أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي الشريف - الاشتباك مع النسبية الأخلاقية(1)















المزيد.....



الاشتباك مع النسبية الأخلاقية(1)


حمدي الشريف
(Hamdy Alsharif)


الحوار المتمدن-العدد: 7911 - 2024 / 3 / 9 - 02:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تأليف: دانييل كالكوت(2)

(1) ذهب برنارد ويليامز إلى أن أخلاقيات الفرد تتشكل من خلال الثقافة والتاريخ. لكن هذا لا يعني أن الجميع على صواب؟

يمكن للسفر والتاريخ أن يكسبنا مفهومًا ما عن النسبية الأخلاقية، كما فعلا بالنسبة إلى المؤرخ اليوناني هيرودوت Herodotus في القرن الخامس قبل الميلاد. لكن ما الذي يجب أن يخرج به المرء من الحقيقة التي مفادها أن ما يدخل في إطار الزنا، على سبيل المثال، يختلف في جميع أنحاء العالم؟ في كتابها «الشهوة في الترجمة» (2007)، تسرد الكاتبة المعاصرة باميلا دروكرمان Pamela Druckerman كيف تختلف قواعد الخيانة «من طوكيو إلى تينيسي». وقد يكون من المغري أن نستنتج أن الإجابة الصحيحة بخصوص المشكلات الأخلاقية يتم حسمها في نهاية المطاف بطريق الاتفاق، وربما كمسائل الآداب العامة مثل كيفية تناول طعامك. وبالنسبة إلى هيرودوت، فقد دفعه الاعتراف بالاختلاف الثقافي إلى الإعلان عنه، مرددًا بكلمات الشاعر اليوناني بيندار Pindar، أن «العرف هو ملك للجميع».
وأظهر الفيلسوف البريطاني المشهور برنارد ويليامز Bernard Williams، الذي كان يكتب في السبعينيات، أن الطريقة الشائعة للنقاش حول النسبية الأخلاقية إنما تقع في الخلط والتناقض. ومع هذا، فقد تابع ويليامز دفاعه عن الرؤية الفلسفية الشاملة التي تضمنت بعض الأفكار الأساسية للنسبية. وهناك الكثير لنتعلمه، عندما نتأمل الخلاقات الثقافية المستمرة على القيم الأخلاقية، من اللقاءات مع النسبية التي تتكرر طوال عمل ويليامز. وأولًا، من المفيد أن نفهم سبب وجود ميزة سائدة في الخلاقات الثقافية، بحجة الكلمات التي يجب استخدامها، فهي تؤدي بسرعة إلى الحجج على النسبية.
وتأمل المشهد التالي الذي لا يُنسى في رواية «المحادثات مع الأصدقاء» (2017) للروائية الأيرلندية سالي روني Sally Rooney. فبطلة الرواية، فرانسيس Frances، التي تنام مع بوبي Bobbi، ترفض إصرار صديقتها فيليب Philip على أنه «بلغة الخطاب السائد في مجتمعها فإنها صديقتك». إن فرانسيس محقة في مقاومة محاولة فيليب وضع تسمية مألوفة على الأشياء: فهي تحاول أن تعيش بطريقة لا توجد كلمات لها بعد. وفي مكان آخر من الكتاب، لا تتساءل فرانسيس عن كلمة «الزوجين» فحسب، بل حتى مصطلح «العلاقة» لتصوير حياتها مع بوبي. وإذا لم تكن متأكدة من كيفية وصف وضعها المعقد، فهذا إنما يرجع جزئيًا إلى أنه لا يتناسب بسهولة مع شبكات الفكر التقليدي. إنها تريد، إذا تسعرنا واحدة من التعبيرات التصويرية لجيمس جويس James Joyce، «الطيران بواسطة» شباك اللغة.
إن الكلمات التي يستخدمها مجتمعك، كما تدرك فرانسيس للغاية، تشكل الذات التي يمكنك أن تصبحها. ويتم تحميل اللغة بالقواعد الأخلاقية. فإذا كنت توافق على أنك في «زوجين» مع شخص ما، على سبيل المثال، فإن ذلك عادة (وإن لم يكن دائمًا) يحمل معه توقع أنك لن تكون في السرير مع أي شخص آخر. ويمكن تفنيد هذا المعيار، وقد كان، من قبل أولئك الذين يقيمون علاقات مفتوحة. ومع هذا، إذا كنت تحاول أن تعيش بطريقة جديدة، ولا تتناسب مع الفئات المعتادة، فمن المحتمل أن تسيء فهمك وحرمانك من الاعتراف الاجتماعي. ومع هذا، كما جادل الفيلسوفة الأمريكية جوديث بتلر Judith Butler في «التراجع عن الجنس» (2004)، هناك مواقف حيث يكون للمرء من الأفضل أن تكون غير مفهومة من إجبار نفسه على القائمة الحالية للخيارات الاجتماعية.
وإذا كانت اللغة اليومية قد تشعر معها أحيانًا بالقمع، فربما يكون ذلك لأنها وصفية وتقييمية لا مفر منها: إنها لا تخبرك فقط كيف تكون الأمور، ولكن كيف ينبغي أن تكون. فإذا كنتِ «صديقة» لشخص ما، على سبيل المثال، فإن عددًا كبيرًا من الاعتقادات تحضر في تحريك أفعالك وتصرفاك. وهذا هو السبب في أن فرانسيس حذرت للغاية بشأن قبول الوصف.
