أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - كاظم صالح في شريطه الجديد - سفر التحولات-: محاولة لتدوين السيرة التشكيلية للفنان جبر علوان















المزيد.....


كاظم صالح في شريطه الجديد - سفر التحولات-: محاولة لتدوين السيرة التشكيلية للفنان جبر علوان


عدنان حسين أحمد

الحوار المتمدن-العدد: 1773 - 2006 / 12 / 23 - 09:58
المحور: الادب والفن
    


يحاول المخرج العراقي كاظم صالح من خلال فيلمه الوثائقي المعنون بـ " سفر التحولات " أن يدوّن هامشاً من السيرة التشكيلية للفنان جبر علوان. ولسنا في معرض الإجابة على السؤال الجوهري الذي قد ينبثق في ذهن أي مشاهد لهذا الفيلم وهو: هل نجح المخرج في الإحاطة بالتجربة الواسعة والعميقة لفنان تشكيلي مثير للجدل مثل جبر علوان تنتمي لوحته الى التشخيصية، والتعبيرية، والتعبيرية الغنائية، والتعبير التجريدي، هذا ناهيك عن وحشيته اللونية التي يندر أن تجدها عند أي فنان عراقي آخر؟ وقد لا نجد صعوبة في الإجابة على هذا السؤال بالنفي القطعي لأن مدة الفيلم لم تجتز نصف ساعة، وهي مدة زمنية قصيرة جداً ولا تغطي بأي حال من الأحوال العنوان الثانوي وهو " السيرة التشكيلية للفنان جبر علوان " والذي ذيّل العنوان الرئيسي للفيلم " سفر التحولات ". وتقتضي الإشارة الى أن الفنان جبر علوان قد أقام حتى الآن " 46 " معرضاً شخصياً، و " 26 " معرضاً مشتركاً في دول عربية وأوروبية وأسيوية. وربما يوحي العنوان الرئيسي من طرف خفي الى مراحل " تحولات " هذا الفنان الذي اختلف بشأنه أساتذته في معهد الفنون الجميلة. فالفنان محمد مهر الدين " كان يرى فيه طالباً كسولاً لم يتعلم أصول الرسم وتقنياته، ولن يصبح فناناً ناجحاً في يوم من الأيام." بينما كان الفنان التعبيري رسول علوان يراهن على موهبة جبر علوان، ويقول " صحيح أنه طالب كسول، ولكن أنظروا الى لوحته. . إن فيها شيئاً جديداً.". من هنا نخلص الى أن الفيلم لن يكون وفياً لهذه السيرة الذاتية المرئية المُفترضة التي تتطلب بأي حال من الأحوال مدة أطول تتيح للمخرج أن يتوقف عند أبرز المحطات الرئيسية في حياة الفنان، وأهم المعارض الشخصية التي قاربت الخمسين معرضاً، هذا ناهيك عن المحاور والموضوعات الأساسية التي تعاطى معها جبر علوان خلال تجربته الفنية التي امتدت من قريته " البدر الصغير " التابعة لمحافظة بابل، مروراً بمعهد الفنون الجميلة الذي تخرج فيه عام 1970 في بغداد، وأكادمية الفنون الجميلة، قسم النحت، في روما عام 1975، والأكادمية نفسها، قسم الرسم، عام 1978، وانتهاء بإقامته الدائمة في روما، وتفرغه للرسم تحديداً، وإنجازه لهذا العدد الهائل من المعارض الشخصية والمشتركة. أما علاقاته الاجتماعية وصداقاته مع الأدباء والفنانين العراقيين والعرب والإيطاليين فهي وحدها تحتاج الى فيلم وثائقي طويل، وذلك لتنوعها وثرائها ومكامن الإغراء العديدة فيها كونها مع أدباء من طراز عبد الرحمن منيف، وسعدي يوسف، وسعد الله ونوّس، وقد أسفرت هذه العلاقات عن منجزات أدبية فنية مشتركة جمعت بين اللوحة والمقال النقدي كما في " جبر وموسيقى الألوان " لمنيف، والقصيدة واللوحة كما في ديوان " إيروتيكا " لسعدي يوسف. أما إقامته في روما منذ عام 1972 وتفرغه لمهنته الوحيدة الرسم فهي بحد ذاتها " سِفْر فني " ينطوي على أهمية كبيرة، ويحتاج الى أكثر من فيلم وثائقي قصير يرصد موضوعات الفنان، وتقنياته، والمدارس الفنية التي ينتمي اليها.

