكشف الطلاب الذين سيؤدون الإمتحان ، وقد تجمهروا أمامه وفي الكوريدور، لقد انتحى سامي ركنا مبتعدا لكي لا يبدو غريبا بسنه الكبير بين التلاميذ الذين يصغرونه بخمسة عشر عاما، تحلق الطلاب أمام الباب في كوريدور القسم، وقد أمسك الواحد منهم بالمذكرة أو بالكتاب وراح يسترجع، فينادي إسماعيل على أربعة طلاب فيهرعوا إلى داخل المعمل، ويتبوأ كل طالب منهم مقعدا، وعلى الناحية الأخرى من " البنش" يجلس الممتحنين الأربعة، ثلاثة منهم هم أقدم اساتذة القسم، اما الرابع فهو زميل لهم وجاءوا به من جامعة الأزهر باعتباره ممتحن خارجي تطبيقا للوائح الجامعية، اما عن نرجسية الأساتذة واستعلائهم الذي لا يصدق، يكفي أن احدهم- وهم أشباه الآلهة- يقول جادا لمعيد شاب: - رحم الله الدكتور الصديق الذي كان يقول أيامنا كنا نحمد الله إذا أسعدنا الحظ ورأينا أستاذاَ جامعياَ. وجاء دور سامي – طبقا للكشف – لكي يدخل امتحان الشفوي، وما أن خطا وسامي خلفه إلى داخل المعمل، قال د. على الغمراوي رئيس القسم - لا...تدع سامي يدخل الآن... سيمتحن وحده بعد أن ننتهي هكذا قال رئيس القسم الأصلع الرأس، وأكمل - دعه ينتظر حتى نفرغ من الدفعة كلها ثم يدخل لنا وحده - أمرك يا أفندم هكذا قال إسماعيل في امتثال وخرج سامي ببنيانه الضخم ووقف بعيدا وقد تصبب عرقا. لم يكن إسماعيل يتوقع أن تكون معاملة سامي بهذه السادية، لقد انتظر سامي حتى الساعة الثانية وهو واقف ينتظر من الثامنة صباحا، ولم يدخل سوى في الثانية والنصف، لقد انصرف الطلاب والموظفين ولم يتبق إلا سامي وإسماعيل الذي وقف على الباب منتظرا أن يطلبوا سامي - دعه يدخل دخل سامي وهو ممتقع اللون ويفرك يديه وينكمش كما لوكان يتمنى أن يختفي، أما الإمتحان فلم يكن سوى مذبحة بمعنى الكلمة، نظراتهم الجامدة والجهامة التي تعتلي وجوه السادة الممتحنين كانت كلها استهجان ورفض واحتقار، ولسان حالهم أنت تحديتنا وجئت لكي تمتجن رغم أنفنا؟ وبحكم محكمة!؟ حسنا دع " المحكمة تنفعك " كان التربص واضحاً، كل الطلاب يمتحنون أربعة كل مرة، لكن تعمدوا أن يمتحن وحده، وأن يتركوه لآخر وقت. جلس سامي في مواجهة الممتحنين، وانهالت الأسئلة كالحمم البركانية في صعوبتها، وسامي كما يقولون ماحي في كل النواحي، وراح يترنح من الاسئلة السامة، يعصر رأسه وينظر إلى السماء كأنه يعرف الإجابة لكنه السهو، فيتركوه ويحدجوه بالنظرات السامة ويقولوا له: - على مهلك... تمر دقيقتان وسامي يعصر جبينه - ماذا؟ هل تعرف الإجابة؟ يهز سامي رأسه بالنفي في مذلة وخزي ويغمغم - لا وبعد نصف ساعة من جحيم الاسئلة العويصة، بدأوا في النزول بمستوى الأسئلة، وبعد ربع ساعة من الأسئلة العادية والمتوسطة المستوى، التي رد عليها سامي بالصمت المطبق، ثم هبطوا بالاسئلة إلى مستوى عناوين الفصول وسامي لا حياة لمن تنادي - اسأل نفسك سؤال هكذا قال أحدهم، ورسم سامي ابتسامة لا معنى لها، فلم يكن يتخيل أن يسمحوا له بأن يسأل نفسه - اسأل نفسك سؤالا. المهم ان اساتذة المادة نكلوا به، ومسحوا به البلاط، حتى السؤال الذي سأله سامي لنفسه لم يجب عليه، وانتهى الامتحان بالمزيد من السادية فقال أحدهم - ما رأيك في اجاباتك - - هل تعجبك؟ - - هل تريد شيئا آخر؟ هز سامي رأسه وقد أمسك برأسه وأطرق بها إلى الأرض ونهض وهو يغمغم بصوت لا يبين: - شكرا انصرف سامي يجرجر قدميه.
انقطع سامي عن زيارتي في العيادة، وعلمت أنه ما زال يقف عند البن البرازيلي كل مساء، قدرت أنه لا يريد أن يراني لأنني أذكره بفشله المرير، لكنني كنت أريد كتابي ولو كان مرصعا بسهام كيوبيد وبقلوب المحبين، لن يمنحني القسم كتابا مجانيا ثانيا، هل أشتري كتابا ثانيا وأترك كتابي لسامي، سأستعيد منه كتابي، وأغلب الظن أنه نسى أن يعيده، والآن بعد فصله نهائيا، ومعرفة سامي بأنه لا جدوى من احتفاظ سامي بكتابي، قابلته في البن البرازيللي، صافحني في فتور - ما أخبارك هكذا قلت له - لا شئ راح يجيب اجابات مقتضبة وجافة، وكلها تخبرني أنه غير سعيد باللقاء، وأنه يتمنى انصرافي وان لا يراني ثانية، فشعرت بالحيرة وبالضيق. - من فضلك أريد كتابي - أي كتاب - كتابي الذي كنت تذاكر فيه؟ أشاح بوجهه بعيدا ثم نظر في عيني وقال في تبجح لانهائي - كتابي الذي أخته مني ورسمت عليه قلوب وسهام - لم آخذ منك شيئا أستدار سامي جي كيه وطالعني ظهره الضخم وقفاه السمين وشعر رأسه الحليق وخرج من المحل.
انتهت
إله حارة أبو النجا -1-
في صبائج قائظ من صباحات شهر أغسطس، استيقظ محمود زكي طلبة من النوم على نور شمس الضحى الحارقة وهى تلسع وجهه، فنهض وصداع مؤلم يكاد أم يحطم رأسه، صداع بسبب قلة النوم والأرق الذي يصاحبه طيلة الصيف، لم ينم طيلة الليل إلا خطفا، فما ان يغط في النوم سرعان ما يستيقظ غارقا في العرق، فهو لا ينام في غرفته، ولا في شقته، لقد ترك لها الشقة كلها، وينام في الطابق الأخير، في نفس المكان الذي شاهد رخائه وممتلكا لمقدراته و شاهده سيدا لمصيره، هاهو ينام في المكان نفسه، المكان الذي شهد أمجاده وقد تحول إلى أطلال وخرائب، غرفة الفرن وغرفة الصاجات المعدنية السوداء وغرفة التشكيل وصب العجين، الفرن الحديدي الضخم وقد علاه التراب من الإهمال، من كان يصدق أن زينب حنفي أبو قملة تنتصر على وتطردني من بيتي، وتدفعني للنوم هنا في الطابق الأخير، الطابق الذي تصليه الشمس بلهيبها طيلة النهارات الحارقة، فإذا ما حل المساء تصهل الجدران النيران التي اختزنتها طيلة اليوم، وتنام زينب العفنة مع أولادي محتمية فيهم في فراشي، وفي النهاية تقول لى في شاسة وتشفي: ... عالج نفسك. تذكر محمود كلمات صديقه الشاعر الراحل الذي كتب قبل أن يموت: متى يقبل موتي قبل أن أصبح مثلك صقرا مستباحاً. نهض من فوق الكنبة البلدية المتهالكة التي يتخذ منها فراشا ينام عليه، وذهب إلى الحمام البلدي الضيق، تلك الشقة الصغيرة لم تكن للسكنى، استغلها لعمله في الخزف، أمه ورثت البيت عن أبيها، يقع البيت البلدي الصغير المساحة في زقاق "الملط" الضيق الذي يطل على حارة "أبو النجا"، في هذا البيت الصغير الضيق المساحة ولد محمود، خمسون عاما قضاها في هذا البيت، الذي لا تتجاوز مساحته الثلاثين مترا، يتكون البيت من أربعة طوابق،كل طابق عبارة عن شقة واحدة لا تزيد مساحتها عن عشرين مترا، تسكن العائلة الطوابق الثلاث، ماعدا الأرضى يقطن فيه عبد الرحمن ابن حلمي العربجي طابق أرضي، في الطابق الأرضي شقة يسكنها عبد الرحمن حلمي المهنس الذي يعمل في السعودية، مات أباه وسافر عبد الرحمن الإبن للعمل مهندسا في السعودية، يصغر المهندس عبد الرحمن بثلاث سنوات، كان الأب حلمي عربجيا على عربة كارو يجرها حمار، كل الحارة تعلم أن حلمي العربجي أطلق على الحمار لقب يطلق اسنم "فرج"، عندما كان صاحبنا محمود طالبا في هندسة عين شمس، كان عبد الرحمن طالبا في المعهد العالي الهندسي في حلوان، يتذكر محمود كيف كان عم حلمي العربجي يحتسي البوظة في بوظة " مصر عتيقة " في أدغال الجيارة، ويمزجها بالخمر من عند الرشيدي في سوق الإثنين، ويشرب معه الحمار " فرج " البوظة، كل ليلة تشهد حارة أبو النجا عم حلمي وقد وقف بالفانلة واللباس الصعيدي، يجرى حوارا مع حماره فرج، فيقف حلمى امام الحمار وقد وقفا تحت البيت، ويقول حلمي: - يا فرج يا ابن ديك الكلب فيبدأ عم حلمي. ينظر حلمي بعيمين حمراويين إلى الحمار ويقول - لا تنظر لي تلك النظرات السماوية يا ابن ديك الكلب. تستمر شتائم عم حلمي الصعيدي الذي نزح من سوهاج إلى حماره ويحمل في النهاية حجرا يريد أن يهوي به على رأس الحمار فرج. تتابع الأم الضجة من النافذة المطلة على الحارة حيث يرقد الحمار بجوار العلربة، فتستشعر الخطر أن يقتل عم حلمي الحمار مورد رزق الأسرة، فيهب عبد الرحمن ينزل ليساعد أمه في أن لا يقتل حلمي الحمار فرج: يثور عم حلمي ويقول لزوجته: - احترمي نفس أمك يا بنت دين.... يهجم الإبن على أبيه ليمنعه من قتل الحمار - هل أنت أب أنت؟ يهرع الاب بخطوات مترنحة إلى البيت ويخرج وهو يحمل عددا من كتب ابنه وهى مكتوبة باللغة الإنجليزية يرقب محمود المشاجرة من الطابق الثاني ويضحك بشدة لأن المرجع مكتوب عليه “ metalleregy” يثير حفيظة الأب العربجي حفيظة الأب السكران -- يا ابن الوسخة... هكذا يردد الأب وهو يمسك إبنه من تلابيب ثيابه، ويمسك بالكتاب باليد الأخرى ويقول متهكما على ابنه -بتذاكر الكتاب ده!؟ بتتباهى على به يا ابن الوسخة!؟ لا ياشيخ... ابن الحذاء يريد أن يعمل على مهندس... بفلوسي يا ابن الوسخة - أنت أب أنت.. أنت أب أنت؟ تدخل الأم بينهما وتبعد الأب الذي يمسك حجراً ويتجه للحمار فرج فيقول: - كله منك يا فرج ياابن الوسخة يرفع حجراً ثقيلاً ويقف قبالة الحمار الراقد تحت النافذه يظهر عددا من الجيران فيأخذون العربجي الذي أصابه السكر والوهن فيسير معهم وهو يشتم ويسب.
وضع محمود رأسه تحت الصنبور فشعر بانتعاش من الماء البارد، وغادر الحمام وهو يرتدي جلبابه الذي حال لونه من القدم، وتطلع إلى المرآة القديمة ورنا إلى صورته، وشعر بالحزن فقد شاب وأضاع في الأوهام عمره، هاهى البشرة الخمرية والجبهة السمراء العريضة والرأس الكبيرة التي حلمت يوما بحكم مصر، الشعر الأجعد الذي اشتعل شيبا، العينان والنظرة المقتحمة الثاقبة، تنطلقان من عينين تختلط في مقلتيها الألوان، العسلي يمتزج بالأخضر والرمادي. - حسني... شعر، ومحمود ... عينان هكذا كانت أمه تردد، مشيرة أن أجمل مافي ملامح ابنها الأكبر محمود هو عينيه الملونتين، وأجمل ما يتميز به شقيقه حسني في- نظرها- هو شعره الأسود الناعم الغزير. تذكر تلك الكلمات وتذكر أمه والدور المشئوم الذي لعبته في حياته، حطمته وحاكت المؤامرات لكي تهدمه فصار ما صار. - عارف نلك المرأة البلدية التي ترتدي السواد وتراها بجثمانها الثقيل والملامح الشعبية الساذجة، وتظن أنها عبيطة أو على نياتها أو فهمها محدود بجهلها، فهى أمية، وقد تظن أن فهمها على قده، فأنت لا تعرف شيئا، لأنها قطعة من الدهاء والفطنة وتذهب بك إلى البحر وترجعك عطشان يتذكر محمود ذكي تلك الكلمات التي قالها عن أمه وهو يشتكي منها لصديقه الوحيد الدكتور خالد.
خرج من الحمام ودخل غلى الغرفة، ووقف في الناقذة، ورنا بنظره يمينا فطالعه مسجد عمرو ابن العاص ببناءه الكبير والخلاء من خلفه والسماء الزرقاء الصافية من السحب ووهج الشمس يغشى عينيه. الساعة تجاوزت العاشرة، لو ظل طيلة اليوم لما سألت زينب الكلب عني ، ابنة الكلب ال" جزمة" الجربوعة كانت تتمنى رضاى وتقول لي يا سيد الناس، ابنة القديمة كونت حزبا من ابننا هيثم و ابنتنا هبة، ألبتهم ضدي وأنا سيد البيت وسبب وجودهم في الحياة والبيت، نظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى العاشرة، تعالت أصواتهم من الطابق الثالث، وقال لنفسه " ولو بقيت طول اليوم لما سأل أحدهم عني". -2-
السلم الضيق المتهالك، ست درجات لا غبر يحفظها عن ظهر قلب، لو الأحجار تتكلم لنطقت عن علاقتي بها، الباب مفتوح وهيثم راقد في غرفة النوم، وصفيحة القمامة بها كمية كبيرة من الكشري. " يا بنت الوسخة" هكذا قال لنفسه وهو يتفحص كمية الكشري الهائلة التي ألقت بها زوجته في القمامة. دخل وجدها جالسة على الكنبة في الصالة الضيقة، ما أن رأته حتى رسمت على وجهها تكشيرة كأنها اللعنة - هل ستفطر؟ هكذا غمغمت بوجه جامد كأنها فقدت أباها، الضحك والابتسامات للعيال أما انا فالتكشيرة والوجوم والخلقة التي تقطع الخميرة من البيت - نعم.. ساتزفت هكذا قال في غضب مكتوم، وأردف - لماذا ألقيت بكل ذلك الكشري في الزبالة... حرام على أهلك، والآن ستقولين هات نشتري طعام الغذاء قاطعته في حدة - معمول منذ أمس الأول ولن تطعمنا طعاما فاسدا - ولماذا عملت يا مصيبة كل تلك الكمية... ألا تميزين...؟ لماذا عملت كل تلك الكمية، كان نصفها يكفينا امس الأول وأمس وكنا وفرنا تكاليف الكمية التي في الزبالة، لكنك لا تدفعي مليما هكذا قال غاضبا ساخطا - هذا كشري وليس حماما ولا لحوم... رضينا بالهم - هم في وجه أمك.. أنظر ماذا تقول بنت أبو قملة، من أين جائت بها امي؟ لاذ بالصمت، وفكر في أن أ بنت القحبة كانت تتمنى رضاه والآن تقول أنني تتقبلني كما تتقبل الهموم الثقيلة، آه يا بنت القحبة. وجلس على الكنبة البلدية، طبق الفول البارد كالعادة، على أن أتحمل قلة أدبها، والخبز منذ أمس الأول، لم تضعه في الفريزر كما أقول لها، لو سخنته لأصبح مقبولا، والفول الماسخ مثل خلقتها، كان لابد أن تسخنه على النار لكي يصبح له طعم مستساغ، لكنها لا تريد أن تبذل أقل مجهود، تعاقبني أبنة الكلب الواطية، تذوق الفول البارد الذي بدا له ماسخا وبلا طعم، منها لله أمه حاكت المؤامرات ودبرت من الخطط الجهنمية التي لا تخطر لى على بال لكي أطلق هيام، هيام زوجتي الأولى التي قضيت معها أجمل الأيام وأسعدها، أين أنت يا هيام؟ هيام امرأة تسوى ثقلها ذهبا، خدعتي أمي وغررت بي وجعلتني أطلق هيام وأقسو وأفتري عليها، وجلبت لي هذه البلوى، زينب ابنة أبو قملة عامل النظافة في دورة مياه في البساتين، من أين أتت بها أمي؟ تزوجتها منذ عشرين عاما فنحستني وجلبت لى المرار والفشل، هيام كانت فنانة في أصول الطعام، بأقل الإمكانيات تصنع بلمساتها وجبة شهية وفي غاية الجمال، افطارها من خمسة صحون، بيضة مسلوقة لا تقدمها هكذا لكن تحمرها في الزيت المغلى فتزداد طعامة، طبق الفول الساخن المزين بقطع الفلفل الحار والزيت يسبح فوقه والكمون والبهارات وقطع الطماطم المقلية في الزيت، الجبن الأبيض تقدمه هيام وقد غمرته بالزيت والشطة والطماطم، هيام كانت تصنع من الفسيخ شربات، من لا شئ تصنع وجبة شهية، أتت من بيت ثري ومطبخ عامر، لو طلبت من بنت القحبة أن تسخن لى الفول ستأتي بوجهها الذي يقطع الخميرة من البيت وستأخذه في صمت وستغيب دقيقة وستعيده كما هو، هيام ابنة المعلم صالح الفرماوي صاحب مطعم للفول والطعمية في الجيارة، رجل كسيب وينفق على بيته عن سعة، أم هيام أستاذة مطبخ، علمتها أصول الصنعة، بيت عامر تتصاعد من المطبخ أروع الروائح، الفتة والضأن والكشري والطعام المسبك. المعلم صبحي عرفة، جهز ابنته بثلاث غرف، دفعت أمي بشطارتها مهرا صغيرا، وقال المعلم صبحي" سنقبل ما تدفعون مهرا لهيام، نحن نشتري رجل يا أم الباشمهندس محمود" - لابد أن تدفع فابنتك لم تأخذ سوى سنة ستة، والباشمهندس اسمه مازال مقيدا في كلية الهندسة في عين شمس. - على عيني وراسي يا حاجة..أنا اشتري رجل لإبنتي - ومحمود سيد الشباب وقرة عيني وسيسكن في بيته الملك. - سيسكن في قلبي لأنه سيأخذ ابنتي الوحيدة هيومة. - سنحملها في عيوننا، وسأعتبرها ابنتي. أفاق محمود من شروده على صوت هيثم ابنه الأكبر الذي كان يجلس في الصالة. جلست أمه قبالته وقد أعدت له الإفطار، الشاي بالحليب المعمول كما يحب، تسخن له الحليب حتى يغلى وتضع كمية كبيرة منه في الكوب وتضع الشاي الثقيل وتقلبه له بعناية تكاد أن تلتهمه بعينيها من الوله. قال محمود لنفسه " آه يا بنت الوسخة " لولاي لما كان هيثم، تنكريني وتعاملينني أسوأ معاملة، لم أرى ابتسامتها منذ خمس سنوات - هيثم... هيثم نادى محمود على ولده الأكبر وقال: - صباح الخير - صباح النور هكذا رد هيثم باقتضابن وصاحت أمه من الخارج - افطارك سيبرد هكذا قالت زينب في جفاء - هاتيه هنا... أريده في كلمتين جلس هيثم، ورث عن أمه قصر قامتها وملامحها الشعبيةن عيناه سوداويين ولم يرث ألوانهما، ورث مني البريق الحاد النافذ، ذكي للغاية ويفهمها وهى طائرة، لكن من أين أتى هيثم بتلك الرأس المستطيلة وكأنها صندوق أحذية. - على فين؟ عيناه تقولان وأنت مالك، لا أتذكر قائل بيت الشعر" ذريني للغنى أسعى- فإني رأيت الناس شرهم الفقير"... تنهد محمود وهو يلمس جفاء ابنه - سأذهب إلى الكلية - ماذا عندك في الكلية؟ يكاد أن يقول له " ما شأنك " دخلت أمه وجلست على الكنبة، وشعر محمود بالضيق الشديد، فقال لها: - نعم... لماذا جئت؟ - عادي!... لديك مانع - أريده في كلمتين ترامقا في كراهية وقالت: - براحتك... لكن يا هيثم كن حريصا على فلوسك وتعبك وشقاك - ارتحتِ... غوري بقى من هنا خرجت وهى تغمغم بكلمات غاضبة، وتبعها هيثم بوجه واجم يخفي به غضبه من أبيه، تجاهل محمود نظرات هيثم وقال: - كيف أحوال العمل - يعني - كم تلميذ لديك - هه.. عد غنمك يا جحا.. نظر في ساعته وقال وهو يقف - تأخرت عندي محاضرة في الثانية عشرة وسألحقها بالكاد - كنت محتاج عشرون جنيها هكذا قال محمود، فجفل هيثم، وعلا صوت الأم من الداخل - يا هبة هذا ما كنت أخشاه... كنت عارفة... يارب يتوب عليك يا هبة تتظاهر ابنة الحذاء بأنها تتحدث إلى ابنتهما هبة وهى توجه كلماتها السامة المسمومة إليه، اجتاح محمود الغضب وقال: - نقطينا بسكات أمك - أنا أكلم هبة... ومن على رأسه بطحة - احترمي نفس أهلك لأخرج لأمك سكتت زينب وصاحت هبة - حرام عليكما .. لم تعد عيشة سكتوا جميعا ولم تتبق إلا ضوضاء الشارع وصياح الصبية وأصحاب الدكاكين والورش. جلس هيثم ووضع رأسه بين كفيه وأطرق برأسه المدببة إلى الأرض، ولبث محمود ينظر له منتظرا - ماذا قلت؟ - فيم؟ - في العشرين جنيها..سوف أردهم لك أول الشهر.
-3-
كل عقدة ولها حلال 1- تميز جارنا وصديقنا نبيل زكي بين افراد شلتنا بميزتين ثمينتين، أولهما براعته الشديدة في لعب الكرة الشراب ويعتبر من النجوم البارزين في هذا المجال، أما المزية الثانية فهى لاتقل أهمية فهى جرأته الشديدة وجسارته في المشاجرات. اعتدنا أن نلعب الكرة الشراب في عدة شوارع، يوسف الجندي وأرض الفوالة وكثيرا ما لعبنا في شارعنا، وكثيرا ما ضايقنا الأسطى عزت الحلاق بمطالبته لنا بأن نتوقف عن اللعب وأن نلعب بعيدا خشية أن تحطم الكرة زجاج صالون الحلاقة الذي يمتلكه، كنا نتجاهله ونعده بالحرص، فكان بعد ان ن وذات يوم ألح الأسطى عزت ووقف لنا في وسط الشارع وراح يهلل واختطف الكرة وصاح: - غور بعيد منك له... تحلقنا حول الأسطى عزت ورحنا نترجاه - سوف نحترس يا أسطى عزت - الكرة أصابت الزجاج اليوم ثلاث مرات.. - دعنا نكمل المباراة بالله عليك يأسطى عزت كشر الأسطى عزت البارد الملامح الغضوب الطباع عن أنيابه وتهيأ للإنصراف، وفوجئنا بصديقنا نبيل زكي يخترق الحلقة ويقول في لهجة تهديد واضحة - هات الكرة يا أسطى عزت - ألعب بعيد منك له فوجئنا بصديقنا نبيل زكي يهرع إلى الحجر الثقيل الذي اتخذناه كمرمى ويحمله ويتوجه جريا إلى دكان الأسطى عزت، ويقذف بالحجر بكل قوته فيحطم الفاترينة الزجاجية الكبير فتتناثر - هى الكرة وحدها التي تحطم الزجاج هكذا قال نبيل زكي موجها حديثه إلى الأسطى عزت الذي شلته المفاجأ وساد صمت ثقيل لم يقطعه سوى عواء الأسطى عزت وقد تأهب نبيل زكي للقتال 2-
" لا نقود لك عندي وعندك نبيل فافعل به ماشئت فقد وضعت أصابعي في الشق منه ومن مشاكله وقرفه " هكذا قال عم زكي جارنا والد نبيل زكي عندما طالبه الأسطى عزت بثمن الزجاج الذي حطمه نبيل عمدا. منذ عشرين عاما كان عم زكي يعمل مساعد طباخ في قصر عابدين أيام الملكية، وأحيل للمعاش منذ عشرة سنوات، ويملك بيتا صغيرا في حارة السقائيين في سوق الأثنين في منطقة عابدين، وعدة قراريط في أبو زعبل. ولا يغادر منزله إلا للضرورة القصوى، وإبان موجة التمصير في مطلع الستينيات وتحت ضغوط شديدة من زوجته انتقل وأسرته إلى شارعنا بالقرب من ميدان التحرير.
- نبيل زكي معلم كبير هكذا قال أحمد عصام أحد أفراد شلتنا، قالها بانبهار ثم أردف: - لا يجالسنا نحن لأننا بالنسبة له صبية لم نخرج من البيضة، نأكل تين شوكي وكبيرنا نشرب سيجارة في ظلام شارع يوسف الجندي، اما نبيل لا يجلس إلا في قهوة" العنبة " في عابدين مع معلمين كبار، فهو لا يكف عن المقامرة وعن النسوان وتدخين المخدرات.... نبيل يا جماعة معلم.
-3
كان يكبرني بسبع سنوات، خمري اللون متوسط القامة رشيق القوام، له شعر ناعم ووجه وسيم، وكنت مبهورا به لجرأته الشديدة ولاستهتاره البالغ، ورحب بصاقتي به ودعاني لزيارته في مقهى العنبة في عابدين، أما عن الدراسة فقد كان من كبار الفاشلين ويضرب به المثل في الخيبة الثقيلة، مدمن رسوب وظل يرسب في الإعدادية حتى قررت الدولة أن تغير نظام التعليم بتخفيض سنوات الدراسة في المرخلة الاعدادية من أربع سنوات إلى ثلاث سنوات، فوجد نبيل نفسه يهبط من الرابعة إلى الثالثة، وذبحت أمه عنزة فرحا بحصوله على الشهادة الاعدادية، وتكررت المأساة في الثانوية العامة، وظل يرسب حتى قررت الدولة أن تصفي نظام البكالوريا وتستبدل به شهادة الثانوية العام، وفي أكازيون حكومي قررت الدولة أن تتخلص من كل طلاب النظام القديم، بأن لا ينجحوا فحسب ولكن بالتساهل في التصحيح والإغداق عليهم في الدرجات، فلم ينجح نبيل زكي فحسب لكنه حصل على مجموع مرتفع من الدرجات أهله للإلتحاق بكلية الطب! - نبيل شاطر ودخل الطب من شطارته! هكذا راحت أمه تردد ذلك متباهية به، وتعوض السنوات الطويلة من تعثره ورقبتها التي أضحت أمام الجيران مثل "السمسمة"، والذي لم يكن يجلب لها إلا المشاحنات والعار، وأشترت له- قبل بدء الدراسة - ثلاثة معاطف بيضاء من شيكوريل ولم تتوقف عن تعليقها منشورة في شرفتها وكأنها رايات النصر. وبعد مرور أربعة شهور على الدراسة، بينما كنا في طريقنا لنلعب مباراة في الكرة الشراب في منطقة الوايلي وكنت أمشي إلى جوار نبيل، الذي قال لي: - تصدق بالله لم يدعني نبيل ارد فأردف على الفور: - أنا لم أذهب إلى الكلية منذ ثلاث شهور. لم أعلق وسبقني في المشي، ورحت أرقبه وهو يسير في رشاقة، وقد ارتدى نعلا بلاستيكيا رخيصا وصغيرا، وكعب قدمه يطئ أرض الشارع.
-4
لم يرسب مبيل في كلية الطب لكنه خلال سنتين كان استنفذ مرات الرسوب، وفصلته الكلية وحولت اوراقه إلى كلية التجارة - نبيل إبني شاطر ونبيه... لكن أصحابه هم من يخيبون أمله هكذا راحت أمه تردد بلا انقطاع مدافعة عنه أمام الجارات، وفي أغلب الظن أنها كانت مقتنعة بهذا، فقد اتخذت قرارا عمليا في هذا الشأن، فقد أقنعته بأن ينتق من تجارة القاهرة إلى تجارة الاسكندرية، بعيدا عن رفاق السوء الذين خيبوا أمله، وكلفت والدة نبيل صديقنا بكر خليفة المعروف بالجدية والرزانة ويدرس في حقوق الإسكندرية، أنيكون نبيل تحت رعايته، وأذعن نبيل وانتقل إلى الأسكندرية، ودبر له بكر خليفة حجرة مناسبة في منطقة الإبراهيمية. - نبيل!؟... نبيل لا أمل فيه وحالة ميئوس منها هكذا قال لنا بكر خليفة وقد وقفنا على الناصية، وأردف: - أنا قلت هذا لمحمد شقيقه - لماذا لا أمل منه؟ - سكن في الإبراهيمية بالقرب مني، ومارس تأثيره السئ على شباب الشارع، فجعلهم مقامرون، وتحولت غرفته الصغيرة إلى وكر للمقامرة والحشيش والنساء - والعمل؟ - العمل عمل ربنا.
وكما فصل نبيل زكي من طب القاهرة فٌصل من تجارة الإسكندرية، ولأنه لم يعد طالبا، زال السبب في تأجيل التجنيد، وفوجئنا بشيخ الحارة يطلب نبيل زكي عليوه للتجنيد الإجباري، وتم تجنيده، ولكنه لم يطق صبرا على الجيش والجندية والانضباط، بعد عدة شهور لم يعد من الاجازة إلى وحدته، ومكث في البيت، وعاد إلى حياته اللاهية، الكرة الشراب في يوسف الجندي والمقامرة في مقهى العنبة مع الحثالة تدخين الحشيش في غرزة الجباصي في سوق الأثنين والعودة إلى البيت فجرا، حتى فبضت عليه الشرطة العسكرية ورحلوه إلى وحدته، ونال محاكمة عسكرية سريعة بتهمة " الغياب "، ووقعت عليه عقوبة " الحبس " ثلاثة شهور يقضيها في سجن الوحدة، وبعد شهرين، وبفضل " نعومته " الشديدة، وتظاهره المدهش بالطيبة والرقة والود الشديد، استطاع نبيل أن يخدع حراسه، فقد اوهمهم أنه يعيش أزمة كبيرة لأن أمه مريضة للغاية ويتمنى لو يراها نصف ساعة فحسب، ورق قلب الحارسين الريفيين لمطلبه الذي يدعو للشفقة، وخرجوا به سرا واصطحبوه إلى البيت، وأستطاع أن يخدعهما وأن بلوذ بالفرار فخرج من باب غرفة المسافرين التي لها بتب بفضي إلى السلم، وبعد نصف ساعة كان الجنديان الحارسان يندبان ويولولان وقد أدركا أنهما سيدخلان السجن عقوبة لهما على فرار نبيل زكي.
-5
ذات مساء وكنت في عيادتي، وبعد أن انتهيت، دخل شعبان الممرض وقال وهو يبتسم ابتسامته الكلبية : - واحد في الخارج طلبت منه الكشف ولكمه رفض ويقول أنه صديق سيادتك! - من؟ - نبيل زكي عليوه مرت سنوات طويلة تخرجت وتزوجت وانقطعت بننا الأسباب، وهاهو زعيمي القديم يظهر بعد سنوات طويلة - دعه يدخل عانقني في حرارة وود صادق وجلس فطلبت القهوة والماء المثلج - أنا سعيد جدا بما وصلت إليه.. وكنت أتابع مسيرتك الرائعة هكذا قال وأردف - والحقيقة أنت تستحق كل خير - أشكرك... وأنت؟ - أنا تمام... خطبت واستعد للزواج - ألف مبروك - وأعمل في السيدة زينب لم يزد، ولم أقل له ماذا تعمل، وأغلب الظن أن طالب الطب السابق يعمل سفرجيا أو قهوجيا أو ما شابه من المهن الرثة، كل هذا ظهر من ثيابه ومظهره البسيط كنت مضطرا للإنصراف لارتباطي بموعد عائلي، فسكت برهة وجدته ينهض وقد فطن إلى رغبتي في انهاء اللقاء، اعتذرت له في صدق واكدت له أنني أريد أن نواصل صداقتنا الحميمة، وأشرق وجهه بالسرور. - لى خدمة عندك هل تسمح لي - طبعا ... تفضل - حماتي أسنانها الأمامية مخلوعة هل من الممكن أن نركبها لها - جدا ... جدا أعطيته موعدا لى نبدأ العمل وجاء في الموعد، ودخل شعبان الممرض يبلغني بوصول الأستاذ نبيل زكي، ودخل وفي صحبته امرأة تقترب من الخمسين لها بطن كبيرة وقد كحلت عينيها بكثافة ملحوظة، ولها وجه - على العموم - لا يطمئن، قمت بالواجب وانتهيت من العمل، وعرض غلى استحياء أن يسدد الأتعاب، فرفضت في حسم، فتهلل بالفرحة وبالدعاء - أريد ان نستعيد لقاءتنا هكذا قال - أريد أن نستعيد الماضي في الزمان والمكان هكذا قلت وأنا أرقب شعره الأسود الناعم بلا أثر للشيب - نأخذ موعدا... نلتقي في العاشرة عند فندق شبرد - ستجدني هناك في العاشرة وسأنتظر الموعد على أحر من الجمر انصرف نبيل زكي وحماته ورحت أفكر في حجم التردي الذي وصل إليه زعيمي القديم، وأفقت من شرودي وانا أستعد للمغادرة على صوت الممرض شعبان يقول وهو عابس الوجه - صاحب سيادتك؟ - الأستاذ نبيل؟ ما شأنه؟ - كدت أن أفعلها معه لأنه لم يحترم نفسه؟ شعرت بالانزعاج لتطاول شعبان الوغد على نبيل الذي تربطه بى صلة - لماذا؟ - دخلت أعد الشاي، وتركته هو والمرأة التي معه يجلسان وحدهما في الصالة، وخرجت فوجدته يقبلها - يقبلها؟ - نعم يقبلها قبلة عنيفة - ماذا تقول؟ - وجدته يقبلها فنهرته وقلت له أن العيادة مكان محترم وأن عليه أن يحترم نفسه1 - معقولة راح شعبان يقسم ويحلف أنه لا يدعى عليهما، ولم أصدق حرفا من ادعاءات شعبان لسببين، أولهما أن ذمة شعبان مطاطة ولا يعول عليها مطلقا، وثانيا لأان المرأة حماة نبيل زكي لا علاقة لها بالأنوثة من قريب أو من بعيد، وان شعبان على سحنته التي تقطع الخميرة من البيت به أنوثة تفوق أنوثة تلك المرأة الشنيعة، قلت لنفسي أغلب الظن أن شعبان كان يروم بقشيشا سخيا فلم يظفر به، فألف تلك القصة التي لاتصدق.