وربما يكون أوضح مثال على كيفية كون اللغة وصفية وذات قيمة في وقت واحد في حالة هو ما طرحه الفلاسفة من مفاهيم أخلاقية شارحة Thick ethical concepts. ولتتأمل في كلمات مثل «ودود» و «مقصود» و«عدواني» و«وقح» و«نفد صبره» و«وحشي» وما إلى ذلك، ثُم لاحظ كيف تقيُّم هذه المصطلحات السلوك بشكل إيجابي أو سلبي في الوقت نفسه الذي تصفه. وتُسمى هذه المفاهيم الأخلاقية بالمفاهيم الشارحة على النقيض من المفاهيم الأخلاقية المُجملة(3) thin ethical concepts مثل «الصواب» و«ما يجب» و«ما ينبغي». وهذه المصطلحات المجردة للغاية تقريبًا مصطلحات ذات طبيعة تقييمية خالصة ويبدو أنها لا تصف أي أفعال محددة. وبدلًا من ذلك، كما وضعت الفيلسوفة الأمريكية كريستين كورسجارد Christine Korsgaard في كتابها «مصادر المعيارية» (The Sources of Normativity) (1996)، فإنها تبدو مثل تلك النجوم الذهبية المستخدمة في المدرسة التي يمكن أن تكون عالقة على أي شيء.
إن الخلافات الثقافية التي تدور حول المشكلات الأخلاقية المثيرة للجدل هي، جزئيًا، الخلافات التي يجب أن تفوز بها المفاهيم المحملة أخلاقيًا داخل المجتمع. فهل يجب تصور النشاط الجنسي بالشروط المرتبطة بالنقاء الجنسي وضبط النفس («القداسة»، و«العفة» وما إلى ذلك) أو من حيث التعبير الجنسي والتجريب («التحرير»، «الغرابة الجنسية» Kink وما إلى ذلك)؟ إن هذا يؤكد لمجتمعنا الحقيقة التي مفادها أن الكلمات والمفاهيم الأخلاقية ليست مجرد أفكار ومفاهيم مُجملة: فهي منتج اجتماعي وبمثابة التعبير عن طرق المعيشة المختلفة. وبهذه الطريقة، فإن الكثافة السياسية المحيطة بما يتم استخلاصه أحيانًا كـ«حجج حول الكلمات» أمر منطقي تمامًا. فالخلافات الثقافية هي خلافات حول المفهوم الذي بموجبه يتعين علينا اتخاذ أفضل السبل للعيش.
ونحن نستخدم جميعًا المفاهيم الأخلاقية بالمعنى الواسع الذي قدمته. فالأشخاص الذين يعتقدون أنه يمكنهم العيش من دون قيم يفشلون في التفكير من خلال ما يعنيه ذلك حقًا. ولكن إذا قمنا جميعًا، حتمًا، بتقييم خبراتنا، فإننا لا نفعل ذلك بالطريقة نفسه. وفي بودكاست حديثًا عن الدروس من الإمبراطورية الرومانية، أكد المؤرخ توم هولاند Tom Holland التباين الدرامي بين الأعراف الجنسية في روما القديمة وتلك الموجودة في الغرب الحديث. وهذا مجرد مثال، ربما مألوف بالفعل، للحقيقة الشائعة المتمثلة في أن المعايير الأخلاقية تختلف على المستوى الداخلي. وعلاوة على هذا، فحتى المفاهيم الأخلاقية التي نتشاركها من الناحية الظاهرية يمكن فهمها بطرق مختلفة للغاية. ولنفكر في كيفية تقديم الاحترام في إشارة إلى إيماءة الرأس: فيمكن أن يرمز إلى الاحترام كشكل من أشكال الاعتراف المتبادل، أو الاحترام بوصفه توقيرًا لقوة أخرى عليا.
(2) نسميها الشوكة المعادية للإنسان: النسبية أو الدين؟
إن حقيقة التنوع الأخلاقي تثير مسألة النسبية الأخلاقية. وقد أصبح هذا أيضًا جزءًا من الخلاقات الثقافية، خاصة وأن هذه المناقشات قد أدت دورًا في الولايات المتحدة. وتستند العديد من التقاليد الأخلاقية إلى فكرة وجود قيم كلية، ربما متجذرة في الطبيعة البشرية. وربما نشأت أنت نفسك مع فكرة الكلية التي تقول أن هناك أخلاقًا حقيقية واحدة تنطبق على الجميع، في كل مكان. ولكن إذا كان العيش في العديد من الطرق الأخلاقية المختلفة للحياة أمرًا طبيعيًا بالنسبة للبشر، فإن هذا يشجع فكرة أن البشر يخلقون عوالم أخلاقية متعددة، وأن الحقيقة الأخلاقية تتعلق بالعالم المعني. وبالتالي فإن الحقيقة الأخلاقية، مثل الحقيقة حول السلوك، تختلف ببساطة من مكان إلى آخر. وحتى الآن، فإن الأمر سيء للغاية، بالنسبة للمذهب الكلي.
أما بالنسبة إلى الخلافات حول النسبية الأخلاقية فقد اقترن ظهورها بالخلاقات الثقافية، فإنها كانت تميل إلى أن تكون مؤطرة بالطريقة الآتية. إذ يحتفي جانب واحد من الحجة بالتنوع الثقافي ويوحد هذا مع التركيز على الطبيعة التي تم بناؤها من الناحية الاجتماعية للقيم. وهذه هي النظرة المرتبطة بشعبية ما بعد الحداثة وسياسة الهوية ورفض التقاليد الكلية. ومع هذا، فإن هذه الوجهة «النسبية» على ما يبدو هي بالضبط ما يثير حفيظة أنصار المذهب المحافظ في الأخلاق. ومن هنا كان الجانب الآخر من الخلافات الثقافية: فإذا لم يكن هناك معيار إنساني مشترك يمكن أن يتجه إليه في الكلية الأخلاقية، فإن هناك حاجة إلى شيء يتجاوز الإنسان. وهذا هو جانب الخلاقات الثقافية المرتبطة بالحاجة إلى العودة إلى الدين، وردة فعل رجعية من المنظور الأخلاقي بالنسبة إلى مسألة التنوع الاجتماعي.