الهروب الى الضوء

تجدر الإشارة الى أن المخرج كاظم صالح قد استعمل تقنية التعليق الصوتي أو ما يسمى بـ " voice over " أربع مرات ضمن مدة الفيلم القصيرة " 25 " دقيقة، وكان موفقاً في هذا التعليق الذي انطوى على معلومات دقيقة تفيد في الكشف عن تجربة الفنان، وتعبّر عن رؤيته التشكيلية. لنقرأ التعليق الأول الذي كتبه أحمد علي الزين حيث يقول: " مَنْ الذي أراد أن يُشعِل الحريق في أدغال روحي، ويحرِّك الرماد عن جمر الشوق. كنت أعلم، وكنت أتخيّل الوجوه الغائبة والمحمولة الى ترابها الأبدي. أتخيل طفولتي خيالات في فصول بابل. خِفتُ مراراً من أن يتمكن الحنين في بعض طوفانه الجارف، وخفت من أن يتحول الحزن الجارف الى السواد المطلق، فهربت الى الضوء.". ثمة حزن عراقي جارف، وسواد شبه مطلق يلّف الجميع، فلا غرابة أن يبحث الفنان المبدع عن نافذة للخلاص، لكي ينجو بجلده في الأقل، ويهرب من متاهات العتمة الى هالات الضوء.
اختار المخرج كاظم صالح أن يبدأ بطفولة جبر علوان كي يحيط المُشاهد علماً بالخلفية الثقافية التي شكلّت الملْمح الأول من ملامح السيرة التشكيلية لهذا الطفل المسكون بهاجس القلق الإبداعي. فليس غريباً أن تنطلق أولى لقطات الفيلم من قرية " البدر الصغير " التابعة لمحافظة بابل، حيث كان هذا الطفل الرسام شغوفاً بالطباشير الملوّن الذي لا يجد حرجاً في سرقته من صفه المدرسي كي يرسم وجوهاً معينة على الشارع الإسفلتي. لقد منح جبر مشاهدي هذا الفيلم مرجعية تقودهم الى حل السؤال التقني الكامن مجمل أعماله الفنية اللاحقة حينما تحدث عن ألوان الطباشير الساحرة كالأحمر والأخضر والاصفر حيث قال: " كنت ألوِّن بشكل وحشي، وغير منتظم، وغير مدروس. " وهذا " الوحشية " اللونية تفتح أمامنا مكامن الأسرار، وتقودنا الى عوالم لوحته الداخلية بما تنطوي عليه من شبكة معقدة من الوشائج والأسرار الفنية، وتذكِّرنا بالمنجز الفني لأساطينها أمثال بول غوغان، هنري ماتيس، ألبيرت ماركيه، أندريه ديران، وموريس دي فلامنك وغيرهم. وكما هو معروف فإن المدرسة " الوحوشية " تتميز بقوة ألوانها المبهرجة، وقد انتقلت هذه القوة اللونية الى لوحة جبر علوان، وظلت ملتصقة به طوال تجربته الفنية التي جاوزت الثلاثين عاماً.
لم يكن جبر علوان في مرحلة الطفولة يعيد دراسة ألوانه الطباشيرية، وانما كان يرسم من أجل أن يستمتع بالبهجة التي تولِّدها ألوان الطيف الشمسي. وقد أسمى جبر هذه المرحلة بمرحلة البحث والإكتشاف. فقد كان يبحث على الرغم من صغر سنه، ويكتشف أشياء جديدة بالنسبة اليه. وبسبب رؤيته الفنية للطبيعة والأشياء والموجودات فقد كان يهرب من الواقع الأسيان الذي يلّف القرية الى البساتين المجاورة لها، حيث يسترخي تحت فيء نخلة من النخلات التي يكتظ بها بستانهم، ليبدأ رحلة اليومية المحببة الى نفسه في اكتشاف الألوان، وملامستها بعين الفنان الثاقبة. كان يرى اللون الأسمر، وتدرجاته، والقهوائي في جذع النخلة، والاصفر في أعذاقها، والأخضر الزيتوني في سعفها، وحينما يستدير شمالاً يرى شجرة الرمان المثقلة بالثمار، ويلتفت يميناً فتصطدم عيناه بقمرية العنب المُعرِّشة في الإتجاهات الأربع. وقد شبّه جبر مرحلة البحث والاكتشاف بالطفل الذي يحطّم لعبة ليكتشف ما بداخلها من أسرار غير معروفة بالنسبة اليه.
