|
ماهية الموت بين الفلسفة وولادة الدين!.(2)
ماجد الشمري
الحوار المتمدن-العدد: 8095 - 2024 / 9 / 9 - 15:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
يقول الفيلسوف الاخلاقي والسلوكي الصيني(كونفوشيوس):""اذا كنت لم تفهم الحياة فكيف تفهم الموت".. من الممكن ،بل من الصحيح عكس هذه الاطروحة:"اذا كنت لم تفهم الموت،فكيف تفهم الحياة".وتكون جديرة بالطرح والتأمل.فالعدم اولى بالفهم لانه مطلق،اما الحياة فنسبيتها تضعها في المرتبة الثانية.ولكون كونفوشيوس فيلسوفا اتيقيا-اخلاقيا فمن الطبيعي ان يقدم فهم الحياة من اجل سعادة وخير البشر اولا،حتى يستطيع ان يدرك الموت.. وهذا مانلمسه بشكل طاغي في(ملحمة جلجامش)-والتي لاتناسبها"الملحمة"كعنوان!-فهي كدرس وعبرة في الوجود والعدم والخلود والخوف من الموت،وايضا منهج تربوي واخلاقي ونفسي في السيطرة والتحكم الذاتي وامتلاك زمام الارادة.ف في تلك الملحمة ،وبعد فجيعة جلجامش بموت انكيدو،الحدث الذي شكل صدمة مهولة وخسارة فادحة له،ومن ثم قراره في البحث عن الخلود وسره الالهي الذي ملكته الالهة وحدها وتمتعت به كأحتكار اناني الهي خاص به دون بني البشر الفانين !.ومن اجل الحصول على عشبة الخلود التي تسرقها منه الافعى بعد حصوله عليه.في مغامرته الوجودية تلك عاد جلجامش بخيبته الكبرى الى اوروك دون ان يحقق هدفه،ولم يلق بالا للنصيحة الحكيمة التي قدمتها له(سيدوري)آلهة النبيذ-أختصاص ألهي يناسبها!م.ا_وهي النصيحة الدرس،حيث قالت له:" الى أين تمضي ياجلجامش/الحياة التي تبحث عنها لن تجدها/فالالهة عندما خلقت البشر/جعلت الموت لهم نصيبا/وحبست في ايديها الحياة/أفرح ليلك ونهارك/أجعل من كل يوم عيدا/أرقص لاهيا في الليل والنهار/أخطر بثياب زاهية نظيفة/أغسل رأسك وحمم جسدك/دلل صغيرك الذي يمسك يدك/وأسعد زوجك بين أحضانك":"الذي وعاه لاحقا .فقد ادرك ان نصح سيدوري له هو: الخط الحياتي الصائب لانه النمط النموذجي العملي في السلوك والعيش،حرية الغريزة وتطمين الحاجات وعب المتع،ببساطة:بلهنية الحياة حتى آخر قطرة.ليفاجئنا الموت في حينه،ونستسلم لنهايتنا بسلام ورضى.فماذا يفعل الانسان العاجز في محنته الوجودية الكبرى امام هول فظيع مثل العدم المقبل؟!.فمنذ ان لمس وعرف الانسان محدودية وجوده في هذا العالم،وقصر حياته زمنيا،وانه سينتهي جبرا وحتما بالموت-العدم حتى اقلقته تلك الحقيقة الساطعة،وتوتر عالمه بحدة وصدمته هذه النهاية البائسة الباردة بقسوة،وجعلته مكرها ليفكر ويتأمل بحل يرضيه لوجوده الزائل،ومحاولة فهم ماهية وجوهر كينونته الباطلة ومصيره التعس،ويتمعن مستغرقا في حقيقة غيابه القدري المحتوم والمطلق عن الوجود المحسوس فليس هناك من شيء آخر سوى هذه الحياة،وجوده الزمني المحدود-عمره-والذي سينقضي،ويجب عليه ان يعيشه في تحقيق الاعمال العظيمة وخدمة الناس.. ولان الحياة جزءا من الموت،والموت جزءا من الحياة بجدلية تكوين وتفكك،وكا قال الفيلسوف اليوناني"هراقليطس":"اننا نحيا بواسطة الموت،ونموت بواسطة الحياة".