وقد أصبحت هذه المناقشات حول مصادر الأخلاق جزءًا من الثقافة السائدة. ويتم تقديم المعضلة العلمانية في المدرسة القديمة، التي تواجه صعوبة في إيجاد أساس كلي لأخلاقيات الإنسان، مع معضلة: إما اختيار الأخلاق التي تركز على الثقافة، أو العودة إلى واحدة من الأخلاقيات التي تستند إلى وجود الله. ونسميها الشوكة المعادية للإنسان: النسبية أو الدين؟ فقد صرح روان ويليامز Rowan Williams (1950-...)، رئيس أساقفة كانتربري السابق في المملكة المتحدة، مؤخرًا في مجلة «رجل الدولة الجديد» New Statesman بأن «من المحتمل أن يكون أنصار الاتجاه الإنساني المحدثين مدافعين أكثر شغفًا بالتنوع الثقافي من أسلافهم. لكن المفارقة الآتية هي: هذا الاعتراف الصحيح بالتنوع الأخلاقي يميل إلى تقويض النزعة الكلية Universalism التي عادة ما تأسس عليها الاتجاه الإنساني Humanism».
ومن المهم أن نلاحظ أن تنوع الاعتقادات لا يستلزم في حد ذاته النسبية. وعلى أي حال، أسست الثقافاتُ المختلفة لاعتقادات مختلفة حول شكل الأرض. وهل يتبع ذلك أنه لا توجد حقيقة غير مرتبطة بالمادة وأن كل ما يمكننا قوله هو أن الأرض مستديرة حقًا بالنسبة إلى ثقافة واحدة، ومسطحة حقًا بالنسبة لثقافة أخرى؟ وإذا قال صديقك أن الأرض مسطحة، فربما تُظهر له الصورة المعروفة باسم «الرخام الأزرق»(4) The Blue Marble، التي تم التقاطها عندما كان طاقم أبولو 17(5) Apollo 17 في طريقه إلى القمر في عام 1972. وإذا كنت ثريًا ومبذرًا بما فيه الكفاية، فيمكنك حجز رحلة له إلى الفضاء. وبالتالي فمن غير المرجح أن «تتحول إلى النسبية».
ومع هذا، فكونك ليس من أنصار النسبية حول شكل الأرض، لا يتطلب منك أن تكون غير معتاد في كل شيء. فلا تزال النسبية الأخلاقية خيارًا. وكما رأينا بالفعل، إذا كنت تجمع بين فكرة أن البشر يبنون الواقع الأخلاقي مع الادعاء القائل بأن كيفية بناء البشر للواقع الأخلاقي إنما هو أمر يختلف بين الثقافات، فإن النسبية الأخلاقية تصبح من الصعب تجنبها. وفي الواقع، فإن أولئك الذين يسارعون إلى الانتقال من ملاحظة تنوع الاعتقادات الأخلاقية إلى تبني النسبية الأخلاقية ربما يميلون بالفعل إلى الاعتقاد بأن الأخلاق هي بناء ثقافي في حين أن شكل الأرض ليس كذلك. وينجذب البعض الآخر إلى النسبية الأخلاقية لأنهم يعتقدون أنها نظرة أكثر حكمة وأكثر تسامحًا. وكما قد يقول شخص ما: «لديهم طريقهم، ولدينا طريقنا، وهذا كل ما يمكن أن يُقال».
جادل برنارد ويليامز (ولا علاقة له بروان ويليامز) بشكل غير واضح ضد ما أسماه «النسبية المبتذلة» (Vulgar Relativism) في كتابه الأول، «الأخلاق» (Morality) (1972). وهو فيلسوف مهم ومن الرواد في البلدان الناطقة بالإنجليزية، وقام في ما بعد بتعميم مصطلح «المفاهيم الأخلاقية الشارحة» التي ذكرتها أعلاه (وكان ويليامز أول من استخدم هذا المصطلح في كتاباته، في عام 1985). وكان لدى وليامز إحساس عميق بالتنوع الثقافي والتاريخي للحياة الأخلاقية. لكنه رأى أيضًا أن الطريقة النموذجية التي اتخذتها النسبية الأخلاقية لتأييد التسامح، لا سيما بعض علماء الأنثروبولوجيا في ذلك الوقت، كانت غير متماسكة بشكل أساسي.
(3) ربما، على الأقل بالنسبة لمجتمع عنيف، فإن الحرب هي الحل.
يقول ويليامز إن النسبية المبتذلة تقرر أن ما إذا كان هناك شيء «صحيح من الناحية الأخلاقية» إنما يشير إلى أن «الصواب في هذا المجتمع المعين». ونتيجة لذلك، لمناقشة ما إذا كانت ممارسة الجنس مع أكثر من شخص أو امرأة هو أمر صائب من الناحية الأخلاقية، يجب عليك أولًا أن تسأل: صواب بالنسبة إلى من؟ الواقع أنه لا توجد إجابة كلية: إذ سيتم السماح للبوليموري، بالفعل بالاحتفاء به، في بعض الأوقات والأماكن، ويتم إدانته أخلاقيًا لدى الآخرين. وهذه هي النظرة العميقة التي من المفترض أن تؤدي إلى نظرة متسامحة. وفي الواقع، تقرر النسبية المبتذلة، كما وصفها ويليامز، أن الأخلاق مرتبطة بأسلوب الحياة، و«من الخطأ بالنسبة للناس في مجتمع واحد أن يدينوا، وما إلى ذلك، قيم مجتمع آخر».
ويمضي ويليامز حيث يذهب إلى أن مشكلة النسبية المبتذلة هي مع مكانة مبدأ التسامح. فإذا كان من الصواب أن تكون متسامحًا، وكان «الصواب» أمرًا نسبيًا، فيجب علينا أن نسأل: الصواب بالنسبة إلى من؟ وعلى أي حال، إذا كان مجتمع المحاربين العدواني يناقش ما إذا كان ينبغي أن يتداخل مع جيرانه، فحينئذ، ووفقًا لقيمه، قد تكون الإجابة محددة: «نعم، يجب أن يتدخل». وربما تكون الحرب هي الحل، على الأقل بالنسبة للمجتمعات العنيفة. إن النقطة المهمة، كما يوضح ويليامز، هي أنه لا يمكنك أن تقول بشكل متماسك أن كل الحقائق الأخلاقية مرتبطة بثقافة ما وتتبنى قاعدة أخلاقية غير نسبية مفادها أن جميع الثقافات يجب أن تحترم بعضها البعض. ويطرح أنصار النسبية المبتذلة مبدأ التسامح بوصفه مبدأً أخلاقيًا كليًا، لكن هذا يتعارض تمامًا مع النسبية الأخلاقية نفسها.