وفي ملمح آخر من ملامح تكوّنه الفني ينتقل بنا المخرج الى معهد الفنون الجميلة في بغداد في أواسط الستينات من القرن الماضي حينما كان جبر طالباً يتلقى دراسته الفنية في هذا المعهد الذي كان يضم عدداً من الاساتذة والفنانين العراقيين المعروفين أمثال محمد مهر الدين الذي كان يرى فيه طالباً كسولاً لم يتقن صنعة الرسم، ورسول علوان الذي كان يرى في لوحته شيئاً جديداً ومغايراً لما هو موجود في لوحات أقرانه، ومحمد علي شاكر الذي كان يحثه للسفر الى روما والإفادة من موروثها الفني. أما رأي جبر في هذا الرهان القائم بين أساتذته فقد كان مختلفاً، إذ كان يرى في نفسه كائناً يلهو بأشياء كثيرة أهمها الرسم حيث يقول عن نفسه " كنت تلميذاً متوسط النتاج، قليل الممارسة، ولكنني كنت أحب الجو العام." وحبه لهذا المناخ الفني هو الذي دفعه بقوة لتحقيق مآربه الفنية لاحقاً. كان الأستاذ والفنان محمد علي شاكر، الذي سبق له أن درس وأقام في روما، كان يحفز جبر للسفر الى روما والإفادة من معاهدها وأكادمياتها ومتاحفها وصالاتها الفنية، بينما كان الاستاذ والفنان التعبيري رسول علوان الذي درس في ألمانيا، وتتلمذ على أيدي التعبيريين الألمان يريده أن ييمم وجهه شطر برلين، ويفيد من تعبيرييها الألمان أمثال إرنست لودفيك كيرشنر، كارل شميدت- روتلوف أريك هيغل، أميل نولدة، ماكس بيخشتاين، أوتو موللر، وإدوارد مونش، أوغست ماكة، غابريلا مونتر، ألكسي ياولنيسكي، بول كلي وهينريتش كامبندونك وآخرين.
ويبدو أن المصادفة قد لعبت دورها فسافر جبر الى روما عام 1972، وعاش في هذه المدينة التي تحتضن تاريخاً يمتد الى أكثر من ألفي سنة، ولا يزال مقيماً فيها حتى يومنا هذا، ولم يفكر بالرحيل الى عاصمة أوروبية أخرى، فلقد وجد في هذه المدينة ضالته. فآثار روما هي الأقرب الى آثار بابل على الرغم من حضارة الأولى حجرية، بينما حضارة الثانية طينية. وعبر روما كان يعود الى بابل، وتحديداً الى قرية " البدر الكبير " حيث تقيم عائلته، فيتذكر من خلال رؤية ضبابية حركة والده، بلحيته الوقورة البيضاء، ووجه أمه الشقراء، وتفاصيل ملابسها القروية التي لا تحجب معالمها الجمالية، وسهراته الجميلة مع أصدقاء طفولته على ضوء الفانوس في القرية، وعلى ضوء المصابيح الكهربائية في مدينة المحاويل لاحقاً. لقد افاد جبر من هذه التفاصيل المشوشة وجعل منها خلفية لعمله الفني بعد أن يمررها في مصفاة ذهنة، ومرشِّحة ذاكرته التي لم تعد قوية كما في السنوات السابقة.
يؤكد جبر بأنه قد اكتشف في روما بُعد الفن التشكيلي منذ عصر النهضة وحتى الآن. فروما مدينة زاخرة بالمتاحف، ومكتظة بالأكادميات، والمعاهد والكنائس وصالات الفن التشكيلي، ويبدو أن الفن التشكيلي متصل بفن آخر قريب منه، ومحايث له، ألا وهو فن المعمار الذي لا يزال قائماً عبر الشواخص الحضارية والعمرانية الكبيرة التي شُيدت قبل ألفي سنة من هذا التاريخ. ولا شك في أن هذه الآثار العمرانية تدفع بالمُشاهد الفنان في الأقل لأن يفكر في " تيار الزمن " ويتصور شكل الإنسان في ذلك التاريخ، وطبيعة الملابس التي يرتديها. وفي الوقت ذاته تشكِّل روما بالنسبة الى جبر قريناً لبابل التي يسترجعها بين أوان وآخر. ويكشف لنا الفيلم أن جبراً لم يتشبع من رؤية مدينة بابل الاثرية، وذلك كان يستعين بروما من أجل أن يتذكر آثار بابل، وشكل مدرجاتها، وألوانها. ومن خلالها أيضاً كان يعود بذاكرته الى قرية " البدر الصغير " عبر محرِّك اسمه روما. فهذه المدينة هي التي علمت جبراً أن يكون قديماً ومعاصر في الوقت نفسه.