ما الموت؟علامة الاستفهام الداكنة هذه تشكل السؤال الفلسفي الاول،والحيرة الانطولوجية الازلية التي يجد الانسان نفسه يرسمها كمآل لتيه وجوده أكثر مما تشكل مدلولا ذو مغزى مفهوم!.الموت..هذا الابهام الذي يسربل عالم الحياة ويشرنقها ويعجز الانسان عن فكه ميتافيزيقيا وانطولوجيا الا من خلال تداعيات الخيال والاساطير ورؤى الدين، والحكايات والنزعات الباطنية المتخبطة،والتصورات الخيالية الجامحة.الموت..هذا البعبع الذي فلق مخيال البشر وفجر ذهنه ليولد تخصيبا غزيرا ،وينتج جحافل من القوى والشخوص الغامضة والخارقة واللامعقولة والسرية من وحوش وعفاريت وشياطين وكائنات موجودة ولاموجودة من مسوخ مخترعة واخيلة ومبتكرات وعوالم في غاية الكمال و الانجاز والابداع من حجر وشجر وشمس وقمر وقطط وبقر،ومن شامانات وسحرة ومجذوبين وآلهة وانبياء ورائين ومنتجو اساطير ومرويات وخرافات وهلاوس لايمكن ان تصدر الا من الانسان وجوفه النفسي العميق الاغوار تحركه المخاوف والهلاوس والفزع الاكبر من الموت ومابعده!.منتجاته الخيالية هذه اختلفت بأختلاف الشعوب والجماعات وبيئاتها الجغرافية وانماط عيشها ووسائل انتاجها لحياتها المادية ودرجة تطورها،والتي ارتقت وختمت بالتوحيد الالهي ل"الله"الذي يسكن في مملكته السماوية.يشكل الموت النفي العدمي المزدوج للوجود،ماقبل،ومابعد.فنحن عدم ماقبل ان نتخلق،ونحن ماضون الى عدم مابعد،لذلك يعتبر الوجود عبارة عن برزخ عبور بين عدمين،ورغم ان الموت هو ظاهرة فيزيائية طبيعية بسيطة كما ذكرنا،وهو حقيقة محتومة تحيق بكل اشكال الوجود البايولوجي للاحياء على الارض،الا ان الانسان هو الوحيد من تلك الكائنات الذي وعى موته قبل موته،وان الموت هو خاتمة لامهرب منها لحياته،ولان الموت هو الهاجس المقلق الاكبر للانسان ويثير فزعه ورهبته،واحيانا لمجرد ذكره!.ولكن الانسان ولطبيعته المتمردة يرفض هذه النهاية-الفاجعة وخاصة:انا(ه)هو التي ستمحى وكأنها لم تكن او تعش،ولرغبته العارمة في البقاء حيا،والخلود ايضا. في مواجهة الموت ينسحب متواريا:الطبيعي،العياني، البايولوجي،المنطقي،المستقيم،المساواتي،التشاركي،الاعتيادي،اللامبالي،المعلوم،الخ.ليحضر مستفزا وعدائيا ومقتحما:الثقافي،الديني،الذهني،السايكولوجي،الحدسي،الملتوي،الترابي،الخارق،المركزي،المجهول،الخ.يجلى العدم في المنظومة الطبيعية كأصل يسبق الوجود وفق معادلة:عدم-وجود-عدم.بين حدين من العدم الابدي يقف الوجود بخجل العارض المتطفل والزائل بلا حول!.أما في العمارة الدينية وسرديتها التكوينية فالمسيطر هو التصميم الالهي،ومعادلة:وجود-عدم-وجود.وبصيغة لاهوتية:خلق-موت-بعث!.الحدان مقننان من قبل الارادة الالهية الحاكمة:وجود-هو خلق من لاشيء!.وحياة معارة او ممنوحة،ثم موت،ثم بعث ابدي بمشيئة المصمم الاسمى ومزاجه!.