وقد توصل وليامز إلى أن النسبية المبتذلة هي «مذهب سخيف»، لكن هذا يمكن أن يعطي انطباعًا مضللًا: فقد أخذ وليامز على محمل الجد العديد من الأفكار التي تدعم النسبية الأخلاقية. وفي الواقع، يتفق وليامز مع النسبية الأخلاقية على أن الواقع الأخلاقي هو بناء بشري، ومثل النسبية، يؤكد على مجموعة متنوعة من القواعد الأخلاقية. وبعض التقاليد الأخلاقية والدينية تَعُد الواقع الأخلاقي موضوعيًا وكليًا مثل الحقائق حول شكل الأرض. ومن المؤكد أن وليامز لم يفكر في هذا وذهب إلى حد أن يطلق على موقفه الأخلاقي «غير الموضوعي» Nonobjectivist.
وربما يظهر احترام وليامز لدوافع النسبية الأخلاقية بشكل أكثر إثارة للاهتمام في المقطع الآتي من أخلاقيات كتابه الذي يتوسط كتبه من الناحية الزمنية «الأخلاق وحدود الفلسفة» (Ethics and the-limit-s of Philosophy) (1985)، إذ يقول فيه:
«إذا كنت على وعي ومعرفة بالموقف اللاموضوعي، فهل يجب ألا يؤثر ذلك بشكل صحيح على الطريقة التي ترى بها تطبيق قواعدك الأخلاقية أو مداها؟ ... وإذا أصبحنا على وعي بالتغير الأخلاقي وأنواع التفسير التي قد تتلقاها، فمن المذهل أن هذا الوعي يجب أن يترك كل ما هو فيه ولا يؤثر على فكرتنا الأخلاقية نفسها. ويمكننا أن نستمر، بلا شك، ببساطة في القول بأننا على صواب وأن الجميع مخطئون (أي القول، وفقًا للرأي القائل باللاموضوعية، بأننا نؤكد قيمنا ونرفض قيمهم)، ولكن إذا وصلنا إلى هذه المرحلة من التفكير، فهو يبدو ردة فعل غير كافية بشكل ملحوظ».
وهكذا دافع ويليامز عن الاعتراف الملائم بالموقع الثقافي والتاريخي لأخلاقيات الفرد، ودمج ذلك مع ذلك النزوع المتعمق بمتى يكون للتقييم الأخلاقي هدف ومتى لا يكون كذلك. وقد جعله هذا قريبًا من روح النسبية، بل إنه في الواقع اعتنق ما أسماه «نسبية المسافة» (Relativism of Distance).
(3) إن الخطر مع شعور حاد بالتاريخ هو أنه يمكنك أن ينتهي بك الأمر إلى محاصرة في فقاعة نسبية.
إن الاعتقاد في جوهر نسبية المسافة عند وليامز هو أنه من غير المنطقي التأكيد على حقيقة نظرات الفرد الأخلاقية عبر كامل تاريخ البشرية. فقد كان من الممكن أن يدعم وليامز الإعلان الشامل لحقوق الإنسان، على سبيل المثال، ولكن في الوقت نفسه انتظر قيمة وحكمة تطبيقه عقليًا على ثقافات المحاربين لآلاف السنين في الماضي. وقد حث وليامز على أنه لم تكن هناك حاجة على «تعهد نسبي بالصمت بشأن الماضي» ولكن من ناحية أخرى، «فإن التعليقات عليه ليست إلزامية، أيضًا».
ومن ناحية أخرى، فإن الكتابة في مطبوعات «مراجعة نيويورك» (The New York Review) في عام 1998، أعطت ويليامز تعبيرًا لا يُنسى لهذه الأفكار والمشاعر، إذ يقول:
«هل يجب أن أفكر في نفسي على أنها زيارة في الحكم في كل مواعيد التاريخ؟ وبطبيعة الحال، يمكن للمرء أن يتخيل نفسه بأنه كانط في محكمة الملك آرثر، وهو يرفض ظلمه، ولكن بالضبط ما الذي يحصل عليه هذا الفكر الأخلاقي؟».
لقد اعتقد إيمانويل كانط Immanuel Kant، الفيلسوف الأخلاقي في القرن الثامن عشر، أن الجميع يعرفون القانون الأخلاقي الكلي نفسه، بحيث كان من الواضح دائمًا أن نحتكم إلى وجوده. ويعتقد وليامز، في معظم الأحيان، أن ما يجعل ما هو أخلاقي مقبول ومفهوم إنما هو أمر محدود أكثر من الناحية الثقافية. فعندما ننظر إلى الداخل، فإن ما نجده ليس هو القانون الأخلاقي، ولكن هويتنا التي تشكلت عبر التاريخ.
إن الخطر الذي ينطوي عليه الإحساس بعيد النظر بالتاريخ هو أنه يمكن أن ينتهي بك الأمر محاصرًا في أوهام من النسبية. ولكن إذا اتفق ويليامز مع فكرة أنصار النسبية عن الطبيعة المتأصلة من الناحية الثقافية للحياة الأخلاقية، فإنه بذلك يتجه أيضًا إلى دمج فلسفته الأخلاقية بنوع من الأدوات النقدية التي تشير إلى أنه لا يجب عليك قبول أسوأ الأشياء المرتبطة بالنسبية الأخلاقية: فإما أن «أي شيء يسير، أو أن المجتمعات لا يمكنها تقدير وتقييم بعضها البعض، أو أنه يجب عليك قبول الوضع الراهن في مجتمعك».
