أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيمة عبد الجواد - الواقع الجمعي للأمَّة والمجموعات المرَضِيَّة: فؤاد التكرلي















المزيد.....

الواقع الجمعي للأمَّة والمجموعات المرَضِيَّة: فؤاد التكرلي


نعيمة عبد الجواد
أستاذة جامعية، وكاتبة، وقاصة، وشاعرة، وروائية، وباحثة، ومكم دولي

(Naeema Abdelgawad)


الحوار المتمدن-العدد: 7989 - 2024 / 5 / 26 - 20:18
المحور: الادب والفن
    


الواقع الجمعي للشعوب الذي ينبلج في شكل أمَّة متماسكة الأطراف مهما كان التضارب والتنافر يشوب حواشيها – يعد نتاجًا لعصور من المعايشة التي تفرزت كم لا حصر له من الحكايات والقصص التي قد تأخذ شكل الأساطير، والتي من خلالها يُشكَّل وعيًا جمعيًا يربط أبناء الأمَّة ويرسم لهم واقعًا نفسيًا (سيكولوجيًا) متميِّزًا.
وعلى مدار العصور، يحاول علماء الطب النفسي والباحثون الاجتماعيون الغوص في أغوار تشكيل السلوك الإنساني الذي يكوِّن تراكمه واقعًا جمعيًا، ومن هؤلاء عالم الطب النفسي الأمريكي "جورج إيفريت بارتريدج" George Everette Patridge (1870-1953) الذي شغل تفكيره الواقع الاجتماعي ومدى تأثره بالصراعات الداخلية والخارجية، وساعده في ذلك خلفيته الأكاديمية وامتلاكه للأدوات اللازمة التي تساعده في تحليل تأثير الأحداث التاريخية على السلوك البشري. وكان يدعِّم دراسته بتجارب عملية بحثية على ظواهر اجتماعية، والسلوكيات الاجتماعية الشاذة أو المؤذية سواء للفرد أو للمجتمع مثل إدمان الكحوليات أو القمار أو الاعتداء بجميع صوره وأشكاله، أو حتى الحسد والغيرة – من أجل اختبار قيمة الأساليب النفسية عند التعامل مع بعض المشكلات الأخلاقية؛ فهي تحدد السلوك المرضي الذي هو بالأساس ناجمًا عن الرغبة في توكيد الذات، لكن يتم التعبير عنه في شكل اضطراب نفسي سلوكي.
وعلي هذا الأساس نشر عام 1929 بحثًا موجزًا يبرز فيه أن فصيل المنحرفين نفسيًا الذين يعبِّرون عن أنفسهم من خلال الاضطراب السلوكي يجدون صعوبة في التفاعل مع الأنماط الثقافية عبر الأنماط الشخصية. وعلى هذا اقترح أن من السهل أن يمتد ذاك الاضطراب لمجموعات كبرى ويحوِّلها لمجموعات "مَرَضِيَّة"، ويبرز ذلك في وقت الحروب عندما تتشكَّل دوافع وطنية جمعية لشن الحروب أو حتى الخوض فيها، وكان أكبر مثال لديه حينئذٍ الحرب العالمية الأولى التي تطاحنت فيها أمم العالم من أجل حادث يمكن النظر لها الآن وكأنها حادثًا عارضًا في دولة قصيَّة لا يستحق أن يُقاسي ويُقتل من أجله ملايين الأفراد. ومن أطروحته تلك استخلص أن إجراء تحقيق شامل وكافي للوعي الفردي في طوره المرضي يرسم الخلفية اللازمة لدراسة الوعي الجمعي.
وبعد سنوات طويلة من التأمُّل والدراسة والبحث في استقصاء سلوكيات الأمم التي تتجلَّى من خلال تراكم السلوك الفردي وخاصة المنحرف منه، استطاع "بارتريدج" أن يخرج للنور وثيقته الشهيرة لفهم نفسية المجتمع وهي: "سيكولوجية الأمم: مساهمة في فلسفة التاريخ" The Psychology of Nations: A Contribution of the Philosophy of History (1919). وأصبح هذا الكتاب قِبلة للقرَّاء المهتمين بدراسة علم النفس التاريخي وفلسفة التاريخ ومدى التفاعل مع ديناميكية الهوية الوطنية، وذلك لما ينطوي عليه الكتاب من نظرة عميقة في تحليل أحداث الماضي وكذلك لتقديمه رؤى عالية القيمة لها مردود بارز في مجريات الأمور والعلاقات الدولية والتنمية الثقافية في وقتنا الحاضر. وبما أن الدراسة غرضها اصلاحي وأقيمت على أسس علمية منهاجية، فإنها لم تفقد ثقلها حتى بتغييُّر الأزمنة.
