أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فهمى عبد السلام - إبراهيم عثمان















المزيد.....


إبراهيم عثمان


فهمى عبد السلام

الحوار المتمدن-العدد: 7462 - 2022 / 12 / 14 - 21:19
المحور: الادب والفن
    


كنا نجلس في غرفة المعيدين عندما دخل علينا زميلنا ابراهيم، بوجهه المشرئب بالحمرة وعينيه الماكرتين وبنيانه الثقيل وقد تأنق كعادته وارتدى حلة كاملة.
- هل رأيتم ما فعله بي؟
- من؟
- من غيره أحمد برهان رئيس قسمنا ابن القديمة...
- لعنة الله عليه في كل كتاب
هكذا قال أحدنا على الرجل الذي يسوسنا بالقهر وبالرعب.
قال إبراهيم في مأساوية :
- ماذا يريد مني في ظنكم؟ هل تعلمون أنه قال لى:
أريدك أن تشتري لي من أي صيدلية ثلاث علب من الواقي الذكري
- نعم... واقي ذكري... " كبوت !!؟
- معقول؟
- أسال الله دمي كما يسيل مثل هذا الماء الطاهر إن كنت أدعى عليه كذبا... طلب مني وهو ينظر إلى بعينه الحولاء أن أشتري له ثلاث علب واقي ذكري...تنهد إبراهيم في حرارة وضرب كفا بكف ثم أردف بلهجة مأساوية.
- قمة المهانة
هكذا قلت، وانتبهت على صوت إبراهيم وهو يكمل:
- هل تعلمون أنه عهد بهذه المهمة إلى جاد خليفة.
- شراء الكبابيت؟
- نعم شراء الكبابيت ولأن د. جاد سافر الأسبوع الماضي في إعارة، هاهو يطلب مني أن اشتريها له.
- فلتحمد الله أنه لم يطلب منك أن تأخذ المقاس
ضجت الغرفة بالضحك الصاخب، وبعد أن هدأت الغرفة قال إبراهيم:
- والمطلوب مني أن أشتريها له!
واشتراها له إبراهيم عبد الفتاح، ولم يخبر إبراهيم أحدا بعدها أنه اعتاد أن يشتري العلب الثلاث في مطلع كل شهر من تلقاء نفسه، ويقدمها فيضعها على المكتب وقد خلا إلا منهما، فيخرج رئيسنا من جيبه مبلغا ماليا يأخذها إبراهيم صامتا مظهرا أسمى مظاهرخضوعه وأعلى درجات إجلاله .
لم تغب تلك الواقعة الغريبة عن بالي رغم مرور ربع قرن من الزمان عليها، صحيح أن رئيسنا أحمد برهان كان ساديا معذبا، لكنه يجيد اختيار ضحاياه، لماذا وقع اختيار أحمد برهان على إبراهيم وحده دونا عن بقية المعيدين لكي يكلفه بتلك المهمة المهينة؟ في تقديري أن أحمد برهان يرى أن صديقنا إبراهيم كان جديراً بتلك الإهانة، رغم إظهاره السخط الشديد والضيق الكبير بتلك المهمة المهينة، إلا أنني لاحظت نبرة مباهاة وفرحة في طيات التظاهر بالضيق والسخط.


