|
العدم الوجودي
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 8130 - 2024 / 10 / 14 - 13:20
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
٢٥٢ أركيولوجيا العدم العقل المحاصر ٢٠ - العدم الأنطولوجي
العدم كمقولة فيزيائية تعني غياب المادة أو فنائها أو لا جودها، غياب الكتلة والحجم. وقد رأينا أنه في النظريات الفيزيائية الحديثة، هناك إمكانية إعطاء تفسير أو رؤية لاهوتية للظواهر الطبيعية. على سبيل المثال، في موديل الثقوب السوداء الذي أقترحه ستيفين هاوكنج، فإن "الفراغ" Vacuum، أو "الفضاء الفارغ " Empty space، مليء دائماً بـ "الجسيمات الافتراضية - Virtual particle"، الجسيم الإفتراضي في ميكانيكا الكم هو جسيم ينشأ خلال فترة قصيرة جدا من الزمن في موقع ما، تتصف طبيعته بعدم التأكد في مقدار طاقته أو كمية حركته طبقا لمبدأ "عدم التأكد" للعالم هايزنبرج Heisenberg Uncertainty Principle. حيث أن طاقة أو كمية حركة جسيم عبارة عن دالة للموضع والزمان طبقا لمكيكانيكا الكم. وتتبع الجسيمات المجازية القوانين الطبيعية مثل قوانين الانحفاظ . وإذا استطعنا رؤية جسيم فلا يمكن وصفه بأنه جسيم مجازي لأن الأجسام المجازية لا تُرى. ويفترض أن الجسيم المجازي عبارة عن كم (quanta) يصف مجالاً للتآثر لا يمكن وصفه من خلال جسيمات حقيقية. وهي تنشأ وتزول في استمرار، ولا تبقى على قَيْد الحياة إلاَّ زمناً في منتهى الضآلة، ولذلك فإن وجودها لا يتسبَّب بزيادة كمية المادة في الكون. وهي تَظْهَر في "الفضاء الفارغ" على هيئة "أزواج"، فكل جسيم افتراضي يَظْهَر مع ضديده الافتراضي، أي أنَّ الإلكترون الافتراضي يَظْهَر مع البوزيترون الافتراضي؛ وما أنْ يَظْهرا إلى الوجود حتى يختفيا منه، فهما يتصادمان، فيفني كلاهما الآخر. نظرية هوكينج تفترض نتائج غريبة إذا ما ظَهَر زوج من الجسيمات الافتراضية قرب "ثقب أسود". إذا حَدَث ذلك فإنَّ البوزيترون الافتراضي، مثلاً، قد يمتصه "الثقب الأسود" قبل أنْ يفنى من خلال تصادمه مع الإلكترون الافتراضي. هوكينج يفسر هذه الظاهرة بقدرة جاذبية "الثقب الأسود" بإلتهام كل ما يقترب منه، فيترتَّب على هذا الالتهام "تبخُّر" جزء من كتلة "الثقب الأسود"؛ وهذا "الجزء المتبخِّر" يمتَّصُه "الإلكترون الافتراضي" المُنْتَظِر في جوار "الثقب الأسود"، فيتحوَّل، من ثمَّ، إلى إلكترون حقيقي واقعي. فكأن "المادة الميتة" في جوف "الثقب الأسود" تُبْعَث بعد موتها وتتحول إلى "جسيمات حقيقية، فعلية، واقعية". ويشرح الباحث جواد البشيتي، الذي ذكرناه سابقا : " إنَّ المزج بين نظريتي "الثقب الأسود" و"الجسيمات الافتراضية" يفضي، على ما رأيْنا، وإذا لم تُنَقَّيا من شوائبهما الميتافيزيقية، إلى "كوزمولوجيا لاهوتية"، نتصوَّر فيها وجوداً فعلياً للكون، تنتشر فيه "مقابر للمادة"، هي "الثقوب السوداء"؛ ثمَّ يتولَّى "إشعاع هوكينج" بَعْث المادة بعد موتها، أي خلقها ثانية من هذا "العدم (الفيزيائي)"، فـ "الثقب الأسود"، الذي فيه، وبه، فنيت المادة، أو سُحِقَت حتى خرجت من الوجود، "يتبخَّر"؛ وهذا "البخار" يتكاثف في "أشباح"، هي "الجسيمات الافتراضية"، فتتحوَّل هذه "الأشباح"، أو "الجسيمات الافتراضية"، إلى "مادة حقيقية فعلية ملموسة"! أما العدم الآخر الذي نريد دراسة أصوله الفلسفية والإجتماعية والنفسية فهو العدم، ليس فقط كمقولة إبستيمولوجية، أو كأداة فكرية لتقصي علاقة الإنسان في العالم بالعالم، وإنما العدم الأنطولوجي المرتبط إرتباطا باطنيا وداخليا بالكينونة. ويعتبر البعض أن البحث في العدم مخاطرة فكرية هائلة تميل إلى ملامسة العبثية حين تهدف إلى تحديد مصير الكينونة المطلقة انطلاقا من فكرة (اللاشيء). هذه الفكرة الغامضة ذات الدلالات الدينية والمعرفية التي لا تنتهي، حيث يعود الفهم المختلف للعدم إلى التناول الفلسفي أو الديني أو العلمي للمسألة من جهة، والى المنهج المختلف للباحثين من جهة أخرى. فالعدم جزء مكون للكينونة ومصاحب لها، كما هو الموت جزء مكون للحياة، بإعتبار الحياة ما هي إلا تطور مضطرد للموت. فالميلاد، هو ميلاد الحياة وميلاد الموت في وقت واحد. عندما