واحتفى وليامز العظيم في عمله المتأخر كتاب «الحقيقة والصدق» (Truth and Truthfulness) (2002) بالفضائل المرتبطة بالسعي إلى اكتشاف الحقيقة. ووفقًا لويليامز، لا توجد أخلاق موضوعية وكلية، لكن الفلسفة الأخلاقية لا تزال يمكن أن تعتمد على أن بعض الحقائق الأخلاقية، مثل شكل الكوكب، يمكن أن تكون موضوعية وكلية. وعلى سبيل المثال، إذا كان منظورنا الأخلاقي يعتمد على الأكاذيب الصارخة، فيمكن تقويضها من خلال الكشف عن الحقيقة. ولرفض الدعوات والصيحات التي تنكر تغيير المناخ، على سبيل المثال، لا يتعيَّن عليك مناقشة ما إذا كانت هناك حقيقة موضوعية حول الأخلاق. فيكفي أن نعرف أن هناك حقيقة موضوعية حول آثار ثاني أكسيد الكربون في الجو، وما حدث لدرجة الحرارة السنوية العالمية منذ الثورة الصناعية في أوروبا، وما إلى ذلك.
ولم يكن لدى وليامز سوى القليل من الوقت للفكرة، المرتبطة بما بعد الحداثة، التي تقول أن كل ما يحيط بنا من حقائق في عالم الواقع إنما هو بناء ثقافي. فقد قام البشر بإعادة تشكيل الأرض بشكل كبير لكنهم لم يخلقوا الكوكب الذي يعيشون عليه. ومن هنا يتم بناء الواقع الأخلاقي من خلال التفاعل مع ذلك «العالم المادي الموجود بالفعل» الذي هو ليس منتجًا ثقافيًا. ولقد صاغ وليامز في مناسبات عديدة مع الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي Richard Rorty، الذي أصبح، في العقود الأخيرة من القرن العشرين، واحدًا من الوجوه الثقافية البارزة لما بعد الحداثة في الدوائر الأكاديمية. وفي الواقع، عندما كنت طالبًا للدكتوراه في جامعة جونز هوبكنز Johns Hopkins في مدينة بالتيمور Baltimore، في ولاية ماريلاند الأمريكية، تحدثت مع رورتي حول التباين بين أفكاره وأفكار ويليامز. فقال رورتي،«نعم»، إن وجهة نظر وليامز تتفق بشكل كبير جدًا مع الفطرة السليمة، ولكن، كما اختتم رورتي بعبارة لا يمكن أن أنساها، «أريدُ تغيير الفطرة السليمة!».
ومع هذا، فمثل رورتي، أكد وليامز الطبيعة التي تم بناؤها من الناحية الثقافية للحياة الأخلاقية. وانطلاقًا من تأثره بفيلسوف القرن التاسع عشر فريدريش نيتشه ، كان ويليامز مهتمًا بشكل خاص بجينالوجيا (أصول) المفاهيم بوصفها واحدة من الأدوات والوسائل في مجال الفلسفة. وما يعنيه هذا، باختصار، هو أنه يمكنك تتبع أصل وتطور مفهوم أو فكرة ما- ولتكن الحرية، على سبيل المثال- لمعرفة ما إذا كان السرد الناتج يشجع على استخدام المفهوم المعني أو ما إذا كان يرفض ذلك.
(4) يساعدك البحث في تاريخ المفهوم على فهم ما إذا كنت تريد أن يكون هذا المفهوم جزءًا من مجموعة المفاهيم التي تستخدمها.
إذا تأملنا في هذا في ما يتعلق بالمناقشات المتعلقة بالخلاقات الثقافية حول الحب والجنس، فسنجد أن الجميع لن يرغب في تجنب، مثل شخصية البطلة فرانسيس في رواية «المحادثات مع الأصدقاء» لسالي روني، المفاهيم التقليدية المرتبطة بالرومانسية. لكن جينالوجيا المفاهيم تدعوك إلى التفكير في تاريخ كلمة أو مفهوم ما مثل «صديقة» وتحديد ما إذا كنت تريد الاستمرار في توظيفها. وقد تقرر أنه، كما قال المؤلف المسرحي والروائي والشاعر الأيرلندي أوسكار وايلد Oscar Wilde في عام 1895 عن التجديف Blasphemy، إنها «ليست كلمة من اختراعي».
إن العديد من الأفكار المرتبطة بالحب، وبخاصة كلمة زواج، لم يكن لها من الناحية التاريخية علاقة كبيرة بالرومانسية. وكما يوضح عمل ستيفاني كونتز Stephanie Coontz: «تاريخ الزواج» (2005)، فإن «معظم المجتمعات في جميع أنحاء العالم تنظر إلى الزواج بوصفه مؤسسة اقتصادية وسياسية حيوية للغاية» بحيث يمكن أن يقوم على الحب أو لا. وهذه فكرة أحدث بكثير. ومن هنا يساعدك النظر والبحث في تاريخ المفهوم على فهم ما إذا كنت تريد أن يكون هذا المفهوم جزءًا من طريقة الحياة- وتُسمى مجموعة المفاهيم Conceptual Tribe- التي تستخدمها. وفي بعض الأحيان، يتضمن الانضمام إلى مؤسسة ما تعديل مفاهيمها للأفضل، كما في حالة زواج المثليين والمثليات.
ويمكن أن يكون الصدق حافزًا، خاصة عندما يركز على إساءة استخدام السلطة. وقد اعتمد ويليامز على تقاليد الفلسفة المعروفة باسم النظرية النقدية، والتي تؤكد أهمية فحص ونقد البنى الاجتماعية. وهو يكتب:
«[إذا] عرف المرء أن السبب الوحيد الذي يجعل المرء يقبل بعض المبادئ الأخلاقية هو أن قوة شخص ما هي التي أدت إلى قبوله [ومن] من مصلحته أن يقبله [فعندئذ] لن يكون لدى المرء أي سبب للاستمرار في قبولها».
ولا شك أن واحدة من أكثر الصفات إثارة للإعجاب والأكثر استمرارية في كتابات ويليامز هي رغبته في إفساح المجال الفلسفي للحقائق المزعجة والوضوح المذهل المحتمل في قول الحقيقة في مواجهة السلطة.