-2-


يسكن زميلنا إبراهيم عبد الفتاح في عابدين، أحب زميلتنا دلال حسن وهما طلاب وتزوج منها بعد تخرجهما، ودبرت له أمه شقة في نفس البيت الذي تعيش فيه في الشيخ ريحان في عابدين، كانت شقته في الثالث وشقة أمه في الرابع، وكان يحكي لنا عن المعارك التي تدور رحاها بين أمه وزوجته، تلك المعارك التي لاتتوقف والتي تنهكه وتستنذفه عصبيا ونفسيا، وفي فترة عملنا الأولى كمعيدين شبان لم يكن الكثير من الزملاء يكنون له مشاعر طيبة، بل كانوا ينفرون منه، ويتهمونه بالنفاق للرؤساء والوصولية الشديدة،أنه يتظاهر بالطيبة وهو يضمر الحسد للآخرين، واتهموه باللؤم وبالإلتواء، أما زميلتنا أمنية فهمي التي طلقت مرتين قبل أن تبلغ عامها الثلاثين فكانت تكن له كراهية شديدة، وما ان ينطق أحدهم بسيرته حتى تنقلب أسارير وجهها وتظهر عميق الاحتقار وتقول:
- منسون وخباص... ويتكلم على الناس... أعوذ بالله
ذات صباح ونحن جلوس في حجرة المعيدين بكليتنا العتيدة، إبراهيم عبد الفتاح وكريكور هالجيان زميلنا الأرمني وأنا قالت أمنية:
- أريد أن أبيع ماكينة العيادة عندي
كان كريكور يعلم بعدم استلطاف أمنية له، فحمل على عاتقه أن يتودد إليها وأن يستقطبها فقال كريكور الأرمني الأصل الفلسطيني المولد:
- ممكن جدا ...
- لم استعملها سوى عامين فقط.
- هذا يسهل المهمة.
ولسبب ما خرجت أمنيه لحظات، فما أن خرجت حتى مال إبراهيم على كريكور الأرمني الأصل وهمس له:
- أنا أريد شراء ماكينتها لكن لا تقل لها أنني المشتري
عادت أمنية إلى الغرفة واستانف كريكور الحديث فقال:
- إسمعي يا بابا.. أنت تريدين بيع ماكينتك ..للأسف بيعها مشكلة.. ستباع لكن بصعوبة شديدة، أقول لك يا أمنية ماكينتك ستباع بعد جهد وبسعر رخيص ..
رمقته أمنية في ارتياب .. فأردف على الفور
- لماذا؟ أقول لك، لأن الخريج القديم عنده ماكينته فلن يشتري ماكينتك القديمة... والخريج الجديد سيشتري ماكينة جديدة، هكذا فلن تجدي لها مشتري، كما قلت لك
انتفضت أمنية وقالت غاضبة
- تقصد أن أرميها أحسن... عن إذنكم.
في منتصف السبعينيات كان رئيس قسمنا أحمد برهان مشرفا على إبراهيم في رسالة الدكتوراة، وبعد مرور ثلاث سنوات على ذلك كان إبراهيم قد أنجز ما يعادل ثلث الرسالة، وذات صباح فوجئ إبراهيم باستدعاء عاجل من أحمد برهان وبدون ابطاء، ومثل إبراهيم بين يديه :
- مبروك ... لقد حصلت لك على بعثة للدكتوراة في لندن!
- لندن؟
- نعم لندن...
لم يكن إبراهيم يملك القوة النفسية الواجبة ليرفض البعثة، ويرى أن قبوله لها دمار سوف يحيق بكل مشاريعه، لقد ظفر رئيس القسم بالمنحة لقسمنا دونا عن بقية اقسام الكلية ليثبت لنا وللكلية أنه رئيس قسم " عقر " خرج إبراهيم وقد أظلمت الدنيا في وجهه، فكيف يرفض ويعتذر؟ ، "سيلتهمني ويقرقش عظامي". هكذا قال إبراهيم لنفسه وهو لا يدري ماذا يفعل للنجاة من تلك المصيبة التي حاقت به، وأفسدت عليه كل حساباته.
لاشك أن البعثة إلى لندن مكسب هائل بكل المقاييس، فلماذا كان يراها كارثة كبرى ويندب ويولول يردد بلاتوقف؟ الحقيقة أن إبراهيم عبد الفتاح كانت لديه حسبته الخاصة، ففي تقديره أنه إذا ترك العمل في القاهرة وقضى خمس سنين في عاصمة الضباب سوف يخسر الكثير، وحسبته الخاصة أولها أنه يحب عابدين ولا يحب السفر، يعشق حى عابدين ومقهى العنبة رغم مشاحنات أمه وزوجته، الأهم من كل هذا أن سيخسر الدروس الخصوصية في كليتنا، وهو من نجوم الدروس المعروفين، لقد تزوج من الدروس الخصوصية واشترى سيارة صغيرة من الدروس الخصوصية، وسيؤثث عيادة فاخرة من الدروس الخصوصية ، كما فعل سين وصاد من زملاءه في قسمنا وبقية أقسام الكلية. لم يستطع إبراهيم أن يعترض على الذهاب في بعثة لندن، وأذعن - رغم أنفه - لرغبة وسطوة الطاغية، وسافر إلى لندن، وفصل له الأسطى سعيد ريان أشهر ترزية عابدين نصف دستة من البدل قماشها من الصوف الفاخر، وابتاع خمسة أزواج من الأحذية واشترى حقيبة سامسونيت أنيقة وفاخرة، وسافر إبراهيم إلى عاصمة الضباب.
وترامت إلينا أخباره، منها أنه لا يجد استاذ بريطاني يقبل الإشراف عليه، وأنه متعثر بشكل كبير، وأنه تنقل بين أربعة جامعات ولم يتمكن من أن يحظى بقبول استاذ يشرف عليه، وبعث الخطابات يندب فيها حظه أنه لا يحظي بمشرف يقبل أن يشرف عليه لأنه مسلم، وأن معظم اساتذة الجامعات الإنجليز متعصبين ضد المسلمين
- إبراهيم علميا ضعيف جدا....
هكذا قالت أمنية فهمي ولم تنس خصومتها الضارية معه
ثم أردفت قائلة:
دعك من الكلمتين التي يقولها في الدروس الخصوصية... فهى لا تزيد عن معلومات طالب مجتهد، أما عن قدراته الأكاديمية... إبراهيم ماحي.
أما عفاف المراغي التي يحقد عليها حقدا رهيباً، فقد تخرجت معه في نفس الدفعة، لكنها بالحنجل والمنجل سبقته بسنوات و أصبحت على وشك أن تنتهي من رسالة الدكتوراة، في الوقت الذي يجابه فيه الضياع في عاصمة الضباب.
- ربنا يوفقه