-6
جلسنا على الكورنيش خلف فندق شبرد كما كنا نفعل منذ خمسة عشرة عاما، كان النيل أمامنا غارقا في الظلام والصمت، وانعكست من الكازينو في الضفة الأخرى الأضواء الملونة على صفحة النهر، ورف نورسا أمامنا على صفحة النيل، وعبر الفندق القريب، سرت أغنية طروب. - هل تتذكر أيام أن كنت طالبا بكلية الطب هكذا قال. لم تكن المرة الأولى التي يستعيد فيها أنه كان طالب طب، لاحظت أنه يختلق حديثا لا علاقة له بأي شئ سوى أن يكرر" عندما كنت طالب طب " شعرت بالأسى له وأنا أرقب مظهره الرقيق، وتذكرت أن الحياة قاسية للغاية وبلا رحمة، ومن " يهجص " معها ستلقنه الدرس الذي لم يكن يخطر له على بال. - كيف حال حماتك؟ - كويسة... تبعث لك بالسلام - بالمناسبة أين زوجها؟ لقد رأيته معك على مقهى العنبة - نعم... رجل نطع كان يأتيني على القهوة ليحتسي شاي بالحليب على حسابي - وأين هو الآن؟ - طفش... بلغ فرار - كيف؟ - عمل استبدال معاش وأخذ النقود وفص ملح وداب - اختفي نهائيا؟ - لاأحد يعلم عنه شيئا... انقطعت أخباره وترك زوجته وبيته وابنته وشقيقتها... الآن عندي مشكلة مع مراته ... حماتي؟ - خير - حامل... - حامل؟ كيف وزوجها مختفي، ومن الفاعل؟ هل تعرف؟ - حامل مني أفقت ولم أصدق ما سمعت - حامل منك؟ حماتك؟ - نعم - يخرب بيتك .. كيف؟ - عادي - كيف؟ هذه مصيبة - فعلا مشكلة - كيف حدث الله يخرب بيتك - كنت أدخل معها الغرفة - أين - في شقتها في الناصرية، كنا ندخل الغرفة ونغلقها علينا بالمفتاح - وخطيبتك؟ كنا نقول أننا نتكلم في الجهاز - تتلكموا في الجهاز ؟ - نعم ماذا نشتري ومن أين.. - ماذا فعلتما في بطنها وهي تكبر - لاشئ فهى أصلا بطنها كبيرة تنهدت وأنا أرمق زعيمي القديم بنظرات ثاقبة وأنا تتملكني رغبة عارمة أن أخترق جمجمته الصغيرة لأعرف ماذا يدور في عقل عذا الكائن العجيب. - ليست المرة الأولى - يا نهارك الأسود ... ماذا تقول... ليست المرة الأولى؟ - نعم في العام الماضي حدث الحمل - وبعد؟ - عندما اقترب موعد الولادة اصطحبتها إلى مستشفى الجلاء للولادة، وحجزوها بها - وبعد؟ - ولدت طفل.. - طفل؟... ولدت طفل؟ - نعم... انتظرنا قبيل الفجر وتسللت وخرجت به وكنت انتظرها خارج المستشفى وذهبنا بالطفل إلى ملجأ في الزيتون، ووضعناه على الباب اصابني الذهول، ورنوت إلى النافورة التي تتوسط النيل بألوانها البديعة، النيل الذي يتدفق وعلى ضفافه تنسج المأسي والمصائر، ألقوا به على باب الملجأ؟ - هذا معناه أنك لك إبن الآن في هذه اللحظة يعيش في الملجأ تنهد مدعيا الأسف وقال في تسليم - نعم - وحماتك حامل للمرة الثانية؟ - بنت كلب لم تأخذ الحبوب - لم تأخذ الحبوب هكذا رددت في بلاهة ساد صمت ثقيل بيننا وشرد كل منا في أفكاره، وبعد برهة وجدت نفسي أقول له - كل عقدة ولها حلال رد على في بساطة وقال - فعلا كل عقدة ولها حلال ا
ا الامتحان
في ليلة شتوية من ليالي شهر ديسمبر، جلس طالب الطب إسماعيل فهمي يستذكر دروسه، استعدادا لاختبار مادة الميكروبيولوجي، تلك المادة الجافة التي تعتمد على الحفظ، لقد ذاكرها أكثر من مرة، وهاهى في خضم استعداده ومراجعته لبقية المواد، يجدها و قد تبخرت من ذاكرته، كانت الساعة الثامنة، أمامه ليلة طويلة، سيستعيد الميكروبيولوجي في ذاكرته في ستة ساعات وربما ثمانية ساعات، سيراجعها بكل جدية من الثامنة حتى الخامسة فجرا وربما السادسة، ثم سينام إلى العاشرة فيراجعها ساعة أخرى، ثم يتوجه إلى الامتحان في الثانية عشرة ظهرا. - زميلاك علي وعادل هكذا قالت أمه وأدخلتهما عليه، رحب بهما وخرجت أمه لتعد لهما الشاي وغمغمت لهم بالنجاح والتوفيق، شعر بالدهشة وظن أنهما حضرا لي يذاكرا معه، فشعر بالقلق والحيرة، اعتادا أن يأتوا إليه فيتولى شرح المادة وتلخيصها لهم، فيستفيد من ذلك استفادة هائلة، من ناحيته فالشرح يثبت المعلومات في عقله، ويستفيدا من الشرح بتسهيل المذاكرة والحفظ، وتذكر أن كلاهما دخلا كلية الطب باستثناءات من المجموع في الثانوية العامة، على المغربي والده أستاذ جامعي، وأبناء الأساتذة يحق لهم ذلك الإستثناء، أما علدل عبد الفتاح الخمري اللون فكان استثناءه بسبب تفوقه الرياضي، فهو كابتن فريق نادي " س" في لعبة الهوكي، فكر إسماعيل في أنهما لو ظنا أنه سيتفرغ للشرح لهما الليلة فهما واهمان، يريد أن يخلو إلى نفسه وللمايكروبيولوجي بغباوتها وسيتغلب عليها بإذن الله، فقال إسماعيل في تحفز - خير قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي - ابن الوسخة علي معه بلابل؟ - بلابل؟ هكذا قال إسماعيل - بلابل من التي يحبها قلبك دعه يرى البلابل يا ابن الكلب كانت الشتائم التي يتبادلوها من باب حميمية الصداقة والزمالة، أخرج على المغربي من الكيس البلاستيكي الذي يحمله عددا من زجاجات البارفان الحريمي الفاخرة وخاتم ذهبي صغير. فهم إسماعيل الحكاية كلها، وعرف أن عادل عبد الفتاح ذهب إلى علي المغربي في بيته في مصر الجديدة، بغرض أن يذاكرا سويا استعدادا للإمتحان في الغد، وكانا كلاهما من الفاقدين، وجلسا أمام مذكرة الميكروبيولوجي وكأهما طور الله في برسيمه، ومن باب تزجية الوقت فتح على المغربي دولاب أمه، فشاهد عادل عبد الفتاح الدولاب وبه حقيبة كبيرة مكتظة بالهدايا الثمينة التي يشتريها أبيه من السوق الحرة ليهديها إلى زوجته والدة على المغربي، فالدكتور المغربي عالم الجغرافيا الشهير والحاصل على الدكتوراة معار بشكل دائم في الدول العربية، واقترح عادل عبد الفتاح على علي أن يختلسا عددا من زجاجات العطور الباريسية، وأن يتولى عادل بيعها في قصر النيل، وأن يأخذا حصيلة البيع ليقضيا سهرة رائعة في كباريه الناسيونال في شارع قصر النيل - نأخذ كأسين.. وشاهد الرقاصات.. وممكن نأخذ معنا امرأة - شقة جدتي في الكيت كات فاضية - حلو جدا - هيا هات البلابل توقف على المغربي وأغلق الدولاب وقال - لن آخذ شيئا - لماذا؟... نريد أن نفرفش الليلة - والامتحان غدا؟ ... الميكروبيولوجي - هاهى المذكرة أمامك ... لن نستطيع أن نذاكر اربعة ورقات.. صح؟... صح أم لا؟ أمسك على المغربي المذكرة وراح يفر الأوراق الثمانين المطلوبة في الامتحان وقال في تسليم - لا... لن نستطيع... . - لمذاكرة هذه الكمية يلزمنا شهر على الأقل... صح أم لا؟ - صح اقتنع على المغربي بمنطق عادل عبد الفتاح، لكنه اشترط على عادل أنه لن يأخذ البلابل إلا اصطحبا زميلهم المتفوق إسماعيل فهمي. - إسمع يا علي.. أنا سأريحك، سوف نمر على سعيد، نأخذه معنا لكي نستخدم سيارته، ونبيع البلابل، ونمر على إسماعيل فهمي - بسيارة سعيد... ماشي - ولكننا لن نخبر إسماعيل فهمي بأننا سنذهب إلى الكباريه.. لن يأتي معنا فهو " دحيح " ولن ينزل ليلة الامتحان إلا لو قلنا له أننا سنلتقط نسوان من شارع نوال لأن شقة جدتك في الكيت كات خالية - وامتحان الغد؟ - ممكن اللجان تكون سهلة... - ممكن - وإن لم تكن سهنة... هذا امتحان أعمال سنة... والتقيل وراء... الدرجات معظمها في امتحان نهاية العام، سنعمل المعسكر المتين وسنقضي شهرين لاشئ نفعله سوى المذاكرة.. مثل العام الماضي والعام الذي سبقه.
-2-
- شقة جدتك خالية؟ هكذا سأل إسماعيل فهمي في جدية شديدة - فاضية والله هكذا أجاب عادل عبد الفتاح وأردف - ارتدي ثيابك بسرعة كي لا نبدد الوقت. شعر صاحب المنزل الطالب إسماعيل فهمي بالحيرة الشديدة التي تصل إلى درجة التعذيب، فهو مولع بالجنس، جربه مرة في شقة فوزي أنور مع مومس فلم ينسى المتعة الحسية التي لا مثيل لها، لقد سمع من أحد الأطباء في التليفزيون أن الشاب يقع تحت سيطرة الهرمونات التي تلغي عقله، وشعر أنه واقع تحت سيطرة الهرمونات، و الميكروبيولوجي؟ كيف سيذهب إلى الامتحان وهو لايتذكر من الثمانين صفجة سوى ضبابيات لاتذكر - كم الساعة الآن؟ هكذا سأل عادل عبد الفتاح - السابعة والنصف - في العاشرة سنعيدك إلى هنا، منتعش بممارسة الجنس الجميل مع امرأة من نسوان شارع نوال، ستعود وقد تخففت من الرغبات التي تضنيك، لن أقول شيئا ولكن سأقول لك تخيل ان امامك امرأة عارية .. تخيلها وأعطني عقلك !! - والميكروبيولوجي؟ - سنعود في الحادية عشرة - ورانا ورانا...أين سنذهب منها ومن غباوته!ا هكذا قال على المغربي صاحب البلابل وهو يتذكر أستاذ المادة الذي أطلقوا عليه عباس" كوكاس " - هيا أرتدى ثيابك لا تضيع الوقت، دعنا نرفه عن نفسنا قليلا، نتخفف قليلا من الرغبة الفظيعة، هل تصدقان انني لا أنقطع عن التفكير في الجنس. "سوف ننتهى في العاشرة" هكذا قال إسماعيل لنفسه وقد استسلم للإغراء والغواية، لو لم يقولوا له أنه مدعو للمارسة الجنس، لا توجد قوة على الأرض قادرة على زحزحته عن مراجعة الميكروبيولوجي، ألم يقل فرويد أن الجنس محرك التاريخ، فل يعجز الجنس بكل جبروته عن تحريك إسماعيل فهمي وهو مجرد طالب متفوق لا راح ولا جاء راح إسماعيل فهمي يرتدي ثيابه بسرعة وانتبه من أفكاره التي يبرر بها ضعفه المشين أمام شهواته، على دخول أمه - هل ستنزل؟ شعر بأنه يهوي من حالق، جائك الموت يا تارك الصلاة، ماذا يقول لها تلك المرأة الطيبة التي يعتبرها تجسيدا حيا لإنكار الذات والتفاني في أبنائها - ساعة واحدة... ساعة واحدة وسأعود،.. امتحان الغد تم تسريبه، والامتحان حاليا عند عز الدين القليوبي، سأعرفه وسأعود فورا، لن أغيب. - ربنا ينجح لك المقاصد... سأنتظر عودتك لم يرد عليها وهو يشعر بالخزي الشديد، وغادر مع زميلية على المغربي وعادل عبد الفتاح ببشرته الداكنة وقوامه المتين ووجهه الشعبي الملامح، ومنحتهم أمهم " في أمان الله "
-3-
عندما نزلوا وجدوا زميلهم على سعيد ينتظرهم داخل سيارته، ليست سيارته ولكنها سيارة أبيه الموظف الكبير في مصلحة الكهرباء، تصافحوا و أقترح إسماعيل أن يضموا عز الدين القليوبي الذي يقطن في الجيزة، فمروا عليه. وعادوا بالسيارة إلى وسط البلد، وتولى عادل عبد الفتاح ومعه على المغربي بيع المسروقات، وعادا وهم يتشاحنان لأن على المغربي يتهم عادل عبد الفتاح تواطئ مع البائع واختلس خمسة جنيهات لنفسه، وانطلقت السيارة - لما أختليت بالبائع ماذا قال لك؟ هذه أولا، وبعد أن ناولني النقود، لماذا رجعت له وقلت أنك نسيت سجائرك، وأنت تخفي علبة سجائرك في الشراب انفجر عادل عبد الفتاح في الضحك.. فتوجه على المغربي إلي المجموعة بالسؤال قائلا: - صح ولا لأ.. - لا... لأنه لا يشتري سجائر أصلا... ويعتمد على سجائرنا - أليست البلاد تتبنى المذهب الإشتراكي.. نحن نطبقها لا أكثر هكذا قالت التعليقات فقال على سعيد الذي يقود السيارة - إلى أين؟ - الوقت يمر يا ابناء الأفاعي ولم نراجع المايروبيولوجي... سنذهب إلى شارع نوال... شارع نوال دعك من هؤلاء الصياع - يبدأ الفسق من كورنيش العجوزة - نبدأ من مجطات التروللي باس على الكورنيش، بعرض مستشفى العجوزة - شارع نوال أولا... كانت شوارع منطقة العجوزة خاوية وموحشة ومظلمة، ولاسيما الكورنيش، والمصابيح القليلة تعتصر نورها الذابل، واعتصر الألم قلب إسماعيل لأنه يبدد وقته مع هؤلاء الضائعين، لولا الجنس لتركتهم فورا، وتذكر أمه ودعواتها فشعر بوخزة في قلبه، وراح يفكر في علي المغربي وعلاقته الغريبة بأبيه، وهو الولد الأكبر الذي دللته أمه، فأصبح يسرقها ويسمي المسروقات "بلابل" أما بيعها فيطلق عليه" تسويح البلابل " وفكر اسماعيل أن علاقته بهؤلاء الصياع كانت السبب في أن تسوء سمعته في الدفعة، وكثير منهم يحبونه ويقدرونه لتفوقه وأدبه. - ولا واحدة هكذا قال على سعيد القابع خلف عجلة القيادة، الذي راح يبطئ السيارة ويمشي بها إلى جوار الرصيف، وانتهى من شارع الكورنيش ودخل إلى شارع نوال، وتهادى بها وعبر باعة الفاكهة الجائلين وعلى نور الكلوبات والمصابيح القوية تلألأت تلال البرتقال والموز - نقضيها سجائر وموز هكذا قال على المغربي متهكما - نذهب إلى ميدان التحرير - بعد ميدان التحرير علينا بميدان كصطفى كامل، هناك كباريه " كوبانا" - هل ندخله؟ - لا... ربما سألنا قوادا يقف على الباب، وربما وجدنا امرأة خارجة لتوها فنصطادها - أين سنبحث في ميدان التحرير - مجطة التروللي خلف لاباس، حديقة الزهور أمام المجمع، عند النافورة، وخلف مسجد عمر مكرم تلك مناطق تجمعات الموامس، هذه منطقتي يا جماعة لأنني أسكن بالقرب من الميدان هكذا قال إسماعيل وهو يتألم لأن الوقت يمر والميكروبيولجي مثل كالسيف الذي سيقطعه لا محالة ، ودارت السيارة وانطلقت نحو الشيراتون وانحنت يمينا لتدخل إلى كوبري الجلاء، كانت الشوارع مقفرة، وكافيتيريا أسترا خاوية إلا من ثلاث زبائن جلسوا في موائد متباعدة، ومحطة التروللي خاوية إلا من رجل بلدي ومعه صبي - الساعة ما زالت التاسعة، وفرصتنا أفضل كلما تأخر الوقت - والامتحان؟ - لف من شارع منصور... - سوق باب اللوق؟... لا داعي للتهريج!! لفت الجماعة ودارت بالسيارة في الشوارع المظلمة يفتشون عن صيد يقضون بها ليلتهم كما خططوا لها، ولكن جهودهم ذهبت سدى، لم يجدوا غير شوارع مقفرة ومحلات مغلقة والميادين الخاوية إلا من مصابيحها التي تعتصر الأنوار وكأنها الحلي الذهبية وقد رصعت الليل الذي بدا كأنه المخمل الأسود. - أفضل شئ أن نذهب إلى المنبع - يالك من فيلسوف.. وأين ذلك المنبع يا فيلسوف؟ - الكباريه نبع الموامس والعاهرات - لا فض فوك يا مسئول الفسق في دفعتنا... إلى الكباريه هكذا قال إسماعيل متوجها بحديثه إلى عادل عبد الفتاح، فضجت السيارة بالضحك، وشعر فجأة بوخزة في قلبه وهو يتذكر وجه أمه المتغضن ونظرتها الطيبة وهى تدعوا له بالصلاح وبالفلاح. وأفاق من شروده وقال في وهن - أنزلوني هنا لأعود للبيت - على جثثنا... إما أن نفسق سوا... أو نذاكر سوا.. والليلة حرام فيها العلم. استقر الرأي على كباريه "الفيروكيه" وهو الملهى الليلى لفندق الناسيونال في شارع سليمان باشا، لقد جرى الزمن على الفندق والكباريه الذي بات شعبيا، ودفع علي المغربي صاحب البلابل تذاكر الدخول، وجلست الجماعة على مائدة تجاور البيست، وأحتسوا الشراب، ولعبت الخمر المغشوشة برؤوسهم، وصيحوا كثيرا، وحجز الأمن بينهم وبين مجموعة من الشباب الليبي، وصفقوا وهللوا ومر الوقت سريعا وغادروا بعد أن دفعوا الحساب، وكانت الرابعة فجراً.
-4-
" ماذا فعلت بنفسك " هكذا قال طالب الطب إسماعيل فهمي وصداع رهيب يحطم جمجمته، أضاع ليلته وهاهو من شدة السكر لايكاد أن يجد ثقب الباب ليضع في المفتاح، وهاهو الباب يفتح، ليجد أمه تقف - صباح الخير هكذا قالت وهى تفسح له لكي يدخل وترمقه في محبة تصل إلى درجة الوله، وزادت نظرتها الحانية من عذابه، لماذا لا تقوم القيامة؟ لو انشقت الأرض وابتلعته لما كان عذابه كما يشعر الآن. - كنت أصلي الفجر، فوجدتك تعبث بالمفتاح... ذاكرت؟ - آه... هكذا أجاب في اقتضاب ةالندم ينهشه. وشعر بالماء البارد يغمر رأسه ووجهه وقد وضع رأسه تحت الصنبور، وتذكر المشاجرة السوقية التي دخلها مع الشباب الليبي، وشعر بالخجل لترديه إلى ذلك المستوى" سكران في بار و مشاغب فقد عقله في كأس" - ماذا فعلت... قاطعها قائلا: - تمام الحمد لله وقف في الحمام يجفف رأسه ووجهه وصداع رهيب يحطم رأسه، قالت أمه - سأعد لك إفطارا خفيفا وتدخل لتستريح حتى موعد الأمتحان..سأبقظك في العاشرة، امتحانك في الثانية عشرة - لا... سأكمل ولن أنام.. - ستظل مستيقظا حت الإمتحان؟ - نعم... أنا لا أريد إفطارا.. أنا أريد أسبرينتين وقدح من القهوة، أريدها دوبل، في الكوب الكبيرة. أعدت له القهوة ومعها سندويتش خفيف - كل هذا أولا هل يقول لها أن الخمرة المغشوشة التي احتساها في كباريه ترسو بنقود زميل فاسد سرق أمه وأبيه، تلك الخمرة تمزق له معدته، ليته تقيأ فيرتاح، لكن القئ لم يسعفه، وكأن معدته قررت أن تنتقم منه من أجل أمه، تلك الدجاجة الطيبة العجوز التي تقئقئ لتربيته وشقيقيه، مات أباه منذ عشر سنوات، عن تجارة تحمل عبئها ابنها الأكبر الذي لا يتورع عن سرقة اخوته بتحريض من زوجته، وتحملت الكثير من أجل تربيتهم، خاب أملها في الأربعة اولاد، ويعرف أن أمه تتعزى به، تحبه لأنها المطيع الذي لا يرهقها بطلبات مدللة، تحبه لأنه يعرف واجباته فيستذكر دروسه من تلقاء نفسه، شرفها أمام المتلمظين بها غيرة وحسدا والتحق بكلية الطب بمجموع عالى، يحصل كل عام على مكافئة من الكلية لحصوله على تقدير جيد جدا، أما شقيقيه الأصغر منه بعامين وشقيقه الأكبر منه بعامين فهما مدللان يرهقانها بالطلبات التي تعكس عدم شعورهما بها ولا بالمسئولية الملقاة على عاتقها، إهمالهما لدروسهما تعثرهما في دراستهما. جلس إسماعيل على مائدة السفرة المستديرة، وربتت أمه على كتفه في حنان وقالت: - هل أعمل لك شيئا... - لا... - ربنا ينجح لك المقاصد انصرفت أمه وتركته وجها لوجه مع مذكرة الميكرو بيولوجي الضخمة الرديئة الطباعة، وورقها الخشن السئ، وهاهي الصفحات الثمانين بطلاسمها تتحداه، وهاهو الصداع الرهيب يحطم رأسه، لن ينام مهما أصابه، سيتحمل الصداع و آلام أحشائه وسخافة المكروبيولوجي لكي لا يشعر بالمزيد من الذنب، ونظر من النافذة القريبة ونور الصباح الأزرق الفاتح يخيم على السماء في روعة، وآشعة الشمس الذهبية تتسلل من الأفق وقد تغطت بسحابات رمادية وفضية، اتهم نفسه بالاستهتار وبالتفاهة وبقلة الاحترام، ونظر في الساعة، لقد مرت نصف ساعة، لم يستذكر سوى خمس صفحات، وعندا اختبر نفسه في التحصيل لم يستطع استعادتهم من الذاكرة، شعر باليأس الأسود ينتابه، اليأس ترف لا تملكه، عقوبتك أن تستمر وأنت تعرف أن لا جدوى، فلن تستعيد أكثر من عشرة في المائة من المطلوب في الامتحان خلال الثلاث ساعات المتبقية على الامتحان، حيث ستبيض وجوه وستسود وجوه. على مثل ذلك النحو جرت أفكار إسماعيل، وقرر أن يتبع سياسة "التنشين" أن يختار عددا من الموضوعات التي يرجح أن تأتي في الامتحان، وراح يدعو الله في حرارة، أن تترفق به الأقدار هذه المرة فحسب، فيجد تخميناته في ورقة الامتحان، ولن يكررها ثانية، ليس من أجلي أنا، بل من أجل المسكينة التي صدقتني وأنا العابث المستهتر الذي أستحق الحرق. وفي العاشرة والنصف أخذ حماما ساخنا وارتدى ثيابه ودعوات أمه تلاحقه شعر بها وكانها الجمرات التي تلقى على إبليس.
-5- تجمعت الشلة في الكوريدور أمام المدرج - هل راجعت الميكرو أم نمت على الفور - نمت مثل القتيل، وكيف أراجعها وأنا لم أذاكرها أصلاُ هكذا قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي وهو ينظر إلى إسماعيل الذي وقف عابسا لا يتكلم ولا يشاركهم الحديث لم يرد - مالك؟ هكذا قال عادل - لماذا جئت بعلى المغربي إلى، لماذا راح عادل يقسم بأنها فكرة على المغربي الذي قال أنه لن يأخذ البلابل ليسوحها إلا إذا جئت معنا - لعنة الله على ديك أمك لديك أمه هكذا قال اسماعيل في سخطوغضب، في ذلك الوقت كان على المغربي يستعيد المشادة بينهم وبين الشباب الليبي. وتبين أنهم لن يدخلوا سويا إلى نفس اللجنة، فالشلة كلها سوف تمتحن في قاعة صغيرة، وأنه سوف يمتحن في القاعة الصغير المواجهة لها. دخل إسماعيل إلى اللجنة وجلس في الصف ما قبل الأخير، وجائت ورقة الأسئلة، طيلة عمره وهو يحسب ألف حساب لرهبة الامتحان والمرور السريع على الأسئلة، كأنها لحظة السؤال المرعبة وقد بعث الميت في القبر، هل تصيب تخميناتي يارب العالمين من أجل حبيبك النبي ومن أجل المسكينة أمي؟ مسح الأسئلة بعينيه ولم يجد تخميناته، خابت كلها فلم تصب إلا ربع سؤال من أربعة اسئلة، كل سؤال من أربع نقاط، هذا معناه أنه لا يعرف إلا نقطة واحدة من اثناعشرة نقطة، "ضعت يا إسماعيل" هكذا قال لنفسه. أجاب عن الفقرة الوحيدة التي يعرفها، وبدت له بقية الاسئلة كأنها الطلاسم، وحاول أن يسأل جاره فنهره المراقب في غلظة وهدده بأن يخرجه، وقضى إسماعيل الساعتين وهو في كرب لم يشعر به من قبل، وتعاسة لا حدود لها، ولم تغب أفكاره المضنية عن أمه، فكر في وجهها البرئ وهى تدعوا له وهو يخدعها أنه سيخرج لأن الامتحان قد تسرب. فكر في شقائها عندما تشاحن شقيقيه بالأمس القريب، وتطورت المشادة إلى تضارب، فدخلت بينهما فنالت بالخطأ لكمة عنيفة أسالت الدماء من فمها!! فكر في فمها الأهتم وقد فقدت معظم أسنانها وطاقم الأسنان الصناعية التي تستخده، جسدها الثقيل وقد هزلت وساقيها المقوستين من تهالك مفصليها، لماذا لا تنشق الأرض كي تبتلعه؟ لماذا خذلتها؟ - مضى نصف الوقت من الممكن أن ينصرف من انتهى من الإجابة هكذا قال المراقب بصوت عالي، فخرج عدد من الطلاب وسلموا ورقة الإجابة وانصرفوا الواقع يقول أن أسلم ورقتي الهزيلة وأنصرف، لكن لا، سأشرب كأس الذل حتى آخره، وظل إسماعيل في مكانه، والأفكار السوداء تعذبه وكأنها الجرح الذي يدفعه لكي يهرش فيه فيتألم فيزيد الألم من الرغبة في المزيد من الهرش وهكذا، ومضى الوقت وسلم الورقة، وخرج ليجد الشلة واقفة تتحدث وتضحك - ماذا عملت؟ هكذا قال على المغربي صاحب البلابل - زفت؟ راح يضحك في هيستيريا وتوجه بالحديث للشلة - يقول أنه عمل زفت - وماذا عملت؟ هكذا قال إسماعيل فهمي متعجبا - غششنا... المراقب طلع هايل قال لنا من معه " حاجة " يطلعها واكتبوا من سكات - وطلعتم كتب؟ - نقلنا من المذكرة... روعة، وأنت؟ - زفت.... تركهم دون كلام وأشعل سيجارة ومشى في الكوريدور وتذكر وجه أمه وهى تكاد أن تسقط على وجهها من اللكمة الطائشة التي نالتها، وفكر الطالب المتفوق إسماعيل فهمي في فكرة الانتحار.
.
في البن البرازيلي -1- اانتهى الطبيب الشاب إسماعيل فهمي من آخر مرضاه في عيادته الشعبية في حى الظاهر، وصرف الممرض شعبان وخلا إلى نفسه، لقد اعتاد أن يخرج النقود التي دفعها مرضاه كأتعاب، أن يخمن مهن مرضاه بالتدقيق في الرائحة المرتبطة بالأوراق النقدية التي دفعوها كأتعاب، فذلك بائع طعمية، وهذا بياع سمك، وتلك امرأة متفانية في غسيل الصحون وهذا بائع لحمة راأس... إلى آخره، لكنه الليلة لم يفعل ذلك فقد دس النقود في جيبه وهو مشغول البال ومعتكر المزاج، فقد داهمته الليلة نوبة من الأحزان التي تجتاحه بين الحين والآخر، فيمعن خلالها في التفكير من في المنغصات التي تسمم له حياته، أولها تلك المشاجرة الكئيبة التي نشبت أمس الأول بينه وبين شقيقه على ميراث تافه، ومنها مشاكله في العمل كمعيد في كلية الطب واضطهاد رئيس القسم له، وعجزه عن الزواج لضيق ذات اليد. لقد تجاوز الطبيب الشاب الثلاثين عاما بعم واحد، طويل القامة لا يخلو من وسامة، لقد أطال شعرة الأجعد، وأطال سالفيه مجاريا الموضة،و رسم على وجهه نظرة استعلاء وسخرية أصبحت تلازمهة، وهى نظرة جديرة بشاب في عمره، وفتح باب العيادة ليخرج ففوجئ بمن يقف على الباب وينظر إليه، واستطاع بعد برهة أن يستعيد شخصية القادم، إنه زميله السابق سمير، سمير جي كيه كما كان يقول عن نفسه، سمير جندي كامل، جعلها من خفة عقله سمير جيه كيه - انت نازل؟ - كنت نازل... اهلا ومرحبا - دعني أدخل أولا - ادخل يا صديقي العزيز ... تفضل... أي ريح طيبة ألقت بكا ؟ ا هكذا قال الطبيب الشاب لضيفه - انا وقعت من السماء وانت ستتلقفني صمت د. إسماعيل صاحب العيادة وهو يسمع ويتأمل في ضيفه وهما يحتسيان القهوة التي أعدها إسماعيل في عجالة، مازال أنيقا كما هو، الجاكيت البيج والبنطلون البني المحروق والحذاء الهافان الأجلسيه، طويل وعريض ضخم الجثة وهرقلي القوة، وعيناه تطلقان نظرات مفعمة بالتزلف والرياء، لكن داخل هذا التزلف بصيص ماكر وزيف أكيد. - خيرا يا عزيزي ا - لقد حصلت على حكم المحكمة لكي تمنحني كليتكم الوسخة فرصة اخيرة..... هكذا قال سمير الضيف في حنق وتأذي الطبيب الشاب من لفظه" الوسخة" فهو ينتمي إلي الكلية، ووجد نفسه يجاري ضبفه المحنق فقال: - من ناحية الوساخة فهى كما تقول... لكن أى فرصة؟ - فرصة دخول الامتحان، فأنا لا يوجد عندي مواد سوى مادتكم، المادة التي تدرسوها، لو اجتزتها لوصلت للسنة الرابعة واتخرج وأصبح طبيبا مثلكم!! لاذ إسماعيل بالصمت حائرا ومشفقا على زميله السابق المتعثر البائس - ساعدنى - انا تحت أمرك لكن كيف؟ - سوف أدخل الامتحان في مايو القادم وأنا في عرضك سوف تشرح لى المادة ستشرح لى المادة شعر إسماعيل بالحيرة، لا يعطي دروسا بنقود، فيورطه سامي في درس في أغلب الظن سيكون مجانيان ثم انه لم يكن من اصدقائه المقربين منه، مجرد زميل، ورنا إلى زميله وهو ينظر إليه بنظرات متوسلة، وعينيه السوداويين يكادا ان يغرورقا بالدموع، فشعر بالرثاء له، وبعد صمت قصير وجد المعيد الشاب نفسه يقول: - على خيرة الله. قاطعه سامي ونهض وقبل رأس إسماعيل، وهو يلهج بالشكر والامتنان وكلمات من نوع لن أنسى جمائلك طيلة عمري وأنا أردد للجميع أنك أجدع واحد في دفعتنا ابتسم إسماعيل في اشفاق وخجل وقال: - أشكرك... المهم أن نتفق على مواعيد بعد انتهاء العمل في العيادة تأتي إلى وسوف أشرح لك المنهج ... وعليك بالمذاكرة. المادة جافة وصعبة، ما أن تنتهي معي عليك بمذاكرتها أولا بأول. - طبعا.. طبعا..سترى.
-2-
انظلق المعيد الشاب إسماعيل فغادر عيادته في شارع الشيخ قمر، وطالعه مبنى جامع الظاهر بيبرس الجهم الضخم في الميدان، وراح يرقب أحجار السور الضخمة ومن خلفها السماء المرصعة بالنحوم، ولف حول الميدان وخرج إلى شارع بورسعيد وهو يفكر في مقابلة زميله السابق سمير جى كيه، وفكر في الوضع الزري الذي تردى سمير إليه، وفكر أن وضعه في الحياة لا يتناسب مع تأنقه الشديد، كيف - وهو المفصول من الجامعة لاستفاذ مرات الرسوب- يقف في محل البن البرازيللي في شارع سليمان كل يوم وقد تعطر وتأنق؟ تعجب إسماعيل من طباع زميله السابق، لو كان في موضعه لمات من الهم والحزن والهوان، لقد التحق اسماعيل بالكلية ووجد سمير طالبا من طلاب السنة الأولى، تخرج أسماعيل من الكلية وسمير مازال طالبا، وقضى إسماعيل سنة الامتياز وسمير مازال طالبا، ثم أدى إسماعيل الخدمة العسكرية وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على وظيفة معيد، وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على الماجيستير وسمير مازال طالبا. لقد سمع من الزملاء في الكلية الذين يسكنون في حى شبرا، أن سمير وحيد أمه وتوفى أباه وربته أمه ودللته فنشأ ضعيف الإرادة والعزيمة، والتحق بكلية الطب باستثناء في المجموع، فقد كان سمير لاعبا في فريق كرة اليد بالتوفيقية الثانوية، ذلك الفريق الذي حصل في تلك السنة، على بطولة اللعبة على مستوى مدارس الجمهورية في، وكافأت الدولة أعضاء الفريق بحصولهم على درجات تفوق أوصلتهم للالتحاق بكلية الطب، لكى تبدأ مأساة سامي جي كيه. -3-
ساقته قدماه إلى شارع بورسعيد، فركب تاكسي - شارع سليمان باشا... سيذهب إلى بار الناسيونال، سيدفن أحزانه في كئوس البراندي المحلي القوي الرخيص، فكر أن مشكلته لا تقل سوءا عن مشكلة سمير جى كيه، سمير يتوق إلى الحصول على بكالريوس طب، وهو يتوق إلى الزواج، وكلتاهما رغبات تستعصي على المنال، عندما وصل إلى ميدان العتبة، وفي نوبة من نوبات مصارحة النفس، أعترف الطبيب الشاب لنفسه أنه مسئول إلى حد كبير عن تعاسته، وتعاسته تتلخص حاليا في عدم قدرته على الزواج لضيق ذات اليد، ومسئوليته في ذلك لأنه رفض أن يعطي دروسا خصوصية، إذ كان في استطاعته أن يعطي الدروس الخصوصية للطلاب، مثل عدد كبير من زملائه، الذين على الرغم من سطحيتهم الشديدة وافتتقارهم إلى أبسط درجات الثقافة والوعي، تمكنوا خلال سنوات من تحقيق كل تطلعاتهم العملية، الشقة الفارهة والعروس الجميلة والعيادة في الموقع الرائع وكلها من الدروس الخصوصية، لكنه اعتبر أن الدروس الخصوصية مسألة مبتذلة ورخيصة، ولخصها في كلمتين وهما " اللف على البيوت "، لكنه الليلة يعترف بأنه كان يخبئ خلف هذا الشعار الطنان حبه الجارف للحياة واللهو، وأنه استبدل اللف على البيوت" التي ستحميه من المسغبة باللف على البارات كما يفعل كل ليلة، وآية ذلك أنه ذاهب الآن إلى بار الناسيونال، وسيجد هناك الشلة من غرائب الطبيعة، وسيشرب البراندي القوي، وسيدفن في الكأس أحزانه، وسيدخن الحشيش في الغليون، وسيقضي ليلة ليلاء، صخب ضحك ولعب وغناء ومناقشات. أختار أن يحيا كما يحب وهاهو يدفع الثمن، أن تتحمل ما لا تحب، اخترت أن لا تبتذل نفسك و ولن تمتهن العلم بقدسيته في اللف على البيوت، لن تتحول من باحث وعالم إلى تاجر شنطة الذي يحمل شنطته ويلف بها على الزبائن الأثرياء و يبيع بضاعته لهم، حسنا عليك أن تدفع الثمن، والثمن هو أنك لن تستطيع الهروب من الأزمات المالية المتلاحقة وستظل تلهث لكي تطفو فحسب في بحيرة البراندي التي تحيط بك. فراتب الجامعة هزيل، أما العيادة الشعبية التي افتتحها منذ سنوات ، صحيح أنه حقق شعبية لابأس بها في المنطقة، لكن مرضاه في المجمل من الشرائح السفلى من البورجوازية الصغيرة، موظفون صغار وسعاة في مصالح حكومية بائسة، وصغار الحرفيين والأرزقية وستات بيوت يستحققن الرثاء من الفقر والأسى. ودخله الشهري من هذا وذاك بالكاد يغطيان نفقاته، فكيف يدخر الألوف اللازمة لنفقات الزواج، ومازال يتذكر مقولة كتبها كاتبه المفضل في إحدى رواياته" يطلب الرجل المرأة ولو أقعده الكساح"، فما بالك بشاب رياضي وفي الثلاثين من عمره. أنى له بزوجة تبدد وحشة حياته الجافة، وكثيرا ما يتهيأ له أنه أشبه بصبارة بائسة تنتصب وحيدة في صحراء قاحلة. إفاق من شروده على وصوله إلى بار الناسيونال. لم يصل أحد من الشلة، اختار مقعدا على البار لكي يثرثر مع البارمان أحمد، يريد أن يهرب من مواجهة نفسه بخيباته وتعاساته، سوف يزجي الوقت حتى مجئ الشلة بالثرثرة مع البارمان " أحمد " والجرسون سيد وينادونه " شجرة " - أنا مٌعلم مثل سيادتك هكذا قال البارمان وهو يصب له كأسا، وأضاف - هذه الكأس مني لسيادتك... تحية وتقدير ومعزة هذه المقدمة يجقظها إسماعيل عن ظهر قلب، ويعرف الجملة التي ستليها إذ يقول بلكنته الصعيدية: - سيادتك معلم في الطب والعبد لله معلم للفتيات المعوقات...و اتعامل مع العاهات ليلا في البار. حكى له البارمان قصته مرات عديدة، حصل على الدبلوم من المنيا، وألحقته القوى العاملة معلما للمعوقات في مدرسة بالزيتون، وأتاحت له وظيفة الساقي أن يحصل من الفندق على غرفة صغيرة فوق السطح لينام بها، وحلت له مشكلة السكن والإقامة في هذه المدينة المتوحشة، ويحب أحمد الساقي الشاب أن يؤكد للدكتور إسماعيل أنه أنه عازم على تسجيل الماجيستير، ولن يتنازل عن تحقيق تلك الأمنية الغالية. آنس إسماعيل إلى بار الناسيونال، آثار مجده الغابر مازالت بقاياه ماثلة تتباهى بنفسها، المساحة الفسيجة والسقف العالي المزين بتهاويل الركوكو، النوافذ المرتفعة التي تطل على الشارع الجانبي ، الستائر مخملية فاخرة بلون النبيذ تغطي النوافذ، البيانو الكبير وقد انعكست علية الإضائة الصفراء الكابية التي تعتصرها المصابيح الحزانى في شحوب ، البار العريض بلون البن المحروق والمرايا البلجيكي الكبيرة والرفوف الكريستال تحمل زجاجات الخمر الملونة. فكر في سمير جى كيه، كان من المفترض أن يعتذر له، بعد العمل في طوال اليوم في الجامعة وبعدها في العيادة، وبدلا من أن يرفه عن نفسه بكأسين أو سيجارتين وصحبة حلوة ورفقة ممتعة يطلع له سمير جى كيه، ولم يكن يوما صديقه ولا عشم له! وجائت الشلة والتأم الشمل وضج البار بالضحكات والمناقشات وعلت الأصوات بالغناء، وعلى صوته وغنى بصوته " ياما قلبي قال لي لأ... وأنا ألاوعه/ لما قلبي اتشق شق... قلت أطاوعه... واندمج في الغناء ونسى سامي جي كيه ومشكلة سامي حي كيه؟ -4-
انتهى د. إسماعيل من آخر مرضاه، لقد أخبره الممرض شعبان أن الدكتور سامي في الاستراحة - هو من قال لك "دكتور" سامي؟ - نعم ! - دعه يتفضل قال إسماعيل لنفسه" ياله من نطع... دكتر نفسه بلا خجل" ودخل شعبان وخلفه سامي جي كيه، وتبادلا التحية، وجلس سامي خلف المكتب - جئت حسب الموعد هكذا قال سامي في استجداء يثير الشفقة وترقرقت نظرته وشعر إسماعيل بمزيج من الخجل وعدم الارتياح - سوف تنقذ مستقبلي ولن أنسى لك هذا الجميل يا دكتور إسماعيل... هل تعلم أن أمي لولا أنها قعيدة لأتت لك لكي تشكرك..وعندما علمت أنك تعيش وحدك، أصرت على أدعوك على صينية سمك كزبرية على الطريقة الدمياطية شعر إسماعيل بالخجل وابتسم وهو يدخن الغليون - متى ستأتي لكي أقول لماما - دعنا نبدأ العمل أولا لكي لا نتأخر... هل معك كتاب القسم - وماذا أقول لماما؟ - سنتفق بعد أن ننتهي... أين كتابك؟ لوح بيده وقال - لا أملك كتابا... ضاع مني... آخر مرة امتحنت فيها كانت من خمسة سنولت وبعد ظهور النتيجة ألقيت بالكتاب في مكان ما وبحثت عنه بالأمس وقلبت الدنيا فلم أجده. - لابد ان تشتري كتابا... أنا سأشرح لك هنا، رغم أنني لا أعطي دروسا خصوصية، لكن واجب الزمالة القديمة يحتم على مساعدتك ؟ا - أشكرك .. وأول الشهر لما ماما تقبض المعاش حا أشتري نسخة... هل يباع في القسم؟... سأشتري واحدا قال إسماعيل معتذرا - وزعوا نسخة مجانية واحدة لأعضاء القسم...ولولا هذا لأعطيتك نسختي... شعر بالندم، وشعر بالشفقة على زميله القديم، وتذكر أن سامي وحيد أم متسلطة مستبدة لاتخلو من ضعف العقل، وهى التي جعلت من سامي هذا الرجل المعدوم الإرادة الذي لا يخلو من تفاهة، وتذكر حكاية رواها له زميل كان وطيد الصلة بسامي، بحكم تجاورهما في حى شبرا العريق، والزميل نفس أخبره من قبل، أن أم سامي التي ترملت في سن الشباب، والتي رفضت الزواج بعد أبيه الصائغ، فأوكلت إدارة الدكان إلى خاله، الذي خدعها واستطاع بالدهاء والحيلة أن يستولي على ميراث سامي وأمه ولا يمنحهما إلا الفتات، وحكى لي واقعة شاهدها في بيت سامي، بينما كان في زيارة له، وبينما يحتسيان الشاي فوجئا بأم سامي تقتحم الغرفة كالإعصار، غاضبة والشرر يتطاير من عينيها، وبدون سلام ولا كلام راحت توبخ سامي وتنهرة في غلظة شديدة، لأنه أخرج الطاقم الكريستال لاحتساء الشاي، لم ينطق سامي وانكمش خزيا وهوانا.