وقد أكد وليامز أن جميع المجتمعات البشرية تحتاج إلى مفاهيم أساسية عن الاستقامة والإخلاص: أعني السمات التي تتحد لتشكيل فضيلة الصدق. وقد قدم هذا جانبًا من النزعة الكلية في نظرته إلى العالم. ومع هذا، على الرغم من أن الحاجة إلى الصدق أمر كلي، فقد أوضح ويليامز مرة أخرى أن الثقافات المختلفة كانت لديها هذا المفهوم وستؤسس له بشكل مختلف وفقًا لضرورته. ويختتم وليامز كتابه «الحقيقة والصدق» بتعليق أمله في أن تتعايش وتستمر «الأشكال الأكثر شجاعة، وصمودًا، والأكثر فاعلية من الناحية الاجتماعية» للفضائل المرتبطة بالحقيقة.
ومن الإنصاف نقول، وهو أمر غريب كما يبدو، أن دفاع وليامز عن الحقيقة والصدق كان بمثابة تعهد سابق على عصره في العلوم الإنسانية في ذلك الوقت. لقد كان سباقًا، حيث كان يكتب في نهاية حياته وفي مطلع الألفية، حول أشكال مختلفة من إنكار الحقيقة التي ستظهر (أو إعادة الظهور) في القرن الحادي والعشرين. ولنا أن ننظر إلى كيف أن عمر الإنترنت، الذي رآه فقط في البداية، سيجعل إنكار المحرقة مسألة رائجة مرة أخرى. وفي الواقع، وفي مقطع مشترك على نطاق واسع على الإنترنت، كتب وليامز عن كيف أن الإنترنت «يسهل على أعداد كبيرة من المتطرفين المعزولين سابقًا أن يجدوا بعضهم البعض والتحدث في ما بينهم».
ويجب أن يأخذ النقد الأخلاقي في كثير من الأحيان شكل جعل الحقيقة العادية معروفة على نطاق واسع. ولكن ماذا لو كانت بعض الحجج تعود في النهاية إلى خلافات حول القيم؟ ربما يكون تعمق النزاعات حول تغير المناخ، أمرًا أعمق بكثير من الألفة مع العلوم ذات الصلة التي يمكن علاجها. ولا يقول وليامز سوى القليل عن الحجة العقلانية حول القيم نفسها، وربما يقتصر على نظرته إلى العالم التي وفقًا لمبادئها «لا تعترف بأي مبرر نهائي» (كما تقول كريستين كورسجارد). كما أعرب وليامز عن شكوك زمنية حول الحجج الأخلاقية التي يمكن أن تتصاعد، وقد كتب يقول: «ماذا سيفعل تبرير الأستاذ عندما يكسرون [التلاميذ] الباب، ويحطمون نظارته، ويأخذونه بعيدًا؟».
(5) لم يفكر قط في أن الفلسفة الأخلاقية يمكن أن تجعل الحياة الأخلاقية أسهل مما هي عليه.
أظهر عمل وليامز التعارض الذي يراه المرء في الخلاقات الثقافية الأكبر حول القيم: أعني ذلك التعارض بين الرغبة في الاعتراف بما يبدو وكأنه شرور كلية ولا جدال فيها، والرغبة في ترك تراث النزعة الكلية. لقد فعل، على سبيل المثال في فصل من كتابه وعنوانه «حقوق الإنسان والنسبية»، أن هناك بعض الأخطاء الأخلاقية الأساسية التي يعترف بها جميع البشر تقريبًا، حتى لو كان في مكان آخر من عمله يرفض بشدة فكرة القانون الأخلاقي الكلي.
ولنا أن نقارن نظرة وليامز مع نظرة فيلسوف الأخلاقي ديريك بارفيت Derek Parfit (1942-2017)، زميله في أكسفورد منذ فترة طويلة. فقد اعتقد بارفيت في الواقع أن الحقائق الأخلاقية موضوعية وكلية مثل الحقائق المتعلقة بشكل الأرض، وبحث عن الحجج الأخلاقية التي من شأنها إقناع الجميع بهذا الرأي. وفي كتاب «الخزي والضرورة» (Shame and Necessity) (1993)، أكد ويليامز، على النقيض من ذلك، أنه من المهم السعي إلى التمسك «بالصدق الاجتماعي والسياسي» أكثر من البحث في «الميتافيزيقيا العقلانية للأخلاق». وإذا لم يكن لدى وليامز سوى القليل من الوقت لكتاب رورتي بعد الحداثة الكبير، فإنه لم يشارك أيضًا أمل بارفيت (المرتبط الآن بحركة الإيثار الفعالة Effective Altruism)) بأن دراسة الأخلاق Ethics يمكن أن تتحول إلى علم للسوك الأخلاقي (Science of Morality)، والتي ستطبق بعد ذلك لحل مشكلات العالم.
إن الصدق، وجينالوجيا المفاهيم، والدراسة الأخلاقية المقارنة: هذه كلها تمنح جوانب فلسفة ويليامز في القيمة أهميتها النقدية. وهناك العديد من الموارد المتبقية للنقد الأخلاقي والسياسي بعد ظهور الفلسفة الأخلاقية تمامًا مما أسماه ويليامز «ظلال النزعة الكلية»- أو هكذا سعى إلى إظهاره. وكان هدفه هو التمسك بالتمييز الحيوي بين ما هو قائم وما يجب أن يكون مع التأكيد على أن المعايير المرتبطة بما يجب أن يكون هي نفسها في نهاية المطاف إبداعات ثقافية. إن موقفه، في هذا الصدد، يشبه الرأي القائل بأن البشر يخلقون القواعد المتعلقة بما يُعدُّ فنًا جيدًا وسيئًا بدلًا من اكتشاف حقائق مستقلة عن العقل وخالدة عن الجمال.
وأخيرًا لم يعتقد وليامز قط أن الفلسفة الأخلاقية يمكن أن تجعل الحياة الأخلاقية أسهل مما هي عليه. ومع هذا، فإنه يقدم رؤية لكيفية قيام الفلسفة، المتحالفة مع التخصصات الأخرى مثل التاريخ، إلى توفير النقد والدعم للتوجه الأخلاقي للمرء في العالم. وفي اشتباكه مع النسبية الأخلاقية، لا يشير موقفه هذا فحسب إلى الطريق الوسط الذي اتخذه بين معاصريه ريتشارد رورتي وديريك بارفيت، بل يقدم كذلك مثالًا على كيفية جعل طريقة المرء تحافظ على التنوع الثقافي.