شاعر الألوان

حسناً فعل المخرج حينما حفّز جبر علوان للحديث عن تقنياته في الرسم. فاللوحة بالنسبة اليه هي شكل أحادي يرسمه بالألوان. وفي معرض حديثه عن هذه التقنية قال " أنا أرسم بالألوان، كما يرسم الشاعر أشكاله بالكلمات. " واتخذ من قصيدة " أنشودة المطر " للسياب مثالاً حيث يقول فيها: " عيناكِ غابتا نخيل ساعة السحر / أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر / عيناكِ حين تبسمان تورق الكروم / وترقص الأضواء في نهر / يرجُّهُ المجدافُ وَهْناً ساعةَ السحر/ كأنما تنبض في غوريهما النجوم. " وهنا يرسم الشاعر صوره وأشكاله ومشاهِدهُ بالكلمات. ثم ينتقل الى وصف الحالة التعبيرية حينما يقول: " أتعلمين أيَّ حزنٍ يبعثُ المطر؟ وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر؟ وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟ بلا انتهاء... ". تعتبر اللوحة بالنسبة لجبر علوان بحراً كبيراً يمكن له أن يحتوي على آلاف الموضوعات المتنوعة. فالمرأة التي يرسمها أي فنان ممكن أن تكون في أوضاع مختلفة، فمرة تكون جالسة، ومرة أخرى واقفة، وثالثة منبطحة، أو متأملة، أو غارقة في حالة حزن، أو منغمرة في نشوة فرح، أو متوحدة، أو في لحظة وجد وتصوّف. وهذا يعني أن الفنان بإمكانه أن يرسم الشكل نفسه عدة مرات كما هو الحال بالنسبة للفنان مودلياني الذي رسم المرأة ذات الرقبة الطويلة عشرات المرات، ولكن حالات هذه المرأة مختلفة من عمل لآخر. ويبدو أن الفنان جبر علوان الذي رسم عشرات النساء الشقراوات، الجميلات، طويلات القامة إنما كان يستمد جمالهن وأنوثتهن من الصورة الجميلة لأمه، تلك الحسناء التي شعرت بالإضطهاد لأنها عاشت غريبة في فضاء بعيد عن فضائها القبلي الذي تنتمي اليه. تلك الصورة الثاوية في لاوعيه الباطن كانت تقفز غير مرة الى لوحته بصيغة امرأة جميلة معاصرة تدخن السيجار أو تعزف على البيان، أو تقرأ في كتاب. والغريب أن جبراً كان يحس بطعم رائحتها بحسب توصيفه، فرائحة أمه لها " طعم خاص " لم يفارف طرف لسانه!