ومحاكمة كبرى،يكرم المرء بعدها او يهان!.والانسان وسط هذه الملحمة ليس الا قشة تتلاعب بها ريح الاقدار كيفما اتفق!.ومن هنا ثبت الدين نفسه بجبر كملجأ وملاذ،والترياق الفعال للالم البشري!. لقد شحذ الانسان ذهنه وبرى مخيلته خالقا افكارا وتصورات تفتح له افقا للآمل،وبابا او مخرجا لمعضلة الفناء التراجيدي القدري الصادم لغريزة الحياة والنرجسية الخانقة!.لذا لم يكن امامه لاستحالة الحل ولعدم تمكنه من تغيير مصيره سوى اللجوء الى قدراته الداخلية والاستعانة بمحرك التصورات والاخيلة،مخياله الجبار لانتاج واستحضار وتخيل وابداع مشهديات وتصورات ومدونات لامعقولة وخارقة للمألوف وغير قابلة للتصديق،والسائد من سنن الطبيعة المادية،عن وجود حياة آخرى سيعيشها بعد موته-وهذا مايرضيه كل الرضى!-ويحيا من جديد بعد موته الدنيوي!.حياة خالدة بلا موت ابدا،فهي خالدة كخلود حياة الالهة!.فكان اختراع الدين بلسما وافيونا ووعدا لاهوتيا ملزما،فخلق مقدسه المتعالي الذي سيلبي رغباته ويسد احتياجاته ويكفي طموحه ويحقق امانيه في الحياة الخالدة،وتهميش الموت كمرحلة انتقالية عابرة غير مهمة وهينة والعبور من خلالها نحو الحياة السرمدية المنعمة والمترعة بالمسرات والملذات والابدية!.فكان انبثاق البذور الاولى للسرديات الدينية-القيامية الكبرى لمختلف الاديان والمعتقدات،وكلها انتاج بشري بلا استثناء!.تلك البذور التي اينعت اديانها بكل تجلياتها وتفاصيلها واشكالها والوانها.فكان الموت هو العامل الحاسم لولادة الاديان فكان الام الحقيقة للاديان كما قال"ايفار لسنر"، وطبعا دون انكار بقية العوامل الاخرى من ظواهر الطبيعة الغامضة والقاسية والمدهشة والمحيرة ،والتي ارعبت وادهشت الانسان البدائي في فجر تفتح وعيه بمحيطه وظروفه ،اظافة للخوف الاكبر الذي تفتق عن حل لمعضلة مركزية اهم الا وهي تلك الظاهرة العصية على التفسير:موت البشر!.وكانت جزءا من دافع الخيال للعمل!.فالانسان ومنذ ادرك موته القادم،مضى يتأمل بحزن وتفكر في عدمه الذي سيحدث بعد حين،ولانه يخشى الموت ويرفضه متشبثا بغريزة البقاء ولكي يستمر بالوجود،فهو لايريد ان يفنى ويزول ويغيب تحت الثرى دون عودة،فهو شديد الحرص على حياته ويتمنى البقاء الدائم والخلود السرمدي برغبة عارمة وصادقة.فالموت حقيقة مرة وصادمة تذكر الانسان كل يوم بمآله البغيض والذي هو طعنه سافرة وجارحة بعمق لنرجسيته السايكولوجية وتمركزه الذاتي حول انا(ه) الغالية ككائن متميز واسمى من باقي الاحياء!.ولان الموت حدث حتمي لامناص منه،ويقبله الانسان مرغما بأكراه قدري نهائي ومذل كصيرورة لاتليق به كبشر!.ولان بنية الانسان السايكولوجية الشعورية واللاشعورية،وتركيبته العقلية الدفاعية تجعله ينفر غريزيا وعقليا من الموت رهبه وقلق،وكل ماذكرنا من التداعيات والتفاعلات داخل دائرة(فوبيا الموت)كل هذا وأكثر هو مادفع بالعقل والمخيلة الانسانية لان تعمل بكثافة وتنتج بكفاءة وحكمة عوالم وشخوص واشباح وكائنات وأماكن من نار ونور وفراديس ومحارق ملتهبة لاوجود لها في الطبيعة والواقع البتة سوى في عقل وخيال منتجها البشري الخلاق.