-3-

تحلقنا حول زميلنا إبراهيم عبد الفتاح في استراحة هيئة التدريس وقد جلسنا على الفوتيهات الوثيرة، نحتسي القهوة ونحتفي بزميلنا الذي عاد في زيارة خاطفة لكي يصطحب معه أسرته. راح يحكي لنا عن استاذه البريطاني العالم الكبير المعروف د. جيرارد، عن بساطته وتواضعه، وأنه يأتي إلى الكلية ويعود إلى بيته بالدراجة، وعن البلوفر القديم الذي يرتديه جيرارد أثناء العمل، وعن وجبة الغذاء التي يتناولها في الاستراحة، وجبة بسيطة من شريحة خبز أو ثمرة برتقال.
ضحكنا وقال واحد منا:
- قارنوا يا جماعة بين د. جيرارد العالم الشهير وبساطته وإنسانيته مع إبرهة الحبشي القابع على قلوبنا.
أردف إبراهيم بعد توقف التعليقات قائلا:
- لقد صارحني جيرارد بأنهم كانوا مندهشين مني
- لماذا؟
- من البدل الأنيقة ومن الحقيبة السامسونايت.

فكرت فيما قاله إبراهيم عن دهشتهم حيال ثيابه الصوفية الكثيرة الفاخرة، فكرت في كيف ستراه العقلية الأوروبية، لقد اعتبروه- باعترافه - من غرائب الحياة، فهناك تناقض بين مظهره الفاخر وفقر بلاده وتخلفها وضعفه العلمي.
وعندما قلت لأمنية فهمي التي طلقت مرتين بما دار في ذهني قالت:
- عندك حق.. رئيس القسم جيرارد وهو عالم شهير يركب دراجة وهذا الجاهل التافه يرتدي أفخر الثياب.. ودعك من كلامه الفارغ أنه تعثر في التسجيل لأنهم يكرهون المسلمين، لقد رفضوه لأنهم اكتشفوا أنه ماحي علميا، وسبب معاناة إبراهيم أنه لا يجد في لندن فراشين وفنيين يستعين بهم في الكيد والدس والنميمة كما يفعل عندنا. لن يجد أبوسريع ولا جلال ولا صباح لكي يستعين بهم.
عندما اختليت بنفسي اكتشفت دقة ملحوظة أمنية فهمي، لقد كون إبراهيم شبكة من العلاقات الحميمة مع الفنيين والموظفين الإداريين في القسم، على سبيل المثال فقد عقد صلات أسرية مع أبوسريع كبير الفنيين في القسم، لدرجة التزاور العائلي !!

-4-
ذهب إبراهيم إلى عاصمة الضباب مصطحبا زوجته وطفليه، وقضى خمس سنوات وبعدها عاد وقد حصل على الدكتوراة، عدا الحصول على الدكتوراة فقد عاد كما ذهب. لم يذهب إلى متحف واحد، لم يذهب إلى كونسير ، لم يحتسي كأسا واحدا، لم يشاهد مسرحية أو فيلماً، لم يشاهد الهايد بارك، لم يدخل متحف الشمع،.. عاد كما جاء بلا أدنى إضافة، وعلى الرغم أنه كان بعيدا عن كليتنا بآلاف الأميال، إلا أنه كان على علم بدبة النملة في كليتنا بالقاهرة، من تأخرت ترقيته عن من، من سبق من في مناقشة الرسالة، أو أن لجنة الترقيات رفضت ترقية فلان الفلاني لأسباب كيت وكيت، أخبار سبب الحظوة التي نالها سين في القسم الفلاني لأنه محسوب على صاد، التكتلات والكومبينات التي تشكلت بسبب الترشح لعمادة الكلية مرشح للعمادة، ومن اعتزل الدروس الخصوصية ومن فتح عيادة على أحسن مستوى من حيث الموقع والتأثيث والتجهيز.. إلى آخره. العجيب أنني - المقيم في الكلية – كنت أجهل الكثير من المعلومات التي يعرفها إبراهيم وهو هناك!!