هوامش:
(1) العنوان الأصلي للمقال: Wrestling with Relativism، للكاتب: دانييل كالكوت Daniel Callcut، ونُشر على موقع (Aeon)، بتاريخ: 20 أكتوبر 2023.
رابط المقال:
https://aeon.co/essays/bernard-williams-moral-relativism-and-the-culture-wars
ويناقش هذا المقال في ضوء آراء الفيلسوف البريطاني برنارد ويليامز Bernard Williams (1929-2003)، موضوع النسبية الأخلاقية ليؤكد في النهاية أنها ليست الكلمة الأخيرة في الأخلاق، وهذا على الرغم من عدم قبول وليامز نفسه للمذهب المطلق في الأخلاق. وهنا يطرح وليامز موقفه الذي يُطلق عليه الموقف الأخلاقي «غير الموضوعي» Nonobjectivist، وبدلًا من النسبية الأخلاقية، يطرح ما أسماه «نسبية المسافة» (Relativism of Distance). كما يناقش المقال العديد من الموضوعات المهمة منها: ظهور النسبية الأخلاقية في القرن العشرين ويربطها بما يُطلق عليه "النسبية الثقافية" Cultural Relativism وهنا تتأكد لنا أهمية الدراسات الثقافية، وخاصة الأنثروبولوجية، بالنسبة للأخلاق. فالدراسات الثقافية في نهاية المطاف شأنها شأن كل الدراسات الأكاديمية الأخرى ليست منعزلة عن المجالات البحثية الأخرى، ولم يكن البحث حول تعزيز نظرية النسبية الخلقية بمعزل عن الدراسات الثقافية ذاتها؛ إذ استفاد هذا البحث بصورة مؤكدة من جملة النتائج التي خرجت بها الدراسات الثقافية والأنثروبولوجية في القرن العشرين، من خلال التأكيد أن المعايير والقيم الأخلاقية نتاج اجتماعي- ثقافي في المقام الأول.
ويُعَدُّ هذا المقال من الكتابات المهمة للغاية التي تؤسس لموقف أو نظرية بديلة للنسبية الأخلاقية التي سادت طوال القرن العشرين، وبالتالي فهو يتناول واحدة من النظريات الجديدة عن الموقف «غير الموضوعي» Nonobjectivist في الأخلاق. إضافة إلى تسليط الضوء على العديد من فلاسفة الأخلاق المعاصرين المهمين من أمثال: جوديث بتلر Judith Butler (1956-...)، وكريستين ماريون كورسجارد Christine M. Korsgaard‏ (1952-...)، وريتشارد رُورتي (1931-2007)، وديريك بارفيت (1942-2017)، وغيرهم.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المصدر الذي نُشر فيه المقال يُعَدُّ من المصادر العلمية والأكاديمية المعتمدة، وهو موقع متخصص في دراسة المشكلات والقضايا الأخلاقية والفلسفية، علاوة على أن هذا الموقع مفتوح المصدر حيث يُتيح ترجمة المقالات المنشورة فيه من دون أية حقوق نشر يُطالب بها.
(2) دانييل كالكوت Daniel Callcut: كاتب مستقل ومشتغل بالفلسفة. وهو زميل سابق في كلية الحقوق في كلية ييل. وقام بالتدريس والنشر حول مجموعة واسعة من الموضوعات بما في ذلك فلسفة الحب، وطبيعة القيمة، وأخلاقيات الإعلام، وفلسفة الطب النفسي. وهو محرر كتاب «قراءة برنارد ويليامز» (2008). ويعيش في لينكولنشاير Lincolnshire، المملكة المتحدة.
(3) يُستخدم هذان المفهومان في الفلسفة الأخلاقية المعاصرة بوجه خاص. و«المفاهيم الأخلاقية الشارحة» Thick Moral Concepts هي المفاهيم التي تشتمل على عنصر «وصفي» خالص وعنصر «تقييمي» أو معياري، مثل: «عادل»، «جبان»، «نبيل»، «خائن»، «وَفِيّ»، «فاسق»، وبالتالي فكثيرا ما تُوصف هذه المفاهيم بأنها «شارحة»، وأحيانا بأنها تتضمن دلالات ومعاني ذات حدِّ أَقْصَى Maximal Meanings؛ لأنها تحوي تفاصيل خِصْبة ومركبة، ومشروطة، ومليئة بالاختلافات التي يمكن أن يجد فيها أفراد المجتمعات الأخرى صعوبة في قبولها أو الالتزام بها في سلوكهم الأخلاقي. أما «المفاهيم الأخلاقية المُجملة» Thin Moral Concepts فتشتمل على عنصر «تقييمي» فقط، مثل: «عدالة»، «خير»، «شر»، «ينبغي»، «صواب»، ولذلك فغالبًا ما تُوصف هذه المفاهيم بأنها «مختصرة» و«معتدلة»، وأحيانًا بأنها تتضمن دلالات ومعاني ذات حدِّ أدنى Minimal Meanings من حيث مضمونها أو ما تقول به، وتُعَدُّ تقييدا لسلوك الأفراد والمجتمعات الإنسانية المختلفة. ويبدو من الصعوبة بالنسبة للشخص الذي لا يؤمن بوجود المفاهيم الأخلاقية المُجملة أن يقرر ما إذا كانت المفاهيم الشارحة صحيحة أو خاطئة. كذلك فإن التحليل الدقيق للمفاهيم الشارحة هو موضع خلاف بين فلاسفة الأخلاق. كما أنه كثيرًا- وعلى نحوٍ واسع- ما تُوصف المفاهيم الشارحة بأنها «كثيفة» (وأحيانًا «ذات حدِّ أَقْصَى» Maximalist)، وتُوصف المفاهيم المجملة بأنها «بسيطة» و«معتدلة» (وأحيانًا «ذات حد أدنى» Minimalist). ويُعَدُّ الفيلسوف الإنجليزي «برنـارد وليمـز» Bernard Williams (1929-2003) من أبرز الفلاسفة المعاصرين الذين ميّزوا بين