وبقدر ماهي خلق وابتكار لمخيال خصب وفريد وذكي وفنطازي وبلاضفاف تحده في شطحاته وابداعه لذلك العالم السحري-الغرائبي المتخيل والجميل ليشبع رغباته ويحقق آماله الوهمية بالخلود وتجاوز الموت!.فالاديان وسردياتها الكبرى هي انجع وابرز مسكن للآلام وبؤس الانسان،ويقطع العلاقة مع الكينونة الواقعية الزائلة،ويتحرر- وهما -من النقص والفناء بأتجاه الشوق والتوق لوجود وردي آخر-وهمي ولاواقعي-ولكن الدين يجعل منه يقينا لاشك فيه،حقيقة ارثوذوكسية ثابتة لمن يعتقد او يؤمن به!.وهو الوسيلة-الدين-المثلى للوصول الخيالي الى مابعد الوجود العياني الملموس الى عالم ميتاواقعي-ميتافيزيقي ينتج ويعاد انتاجه بالخيال المحض والايمان المطلق!.لذلك كان الدين -وسيبقى-معيار الثبات وميزان الضبط والاتزان لانه أداة التفسير والتبرير والاعتقاد والمصلحة والحاجة النفسية التي تقتات على الاوهام!.فالدين هو الخالق للغاية والمعنى والحكمة لحياة البشر!. ............................................................................................................................................................................................... يتبع.. وعلى الاخاء نلتقي...
#ماجد_الشمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماهية الموت بين الفلسفة وولادة الدين!.(1)
-
اقالة الاله..ودين بلا دينونة!.
-
بيضة الديك!.
-
تشرنيشفسكي..و.سؤال العمل!
-
التفاحات الثلاثة!.
-
الثور الرمادي!.
-
السباراتاكوسية الخالدة روزا لوكسمبورغ..
-
ماهية السياسة!.
-
تحيا السيدورية!.
-
-لو دامت لغيرك ماوصلت اليك-!.
-
الإيروتيكا الشبقية بين الروح والجسد!.
-
سيرورة باسلة!.
-
الاشكال في السؤال؟
-
لامخرج!
-
مغادرة!
-
اطلقوا النفير!
-
صيرورة
-
السياسة والاخلاق
-
ديالوج السكين والقلم
-
نظرة خاطفة على نص تراثي
المزيد.....
-
لن تصدق سبب ندم هذين الزوجين الأمريكيين بعد انتقالهما لإسبان
...
-
بعد ساعات على خطابه.. فيديو يظهر رئيس الوزراء السوري برفقة م
...
-
فيديو يظهر مسلحين من المعارضة يقتادون رئيس الوزراء السوري مح
...
-
رئيس الحكومة السورية محمد الجلالي لوسائل الإعلام: اتفقنا على
...
-
ليبرمان بعد سقوط الأسد: علينا أن نتابع الأوضاع في الأردن عن
...
-
سقوط النظام في دمشق والأسد يغادر البلاد بعد دخول المسلحين ال
...
-
لابيد يدعو إلى تشكيل ائتلاف إقليمي مع السعودية ودول اتفاقيات
...
-
مصادر محلية في القنيطرة: دخول دوريات إسرائيلية إلى مدينة خان
...
-
سوريا.. الإدارة الذاتية الكردية ترفع مستوى استعدادها القتالي
...
-
مراسلنا: استمرار القصف الإسرائيلي لقطاع غزة لليوم الـ429
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|