عاد إبراهيم ممرورا ناقما فقد تأخر كثيرا عن المنافسين من الزملاء في قسمنا، عاد ليجد أن عفاف المراغي وصالح بدران على أبواب الترقية إلى درجة أستاذ مساعد، وأمنية فهمي حولت جزء من شقتها الفارهة إلى عيادة في جاردن سيتي، مازال يعيش في عابدين وعليه أقساط شقة في مدينة نصر، ولا سبيل لإفتتاح عيادة، زد على ذلك أنه فقد جمهوره من طلاب الدروس الخصوصية، وصب جام مرارته على الجميع، وخص بالذكر د. أحمد برهان رئيسنا السابق وعميدنا الحالي، وعفاف المراغي زميلته التي تخطته بالحنجل والمنجل وصالح بدران الذي فتح عيادة فاخرة من الدروس الخصوصية وتزوج ويعيش في المهندسين .
ارتبط إبراهيم بصداقة قوية تقترب من الأخوة مع زميلين دونا عن بقية الزملاء الذين يقاربوننا في العمر، أولهما كريكور هالجيان الأرمني الأصل الفلسطيني المولد، والذي يكبر إبراهيم بعدة سنوات، أما الثاني كان عصام خليل الذي يصغر إبراهيم بعدة سنوات، لماذا وقع اختيار إبراهيم على كريكور وعصام ليجعلهما خلصائه الحميمين؟ الاجابة تخيرهما لأنهما باختصار" لامعان " و"شيك" !!
كنت الثالث في حلقة المقربين من إبراهيم. لقد إضطر لقبولي من باب” من أجل الورد يتسقى العليق”، فقد كانت علاقتي بكريكور وعصام خليل قوية ووطيدة، وكنت أعرف حقيقة شعوره نحوي، فلم أكن على هواة وإن تظاهر بالود والإخلاص. لسبب ما اصطحبت طفلي الأول ابن الثلاث سنوات إلى الكلية، وبالمصادفة التقيت بإبراهيم في فناء الكلية، ابتسم إبراهيم وحمل عني الطفل وقبله في وجنتيه وقال:
- اتمنى من الله أن يجعل حظه أفضل من حظ أبيه.
وشعرت بالضيق من كلماته التي بدت سخيفة، ولم أعلق.
أشهد له براعته في تغليف الإهانة وتمريرها بين طيات الكلام. السؤال الآن لماذا لا يتعامل معي بحميمية وتودد مثلما يفعل مع كريكور وعصام؟ الإجابة باختصار هى لأنني لست "لامعاً" ولا " شيك"
وتحيرت بشدة عندما أخبرنا أن جيرارد اسعدته النتائج العلمية التي توصل إليها في الدكتوراة، لدرجة أنه عندما اطلع عليها فلم يتمالك جيرار نفسه، فقام من مقعده ليجلس على"حٍجْرِ" إبراهيم.
- على حجرك؟
- آه والله لقيته جالس على حجري

- - يا رجل... هذه مبالغة
- والنعمة الشريفة ولتحترق عظامي كما تحترق تلك السيجارة إن كنت أكذب، لن تصدقوا... فوجئت أن جيرار يجلس على حجري.
- على حجرك!؟..معقولة؟
- والله العظيم كما أقول لكم...على حجري
- من روعة النتائج!؟
- آه والله
تعالت الضحكات والتعليقات ... لم يجد أغلى من مؤخرته ليمنحها لك... قدم لك "الكريمة" " الم تسخن معه؟ "