المفاهيم الأخلاقية الشارحة والمفاهيم الأخلاقية المجملة. فالأولى هي «مفاهيم ذات خصوصية نسبية» Relatively Specific Concepts؛ لأنها تصف الأفعال والسلوكيات الخاصة بالأفراد في كل مجتمع على حدة، وتقوم على أسس محلية وليست كلية، وتتضمن بعدين: «وصفي» و«توجيهي»، ومن أمثلتها: مفاهيم «الخيانة»، و«الوعد»، و«الوحشية»، و«الشجاعة». أما المفاهيم الثانية فهي- على خلاف الأولى- «مفاهيم عامة ومجردة»، وتتضمن بعدًا واحدًا؛ هو البعد القيمي، ومن أمثلتها: «الخير» Good، و«الحق» Right. وينتقد «وليمـز» النظريات الأخلاقية المعاصرة، سواء كانت قائمة على فكرة الواجب، أو العقد، أو المنفعة؛ لأنها تُهمل جميعها المفاهيم الأخلاقية الشارحة على حساب المفاهيم الأخلاقية المجملة. وفي رأيه إن هذا راجع إلى أن كل هذه النظريات نِتاج لما يسميه «المشروع الاختزالي» Reductive Enterprise؛ أي محاولة رد المفاهيم الأخلاقية إلى مجموعة من المفاهيم المجملة فقط، والزعم بأن هناك مجموعة أساسية من المبادئ الأخلاقية يمكن من خلالها فهم بقية المفاهيم الأخلاقية الأخرى. للمزيد حول هذين المفهومين، أنظر كتابنا: مفهوم اعدالة في فلسفة مايكل ولتـزر السياسية، القاهرة: دار ؤية للطباعة والنشر، 2020، ص ص. 67-73. (المترجم).
(*) كريستين ماريون كورسجارد Christine M. Korsgaard‏ (1952-...): فيلسوفة أمريكية، وأستاذة الفلسفة في جامعة هارفارد وتهتم بقضايا الفلسفة الأخلاقية وتاريخها، وعلاقة قضايا الفلسفة الأخلاقية بقضايا الميتافيزيقيا، وفلسفة العقل، ونظرية الهوية الشخصية، نظرية العلاقات الشخصية، والقواعد بشكل عام. (المترجم).
(4) الرخام الأزرق The Blue Marble: إحدى أشهر الصور التي التُقطت للكرة الأرضية من الفضاء، وقد التقطت في 7 ديسمبر 1972 من مركبة الفضاء الأمريكية أبولو 17 من مسافة 29000 كيلومتر من سطح الأرض. وقد أطلقت وكالة الفضاء ناسا الاسم ذاته على مجموعة أحدث من الصور عالية الميز التي التقطت لكوكب الأرض جُمعت بانتقائها من صور التقطتها السواتل عبر الزمن، لاستبعاد ظهور السحب فيها بقدر الإمكان. وهي واحدة من أكثر الصور استنساخًا في التاريخ. (المترجم).
(5) كانت رحلة أبولو 17 هي الرحلة 11 التي ذهب فيها الإنسان إلى القمر في إطار برنامج أبولو، وهي لا تزال حتى الآن آخر رحلة فضائية لزيارة القمر. واتسمت هذه الرحلة إلى القمر بمحصول وافر من المعلومات العلمية وجمع نحو 110 كيلوجرام من تربة وصخور القمر، ساعدت العلماء في معرفة طبيعة القمر، من حيث نشأته وعلاقة نشأته بالأرض. ورحلة أبولو 17 هذه ضربت عدة أرقام قياسية: فهي أطول تجول على سطح القمر وبلغ 23 كيلومتر، وأضخم استعمال مكثف للعربة القمرية Lunar Rover واستخدامها في الحركة على القمر لجمع العينات ودراسة التضاريس من خلال ثلاثة جولات على سطح القمر، والعودة بأكبر كمية من عينات التربة والصخور القمرية وبلغت نحو 50 كيلوجرام، وكانت أطول مدة بقاء للإنسان على سطح القمر. (المترجم).



#حمدي_الشريف (هاشتاغ)       Hamdy_Alsharif#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إسرائيل وأيدولوجية القهر تحت راية التسامح!
- خالد كاظم وعلم اجتماع الأمن (المخاطر، التحديات، والحلول)
- د. ظريف حسين والفلسفة الأخيرة: ملاحظات نقدية
- علاء عريبي .. كاتب صحفي بارز من طراز فريد
- بيتر أدامسون: هل كان مكيافيلي سيصوت لدونالد ترامب؟
- د. نصار عبد الله؛ العَاشِق والمُحِبّ للفلسفة
- أزمة التفكير وغَيْبَة العقل النقدي
- -السلطة - الجسد - المقدس-... عرض وتحليل كتاب -دوائر التحريم- ...
- محمود محمد طه.. شهيد الفكر والحرية في السودان


المزيد.....




- وزير الخارجية الفرنسي يستهل جولته في الشرق الأوسط بزيارة لبن ...
- مفتي سلطنة عمان معلقا على المظاهرات الداعمة لفلسطين في جامعا ...
- -عشرات الصواريخ وهجوم على قوات للواء غولاني-.. -حزب الله- ين ...
- مظاهرات حاشدة بتل أبيب تطالب بصفقة تبادل
- أوكرانيا تطلب من شركة ألمانية أكثر من 800 طائرة مسيرة للاستط ...
- زواج شاب سعودي من فتاة يابانية يثير تفاعلا كبيرا على مواقع ...
- بعد توقف 4 سنوات.. -طيران الخليج- البحرينية تستأنف رحلاتها إ ...
- ماكرون يعتبر الأسلحة النووية الفرنسية ضمانة لبناء العلاقات م ...
- مقتل 5 أشخاص على الأقل وإصابة 33 جراء إعصار في الصين
- مشاهد لعملية بناء ميناء عائم لاستقبال المساعدات في سواحل غزة ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي الشريف - الاشتباك مع النسبية الأخلاقية(1)