وهناك بعض الأعمال الأدبية الجادة التي تعنى بعرض خبايا الواقع الاجتماعي دون تجميل أو زيف، ولذلك قد ترقى لمستوى الدراسات النفسية الخاصة بتحليل الواقع النفسي والوعي الجمعي للشعوب، لكنها في نفس الوقت قد تعرِّض كاتبها ليس فقط للانتقادات، بل أيضًا للمساءلة القانونية. ومن الكتَّاب الذين خاضوا تلك التجربة المحفوفة بالصعاب، الروائي والقاص والكاتب المسرحي العراقي "فؤاد التكرلي" (1927-2008)، الذي يعد أحد أبرز مؤسسي فن القصة والرواية الكلاسيكية الحديثة في العراق. فلقد استطاع تشريح مجتمعه في أعماله الفنية التي عنت بتقديم الجوانب الإنسانية والقضايا الاجتماعية من خلال حبكات تتداخل فيها أحداث ليست غريبة على المجتمع، لكنه يضفي عليها لمسات فنية مبتكرة وأساليب أدبية تجريبية ساهمت في إبراز القضايا الاجتماعية وإبراز الضوء على القيم الفكرية الجمعية بغرض إصلاح ما يشوب المجتمع من عطب قد يفضي إلى تفشي الأمراض الاجتماعية.
ويجدر الإشارة أن التحليل الاجتماعي والنفسي الدقيق الذي تتميَّز به أعمال "فؤاد التكرلي" قد ساهم فيه خلفيته الأكاديمية والعملية؛ فلقد درس الحقوق، وبعد التخرُّج عمل ككاتب تحقيق، ثم امتهن المحاماة. لكنه سرعان ما تولى بعدها منصب قاضيًا. ويبدو أنه لمع في السلك القضائي والقانوني، مما أهَّله لأن يشغل عدَّة مناصب في الدولة، ثم يعيَّن خبيرًا قانونيًا في وزارة العدل العراقية، بل وعمل في سفارة العراق بتونس بعد حرب الخليج. وعلى ذلك، استطاع "فؤاد التكرلي" أن يتعامل وينخرط في جميع مشكلات المجتمع ويصبح على دراية بالاتجاهات الفكرية السائدة، وعبَّر عن ذلك من خلال أعماله الأدبية التي على الرغم من قلَّة عددها، لكنها حظت بمكانة مميزة في التاريخ الأدبي العراقي والعربي؛ ولم يكن غريبًا وضع روايته "رجع الصدى" ضمن أفضل مائة رواية عربية.
ويعتبر التجريب السمة الأبرز في "رواية رجع الصدى"؛ فعلى نقيض أعماله الأدبية التي يكتبها بصيغة السارد العليم، ترك "التكرلي" في تلك الرواية العنان لشخوصه وكأنه يحررهم من سيطرته عليهم. وعلى هذا، تعددت الأصوات التي ظهر كل منها بشكل صيغة المُتكلِّم؛ حيث أعطى لكل شخصية فصل تبوح فيه عمَّا يجول بها وتسرد الأحداث من وجهة نظرها . وكانت أبرز مظاهر التجديد هو وضع زمكانية النص بطل أساسي في الرواية بالرغم من أنه لا يشير لهما في سياق الأحداث، وإن كان يحرص على أن يجعل حضورهما مهيمنًا على أجواء الرواية التي تدور أحداثها في فترة حرجة وشديدة الدموية في العراق، وهي إنقلاب 8 شباط عام 1963 الذي توالت فيها التغييرات السياسية بسرعة بالغة، وانتهت بإعدام "عبد الكريم قاسم"، وهو أول رئيس عسكري للعراق بعد الحكم الملكي، وكذلك أبرز قادة حركة تموز للقضاء على الملكية. لكن نهايته المأسوية الذي كُتبت بعد محاكمة صورية عاجلة أفضت إلى إعدامه وعرض جثَّته على شاشة التلفاز العراقي في نفس اليوم كان لها تأثير سلبي على المجتمع بوجه عام، فلقد ضرب المرض النفسي وعي أبناء المجتمع، الذين تحوَّل فخرهم بالقادة إلى تناحر. وعبَّر التكرلي عن ذلك من خلال حبكة مليئة بالمفاجآت؛ فابنة العمَّة الجميلة التي تنتقل بشكل مؤقَّت إلى بيت خالها الذي يرمز للوطن، يستطيع حضورها وذكائها أن يجذب إليها الأخوين ولدا خالها، ويتمكَّن أحدهما من الزواج بها. لكنه يكتشف بعد الزفاف أن ابن أختها عدنان الذي ينتمي للحرس القومي قد اغتصبها وأفقدها عذريتها، مما يجعل الزوج مشوشًا لفترة طويلة لشعوره بأنه مغدور به من ناحية، ولإحساسه بالذنب أنه لم يستطع إنقاذ حبيبته. ولكنه بعد أن يتوازن تفسيًا ويقرر العودة لحبيبته، يتم قتله في الأحداث الدامية والسخرية الكبرى أن "عدنان" الذي اغتصب زوجته هو من يجد جثَّته ويعيدها لمنزله.
وهكذا، تدور الأحداث على المستوى الرمزي فأرض الوطن التي هي منزل الخال، تعد مسرح الأحداث. أمَّا الجميلة "منيرة" ابنة العمَّة فهي الوطن ذاته الذي يتنازع عليه الانقلابيين والمدافعين الشيوعيين، وإن كان الحرس الوطني هو من سبب لها عارًا وجرحًا نفسيًا لا يمكن أن يندمل. و تؤكِّد نهاية الرواية المأسوية أن الوطن باق والظلم باق، لكن الأبرياء هم دومًا من يدفع الثمن.
ويلاحظ أن الحديث عن الأمراض النفسية التي تصيب المجتمع وتبتليه بجميع ألوان السلوك الشاذ تتطلَّب إخلاص عند إجراء الدراسات وتحليل الظروف التي أفضت إلى ذلك. وبالفعل تمكَّن "فؤاد التكرلي" من لعب هذا الدور؛ فدراسته وممارسته للقانون أهلته ليصبح باحثًا نفسيًا وقاضيًا.