-5-
المهم أننا لاحظنا أن العلاقة بين إبراهيم وأحمد برهان أخذت منحى مدهش . من ناحية لم يتوقف إبراهيم من إعلان كراهيته الشديدة لأحمد برهان، فما أن يرد ذكر د. أحمد برهان حتى يقطب إبراهيم جبينه العريض ويزر عينيه تعبيرا عن خليط من البغضاء والضغينة السوداء ويقول بالإنجليزية" رجل مٌقَئْ "
ولم تكن هناك نقيصة إلا ونسبها إليه، فهو ظالم وبخيل ورمة وندل ومفتري....هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى عرفنا أنه كان يحوم باستمرار حول العميد، لاحظت – كما لاحظ آخرون – أن إبراهيم كثيراً ما يغادر قسمنا في الطابق الثالث ويختفي، ونكتشف أنه متواجد في مكتب العميد في الطابق الأول، واكتشفنا أنه أقام علاقات قوية مع سكرتارية العميد، وكثيرا ما يشاهد جالساً معهم يتحدث في ود وانسجام.
- لا يكل إبراهيم في توجيه السباب لأحمد برهان ولا يكف عن قول " مقئ " وفي الوقت نفسه لا يكف عن الجلوس في مكتبه... هل لاحظت ذلك؟
- لا حظت طبعا
- طالما هو " مقئ ".. وندل ... وبخيل ورمة... إلى آخره، لماذا تذهب إليه؟
- لله في خلقه شئون!
- لا بحبك ولا أقدر على بعدك
- فسروها لنا يأهل التفسير


وذات يوم طلع لنا إبراهيم وقد احتقن وجهه و يكاد أن ينفجر من القهر والغيظ
- رأيتم ماذا قال لي إبن القديمة؟
- أنت كنت عنده؟
- نعم... ابن القديمة... لقد عرضت عليه صورة بالمجهر الإلكتروني لبحث قمت به وانتهيت منه... أنظرا إلى تلك الصور
رحنا نتأمل الصور العلمية التي كانت معجزة بكل المقاييس
- شغل عالي جدا...
توالت تعليقاتنا بالتهنئة وبالاستحسان وإبراهيم ينفخ غيظا وكمدا
- هذه الصورة التي أعجبتكم قدمتها له قائلاً له هذه الصور هى نتائج آخر ابحاثي.. قلت له هذه هى صور الميتوكونديرا بالمجهر الإلكتروني
تنهد إبراهيم تنهيدة حارة وأردف في تأثر
- تناولها مني وراح يفحصها بعينه الحولاء ثم قال" إين الفيبروبلاست يا ابني؟.. لا يوجد فيبروبلاست..." هذه صورة تضعف البحث خذها يا ابني ودور على واحدة أخرى بها فايبروبلاست...
- وماذا فعلت؟
- خرجت بالطبع... سفهني ابن القديمة وقهرني
عكفنا على تحليل الواقعة، وأجمعنا على أن الصورة رائعة، وعلميا فهى تعبر عن نتيجة رائعة، وأن أحمد برهان يعلم هذا، وأن تلك الصورة التي قدمها إبراهيم لجلادنا ما هى إلا رسالة من إبراهيم، رسالة غير مباشرة يريدها أن تصل إلى أحمد برهان، ويلفت من خلالها نظر أحمد برهان لكي ينظر إليه نظرة جديدة، تلميذك وخادمك ومحسوبك إبراهيم بعد خمس سنوات من البحث العلمي في أعرق جامعات لندن، أصبح صاحب رصيد علمي أكاديمي عظيم، وأمنيتي وأتوق أن أحظى بثقة سيادتك، وأن تنعم على بأي منصب، بأي مزية، بأي موقع، إشراف على معمل، إشراف على رسائل ماجيستير، أتمنى أن أصبح في معيتك وصبيك المطيع. أما رد أحمد برهان فكان فحواه وجوهره
تريد أن " تعمل " على عالم وباحث!؟ بعيد عن شواربك، فأنت إبراهيم من كنت تشتري لى الكبابيت، لذلك أين الفايبروبلاست؟