بين الوطن والمنفى

مرَّت ثلاثون سنة على غربته الطويلة وكأن الغربة قد باتت قدر العراقيين في زمن النظام الشمولي المستبد، وليس أمامهم سوى الاستعانة بوهم المخيلة وما تتيحة التصورات فبعد مرور ثلاثين عاماً " وكما في هجرات الطير في بلادي العتيقة رسمتُ على أبواب السنين أنثى وأقفلتها خلفي وأنا أتابع بحثي عن الضوء لأصل الى الحرية." ومعنى الوصول يكمن في مغامرة الرحيل الى المجهول والغامض، وليس الى المعلوم أو الواضح. وخشية منه على ذاكرته التي بدأ يضمحل خزينها السابق، وتتضبب ذكرياته السالفة، كان يحاول بين أوان وآخر أن يقرأ كتاباً عربياً في القصة أو الرواية أو تاريخ الفن، لكنه اكتشف أن هذه القراءة لا تكفي لتعويض الوطن المفقود رغماً عنه، لذلك قرر أن يسافر الى بلدان عربية أخر علّها تخفف شيئاً من وطأة غربته المتفاقمة، فالعراق محظور عليه، كما كان محظوراً على المعارضين العراقيين لسلطة الحزب الواحد، والحاكم الأوحد. وبالفعل وجد صدى طيباً في مصر وعمّان ودمشق وتونس ودبي والمنامة وغيرها من العواصم العربية التي فتحت له نافذة للإطلال على المثقفين العرب والتعرف بهم عن كثب. ولعل بعض الكتاب المشاهير الذين كان يقرأ لهم صار بإمكانه أن يؤسس معهم علاقة معرفية وفنية جديدة. فعبد الرحمن منيف لم يكن بالنسبة اليه روائياً حسب، وإنما تحوّل الى صديق قريب يتابع ما ينجزه جبر، بل أن العلاقة قد تجاوزت حاجز الود والمتابعة الفنية الى الإبداع المشترك الذي جاء نتيجة طبيعية للحوارات المتتالية التي اسفرت عن كتاب قيّم ألفه عبد الرحمن عن تجربة جبر الفنية وقد جاء تحت عنوان " جبر وموسيقى الألوان " حيث تجاورت مقالات منيف ولوحات جبر علوان. كما أثمرت علاقته مع الشاعر سعدي يوسف ديواناً مشتركاً انضوى تحت عنوان " ايروتيكا " حيث نرى قصيدة سعدي الى جوار " إيروسيات " جبر وهي تشتعل بالشهوة. كما أثمر التعاون بينه وبين المسرحي السوري الكبير سعد الله ونوس في مسرحية " الملِك هو الملِك " حيث استوحى جبر شخصيات كثيرة مثل وردة وعبد الله وغيرهما من نصوص ونوس المسرحية. وربما تكون علاقته الحميمة بالجواهري هي التي دفعته لأن يجسّد الجواري في عدة أعمال فنية عرضها في أكثر من صالة عربية وأوروبية. ويعتقد جبر أن هذه الزيارات الى البلدان العربية التي أقام فيها معارض شخصية عديدة هي التي عوضته بعض الشيء عن الوطن البعيد المُغيّب التي تنفي فيه السلطة المستبدة أبناءها، وتمنعهم من العودة الى مراتع الطفولة والصبا والشباب.
ضوء في نهاية العتمة

يؤكد الفنان جبر علوان عبر صوت المعلِّق " دائماً أبحث في العتمات على بقعة ضوء تبرز وجهاً كما الأمل، أو يداً كما الطير، وإنحناءة كما التأمّل:" وهذا يعني أن رحلة البحث مستمرة ولن تتوقف سواء في المنفى أو في وطنه النائي البعيد، غير أن أحد النقاد الإيطاليين قد حسم المسألة وقال في كلمته المدونة في دليل أحد المعارض حيث وصف فيها جبر علوان قائلاً " كأنه جذع شجرة جذورها في العراق، وأوراقها تسطع في إيطاليا." ويبدو أن جبراً قد ارتاح لهذا التوصيف الذي يربط من خلاله الماضي بالحاضر. ويبدو أن مساحة الرضا لدى جبر ازدادت حينما وجد المُشاهد أو المتلقي العربي الذي إستطاع أن " يقرأ " لوحاته، فاللوحة منتوج بصري يخاطب العين، ولا يحتاج الى ترجمة، بل يحتاج الى إحساس، وتمعن، وغوص في التفاصيل، واستمتاع، وهذا ما شجعه لأن يحمل لوحاته الى اليابان وأمريكا وعدد كبير من الدول العربية والأوروبية التي يلقى فيها تجاوباً من قبل المتلقين الذين يتفاعلون مع أعماله الفنية، وينفعلون بها أيضاً. وقد خلص الى القول بأن المُشاهد العربي تحديداً متذوِّق، وحساس، وقادر على مناقشة الفنان في بنية اللوحة، ولونها، وإيقاعها الداخلي.

