أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الشريف زيتوني - ضرورة المعرفة الميتافيزيقية















المزيد.....


ضرورة المعرفة الميتافيزيقية


الشريف زيتوني

الحوار المتمدن-العدد: 7801 - 2023 / 11 / 20 - 15:08
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يبدو أن الذين دعوا إلى إلغاء القول الميتافيزيقي من المجال المعرفي، لا يجدون ما يدعم دعواهم معرفيا، إذ إن المعرفة في تماميتها، وفي شموليتها، لا يمكن أن تتوقف عند حدود ما يظهر من الحقيقة، بل أن العلم الحقيقي هو الذي تمازجه الميتافيزيقا التي تضع له التصورات، والمفاهيم، وتفسح له المجال في عالم المجهول، بل يمكن القول: إن الميتافيزيقا بجهازها الأفهومي العقلي، وبموضوعاتها، وبفحصها النقدي للمعرفة بمختلف فروعها،تمنح للعقل الإنساني إمكانية الولوج إلى كنه الحقيقة في بعدها النهائي، واللانهائي، ومن هنا تظهر حاجتنا إلى المعرفة الميتافيزيقية التي جعلناها عنوانا لمقالنا هذا الذي سنبين فيه بأن التقدم المعرفي كان، وسيظل مرتبطا لا بما يدركه العلم فحسب، بل بما هو واقع وراء الإدراك من حقائق لا متناهية توجه خطى العقل نحو تجاوز حدود العيني المحسوس المتشظي، ليمسك الحقيقي المتكامل، والمتناسق.
تعرضت الميتافيزيقا في مختلف مراحل الأحقاب التاريخية التي مر بها التفكير الفلسفي إلى هجوم عنيف من طرف خصومها الذين أنكروا كل معرفة لا تتسم بالضرورة الحسية والعقلية، مما جعلهم يقابلون بالرفض كل قضية لا فيزيائية، ولا رياضية، معتقدين بعدم وجود حقائق وراء ما هو عيني حسي، وأن الحقيقة النهائية تتجسد في ما تقدمه الفيزياء، والرياضيات لا غير، ولهذا لا حاجة للعقل الإنساني إلى المعرفة الميتافيزيقية، غير أن ما يمكن ملاحظته على هذه الدعوى التي ترى الحقيقة فيما هو حسي، ورياضي فحسب، هو أن العقل في تقصيه للحقائق لا يرضى بالوقوف عند حدود القوانين الفيزيائية، والرياضية، بل يسعى إلى تخطي تلك الحدود سعيا وراء كشف حقائق جديدة متخفية وراء الظواهر، وإذا علمنا عدد الحقائق التي كانت تبدو للكثير من الناس أنها محض تخيلات ميتافيزيقية، في مرحلة ما من تاريخ الفكر الإنساني، وتحولت مع تقدم المعرفة الإنسانية إلى نظريات علمية، أدركنا بصورة لا تدعو إلى الشك قيمة السؤال الميتافيزيقي، وضرورته المعرفية، وعرفنا في الآن ذاته، بأن ربط العقل بمظاهر الحقيقة في ثوبها الخارجي هو تضييق لقدراته الإبداعية، والكشفية، وبذلك تكون المعرفة الميتافيزيقية ضرورية في المجال المعرفي، إذ إن إلغائها معرفيا يؤدي ـ في نظرنا ـ إلى تدمير قوة العقل الإبداعية، بل إلى استحالة حصول معرفة تفي بأغراض العقل الإنساني وطموحاته.
ويبدو أن ضرورة الميتافيزيقا معرفيا، هي التي جعلتها تصمد أمام معاول التهديم التي تعرضت لها بغير مبرر منطقي معقول، بل وتزداد قوة، وتمسكا بالبقاء والاستمرار، فضلا عن أنها توسعت باتساع فروع المعرفة. وهذا ما لم يستوعبه خصومها الذين لا حظوا أن الميتافيزيقا تهدم عملها باستمرار، إذ إن كل موقف ميتافيزيقي يناقض موقفا آخر، الأمر الذي جعل الحقيقة الميتافيزيقية لا معنى لها، وغاب عنهم أن المعنى لا يمكن أن يتأثر بالمواقف المتناقضة التي قد تهدم البناء الفكري، ولكنها لا تمنع من إعادة هذا البناء وقد بين ذلك (كروتشه) CROCE (1866 ـ 1952م)حينما قال: ((إن المرء يبني منزلا ثم يهدمه ثم يعيد بناءه، وإننا نتحدث عن هذه البيوت التي تنبني ثم تهدم ثم تنبني من جديد، وعن هؤلاء المهندسين الذين يناقض بعضهم بعضا، ولا نستطيع أن نستنتج من ذلك أن من العبث أن نبني بيوتا))(1)، ويمكن أن نضيف أن البناء وإعادة البناء العقلي قضية اضطلعت بها الميتافيزيقا وما تزال تواصل مهمتها كنظرية موجهة لمختلف مجالات المعرفة، لأن ملاحظة الواقع المعرفي تبين بجلاء ميلاد حقائق جديدة تنبئ بنوع من التطور المنتظم للعقل الإنساني. هذا العقل الذي لا يمكن أن ينتج المعارف من دون مخيال ميتافيزيقي، بل أن استبعاد الميتافيزيقا على النحو الذي خطط له (كارناب) وغيره، هو نوع من الإعدام اللامبرر للعقل أس الحركة الإنشائية للمعرفة، وللبناء الحضاري.