#نعيمة_عبد_الجواد (هاشتاغ)       Naeema_Abdelgawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أدب المقاومة بنكهة كافكا: إميل حبيبي
- الذكاء البشري أسير الخوف
- أعداءك ضمان النجاح والبقاء
- تاريخ الحجاز في العصر الأموي من خلال شعر الأحوص
- شرارة الضحك والسخرية: مارك توين
- ما بين التعاسة والسخرية ضحك ملوَّن
- المسرح الشعري وديونيسوس إله الممارسات الدنيوية
- هيفاستوس إله الابتكارات والرقمنة
- الهوية والتأريخ الشعبي
- -آلهة أمريكية- فلك أسطوري معاصر خلقه نيل جيمان
- الدولة الأموية والعرجي فارس الشعر
- الحضارة العربية وتاريخ من الواقعية السحرية
- الإعلام والنشطاء والصحافة الصفراء قديمًا: أبو فراس الحمداني
- عميد الشعر العربي ورائد حركة الحداثة: أبو تمَّام
- الحجاج: بلاغة الأديب ووحشية السفاح
- جيبوتي دولة عربية ذات إبداع أفريقي
- أبو العلاء المعري والتيار الوجودي
- -تونس والإبداع العربي- في لجنة العلاقات العربية بإتحاد كتاب ...
- دولة مالي ومماليك مصر: عصور من الانفتاح على إفريقيا
- العصر العباسي وأيدلوجيا الحداثة في شعر أبي نواس


المزيد.....




- طلاب من المغرب يزورون مقر RT العربية في موسكو (صور)
- لولو في العيد.. تردد قناة وناسة الجديد 2024 وتابع أفضل الأفل ...
- فيلم -قلباً وقالباً 2- يحطّم الأرقام القياسية في شباك التذاك ...
- أول تعليق من مصر على مشاركة ممثل مصري في مسلسل إسرائيلي
- مستقبل السعودية..فنانة تتخيل بصور الذكاء الاصطناعي شكل الممل ...
- عمرو دياب في ضيافة ميقاتي.. ما كواليس اللقاء؟
- في عيد الأضحى.. شريف منير -يذبح بطيخة- ليذكر بألوان علم فلسط ...
- ممثل مصري يشارك في مسلسل مع إسرائيليين.. وتعليق من نقيب المم ...
- فنانة مصرية تبكي على الهواء في أول لقاء يجمعها بشقيقتها
- فيلم -Inside Out 2- يتصدر شباك التذاكر في أمريكا الشمالية مح ...


المزيد.....

- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني
- الصراع الدرامى فى مسرح السيد حافظ التجريبى مسرحية بوابة الم ... / محمد السيد عبدالعاطي دحريجة
- سأُحاولُكِ مرَّة أُخرى/ ديوان / ريتا عودة
- أنا جنونُكَ--- مجموعة قصصيّة / ريتا عودة
- صحيفة -روسيا الأدبية- تنشر بحث: -بوشكين العربي- باللغة الروس ... / شاهر أحمد نصر
- حكايات أحفادي- قصص قصيرة جدا / السيد حافظ
- غرائبية العتبات النصية في مسرواية "حتى يطمئن قلبي": السيد حا ... / مروة محمد أبواليزيد
- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نعيمة عبد الجواد - الواقع الجمعي للأمَّة والمجموعات المرَضِيَّة: فؤاد التكرلي