رنا إسماعيل ببصره إلى زميله السابق وشعر بالشفقة، وانتابه إحساس بذنبٍ ما حيال ما آل إليه سامي جي كيه، ما ذنبه في وفاة أبيه؟ ما ذنبه في ترمل أمه؟ لم يختار سامي أن يتحول من طفل برئ إلى شاب تافه معدوم الإرادة. انتبه إسماعيل من شروده على صوت سامي : - أول الشهر ... لم يتبق على الشهر إلا أيام... قاطعه إسماعيل وقال: - أنت ستأخذ هذه النسخة...وتجلبها معك كلما أتيت هنا ترقرق سامي جي كيه وكادت عيناه تغرورقا بالدموع وقال: - جمائلك فوق رأسي ولن أنسى لك مروئتك وكرم أخلاقك - أنظر ياسامي .. سوف نضع خطة لكي تنجح.. سوف تمتحن مع الدفعة كلها؟ ا - نعم في سبعة مايو... والعملي والشفوي يوم 22 مايو. فكر د. إسماعيل في طريقة للعمل مع تلك الحالات المستعصية، وقال ليقلل من جدية الموقف - جميل سندخل عليهم بطريقة أربعة إثنين أربعة... سنبدأ بباب لابد أن تجد فيه سؤال أكيد، لماذا؟ لأنه الباب الذي يشرحه للطلاب رئيس القسم الدكتور على الغمراوي بجلالة قدره ورضي الله عنه وأرضاه ...سوف أحاول أن أبسط لك علمنا الصعب بقدر الإمكان، ودوري معك أن أخلق منطقا في الدرس من اللامنطق الذي ستجده.. فالطب أقل العلوم انضباطا لأنه يتعامل مع الحي، والحي لغز في النهاية فأنت يا عزيزي جي كيه ستجابه ألغاز الحي. قطع د. أسماعيل استرساله وقد تعمد أن يدهش سامي وأن بربكه وبدأ شرح الدرس، وبعد عشرة دقائق من الشرح، كان خلالها ينظر إلى سامي، كاد أن يضحك وقد بدا له سامي المنتبه بشدة ومع هذا تهيأ للدكتور إسماعيل كما لو كان سامي ملاكم يتلقى من خصم قوي لكمات شديدة يترنح من قوتها، فهاهو سامي يتلقى دشم العلم الجيرانيتية فيتهاوى من قوتها، كان من الواضح أن سامي حالة ميأوس منها، فاستيعابه – كما يبدو من تعبيرات وجهه الذاهلة، والغباء المطل من عينيه- كان شبه معدوم، وشعر إسماعيل بالشفقة، واستمر في شرح الدروس حريصا على أن لا تظهر أفكاره على وجهه.
-5-
وقف د. إسماعيل في عيادته في الشرفة وهو يشعر بالاضطراب والذنب والتعاسة، لقد انتهى لتوه من ممارسة الحب مع مريضة من مرضاه، ويشعر بالذنب لعدة أسباب، أولها أنه لم يتمالك نفسه فمارس ما مارس في العيادة، صحيح أنه علماني ولا يعتقد في تلك الخزعبلات، لكن شيئا ما داخله لم يتخلص من الوجدان الشعبي، لكن العيادة مكان "لقمة العيش"، والبعض يعتبرها من الكبائر، وتجلب النجاسة وتقطع الرزق، ماذا أفعل وأنا تحت وطأة الهرمونات وما أدراك ماالهرومونات وعذابها الهرم، ماذا أفعل والمريضة الشابة التي تقترب من عامها الثلاثين هى من منحتني الضوء الأخضر، ولم تكن المرة الأولى التي تتأوه وتثيرني، في الأربع زيارات السابقة بدأت مناوشاتها، في كل زيارة كانت تتأوه وتتلوى وتوحوح وأنا أكشف عليها، لا يغادره الآن وجهها بالحول الواضح في عينيها بكحلهما الكثيف، وجهها الداكن وزينتها المتبرجة في بهرج من الألوان لتداري بشرتها الداكنة، فمها العريض وشفتيها المكتنزتين النهمتين وقد صبغتهما بلون قاني ، استجاب لها بجسدها الثري، الصدر الريان والبطن الطرية مثل العجين والأفخاذ المستديرة العفية، الاختلاس ضاعف من متعتهما الجنونية، وقد فوجئ بأنها امرأة! قالت وهى ترتدي ثيابها: - تعرف .. أن الحب ما أن يتمكن من قلب الإنسان أو الإنسانة.. يسيطر عليه ويلغي عقله. إنه نهبٌ لمشاعر متلاطمة من الإنتشاء والندم والحرج، ماذا لوكان أحدهم اقتحم غرفة الكشف، عاد إلى المقعد خلف المكتب وجلست وقد عدلت من ثيابها وشعرها، وشعر بالخوف الشديد، لقد وجد مريضته الشابة فاقدة للعذرية، كانت امرأة وخاض الشوط لآخره، لم يسبق لها الزواج، وفكر أن حديثها عن الحب محاولة للتوريط، ربما كانت بداية لتطالبه بالزواج، وهل يصوم ويفطر على هذه البصلة البائسة، صحيح أنها تتمتع بجسد مثير لكن هل يكفي؟ وشعر بخوف يقترب من الزعر والهلع من المصير الذي قد يحيق به، فيتزوج من تلك المرأة الشعبية ذات التعليم المتوسط فيهبط من علٍ. أشاح بوجهه وشمخ بأنفه وقال: - عن أى حب تتكلمين؟ - عن الحب.. الحب أشاح بوجهه ثانية ورسم علامات الإنكار التام - هه... لا يوجد شئ اسمه الحب.. بهتت الابتسامة على وجهها وقد تبرجت بالمكياج وسال العرق فلطخ وجهها بالألوان - ألا تعتقد في الحب - في الأفلام فحسب ظهرت على وجهها خيبة الأمل والتعاسة، وبدت له وقد تقدمت في العمر عشر سنوات، غادرت وهى تغمغم بالسلام، وما أن خرجت شعر بالتعاسة، واهتز من الأعماق بسبب النهاية البائسة مع مريضته، وظل طوال اليوم التالي لا يفكر إلا في هذا الموضوع، واستقر على لوم نفسه وتأنيبها، على غلظته وعلى "معيلته"، ما أن تكلمت عن الحب لقد فٌزِعَ كطفل رعديد ، استشعر الخطورة قبل الأوان بفراسخ بعيدة، لقد سلمت نفسها إليه، كانت تطمع في أن يجاملها ويقول لها أنه أحبها، لكي تبرأ نفسها من انها امرأة سهلة ومنحلة،... لكنه أناني وخواف واساء لها وجرحها بقسوته. في اليوم التالي بعد انتهاء العمل، نبهه شعبان الممرض بأن الدكتور سامي جي كيه في الاستراحة. - مساء الخير هكذا قال سامي ولاحظ إسماعيل أن تلميذه قد زجج حاجبيه بشكل سخيف - مساء النور إجلس يا سامي.. اشتريت كتابا؟ - متأسف والله... لم أفرغ... لوذهبت للكلية سيضيع اليوم - لا بأس هات الكتاب راح يقلب في الصفحات فوجد رسومات لم يرسمها في كتابه، إنها رسومات لسهام كيوبيد وهى تخترق قلبا، واسم ليلى بخط جميل مكتوب في نهاية السهم، أما قمة السهم المدببة مكتوب عليها بحروف جميلة اسم" سامي "، انتاب د. إسماعيل الضيف من تلميذه، تسائل ليس كتابه لماذا يشوه هذا التافه كتابي؟، ووجد أنه كرر تلك الخيابات في الكتاب أربعة مرات، ما هذه المراهقة المتأخرة؟ فسامي لا يقل عن الخامسة والثلاثين، وشعر إسماعيل بالضيق الشديد، ونظر إلى سامى فوجده قد ارتبك وقال: - سوف أشتري كتابا جديدا... واحتفظ أنا بهذه النسخة فكر إسماعيل وموقفه مع مريضة الأمس مازال يجثم على تفكيره، وندمه الشديد على غلظته، ماذا كان سيحدث لو طيب خاطرها بكلمتين! لذا شعر أن الواجب أن لا يتمادى مع سامي في غلظته، من السهل جدا أن يوبخ سامي وينهره على سلوكه التافه والمتنطع، وفكر أنه ليس من المرؤة أن يفعل ذلك مع زميل سابق في وضع ضعيف.
-6-
استمرت الدروس، وقاربت على نهايتها - لقد وضعت كل خبرتي لكي تنجح في هذه المادة الصعبة - أعرف يا دكتور إسماعيل - الإمتحان أربعة أسئلة مطلوب أن تجيب على ثلاثة منها، حسب أهمية الأساتذة في القسم وهم أربعة، كل واحد منهم يشرح بابا للطلاب، وكل واحد منهم سوف يضع سؤالا، المطلوب منك أن تحفظ عن ظهر قلب الأبواب الأربعة. بدت عليه علامات التحرج كما لوكان يريد أن يطلب طلبا لكنه يخجل قال إسماعيل: - ماذا تريد... قل لي - هل توافقني - لو في مقدرتي سأوافقك - ماذا لو وضعت لي الكتاب في دورة المياه؟ - ماذا؟ - تضع لي الكتاب في دورة المياه يوم الامتحان فأطلب أن أذهب إلى دورة المياه وافتح الكتاب لأتذكر الإجابة. شعر إسماعيل بالضيق والغيظ من زميله السابق، ذلك البليد الذي يريد أن يورطه في التدليس والغش ويضعه موضع المسائلة - لا طبعاً، لن أفعل ذلك. - هذه آخر فرصة لى لتنقذ مستقبلي فكر إسماعيل أن يغلظ له وأن ينهره، ولكنه كتم رغبته وقال في حسم: - لن يحدث ولن أشترك معك في الغش أردف د. إسماعيل في غضب مكتوم - متى امتحانك - بعد أربعة أيام - اتكل على الله... اذهب واستذكر دروسك وهى الأربعة أبواب تقع في اربعين صفحة، أحفظهم كما نحفظ القرآن والأسئلة مباشرة وبالتوفيق بإذن الله هكذا أنهى إسماعيل اللقاء، فرسم سامي ابتسامة ودودة متزلفة وانصرف. اختلى إسماعيل بنفسه وهو يتعجب من هذا الإنسان المتبلد، وشعر بالغيظ منه لعدة أسباب، أولها لأنه مازال يتأنق ويتعطر ويدخل عليه بتلك الهيئة متبخترا وكأنه يعيش أجمل أيامه، ولم يشتري كتابا ومازال محتفظا بكتابه، ولأنه ملأ الكتاب بسهام كيوبيد وبالقلوب وكأنه مراهقا خالى البال، ولأنه لم يذاكر شيئا وسوف يرسب لا محالة، لماذا؟ من ردوده ومن نظرته له في غباء والتي تؤكد له أن سامي لم يستوعب حرفا مما يقول، من ناحية الاستفادة فهى أشبه بالعدم، أضاع هذا البائس له وقته، يرفض الدروس الخصوصية بالمقابل المادي، لكن هذا السامي الجي كيه التافه ورطه في درس مجاني، وليت المسألة اقتصرت على الدرس، يريد أن يتورط معه في عملية غش حقيرة. الحقيقة أن إسماعيل كان في مزاج نفسي سئ للغاية، لقد دفع بالأمس ثمن غلظته مع المريضة التي نام معها في حجرة الكشف، فقد فوجئ أمس الأول بمن ينادي عليه، كان ينزل سلم الكلية في طريقه للكافيتريا - إسماعيل... إسماعيل التفت وفوجئ بطبيب يحضر رسالة دكتوراة من خارج الكلية، يعرفه إسماعيل بالشكل ويراه كثيرا، ويعلم أنه ضابط طبيب، ويعرف أنه لديه عيادة خاصة في شارع بورسعيد ولا تبعد كثيرا عن عيادة إسماعيل في حي الظاهر وقال الطبيب الضابط وهو ينظر إلى إسماعيل في تعال - امس الأول جائتني مريضة من مرضاك واسمها... - مالها هكذا قال إسماعيل في حدة - اشتكت منك - طظ ...طظ فيها انصرف إسماعيل وبينما يستدير - علاجك غلط - احترم نفسك وليس طظ فيها فقط لكن طظ فيك قبلها نزل إسماعيل وعندما اختلى بنفسه شعر بحزن عميق، ليست عيادة شعبية فحسب لكنها موطئ للدنس وتشهير بكفائته بين هؤلاء الحثالة، وذلك الفسل الذي تصيد مريضته إنسان شرس وعدواني وقليل الأدب، يتواقح عليك وهو يحمل حقائب المشرفين عليه في الرسالة، خادم نموذجي يتطاول عليك ومشاحنة مزرية على مريضة تعبانة...
وجاء يوم الامتحان الشفوي، وكان كالعادة يتم في معمل القسم، وهى قاعة كبيرة مستطيلة بها العديد من " البنشات " الخشبية، شاء القدر أن الطبيب إسماعيل كان المشرف على دخول الطلاب للمثول بين يدي السادة الممتحنين، كان كل شئ يتم كالمعتاد، إسماعيل يقف على باب المعمل ممسكا بكشف الطلاب الذين سيؤدون الإمتحان ، وقد تجمهروا أمامه وفي الكوريدور، لقد انتحى سامي ركنا مبتعدا لكي لا يبدو غريبا بسنه الكبير بين التلاميذ الذين يصغرونه بخمسة عشر عاما، تحلق الطلاب أمام الباب في كوريدور القسم، وقد أمسك الواحد منهم بالمذكرة أو بالكتاب وراح يسترجع، فينادي إسماعيل على أربعة طلاب فيهرعوا إلى داخل المعمل، ويتبوأ كل طالب منهم مقعدا، وعلى الناحية الأخرى من " البنش" يجلس الممتحنين الأربعة، ثلاثة منهم هم أقدم اساتذة القسم، اما الرابع فهو زميل لهم وجاءوا به من جامعة الأزهر باعتباره ممتحن خارجي تطبيقا للوائح الجامعية، اما عن نرجسية الأساتذة واستعلائهم الذي لا يصدق، يكفي أن احدهم- وهم أشباه الآلهة- يقول جادا لمعيد شاب: - رحم الله الدكتور الصديق الذي كان يقول أيامنا كنا نحمد الله إذا أسعدنا الحظ ورأينا أستاذاَ جامعياَ. وجاء دور سامي – طبقا للكشف – لكي يدخل امتحان الشفوي، وما أن خطا وسامي خلفه إلى داخل المعمل، قال د. على الغمراوي رئيس القسم - لا...تدع سامي يدخل الآن... سيمتحن وحده بعد أن ننتهي هكذا قال رئيس القسم الأصلع الرأس، وأكمل - دعه ينتظر حتى نفرغ من الدفعة كلها ثم يدخل لنا وحده - أمرك يا أفندم هكذا قال إسماعيل في امتثال وخرج سامي ببنيانه الضخم ووقف بعيدا وقد تصبب عرقا. لم يكن إسماعيل يتوقع أن تكون معاملة سامي بهذه السادية، لقد انتظر سامي حتى الساعة الثانية وهو واقف ينتظر من الثامنة صباحا، ولم يدخل سوى في الثانية والنصف، لقد انصرف الطلاب والموظفين ولم يتبق إلا سامي وإسماعيل الذي وقف على الباب منتظرا أن يطلبوا سامي - دعه يدخل دخل سامي وهو ممتقع اللون ويفرك يديه وينكمش كما لوكان يتمنى أن يختفي، أما الإمتحان فلم يكن سوى مذبحة بمعنى الكلمة، نظراتهم الجامدة والجهامة التي تعتلي وجوه السادة الممتحنين كانت كلها استهجان ورفض واحتقار، ولسان حالهم أنت تحديتنا وجئت لكي تمتجن رغم أنفنا؟ وبحكم محكمة!؟ حسنا دع " المحكمة تنفعك " كان التربص واضحاً، كل الطلاب يمتحنون أربعة كل مرة، لكن تعمدوا أن يمتحن وحده، وأن يتركوه لآخر وقت. جلس سامي في مواجهة الممتحنين، وانهالت الأسئلة كالحمم البركانية في صعوبتها، وسامي كما يقولون ماحي في كل النواحي، وراح يترنح من الاسئلة السامة، يعصر رأسه وينظر إلى السماء كأنه يعرف الإجابة لكنه السهو، فيتركوه ويحدجوه بالنظرات السامة ويقولوا له: - على مهلك... تمر دقيقتان وسامي يعصر جبينه - ماذا؟ هل تعرف الإجابة؟ يهز سامي رأسه بالنفي في مذلة وخزي ويغمغم - لا وبعد نصف ساعة من جحيم الاسئلة العويصة، بدأوا في النزول بمستوى الأسئلة، وبعد ربع ساعة من الأسئلة العادية والمتوسطة المستوى، التي رد عليها سامي بالصمت المطبق، ثم هبطوا بالاسئلة إلى مستوى عناوين الفصول وسامي لا حياة لمن تنادي - اسأل نفسك سؤال هكذا قال أحدهم، ورسم سامي ابتسامة لا معنى لها، فلم يكن يتخيل أن يسمحوا له بأن يسأل نفسه - اسأل نفسك سؤالا. المهم ان اساتذة المادة نكلوا به، ومسحوا به البلاط، حتى السؤال الذي سأله سامي لنفسه لم يجب عليه، وانتهى الامتحان بالمزيد من السادية فقال أحدهم - ما رأيك في اجاباتك - - هل تعجبك؟ - - هل تريد شيئا آخر؟ هز سامي رأسه وقد أمسك برأسه وأطرق بها إلى الأرض ونهض وهو يغمغم بصوت لا يبين: - شكرا انصرف سامي يجرجر قدميه.
انقطع سامي عن زيارتي في العيادة، وعلمت أنه ما زال يقف عند البن البرازيلي كل مساء، قدرت أنه لا يريد أن يراني لأنني أذكره بفشله المرير، لكنني كنت أريد كتابي ولو كان مرصعا بسهام كيوبيد وبقلوب المحبين، لن يمنحني القسم كتابا مجانيا ثانيا، هل أشتري كتابا ثانيا وأترك كتابي لسامي، سأستعيد منه كتابي، وأغلب الظن أنه نسى أن يعيده، والآن بعد فصله نهائيا، ومعرفة سامي بأنه لا جدوى من احتفاظ سامي بكتابي، قابلته في البن البرازيللي، صافحني في فتور - ما أخبارك هكذا قلت له - لا شئ راح يجيب اجابات مقتضبة وجافة، وكلها تخبرني أنه غير سعيد باللقاء، وأنه يتمنى انصرافي وان لا يراني ثانية، فشعرت بالحيرة وبالضيق. - من فضلك أريد كتابي - أي كتاب - كتابي الذي كنت تذاكر فيه؟ أشاح بوجهه بعيدا ثم نظر في عيني وقال في تبجح لانهائي - كتابي الذي أخته مني ورسمت عليه قلوب وسهام - لم آخذ منك شيئا أستدار سامي جي كيه وطالعني ظهره الضخم وقفاه السمين وشعر رأسه الحليق وخرج من المحل.
انتهت
إله حارة أبو النجا -1-
في صبائج قائظ من صباحات شهر أغسطس، استيقظ محمود زكي طلبة من النوم على نور شمس الضحى الحارقة وهى تلسع وجهه، فنهض وصداع مؤلم يكاد أم يحطم رأسه، صداع بسبب قلة النوم والأرق الذي يصاحبه طيلة الصيف، لم ينم طيلة الليل إلا خطفا، فما ان يغط في النوم سرعان ما يستيقظ غارقا في العرق، فهو لا ينام في غرفته، ولا في شقته، لقد ترك لها الشقة كلها، وينام في الطابق الأخير، في نفس المكان الذي شاهد رخائه وممتلكا لمقدراته و شاهده سيدا لمصيره، هاهو ينام في المكان نفسه، المكان الذي شهد أمجاده وقد تحول إلى أطلال وخرائب، غرفة الفرن وغرفة الصاجات المعدنية السوداء وغرفة التشكيل وصب العجين، الفرن الحديدي الضخم وقد علاه التراب من الإهمال، من كان يصدق أن زينب حنفي أبو قملة تنتصر على وتطردني من بيتي، وتدفعني للنوم هنا في الطابق الأخير، الطابق الذي تصليه الشمس بلهيبها طيلة النهارات الحارقة، فإذا ما حل المساء تصهل الجدران النيران التي اختزنتها طيلة اليوم، وتنام زينب العفنة مع أولادي محتمية فيهم في فراشي، وفي النهاية تقول لى في شاسة وتشفي: ... عالج نفسك. تذكر محمود كلمات صديقه الشاعر الراحل الذي كتب قبل أن يموت: متى يقبل موتي قبل أن أصبح مثلك صقرا مستباحاً. نهض من فوق الكنبة البلدية المتهالكة التي يتخذ منها فراشا ينام عليه، وذهب إلى الحمام البلدي الضيق، تلك الشقة الصغيرة لم تكن للسكنى، استغلها لعمله في الخزف، أمه ورثت البيت عن أبيها، يقع البيت البلدي الصغير المساحة في زقاق "الملط" الضيق الذي يطل على حارة "أبو النجا"، في هذا البيت الصغير الضيق المساحة ولد محمود، خمسون عاما قضاها في هذا البيت، الذي لا تتجاوز مساحته الثلاثين مترا، يتكون البيت من أربعة طوابق،كل طابق عبارة عن شقة واحدة لا تزيد مساحتها عن عشرين مترا، تسكن العائلة الطوابق الثلاث، ماعدا الأرضى يقطن فيه عبد الرحمن ابن حلمي العربجي طابق أرضي، في الطابق الأرضي شقة يسكنها عبد الرحمن حلمي المهنس الذي يعمل في السعودية، مات أباه وسافر عبد الرحمن الإبن للعمل مهندسا في السعودية، يصغر المهندس عبد الرحمن بثلاث سنوات، كان الأب حلمي عربجيا على عربة كارو يجرها حمار، كل الحارة تعلم أن حلمي العربجي أطلق على الحمار لقب يطلق اسنم "فرج"، عندما كان صاحبنا محمود طالبا في هندسة عين شمس، كان عبد الرحمن طالبا في المعهد العالي الهندسي في حلوان، يتذكر محمود كيف كان عم حلمي العربجي يحتسي البوظة في بوظة " مصر عتيقة " في أدغال الجيارة، ويمزجها بالخمر من عند الرشيدي في سوق الإثنين، ويشرب معه الحمار " فرج " البوظة، كل ليلة تشهد حارة أبو النجا عم حلمي وقد وقف بالفانلة واللباس الصعيدي، يجرى حوارا مع حماره فرج، فيقف حلمى امام الحمار وقد وقفا تحت البيت، ويقول حلمي: - يا فرج يا ابن ديك الكلب فيبدأ عم حلمي. ينظر حلمي بعيمين حمراويين إلى الحمار ويقول - لا تنظر لي تلك النظرات السماوية يا ابن ديك الكلب. تستمر شتائم عم حلمي الصعيدي الذي نزح من سوهاج إلى حماره ويحمل في النهاية حجرا يريد أن يهوي به على رأس الحمار فرج. تتابع الأم الضجة من النافذة المطلة على الحارة حيث يرقد الحمار بجوار العلربة، فتستشعر الخطر أن يقتل عم حلمي الحمار مورد رزق الأسرة، فيهب عبد الرحمن ينزل ليساعد أمه في أن لا يقتل حلمي الحمار فرج: يثور عم حلمي ويقول لزوجته: - احترمي نفس أمك يا بنت دين.... يهجم الإبن على أبيه ليمنعه من قتل الحمار - هل أنت أب أنت؟ يهرع الاب بخطوات مترنحة إلى البيت ويخرج وهو يحمل عددا من كتب ابنه وهى مكتوبة باللغة الإنجليزية يرقب محمود المشاجرة من الطابق الثاني ويضحك بشدة لأن المرجع مكتوب عليه “ metalleregy” يثير حفيظة الأب العربجي حفيظة الأب السكران -- يا ابن الوسخة... هكذا يردد الأب وهو يمسك إبنه من تلابيب ثيابه، ويمسك بالكتاب باليد الأخرى ويقول متهكما على ابنه -بتذاكر الكتاب ده!؟ بتتباهى على به يا ابن الوسخة!؟ لا ياشيخ... ابن الحذاء يريد أن يعمل على مهندس... بفلوسي يا ابن الوسخة - أنت أب أنت.. أنت أب أنت؟ تدخل الأم بينهما وتبعد الأب الذي يمسك حجراً ويتجه للحمار فرج فيقول: - كله منك يا فرج ياابن الوسخة يرفع حجراً ثقيلاً ويقف قبالة الحمار الراقد تحت النافذه يظهر عددا من الجيران فيأخذون العربجي الذي أصابه السكر والوهن فيسير معهم وهو يشتم ويسب.
وضع محمود رأسه تحت الصنبور فشعر بانتعاش من الماء البارد، وغادر الحمام وهو يرتدي جلبابه الذي حال لونه من القدم، وتطلع إلى المرآة القديمة ورنا إلى صورته، وشعر بالحزن فقد شاب وأضاع في الأوهام عمره، هاهى البشرة الخمرية والجبهة السمراء العريضة والرأس الكبيرة التي حلمت يوما بحكم مصر، الشعر الأجعد الذي اشتعل شيبا، العينان والنظرة المقتحمة الثاقبة، تنطلقان من عينين تختلط في مقلتيها الألوان، العسلي يمتزج بالأخضر والرمادي. - حسني... شعر، ومحمود ... عينان هكذا كانت أمه تردد، مشيرة أن أجمل مافي ملامح ابنها الأكبر محمود هو عينيه الملونتين، وأجمل ما يتميز به شقيقه حسني في- نظرها- هو شعره الأسود الناعم الغزير. تذكر تلك الكلمات وتذكر أمه والدور المشئوم الذي لعبته في حياته، حطمته وحاكت المؤامرات لكي تهدمه فصار ما صار. - عارف نلك المرأة البلدية التي ترتدي السواد وتراها بجثمانها الثقيل والملامح الشعبية الساذجة، وتظن أنها عبيطة أو على نياتها أو فهمها محدود بجهلها، فهى أمية، وقد تظن أن فهمها على قده، فأنت لا تعرف شيئا، لأنها قطعة من الدهاء والفطنة وتذهب بك إلى البحر وترجعك عطشان يتذكر محمود ذكي تلك الكلمات التي قالها عن أمه وهو يشتكي منها لصديقه الوحيد الدكتور خالد.
خرج من الحمام ودخل غلى الغرفة، ووقف في الناقذة، ورنا بنظره يمينا فطالعه مسجد عمرو ابن العاص ببناءه الكبير والخلاء من خلفه والسماء الزرقاء الصافية من السحب ووهج الشمس يغشى عينيه. الساعة تجاوزت العاشرة، لو ظل طيلة اليوم لما سألت زينب الكلب عني ، ابنة الكلب ال" جزمة" الجربوعة كانت تتمنى رضاى وتقول لي يا سيد الناس، ابنة القديمة كونت حزبا من ابننا هيثم و ابنتنا هبة، ألبتهم ضدي وأنا سيد البيت وسبب وجودهم في الحياة والبيت، نظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى العاشرة، تعالت أصواتهم من الطابق الثالث، وقال لنفسه " ولو بقيت طول اليوم لما سأل أحدهم عني". -2-
السلم الضيق المتهالك، ست درجات لا غبر يحفظها عن ظهر قلب، لو الأحجار تتكلم لنطقت عن علاقتي بها، الباب مفتوح وهيثم راقد في غرفة النوم، وصفيحة القمامة بها كمية كبيرة من الكشري. " يا بنت الوسخة" هكذا قال لنفسه وهو يتفحص كمية الكشري الهائلة التي ألقت بها زوجته في القمامة. دخل وجدها جالسة على الكنبة في الصالة الضيقة، ما أن رأته حتى رسمت على وجهها تكشيرة كأنها اللعنة - هل ستفطر؟ هكذا غمغمت بوجه جامد كأنها فقدت أباها، الضحك والابتسامات للعيال أما انا فالتكشيرة والوجوم والخلقة التي تقطع الخميرة من البيت - نعم.. ساتزفت هكذا قال في غضب مكتوم، وأردف - لماذا ألقيت بكل ذلك الكشري في الزبالة... حرام على أهلك، والآن ستقولين هات نشتري طعام الغذاء قاطعته في حدة - معمول منذ أمس الأول ولن تطعمنا طعاما فاسدا - ولماذا عملت يا مصيبة كل تلك الكمية... ألا تميزين...؟ لماذا عملت كل تلك الكمية، كان نصفها يكفينا امس الأول وأمس وكنا وفرنا تكاليف الكمية التي في الزبالة، لكنك لا تدفعي مليما هكذا قال غاضبا ساخطا - هذا كشري وليس حماما ولا لحوم... رضينا بالهم - هم في وجه أمك.. أنظر ماذا تقول بنت أبو قملة، من أين جائت بها امي؟ لاذ بالصمت، وفكر في أن أ بنت القحبة كانت تتمنى رضاه والآن تقول أنني تتقبلني كما تتقبل الهموم الثقيلة، آه يا بنت القحبة. وجلس على الكنبة البلدية، طبق الفول البارد كالعادة، على أن أتحمل قلة أدبها، والخبز منذ أمس الأول، لم تضعه في الفريزر كما أقول لها، لو سخنته لأصبح مقبولا، والفول الماسخ مثل خلقتها، كان لابد أن تسخنه على النار لكي يصبح له طعم مستساغ، لكنها لا تريد أن تبذل أقل مجهود، تعاقبني أبنة الكلب الواطية، تذوق الفول البارد الذي بدا له ماسخا وبلا طعم، منها لله أمه حاكت المؤامرات ودبرت من الخطط الجهنمية التي لا تخطر لى على بال لكي أطلق هيام، هيام زوجتي الأولى التي قضيت معها أجمل الأيام وأسعدها، أين أنت يا هيام؟ هيام امرأة تسوى ثقلها ذهبا، خدعتي أمي وغررت بي وجعلتني أطلق هيام وأقسو وأفتري عليها، وجلبت لي هذه البلوى، زينب ابنة أبو قملة عامل النظافة في دورة مياه في البساتين، من أين أتت بها أمي؟ تزوجتها منذ عشرين عاما فنحستني وجلبت لى المرار والفشل، هيام كانت فنانة في أصول الطعام، بأقل الإمكانيات تصنع بلمساتها وجبة شهية وفي غاية الجمال، افطارها من خمسة صحون، بيضة مسلوقة لا تقدمها هكذا لكن تحمرها في الزيت المغلى فتزداد طعامة، طبق الفول الساخن المزين بقطع الفلفل الحار والزيت يسبح فوقه والكمون والبهارات وقطع الطماطم المقلية في الزيت، الجبن الأبيض تقدمه هيام وقد غمرته بالزيت والشطة والطماطم، هيام كانت تصنع من الفسيخ شربات، من لا شئ تصنع وجبة شهية، أتت من بيت ثري ومطبخ عامر، لو طلبت من بنت القحبة أن تسخن لى الفول ستأتي بوجهها الذي يقطع الخميرة من البيت وستأخذه في صمت وستغيب دقيقة وستعيده كما هو، هيام ابنة المعلم صالح الفرماوي صاحب مطعم للفول والطعمية في الجيارة، رجل كسيب وينفق على بيته عن سعة، أم هيام أستاذة مطبخ، علمتها أصول الصنعة، بيت عامر تتصاعد من المطبخ أروع الروائح، الفتة والضأن والكشري والطعام المسبك. المعلم صبحي عرفة، جهز ابنته بثلاث غرف، دفعت أمي بشطارتها مهرا صغيرا، وقال المعلم صبحي" سنقبل ما تدفعون مهرا لهيام، نحن نشتري رجل يا أم الباشمهندس محمود" - لابد أن تدفع فابنتك لم تأخذ سوى سنة ستة، والباشمهندس اسمه مازال مقيدا في كلية الهندسة في عين شمس. - على عيني وراسي يا حاجة..أنا اشتري رجل لإبنتي - ومحمود سيد الشباب وقرة عيني وسيسكن في بيته الملك. - سيسكن في قلبي لأنه سيأخذ ابنتي الوحيدة هيومة. - سنحملها في عيوننا، وسأعتبرها ابنتي. أفاق محمود من شروده على صوت هيثم ابنه الأكبر الذي كان يجلس في الصالة. جلست أمه قبالته وقد أعدت له الإفطار، الشاي بالحليب المعمول كما يحب، تسخن له الحليب حتى يغلى وتضع كمية كبيرة منه في الكوب وتضع الشاي الثقيل وتقلبه له بعناية تكاد أن تلتهمه بعينيها من الوله. قال محمود لنفسه " آه يا بنت الوسخة " لولاي لما كان هيثم، تنكريني وتعاملينني أسوأ معاملة، لم أرى ابتسامتها منذ خمس سنوات - هيثم... هيثم نادى محمود على ولده الأكبر وقال: - صباح الخير - صباح النور هكذا رد هيثم باقتضابن وصاحت أمه من الخارج - افطارك سيبرد هكذا قالت زينب في جفاء - هاتيه هنا... أريده في كلمتين جلس هيثم، ورث عن أمه قصر قامتها وملامحها الشعبيةن عيناه سوداويين ولم يرث ألوانهما، ورث مني البريق الحاد النافذ، ذكي للغاية ويفهمها وهى طائرة، لكن من أين أتى هيثم بتلك الرأس المستطيلة وكأنها صندوق أحذية. - على فين؟ عيناه تقولان وأنت مالك، لا أتذكر قائل بيت الشعر" ذريني للغنى أسعى- فإني رأيت الناس شرهم الفقير"... تنهد محمود وهو يلمس جفاء ابنه - سأذهب إلى الكلية - ماذا عندك في الكلية؟ يكاد أن يقول له " ما شأنك " دخلت أمه وجلست على الكنبة، وشعر محمود بالضيق الشديد، فقال لها: - نعم... لماذا جئت؟ - عادي!... لديك مانع - أريده في كلمتين ترامقا في كراهية وقالت: - براحتك... لكن يا هيثم كن حريصا على فلوسك وتعبك وشقاك - ارتحتِ... غوري بقى من هنا خرجت وهى تغمغم بكلمات غاضبة، وتبعها هيثم بوجه واجم يخفي به غضبه من أبيه، تجاهل محمود نظرات هيثم وقال: - كيف أحوال العمل - يعني - كم تلميذ لديك - هه.. عد غنمك يا جحا.. نظر في ساعته وقال وهو يقف - تأخرت عندي محاضرة في الثانية عشرة وسألحقها بالكاد - كنت محتاج عشرون جنيها هكذا قال محمود، فجفل هيثم، وعلا صوت الأم من الداخل - يا هبة هذا ما كنت أخشاه... كنت عارفة... يارب يتوب عليك يا هبة تتظاهر ابنة الحذاء بأنها تتحدث إلى ابنتهما هبة وهى توجه كلماتها السامة المسمومة إليه، اجتاح محمود الغضب وقال: - نقطينا بسكات أمك - أنا أكلم هبة... ومن على رأسه بطحة - احترمي نفس أهلك لأخرج لأمك سكتت زينب وصاحت هبة - حرام عليكما .. لم تعد عيشة سكتوا جميعا ولم تتبق إلا ضوضاء الشارع وصياح الصبية وأصحاب الدكاكين والورش. جلس هيثم ووضع رأسه بين كفيه وأطرق برأسه المدببة إلى الأرض، ولبث محمود ينظر له منتظرا - ماذا قلت؟ - فيم؟ - في العشرين جنيها..سوف أردهم لك أول الشهر.