المرأة دليل لمتاهات الفرح

تشكِّل المرأة ثيمة مستديمة من ثيمات جبر علوان، وقد اختصرها المخرج في المقطع الذي كتبه أحمد علي الزين عن صورة المرأة في مخيلة جبر حيث قال: " أرسم على الجدار جدارية قزحية، وامرأة للفصول منحنية على روحها، أُمّاً للفقدان، وحضناً لمعالجة الحنين، وأنثى تجعل العالم أقل خراباً، وأخف ثقلاً، تُسعف وجودي المادي المتعثر على احتمال الفجائع الكبرى والغيابات الابدية، وتجعلني أستدل على متاهات الفرح وأتبعه. . أتبعه في متاهاته مدهوشاً لكل ما أراه، وبكل ما رأيت. ". يعاود الفنان الحديث عن الألوان التي تغطي السطح التصويري للوحته وهي مستمدة من دون شك من ألوان الخُضَر والفواكة التي يجدها في السوق المجاور لمرسمه، ويصفها مرة أخرى بأنها " كتل وحشية " تحتاج الى عين الفنان الذي يجب أن يعيد ترتيبها وتنسيقها ودوزنتها.
يظل الفنان بالنسبة لجبر علوان كائناً غريباً حتى وأن عاش بين ملايين الناس، وفي أكثر المدن إكتظاظاً بالسكان، ولا خلاص له إلا في العمل الإبداعي الخلاق. إن ما يخيف جبر في حياته هو تسرّب الملل إلى نفسه، وروحه اللائبة، وعقله المتقد، وفي هذا الصدد يتذكر بيتً شعرياً مهماً للجواهري يقول فيه: " يا للثمانيات ما ملّت مطامحها / لكن يراودها خوف من الملل ". وربما لأن جبراً كائن طموح، ويتوق دائماً لأن ينجز عملاً فنياً ما أو حلماً يقتل بواسطته السأم والضجر واليأس. غير أن الأحلام التقليدية نادراً ما تراود هذا الفنان القلق الذي أصبحت الكوابيس قرينة له، ترافقه في حلّه وترحاله. وكجزء من الموروث النفسي الصعب يقول الفنان " أن الكوابيس وأضغاث الأحلام كانت ترافقني دائماً. فأنا أتخيل نفسي أنني داخل الحدود العراقية وقد قبض علي رجال الأمن. هذا الكابوس يكاد يكون يومياً، يوقظني من نومي، ويعذبني، ويجعلني أرتجف ذعراً، وقد أحتاج الى بعض الوقت لأتأكد من أنني في فراشي في إيطاليا وليس تحت قبضة رجال الأمن التابعين للنظام القمعي." ويمضي جبر الى القول " بأن أحلام المنام الجميلة نادراً ما تزورني، ولذلك فأنا أستعيض عنها بأحلام اليقظة. إذ أسترخي على مقعدي، وأغمض عيني، وأترك المجال واسعاً لمخيلتي أو لوعيي الباطن، وأحلم بأشياء كثيرة."
الإخراج السينمائي