-5-
شاء القدر أن ينصف إبراهيم عبد الفتاح، عندما قررت جامعة عين شمس أن تنشئ كلية في نفس تخصص كليتنا، ووقع الإختيار على الدكتور منير علام لتولى منصب العميد في الكلية الناشئة، وعهدوا إليه باختيار اعضاء هيئة التدريس، وراح عميد المستقبل الذي حنكته المعارك الطاحنة والصراعات بين الديناصورات في كليتنا العتيدة، يتخير في إناة وتمحيص أعضاء هيئة التدريس والهيئة المعاونة من معيدين ومدرسين مساعدين، من سينتقلون خلفه إلى الكلية الناشئة، وكان يحرص على أن يختار اصحاب الكفائات العلمية من القابعين في الظل، مبتعدا في اختياراته عن النجوم، وحرص كذلك على أن يتحاشى تكدس الإقسام بأعداد كبيرة، الأمر الذي يفضي إلى توليد الصراعات الطاحنة، فتنتقل مشاكل كليتنا وصراعاتها الضارية والبائسة إلى الكلية الناشئة.
ووقع الإختيار على إبراهيم عثمان ليؤسس قسماُ - سيتولى رئاسته – في الكلية الجديدة، واختار إبراهيم زميلنا عصام خليل الذي اختار دفعته وصديقه سعيد عبده، ولم يقع إ إختيار إبراهيم – كما توقعت- علىَّ فالقلوب – كما يقولون - عند بعضها. وناصب إبراهيم كل قسمنا- زملاءه القدامى – العداء، فلا انتدابات ولا يستدعيهم في اشراف رسائل أو في الامتحانات الشفوية، وقال الزملاء أن إبراهيم أشبه بالقرع.
ودارت الأيام، وخرج جلادنا الرهيب أحمد برهان على المعاش، ومن رئاسة القسم في الكلية الجديدة، صُعِدَ إبراهيم إلى درجة الوكيل، وأحيل منير علام مؤسس الكلية الناشئة على المعاش، وشغر منصب العميد، وتاقت نفس إبراهيم إلى المنصب الجليل، أن يتربع على قمة السلطة وأن يعتلي عرش العمادة، ولجأ إلى أحد أقارب زوجته في أمن الدولة، ووعدوه خيرا، وجرى العرف أن يتولى واحداً من الوكيلين العمادة، أو أن يهبط ثالث إلى المنصب بالبراشوت، كلٍ حسب واسطته، واشتعل إبراهيم بالرغبة المقدسة، لاسيما أن الشائعات رددت اسمه باعتباره ممن حظوا برضى " الوالدين".
وهاهي الأيام تمر مثل الجمر، وأعلنت النتيجة بفوز د. أمير صابر – الوكيل الآخر بالمنصب، وحزن إبراهيم حزنا عميقا، خاصة أنه غادر الوكالة بعد أن أقاله العميد الجديد ، وردد إبراهيم كلاما كثيراً عن الظلم الذي حاق به، وأنه أٌقْصَىَّ رغم كفائته بشهادة كل رؤساء الجامعة، والذي ضاعف من أحزان إبراهيم أنه لم يترك العمادة لكي يصبح رئيسا للقسم، إذ كانت الرئاسة من نصيب صبيه صديقنا عصام خليل، فعاد إبراهيم مجرد استاذ " لا طلع ولا نزل" كما كان يتندر في مرارة، وظهر في الكلية بعد انقطاع أسبوعين، وفي الأسبوع الثالث عرفنا أن إبراهيم مات إثر أزمة قلبية مفاجئة، فلم يحتمل قلبه أن يصبح بعد الملك سوقة.



#فهمى_عبد_السلام (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أمنية فهمى
- عندما هتفت الجماهير تسقط الديمقراطية
- -حجرة الفئران-...
- فصل من رواية - دولاب مريم -
- شاعر البؤس.... عبد الحميد الديب
- قراءة في - رباعيات الإسكندرية -- لورانس داريل - وتحديات الشك ...
- قراءة في - رباعيات الإسكندرية -- لورانس داريل - وتحديات الشك ...
- -حجرة الفئران-... قصة قصيرة
- في.... الجاكس...قصة قصيرة
- قراءة في - مرايا - نجيب محفوظ


المزيد.....




- فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي ...
- ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ ...
- بعد مسرحية -مذكرات- صدام.. من الذي يحرك إبنة الطاغية؟
- -أربعة الآف عام من التربية والتعليم-.. فلسطين إرث تربوي وتعل ...
- طنجة تستضيف الاحتفال العالمي باليوم الدولي لموسيقى الجاز 20 ...
- -لم أقتل زوجي-.. مسرحية مستوحاة من الأساطير الصينية تعرض في ...
- المؤسس عثمان الموسم 5.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 باللغة ...
- تردد قناة تنة ورنة الجديد 2024 على النايل سات وتابع أفلام ال ...
- وفاة الكاتب والمخرج الأميركي بول أوستر صاحب -ثلاثية نيويورك- ...
- “عيد الرّعاة” بجبل سمامة: الثقافة آليّة فعّالة في مواجهة الإ ...


المزيد.....

- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فهمى عبد السلام - إبراهيم عثمان