-3-
كل عقدة ولها حلال 1- تميز جارنا وصديقنا نبيل زكي بين افراد شلتنا بميزتين ثمينتين، أولهما براعته الشديدة في لعب الكرة الشراب ويعتبر من النجوم البارزين في هذا المجال، أما المزية الثانية فهى لاتقل أهمية فهى جرأته الشديدة وجسارته في المشاجرات. اعتدنا أن نلعب الكرة الشراب في عدة شوارع، يوسف الجندي وأرض الفوالة وكثيرا ما لعبنا في شارعنا، وكثيرا ما ضايقنا الأسطى عزت الحلاق بمطالبته لنا بأن نتوقف عن اللعب وأن نلعب بعيدا خشية أن تحطم الكرة زجاج صالون الحلاقة الذي يمتلكه، كنا نتجاهله ونعده بالحرص، فكان بعد ان ن وذات يوم ألح الأسطى عزت ووقف لنا في وسط الشارع وراح يهلل واختطف الكرة وصاح: - غور بعيد منك له... تحلقنا حول الأسطى عزت ورحنا نترجاه - سوف نحترس يا أسطى عزت - الكرة أصابت الزجاج اليوم ثلاث مرات.. - دعنا نكمل المباراة بالله عليك يأسطى عزت كشر الأسطى عزت البارد الملامح الغضوب الطباع عن أنيابه وتهيأ للإنصراف، وفوجئنا بصديقنا نبيل زكي يخترق الحلقة ويقول في لهجة تهديد واضحة - هات الكرة يا أسطى عزت - ألعب بعيد منك له فوجئنا بصديقنا نبيل زكي يهرع إلى الحجر الثقيل الذي اتخذناه كمرمى ويحمله ويتوجه جريا إلى دكان الأسطى عزت، ويقذف بالحجر بكل قوته فيحطم الفاترينة الزجاجية الكبير فتتناثر - هى الكرة وحدها التي تحطم الزجاج هكذا قال نبيل زكي موجها حديثه إلى الأسطى عزت الذي شلته المفاجأ وساد صمت ثقيل لم يقطعه سوى عواء الأسطى عزت وقد تأهب نبيل زكي للقتال 2-
" لا نقود لك عندي وعندك نبيل فافعل به ماشئت فقد وضعت أصابعي في الشق منه ومن مشاكله وقرفه " هكذا قال عم زكي جارنا والد نبيل زكي عندما طالبه الأسطى عزت بثمن الزجاج الذي حطمه نبيل عمدا. منذ عشرين عاما كان عم زكي يعمل مساعد طباخ في قصر عابدين أيام الملكية، وأحيل للمعاش منذ عشرة سنوات، ويملك بيتا صغيرا في حارة السقائيين في سوق الأثنين في منطقة عابدين، وعدة قراريط في أبو زعبل. ولا يغادر منزله إلا للضرورة القصوى، وإبان موجة التمصير في مطلع الستينيات وتحت ضغوط شديدة من زوجته انتقل وأسرته إلى شارعنا بالقرب من ميدان التحرير.
- نبيل زكي معلم كبير هكذا قال أحمد عصام أحد أفراد شلتنا، قالها بانبهار ثم أردف: - لا يجالسنا نحن لأننا بالنسبة له صبية لم نخرج من البيضة، نأكل تين شوكي وكبيرنا نشرب سيجارة في ظلام شارع يوسف الجندي، اما نبيل لا يجلس إلا في قهوة" العنبة " في عابدين مع معلمين كبار، فهو لا يكف عن المقامرة وعن النسوان وتدخين المخدرات.... نبيل يا جماعة معلم.
-3
كان يكبرني بسبع سنوات، خمري اللون متوسط القامة رشيق القوام، له شعر ناعم ووجه وسيم، وكنت مبهورا به لجرأته الشديدة ولاستهتاره البالغ، ورحب بصاقتي به ودعاني لزيارته في مقهى العنبة في عابدين، أما عن الدراسة فقد كان من كبار الفاشلين ويضرب به المثل في الخيبة الثقيلة، مدمن رسوب وظل يرسب في الإعدادية حتى قررت الدولة أن تغير نظام التعليم بتخفيض سنوات الدراسة في المرخلة الاعدادية من أربع سنوات إلى ثلاث سنوات، فوجد نبيل نفسه يهبط من الرابعة إلى الثالثة، وذبحت أمه عنزة فرحا بحصوله على الشهادة الاعدادية، وتكررت المأساة في الثانوية العامة، وظل يرسب حتى قررت الدولة أن تصفي نظام البكالوريا وتستبدل به شهادة الثانوية العام، وفي أكازيون حكومي قررت الدولة أن تتخلص من كل طلاب النظام القديم، بأن لا ينجحوا فحسب ولكن بالتساهل في التصحيح والإغداق عليهم في الدرجات، فلم ينجح نبيل زكي فحسب لكنه حصل على مجموع مرتفع من الدرجات أهله للإلتحاق بكلية الطب! - نبيل شاطر ودخل الطب من شطارته! هكذا راحت أمه تردد ذلك متباهية به، وتعوض السنوات الطويلة من تعثره ورقبتها التي أضحت أمام الجيران مثل "السمسمة"، والذي لم يكن يجلب لها إلا المشاحنات والعار، وأشترت له- قبل بدء الدراسة - ثلاثة معاطف بيضاء من شيكوريل ولم تتوقف عن تعليقها منشورة في شرفتها وكأنها رايات النصر. وبعد مرور أربعة شهور على الدراسة، بينما كنا في طريقنا لنلعب مباراة في الكرة الشراب في منطقة الوايلي وكنت أمشي إلى جوار نبيل، الذي قال لي: - تصدق بالله لم يدعني نبيل ارد فأردف على الفور: - أنا لم أذهب إلى الكلية منذ ثلاث شهور. لم أعلق وسبقني في المشي، ورحت أرقبه وهو يسير في رشاقة، وقد ارتدى نعلا بلاستيكيا رخيصا وصغيرا، وكعب قدمه يطئ أرض الشارع.
-4
لم يرسب مبيل في كلية الطب لكنه خلال سنتين كان استنفذ مرات الرسوب، وفصلته الكلية وحولت اوراقه إلى كلية التجارة - نبيل إبني شاطر ونبيه... لكن أصحابه هم من يخيبون أمله هكذا راحت أمه تردد بلا انقطاع مدافعة عنه أمام الجارات، وفي أغلب الظن أنها كانت مقتنعة بهذا، فقد اتخذت قرارا عمليا في هذا الشأن، فقد أقنعته بأن ينتق من تجارة القاهرة إلى تجارة الاسكندرية، بعيدا عن رفاق السوء الذين خيبوا أمله، وكلفت والدة نبيل صديقنا بكر خليفة المعروف بالجدية والرزانة ويدرس في حقوق الإسكندرية، أنيكون نبيل تحت رعايته، وأذعن نبيل وانتقل إلى الأسكندرية، ودبر له بكر خليفة حجرة مناسبة في منطقة الإبراهيمية. - نبيل!؟... نبيل لا أمل فيه وحالة ميئوس منها هكذا قال لنا بكر خليفة وقد وقفنا على الناصية، وأردف: - أنا قلت هذا لمحمد شقيقه - لماذا لا أمل منه؟ - سكن في الإبراهيمية بالقرب مني، ومارس تأثيره السئ على شباب الشارع، فجعلهم مقامرون، وتحولت غرفته الصغيرة إلى وكر للمقامرة والحشيش والنساء - والعمل؟ - العمل عمل ربنا.
وكما فصل نبيل زكي من طب القاهرة فٌصل من تجارة الإسكندرية، ولأنه لم يعد طالبا، زال السبب في تأجيل التجنيد، وفوجئنا بشيخ الحارة يطلب نبيل زكي عليوه للتجنيد الإجباري، وتم تجنيده، ولكنه لم يطق صبرا على الجيش والجندية والانضباط، بعد عدة شهور لم يعد من الاجازة إلى وحدته، ومكث في البيت، وعاد إلى حياته اللاهية، الكرة الشراب في يوسف الجندي والمقامرة في مقهى العنبة مع الحثالة تدخين الحشيش في غرزة الجباصي في سوق الأثنين والعودة إلى البيت فجرا، حتى فبضت عليه الشرطة العسكرية ورحلوه إلى وحدته، ونال محاكمة عسكرية سريعة بتهمة " الغياب "، ووقعت عليه عقوبة " الحبس " ثلاثة شهور يقضيها في سجن الوحدة، وبعد شهرين، وبفضل " نعومته " الشديدة، وتظاهره المدهش بالطيبة والرقة والود الشديد، استطاع نبيل أن يخدع حراسه، فقد اوهمهم أنه يعيش أزمة كبيرة لأن أمه مريضة للغاية ويتمنى لو يراها نصف ساعة فحسب، ورق قلب الحارسين الريفيين لمطلبه الذي يدعو للشفقة، وخرجوا به سرا واصطحبوه إلى البيت، وأستطاع أن يخدعهما وأن بلوذ بالفرار فخرج من باب غرفة المسافرين التي لها بتب بفضي إلى السلم، وبعد نصف ساعة كان الجنديان الحارسان يندبان ويولولان وقد أدركا أنهما سيدخلان السجن عقوبة لهما على فرار نبيل زكي.
-5
ذات مساء وكنت في عيادتي، وبعد أن انتهيت، دخل شعبان الممرض وقال وهو يبتسم ابتسامته الكلبية : - واحد في الخارج طلبت منه الكشف ولكمه رفض ويقول أنه صديق سيادتك! - من؟ - نبيل زكي عليوه مرت سنوات طويلة تخرجت وتزوجت وانقطعت بننا الأسباب، وهاهو زعيمي القديم يظهر بعد سنوات طويلة - دعه يدخل عانقني في حرارة وود صادق وجلس فطلبت القهوة والماء المثلج - أنا سعيد جدا بما وصلت إليه.. وكنت أتابع مسيرتك الرائعة هكذا قال وأردف - والحقيقة أنت تستحق كل خير - أشكرك... وأنت؟ - أنا تمام... خطبت واستعد للزواج - ألف مبروك - وأعمل في السيدة زينب لم يزد، ولم أقل له ماذا تعمل، وأغلب الظن أن طالب الطب السابق يعمل سفرجيا أو قهوجيا أو ما شابه من المهن الرثة، كل هذا ظهر من ثيابه ومظهره البسيط كنت مضطرا للإنصراف لارتباطي بموعد عائلي، فسكت برهة وجدته ينهض وقد فطن إلى رغبتي في انهاء اللقاء، اعتذرت له في صدق واكدت له أنني أريد أن نواصل صداقتنا الحميمة، وأشرق وجهه بالسرور. - لى خدمة عندك هل تسمح لي - طبعا ... تفضل - حماتي أسنانها الأمامية مخلوعة هل من الممكن أن نركبها لها - جدا ... جدا أعطيته موعدا لى نبدأ العمل وجاء في الموعد، ودخل شعبان الممرض يبلغني بوصول الأستاذ نبيل زكي، ودخل وفي صحبته امرأة تقترب من الخمسين لها بطن كبيرة وقد كحلت عينيها بكثافة ملحوظة، ولها وجه - على العموم - لا يطمئن، قمت بالواجب وانتهيت من العمل، وعرض غلى استحياء أن يسدد الأتعاب، فرفضت في حسم، فتهلل بالفرحة وبالدعاء - أريد ان نستعيد لقاءتنا هكذا قال - أريد أن نستعيد الماضي في الزمان والمكان هكذا قلت وأنا أرقب شعره الأسود الناعم بلا أثر للشيب - نأخذ موعدا... نلتقي في العاشرة عند فندق شبرد - ستجدني هناك في العاشرة وسأنتظر الموعد على أحر من الجمر انصرف نبيل زكي وحماته ورحت أفكر في حجم التردي الذي وصل إليه زعيمي القديم، وأفقت من شرودي وانا أستعد للمغادرة على صوت الممرض شعبان يقول وهو عابس الوجه - صاحب سيادتك؟ - الأستاذ نبيل؟ ما شأنه؟ - كدت أن أفعلها معه لأنه لم يحترم نفسه؟ شعرت بالانزعاج لتطاول شعبان الوغد على نبيل الذي تربطه بى صلة - لماذا؟ - دخلت أعد الشاي، وتركته هو والمرأة التي معه يجلسان وحدهما في الصالة، وخرجت فوجدته يقبلها - يقبلها؟ - نعم يقبلها قبلة عنيفة - ماذا تقول؟ - وجدته يقبلها فنهرته وقلت له أن العيادة مكان محترم وأن عليه أن يحترم نفسه1 - معقولة راح شعبان يقسم ويحلف أنه لا يدعى عليهما، ولم أصدق حرفا من ادعاءات شعبان لسببين، أولهما أن ذمة شعبان مطاطة ولا يعول عليها مطلقا، وثانيا لأان المرأة حماة نبيل زكي لا علاقة لها بالأنوثة من قريب أو من بعيد، وان شعبان على سحنته التي تقطع الخميرة من البيت به أنوثة تفوق أنوثة تلك المرأة الشنيعة، قلت لنفسي أغلب الظن أن شعبان كان يروم بقشيشا سخيا فلم يظفر به، فألف تلك القصة التي لاتصدق.
-6
جلسنا على الكورنيش خلف فندق شبرد كما كنا نفعل منذ خمسة عشرة عاما، كان النيل أمامنا غارقا في الظلام والصمت، وانعكست من الكازينو في الضفة الأخرى الأضواء الملونة على صفحة النهر، ورف نورسا أمامنا على صفحة النيل، وعبر الفندق القريب، سرت أغنية طروب. - هل تتذكر أيام أن كنت طالبا بكلية الطب هكذا قال. لم تكن المرة الأولى التي يستعيد فيها أنه كان طالب طب، لاحظت أنه يختلق حديثا لا علاقة له بأي شئ سوى أن يكرر" عندما كنت طالب طب " شعرت بالأسى له وأنا أرقب مظهره الرقيق، وتذكرت أن الحياة قاسية للغاية وبلا رحمة، ومن " يهجص " معها ستلقنه الدرس الذي لم يكن يخطر له على بال. - كيف حال حماتك؟ - كويسة... تبعث لك بالسلام - بالمناسبة أين زوجها؟ لقد رأيته معك على مقهى العنبة - نعم... رجل نطع كان يأتيني على القهوة ليحتسي شاي بالحليب على حسابي - وأين هو الآن؟ - طفش... بلغ فرار - كيف؟ - عمل استبدال معاش وأخذ النقود وفص ملح وداب - اختفي نهائيا؟ - لاأحد يعلم عنه شيئا... انقطعت أخباره وترك زوجته وبيته وابنته وشقيقتها... الآن عندي مشكلة مع مراته ... حماتي؟ - خير - حامل... - حامل؟ كيف وزوجها مختفي، ومن الفاعل؟ هل تعرف؟ - حامل مني أفقت ولم أصدق ما سمعت - حامل منك؟ حماتك؟ - نعم - يخرب بيتك .. كيف؟ - عادي - كيف؟ هذه مصيبة - فعلا مشكلة - كيف حدث الله يخرب بيتك - كنت أدخل معها الغرفة - أين - في شقتها في الناصرية، كنا ندخل الغرفة ونغلقها علينا بالمفتاح - وخطيبتك؟ كنا نقول أننا نتكلم في الجهاز - تتلكموا في الجهاز ؟ - نعم ماذا نشتري ومن أين.. - ماذا فعلتما في بطنها وهي تكبر - لاشئ فهى أصلا بطنها كبيرة تنهدت وأنا أرمق زعيمي القديم بنظرات ثاقبة وأنا تتملكني رغبة عارمة أن أخترق جمجمته الصغيرة لأعرف ماذا يدور في عقل عذا الكائن العجيب. - ليست المرة الأولى - يا نهارك الأسود ... ماذا تقول... ليست المرة الأولى؟ - نعم في العام الماضي حدث الحمل - وبعد؟ - عندما اقترب موعد الولادة اصطحبتها إلى مستشفى الجلاء للولادة، وحجزوها بها - وبعد؟ - ولدت طفل.. - طفل؟... ولدت طفل؟ - نعم... انتظرنا قبيل الفجر وتسللت وخرجت به وكنت انتظرها خارج المستشفى وذهبنا بالطفل إلى ملجأ في الزيتون، ووضعناه على الباب اصابني الذهول، ورنوت إلى النافورة التي تتوسط النيل بألوانها البديعة، النيل الذي يتدفق وعلى ضفافه تنسج المأسي والمصائر، ألقوا به على باب الملجأ؟ - هذا معناه أنك لك إبن الآن في هذه اللحظة يعيش في الملجأ تنهد مدعيا الأسف وقال في تسليم - نعم - وحماتك حامل للمرة الثانية؟ - بنت كلب لم تأخذ الحبوب - لم تأخذ الحبوب هكذا رددت في بلاهة ساد صمت ثقيل بيننا وشرد كل منا في أفكاره، وبعد برهة وجدت نفسي أقول له - كل عقدة ولها حلال رد على في بساطة وقال - فعلا كل عقدة ولها حلال ا
ا الامتحان
في ليلة شتوية من ليالي شهر ديسمبر، جلس طالب الطب إسماعيل فهمي يستذكر دروسه، استعدادا لاختبار مادة الميكروبيولوجي، تلك المادة الجافة التي تعتمد على الحفظ، لقد ذاكرها أكثر من مرة، وهاهى في خضم استعداده ومراجعته لبقية المواد، يجدها و قد تبخرت من ذاكرته، كانت الساعة الثامنة، أمامه ليلة طويلة، سيستعيد الميكروبيولوجي في ذاكرته في ستة ساعات وربما ثمانية ساعات، سيراجعها بكل جدية من الثامنة حتى الخامسة فجرا وربما السادسة، ثم سينام إلى العاشرة فيراجعها ساعة أخرى، ثم يتوجه إلى الامتحان في الثانية عشرة ظهرا. - زميلاك علي وعادل هكذا قالت أمه وأدخلتهما عليه، رحب بهما وخرجت أمه لتعد لهما الشاي وغمغمت لهم بالنجاح والتوفيق، شعر بالدهشة وظن أنهما حضرا لي يذاكرا معه، فشعر بالقلق والحيرة، اعتادا أن يأتوا إليه فيتولى شرح المادة وتلخيصها لهم، فيستفيد من ذلك استفادة هائلة، من ناحيته فالشرح يثبت المعلومات في عقله، ويستفيدا من الشرح بتسهيل المذاكرة والحفظ، وتذكر أن كلاهما دخلا كلية الطب باستثناءات من المجموع في الثانوية العامة، على المغربي والده أستاذ جامعي، وأبناء الأساتذة يحق لهم ذلك الإستثناء، أما علدل عبد الفتاح الخمري اللون فكان استثناءه بسبب تفوقه الرياضي، فهو كابتن فريق نادي " س" في لعبة الهوكي، فكر إسماعيل في أنهما لو ظنا أنه سيتفرغ للشرح لهما الليلة فهما واهمان، يريد أن يخلو إلى نفسه وللمايكروبيولوجي بغباوتها وسيتغلب عليها بإذن الله، فقال إسماعيل في تحفز - خير قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي - ابن الوسخة علي معه بلابل؟ - بلابل؟ هكذا قال إسماعيل - بلابل من التي يحبها قلبك دعه يرى البلابل يا ابن الكلب كانت الشتائم التي يتبادلوها من باب حميمية الصداقة والزمالة، أخرج على المغربي من الكيس البلاستيكي الذي يحمله عددا من زجاجات البارفان الحريمي الفاخرة وخاتم ذهبي صغير. فهم إسماعيل الحكاية كلها، وعرف أن عادل عبد الفتاح ذهب إلى علي المغربي في بيته في مصر الجديدة، بغرض أن يذاكرا سويا استعدادا للإمتحان في الغد، وكانا كلاهما من الفاقدين، وجلسا أمام مذكرة الميكروبيولوجي وكأهما طور الله في برسيمه، ومن باب تزجية الوقت فتح على المغربي دولاب أمه، فشاهد عادل عبد الفتاح الدولاب وبه حقيبة كبيرة مكتظة بالهدايا الثمينة التي يشتريها أبيه من السوق الحرة ليهديها إلى زوجته والدة على المغربي، فالدكتور المغربي عالم الجغرافيا الشهير والحاصل على الدكتوراة معار بشكل دائم في الدول العربية، واقترح عادل عبد الفتاح على علي أن يختلسا عددا من زجاجات العطور الباريسية، وأن يتولى عادل بيعها في قصر النيل، وأن يأخذا حصيلة البيع ليقضيا سهرة رائعة في كباريه الناسيونال في شارع قصر النيل - نأخذ كأسين.. وشاهد الرقاصات.. وممكن نأخذ معنا امرأة - شقة جدتي في الكيت كات فاضية - حلو جدا - هيا هات البلابل توقف على المغربي وأغلق الدولاب وقال - لن آخذ شيئا - لماذا؟... نريد أن نفرفش الليلة - والامتحان غدا؟ ... الميكروبيولوجي - هاهى المذكرة أمامك ... لن نستطيع أن نذاكر اربعة ورقات.. صح؟... صح أم لا؟ أمسك على المغربي المذكرة وراح يفر الأوراق الثمانين المطلوبة في الامتحان وقال في تسليم - لا... لن نستطيع... . - لمذاكرة هذه الكمية يلزمنا شهر على الأقل... صح أم لا؟ - صح اقتنع على المغربي بمنطق عادل عبد الفتاح، لكنه اشترط على عادل أنه لن يأخذ البلابل إلا اصطحبا زميلهم المتفوق إسماعيل فهمي. - إسمع يا علي.. أنا سأريحك، سوف نمر على سعيد، نأخذه معنا لكي نستخدم سيارته، ونبيع البلابل، ونمر على إسماعيل فهمي - بسيارة سعيد... ماشي - ولكننا لن نخبر إسماعيل فهمي بأننا سنذهب إلى الكباريه.. لن يأتي معنا فهو " دحيح " ولن ينزل ليلة الامتحان إلا لو قلنا له أننا سنلتقط نسوان من شارع نوال لأن شقة جدتك في الكيت كات خالية - وامتحان الغد؟ - ممكن اللجان تكون سهلة... - ممكن - وإن لم تكن سهنة... هذا امتحان أعمال سنة... والتقيل وراء... الدرجات معظمها في امتحان نهاية العام، سنعمل المعسكر المتين وسنقضي شهرين لاشئ نفعله سوى المذاكرة.. مثل العام الماضي والعام الذي سبقه.
-2-
- شقة جدتك خالية؟ هكذا سأل إسماعيل فهمي في جدية شديدة - فاضية والله هكذا أجاب عادل عبد الفتاح وأردف - ارتدي ثيابك بسرعة كي لا نبدد الوقت. شعر صاحب المنزل الطالب إسماعيل فهمي بالحيرة الشديدة التي تصل إلى درجة التعذيب، فهو مولع بالجنس، جربه مرة في شقة فوزي أنور مع مومس فلم ينسى المتعة الحسية التي لا مثيل لها، لقد سمع من أحد الأطباء في التليفزيون أن الشاب يقع تحت سيطرة الهرمونات التي تلغي عقله، وشعر أنه واقع تحت سيطرة الهرمونات، و الميكروبيولوجي؟ كيف سيذهب إلى الامتحان وهو لايتذكر من الثمانين صفجة سوى ضبابيات لاتذكر - كم الساعة الآن؟ هكذا سأل عادل عبد الفتاح - السابعة والنصف - في العاشرة سنعيدك إلى هنا، منتعش بممارسة الجنس الجميل مع امرأة من نسوان شارع نوال، ستعود وقد تخففت من الرغبات التي تضنيك، لن أقول شيئا ولكن سأقول لك تخيل ان امامك امرأة عارية .. تخيلها وأعطني عقلك !! - والميكروبيولوجي؟ - سنعود في الحادية عشرة - ورانا ورانا...أين سنذهب منها ومن غباوته!ا هكذا قال على المغربي صاحب البلابل وهو يتذكر أستاذ المادة الذي أطلقوا عليه عباس" كوكاس " - هيا أرتدى ثيابك لا تضيع الوقت، دعنا نرفه عن نفسنا قليلا، نتخفف قليلا من الرغبة الفظيعة، هل تصدقان انني لا أنقطع عن التفكير في الجنس. "سوف ننتهى في العاشرة" هكذا قال إسماعيل لنفسه وقد استسلم للإغراء والغواية، لو لم يقولوا له أنه مدعو للمارسة الجنس، لا توجد قوة على الأرض قادرة على زحزحته عن مراجعة الميكروبيولوجي، ألم يقل فرويد أن الجنس محرك التاريخ، فل يعجز الجنس بكل جبروته عن تحريك إسماعيل فهمي وهو مجرد طالب متفوق لا راح ولا جاء راح إسماعيل فهمي يرتدي ثيابه بسرعة وانتبه من أفكاره التي يبرر بها ضعفه المشين أمام شهواته، على دخول أمه - هل ستنزل؟ شعر بأنه يهوي من حالق، جائك الموت يا تارك الصلاة، ماذا يقول لها تلك المرأة الطيبة التي يعتبرها تجسيدا حيا لإنكار الذات والتفاني في أبنائها - ساعة واحدة... ساعة واحدة وسأعود،.. امتحان الغد تم تسريبه، والامتحان حاليا عند عز الدين القليوبي، سأعرفه وسأعود فورا، لن أغيب. - ربنا ينجح لك المقاصد... سأنتظر عودتك لم يرد عليها وهو يشعر بالخزي الشديد، وغادر مع زميلية على المغربي وعادل عبد الفتاح ببشرته الداكنة وقوامه المتين ووجهه الشعبي الملامح، ومنحتهم أمهم " في أمان الله "
-3-
عندما نزلوا وجدوا زميلهم على سعيد ينتظرهم داخل سيارته، ليست سيارته ولكنها سيارة أبيه الموظف الكبير في مصلحة الكهرباء، تصافحوا و أقترح إسماعيل أن يضموا عز الدين القليوبي الذي يقطن في الجيزة، فمروا عليه. وعادوا بالسيارة إلى وسط البلد، وتولى عادل عبد الفتاح ومعه على المغربي بيع المسروقات، وعادا وهم يتشاحنان لأن على المغربي يتهم عادل عبد الفتاح تواطئ مع البائع واختلس خمسة جنيهات لنفسه، وانطلقت السيارة - لما أختليت بالبائع ماذا قال لك؟ هذه أولا، وبعد أن ناولني النقود، لماذا رجعت له وقلت أنك نسيت سجائرك، وأنت تخفي علبة سجائرك في الشراب انفجر عادل عبد الفتاح في الضحك.. فتوجه على المغربي إلي المجموعة بالسؤال قائلا: - صح ولا لأ.. - لا... لأنه لا يشتري سجائر أصلا... ويعتمد على سجائرنا - أليست البلاد تتبنى المذهب الإشتراكي.. نحن نطبقها لا أكثر هكذا قالت التعليقات فقال على سعيد الذي يقود السيارة - إلى أين؟ - الوقت يمر يا ابناء الأفاعي ولم نراجع المايروبيولوجي... سنذهب إلى شارع نوال... شارع نوال دعك من هؤلاء الصياع - يبدأ الفسق من كورنيش العجوزة - نبدأ من مجطات التروللي باس على الكورنيش، بعرض مستشفى العجوزة - شارع نوال أولا... كانت شوارع منطقة العجوزة خاوية وموحشة ومظلمة، ولاسيما الكورنيش، والمصابيح القليلة تعتصر نورها الذابل، واعتصر الألم قلب إسماعيل لأنه يبدد وقته مع هؤلاء الضائعين، لولا الجنس لتركتهم فورا، وتذكر أمه ودعواتها فشعر بوخزة في قلبه، وراح يفكر في علي المغربي وعلاقته الغريبة بأبيه، وهو الولد الأكبر الذي دللته أمه، فأصبح يسرقها ويسمي المسروقات "بلابل" أما بيعها فيطلق عليه" تسويح البلابل " وفكر اسماعيل أن علاقته بهؤلاء الصياع كانت السبب في أن تسوء سمعته في الدفعة، وكثير منهم يحبونه ويقدرونه لتفوقه وأدبه. - ولا واحدة هكذا قال على سعيد القابع خلف عجلة القيادة، الذي راح يبطئ السيارة ويمشي بها إلى جوار الرصيف، وانتهى من شارع الكورنيش ودخل إلى شارع نوال، وتهادى بها وعبر باعة الفاكهة الجائلين وعلى نور الكلوبات والمصابيح القوية تلألأت تلال البرتقال والموز - نقضيها سجائر وموز هكذا قال على المغربي متهكما - نذهب إلى ميدان التحرير - بعد ميدان التحرير علينا بميدان كصطفى كامل، هناك كباريه " كوبانا" - هل ندخله؟ - لا... ربما سألنا قوادا يقف على الباب، وربما وجدنا امرأة خارجة لتوها فنصطادها - أين سنبحث في ميدان التحرير - مجطة التروللي خلف لاباس، حديقة الزهور أمام المجمع، عند النافورة، وخلف مسجد عمر مكرم تلك مناطق تجمعات الموامس، هذه منطقتي يا جماعة لأنني أسكن بالقرب من الميدان هكذا قال إسماعيل وهو يتألم لأن الوقت يمر والميكروبيولجي مثل كالسيف الذي سيقطعه لا محالة ، ودارت السيارة وانطلقت نحو الشيراتون وانحنت يمينا لتدخل إلى كوبري الجلاء، كانت الشوارع مقفرة، وكافيتيريا أسترا خاوية إلا من ثلاث زبائن جلسوا في موائد متباعدة، ومحطة التروللي خاوية إلا من رجل بلدي ومعه صبي - الساعة ما زالت التاسعة، وفرصتنا أفضل كلما تأخر الوقت - والامتحان؟ - لف من شارع منصور... - سوق باب اللوق؟... لا داعي للتهريج!! لفت الجماعة ودارت بالسيارة في الشوارع المظلمة يفتشون عن صيد يقضون بها ليلتهم كما خططوا لها، ولكن جهودهم ذهبت سدى، لم يجدوا غير شوارع مقفرة ومحلات مغلقة والميادين الخاوية إلا من مصابيحها التي تعتصر الأنوار وكأنها الحلي الذهبية وقد رصعت الليل الذي بدا كأنه المخمل الأسود. - أفضل شئ أن نذهب إلى المنبع - يالك من فيلسوف.. وأين ذلك المنبع يا فيلسوف؟ - الكباريه نبع الموامس والعاهرات - لا فض فوك يا مسئول الفسق في دفعتنا... إلى الكباريه هكذا قال إسماعيل متوجها بحديثه إلى عادل عبد الفتاح، فضجت السيارة بالضحك، وشعر فجأة بوخزة في قلبه وهو يتذكر وجه أمه المتغضن ونظرتها الطيبة وهى تدعوا له بالصلاح وبالفلاح. وأفاق من شروده وقال في وهن - أنزلوني هنا لأعود للبيت - على جثثنا... إما أن نفسق سوا... أو نذاكر سوا.. والليلة حرام فيها العلم. استقر الرأي على كباريه "الفيروكيه" وهو الملهى الليلى لفندق الناسيونال في شارع سليمان باشا، لقد جرى الزمن على الفندق والكباريه الذي بات شعبيا، ودفع علي المغربي صاحب البلابل تذاكر الدخول، وجلست الجماعة على مائدة تجاور البيست، وأحتسوا الشراب، ولعبت الخمر المغشوشة برؤوسهم، وصيحوا كثيرا، وحجز الأمن بينهم وبين مجموعة من الشباب الليبي، وصفقوا وهللوا ومر الوقت سريعا وغادروا بعد أن دفعوا الحساب، وكانت الرابعة فجراً.
-4-
" ماذا فعلت بنفسك " هكذا قال طالب الطب إسماعيل فهمي وصداع رهيب يحطم جمجمته، أضاع ليلته وهاهو من شدة السكر لايكاد أن يجد ثقب الباب ليضع في المفتاح، وهاهو الباب يفتح، ليجد أمه تقف - صباح الخير هكذا قالت وهى تفسح له لكي يدخل وترمقه في محبة تصل إلى درجة الوله، وزادت نظرتها الحانية من عذابه، لماذا لا تقوم القيامة؟ لو انشقت الأرض وابتلعته لما كان عذابه كما يشعر الآن. - كنت أصلي الفجر، فوجدتك تعبث بالمفتاح... ذاكرت؟ - آه... هكذا أجاب في اقتضاب ةالندم ينهشه. وشعر بالماء البارد يغمر رأسه ووجهه وقد وضع رأسه تحت الصنبور، وتذكر المشاجرة السوقية التي دخلها مع الشباب الليبي، وشعر بالخجل لترديه إلى ذلك المستوى" سكران في بار و مشاغب فقد عقله في كأس" - ماذا فعلت... قاطعها قائلا: - تمام الحمد لله وقف في الحمام يجفف رأسه ووجهه وصداع رهيب يحطم رأسه، قالت أمه - سأعد لك إفطارا خفيفا وتدخل لتستريح حتى موعد الأمتحان..سأبقظك في العاشرة، امتحانك في الثانية عشرة - لا... سأكمل ولن أنام.. - ستظل مستيقظا حت الإمتحان؟ - نعم... أنا لا أريد إفطارا.. أنا أريد أسبرينتين وقدح من القهوة، أريدها دوبل، في الكوب الكبيرة. أعدت له القهوة ومعها سندويتش خفيف - كل هذا أولا هل يقول لها أن الخمرة المغشوشة التي احتساها في كباريه ترسو بنقود زميل فاسد سرق أمه وأبيه، تلك الخمرة تمزق له معدته، ليته تقيأ فيرتاح، لكن القئ لم يسعفه، وكأن معدته قررت أن تنتقم منه من أجل أمه، تلك الدجاجة الطيبة العجوز التي تقئقئ لتربيته وشقيقيه، مات أباه منذ عشر سنوات، عن تجارة تحمل عبئها ابنها الأكبر الذي لا يتورع عن سرقة اخوته بتحريض من زوجته، وتحملت الكثير من أجل تربيتهم، خاب أملها في الأربعة اولاد، ويعرف أن أمه تتعزى به، تحبه لأنها المطيع الذي لا يرهقها بطلبات مدللة، تحبه لأنه يعرف واجباته فيستذكر دروسه من تلقاء نفسه، شرفها أمام المتلمظين بها غيرة وحسدا والتحق بكلية الطب بمجموع عالى، يحصل كل عام على مكافئة من الكلية لحصوله على تقدير جيد جدا، أما شقيقيه الأصغر منه بعامين وشقيقه الأكبر منه بعامين فهما مدللان يرهقانها بالطلبات التي تعكس عدم شعورهما بها ولا بالمسئولية الملقاة على عاتقها، إهمالهما لدروسهما تعثرهما في دراستهما. جلس إسماعيل على مائدة السفرة المستديرة، وربتت أمه على كتفه في حنان وقالت: - هل أعمل لك شيئا... - لا... - ربنا ينجح لك المقاصد انصرفت أمه وتركته وجها لوجه مع مذكرة الميكرو بيولوجي الضخمة الرديئة الطباعة، وورقها الخشن السئ، وهاهي الصفحات الثمانين بطلاسمها تتحداه، وهاهو الصداع الرهيب يحطم رأسه، لن ينام مهما أصابه، سيتحمل الصداع و آلام أحشائه وسخافة المكروبيولوجي لكي لا يشعر بالمزيد من الذنب، ونظر من النافذة القريبة ونور الصباح الأزرق الفاتح يخيم على السماء في روعة، وآشعة الشمس الذهبية تتسلل من الأفق وقد تغطت بسحابات رمادية وفضية، اتهم نفسه بالاستهتار وبالتفاهة وبقلة الاحترام، ونظر في الساعة، لقد مرت نصف ساعة، لم يستذكر سوى خمس صفحات، وعندا اختبر نفسه في التحصيل لم يستطع استعادتهم من الذاكرة، شعر باليأس الأسود ينتابه، اليأس ترف لا تملكه، عقوبتك أن تستمر وأنت تعرف أن لا جدوى، فلن تستعيد أكثر من عشرة في المائة من المطلوب في الامتحان خلال الثلاث ساعات المتبقية على الامتحان، حيث ستبيض وجوه وستسود وجوه. على مثل ذلك النحو جرت أفكار إسماعيل، وقرر أن يتبع سياسة "التنشين" أن يختار عددا من الموضوعات التي يرجح أن تأتي في الامتحان، وراح يدعو الله في حرارة، أن تترفق به الأقدار هذه المرة فحسب، فيجد تخميناته في ورقة الامتحان، ولن يكررها ثانية، ليس من أجلي أنا، بل من أجل المسكينة التي صدقتني وأنا العابث المستهتر الذي أستحق الحرق. وفي العاشرة والنصف أخذ حماما ساخنا وارتدى ثيابه ودعوات أمه تلاحقه شعر بها وكانها الجمرات التي تلقى على إبليس.