ويمكن أن تظهر الحاجة إلى الميتافيزيقا وبصورة واضحة حينما يتعلق الأمر بموضوعات لا يمكن أن تكون موضع دراسة علمية مثل (( مبادئ الموجودات من حيث هي موجودات، بقطع النظر عما تتمايز به من أعراض، وعن صور وجودها، وعن قوانين وجودها وعدمها، وعن علل هذا الوجود، وعن قوانين الفكر الذي ينظر في هذا الوجود))(3)، المطلق واللانهائي، العدم والخير، والجمال... فهذه حقائق لا شأن للعلم بها، ولكنها ضرورية للعقل بصورة عامة وللعقل العلمي بصورة خاصة، ذلك أن العقل العلمي من دون مبادئ أو قوانين الفكر الأساسية يفقد لا محالة وحدته وتماسكه، كما أنها ضرورية للعقل بصورة عامة، ذلك أن المعرفة الشاملة بالحقيقة لا يمكن أن تحصل بالاعتماد على ما هو ظاهري فحسب، بل أن الميتافيزيقا هي التي تشعرنا بنقص علمنا بالظواهر الطبيعية وعدم قدرة العلم على تلبية الحاجات الضرورية للإنسانية. وهذا ما جعل (كانظ) ـ بالرغم من أنه، أوقف العقل عند حدود الخبرة الحسية ـ يرى أن الميتافيزيقا عبارة عن ميل العقل البشري الفطري إلى البحث عن شيء يكمن وراء حقائق الخبرة وإلى السعي إلى إيجاد تفسير كلي لها في حين أن العلوم لا تهيئ لنا إلا تفسيرا جزئيا لها(4). وإذا كانت مهمة العلم تقتصر على وصف الموجودات من حيث مظاهرها، وربط الواحدة بالأخرى، فإن مهمة الميتافيزيقا هي محاولة معرفة ماهية هذه الموجودات، وعللها القصوى التي تسمو على العلم. والتباعد بين الاهتمامات العلمية، والاهتمامات الميتافيزيقية، لا يعني أنهما لا يلتقيان، ذلك أن العلماء في صياغة نظرياتهم يلتقون مع الفلاسفة في محاولتهم إسباغ الوحدة والانسجام على فوضى من الظاهرات. ويمكن أن نستدل على ذلك بما يؤكده فلاسفة العلم على لسان أحدهم وهو (توماس كون) الذي يقول: ((في فترات الأزمات المعترف بها خاصة، يلتفت العلماء إلى التحليل الفلسفي كوسيلة لحل ألغاز الحقل الذي يعملون فيه))(5). وحقيقة أن المشكلات التي تنشأ عن النظرة التجريبية التجزيئية للكون تؤدي لا محالة إلى إثارة العقل لكي يقدم حلولا نظرية مؤقتة أو افتراضية تعطي نفسا جديدا لحركة العلم، وهذا ما يثبت عدم وجود خط فاصل بين العلم والميتافيزيقا كما لا حظ ذلك (بوبر) حينما قال: ((... من غير المناسب رسم حد فاصل بين العلم والميتافيزيقا، بحيث تستبعد الميتافيزيقا من لغة ذات مدلول على أساس أنها كلام تافه))(6). وقد لا حظ (بوبر) ـ كما ذكرنا آنفا ـ أن للميتافيزيقا أهمية بالغة تتجلى في إنشاء النظريات العلمية، ولكي يعضد موفقه هذا فإنه ـ وبسبب معاشرته ( انشتاين) ـ رأى بأن هذا الأخير، وبالرغم من أنه كان يكره الميتافيزيقا، فإنه أصبح مؤمنا بها ويستشهد على ذلك بقول استلهمه من كتاب (أنشتين) ((تطور الفيزياء)) الذي عرض فيه نظرية النسبية وهو: (( أردنا أن نرسم بالخط العريض محاولات العقل البشري إيجاد صلة بين عالم الأفكار وعالم الظاهرات. لقد حاولنا إظهار القوى الفاعلة التي تدفع العلم إلى اختراع أفكار تقابل حقيقة عالمنا))(7). لقد كان عالم الوقائع في فيزياء (انشتين) يحتل مكانة أولية في بناء المعرفة العلمية، لكن هذه الوقائع في رأيه لم تكن بسيطة وواضحة كوضوح وبساطة أفكار (ديكارت)، بل تمتلك من التعقيد ما يجعل الراغب في فهما لا يكتفي بتفسيرها بالخبرة الحسية والملاحظة، فمصادرة ((ثبات سرعة الضوء)) تتجاوز وقائع التجربة، والشيء ذاته يمكن أن يقال على وقائع أخرى مثل: قانون القصور الذاتي، وتكافؤ الحرارة مع الطاقة، ونظرية النسبية ذاتها. فالقول بأن