نتكلم عن العدم فنحن حتما ًلا نقصد به العدم المادي أو الفيزيائي إن صح التعبير، ولا هذا المفهوم التجريدي الذي لا يمكن أن يتصوره العقل أو الخيال، لأن العقل مجبول على أشكال أو قوالب قبلية لإمكانية الإدراك، مثل مقولتَي الزمان والمكان كما يرى كانط، وكل تصور يتطلب تجسيداً ماديا ًوامتلاءً في المكان مهما بلغ التصور من التجريد، ولا هذا العدم الذي يُقصد به الغياب الجزئي أو الكلي للكائنات والأشياء من حولنا، وإنما العدم المدرك في الواقع كخلفية لحياتنا اليومية وكملازم ضروري للكينونة، لأن هناك نفياً دائماً في جوهر الأشياء والكائنات المحيطة بنا. هذه الضروب النسبية من العدم ترتبط بكل شيء يمكن نفيه في الواقع، الأشخاص والأشياء والذاكرة والزمن والأفكار والمقولات. إن العدم يتضمن كل أشكال النفي والاستلاب والغياب، وحتى مشاعر اليأس والقلق والإحباط وهي كلها أشكال من العدم. والعدم يدخل في دوامة الاختيارات التي تفرضها الحرية على الإنسان، فكل اختيار يتضمن النفي والإقصاء ونبذ الممكنات المتاحة في الاختيارات الأخرى، هكذا يتسلل العدم كثغرة أو تشقق في وجودنا، وتجعلنا هذه الاختيارات نتأرجح بين الكينونة والعدم حتى يصيبنا "دوار الحرية" كما يقول الفيلسوف القلق كييركجارد. العدم هو السلب المحرك للوجود والغياب الدائم الذي يعتري الكائنات والأشياء والبشر. العدم هو كالوجود تماماً لا يمكننا أن ننفيه أو نتجرد منه. فالعدم يتسلل داخل نسيج الوجود من خلال ظاهرة السلب والنفي والإلغاء الناتجة عن عملية "الاختيار" أساس الحرية الإنسانية. يتجسد العدم أيضاً في الخيال والذاكرة وفي الوعي والإدراك؛ الإنسان هو الذي يأتي بالعدم إلى هذا العالم من خلال نفي الواقع وإعدامه. فعندما يجد إنسان مسافر نفسه، مثلا، في مفترق الطرق، ويختار أن يتجه إلى الطريق الذي على يساره بدلا من الطريق الآخر على اليمين‘ فإنه بهذا الاختيار دخل العدم كينونته وتسلل إلى صميم وجوده لأنه ألغى وعدّم كل الظواهر والإمكانيات والمواقف والأحاسيس المحتملة التي كان يمكن أن تحدث لو سلك الطريق المؤدي للاتجاه الآخر. ولكن من الواضح أن إكشاف تسلل هذا العدم المفترض في خلايا الكينونة لا يساعدنا في الإحاطة بهذا المفهوم ولا بتعريفه علميا. فالحقيقة أن هذا ليس بحثا في العدم من حيث هو ما هو وإنما هو بحث في الأشياء في حال عدمها، وهو برنامج آخر للبحث وثمَّ فرقٌ كبير بين الأمرين، كما أكد عبدالرحمن بدوي في الوجود والزمان. وسنترك الأمر معلقا هنا في هذه الإشكالية لنعود لها فيما بعد لتحديد ماهية العدم إذا كان له ماهية، وفي هذه الحالة يجب توضيح كيفية وجود ماهية لما يفتقر للكينونة ولما هو لا شيئية مطلقة.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا الكون ؟
-
حدوث أم أزلية الكون
-
دموع البحر
-
مسرحية ماكرون ونتنياهو
-
نظرية كل شيء
-
الشعب الذي يرفض أن يموت
-
لماذا لا نزحف على إسرائيل ؟
-
المادة العجيبة
-
عن العرب والإسلام والتخلف
-
ما هي المادة ؟
-
لماذا العبور
-
أزمة الفيزياء النظرية
-
عالم الذرة وعالم المجرات
-
نهاية العالم بين الجحيم والجليد
-
الأدلة على نظرية Big Bang
-
مراحل الإنفجار الكبير
-
الثانية الأولى من الإنفجار الكوني
-
نظرية تمدد الكون
-
وتأخر المسيح عن موعده
-
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
المزيد.....
-
قطر.. الإعلان عن موعد زفاف الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني
-
معتقلون لبنانيون في السجون السورية: لبناني يتعرف على شقيقه ا
...
-
لافروف: يجب العودة لتنفيذ اتفاقات إدلب
-
القاهرة.. مشاركة روسية بمعرض فوود آفريكا
-
ما هدف أردوغان من سيطرة -النصرة- على دمشق؟
-
مسقط.. ورشة عمل تنظمها RT لطلاب الإعلام
-
عشرات القتلى والجرحى في قصف إسرائيلي استهدف منزلا بمخيم النص
...
-
الطيران الحربي الروسي والسوري يحيد نحو 200 إرهابي خلال الـ24
...
-
المتحدث باسم الحكومة العراقية: العراق لا يسعى الى التدخل عسك
...
-
-بلومبرغ-: الاتحاد الأوروبي يضغط باتجاه تخفيف العقوبات المفر
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|