-5- تجمعت الشلة في الكوريدور أمام المدرج - هل راجعت الميكرو أم نمت على الفور - نمت مثل القتيل، وكيف أراجعها وأنا لم أذاكرها أصلاُ هكذا قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي وهو ينظر إلى إسماعيل الذي وقف عابسا لا يتكلم ولا يشاركهم الحديث لم يرد - مالك؟ هكذا قال عادل - لماذا جئت بعلى المغربي إلى، لماذا راح عادل يقسم بأنها فكرة على المغربي الذي قال أنه لن يأخذ البلابل ليسوحها إلا إذا جئت معنا - لعنة الله على ديك أمك لديك أمه هكذا قال اسماعيل في سخطوغضب، في ذلك الوقت كان على المغربي يستعيد المشادة بينهم وبين الشباب الليبي. وتبين أنهم لن يدخلوا سويا إلى نفس اللجنة، فالشلة كلها سوف تمتحن في قاعة صغيرة، وأنه سوف يمتحن في القاعة الصغير المواجهة لها. دخل إسماعيل إلى اللجنة وجلس في الصف ما قبل الأخير، وجائت ورقة الأسئلة، طيلة عمره وهو يحسب ألف حساب لرهبة الامتحان والمرور السريع على الأسئلة، كأنها لحظة السؤال المرعبة وقد بعث الميت في القبر، هل تصيب تخميناتي يارب العالمين من أجل حبيبك النبي ومن أجل المسكينة أمي؟ مسح الأسئلة بعينيه ولم يجد تخميناته، خابت كلها فلم تصب إلا ربع سؤال من أربعة اسئلة، كل سؤال من أربع نقاط، هذا معناه أنه لا يعرف إلا نقطة واحدة من اثناعشرة نقطة، "ضعت يا إسماعيل" هكذا قال لنفسه. أجاب عن الفقرة الوحيدة التي يعرفها، وبدت له بقية الاسئلة كأنها الطلاسم، وحاول أن يسأل جاره فنهره المراقب في غلظة وهدده بأن يخرجه، وقضى إسماعيل الساعتين وهو في كرب لم يشعر به من قبل، وتعاسة لا حدود لها، ولم تغب أفكاره المضنية عن أمه، فكر في وجهها البرئ وهى تدعوا له وهو يخدعها أنه سيخرج لأن الامتحان قد تسرب. فكر في شقائها عندما تشاحن شقيقيه بالأمس القريب، وتطورت المشادة إلى تضارب، فدخلت بينهما فنالت بالخطأ لكمة عنيفة أسالت الدماء من فمها!! فكر في فمها الأهتم وقد فقدت معظم أسنانها وطاقم الأسنان الصناعية التي تستخده، جسدها الثقيل وقد هزلت وساقيها المقوستين من تهالك مفصليها، لماذا لا تنشق الأرض كي تبتلعه؟ لماذا خذلتها؟ - مضى نصف الوقت من الممكن أن ينصرف من انتهى من الإجابة هكذا قال المراقب بصوت عالي، فخرج عدد من الطلاب وسلموا ورقة الإجابة وانصرفوا الواقع يقول أن أسلم ورقتي الهزيلة وأنصرف، لكن لا، سأشرب كأس الذل حتى آخره، وظل إسماعيل في مكانه، والأفكار السوداء تعذبه وكأنها الجرح الذي يدفعه لكي يهرش فيه فيتألم فيزيد الألم من الرغبة في المزيد من الهرش وهكذا، ومضى الوقت وسلم الورقة، وخرج ليجد الشلة واقفة تتحدث وتضحك - ماذا عملت؟ هكذا قال على المغربي صاحب البلابل - زفت؟ راح يضحك في هيستيريا وتوجه بالحديث للشلة - يقول أنه عمل زفت - وماذا عملت؟ هكذا قال إسماعيل فهمي متعجبا - غششنا... المراقب طلع هايل قال لنا من معه " حاجة " يطلعها واكتبوا من سكات - وطلعتم كتب؟ - نقلنا من المذكرة... روعة، وأنت؟ - زفت.... تركهم دون كلام وأشعل سيجارة ومشى في الكوريدور وتذكر وجه أمه وهى تكاد أن تسقط على وجهها من اللكمة الطائشة التي نالتها، وفكر الطالب المتفوق إسماعيل فهمي في فكرة الانتحار.
.
في البن البرازيلي -1- اانتهى الطبيب الشاب إسماعيل فهمي من آخر مرضاه في عيادته الشعبية في حى الظاهر، وصرف الممرض شعبان وخلا إلى نفسه، لقد اعتاد أن يخرج النقود التي دفعها مرضاه كأتعاب، أن يخمن مهن مرضاه بالتدقيق في الرائحة المرتبطة بالأوراق النقدية التي دفعوها كأتعاب، فذلك بائع طعمية، وهذا بياع سمك، وتلك امرأة متفانية في غسيل الصحون وهذا بائع لحمة راأس... إلى آخره، لكنه الليلة لم يفعل ذلك فقد دس النقود في جيبه وهو مشغول البال ومعتكر المزاج، فقد داهمته الليلة نوبة من الأحزان التي تجتاحه بين الحين والآخر، فيمعن خلالها في التفكير من في المنغصات التي تسمم له حياته، أولها تلك المشاجرة الكئيبة التي نشبت أمس الأول بينه وبين شقيقه على ميراث تافه، ومنها مشاكله في العمل كمعيد في كلية الطب واضطهاد رئيس القسم له، وعجزه عن الزواج لضيق ذات اليد. لقد تجاوز الطبيب الشاب الثلاثين عاما بعم واحد، طويل القامة لا يخلو من وسامة، لقد أطال شعرة الأجعد، وأطال سالفيه مجاريا الموضة،و رسم على وجهه نظرة استعلاء وسخرية أصبحت تلازمهة، وهى نظرة جديرة بشاب في عمره، وفتح باب العيادة ليخرج ففوجئ بمن يقف على الباب وينظر إليه، واستطاع بعد برهة أن يستعيد شخصية القادم، إنه زميله السابق سمير، سمير جي كيه كما كان يقول عن نفسه، سمير جندي كامل، جعلها من خفة عقله سمير جيه كيه - انت نازل؟ - كنت نازل... اهلا ومرحبا - دعني أدخل أولا - ادخل يا صديقي العزيز ... تفضل... أي ريح طيبة ألقت بكا ؟ ا هكذا قال الطبيب الشاب لضيفه - انا وقعت من السماء وانت ستتلقفني صمت د. إسماعيل صاحب العيادة وهو يسمع ويتأمل في ضيفه وهما يحتسيان القهوة التي أعدها إسماعيل في عجالة، مازال أنيقا كما هو، الجاكيت البيج والبنطلون البني المحروق والحذاء الهافان الأجلسيه، طويل وعريض ضخم الجثة وهرقلي القوة، وعيناه تطلقان نظرات مفعمة بالتزلف والرياء، لكن داخل هذا التزلف بصيص ماكر وزيف أكيد. - خيرا يا عزيزي ا - لقد حصلت على حكم المحكمة لكي تمنحني كليتكم الوسخة فرصة اخيرة..... هكذا قال سمير الضيف في حنق وتأذي الطبيب الشاب من لفظه" الوسخة" فهو ينتمي إلي الكلية، ووجد نفسه يجاري ضبفه المحنق فقال: - من ناحية الوساخة فهى كما تقول... لكن أى فرصة؟ - فرصة دخول الامتحان، فأنا لا يوجد عندي مواد سوى مادتكم، المادة التي تدرسوها، لو اجتزتها لوصلت للسنة الرابعة واتخرج وأصبح طبيبا مثلكم!! لاذ إسماعيل بالصمت حائرا ومشفقا على زميله السابق المتعثر البائس - ساعدنى - انا تحت أمرك لكن كيف؟ - سوف أدخل الامتحان في مايو القادم وأنا في عرضك سوف تشرح لى المادة ستشرح لى المادة شعر إسماعيل بالحيرة، لا يعطي دروسا بنقود، فيورطه سامي في درس في أغلب الظن سيكون مجانيان ثم انه لم يكن من اصدقائه المقربين منه، مجرد زميل، ورنا إلى زميله وهو ينظر إليه بنظرات متوسلة، وعينيه السوداويين يكادا ان يغرورقا بالدموع، فشعر بالرثاء له، وبعد صمت قصير وجد المعيد الشاب نفسه يقول: - على خيرة الله. قاطعه سامي ونهض وقبل رأس إسماعيل، وهو يلهج بالشكر والامتنان وكلمات من نوع لن أنسى جمائلك طيلة عمري وأنا أردد للجميع أنك أجدع واحد في دفعتنا ابتسم إسماعيل في اشفاق وخجل وقال: - أشكرك... المهم أن نتفق على مواعيد بعد انتهاء العمل في العيادة تأتي إلى وسوف أشرح لك المنهج ... وعليك بالمذاكرة. المادة جافة وصعبة، ما أن تنتهي معي عليك بمذاكرتها أولا بأول. - طبعا.. طبعا..سترى.
-2-
انظلق المعيد الشاب إسماعيل فغادر عيادته في شارع الشيخ قمر، وطالعه مبنى جامع الظاهر بيبرس الجهم الضخم في الميدان، وراح يرقب أحجار السور الضخمة ومن خلفها السماء المرصعة بالنحوم، ولف حول الميدان وخرج إلى شارع بورسعيد وهو يفكر في مقابلة زميله السابق سمير جى كيه، وفكر في الوضع الزري الذي تردى سمير إليه، وفكر أن وضعه في الحياة لا يتناسب مع تأنقه الشديد، كيف - وهو المفصول من الجامعة لاستفاذ مرات الرسوب- يقف في محل البن البرازيللي في شارع سليمان كل يوم وقد تعطر وتأنق؟ تعجب إسماعيل من طباع زميله السابق، لو كان في موضعه لمات من الهم والحزن والهوان، لقد التحق اسماعيل بالكلية ووجد سمير طالبا من طلاب السنة الأولى، تخرج أسماعيل من الكلية وسمير مازال طالبا، وقضى إسماعيل سنة الامتياز وسمير مازال طالبا، ثم أدى إسماعيل الخدمة العسكرية وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على وظيفة معيد، وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على الماجيستير وسمير مازال طالبا. لقد سمع من الزملاء في الكلية الذين يسكنون في حى شبرا، أن سمير وحيد أمه وتوفى أباه وربته أمه ودللته فنشأ ضعيف الإرادة والعزيمة، والتحق بكلية الطب باستثناء في المجموع، فقد كان سمير لاعبا في فريق كرة اليد بالتوفيقية الثانوية، ذلك الفريق الذي حصل في تلك السنة، على بطولة اللعبة على مستوى مدارس الجمهورية في، وكافأت الدولة أعضاء الفريق بحصولهم على درجات تفوق أوصلتهم للالتحاق بكلية الطب، لكى تبدأ مأساة سامي جي كيه. -3-
ساقته قدماه إلى شارع بورسعيد، فركب تاكسي - شارع سليمان باشا... سيذهب إلى بار الناسيونال، سيدفن أحزانه في كئوس البراندي المحلي القوي الرخيص، فكر أن مشكلته لا تقل سوءا عن مشكلة سمير جى كيه، سمير يتوق إلى الحصول على بكالريوس طب، وهو يتوق إلى الزواج، وكلتاهما رغبات تستعصي على المنال، عندما وصل إلى ميدان العتبة، وفي نوبة من نوبات مصارحة النفس، أعترف الطبيب الشاب لنفسه أنه مسئول إلى حد كبير عن تعاسته، وتعاسته تتلخص حاليا في عدم قدرته على الزواج لضيق ذات اليد، ومسئوليته في ذلك لأنه رفض أن يعطي دروسا خصوصية، إذ كان في استطاعته أن يعطي الدروس الخصوصية للطلاب، مثل عدد كبير من زملائه، الذين على الرغم من سطحيتهم الشديدة وافتتقارهم إلى أبسط درجات الثقافة والوعي، تمكنوا خلال سنوات من تحقيق كل تطلعاتهم العملية، الشقة الفارهة والعروس الجميلة والعيادة في الموقع الرائع وكلها من الدروس الخصوصية، لكنه اعتبر أن الدروس الخصوصية مسألة مبتذلة ورخيصة، ولخصها في كلمتين وهما " اللف على البيوت "، لكنه الليلة يعترف بأنه كان يخبئ خلف هذا الشعار الطنان حبه الجارف للحياة واللهو، وأنه استبدل اللف على البيوت" التي ستحميه من المسغبة باللف على البارات كما يفعل كل ليلة، وآية ذلك أنه ذاهب الآن إلى بار الناسيونال، وسيجد هناك الشلة من غرائب الطبيعة، وسيشرب البراندي القوي، وسيدفن في الكأس أحزانه، وسيدخن الحشيش في الغليون، وسيقضي ليلة ليلاء، صخب ضحك ولعب وغناء ومناقشات. أختار أن يحيا كما يحب وهاهو يدفع الثمن، أن تتحمل ما لا تحب، اخترت أن لا تبتذل نفسك و ولن تمتهن العلم بقدسيته في اللف على البيوت، لن تتحول من باحث وعالم إلى تاجر شنطة الذي يحمل شنطته ويلف بها على الزبائن الأثرياء و يبيع بضاعته لهم، حسنا عليك أن تدفع الثمن، والثمن هو أنك لن تستطيع الهروب من الأزمات المالية المتلاحقة وستظل تلهث لكي تطفو فحسب في بحيرة البراندي التي تحيط بك. فراتب الجامعة هزيل، أما العيادة الشعبية التي افتتحها منذ سنوات ، صحيح أنه حقق شعبية لابأس بها في المنطقة، لكن مرضاه في المجمل من الشرائح السفلى من البورجوازية الصغيرة، موظفون صغار وسعاة في مصالح حكومية بائسة، وصغار الحرفيين والأرزقية وستات بيوت يستحققن الرثاء من الفقر والأسى. ودخله الشهري من هذا وذاك بالكاد يغطيان نفقاته، فكيف يدخر الألوف اللازمة لنفقات الزواج، ومازال يتذكر مقولة كتبها كاتبه المفضل في إحدى رواياته" يطلب الرجل المرأة ولو أقعده الكساح"، فما بالك بشاب رياضي وفي الثلاثين من عمره. أنى له بزوجة تبدد وحشة حياته الجافة، وكثيرا ما يتهيأ له أنه أشبه بصبارة بائسة تنتصب وحيدة في صحراء قاحلة. إفاق من شروده على وصوله إلى بار الناسيونال. لم يصل أحد من الشلة، اختار مقعدا على البار لكي يثرثر مع البارمان أحمد، يريد أن يهرب من مواجهة نفسه بخيباته وتعاساته، سوف يزجي الوقت حتى مجئ الشلة بالثرثرة مع البارمان " أحمد " والجرسون سيد وينادونه " شجرة " - أنا مٌعلم مثل سيادتك هكذا قال البارمان وهو يصب له كأسا، وأضاف - هذه الكأس مني لسيادتك... تحية وتقدير ومعزة هذه المقدمة يجقظها إسماعيل عن ظهر قلب، ويعرف الجملة التي ستليها إذ يقول بلكنته الصعيدية: - سيادتك معلم في الطب والعبد لله معلم للفتيات المعوقات...و اتعامل مع العاهات ليلا في البار. حكى له البارمان قصته مرات عديدة، حصل على الدبلوم من المنيا، وألحقته القوى العاملة معلما للمعوقات في مدرسة بالزيتون، وأتاحت له وظيفة الساقي أن يحصل من الفندق على غرفة صغيرة فوق السطح لينام بها، وحلت له مشكلة السكن والإقامة في هذه المدينة المتوحشة، ويحب أحمد الساقي الشاب أن يؤكد للدكتور إسماعيل أنه أنه عازم على تسجيل الماجيستير، ولن يتنازل عن تحقيق تلك الأمنية الغالية. آنس إسماعيل إلى بار الناسيونال، آثار مجده الغابر مازالت بقاياه ماثلة تتباهى بنفسها، المساحة الفسيجة والسقف العالي المزين بتهاويل الركوكو، النوافذ المرتفعة التي تطل على الشارع الجانبي ، الستائر مخملية فاخرة بلون النبيذ تغطي النوافذ، البيانو الكبير وقد انعكست علية الإضائة الصفراء الكابية التي تعتصرها المصابيح الحزانى في شحوب ، البار العريض بلون البن المحروق والمرايا البلجيكي الكبيرة والرفوف الكريستال تحمل زجاجات الخمر الملونة. فكر في سمير جى كيه، كان من المفترض أن يعتذر له، بعد العمل في طوال اليوم في الجامعة وبعدها في العيادة، وبدلا من أن يرفه عن نفسه بكأسين أو سيجارتين وصحبة حلوة ورفقة ممتعة يطلع له سمير جى كيه، ولم يكن يوما صديقه ولا عشم له! وجائت الشلة والتأم الشمل وضج البار بالضحكات والمناقشات وعلت الأصوات بالغناء، وعلى صوته وغنى بصوته " ياما قلبي قال لي لأ... وأنا ألاوعه/ لما قلبي اتشق شق... قلت أطاوعه... واندمج في الغناء ونسى سامي جي كيه ومشكلة سامي حي كيه؟ -4-
انتهى د. إسماعيل من آخر مرضاه، لقد أخبره الممرض شعبان أن الدكتور سامي في الاستراحة - هو من قال لك "دكتور" سامي؟ - نعم ! - دعه يتفضل قال إسماعيل لنفسه" ياله من نطع... دكتر نفسه بلا خجل" ودخل شعبان وخلفه سامي جي كيه، وتبادلا التحية، وجلس سامي خلف المكتب - جئت حسب الموعد هكذا قال سامي في استجداء يثير الشفقة وترقرقت نظرته وشعر إسماعيل بمزيج من الخجل وعدم الارتياح - سوف تنقذ مستقبلي ولن أنسى لك هذا الجميل يا دكتور إسماعيل... هل تعلم أن أمي لولا أنها قعيدة لأتت لك لكي تشكرك..وعندما علمت أنك تعيش وحدك، أصرت على أدعوك على صينية سمك كزبرية على الطريقة الدمياطية شعر إسماعيل بالخجل وابتسم وهو يدخن الغليون - متى ستأتي لكي أقول لماما - دعنا نبدأ العمل أولا لكي لا نتأخر... هل معك كتاب القسم - وماذا أقول لماما؟ - سنتفق بعد أن ننتهي... أين كتابك؟ لوح بيده وقال - لا أملك كتابا... ضاع مني... آخر مرة امتحنت فيها كانت من خمسة سنولت وبعد ظهور النتيجة ألقيت بالكتاب في مكان ما وبحثت عنه بالأمس وقلبت الدنيا فلم أجده. - لابد ان تشتري كتابا... أنا سأشرح لك هنا، رغم أنني لا أعطي دروسا خصوصية، لكن واجب الزمالة القديمة يحتم على مساعدتك ؟ا - أشكرك .. وأول الشهر لما ماما تقبض المعاش حا أشتري نسخة... هل يباع في القسم؟... سأشتري واحدا قال إسماعيل معتذرا - وزعوا نسخة مجانية واحدة لأعضاء القسم...ولولا هذا لأعطيتك نسختي... شعر بالندم، وشعر بالشفقة على زميله القديم، وتذكر أن سامي وحيد أم متسلطة مستبدة لاتخلو من ضعف العقل، وهى التي جعلت من سامي هذا الرجل المعدوم الإرادة الذي لا يخلو من تفاهة، وتذكر حكاية رواها له زميل كان وطيد الصلة بسامي، بحكم تجاورهما في حى شبرا العريق، والزميل نفس أخبره من قبل، أن أم سامي التي ترملت في سن الشباب، والتي رفضت الزواج بعد أبيه الصائغ، فأوكلت إدارة الدكان إلى خاله، الذي خدعها واستطاع بالدهاء والحيلة أن يستولي على ميراث سامي وأمه ولا يمنحهما إلا الفتات، وحكى لي واقعة شاهدها في بيت سامي، بينما كان في زيارة له، وبينما يحتسيان الشاي فوجئا بأم سامي تقتحم الغرفة كالإعصار، غاضبة والشرر يتطاير من عينيها، وبدون سلام ولا كلام راحت توبخ سامي وتنهرة في غلظة شديدة، لأنه أخرج الطاقم الكريستال لاحتساء الشاي، لم ينطق سامي وانكمش خزيا وهوانا.
رنا إسماعيل ببصره إلى زميله السابق وشعر بالشفقة، وانتابه إحساس بذنبٍ ما حيال ما آل إليه سامي جي كيه، ما ذنبه في وفاة أبيه؟ ما ذنبه في ترمل أمه؟ لم يختار سامي أن يتحول من طفل برئ إلى شاب تافه معدوم الإرادة. انتبه إسماعيل من شروده على صوت سامي : - أول الشهر ... لم يتبق على الشهر إلا أيام... قاطعه إسماعيل وقال: - أنت ستأخذ هذه النسخة...وتجلبها معك كلما أتيت هنا ترقرق سامي جي كيه وكادت عيناه تغرورقا بالدموع وقال: - جمائلك فوق رأسي ولن أنسى لك مروئتك وكرم أخلاقك - أنظر ياسامي .. سوف نضع خطة لكي تنجح.. سوف تمتحن مع الدفعة كلها؟ ا - نعم في سبعة مايو... والعملي والشفوي يوم 22 مايو. فكر د. إسماعيل في طريقة للعمل مع تلك الحالات المستعصية، وقال ليقلل من جدية الموقف - جميل سندخل عليهم بطريقة أربعة إثنين أربعة... سنبدأ بباب لابد أن تجد فيه سؤال أكيد، لماذا؟ لأنه الباب الذي يشرحه للطلاب رئيس القسم الدكتور على الغمراوي بجلالة قدره ورضي الله عنه وأرضاه ...سوف أحاول أن أبسط لك علمنا الصعب بقدر الإمكان، ودوري معك أن أخلق منطقا في الدرس من اللامنطق الذي ستجده.. فالطب أقل العلوم انضباطا لأنه يتعامل مع الحي، والحي لغز في النهاية فأنت يا عزيزي جي كيه ستجابه ألغاز الحي. قطع د. أسماعيل استرساله وقد تعمد أن يدهش سامي وأن بربكه وبدأ شرح الدرس، وبعد عشرة دقائق من الشرح، كان خلالها ينظر إلى سامي، كاد أن يضحك وقد بدا له سامي المنتبه بشدة ومع هذا تهيأ للدكتور إسماعيل كما لو كان سامي ملاكم يتلقى من خصم قوي لكمات شديدة يترنح من قوتها، فهاهو سامي يتلقى دشم العلم الجيرانيتية فيتهاوى من قوتها، كان من الواضح أن سامي حالة ميأوس منها، فاستيعابه – كما يبدو من تعبيرات وجهه الذاهلة، والغباء المطل من عينيه- كان شبه معدوم، وشعر إسماعيل بالشفقة، واستمر في شرح الدروس حريصا على أن لا تظهر أفكاره على وجهه.
-5-
وقف د. إسماعيل في عيادته في الشرفة وهو يشعر بالاضطراب والذنب والتعاسة، لقد انتهى لتوه من ممارسة الحب مع مريضة من مرضاه، ويشعر بالذنب لعدة أسباب، أولها أنه لم يتمالك نفسه فمارس ما مارس في العيادة، صحيح أنه علماني ولا يعتقد في تلك الخزعبلات، لكن شيئا ما داخله لم يتخلص من الوجدان الشعبي، لكن العيادة مكان "لقمة العيش"، والبعض يعتبرها من الكبائر، وتجلب النجاسة وتقطع الرزق، ماذا أفعل وأنا تحت وطأة الهرمونات وما أدراك ماالهرومونات وعذابها الهرم، ماذا أفعل والمريضة الشابة التي تقترب من عامها الثلاثين هى من منحتني الضوء الأخضر، ولم تكن المرة الأولى التي تتأوه وتثيرني، في الأربع زيارات السابقة بدأت مناوشاتها، في كل زيارة كانت تتأوه وتتلوى وتوحوح وأنا أكشف عليها، لا يغادره الآن وجهها بالحول الواضح في عينيها بكحلهما الكثيف، وجهها الداكن وزينتها المتبرجة في بهرج من الألوان لتداري بشرتها الداكنة، فمها العريض وشفتيها المكتنزتين النهمتين وقد صبغتهما بلون قاني ، استجاب لها بجسدها الثري، الصدر الريان والبطن الطرية مثل العجين والأفخاذ المستديرة العفية، الاختلاس ضاعف من متعتهما الجنونية، وقد فوجئ بأنها امرأة! قالت وهى ترتدي ثيابها: - تعرف .. أن الحب ما أن يتمكن من قلب الإنسان أو الإنسانة.. يسيطر عليه ويلغي عقله. إنه نهبٌ لمشاعر متلاطمة من الإنتشاء والندم والحرج، ماذا لوكان أحدهم اقتحم غرفة الكشف، عاد إلى المقعد خلف المكتب وجلست وقد عدلت من ثيابها وشعرها، وشعر بالخوف الشديد، لقد وجد مريضته الشابة فاقدة للعذرية، كانت امرأة وخاض الشوط لآخره، لم يسبق لها الزواج، وفكر أن حديثها عن الحب محاولة للتوريط، ربما كانت بداية لتطالبه بالزواج، وهل يصوم ويفطر على هذه البصلة البائسة، صحيح أنها تتمتع بجسد مثير لكن هل يكفي؟ وشعر بخوف يقترب من الزعر والهلع من المصير الذي قد يحيق به، فيتزوج من تلك المرأة الشعبية ذات التعليم المتوسط فيهبط من علٍ. أشاح بوجهه وشمخ بأنفه وقال: - عن أى حب تتكلمين؟ - عن الحب.. الحب أشاح بوجهه ثانية ورسم علامات الإنكار التام - هه... لا يوجد شئ اسمه الحب.. بهتت الابتسامة على وجهها وقد تبرجت بالمكياج وسال العرق فلطخ وجهها بالألوان - ألا تعتقد في الحب - في الأفلام فحسب ظهرت على وجهها خيبة الأمل والتعاسة، وبدت له وقد تقدمت في العمر عشر سنوات، غادرت وهى تغمغم بالسلام، وما أن خرجت شعر بالتعاسة، واهتز من الأعماق بسبب النهاية البائسة مع مريضته، وظل طوال اليوم التالي لا يفكر إلا في هذا الموضوع، واستقر على لوم نفسه وتأنيبها، على غلظته وعلى "معيلته"، ما أن تكلمت عن الحب لقد فٌزِعَ كطفل رعديد ، استشعر الخطورة قبل الأوان بفراسخ بعيدة، لقد سلمت نفسها إليه، كانت تطمع في أن يجاملها ويقول لها أنه أحبها، لكي تبرأ نفسها من انها امرأة سهلة ومنحلة،... لكنه أناني وخواف واساء لها وجرحها بقسوته. في اليوم التالي بعد انتهاء العمل، نبهه شعبان الممرض بأن الدكتور سامي جي كيه في الاستراحة. - مساء الخير هكذا قال سامي ولاحظ إسماعيل أن تلميذه قد زجج حاجبيه بشكل سخيف - مساء النور إجلس يا سامي.. اشتريت كتابا؟ - متأسف والله... لم أفرغ... لوذهبت للكلية سيضيع اليوم - لا بأس هات الكتاب راح يقلب في الصفحات فوجد رسومات لم يرسمها في كتابه، إنها رسومات لسهام كيوبيد وهى تخترق قلبا، واسم ليلى بخط جميل مكتوب في نهاية السهم، أما قمة السهم المدببة مكتوب عليها بحروف جميلة اسم" سامي "، انتاب د. إسماعيل الضيف من تلميذه، تسائل ليس كتابه لماذا يشوه هذا التافه كتابي؟، ووجد أنه كرر تلك الخيابات في الكتاب أربعة مرات، ما هذه المراهقة المتأخرة؟ فسامي لا يقل عن الخامسة والثلاثين، وشعر إسماعيل بالضيق الشديد، ونظر إلى سامى فوجده قد ارتبك وقال: - سوف أشتري كتابا جديدا... واحتفظ أنا بهذه النسخة فكر إسماعيل وموقفه مع مريضة الأمس مازال يجثم على تفكيره، وندمه الشديد على غلظته، ماذا كان سيحدث لو طيب خاطرها بكلمتين! لذا شعر أن الواجب أن لا يتمادى مع سامي في غلظته، من السهل جدا أن يوبخ سامي وينهره على سلوكه التافه والمتنطع، وفكر أنه ليس من المرؤة أن يفعل ذلك مع زميل سابق في وضع ضعيف.
-6-
استمرت الدروس، وقاربت على نهايتها - لقد وضعت كل خبرتي لكي تنجح في هذه المادة الصعبة - أعرف يا دكتور إسماعيل - الإمتحان أربعة أسئلة مطلوب أن تجيب على ثلاثة منها، حسب أهمية الأساتذة في القسم وهم أربعة، كل واحد منهم يشرح بابا للطلاب، وكل واحد منهم سوف يضع سؤالا، المطلوب منك أن تحفظ عن ظهر قلب الأبواب الأربعة. بدت عليه علامات التحرج كما لوكان يريد أن يطلب طلبا لكنه يخجل قال إسماعيل: - ماذا تريد... قل لي - هل توافقني - لو في مقدرتي سأوافقك - ماذا لو وضعت لي الكتاب في دورة المياه؟ - ماذا؟ - تضع لي الكتاب في دورة المياه يوم الامتحان فأطلب أن أذهب إلى دورة المياه وافتح الكتاب لأتذكر الإجابة. شعر إسماعيل بالضيق والغيظ من زميله السابق، ذلك البليد الذي يريد أن يورطه في التدليس والغش ويضعه موضع المسائلة - لا طبعاً، لن أفعل ذلك. - هذه آخر فرصة لى لتنقذ مستقبلي فكر إسماعيل أن يغلظ له وأن ينهره، ولكنه كتم رغبته وقال في حسم: - لن يحدث ولن أشترك معك في الغش أردف د. إسماعيل في غضب مكتوم - متى امتحانك - بعد أربعة أيام - اتكل على الله... اذهب واستذكر دروسك وهى الأربعة أبواب تقع في اربعين صفحة، أحفظهم كما نحفظ القرآن والأسئلة مباشرة وبالتوفيق بإذن الله هكذا أنهى إسماعيل اللقاء، فرسم سامي ابتسامة ودودة متزلفة وانصرف. اختلى إسماعيل بنفسه وهو يتعجب من هذا الإنسان المتبلد، وشعر بالغيظ منه لعدة أسباب، أولها لأنه مازال يتأنق ويتعطر ويدخل عليه بتلك الهيئة متبخترا وكأنه يعيش أجمل أيامه، ولم يشتري كتابا ومازال محتفظا بكتابه، ولأنه ملأ الكتاب بسهام كيوبيد وبالقلوب وكأنه مراهقا خالى البال، ولأنه لم يذاكر شيئا وسوف يرسب لا محالة، لماذا؟ من ردوده ومن نظرته له في غباء والتي تؤكد له أن سامي لم يستوعب حرفا مما يقول، من ناحية الاستفادة فهى أشبه بالعدم، أضاع هذا البائس له وقته، يرفض الدروس الخصوصية بالمقابل المادي، لكن هذا السامي الجي كيه التافه ورطه في درس مجاني، وليت المسألة اقتصرت على الدرس، يريد أن يتورط معه في عملية غش حقيرة. الحقيقة أن إسماعيل كان في مزاج نفسي سئ للغاية، لقد دفع بالأمس ثمن غلظته مع المريضة التي نام معها في حجرة الكشف، فقد فوجئ أمس الأول بمن ينادي عليه، كان ينزل سلم الكلية في طريقه للكافيتريا - إسماعيل... إسماعيل التفت وفوجئ بطبيب يحضر رسالة دكتوراة من خارج الكلية، يعرفه إسماعيل بالشكل ويراه كثيرا، ويعلم أنه ضابط طبيب، ويعرف أنه لديه عيادة خاصة في شارع بورسعيد ولا تبعد كثيرا عن عيادة إسماعيل في حي الظاهر وقال الطبيب الضابط وهو ينظر إلى إسماعيل في تعال - امس الأول جائتني مريضة من مرضاك واسمها... - مالها هكذا قال إسماعيل في حدة - اشتكت منك - طظ ...طظ فيها انصرف إسماعيل وبينما يستدير - علاجك غلط - احترم نفسك وليس طظ فيها فقط لكن طظ فيك قبلها نزل إسماعيل وعندما اختلى بنفسه شعر بحزن عميق، ليست عيادة شعبية فحسب لكنها موطئ للدنس وتشهير بكفائته بين هؤلاء الحثالة، وذلك الفسل الذي تصيد مريضته إنسان شرس وعدواني وقليل الأدب، يتواقح عليك وهو يحمل حقائب المشرفين عليه في الرسالة، خادم نموذجي يتطاول عليك ومشاحنة مزرية على مريضة تعبانة...
وجاء يوم الامتحان الشفوي، وكان كالعادة يتم في معمل القسم، وهى قاعة كبيرة مستطيلة بها العديد من " البنشات " الخشبية، شاء القدر أن الطبيب إسماعيل كان المشرف على دخول الطلاب للمثول بين يدي السادة الممتحنين، كان كل شئ يتم كالمعتاد، إسماعيل يقف على باب المعمل ممسكا بكشف الطلاب الذين سيؤدون الإمتحان ، وقد تجمهروا أمامه وفي الكوريدور، لقد انتحى سامي ركنا مبتعدا لكي لا يبدو غريبا بسنه الكبير بين التلاميذ الذين يصغرونه بخمسة عشر عاما، تحلق الطلاب أمام الباب في كوريدور القسم، وقد أمسك الواحد منهم بالمذكرة أو بالكتاب وراح يسترجع، فينادي إسماعيل على أربعة طلاب فيهرعوا إلى داخل المعمل، ويتبوأ كل طالب منهم مقعدا، وعلى الناحية الأخرى من " البنش" يجلس الممتحنين الأربعة، ثلاثة منهم هم أقدم اساتذة القسم، اما الرابع فهو زميل لهم وجاءوا به من جامعة الأزهر باعتباره ممتحن خارجي تطبيقا للوائح الجامعية، اما عن نرجسية الأساتذة واستعلائهم الذي لا يصدق، يكفي أن احدهم- وهم أشباه الآلهة- يقول جادا لمعيد شاب: - رحم الله الدكتور الصديق الذي كان يقول أيامنا كنا نحمد الله إذا أسعدنا الحظ ورأينا أستاذاَ جامعياَ. وجاء دور سامي – طبقا للكشف – لكي يدخل امتحان الشفوي، وما أن خطا وسامي خلفه إلى داخل المعمل، قال د. على الغمراوي رئيس القسم - لا...تدع سامي يدخل الآن... سيمتحن وحده بعد أن ننتهي هكذا قال رئيس القسم الأصلع الرأس، وأكمل - دعه ينتظر حتى نفرغ من الدفعة كلها ثم يدخل لنا وحده - أمرك يا أفندم هكذا قال إسماعيل في امتثال وخرج سامي ببنيانه الضخم ووقف بعيدا وقد تصبب عرقا. لم يكن إسماعيل يتوقع أن تكون معاملة سامي بهذه السادية، لقد انتظر سامي حتى الساعة الثانية وهو واقف ينتظر من الثامنة صباحا، ولم يدخل سوى في الثانية والنصف، لقد انصرف الطلاب والموظفين ولم يتبق إلا سامي وإسماعيل الذي وقف على الباب منتظرا أن يطلبوا سامي - دعه يدخل دخل سامي وهو ممتقع اللون ويفرك يديه وينكمش كما لوكان يتمنى أن يختفي، أما الإمتحان فلم يكن سوى مذبحة بمعنى الكلمة، نظراتهم الجامدة والجهامة التي تعتلي وجوه السادة الممتحنين كانت كلها استهجان ورفض واحتقار، ولسان حالهم أنت تحديتنا وجئت لكي تمتجن رغم أنفنا؟ وبحكم محكمة!؟ حسنا دع " المحكمة تنفعك " كان التربص واضحاً، كل الطلاب يمتحنون أربعة كل مرة، لكن تعمدوا أن يمتحن وحده، وأن يتركوه لآخر وقت. جلس سامي في مواجهة الممتحنين، وانهالت الأسئلة كالحمم البركانية في صعوبتها، وسامي كما يقولون ماحي في كل النواحي، وراح يترنح من الاسئلة السامة، يعصر رأسه وينظر إلى السماء كأنه يعرف الإجابة لكنه السهو، فيتركوه ويحدجوه بالنظرات السامة ويقولوا له: - على مهلك... تمر دقيقتان وسامي يعصر جبينه - ماذا؟ هل تعرف الإجابة؟ يهز سامي رأسه بالنفي في مذلة وخزي ويغمغم - لا وبعد نصف ساعة من جحيم الاسئلة العويصة، بدأوا في النزول بمستوى الأسئلة، وبعد ربع ساعة من الأسئلة العادية والمتوسطة المستوى، التي رد عليها سامي بالصمت المطبق، ثم هبطوا بالاسئلة إلى مستوى عناوين الفصول وسامي لا حياة لمن تنادي - اسأل نفسك سؤال هكذا قال أحدهم، ورسم سامي ابتسامة لا معنى لها، فلم يكن يتخيل أن يسمحوا له بأن يسأل نفسه - اسأل نفسك سؤالا. المهم ان اساتذة المادة نكلوا به، ومسحوا به البلاط، حتى السؤال الذي سأله سامي لنفسه لم يجب عليه، وانتهى الامتحان بالمزيد من السادية فقال أحدهم - ما رأيك في اجاباتك - - هل تعجبك؟ - - هل تريد شيئا آخر؟ هز سامي رأسه وقد أمسك برأسه وأطرق بها إلى الأرض ونهض وهو يغمغم بصوت لا يبين: - شكرا انصرف سامي يجرجر قدميه.