لو لم يكن جبر فناناً تشكيلياً، فأية مهنة كان سيختارها جبر؟ هذا سؤال افتراضي أثاره المخرج كاظم صالح خلال ساعات التصوير الطوال، فكان رد جبر حاسماً بأنه لا يتقن أية مهنة في الوجود سوى الرسم، فليست لديه امكانية لبذل أي جهد عضلي، وليست لديه عقلية إدارية، وليس له طموح خارج إطار الفضاء الفني. ولو قُدر له أن يكون شيئاً آخر فإن الشيء الوحيد كان يحلم في أن يحققه هو أن يكون مخرجاً أو مصوراً سينمائياً في الأقل، وهي مهنة إبداعية قريبة من التشكيل. ولأنه يجيد الطبخ فمن الأفضل أن يصبح طباخاً ماهراً إن ضاقت به السبل.
بعد هذه الرحلة الطويلة التي استغرقت أكثر من ثلاثين عاماً في المنفى الإيطالي يتساءل جبر عن الشيء الذي يمكن أن يقدمه للعراق الذي كان بعيداً في سنوات القمع وأصبح الذهاب اليه ممكناً أو متاحاً بعد زوال الخطر. لقد قدّم جبر في الجانب السياسي ما يكفي بحسب قناعته، ولكنه يفكر جدياً بأن يقدّم الكثير من لوحاته الفنية الى المتحف العراقي. كما يتمنى أن يساهم في جمع أعمال فنية أخر لفنانين إيطاليين تربطه بهم علاقات صداقة متينة وتقديمها الى المتحف العراقي الذي نهبت محتوياته في اثناء الإحتلال. وبذلك يستطيع أن يكوّن متحفاً جديداً يضم بين جدرانه أعمالاً فنية مهمة خصوصاً إذا ما تعاون معه فنانون عراقيون آخرون في بلدان المنافي وجمعوا لوحات أخر لرفد المتحف العراقي. أما بصدد العودة الى العراق الذي كان بعيداً وها هو الآن يدنو من الجميع فالفنان جبر يفكر جدياًَ بالعودة شرط تحسن الجانب الأمني، والعمل مع زملائه التشكيليين في العراق من أجل إنعاش الحركة الفنية في العراق. ويختتم المخرج فيلمه الوثائقي القصير بصوته معلقاً " أنقل رؤيتي حلماً على الأبيض كطفل يلهو، ودائماً يتحول لهوي الى خلق جسد أنثوي غائم في قزحيته، غامض، نابض في دلالته. هذا تعبير بليغ عن أشواقي وعن امتناني لزمني. ".

النهاية المدروسة

تردد المخرج كاظم صالح كثيراً قبل أن يضع اللمسات الأخيرة على فيلمه الوثائقي القصير. وكان جوهر هذا التردد يكمن في صنع النهاية المنطقية للفيلم الذي بدا في بعض ملامحه روائياً، وهذا ليس عيباً على الإطلاق، بل هو اشتغال فني يُخرِج الفيلم على إطار القولبة أو النمذجة الأمينة للنوع الفني، ويدور بها في إطار الصيغ الفنية التي تتمرد على مبدأ " التسجيل " وتجد نفسها وجهاً لوجه أمام صياغة فنية محبوكة بشكل جيد. في النهاية الأولى للفيلم كنا نسمع صوت المغنية الأمريكية جيفيتا ستيل وهو يصدح بأغنية " أناديك من مقهى بغداد " وقد كانت نهاية موفقة بينما كان الفنان جبر علوان وافقاً أمام واحدة من لوحاته التعبيرية الجميلة، ومنهمكاً في تلوين سطحها التصويري شبه المكتمل. غير أن المخرج كاظم صالح كدأبه دائماً كان متردداً في قبول هذه النهاية أو ربما أية نهاية أخرى، وخصلة الشك هذه هي خصلة إبداعية حميدة، لذلك فكّر ملياً في أن تكون أغنية " جذّاب " بالجيم المُعجمة والتي لحّنها طالب القره غولي وغناها الفنان ياس خضر هي النهاية المقترحة لهذا الفيلم الذي تمحور على موضوع الغربة الروحية للفنان جبر علوان. وخشية من إنزياح الدلالة، وما تعنيه هذه المفردة في معناها المجازي فقد تجاذب كاتب هذه السطور والمخرج أطراف الحديث عن تأويل كلمة " كذّاب " والخشية من أن يكون أحد الطرفين " الوطن أو الفنان " كذاباً. ورداً على خشيتي هذه بعث لي المخرج رسالة أليكترونية أوضح فيها هاجسه الداخلي الذي دفعه للقبول بهذه النهاية التي لا تخلو من حس درامي فاجع ملئ بالعتب والمناجاة. والمخرج لا يتحدث هنا عن جبر علوان حسب، فكاظم صالح هو نفسه فنان مَنفي، ومَقصي، ومُقتلع من الجذور، ولذلك فهو يريد في هذا القول " بأن الوطن الذي منحناه كل حبنا ومشاعرنا لم يمنحنا سوى العذاب والألم، ولم يرثنا إلا أرضاً محروقه."
يرى المخرج في المقطع الذي اختاره مناجاة دراميه تتناسب مع المشهد الأخير للفيلم بحجة أن الذي أمضى أكثر من ثلاثين عاماً في الغربه يجد نفسه الآن معلقا بين الأرض والسماء، ولا يستطيع المضي في الغربه حتى النهاية، كما لا يستطيع العوده والعيش في بلده. وهذا هو قدر العراقيين، أو ربما قدر العراق الذي وجد نفسه بين كماشة تُطبق بأذرعها الحديدة من الجهات الست، وليس الجهات الأربع كما يقال! لنستمع الى المقطع الذي اختاره المخرج من كلمات الأغنية التي تقول:
" آني أدري يهواك القلب بُعدك يعذِّب حالي
وأدري اليحب ليله صعب هايم يظل للتالي
تريد أرد ولك شلون أرد
أنا لا ما أرد كلشي انكضه
لو صرت بس أنت الدوّه
لا ما أرد وأنسه المضه
آخ جذاب ياعيني جذاب."