انقطع سامي عن زيارتي في العيادة، وعلمت أنه ما زال يقف عند البن البرازيلي كل مساء، قدرت أنه لا يريد أن يراني لأنني أذكره بفشله المرير، لكنني كنت أريد كتابي ولو كان مرصعا بسهام كيوبيد وبقلوب المحبين، لن يمنحني القسم كتابا مجانيا ثانيا، هل أشتري كتابا ثانيا وأترك كتابي لسامي، سأستعيد منه كتابي، وأغلب الظن أنه نسى أن يعيده، والآن بعد فصله نهائيا، ومعرفة سامي بأنه لا جدوى من احتفاظ سامي بكتابي، قابلته في البن البرازيللي، صافحني في فتور - ما أخبارك هكذا قلت له - لا شئ راح يجيب اجابات مقتضبة وجافة، وكلها تخبرني أنه غير سعيد باللقاء، وأنه يتمنى انصرافي وان لا يراني ثانية، فشعرت بالحيرة وبالضيق. - من فضلك أريد كتابي - أي كتاب - كتابي الذي كنت تذاكر فيه؟ أشاح بوجهه بعيدا ثم نظر في عيني وقال في تبجح لانهائي - كتابي الذي أخته مني ورسمت عليه قلوب وسهام - لم آخذ منك شيئا أستدار سامي جي كيه وطالعني ظهره الضخم وقفاه السمين وشعر رأسه الحليق وخرج من المحل.
انتهت
إله حارة أبو النجا -1-
في صبائج قائظ من صباحات شهر أغسطس، استيقظ محمود زكي طلبة من النوم على نور شمس الضحى الحارقة وهى تلسع وجهه، فنهض وصداع مؤلم يكاد أم يحطم رأسه، صداع بسبب قلة النوم والأرق الذي يصاحبه طيلة الصيف، لم ينم طيلة الليل إلا خطفا، فما ان يغط في النوم سرعان ما يستيقظ غارقا في العرق، فهو لا ينام في غرفته، ولا في شقته، لقد ترك لها الشقة كلها، وينام في الطابق الأخير، في نفس المكان الذي شاهد رخائه وممتلكا لمقدراته و شاهده سيدا لمصيره، هاهو ينام في المكان نفسه، المكان الذي شهد أمجاده وقد تحول إلى أطلال وخرائب، غرفة الفرن وغرفة الصاجات المعدنية السوداء وغرفة التشكيل وصب العجين، الفرن الحديدي الضخم وقد علاه التراب من الإهمال، من كان يصدق أن زينب حنفي أبو قملة تنتصر على وتطردني من بيتي، وتدفعني للنوم هنا في الطابق الأخير، الطابق الذي تصليه الشمس بلهيبها طيلة النهارات الحارقة، فإذا ما حل المساء تصهل الجدران النيران التي اختزنتها طيلة اليوم، وتنام زينب العفنة مع أولادي محتمية فيهم في فراشي، وفي النهاية تقول لى في شاسة وتشفي: ... عالج نفسك. تذكر محمود كلمات صديقه الشاعر الراحل الذي كتب قبل أن يموت: متى يقبل موتي قبل أن أصبح مثلك صقرا مستباحاً. نهض من فوق الكنبة البلدية المتهالكة التي يتخذ منها فراشا ينام عليه، وذهب إلى الحمام البلدي الضيق، تلك الشقة الصغيرة لم تكن للسكنى، استغلها لعمله في الخزف، أمه ورثت البيت عن أبيها، يقع البيت البلدي الصغير المساحة في زقاق "الملط" الضيق الذي يطل على حارة "أبو النجا"، في هذا البيت الصغير الضيق المساحة ولد محمود، خمسون عاما قضاها في هذا البيت، الذي لا تتجاوز مساحته الثلاثين مترا، يتكون البيت من أربعة طوابق،كل طابق عبارة عن شقة واحدة لا تزيد مساحتها عن عشرين مترا، تسكن العائلة الطوابق الثلاث، ماعدا الأرضى يقطن فيه عبد الرحمن ابن حلمي العربجي طابق أرضي، في الطابق الأرضي شقة يسكنها عبد الرحمن حلمي المهنس الذي يعمل في السعودية، مات أباه وسافر عبد الرحمن الإبن للعمل مهندسا في السعودية، يصغر المهندس عبد الرحمن بثلاث سنوات، كان الأب حلمي عربجيا على عربة كارو يجرها حمار، كل الحارة تعلم أن حلمي العربجي أطلق على الحمار لقب يطلق اسنم "فرج"، عندما كان صاحبنا محمود طالبا في هندسة عين شمس، كان عبد الرحمن طالبا في المعهد العالي الهندسي في حلوان، يتذكر محمود كيف كان عم حلمي العربجي يحتسي البوظة في بوظة " مصر عتيقة " في أدغال الجيارة، ويمزجها بالخمر من عند الرشيدي في سوق الإثنين، ويشرب معه الحمار " فرج " البوظة، كل ليلة تشهد حارة أبو النجا عم حلمي وقد وقف بالفانلة واللباس الصعيدي، يجرى حوارا مع حماره فرج، فيقف حلمى امام الحمار وقد وقفا تحت البيت، ويقول حلمي: - يا فرج يا ابن ديك الكلب فيبدأ عم حلمي. ينظر حلمي بعيمين حمراويين إلى الحمار ويقول - لا تنظر لي تلك النظرات السماوية يا ابن ديك الكلب. تستمر شتائم عم حلمي الصعيدي الذي نزح من سوهاج إلى حماره ويحمل في النهاية حجرا يريد أن يهوي به على رأس الحمار فرج. تتابع الأم الضجة من النافذة المطلة على الحارة حيث يرقد الحمار بجوار العلربة، فتستشعر الخطر أن يقتل عم حلمي الحمار مورد رزق الأسرة، فيهب عبد الرحمن ينزل ليساعد أمه في أن لا يقتل حلمي الحمار فرج: يثور عم حلمي ويقول لزوجته: - احترمي نفس أمك يا بنت دين.... يهجم الإبن على أبيه ليمنعه من قتل الحمار - هل أنت أب أنت؟ يهرع الاب بخطوات مترنحة إلى البيت ويخرج وهو يحمل عددا من كتب ابنه وهى مكتوبة باللغة الإنجليزية يرقب محمود المشاجرة من الطابق الثاني ويضحك بشدة لأن المرجع مكتوب عليه “ metalleregy” يثير حفيظة الأب العربجي حفيظة الأب السكران -- يا ابن الوسخة... هكذا يردد الأب وهو يمسك إبنه من تلابيب ثيابه، ويمسك بالكتاب باليد الأخرى ويقول متهكما على ابنه -بتذاكر الكتاب ده!؟ بتتباهى على به يا ابن الوسخة!؟ لا ياشيخ... ابن الحذاء يريد أن يعمل على مهندس... بفلوسي يا ابن الوسخة - أنت أب أنت.. أنت أب أنت؟ تدخل الأم بينهما وتبعد الأب الذي يمسك حجراً ويتجه للحمار فرج فيقول: - كله منك يا فرج ياابن الوسخة يرفع حجراً ثقيلاً ويقف قبالة الحمار الراقد تحت النافذه يظهر عددا من الجيران فيأخذون العربجي الذي أصابه السكر والوهن فيسير معهم وهو يشتم ويسب.
وضع محمود رأسه تحت الصنبور فشعر بانتعاش من الماء البارد، وغادر الحمام وهو يرتدي جلبابه الذي حال لونه من القدم، وتطلع إلى المرآة القديمة ورنا إلى صورته، وشعر بالحزن فقد شاب وأضاع في الأوهام عمره، هاهى البشرة الخمرية والجبهة السمراء العريضة والرأس الكبيرة التي حلمت يوما بحكم مصر، الشعر الأجعد الذي اشتعل شيبا، العينان والنظرة المقتحمة الثاقبة، تنطلقان من عينين تختلط في مقلتيها الألوان، العسلي يمتزج بالأخضر والرمادي. - حسني... شعر، ومحمود ... عينان هكذا كانت أمه تردد، مشيرة أن أجمل مافي ملامح ابنها الأكبر محمود هو عينيه الملونتين، وأجمل ما يتميز به شقيقه حسني في- نظرها- هو شعره الأسود الناعم الغزير. تذكر تلك الكلمات وتذكر أمه والدور المشئوم الذي لعبته في حياته، حطمته وحاكت المؤامرات لكي تهدمه فصار ما صار. - عارف نلك المرأة البلدية التي ترتدي السواد وتراها بجثمانها الثقيل والملامح الشعبية الساذجة، وتظن أنها عبيطة أو على نياتها أو فهمها محدود بجهلها، فهى أمية، وقد تظن أن فهمها على قده، فأنت لا تعرف شيئا، لأنها قطعة من الدهاء والفطنة وتذهب بك إلى البحر وترجعك عطشان يتذكر محمود ذكي تلك الكلمات التي قالها عن أمه وهو يشتكي منها لصديقه الوحيد الدكتور خالد.
خرج من الحمام ودخل غلى الغرفة، ووقف في الناقذة، ورنا بنظره يمينا فطالعه مسجد عمرو ابن العاص ببناءه الكبير والخلاء من خلفه والسماء الزرقاء الصافية من السحب ووهج الشمس يغشى عينيه. الساعة تجاوزت العاشرة، لو ظل طيلة اليوم لما سألت زينب الكلب عني ، ابنة الكلب ال" جزمة" الجربوعة كانت تتمنى رضاى وتقول لي يا سيد الناس، ابنة القديمة كونت حزبا من ابننا هيثم و ابنتنا هبة، ألبتهم ضدي وأنا سيد البيت وسبب وجودهم في الحياة والبيت، نظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى العاشرة، تعالت أصواتهم من الطابق الثالث، وقال لنفسه " ولو بقيت طول اليوم لما سأل أحدهم عني". -2-
السلم الضيق المتهالك، ست درجات لا غبر يحفظها عن ظهر قلب، لو الأحجار تتكلم لنطقت عن علاقتي بها، الباب مفتوح وهيثم راقد في غرفة النوم، وصفيحة القمامة بها كمية كبيرة من الكشري. " يا بنت الوسخة" هكذا قال لنفسه وهو يتفحص كمية الكشري الهائلة التي ألقت بها زوجته في القمامة. دخل وجدها جالسة على الكنبة في الصالة الضيقة، ما أن رأته حتى رسمت على وجهها تكشيرة كأنها اللعنة - هل ستفطر؟ هكذا غمغمت بوجه جامد كأنها فقدت أباها، الضحك والابتسامات للعيال أما انا فالتكشيرة والوجوم والخلقة التي تقطع الخميرة من البيت - نعم.. ساتزفت هكذا قال في غضب مكتوم، وأردف - لماذا ألقيت بكل ذلك الكشري في الزبالة... حرام على أهلك، والآن ستقولين هات نشتري طعام الغذاء قاطعته في حدة - معمول منذ أمس الأول ولن تطعمنا طعاما فاسدا - ولماذا عملت يا مصيبة كل تلك الكمية... ألا تميزين...؟ لماذا عملت كل تلك الكمية، كان نصفها يكفينا امس الأول وأمس وكنا وفرنا تكاليف الكمية التي في الزبالة، لكنك لا تدفعي مليما هكذا قال غاضبا ساخطا - هذا كشري وليس حماما ولا لحوم... رضينا بالهم - هم في وجه أمك.. أنظر ماذا تقول بنت أبو قملة، من أين جائت بها امي؟ لاذ بالصمت، وفكر في أن أ بنت القحبة كانت تتمنى رضاه والآن تقول أنني تتقبلني كما تتقبل الهموم الثقيلة، آه يا بنت القحبة. وجلس على الكنبة البلدية، طبق الفول البارد كالعادة، على أن أتحمل قلة أدبها، والخبز منذ أمس الأول، لم تضعه في الفريزر كما أقول لها، لو سخنته لأصبح مقبولا، والفول الماسخ مثل خلقتها، كان لابد أن تسخنه على النار لكي يصبح له طعم مستساغ، لكنها لا تريد أن تبذل أقل مجهود، تعاقبني أبنة الكلب الواطية، تذوق الفول البارد الذي بدا له ماسخا وبلا طعم، منها لله أمه حاكت المؤامرات ودبرت من الخطط الجهنمية التي لا تخطر لى على بال لكي أطلق هيام، هيام زوجتي الأولى التي قضيت معها أجمل الأيام وأسعدها، أين أنت يا هيام؟ هيام امرأة تسوى ثقلها ذهبا، خدعتي أمي وغررت بي وجعلتني أطلق هيام وأقسو وأفتري عليها، وجلبت لي هذه البلوى، زينب ابنة أبو قملة عامل النظافة في دورة مياه في البساتين، من أين أتت بها أمي؟ تزوجتها منذ عشرين عاما فنحستني وجلبت لى المرار والفشل، هيام كانت فنانة في أصول الطعام، بأقل الإمكانيات تصنع بلمساتها وجبة شهية وفي غاية الجمال، افطارها من خمسة صحون، بيضة مسلوقة لا تقدمها هكذا لكن تحمرها في الزيت المغلى فتزداد طعامة، طبق الفول الساخن المزين بقطع الفلفل الحار والزيت يسبح فوقه والكمون والبهارات وقطع الطماطم المقلية في الزيت، الجبن الأبيض تقدمه هيام وقد غمرته بالزيت والشطة والطماطم، هيام كانت تصنع من الفسيخ شربات، من لا شئ تصنع وجبة شهية، أتت من بيت ثري ومطبخ عامر، لو طلبت من بنت القحبة أن تسخن لى الفول ستأتي بوجهها الذي يقطع الخميرة من البيت وستأخذه في صمت وستغيب دقيقة وستعيده كما هو، هيام ابنة المعلم صالح الفرماوي صاحب مطعم للفول والطعمية في الجيارة، رجل كسيب وينفق على بيته عن سعة، أم هيام أستاذة مطبخ، علمتها أصول الصنعة، بيت عامر تتصاعد من المطبخ أروع الروائح، الفتة والضأن والكشري والطعام المسبك. المعلم صبحي عرفة، جهز ابنته بثلاث غرف، دفعت أمي بشطارتها مهرا صغيرا، وقال المعلم صبحي" سنقبل ما تدفعون مهرا لهيام، نحن نشتري رجل يا أم الباشمهندس محمود" - لابد أن تدفع فابنتك لم تأخذ سوى سنة ستة، والباشمهندس اسمه مازال مقيدا في كلية الهندسة في عين شمس. - على عيني وراسي يا حاجة..أنا اشتري رجل لإبنتي - ومحمود سيد الشباب وقرة عيني وسيسكن في بيته الملك. - سيسكن في قلبي لأنه سيأخذ ابنتي الوحيدة هيومة. - سنحملها في عيوننا، وسأعتبرها ابنتي. أفاق محمود من شروده على صوت هيثم ابنه الأكبر الذي كان يجلس في الصالة. جلست أمه قبالته وقد أعدت له الإفطار، الشاي بالحليب المعمول كما يحب، تسخن له الحليب حتى يغلى وتضع كمية كبيرة منه في الكوب وتضع الشاي الثقيل وتقلبه له بعناية تكاد أن تلتهمه بعينيها من الوله. قال محمود لنفسه " آه يا بنت الوسخة " لولاي لما كان هيثم، تنكريني وتعاملينني أسوأ معاملة، لم أرى ابتسامتها منذ خمس سنوات - هيثم... هيثم نادى محمود على ولده الأكبر وقال: - صباح الخير - صباح النور هكذا رد هيثم باقتضابن وصاحت أمه من الخارج - افطارك سيبرد هكذا قالت زينب في جفاء - هاتيه هنا... أريده في كلمتين جلس هيثم، ورث عن أمه قصر قامتها وملامحها الشعبيةن عيناه سوداويين ولم يرث ألوانهما، ورث مني البريق الحاد النافذ، ذكي للغاية ويفهمها وهى طائرة، لكن من أين أتى هيثم بتلك الرأس المستطيلة وكأنها صندوق أحذية. - على فين؟ عيناه تقولان وأنت مالك، لا أتذكر قائل بيت الشعر" ذريني للغنى أسعى- فإني رأيت الناس شرهم الفقير"... تنهد محمود وهو يلمس جفاء ابنه - سأذهب إلى الكلية - ماذا عندك في الكلية؟ يكاد أن يقول له " ما شأنك " دخلت أمه وجلست على الكنبة، وشعر محمود بالضيق الشديد، فقال لها: - نعم... لماذا جئت؟ - عادي!... لديك مانع - أريده في كلمتين ترامقا في كراهية وقالت: - براحتك... لكن يا هيثم كن حريصا على فلوسك وتعبك وشقاك - ارتحتِ... غوري بقى من هنا خرجت وهى تغمغم بكلمات غاضبة، وتبعها هيثم بوجه واجم يخفي به غضبه من أبيه، تجاهل محمود نظرات هيثم وقال: - كيف أحوال العمل - يعني - كم تلميذ لديك - هه.. عد غنمك يا جحا.. نظر في ساعته وقال وهو يقف - تأخرت عندي محاضرة في الثانية عشرة وسألحقها بالكاد - كنت محتاج عشرون جنيها هكذا قال محمود، فجفل هيثم، وعلا صوت الأم من الداخل - يا هبة هذا ما كنت أخشاه... كنت عارفة... يارب يتوب عليك يا هبة تتظاهر ابنة الحذاء بأنها تتحدث إلى ابنتهما هبة وهى توجه كلماتها السامة المسمومة إليه، اجتاح محمود الغضب وقال: - نقطينا بسكات أمك - أنا أكلم هبة... ومن على رأسه بطحة - احترمي نفس أهلك لأخرج لأمك سكتت زينب وصاحت هبة كل عقدة ولها حلال 1- تميز جارنا وصديقنا نبيل زكي بين افراد شلتنا بميزتين ثمينتين، أولهما براعته الشديدة في لعب الكرة الشراب ويعتبر من النجوم البارزين في هذا المجال، أما المزية الثانية فهى لاتقل أهمية فهى جرأته الشديدة وجسارته في المشاجرات. اعتدنا أن نلعب الكرة الشراب في عدة شوارع، يوسف الجندي وأرض الفوالة وكثيرا ما لعبنا في شارعنا، وكثيرا ما ضايقنا الأسطى عزت الحلاق بمطالبته لنا بأن نتوقف عن اللعب وأن نلعب بعيدا خشية أن تحطم الكرة زجاج صالون الحلاقة الذي يمتلكه، كنا نتجاهله ونعده بالحرص، فكان بعد ان ن وذات يوم ألح الأسطى عزت ووقف لنا في وسط الشارع وراح يهلل واختطف الكرة وصاح: - غور بعيد منك له... تحلقنا حول الأسطى عزت ورحنا نترجاه - سوف نحترس يا أسطى عزت - الكرة أصابت الزجاج اليوم ثلاث مرات.. - دعنا نكمل المباراة بالله عليك يأسطى عزت كشر الأسطى عزت البارد الملامح الغضوب الطباع عن أنيابه وتهيأ للإنصراف، وفوجئنا بصديقنا نبيل زكي يخترق الحلقة ويقول في لهجة تهديد واضحة - هات الكرة يا أسطى عزت - ألعب بعيد منك له فوجئنا بصديقنا نبيل زكي يهرع إلى الحجر الثقيل الذي اتخذناه كمرمى ويحمله ويتوجه جريا إلى دكان الأسطى عزت، ويقذف بالحجر بكل قوته فيحطم الفاترينة الزجاجية الكبير فتتناثر - هى الكرة وحدها التي تحطم الزجاج هكذا قال نبيل زكي موجها حديثه إلى الأسطى عزت الذي شلته المفاجأ وساد صمت ثقيل لم يقطعه سوى عواء الأسطى عزت وقد تأهب نبيل زكي للقتال 2-
" لا نقود لك عندي وعندك نبيل فافعل به ماشئت فقد وضعت أصابعي في الشق منه ومن مشاكله وقرفه " هكذا قال عم زكي جارنا والد نبيل زكي عندما طالبه الأسطى عزت بثمن الزجاج الذي حطمه نبيل عمدا. منذ عشرين عاما كان عم زكي يعمل مساعد طباخ في قصر عابدين أيام الملكية، وأحيل للمعاش منذ عشرة سنوات، ويملك بيتا صغيرا في حارة السقائيين في سوق الأثنين في منطقة عابدين، وعدة قراريط في أبو زعبل. ولا يغادر منزله إلا للضرورة القصوى، وإبان موجة التمصير في مطلع الستينيات وتحت ضغوط شديدة من زوجته انتقل وأسرته إلى شارعنا بالقرب من ميدان التحرير.
- نبيل زكي معلم كبير هكذا قال أحمد عصام أحد أفراد شلتنا، قالها بانبهار ثم أردف: - لا يجالسنا نحن لأننا بالنسبة له صبية لم نخرج من البيضة، نأكل تين شوكي وكبيرنا نشرب سيجارة في ظلام شارع يوسف الجندي، اما نبيل لا يجلس إلا في قهوة" العنبة " في عابدين مع معلمين كبار، فهو لا يكف عن المقامرة وعن النسوان وتدخين المخدرات.... نبيل يا جماعة معلم.
-3
كان يكبرني بسبع سنوات، خمري اللون متوسط القامة رشيق القوام، له شعر ناعم ووجه وسيم، وكنت مبهورا به لجرأته الشديدة ولاستهتاره البالغ، ورحب بصاقتي به ودعاني لزيارته في مقهى العنبة في عابدين، أما عن الدراسة فقد كان من كبار الفاشلين ويضرب به المثل في الخيبة الثقيلة، مدمن رسوب وظل يرسب في الإعدادية حتى قررت الدولة أن تغير نظام التعليم بتخفيض سنوات الدراسة في المرخلة الاعدادية من أربع سنوات إلى ثلاث سنوات، فوجد نبيل نفسه يهبط من الرابعة إلى الثالثة، وذبحت أمه عنزة فرحا بحصوله على الشهادة الاعدادية، وتكررت المأساة في الثانوية العامة، وظل يرسب حتى قررت الدولة أن تصفي نظام البكالوريا وتستبدل به شهادة الثانوية العام، وفي أكازيون حكومي قررت الدولة أن تتخلص من كل طلاب النظام القديم، بأن لا ينجحوا فحسب ولكن بالتساهل في التصحيح والإغداق عليهم في الدرجات، فلم ينجح نبيل زكي فحسب لكنه حصل على مجموع مرتفع من الدرجات أهله للإلتحاق بكلية الطب! - نبيل شاطر ودخل الطب من شطارته! هكذا راحت أمه تردد ذلك متباهية به، وتعوض السنوات الطويلة من تعثره ورقبتها التي أضحت أمام الجيران مثل "السمسمة"، والذي لم يكن يجلب لها إلا المشاحنات والعار، وأشترت له- قبل بدء الدراسة - ثلاثة معاطف بيضاء من شيكوريل ولم تتوقف عن تعليقها منشورة في شرفتها وكأنها رايات النصر. وبعد مرور أربعة شهور على الدراسة، بينما كنا في طريقنا لنلعب مباراة في الكرة الشراب في منطقة الوايلي وكنت أمشي إلى جوار نبيل، الذي قال لي: - تصدق بالله لم يدعني نبيل ارد فأردف على الفور: - أنا لم أذهب إلى الكلية منذ ثلاث شهور. لم أعلق وسبقني في المشي، ورحت أرقبه وهو يسير في رشاقة، وقد ارتدى نعلا بلاستيكيا رخيصا وصغيرا، وكعب قدمه يطئ أرض الشارع.
-4
لم يرسب مبيل في كلية الطب لكنه خلال سنتين كان استنفذ مرات الرسوب، وفصلته الكلية وحولت اوراقه إلى كلية التجارة - نبيل إبني شاطر ونبيه... لكن أصحابه هم من يخيبون أمله هكذا راحت أمه تردد بلا انقطاع مدافعة عنه أمام الجارات، وفي أغلب الظن أنها كانت مقتنعة بهذا، فقد اتخذت قرارا عمليا في هذا الشأن، فقد أقنعته بأن ينتق من تجارة القاهرة إلى تجارة الاسكندرية، بعيدا عن رفاق السوء الذين خيبوا أمله، وكلفت والدة نبيل صديقنا بكر خليفة المعروف بالجدية والرزانة ويدرس في حقوق الإسكندرية، أنيكون نبيل تحت رعايته، وأذعن نبيل وانتقل إلى الأسكندرية، ودبر له بكر خليفة حجرة مناسبة في منطقة الإبراهيمية. - نبيل!؟... نبيل لا أمل فيه وحالة ميئوس منها هكذا قال لنا بكر خليفة وقد وقفنا على الناصية، وأردف: - أنا قلت هذا لمحمد شقيقه - لماذا لا أمل منه؟ - سكن في الإبراهيمية بالقرب مني، ومارس تأثيره السئ على شباب الشارع، فجعلهم مقامرون، وتحولت غرفته الصغيرة إلى وكر للمقامرة والحشيش والنساء - والعمل؟ - العمل عمل ربنا.
وكما فصل نبيل زكي من طب القاهرة فٌصل من تجارة الإسكندرية، ولأنه لم يعد طالبا، زال السبب في تأجيل التجنيد، وفوجئنا بشيخ الحارة يطلب نبيل زكي عليوه للتجنيد الإجباري، وتم تجنيده، ولكنه لم يطق صبرا على الجيش والجندية والانضباط، بعد عدة شهور لم يعد من الاجازة إلى وحدته، ومكث في البيت، وعاد إلى حياته اللاهية، الكرة الشراب في يوسف الجندي والمقامرة في مقهى العنبة مع الحثالة تدخين الحشيش في غرزة الجباصي في سوق الأثنين والعودة إلى البيت فجرا، حتى فبضت عليه الشرطة العسكرية ورحلوه إلى وحدته، ونال محاكمة عسكرية سريعة بتهمة " الغياب "، ووقعت عليه عقوبة " الحبس " ثلاثة شهور يقضيها في سجن الوحدة، وبعد شهرين، وبفضل " نعومته " الشديدة، وتظاهره المدهش بالطيبة والرقة والود الشديد، استطاع نبيل أن يخدع حراسه، فقد اوهمهم أنه يعيش أزمة كبيرة لأن أمه مريضة للغاية ويتمنى لو يراها نصف ساعة فحسب، ورق قلب الحارسين الريفيين لمطلبه الذي يدعو للشفقة، وخرجوا به سرا واصطحبوه إلى البيت، وأستطاع أن يخدعهما وأن بلوذ بالفرار فخرج من باب غرفة المسافرين التي لها بتب بفضي إلى السلم، وبعد نصف ساعة كان الجنديان الحارسان يندبان ويولولان وقد أدركا أنهما سيدخلان السجن عقوبة لهما على فرار نبيل زكي.
-5
ذات مساء وكنت في عيادتي، وبعد أن انتهيت، دخل شعبان الممرض وقال وهو يبتسم ابتسامته الكلبية : - واحد في الخارج طلبت منه الكشف ولكمه رفض ويقول أنه صديق سيادتك! - من؟ - نبيل زكي عليوه مرت سنوات طويلة تخرجت وتزوجت وانقطعت بننا الأسباب، وهاهو زعيمي القديم يظهر بعد سنوات طويلة - دعه يدخل عانقني في حرارة وود صادق وجلس فطلبت القهوة والماء المثلج - أنا سعيد جدا بما وصلت إليه.. وكنت أتابع مسيرتك الرائعة هكذا قال وأردف - والحقيقة أنت تستحق كل خير - أشكرك... وأنت؟ - أنا تمام... خطبت واستعد للزواج - ألف مبروك - وأعمل في السيدة زينب لم يزد، ولم أقل له ماذا تعمل، وأغلب الظن أن طالب الطب السابق يعمل سفرجيا أو قهوجيا أو ما شابه من المهن الرثة، كل هذا ظهر من ثيابه ومظهره البسيط كنت مضطرا للإنصراف لارتباطي بموعد عائلي، فسكت برهة وجدته ينهض وقد فطن إلى رغبتي في انهاء اللقاء، اعتذرت له في صدق واكدت له أنني أريد أن نواصل صداقتنا الحميمة، وأشرق وجهه بالسرور. - لى خدمة عندك هل تسمح لي - طبعا ... تفضل - حماتي أسنانها الأمامية مخلوعة هل من الممكن أن نركبها لها - جدا ... جدا أعطيته موعدا لى نبدأ العمل وجاء في الموعد، ودخل شعبان الممرض يبلغني بوصول الأستاذ نبيل زكي، ودخل وفي صحبته امرأة تقترب من الخمسين لها بطن كبيرة وقد كحلت عينيها بكثافة ملحوظة، ولها وجه - على العموم - لا يطمئن، قمت بالواجب وانتهيت من العمل، وعرض غلى استحياء أن يسدد الأتعاب، فرفضت في حسم، فتهلل بالفرحة وبالدعاء - أريد ان نستعيد لقاءتنا هكذا قال - أريد أن نستعيد الماضي في الزمان والمكان هكذا قلت وأنا أرقب شعره الأسود الناعم بلا أثر للشيب - نأخذ موعدا... نلتقي في العاشرة عند فندق شبرد - ستجدني هناك في العاشرة وسأنتظر الموعد على أحر من الجمر انصرف نبيل زكي وحماته ورحت أفكر في حجم التردي الذي وصل إليه زعيمي القديم، وأفقت من شرودي وانا أستعد للمغادرة على صوت الممرض شعبان يقول وهو عابس الوجه - صاحب سيادتك؟ - الأستاذ نبيل؟ ما شأنه؟ - كدت أن أفعلها معه لأنه لم يحترم نفسه؟ شعرت بالانزعاج لتطاول شعبان الوغد على نبيل الذي تربطه بى صلة - لماذا؟ - دخلت أعد الشاي، وتركته هو والمرأة التي معه يجلسان وحدهما في الصالة، وخرجت فوجدته يقبلها - يقبلها؟ - نعم يقبلها قبلة عنيفة - ماذا تقول؟ - وجدته يقبلها فنهرته وقلت له أن العيادة مكان محترم وأن عليه أن يحترم نفسه1 - معقولة راح شعبان يقسم ويحلف أنه لا يدعى عليهما، ولم أصدق حرفا من ادعاءات شعبان لسببين، أولهما أن ذمة شعبان مطاطة ولا يعول عليها مطلقا، وثانيا لأان المرأة حماة نبيل زكي لا علاقة لها بالأنوثة من قريب أو من بعيد، وان شعبان على سحنته التي تقطع الخميرة من البيت به أنوثة تفوق أنوثة تلك المرأة الشنيعة، قلت لنفسي أغلب الظن أن شعبان كان يروم بقشيشا سخيا فلم يظفر به، فألف تلك القصة التي لاتصدق.
-6
جلسنا على الكورنيش خلف فندق شبرد كما كنا نفعل منذ خمسة عشرة عاما، كان النيل أمامنا غارقا في الظلام والصمت، وانعكست من الكازينو في الضفة الأخرى الأضواء الملونة على صفحة النهر، ورف نورسا أمامنا على صفحة النيل، وعبر الفندق القريب، سرت أغنية طروب. - هل تتذكر أيام أن كنت طالبا بكلية الطب هكذا قال. لم تكن المرة الأولى التي يستعيد فيها أنه كان طالب طب، لاحظت أنه يختلق حديثا لا علاقة له بأي شئ سوى أن يكرر" عندما كنت طالب طب " شعرت بالأسى له وأنا أرقب مظهره الرقيق، وتذكرت أن الحياة قاسية للغاية وبلا رحمة، ومن " يهجص " معها ستلقنه الدرس الذي لم يكن يخطر له على بال. - كيف حال حماتك؟ - كويسة... تبعث لك بالسلام - بالمناسبة أين زوجها؟ لقد رأيته معك على مقهى العنبة - نعم... رجل نطع كان يأتيني على القهوة ليحتسي شاي بالحليب على حسابي - وأين هو الآن؟ - طفش... بلغ فرار - كيف؟ - عمل استبدال معاش وأخذ النقود وفص ملح وداب - اختفي نهائيا؟ - لاأحد يعلم عنه شيئا... انقطعت أخباره وترك زوجته وبيته وابنته وشقيقتها... الآن عندي مشكلة مع مراته ... حماتي؟ - خير - حامل... - حامل؟ كيف وزوجها مختفي، ومن الفاعل؟ هل تعرف؟ - حامل مني أفقت ولم أصدق ما سمعت - حامل منك؟ حماتك؟ - نعم - يخرب بيتك .. كيف؟ - عادي - كيف؟ هذه مصيبة - فعلا مشكلة - كيف حدث الله يخرب بيتك - كنت أدخل معها الغرفة - أين - في شقتها في الناصرية، كنا ندخل الغرفة ونغلقها علينا بالمفتاح - وخطيبتك؟ كنا نقول أننا نتكلم في الجهاز - تتلكموا في الجهاز ؟ - نعم ماذا نشتري ومن أين.. - ماذا فعلتما في بطنها وهي تكبر - لاشئ فهى أصلا بطنها كبيرة تنهدت وأنا أرمق زعيمي القديم بنظرات ثاقبة وأنا تتملكني رغبة عارمة أن أخترق جمجمته الصغيرة لأعرف ماذا يدور في عقل عذا الكائن العجيب. - ليست المرة الأولى - يا نهارك الأسود ... ماذا تقول... ليست المرة الأولى؟ - نعم في العام الماضي حدث الحمل - وبعد؟ - عندما اقترب موعد الولادة اصطحبتها إلى مستشفى الجلاء للولادة، وحجزوها بها - وبعد؟ - ولدت طفل.. - طفل؟... ولدت طفل؟ - نعم... انتظرنا قبيل الفجر وتسللت وخرجت به وكنت انتظرها خارج المستشفى وذهبنا بالطفل إلى ملجأ في الزيتون، ووضعناه على الباب اصابني الذهول، ورنوت إلى النافورة التي تتوسط النيل بألوانها البديعة، النيل الذي يتدفق وعلى ضفافه تنسج المأسي والمصائر، ألقوا به على باب الملجأ؟ - هذا معناه أنك لك إبن الآن في هذه اللحظة يعيش في الملجأ تنهد مدعيا الأسف وقال في تسليم - نعم - وحماتك حامل للمرة الثانية؟ - بنت كلب لم تأخذ الحبوب - لم تأخذ الحبوب هكذا رددت في بلاهة ساد صمت ثقيل بيننا وشرد كل منا في أفكاره، وبعد برهة وجدت نفسي أقول له - كل عقدة ولها حلال رد على في بساطة وقال - فعلا كل عقدة ولها حلال ا
ا الامتحان
في ليلة شتوية من ليالي شهر ديسمبر، جلس طالب الطب إسماعيل فهمي يستذكر دروسه، استعدادا لاختبار مادة الميكروبيولوجي، تلك المادة الجافة التي تعتمد على الحفظ، لقد ذاكرها أكثر من مرة، وهاهى في خضم استعداده ومراجعته لبقية المواد، يجدها و قد تبخرت من ذاكرته، كانت الساعة الثامنة، أمامه ليلة طويلة، سيستعيد الميكروبيولوجي في ذاكرته في ستة ساعات وربما ثمانية ساعات، سيراجعها بكل جدية من الثامنة حتى الخامسة فجرا وربما السادسة، ثم سينام إلى العاشرة فيراجعها ساعة أخرى، ثم يتوجه إلى الامتحان في الثانية عشرة ظهرا. - زميلاك علي وعادل هكذا قالت أمه وأدخلتهما عليه، رحب بهما وخرجت أمه لتعد لهما الشاي وغمغمت لهم بالنجاح والتوفيق، شعر بالدهشة وظن أنهما حضرا لي يذاكرا معه، فشعر بالقلق والحيرة، اعتادا أن يأتوا إليه فيتولى شرح المادة وتلخيصها لهم، فيستفيد من ذلك استفادة هائلة، من ناحيته فالشرح يثبت المعلومات في عقله، ويستفيدا من الشرح بتسهيل المذاكرة والحفظ، وتذكر أن كلاهما دخلا كلية الطب باستثناءات من المجموع في الثانوية العامة، على المغربي والده أستاذ جامعي، وأبناء الأساتذة يحق لهم ذلك الإستثناء، أما علدل عبد الفتاح الخمري اللون فكان استثناءه بسبب تفوقه الرياضي، فهو كابتن فريق نادي " س" في لعبة الهوكي، فكر إسماعيل في أنهما لو ظنا أنه سيتفرغ للشرح لهما الليلة فهما واهمان، يريد أن يخلو إلى نفسه وللمايكروبيولوجي بغباوتها وسيتغلب عليها بإذن الله، فقال إسماعيل في تحفز - خير قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي - ابن الوسخة علي معه بلابل؟ - بلابل؟ هكذا قال إسماعيل - بلابل من التي يحبها قلبك دعه يرى البلابل يا ابن الكلب كانت الشتائم التي يتبادلوها من باب حميمية الصداقة والزمالة، أخرج على المغربي من الكيس البلاستيكي الذي يحمله عددا من زجاجات البارفان الحريمي الفاخرة وخاتم ذهبي صغير. فهم إسماعيل الحكاية كلها، وعرف أن عادل عبد الفتاح ذهب إلى علي المغربي في بيته في مصر الجديدة، بغرض أن يذاكرا سويا استعدادا للإمتحان في الغد، وكانا كلاهما من الفاقدين، وجلسا أمام مذكرة الميكروبيولوجي وكأهما طور الله في برسيمه، ومن باب تزجية الوقت فتح على المغربي دولاب أمه، فشاهد عادل عبد الفتاح الدولاب وبه حقيبة كبيرة مكتظة بالهدايا الثمينة التي يشتريها أبيه من السوق الحرة ليهديها إلى زوجته والدة على المغربي، فالدكتور المغربي عالم الجغرافيا الشهير والحاصل على الدكتوراة معار بشكل دائم في الدول العربية، واقترح عادل عبد الفتاح على علي أن يختلسا عددا من زجاجات العطور الباريسية، وأن يتولى عادل بيعها في قصر النيل، وأن يأخذا حصيلة البيع ليقضيا سهرة رائعة في كباريه الناسيونال في شارع قصر النيل - نأخذ كأسين.. وشاهد الرقاصات.. وممكن نأخذ معنا امرأة - شقة جدتي في الكيت كات فاضية - حلو جدا - هيا هات البلابل توقف على المغربي وأغلق الدولاب وقال - لن آخذ شيئا - لماذا؟... نريد أن نفرفش الليلة - والامتحان غدا؟ ... الميكروبيولوجي - هاهى المذكرة أمامك ... لن نستطيع أن نذاكر اربعة ورقات.. صح؟... صح أم لا؟ أمسك على المغربي المذكرة وراح يفر الأوراق الثمانين المطلوبة في الامتحان وقال في تسليم - لا... لن نستطيع... . - لمذاكرة هذه الكمية يلزمنا شهر على الأقل... صح أم لا؟ - صح اقتنع على المغربي بمنطق عادل عبد الفتاح، لكنه اشترط على عادل أنه لن يأخذ البلابل إلا اصطحبا زميلهم المتفوق إسماعيل فهمي. - إسمع يا علي.. أنا سأريحك، سوف نمر على سعيد، نأخذه معنا لكي نستخدم سيارته، ونبيع البلابل، ونمر على إسماعيل فهمي - بسيارة سعيد... ماشي - ولكننا لن نخبر إسماعيل فهمي بأننا سنذهب إلى الكباريه.. لن يأتي معنا فهو " دحيح " ولن ينزل ليلة الامتحان إلا لو قلنا له أننا سنلتقط نسوان من شارع نوال لأن شقة جدتك في الكيت كات خالية - وامتحان الغد؟ - ممكن اللجان تكون سهلة... - ممكن - وإن لم تكن سهنة... هذا امتحان أعمال سنة... والتقيل وراء... الدرجات معظمها في امتحان نهاية العام، سنعمل المعسكر المتين وسنقضي شهرين لاشئ نفعله سوى المذاكرة.. مثل العام الماضي والعام الذي سبقه.
-2-
- شقة جدتك خالية؟ هكذا سأل إسماعيل فهمي في جدية شديدة - فاضية والله هكذا أجاب عادل عبد الفتاح وأردف - ارتدي ثيابك بسرعة كي لا نبدد الوقت. شعر صاحب المنزل الطالب إسماعيل فهمي بالحيرة الشديدة التي تصل إلى درجة التعذيب، فهو مولع بالجنس، جربه مرة في شقة فوزي أنور مع مومس فلم ينسى المتعة الحسية التي لا مثيل لها، لقد سمع من أحد الأطباء في التليفزيون أن الشاب يقع تحت سيطرة الهرمونات التي تلغي عقله، وشعر أنه واقع تحت سيطرة الهرمونات، و الميكروبيولوجي؟ كيف سيذهب إلى الامتحان وهو لايتذكر من الثمانين صفجة سوى ضبابيات لاتذكر - كم الساعة الآن؟ هكذا سأل عادل عبد الفتاح - السابعة والنصف - في العاشرة سنعيدك إلى هنا، منتعش بممارسة الجنس الجميل مع امرأة من نسوان شارع نوال، ستعود وقد تخففت من الرغبات التي تضنيك، لن أقول شيئا ولكن سأقول لك تخيل ان امامك امرأة عارية .. تخيلها وأعطني عقلك !! - والميكروبيولوجي؟ - سنعود في الحادية عشرة - ورانا ورانا...أين سنذهب منها ومن غباوته!ا هكذا قال على المغربي صاحب البلابل وهو يتذكر أستاذ المادة الذي أطلقوا عليه عباس" كوكاس " - هيا أرتدى ثيابك لا تضيع الوقت، دعنا نرفه عن نفسنا قليلا، نتخفف قليلا من الرغبة الفظيعة، هل تصدقان انني لا أنقطع عن التفكير في الجنس. "سوف ننتهى في العاشرة" هكذا قال إسماعيل لنفسه وقد استسلم للإغراء والغواية، لو لم يقولوا له أنه مدعو للمارسة الجنس، لا توجد قوة على الأرض قادرة على زحزحته عن مراجعة الميكروبيولوجي، ألم يقل فرويد أن الجنس محرك التاريخ، فل يعجز الجنس بكل جبروته عن تحريك إسماعيل فهمي وهو مجرد طالب متفوق لا راح ولا جاء راح إسماعيل فهمي يرتدي ثيابه بسرعة وانتبه من أفكاره التي يبرر بها ضعفه المشين أمام شهواته، على دخول أمه - هل ستنزل؟ شعر بأنه يهوي من حالق، جائك الموت يا تارك الصلاة، ماذا يقول لها تلك المرأة الطيبة التي يعتبرها تجسيدا حيا لإنكار الذات والتفاني في أبنائها - ساعة واحدة... ساعة واحدة وسأعود،.. امتحان الغد تم تسريبه، والامتحان حاليا عند عز الدين القليوبي، سأعرفه وسأعود فورا، لن أغيب. - ربنا ينجح لك المقاصد... سأنتظر عودتك لم يرد عليها وهو يشعر بالخزي الشديد، وغادر مع زميلية على المغربي وعادل عبد الفتاح ببشرته الداكنة وقوامه المتين ووجهه الشعبي الملامح، ومنحتهم أمهم " في أمان الله "
-3-
عندما نزلوا وجدوا زميلهم على سعيد ينتظرهم داخل سيارته، ليست سيارته ولكنها سيارة أبيه الموظف الكبير في مصلحة الكهرباء، تصافحوا و أقترح إسماعيل أن يضموا عز الدين القليوبي الذي يقطن في الجيزة، فمروا عليه. وعادوا بالسيارة إلى وسط البلد، وتولى عادل عبد الفتاح ومعه على المغربي بيع المسروقات، وعادا وهم يتشاحنان لأن على المغربي يتهم عادل عبد الفتاح تواطئ مع البائع واختلس خمسة جنيهات لنفسه، وانطلقت السيارة - لما أختليت بالبائع ماذا قال لك؟ هذه أولا، وبعد أن ناولني النقود، لماذا رجعت له وقلت أنك نسيت سجائرك، وأنت تخفي علبة سجائرك في الشراب انفجر عادل عبد الفتاح في الضحك.. فتوجه على المغربي إلي المجموعة بالسؤال قائلا: - صح ولا لأ.. - لا... لأنه لا يشتري سجائر أصلا... ويعتمد على سجائرنا - أليست البلاد تتبنى المذهب الإشتراكي.. نحن نطبقها لا أكثر هكذا قالت التعليقات فقال على سعيد الذي يقود السيارة - إلى أين؟ - الوقت يمر يا ابناء الأفاعي ولم نراجع المايروبيولوجي... سنذهب إلى شارع نوال... شارع نوال دعك من هؤلاء الصياع - يبدأ الفسق من كورنيش العجوزة - نبدأ من مجطات التروللي باس على الكورنيش، بعرض مستشفى العجوزة - شارع نوال أولا... كانت شوارع منطقة العجوزة خاوية وموحشة ومظلمة، ولاسيما الكورنيش، والمصابيح القليلة تعتصر نورها الذابل، واعتصر الألم قلب إسماعيل لأنه يبدد وقته مع هؤلاء الضائعين، لولا الجنس لتركتهم فورا، وتذكر أمه ودعواتها فشعر بوخزة في قلبه، وراح يفكر في علي المغربي وعلاقته الغريبة بأبيه، وهو الولد الأكبر الذي دللته أمه، فأصبح يسرقها ويسمي المسروقات "بلابل" أما بيعها فيطلق عليه" تسويح البلابل " وفكر اسماعيل أن علاقته بهؤلاء الصياع كانت السبب في أن تسوء سمعته في الدفعة، وكثير منهم يحبونه ويقدرونه لتفوقه وأدبه. - ولا واحدة هكذا قال على سعيد القابع خلف عجلة القيادة، الذي راح يبطئ السيارة ويمشي بها إلى جوار الرصيف، وانتهى من شارع الكورنيش ودخل إلى شارع نوال، وتهادى بها وعبر باعة الفاكهة الجائلين وعلى نور الكلوبات والمصابيح القوية تلألأت تلال البرتقال والموز - نقضيها سجائر وموز هكذا قال على المغربي متهكما - نذهب إلى ميدان التحرير - بعد ميدان التحرير علينا بميدان كصطفى كامل، هناك كباريه " كوبانا" - هل ندخله؟ - لا... ربما سألنا قوادا يقف على الباب، وربما وجدنا امرأة خارجة لتوها فنصطادها - أين سنبحث في ميدان التحرير - مجطة التروللي خلف لاباس، حديقة الزهور أمام المجمع، عند النافورة، وخلف مسجد عمر مكرم تلك مناطق تجمعات الموامس، هذه منطقتي يا جماعة لأنني أسكن بالقرب من الميدان هكذا قال إسماعيل وهو يتألم لأن الوقت يمر والميكروبيولجي مثل كالسيف الذي سيقطعه لا محالة ، ودارت السيارة وانطلقت نحو الشيراتون وانحنت يمينا لتدخل إلى كوبري الجلاء، كانت الشوارع مقفرة، وكافيتيريا أسترا خاوية إلا من ثلاث زبائن جلسوا في موائد متباعدة، ومحطة التروللي خاوية إلا من رجل بلدي ومعه صبي - الساعة ما زالت التاسعة، وفرصتنا أفضل كلما تأخر الوقت - والامتحان؟ - لف من شارع منصور... - سوق باب اللوق؟... لا داعي للتهريج!! لفت الجماعة ودارت بالسيارة في الشوارع المظلمة يفتشون عن صيد يقضون بها ليلتهم كما خططوا لها، ولكن جهودهم ذهبت سدى، لم يجدوا غير شوارع مقفرة ومحلات مغلقة والميادين الخاوية إلا من مصابيحها التي تعتصر الأنوار وكأنها الحلي الذهبية وقد رصعت الليل الذي بدا كأنه المخمل الأسود. - أفضل شئ أن نذهب إلى المنبع - يالك من فيلسوف.. وأين ذلك المنبع يا فيلسوف؟ - الكباريه نبع الموامس والعاهرات - لا فض فوك يا مسئول الفسق في دفعتنا... إلى الكباريه هكذا قال إسماعيل متوجها بحديثه إلى عادل عبد الفتاح، فضجت السيارة بالضحك، وشعر فجأة بوخزة في قلبه وهو يتذكر وجه أمه المتغضن ونظرتها الطيبة وهى تدعوا له بالصلاح وبالفلاح. وأفاق من شروده وقال في وهن - أنزلوني هنا لأعود للبيت - على جثثنا... إما أن نفسق سوا... أو نذاكر سوا.. والليلة حرام فيها العلم. استقر الرأي على كباريه "الفيروكيه" وهو الملهى الليلى لفندق الناسيونال في شارع سليمان باشا، لقد جرى الزمن على الفندق والكباريه الذي بات شعبيا، ودفع علي المغربي صاحب البلابل تذاكر الدخول، وجلست الجماعة على مائدة تجاور البيست، وأحتسوا الشراب، ولعبت الخمر المغشوشة برؤوسهم، وصيحوا كثيرا، وحجز الأمن بينهم وبين مجموعة من الشباب الليبي، وصفقوا وهللوا ومر الوقت سريعا وغادروا بعد أن دفعوا الحساب، وكانت الرابعة فجراً.
-4-
" ماذا فعلت بنفسك " هكذا قال طالب الطب إسماعيل فهمي وصداع رهيب يحطم جمجمته، أضاع ليلته وهاهو من شدة السكر لايكاد أن يجد ثقب الباب ليضع في المفتاح، وهاهو الباب يفتح، ليجد أمه تقف - صباح الخير هكذا قالت وهى تفسح له لكي يدخل وترمقه في محبة تصل إلى درجة الوله، وزادت نظرتها الحانية من عذابه، لماذا لا تقوم القيامة؟ لو انشقت الأرض وابتلعته لما كان عذابه كما يشعر الآن. - كنت أصلي الفجر، فوجدتك تعبث بالمفتاح... ذاكرت؟ - آه... هكذا أجاب في اقتضاب ةالندم ينهشه. وشعر بالماء البارد يغمر رأسه ووجهه وقد وضع رأسه تحت الصنبور، وتذكر المشاجرة السوقية التي دخلها مع الشباب الليبي، وشعر بالخجل لترديه إلى ذلك المستوى" سكران في بار و مشاغب فقد عقله في كأس" - ماذا فعلت... قاطعها قائلا: - تمام الحمد لله وقف في الحمام يجفف رأسه ووجهه وصداع رهيب يحطم رأسه، قالت أمه - سأعد لك إفطارا خفيفا وتدخل لتستريح حتى موعد الأمتحان..سأبقظك في العاشرة، امتحانك في الثانية عشرة - لا... سأكمل ولن أنام.. - ستظل مستيقظا حت الإمتحان؟ - نعم... أنا لا أريد إفطارا.. أنا أريد أسبرينتين وقدح من القهوة، أريدها دوبل، في الكوب الكبيرة. أعدت له القهوة ومعها سندويتش خفيف - كل هذا أولا هل يقول لها أن الخمرة المغشوشة التي احتساها في كباريه ترسو بنقود زميل فاسد سرق أمه وأبيه، تلك الخمرة تمزق له معدته، ليته تقيأ فيرتاح، لكن القئ لم يسعفه، وكأن معدته قررت أن تنتقم منه من أجل أمه، تلك الدجاجة الطيبة العجوز التي تقئقئ لتربيته وشقيقيه، مات أباه منذ عشر سنوات، عن تجارة تحمل عبئها ابنها الأكبر الذي لا يتورع عن سرقة اخوته بتحريض من زوجته، وتحملت الكثير من أجل تربيتهم، خاب أملها في الأربعة اولاد، ويعرف أن أمه تتعزى به، تحبه لأنها المطيع الذي لا يرهقها بطلبات مدللة، تحبه لأنه يعرف واجباته فيستذكر دروسه من تلقاء نفسه، شرفها أمام المتلمظين بها غيرة وحسدا والتحق بكلية الطب بمجموع عالى، يحصل كل عام على مكافئة من الكلية لحصوله على تقدير جيد جدا، أما شقيقيه الأصغر منه بعامين وشقيقه الأكبر منه بعامين فهما مدللان يرهقانها بالطلبات التي تعكس عدم شعورهما بها ولا بالمسئولية الملقاة على عاتقها، إهمالهما لدروسهما تعثرهما في دراستهما. جلس إسماعيل على مائدة السفرة المستديرة، وربتت أمه على كتفه في حنان وقالت: - هل أعمل لك شيئا... - لا... - ربنا ينجح لك المقاصد انصرفت أمه وتركته وجها لوجه مع مذكرة الميكرو بيولوجي الضخمة الرديئة الطباعة، وورقها الخشن السئ، وهاهي الصفحات الثمانين بطلاسمها تتحداه، وهاهو الصداع الرهيب يحطم رأسه، لن ينام مهما أصابه، سيتحمل الصداع و آلام أحشائه وسخافة المكروبيولوجي لكي لا يشعر بالمزيد من الذنب، ونظر من النافذة القريبة ونور الصباح الأزرق الفاتح يخيم على السماء في روعة، وآشعة الشمس الذهبية تتسلل من الأفق وقد تغطت بسحابات رمادية وفضية، اتهم نفسه بالاستهتار وبالتفاهة وبقلة الاحترام، ونظر في الساعة، لقد مرت نصف ساعة، لم يستذكر سوى خمس صفحات، وعندا اختبر نفسه في التحصيل لم يستطع استعادتهم من الذاكرة، شعر باليأس الأسود ينتابه، اليأس ترف لا تملكه، عقوبتك أن تستمر وأنت تعرف أن لا جدوى، فلن تستعيد أكثر من عشرة في المائة من المطلوب في الامتحان خلال الثلاث ساعات المتبقية على الامتحان، حيث ستبيض وجوه وستسود وجوه. على مثل ذلك النحو جرت أفكار إسماعيل، وقرر أن يتبع سياسة "التنشين" أن يختار عددا من الموضوعات التي يرجح أن تأتي في الامتحان، وراح يدعو الله في حرارة، أن تترفق به الأقدار هذه المرة فحسب، فيجد تخميناته في ورقة الامتحان، ولن يكررها ثانية، ليس من أجلي أنا، بل من أجل المسكينة التي صدقتني وأنا العابث المستهتر الذي أستحق الحرق. وفي العاشرة والنصف أخذ حماما ساخنا وارتدى ثيابه ودعوات أمه تلاحقه شعر بها وكانها الجمرات التي تلقى على إبليس.
-5- تجمعت الشلة في الكوريدور أمام المدرج - هل راجعت الميكرو أم نمت على الفور - نمت مثل القتيل، وكيف أراجعها وأنا لم أذاكرها أصلاُ هكذا قال عادل عبد الفتاح لاعب الهوكي وهو ينظر إلى إسماعيل الذي وقف عابسا لا يتكلم ولا يشاركهم الحديث لم يرد - مالك؟ هكذا قال عادل - لماذا جئت بعلى المغربي إلى، لماذا راح عادل يقسم بأنها فكرة على المغربي الذي قال أنه لن يأخذ البلابل ليسوحها إلا إذا جئت معنا - لعنة الله على ديك أمك لديك أمه هكذا قال اسماعيل في سخطوغضب، في ذلك الوقت كان على المغربي يستعيد المشادة بينهم وبين الشباب الليبي. وتبين أنهم لن يدخلوا سويا إلى نفس اللجنة، فالشلة كلها سوف تمتحن في قاعة صغيرة، وأنه سوف يمتحن في القاعة الصغير المواجهة لها. دخل إسماعيل إلى اللجنة وجلس في الصف ما قبل الأخير، وجائت ورقة الأسئلة، طيلة عمره وهو يحسب ألف حساب لرهبة الامتحان والمرور السريع على الأسئلة، كأنها لحظة السؤال المرعبة وقد بعث الميت في القبر، هل تصيب تخميناتي يارب العالمين من أجل حبيبك النبي ومن أجل المسكينة أمي؟ مسح الأسئلة بعينيه ولم يجد تخميناته، خابت كلها فلم تصب إلا ربع سؤال من أربعة اسئلة، كل سؤال من أربع نقاط، هذا معناه أنه لا يعرف إلا نقطة واحدة من اثناعشرة نقطة، "ضعت يا إسماعيل" هكذا قال لنفسه. أجاب عن الفقرة الوحيدة التي يعرفها، وبدت له بقية الاسئلة كأنها الطلاسم، وحاول أن يسأل جاره فنهره المراقب في غلظة وهدده بأن يخرجه، وقضى إسماعيل الساعتين وهو في كرب لم يشعر به من قبل، وتعاسة لا حدود لها، ولم تغب أفكاره المضنية عن أمه، فكر في وجهها البرئ وهى تدعوا له وهو يخدعها أنه سيخرج لأن الامتحان قد تسرب. فكر في شقائها عندما تشاحن شقيقيه بالأمس القريب، وتطورت المشادة إلى تضارب، فدخلت بينهما فنالت بالخطأ لكمة عنيفة أسالت الدماء من فمها!! فكر في فمها الأهتم وقد فقدت معظم أسنانها وطاقم الأسنان الصناعية التي تستخده، جسدها الثقيل وقد هزلت وساقيها المقوستين من تهالك مفصليها، لماذا لا تنشق الأرض كي تبتلعه؟ لماذا خذلتها؟ - مضى نصف الوقت من الممكن أن ينصرف من انتهى من الإجابة هكذا قال المراقب بصوت عالي، فخرج عدد من الطلاب وسلموا ورقة الإجابة وانصرفوا الواقع يقول أن أسلم ورقتي الهزيلة وأنصرف، لكن لا، سأشرب كأس الذل حتى آخره، وظل إسماعيل في مكانه، والأفكار السوداء تعذبه وكأنها الجرح الذي يدفعه لكي يهرش فيه فيتألم فيزيد الألم من الرغبة في المزيد من الهرش وهكذا، ومضى الوقت وسلم الورقة، وخرج ليجد الشلة واقفة تتحدث وتضحك - ماذا عملت؟ هكذا قال على المغربي صاحب البلابل - زفت؟ راح يضحك في هيستيريا وتوجه بالحديث للشلة - يقول أنه عمل زفت - وماذا عملت؟ هكذا قال إسماعيل فهمي متعجبا - غششنا... المراقب طلع هايل قال لنا من معه " حاجة " يطلعها واكتبوا من سكات - وطلعتم كتب؟ - نقلنا من المذكرة... روعة، وأنت؟ - زفت.... تركهم دون كلام وأشعل سيجارة ومشى في الكوريدور وتذكر وجه أمه وهى تكاد أن تسقط على وجهها من اللكمة الطائشة التي نالتها، وفكر الطالب المتفوق إسماعيل فهمي في فكرة الانتحار.
.
في البن البرازيلي -1- اانتهى الطبيب الشاب إسماعيل فهمي من آخر مرضاه في عيادته الشعبية في حى الظاهر، وصرف الممرض شعبان وخلا إلى نفسه، لقد اعتاد أن يخرج النقود التي دفعها مرضاه كأتعاب، أن يخمن مهن مرضاه بالتدقيق في الرائحة المرتبطة بالأوراق النقدية التي دفعوها كأتعاب، فذلك بائع طعمية، وهذا بياع سمك، وتلك امرأة متفانية في غسيل الصحون وهذا بائع لحمة راأس... إلى آخره، لكنه الليلة لم يفعل ذلك فقد دس النقود في جيبه وهو مشغول البال ومعتكر المزاج، فقد داهمته الليلة نوبة من الأحزان التي تجتاحه بين الحين والآخر، فيمعن خلالها في التفكير من في المنغصات التي تسمم له حياته، أولها تلك المشاجرة الكئيبة التي نشبت أمس الأول بينه وبين شقيقه على ميراث تافه، ومنها مشاكله في العمل كمعيد في كلية الطب واضطهاد رئيس القسم له، وعجزه عن الزواج لضيق ذات اليد. لقد تجاوز الطبيب الشاب الثلاثين عاما بعم واحد، طويل القامة لا يخلو من وسامة، لقد أطال شعرة الأجعد، وأطال سالفيه مجاريا الموضة،و رسم على وجهه نظرة استعلاء وسخرية أصبحت تلازمهة، وهى نظرة جديرة بشاب في عمره، وفتح باب العيادة ليخرج ففوجئ بمن يقف على الباب وينظر إليه، واستطاع بعد برهة أن يستعيد شخصية القادم، إنه زميله السابق سمير، سمير جي كيه كما كان يقول عن نفسه، سمير جندي كامل، جعلها من خفة عقله سمير جيه كيه - انت نازل؟ - كنت نازل... اهلا ومرحبا - دعني أدخل أولا - ادخل يا صديقي العزيز ... تفضل... أي ريح طيبة ألقت بكا ؟ ا هكذا قال الطبيب الشاب لضيفه - انا وقعت من السماء وانت ستتلقفني صمت د. إسماعيل صاحب العيادة وهو يسمع ويتأمل في ضيفه وهما يحتسيان القهوة التي أعدها إسماعيل في عجالة، مازال أنيقا كما هو، الجاكيت البيج والبنطلون البني المحروق والحذاء الهافان الأجلسيه، طويل وعريض ضخم الجثة وهرقلي القوة، وعيناه تطلقان نظرات مفعمة بالتزلف والرياء، لكن داخل هذا التزلف بصيص ماكر وزيف أكيد. - خيرا يا عزيزي ا - لقد حصلت على حكم المحكمة لكي تمنحني كليتكم الوسخة فرصة اخيرة..... هكذا قال سمير الضيف في حنق وتأذي الطبيب الشاب من لفظه" الوسخة" فهو ينتمي إلي الكلية، ووجد نفسه يجاري ضبفه المحنق فقال: - من ناحية الوساخة فهى كما تقول... لكن أى فرصة؟ - فرصة دخول الامتحان، فأنا لا يوجد عندي مواد سوى مادتكم، المادة التي تدرسوها، لو اجتزتها لوصلت للسنة الرابعة واتخرج وأصبح طبيبا مثلكم!! لاذ إسماعيل بالصمت حائرا ومشفقا على زميله السابق المتعثر البائس - ساعدنى - انا تحت أمرك لكن كيف؟ - سوف أدخل الامتحان في مايو القادم وأنا في عرضك سوف تشرح لى المادة ستشرح لى المادة شعر إسماعيل بالحيرة، لا يعطي دروسا بنقود، فيورطه سامي في درس في أغلب الظن سيكون مجانيان ثم انه لم يكن من اصدقائه المقربين منه، مجرد زميل، ورنا إلى زميله وهو ينظر إليه بنظرات متوسلة، وعينيه السوداويين يكادا ان يغرورقا بالدموع، فشعر بالرثاء له، وبعد صمت قصير وجد المعيد الشاب نفسه يقول: - على خيرة الله. قاطعه سامي ونهض وقبل رأس إسماعيل، وهو يلهج بالشكر والامتنان وكلمات من نوع لن أنسى جمائلك طيلة عمري وأنا أردد للجميع أنك أجدع واحد في دفعتنا ابتسم إسماعيل في اشفاق وخجل وقال: - أشكرك... المهم أن نتفق على مواعيد بعد انتهاء العمل في العيادة تأتي إلى وسوف أشرح لك المنهج ... وعليك بالمذاكرة. المادة جافة وصعبة، ما أن تنتهي معي عليك بمذاكرتها أولا بأول. - طبعا.. طبعا..سترى.
-2-
انظلق المعيد الشاب إسماعيل فغادر عيادته في شارع الشيخ قمر، وطالعه مبنى جامع الظاهر بيبرس الجهم الضخم في الميدان، وراح يرقب أحجار السور الضخمة ومن خلفها السماء المرصعة بالنحوم، ولف حول الميدان وخرج إلى شارع بورسعيد وهو يفكر في مقابلة زميله السابق سمير جى كيه، وفكر في الوضع الزري الذي تردى سمير إليه، وفكر أن وضعه في الحياة لا يتناسب مع تأنقه الشديد، كيف - وهو المفصول من الجامعة لاستفاذ مرات الرسوب- يقف في محل البن البرازيللي في شارع سليمان كل يوم وقد تعطر وتأنق؟ تعجب إسماعيل من طباع زميله السابق، لو كان في موضعه لمات من الهم والحزن والهوان، لقد التحق اسماعيل بالكلية ووجد سمير طالبا من طلاب السنة الأولى، تخرج أسماعيل من الكلية وسمير مازال طالبا، وقضى إسماعيل سنة الامتياز وسمير مازال طالبا، ثم أدى إسماعيل الخدمة العسكرية وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على وظيفة معيد، وسمير مازال طالبا، وحصل إسماعيل على الماجيستير وسمير مازال طالبا. لقد سمع من الزملاء في الكلية الذين يسكنون في حى شبرا، أن سمير وحيد أمه وتوفى أباه وربته أمه ودللته فنشأ ضعيف الإرادة والعزيمة، والتحق بكلية الطب باستثناء في المجموع، فقد كان سمير لاعبا في فريق كرة اليد بالتوفيقية الثانوية، ذلك الفريق الذي حصل في تلك السنة، على بطولة اللعبة على مستوى مدارس الجمهورية في، وكافأت الدولة أعضاء الفريق بحصولهم على درجات تفوق أوصلتهم للالتحاق بكلية الطب، لكى تبدأ مأساة سامي جي كيه. -3-
ساقته قدماه إلى شارع بورسعيد، فركب تاكسي - شارع سليمان باشا... سيذهب إلى بار الناسيونال، سيدفن أحزانه في كئوس البراندي المحلي القوي الرخيص، فكر أن مشكلته لا تقل سوءا عن مشكلة سمير جى كيه، سمير يتوق إلى الحصول على بكالريوس طب، وهو يتوق إلى الزواج، وكلتاهما رغبات تستعصي على المنال، عندما وصل إلى ميدان العتبة، وفي نوبة من نوبات مصارحة النفس، أعترف الطبيب الشاب لنفسه أنه مسئول إلى حد كبير عن تعاسته، وتعاسته تتلخص حاليا في عدم قدرته على الزواج لضيق ذات اليد، ومسئوليته في ذلك لأنه رفض أن يعطي دروسا خصوصية، إذ كان في استطاعته أن يعطي الدروس الخصوصية للطلاب، مثل عدد كبير من زملائه، الذين على الرغم من سطحيتهم الشديدة وافتتقارهم إلى أبسط درجات الثقافة والوعي، تمكنوا خلال سنوات من تحقيق كل تطلعاتهم العملية، الشقة الفارهة والعروس الجميلة والعيادة في الموقع الرائع وكلها من الدروس الخصوصية، لكنه اعتبر أن الدروس الخصوصية مسألة مبتذلة ورخيصة، ولخصها في كلمتين وهما " اللف على البيوت "، لكنه الليلة يعترف بأنه كان يخبئ خلف هذا الشعار الطنان حبه الجارف للحياة واللهو، وأنه استبدل اللف على البيوت" التي ستحميه من المسغبة باللف على البارات كما يفعل كل ليلة، وآية ذلك أنه ذاهب الآن إلى بار الناسيونال، وسيجد هناك الشلة من غرائب الطبيعة، وسيشرب البراندي القوي، وسيدفن في الكأس أحزانه، وسيدخن الحشيش في الغليون، وسيقضي ليلة ليلاء، صخب ضحك ولعب وغناء ومناقشات. أختار أن يحيا كما يحب وهاهو يدفع الثمن، أن تتحمل ما لا تحب، اخترت أن لا تبتذل نفسك و ولن تمتهن العلم بقدسيته في اللف على البيوت، لن تتحول من باحث وعالم إلى تاجر شنطة الذي يحمل شنطته ويلف بها على الزبائن الأثرياء و يبيع بضاعته لهم، حسنا عليك أن تدفع الثمن، والثمن هو أنك لن تستطيع الهروب من الأزمات المالية المتلاحقة وستظل تلهث لكي تطفو فحسب في بحيرة البراندي التي تحيط بك. فراتب الجامعة هزيل، أما العيادة الشعبية التي افتتحها منذ سنوات ، صحيح أنه حقق شعبية لابأس بها في المنطقة، لكن مرضاه في المجمل من الشرائح السفلى من البورجوازية الصغيرة، موظفون صغار وسعاة في مصالح حكومية بائسة، وصغار الحرفيين والأرزقية وستات بيوت يستحققن الرثاء من الفقر والأسى. ودخله الشهري من هذا وذاك بالكاد يغطيان نفقاته، فكيف يدخر الألوف اللازمة لنفقات الزواج، ومازال يتذكر مقولة كتبها كاتبه المفضل في إحدى رواياته" يطلب الرجل المرأة ولو أقعده الكساح"، فما بالك بشاب رياضي وفي الثلاثين من عمره. أنى له بزوجة تبدد وحشة حياته الجافة، وكثيرا ما يتهيأ له أنه أشبه بصبارة بائسة تنتصب وحيدة في صحراء قاحلة. إفاق من شروده على وصوله إلى بار الناسيونال. لم يصل أحد من الشلة، اختار مقعدا على البار لكي يثرثر مع البارمان أحمد، يريد أن يهرب من مواجهة نفسه بخيباته وتعاساته، سوف يزجي الوقت حتى مجئ الشلة بالثرثرة مع البارمان " أحمد " والجرسون سيد وينادونه " شجرة " - أنا مٌعلم مثل سيادتك هكذا قال البارمان وهو يصب له كأسا، وأضاف - هذه الكأس مني لسيادتك... تحية وتقدير ومعزة هذه المقدمة يجقظها إسماعيل عن ظهر قلب، ويعرف الجملة التي ستليها إذ يقول بلكنته الصعيدية: - سيادتك معلم في الطب والعبد لله معلم للفتيات المعوقات...و اتعامل مع العاهات ليلا في البار. حكى له البارمان قصته مرات عديدة، حصل على الدبلوم من المنيا، وألحقته القوى العاملة معلما للمعوقات في مدرسة بالزيتون، وأتاحت له وظيفة الساقي أن يحصل من الفندق على غرفة صغيرة فوق السطح لينام بها، وحلت له مشكلة السكن والإقامة في هذه المدينة المتوحشة، ويحب أحمد الساقي الشاب أن يؤكد للدكتور إسماعيل أنه أنه عازم على تسجيل الماجيستير، ولن يتنازل عن تحقيق تلك الأمنية الغالية. آنس إسماعيل إلى بار الناسيونال، آثار مجده الغابر مازالت بقاياه ماثلة تتباهى بنفسها، المساحة الفسيجة والسقف العالي المزين بتهاويل الركوكو، النوافذ المرتفعة التي تطل على الشارع الجانبي ، الستائر مخملية فاخرة بلون النبيذ تغطي النوافذ، البيانو الكبير وقد انعكست علية الإضائة الصفراء الكابية التي تعتصرها المصابيح الحزانى في شحوب ، البار العريض بلون البن المحروق والمرايا البلجيكي الكبيرة والرفوف الكريستال تحمل زجاجات الخمر الملونة. فكر في سمير جى كيه، كان من المفترض أن يعتذر له، بعد العمل في طوال اليوم في الجامعة وبعدها في العيادة، وبدلا من أن يرفه عن نفسه بكأسين أو سيجارتين وصحبة حلوة ورفقة ممتعة يطلع له سمير جى كيه، ولم يكن يوما صديقه ولا عشم له! وجائت الشلة والتأم الشمل وضج البار بالضحكات والمناقشات وعلت الأصوات بالغناء، وعلى صوته وغنى بصوته " ياما قلبي قال لي لأ... وأنا ألاوعه/ لما قلبي اتشق شق... قلت أطاوعه... واندمج في الغناء ونسى سامي جي كيه ومشكلة سامي حي كيه؟ -4-
انتهى د. إسماعيل من آخر مرضاه، لقد أخبره الممرض شعبان أن الدكتور سامي في الاستراحة - هو من قال لك "دكتور" سامي؟ - نعم ! - دعه يتفضل قال إسماعيل لنفسه" ياله من نطع... دكتر نفسه بلا خجل" ودخل شعبان وخلفه سامي جي كيه، وتبادلا التحية، وجلس سامي خلف المكتب - جئت حسب الموعد هكذا قال سامي في استجداء يثير الشفقة وترقرقت نظرته وشعر إسماعيل بمزيج من الخجل وعدم الارتياح - سوف تنقذ مستقبلي ولن أنسى لك هذا الجميل يا دكتور إسماعيل... هل تعلم أن أمي لولا أنها قعيدة لأتت لك لكي تشكرك..وعندما علمت أنك تعيش وحدك، أصرت على أدعوك على صينية سمك كزبرية على الطريقة الدمياطية شعر إسماعيل بالخجل وابتسم وهو يدخن الغليون - متى ستأتي لكي أقول لماما - دعنا نبدأ العمل أولا لكي لا نتأخر... هل معك كتاب القسم - وماذا أقول لماما؟ - سنتفق بعد أن ننتهي... أين كتابك؟ لوح بيده وقال - لا أملك كتابا... ضاع مني... آخر مرة امتحنت فيها كانت من خمسة سنولت وبعد ظهور النتيجة ألقيت بالكتاب في مكان ما وبحثت عنه بالأمس وقلبت الدنيا فلم أجده. - لابد ان تشتري كتابا... أنا سأشرح لك هنا، رغم أنني لا أعطي دروسا خصوصية، لكن واجب الزمالة القديمة يحتم على مساعدتك ؟ا - أشكرك .. وأول الشهر لما ماما تقبض المعاش حا أشتري نسخة... هل يباع في القسم؟... سأشتري واحدا قال إسماعيل معتذرا - وزعوا نسخة مجانية واحدة لأعضاء القسم...ولولا هذا لأعطيتك نسختي... شعر بالندم، وشعر بالشفقة على زميله القديم، وتذكر أن سامي وحيد أم متسلطة مستبدة لاتخلو من ضعف العقل، وهى التي جعلت من سامي هذا الرجل المعدوم الإرادة الذي لا يخلو من تفاهة، وتذكر حكاية رواها له زميل كان وطيد الصلة بسامي، بحكم تجاورهما في حى شبرا العريق، والزميل نفس أخبره من قبل، أن أم سامي التي ترملت في سن الشباب، والتي رفضت الزواج بعد أبيه الصائغ، فأوكلت إدارة الدكان إلى خاله، الذي خدعها واستطاع بالدهاء والحيلة أن يستولي على ميراث سامي وأمه ولا يمنحهما إلا الفتات، وحكى لي واقعة شاهدها في بيت سامي، بينما كان في زيارة له، وبينما يحتسيان الشاي فوجئا بأم سامي تقتحم الغرفة كالإعصار، غاضبة والشرر يتطاير من عينيها، وبدون سلام ولا كلام راحت توبخ سامي وتنهرة في غلظة شديدة، لأنه أخرج الطاقم الكريستال لاحتساء الشاي، لم ينطق سامي وانكمش خزيا وهوانا.