#عدنان_حسين_أحمد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ظلال الصمت - لعبد الله المحيسن وإشكالية الريادة الزمنية: هيم ...
- الخبز الحافي- لرشيد بن حاج: قوة الخرق والإنتهاك للأعراف الإج ...
- الشاعر العراقي كريم ناصر ل - الحوار المتمدن -: الشعر يستدعي ...
- الروائي المصري رؤوف مسعد: يجب أن أخرج بقارئي من المألوف المع ...
- الروائي المصري رؤوف مسعد: أدلِّل النص و- أدلَِعه - مثلما أدل ...
- صباح الفل - لشريف البنداري: الإمساك بالمفارقة الفنية عبر رصد ...
- المخرج التونسي الياس بكار ل :- الحوار المتمدن-: أشعر بأنني ل ...
- الواقعية الجديدة في - العودة الى بلد العجائب - لميسون الباجج ...
- الفنانة فريدة تُكرَّم بدرع المُلتقى الدولي الأول للتعبيرات ا ...
- المخرج ليث عبد الأمير يصغي لأغاني الغائبين
- في باكورة أفلامها الوثائقية - أيام بغدادية -: المخرجة هبة با ...
- عادت - العذراء - و - الصرخة - المسروقة الى جدار متحف مونش
- كتابة على الأرض للمخرج الإيراني علي محمد قاسمي إدانة الإرهاب ...
- درس خارج المنهاج: أخبرنا عن حياتك - للمخرج الياباني كيسوكي س ...
- غونتر غراس يعترف. . ولكن بعد ستين عاماً
- كاسترو يتنحى عن السلطة مؤقتاً، وراؤول يدير الدكتاتورية بالوك ...
- رحيل القاص والكاتب المسرحي جليل القيسي . . . أحد أعمدة - جما ...
- برئ - ريهام إبراهيم يضئ المناطق المعتمة في حياة الراحل أحمد ...
- الروائية التركية بريهان ماكدن: المحكمة حرب أعصاب، وعذاب نفسي ...
- تبرئة الروائية التركية بريهان ماكدن من تهمة التأليب على رفض ...


المزيد.....




- نيكول كيدمان تصبح أول أسترالية تُمنح جائزة -إنجاز الحياة- من ...
- روحي فتوح: منظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطي ...
- طرد السفير ووزير الثقافة الإيطالي من معرض تونس الدولي للكتاب ...
- الفيلم اليمني -المرهقون- يفوز بالجائزة الخاصة لمهرجان مالمو ...
- الغاوون,قصيدة عامية مصرية بعنوان (بُكى البنفسج) الشاعرة روض ...
- الغاوون,قصيدة عارفة للشاعر:علاء شعبان الخطيب تغنيها الفنانة( ...
- شغال مجاني.. رابط موقع ايجي بست EgyBest الأصلي 2024 لتحميل و ...
- في وداعها الأخير
- ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود
- عوالم -جامع الفنا- في -إحدى عشرة حكاية من مراكش- للمغربي أني ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عدنان حسين أحمد - كاظم صالح في شريطه الجديد - سفر التحولات-: محاولة لتدوين السيرة التشكيلية للفنان جبر علوان