رنا إسماعيل ببصره إلى زميله السابق وشعر بالشفقة، وانتابه إحساس بذنبٍ ما حيال ما آل إليه سامي جي كيه، ما ذنبه في وفاة أبيه؟ ما ذنبه في ترمل أمه؟ لم يختار سامي أن يتحول من طفل برئ إلى شاب تافه معدوم الإرادة. انتبه إسماعيل من شروده على صوت سامي : - أول الشهر ... لم يتبق على الشهر إلا أيام... قاطعه إسماعيل وقال: - أنت ستأخذ هذه النسخة...وتجلبها معك كلما أتيت هنا ترقرق سامي جي كيه وكادت عيناه تغرورقا بالدموع وقال: - جمائلك فوق رأسي ولن أنسى لك مروئتك وكرم أخلاقك - أنظر ياسامي .. سوف نضع خطة لكي تنجح.. سوف تمتحن مع الدفعة كلها؟ ا - نعم في سبعة مايو... والعملي والشفوي يوم 22 مايو. فكر د. إسماعيل في طريقة للعمل مع تلك الحالات المستعصية، وقال ليقلل من جدية الموقف - جميل سندخل عليهم بطريقة أربعة إثنين أربعة... سنبدأ بباب لابد أن تجد فيه سؤال أكيد، لماذا؟ لأنه الباب الذي يشرحه للطلاب رئيس القسم الدكتور على الغمراوي بجلالة قدره ورضي الله عنه وأرضاه ...سوف أحاول أن أبسط لك علمنا الصعب بقدر الإمكان، ودوري معك أن أخلق منطقا في الدرس من اللامنطق الذي ستجده.. فالطب أقل العلوم انضباطا لأنه يتعامل مع الحي، والحي لغز في النهاية فأنت يا عزيزي جي كيه ستجابه ألغاز الحي. قطع د. أسماعيل استرساله وقد تعمد أن يدهش سامي وأن بربكه وبدأ شرح الدرس، وبعد عشرة دقائق من الشرح، كان خلالها ينظر إلى سامي، كاد أن يضحك وقد بدا له سامي المنتبه بشدة ومع هذا تهيأ للدكتور إسماعيل كما لو كان سامي ملاكم يتلقى من خصم قوي لكمات شديدة يترنح من قوتها، فهاهو سامي يتلقى دشم العلم الجيرانيتية فيتهاوى من قوتها، كان من الواضح أن سامي حالة ميأوس منها، فاستيعابه – كما يبدو من تعبيرات وجهه الذاهلة، والغباء المطل من عينيه- كان شبه معدوم، وشعر إسماعيل بالشفقة، واستمر في شرح الدروس حريصا على أن لا تظهر أفكاره على وجهه.
-5-
وقف د. إسماعيل في عيادته في الشرفة وهو يشعر بالاضطراب والذنب والتعاسة، لقد انتهى لتوه من ممارسة الحب مع مريضة من مرضاه، ويشعر بالذنب لعدة أسباب، أولها أنه لم يتمالك نفسه فمارس ما مارس في العيادة، صحيح أنه علماني ولا يعتقد في تلك الخزعبلات، لكن شيئا ما داخله لم يتخلص من الوجدان الشعبي، لكن العيادة مكان "لقمة العيش"، والبعض يعتبرها من الكبائر، وتجلب النجاسة وتقطع الرزق، ماذا أفعل وأنا تحت وطأة الهرمونات وما أدراك ماالهرومونات وعذابها الهرم، ماذا أفعل والمريضة الشابة التي تقترب من عامها الثلاثين هى من منحتني الضوء الأخضر، ولم تكن المرة الأولى التي تتأوه وتثيرني، في الأربع زيارات السابقة بدأت مناوشاتها، في كل زيارة كانت تتأوه وتتلوى وتوحوح وأنا أكشف عليها، لا يغادره الآن وجهها بالحول الواضح في عينيها بكحلهما الكثيف، وجهها الداكن وزينتها المتبرجة في بهرج من الألوان لتداري بشرتها الداكنة، فمها العريض وشفتيها المكتنزتين النهمتين وقد صبغتهما بلون قاني ، استجاب لها بجسدها الثري، الصدر الريان والبطن الطرية مثل العجين والأفخاذ المستديرة العفية، الاختلاس ضاعف من متعتهما الجنونية، وقد فوجئ بأنها امرأة! قالت وهى ترتدي ثيابها: - تعرف .. أن الحب ما أن يتمكن من قلب الإنسان أو الإنسانة.. يسيطر عليه ويلغي عقله. إنه نهبٌ لمشاعر متلاطمة من الإنتشاء والندم والحرج، ماذا لوكان أحدهم اقتحم غرفة الكشف، عاد إلى المقعد خلف المكتب وجلست وقد عدلت من ثيابها وشعرها، وشعر بالخوف الشديد، لقد وجد مريضته الشابة فاقدة للعذرية، كانت امرأة وخاض الشوط لآخره، لم يسبق لها الزواج، وفكر أن حديثها عن الحب محاولة للتوريط، ربما كانت بداية لتطالبه بالزواج، وهل يصوم ويفطر على هذه البصلة البائسة، صحيح أنها تتمتع بجسد مثير لكن هل يكفي؟ وشعر بخوف يقترب من الزعر والهلع من المصير الذي قد يحيق به، فيتزوج من تلك المرأة الشعبية ذات التعليم المتوسط فيهبط من علٍ. أشاح بوجهه وشمخ بأنفه وقال: - عن أى حب تتكلمين؟ - عن الحب.. الحب أشاح بوجهه ثانية ورسم علامات الإنكار التام - هه... لا يوجد شئ اسمه الحب.. بهتت الابتسامة على وجهها وقد تبرجت بالمكياج وسال العرق فلطخ وجهها بالألوان - ألا تعتقد في الحب - في الأفلام فحسب ظهرت على وجهها خيبة الأمل والتعاسة، وبدت له وقد تقدمت في العمر عشر سنوات، غادرت وهى تغمغم بالسلام، وما أن خرجت شعر بالتعاسة، واهتز من الأعماق بسبب النهاية البائسة مع مريضته، وظل طوال اليوم التالي لا يفكر إلا في هذا الموضوع، واستقر على لوم نفسه وتأنيبها، على غلظته وعلى "معيلته"، ما أن تكلمت عن الحب لقد فٌزِعَ كطفل رعديد ، استشعر الخطورة قبل الأوان بفراسخ بعيدة، لقد سلمت نفسها إليه، كانت تطمع في أن يجاملها ويقول لها أنه أحبها، لكي تبرأ نفسها من انها امرأة سهلة ومنحلة،... لكنه أناني وخواف واساء لها وجرحها بقسوته. في اليوم التالي بعد انتهاء العمل، نبهه شعبان الممرض بأن الدكتور سامي جي كيه في الاستراحة. - مساء الخير هكذا قال سامي ولاحظ إسماعيل أن تلميذه قد زجج حاجبيه بشكل سخيف - مساء النور إجلس يا سامي.. اشتريت كتابا؟ - متأسف والله... لم أفرغ... لوذهبت للكلية سيضيع اليوم - لا بأس هات الكتاب راح يقلب في الصفحات فوجد رسومات لم يرسمها في كتابه، إنها رسومات لسهام كيوبيد وهى تخترق قلبا، واسم ليلى بخط جميل مكتوب في نهاية السهم، أما قمة السهم المدببة مكتوب عليها بحروف جميلة اسم" سامي "، انتاب د. إسماعيل الضيف من تلميذه، تسائل ليس كتابه لماذا يشوه هذا التافه كتابي؟، ووجد أنه كرر تلك الخيابات في الكتاب أربعة مرات، ما هذه المراهقة المتأخرة؟ فسامي لا يقل عن الخامسة والثلاثين، وشعر إسماعيل بالضيق الشديد، ونظر إلى سامى فوجده قد ارتبك وقال: - سوف أشتري كتابا جديدا... واحتفظ أنا بهذه النسخة فكر إسماعيل وموقفه مع مريضة الأمس مازال يجثم على تفكيره، وندمه الشديد على غلظته، ماذا كان سيحدث لو طيب خاطرها بكلمتين! لذا شعر أن الواجب أن لا يتمادى مع سامي في غلظته، من السهل جدا أن يوبخ سامي وينهره على سلوكه التافه والمتنطع، وفكر أنه ليس من المرؤة أن يفعل ذلك مع زميل سابق في وضع ضعيف.
-6-
استمرت الدروس، وقاربت على نهايتها - لقد وضعت كل خبرتي لكي تنجح في هذه المادة الصعبة - أعرف يا دكتور إسماعيل - الإمتحان أربعة أسئلة مطلوب أن تجيب على ثلاثة منها، حسب أهمية الأساتذة في القسم وهم أربعة، كل واحد منهم يشرح بابا للطلاب، وكل واحد منهم سوف يضع سؤالا، المطلوب منك أن تحفظ عن ظهر قلب الأبواب الأربعة. بدت عليه علامات التحرج كما لوكان يريد أن يطلب طلبا لكنه يخجل قال إسماعيل: - ماذا تريد... قل لي - هل توافقني - لو في مقدرتي سأوافقك - ماذا لو وضعت لي الكتاب في دورة المياه؟ - ماذا؟ - تضع لي الكتاب في دورة المياه يوم الامتحان فأطلب أن أذهب إلى دورة المياه وافتح الكتاب لأتذكر الإجابة. شعر إسماعيل بالضيق والغيظ من زميله السابق، ذلك البليد الذي يريد أن يورطه في التدليس والغش ويضعه موضع المسائلة - لا طبعاً، لن أفعل ذلك. - هذه آخر فرصة لى لتنقذ مستقبلي فكر إسماعيل أن يغلظ له وأن ينهره، ولكنه كتم رغبته وقال في حسم: - لن يحدث ولن أشترك معك في الغش أردف د. إسماعيل في غضب مكتوم - متى امتحانك - بعد أربعة أيام - اتكل على الله... اذهب واستذكر دروسك وهى الأربعة أبواب تقع في اربعين صفحة، أحفظهم كما نحفظ القرآن والأسئلة مباشرة وبالتوفيق بإذن الله هكذا أنهى إسماعيل اللقاء، فرسم سامي ابتسامة ودودة متزلفة وانصرف. اختلى إسماعيل بنفسه وهو يتعجب من هذا الإنسان المتبلد، وشعر بالغيظ منه لعدة أسباب، أولها لأنه مازال يتأنق ويتعطر ويدخل عليه بتلك الهيئة متبخترا وكأنه يعيش أجمل أيامه، ولم يشتري كتابا ومازال محتفظا بكتابه، ولأنه ملأ الكتاب بسهام كيوبيد وبالقلوب وكأنه مراهقا خالى البال، ولأنه لم يذاكر شيئا وسوف يرسب لا محالة، لماذا؟ من ردوده ومن نظرته له في غباء والتي تؤكد له أن سامي لم يستوعب حرفا مما يقول، من ناحية الاستفادة فهى أشبه بالعدم، أضاع هذا البائس له وقته، يرفض الدروس الخصوصية بالمقابل المادي، لكن هذا السامي الجي كيه التافه ورطه في درس مجاني، وليت المسألة اقتصرت على الدرس، يريد أن يتورط معه في عملية غش حقيرة. الحقيقة أن إسماعيل كان في مزاج نفسي سئ للغاية، لقد دفع بالأمس ثمن غلظته مع المريضة التي نام معها في حجرة الكشف، فقد فوجئ أمس الأول بمن ينادي عليه، كان ينزل سلم الكلية في طريقه للكافيتريا - إسماعيل... إسماعيل التفت وفوجئ بطبيب يحضر رسالة دكتوراة من خارج الكلية، يعرفه إسماعيل بالشكل ويراه كثيرا، ويعلم أنه ضابط طبيب، ويعرف أنه لديه عيادة خاصة في شارع بورسعيد ولا تبعد كثيرا عن عيادة إسماعيل في حي الظاهر وقال الطبيب الضابط وهو ينظر إلى إسماعيل في تعال - امس الأول جائتني مريضة من مرضاك واسمها... - مالها هكذا قال إسماعيل في حدة - اشتكت منك - طظ ...طظ فيها انصرف إسماعيل وبينما يستدير - علاجك غلط - احترم نفسك وليس طظ فيها فقط لكن طظ فيك قبلها نزل إسماعيل وعندما اختلى بنفسه شعر بحزن عميق، ليست عيادة شعبية فحسب لكنها موطئ للدنس وتشهير بكفائته بين هؤلاء الحثالة، وذلك الفسل الذي تصيد مريضته إنسان شرس وعدواني وقليل الأدب، يتواقح عليك وهو يحمل حقائب المشرفين عليه في الرسالة، خادم نموذجي يتطاول عليك ومشاحنة مزرية على مريضة تعبانة...
وجاء يوم الامتحان الشفوي، وكان كالعادة يتم في معمل القسم، وهى قاعة كبيرة مستطيلة بها العديد من " البنشات " الخشبية، شاء القدر أن الطبيب إسماعيل كان المشرف على دخول الطلاب للمثول بين يدي السادة الممتحنين، كان كل شئ يتم كالمعتاد، إسماعيل يقف على باب المعمل ممسكا بكشف الطلاب الذين سيؤدون الإمتحان ، وقد تجمهروا أمامه وفي الكوريدور، لقد انتحى سامي ركنا مبتعدا لكي لا يبدو غريبا بسنه الكبير بين التلاميذ الذين يصغرونه بخمسة عشر عاما، تحلق الطلاب أمام الباب في كوريدور القسم، وقد أمسك الواحد منهم بالمذكرة أو بالكتاب وراح يسترجع، فينادي إسماعيل على أربعة طلاب فيهرعوا إلى داخل المعمل، ويتبوأ كل طالب منهم مقعدا، وعلى الناحية الأخرى من " البنش" يجلس الممتحنين الأربعة، ثلاثة منهم هم أقدم اساتذة القسم، اما الرابع فهو زميل لهم وجاءوا به من جامعة الأزهر باعتباره ممتحن خارجي تطبيقا للوائح الجامعية، اما عن نرجسية الأساتذة واستعلائهم الذي لا يصدق، يكفي أن احدهم- وهم أشباه الآلهة- يقول جادا لمعيد شاب: - رحم الله الدكتور الصديق الذي كان يقول أيامنا كنا نحمد الله إذا أسعدنا الحظ ورأينا أستاذاَ جامعياَ. وجاء دور سامي – طبقا للكشف – لكي يدخل امتحان الشفوي، وما أن خطا وسامي خلفه إلى داخل المعمل، قال د. على الغمراوي رئيس القسم - لا...تدع سامي يدخل الآن... سيمتحن وحده بعد أن ننتهي هكذا قال رئيس القسم الأصلع الرأس، وأكمل - دعه ينتظر حتى نفرغ من الدفعة كلها ثم يدخل لنا وحده - أمرك يا أفندم هكذا قال إسماعيل في امتثال وخرج سامي ببنيانه الضخم ووقف بعيدا وقد تصبب عرقا. لم يكن إسماعيل يتوقع أن تكون معاملة سامي بهذه السادية، لقد انتظر سامي حتى الساعة الثانية وهو واقف ينتظر من الثامنة صباحا، ولم يدخل سوى في الثانية والنصف، لقد انصرف الطلاب والموظفين ولم يتبق إلا سامي وإسماعيل الذي وقف على الباب منتظرا أن يطلبوا سامي - دعه يدخل دخل سامي وهو ممتقع اللون ويفرك يديه وينكمش كما لوكان يتمنى أن يختفي، أما الإمتحان فلم يكن سوى مذبحة بمعنى الكلمة، نظراتهم الجامدة والجهامة التي تعتلي وجوه السادة الممتحنين كانت كلها استهجان ورفض واحتقار، ولسان حالهم أنت تحديتنا وجئت لكي تمتجن رغم أنفنا؟ وبحكم محكمة!؟ حسنا دع " المحكمة تنفعك " كان التربص واضحاً، كل الطلاب يمتحنون أربعة كل مرة، لكن تعمدوا أن يمتحن وحده، وأن يتركوه لآخر وقت. جلس سامي في مواجهة الممتحنين، وانهالت الأسئلة كالحمم البركانية في صعوبتها، وسامي كما يقولون ماحي في كل النواحي، وراح يترنح من الاسئلة السامة، يعصر رأسه وينظر إلى السماء كأنه يعرف الإجابة لكنه السهو، فيتركوه ويحدجوه بالنظرات السامة ويقولوا له: - على مهلك... تمر دقيقتان وسامي يعصر جبينه - ماذا؟ هل تعرف الإجابة؟ يهز سامي رأسه بالنفي في مذلة وخزي ويغمغم - لا وبعد نصف ساعة من جحيم الاسئلة العويصة، بدأوا في النزول بمستوى الأسئلة، وبعد ربع ساعة من الأسئلة العادية والمتوسطة المستوى، التي رد عليها سامي بالصمت المطبق، ثم هبطوا بالاسئلة إلى مستوى عناوين الفصول وسامي لا حياة لمن تنادي - اسأل نفسك سؤال هكذا قال أحدهم، ورسم سامي ابتسامة لا معنى لها، فلم يكن يتخيل أن يسمحوا له بأن يسأل نفسه - اسأل نفسك سؤالا. المهم ان اساتذة المادة نكلوا به، ومسحوا به البلاط، حتى السؤال الذي سأله سامي لنفسه لم يجب عليه، وانتهى الامتحان بالمزيد من السادية فقال أحدهم - ما رأيك في اجاباتك - - هل تعجبك؟ - - هل تريد شيئا آخر؟ هز سامي رأسه وقد أمسك برأسه وأطرق بها إلى الأرض ونهض وهو يغمغم بصوت لا يبين: - شكرا انصرف سامي يجرجر قدميه.
انقطع سامي عن زيارتي في العيادة، وعلمت أنه ما زال يقف عند البن البرازيلي كل مساء، قدرت أنه لا يريد أن يراني لأنني أذكره بفشله المرير، لكنني كنت أريد كتابي ولو كان مرصعا بسهام كيوبيد وبقلوب المحبين، لن يمنحني القسم كتابا مجانيا ثانيا، هل أشتري كتابا ثانيا وأترك كتابي لسامي، سأستعيد منه كتابي، وأغلب الظن أنه نسى أن يعيده، والآن بعد فصله نهائيا، ومعرفة سامي بأنه لا جدوى من احتفاظ سامي بكتابي، قابلته في البن البرازيللي، صافحني في فتور - ما أخبارك هكذا قلت له - لا شئ راح يجيب اجابات مقتضبة وجافة، وكلها تخبرني أنه غير سعيد باللقاء، وأنه يتمنى انصرافي وان لا يراني ثانية، فشعرت بالحيرة وبالضيق. - من فضلك أريد كتابي - أي كتاب - كتابي الذي كنت تذاكر فيه؟ أشاح بوجهه بعيدا ثم نظر في عيني وقال في تبجح لانهائي - كتابي الذي أخته مني ورسمت عليه قلوب وسهام - لم آخذ منك شيئا أستدار سامي جي كيه وطالعني ظهره الضخم وقفاه السمين وشعر رأسه الحليق وخرج من المحل.
انتهت
إله حارة أبو النجا -1-
في صبائج قائظ من صباحات شهر أغسطس، استيقظ محمود زكي طلبة من النوم على نور شمس الضحى الحارقة وهى تلسع وجهه، فنهض وصداع مؤلم يكاد أم يحطم رأسه، صداع بسبب قلة النوم والأرق الذي يصاحبه طيلة الصيف، لم ينم طيلة الليل إلا خطفا، فما ان يغط في النوم سرعان ما يستيقظ غارقا في العرق، فهو لا ينام في غرفته، ولا في شقته، لقد ترك لها الشقة كلها، وينام في الطابق الأخير، في نفس المكان الذي شاهد رخائه وممتلكا لمقدراته و شاهده سيدا لمصيره، هاهو ينام في المكان نفسه، المكان الذي شهد أمجاده وقد تحول إلى أطلال وخرائب، غرفة الفرن وغرفة الصاجات المعدنية السوداء وغرفة التشكيل وصب العجين، الفرن الحديدي الضخم وقد علاه التراب من الإهمال، من كان يصدق أن زينب حنفي أبو قملة تنتصر على وتطردني من بيتي، وتدفعني للنوم هنا في الطابق الأخير، الطابق الذي تصليه الشمس بلهيبها طيلة النهارات الحارقة، فإذا ما حل المساء تصهل الجدران النيران التي اختزنتها طيلة اليوم، وتنام زينب العفنة مع أولادي محتمية فيهم في فراشي، وفي النهاية تقول لى في شاسة وتشفي: ... عالج نفسك. تذكر محمود كلمات صديقه الشاعر الراحل الذي كتب قبل أن يموت: متى يقبل موتي قبل أن أصبح مثلك صقرا مستباحاً. نهض من فوق الكنبة البلدية المتهالكة التي يتخذ منها فراشا ينام عليه، وذهب إلى الحمام البلدي الضيق، تلك الشقة الصغيرة لم تكن للسكنى، استغلها لعمله في الخزف، أمه ورثت البيت عن أبيها، يقع البيت البلدي الصغير المساحة في زقاق "الملط" الضيق الذي يطل على حارة "أبو النجا"، في هذا البيت الصغير الضيق المساحة ولد محمود، خمسون عاما قضاها في هذا البيت، الذي لا تتجاوز مساحته الثلاثين مترا، يتكون البيت من أربعة طوابق،كل طابق عبارة عن شقة واحدة لا تزيد مساحتها عن عشرين مترا، تسكن العائلة الطوابق الثلاث، ماعدا الأرضى يقطن فيه عبد الرحمن ابن حلمي العربجي طابق أرضي، في الطابق الأرضي شقة يسكنها عبد الرحمن حلمي المهنس الذي يعمل في السعودية، مات أباه وسافر عبد الرحمن الإبن للعمل مهندسا في السعودية، يصغر المهندس عبد الرحمن بثلاث سنوات، كان الأب حلمي عربجيا على عربة كارو يجرها حمار، كل الحارة تعلم أن حلمي العربجي أطلق على الحمار لقب يطلق اسنم "فرج"، عندما كان صاحبنا محمود طالبا في هندسة عين شمس، كان عبد الرحمن طالبا في المعهد العالي الهندسي في حلوان، يتذكر محمود كيف كان عم حلمي العربجي يحتسي البوظة في بوظة " مصر عتيقة " في أدغال الجيارة، ويمزجها بالخمر من عند الرشيدي في سوق الإثنين، ويشرب معه الحمار " فرج " البوظة، كل ليلة تشهد حارة أبو النجا عم حلمي وقد وقف بالفانلة واللباس الصعيدي، يجرى حوارا مع حماره فرج، فيقف حلمى امام الحمار وقد وقفا تحت البيت، ويقول حلمي: - يا فرج يا ابن ديك الكلب فيبدأ عم حلمي. ينظر حلمي بعيمين حمراويين إلى الحمار ويقول - لا تنظر لي تلك النظرات السماوية يا ابن ديك الكلب. تستمر شتائم عم حلمي الصعيدي الذي نزح من سوهاج إلى حماره ويحمل في النهاية حجرا يريد أن يهوي به على رأس الحمار فرج. تتابع الأم الضجة من النافذة المطلة على الحارة حيث يرقد الحمار بجوار العلربة، فتستشعر الخطر أن يقتل عم حلمي الحمار مورد رزق الأسرة، فيهب عبد الرحمن ينزل ليساعد أمه في أن لا يقتل حلمي الحمار فرج: يثور عم حلمي ويقول لزوجته: - احترمي نفس أمك يا بنت دين.... يهجم الإبن على أبيه ليمنعه من قتل الحمار - هل أنت أب أنت؟ يهرع الاب بخطوات مترنحة إلى البيت ويخرج وهو يحمل عددا من كتب ابنه وهى مكتوبة باللغة الإنجليزية يرقب محمود المشاجرة من الطابق الثاني ويضحك بشدة لأن المرجع مكتوب عليه “ metalleregy” يثير حفيظة الأب العربجي حفيظة الأب السكران -- يا ابن الوسخة... هكذا يردد الأب وهو يمسك إبنه من تلابيب ثيابه، ويمسك بالكتاب باليد الأخرى ويقول متهكما على ابنه -بتذاكر الكتاب ده!؟ بتتباهى على به يا ابن الوسخة!؟ لا ياشيخ... ابن الحذاء يريد أن يعمل على مهندس... بفلوسي يا ابن الوسخة - أنت أب أنت.. أنت أب أنت؟ تدخل الأم بينهما وتبعد الأب الذي يمسك حجراً ويتجه للحمار فرج فيقول: - كله منك يا فرج ياابن الوسخة يرفع حجراً ثقيلاً ويقف قبالة الحمار الراقد تحت النافذه يظهر عددا من الجيران فيأخذون العربجي الذي أصابه السكر والوهن فيسير معهم وهو يشتم ويسب.
وضع محمود رأسه تحت الصنبور فشعر بانتعاش من الماء البارد، وغادر الحمام وهو يرتدي جلبابه الذي حال لونه من القدم، وتطلع إلى المرآة القديمة ورنا إلى صورته، وشعر بالحزن فقد شاب وأضاع في الأوهام عمره، هاهى البشرة الخمرية والجبهة السمراء العريضة والرأس الكبيرة التي حلمت يوما بحكم مصر، الشعر الأجعد الذي اشتعل شيبا، العينان والنظرة المقتحمة الثاقبة، تنطلقان من عينين تختلط في مقلتيها الألوان، العسلي يمتزج بالأخضر والرمادي. - حسني... شعر، ومحمود ... عينان هكذا كانت أمه تردد، مشيرة أن أجمل مافي ملامح ابنها الأكبر محمود هو عينيه الملونتين، وأجمل ما يتميز به شقيقه حسني في- نظرها- هو شعره الأسود الناعم الغزير. تذكر تلك الكلمات وتذكر أمه والدور المشئوم الذي لعبته في حياته، حطمته وحاكت المؤامرات لكي تهدمه فصار ما صار. - عارف نلك المرأة البلدية التي ترتدي السواد وتراها بجثمانها الثقيل والملامح الشعبية الساذجة، وتظن أنها عبيطة أو على نياتها أو فهمها محدود بجهلها، فهى أمية، وقد تظن أن فهمها على قده، فأنت لا تعرف شيئا، لأنها قطعة من الدهاء والفطنة وتذهب بك إلى البحر وترجعك عطشان يتذكر محمود ذكي تلك الكلمات التي قالها عن أمه وهو يشتكي منها لصديقه الوحيد الدكتور خالد.
خرج من الحمام ودخل غلى الغرفة، ووقف في الناقذة، ورنا بنظره يمينا فطالعه مسجد عمرو ابن العاص ببناءه الكبير والخلاء من خلفه والسماء الزرقاء الصافية من السحب ووهج الشمس يغشى عينيه. الساعة تجاوزت العاشرة، لو ظل طيلة اليوم لما سألت زينب الكلب عني ، ابنة الكلب ال" جزمة" الجربوعة كانت تتمنى رضاى وتقول لي يا سيد الناس، ابنة القديمة كونت حزبا من ابننا هيثم و ابنتنا هبة، ألبتهم ضدي وأنا سيد البيت وسبب وجودهم في الحياة والبيت، نظر إلى ساعته التي كانت تشير إلى العاشرة، تعالت أصواتهم من الطابق الثالث، وقال لنفسه " ولو بقيت طول اليوم لما سأل أحدهم عني". -2-
السلم الضيق المتهالك، ست درجات لا غبر يحفظها عن ظهر قلب، لو الأحجار تتكلم لنطقت عن علاقتي بها، الباب مفتوح وهيثم راقد في غرفة النوم، وصفيحة القمامة بها كمية كبيرة من الكشري. " يا بنت الوسخة" هكذا قال لنفسه وهو يتفحص كمية الكشري الهائلة التي ألقت بها زوجته في القمامة. دخل وجدها جالسة على الكنبة في الصالة الضيقة، ما أن رأته حتى رسمت على وجهها تكشيرة كأنها اللعنة - هل ستفطر؟ هكذا غمغمت بوجه جامد كأنها فقدت أباها، الضحك والابتسامات للعيال أما انا فالتكشيرة والوجوم والخلقة التي تقطع الخميرة من البيت - نعم.. ساتزفت هكذا قال في غضب مكتوم، وأردف - لماذا ألقيت بكل ذلك الكشري في الزبالة... حرام على أهلك، والآن ستقولين هات نشتري طعام الغذاء قاطعته في حدة - معمول منذ أمس الأول ولن تطعمنا طعاما فاسدا - ولماذا عملت يا مصيبة كل تلك الكمية... ألا تميزين...؟ لماذا عملت كل تلك الكمية، كان نصفها يكفينا امس الأول وأمس وكنا وفرنا تكاليف الكمية التي في الزبالة، لكنك لا تدفعي مليما هكذا قال غاضبا ساخطا - هذا كشري وليس حماما ولا لحوم... رضينا بالهم - هم في وجه أمك.. أنظر ماذا تقول بنت أبو قملة، من أين جائت بها امي؟ لاذ بالصمت، وفكر في أن أ بنت القحبة كانت تتمنى رضاه والآن تقول أنني تتقبلني كما تتقبل الهموم الثقيلة، آه يا بنت القحبة. وجلس على الكنبة البلدية، طبق الفول البارد كالعادة، على أن أتحمل قلة أدبها، والخبز منذ أمس الأول، لم تضعه في الفريزر كما أقول لها، لو سخنته لأصبح مقبولا، والفول الماسخ مثل خلقتها، كان لابد أن تسخنه على النار لكي يصبح له طعم مستساغ، لكنها لا تريد أن تبذل أقل مجهود، تعاقبني أبنة الكلب الواطية، تذوق الفول البارد الذي بدا له ماسخا وبلا طعم، منها لله أمه حاكت المؤامرات ودبرت من الخطط الجهنمية التي لا تخطر لى على بال لكي أطلق هيام، هيام زوجتي الأولى التي قضيت معها أجمل الأيام وأسعدها، أين أنت يا هيام؟ هيام امرأة تسوى ثقلها ذهبا، خدعتي أمي وغررت بي وجعلتني أطلق هيام وأقسو وأفتري عليها، وجلبت لي هذه البلوى، زينب ابنة أبو قملة عامل النظافة في دورة مياه في البساتين، من أين أتت بها أمي؟ تزوجتها منذ عشرين عاما فنحستني وجلبت لى المرار والفشل، هيام كانت فنانة في أصول الطعام، بأقل الإمكانيات تصنع بلمساتها وجبة شهية وفي غاية الجمال، افطارها من خمسة صحون، بيضة مسلوقة لا تقدمها هكذا لكن تحمرها في الزيت المغلى فتزداد طعامة، طبق الفول الساخن المزين بقطع الفلفل الحار والزيت يسبح فوقه والكمون والبهارات وقطع الطماطم المقلية في الزيت، الجبن الأبيض تقدمه هيام وقد غمرته بالزيت والشطة والطماطم، هيام كانت تصنع من الفسيخ شربات، من لا شئ تصنع وجبة شهية، أتت من بيت ثري ومطبخ عامر، لو طلبت من بنت القحبة أن تسخن لى الفول ستأتي بوجهها الذي يقطع الخميرة من البيت وستأخذه في صمت وستغيب دقيقة وستعيده كما هو، هيام ابنة المعلم صالح الفرماوي صاحب مطعم للفول والطعمية في الجيارة، رجل كسيب وينفق على بيته عن سعة، أم هيام أستاذة مطبخ، علمتها أصول الصنعة، بيت عامر تتصاعد من المطبخ أروع الروائح، الفتة والضأن والكشري والطعام المسبك. المعلم صبحي عرفة، جهز ابنته بثلاث غرف، دفعت أمي بشطارتها مهرا صغيرا، وقال المعلم صبحي" سنقبل ما تدفعون مهرا لهيام، نحن نشتري رجل يا أم الباشمهندس محمود" - لابد أن تدفع فابنتك لم تأخذ سوى سنة ستة، والباشمهندس اسمه مازال مقيدا في كلية الهندسة في عين شمس. - على عيني وراسي يا حاجة..أنا اشتري رجل لإبنتي - ومحمود سيد الشباب وقرة عيني وسيسكن في بيته الملك. - سيسكن في قلبي لأنه سيأخذ ابنتي الوحيدة هيومة. - سنحملها في عيوننا، وسأعتبرها ابنتي. أفاق محمود من شروده على صوت هيثم ابنه الأكبر الذي كان يجلس في الصالة. جلست أمه قبالته وقد أعدت له الإفطار، الشاي بالحليب المعمول كما يحب، تسخن له الحليب حتى يغلى وتضع كمية كبيرة منه في الكوب وتضع الشاي الثقيل وتقلبه له بعناية تكاد أن تلتهمه بعينيها من الوله. قال محمود لنفسه " آه يا بنت الوسخة " لولاي لما كان هيثم، تنكريني وتعاملينني أسوأ معاملة، لم أرى ابتسامتها منذ خمس سنوات - هيثم... هيثم نادى محمود على ولده الأكبر وقال: - صباح الخير - صباح النور هكذا رد هيثم باقتضابن وصاحت أمه من الخارج - افطارك سيبرد هكذا قالت زينب في جفاء - هاتيه هنا... أريده في كلمتين جلس هيثم، ورث عن أمه قصر قامتها وملامحها الشعبيةن عيناه سوداويين ولم يرث ألوانهما، ورث مني البريق الحاد النافذ، ذكي للغاية ويفهمها وهى طائرة، لكن من أين أتى هيثم بتلك الرأس المستطيلة وكأنها صندوق أحذية. - على فين؟ عيناه تقولان وأنت مالك، لا أتذكر قائل بيت الشعر" ذريني للغنى أسعى- فإني رأيت الناس شرهم الفقير"... تنهد محمود وهو يلمس جفاء ابنه - سأذهب إلى الكلية - ماذا عندك في الكلية؟ يكاد أن يقول له " ما شأنك " دخلت أمه وجلست على الكنبة، وشعر محمود بالضيق الشديد، فقال لها: - نعم... لماذا جئت؟ - عادي!... لديك مانع - أريده في كلمتين ترامقا في كراهية وقالت: - براحتك... لكن يا هيثم كن حريصا على فلوسك وتعبك وشقاك - ارتحتِ... غوري بقى من هنا خرجت وهى تغمغم بكلمات غاضبة، وتبعها هيثم بوجه واجم يخفي به غضبه من أبيه، تجاهل محمود نظرات هيثم وقال: - كيف أحوال العمل - يعني - كم تلميذ لديك - هه.. عد غنمك يا جحا.. نظر في ساعته وقال وهو يقف - تأخرت عندي محاضرة في الثانية عشرة وسألحقها بالكاد - كنت محتاج عشرون جنيها هكذا قال محمود، فجفل هيثم، وعلا صوت الأم من الداخل - يا هبة هذا ما كنت أخشاه... كنت عارفة... يارب يتوب عليك يا هبة تتظاهر ابنة الحذاء بأنها تتحدث إلى ابنتهما هبة وهى توجه كلماتها السامة المسمومة إليه، اجتاح محمود الغضب وقال: - نقطينا بسكات أمك - أنا أكلم هبة... ومن على رأسه بطحة - احترمي نفس أهلك لأخرج لأمك سكتت زينب وصاحت هبة - حرام عليكما .. لم تعد عيشة سكتوا جميعا ولم تتبق إلا ضوضاء الشارع وصياح الصبية وأصحاب الدكاكين والورش. جلس هيثم ووضع رأسه بين كفيه وأطرق برأسه المدببة إلى الأرض، ولبث محمود ينظر له منتظرا - ماذا قلت؟ - فيم؟ - في العشرين جنيها..سوف أردهم لك أول الشهر.
-3-
v حرام عليكما .. لم تعد عيشة سكتوا جميعا ولم تتبق إلا ضوضاء الشارع وصياح الصبية وأصحاب الدكاكين والورش. جلس هيثم ووضع رأسه بين كفيه وأطرق برأسه المدببة إلى الأرض، ولبث محمود ينظر له منتظرا - ماذا قلت؟ - فيم؟ - في العشرين جنيها..سوف أردهم لك أول الشهر.
-3-
#فهمي_عبد_السلام (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إبراهيم عثمان
-
أمنية فهمى
-
عندما هتفت الجماهير تسقط الديمقراطية
-
-حجرة الفئران-...
-
فصل من رواية - دولاب مريم -
-
شاعر البؤس.... عبد الحميد الديب
-
قراءة في - رباعيات الإسكندرية -- لورانس داريل - وتحديات الشك
...
-
قراءة في - رباعيات الإسكندرية -- لورانس داريل - وتحديات الشك
...
-
-حجرة الفئران-... قصة قصيرة
-
في.... الجاكس...قصة قصيرة
-
قراءة في - مرايا - نجيب محفوظ
المزيد.....
-
موعد ظهور نتيجة الدبلومات الفنية 2025.. استعلم عن نتيجتك
-
عرفان أحمد: رحلتي الأكاديمية تحولت لنقد معرفي -للاستشراق اله
...
-
“متوفر هنا” الاستعلام عن نتيجة الدبلومات الفنية 2025 الدور ا
...
-
“سريعة” بوابة التعليم الفني نتيجة الدبلومات الفنية 2025 الدو
...
-
عرفان أحمد: رحلتي الأكاديمية تحولت لنقد معرفي -للاستشراق اله
...
-
جداريات موسم أصيلة.. تقليد فني متواصل منذ 1978
-
من عمّان إلى القدس.. كيف تصنع -جدي كنعان- وعيا مقدسيا لدى ال
...
-
رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 برقم الجلوس nategafany.emis
...
-
“رابط مباشر” نتيجة الدبلومات الفنية 2025 الدور الأول برقم ال
...
-
امتحان الرياضيات.. تباين الآراء في الفروع العلمي والأدبي وال
...
المزيد.....
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
المزيد.....
|