هذه الوقائع تتجاوز التجربة هو إقرار ضمني بالدور الذي يمكن أن يلعبه العقل النظري في التأسيس للمعرفة العلمية(8). إن المفاهيم والقوانين الأساسية ـ من وجهة نظر (انشتاين) ـ هي تخمينات تخيلية وأفكار ميتافيزيقية تهدف إلى تدعيم المصادرات الميتافيزيقية، أطلق عليها اسم (( المفاهيم التخيلية الخالصة))، وهي مفاهيم لم يكن معترفا بها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولكن تم بعد ذلك الاعتراف بقيمتها وذلك ((لأن الفجوة المنطقية بين المفاهيم والقوانين الأساسية من ناحية، والنتائج التي يجب أن تربط بينها وبين تجاربنا من الناحية الأخرى، أخذت في الاتساع يوما بعد يوم))(9). وليس من الصعب أن ندرك هاهنا الدوافع الحقيقية التي تحرك عقل (انشتاين) الفيزيائي لكي يدخل في اهتماماته الأفكارالميتافيزيقية(10)، ذلك أن النظرية التي تريد أن تكون متكاملة لا بد أن تدخل في تركيبتها عنصرا لا علميا أي عقليا ينيرها من الداخل، ويربط أجزاءها في صورة منطقية منتظمة، فيجعلها تتجاوز فوضى العالم الخارجي، وبذلك ـ فقط ـ تكسب قدرتها على كشف معقولية الكون. ولعل هذا ما جعل أحد الفيزيائيين المعاصرين وهو (هايزنبرغ) يقول في جرأة: (( وربما لا أكون متسرعا إذا أملت في أن تقربنا قوى روحية جديدة من وحدة المفهوم العلمي للكون، تلك الوحدة التي طالما هددت خلال العقود الماضية)) (11). والقراءة المتأنية في هذا الموقف الداعي إلى اخذ القول الميتافيزيقي بجدية في المجال العلمي تبين نوعا من القطيعة مع مرحلة طغي عليها الخطاب التجربابي المتطرف الذي أزاح في تجن الميتافيزيقا من المجال المعرفي، غير أنه وبنوع من الارتياب في مقدرة العلم على التعمق في دراسة الظواهر الكونية والكوانتية التي تفلت من المشاهدة المباشرة، أصبح من الضروري له الاستعانة بالقول الميتافيزيقي لتأسيس معرفة متكاملة تجمع بين عالم الواقع المتناهي وعالم العقل الممكن، وقد لخص ذلك (أنشتين) في قول صوفي مفعم بالشوق إلى اللامتناهي وهو: (( إن ديني ينطوي على إعجاب متواضع بتلك الروح العليا اللامتناهية والتي تكشف في سرها عن بعض التفصيلات القليلة التي تستطيع عقولنا المتواضعة إدراكها، وهذا الإيمان القلبي العميق، والاعتقاد بوجود قوة حكيمة عليا نستطيع إدراكها خلال ذلك الكون الغامض يلهمني فكرتي عن الإله))(12). إن هذه اللفتة الصوفية كان يمكن ألا تستوقفنا لو جاءت من متصوف يعرف طريقه إلى اللامتناهي من دون نظر عقلي أو استدلال تجريبي(13). وأما أن تأتي من عالم فيزيائي متمرس أنهكه تعب البحث عن الحقيقة في المخابر العلمية، فهذا أمر يحتاج إلى نظر لمعرفة المقصود الحقيقي من هذه اللفتة الصوفية العلمية التي لا تدل إلا على شيء واحد، وهو أن المعرفة الحقيقية للكون لا تكون بالوقوف عند الظواهر الحسية فقط، بل ينبغي لكي يمتلكها الإنسان أن يذهب إلى ما وراء هذه الظواهر ليطل علي انتظامها، ووحدتها، وتماسكها، وشمولها وهذه خصائص لا يمكن إدراكها إلا بنوع من الاستدلال المنطقي الذي يختلف عن الاستدلال التجريبي.
وإذا كانت حقيقة الكون واسعة بحيث لا تظهر في ما هو عيني حسي، فإن ذلك لا يعني أن هذه الحقيقة أمر غريب على العقل، وبالتالي لا ينبغي أن نضيع الوقت في البحث عنها، بل إنها حقيقة موجودة تجلب عقلنا المتناهي للنظر فيها، وهذا العقل المتناهي لا يمكن أن تكون فيه حركة إلا إذا شعر بوجود حقيقة لا متناهية فيه تدفعه إلى تخطي حدود الواقع الحسي المتنافر والضيق ليضفر بما هو حقيقي متكامل ومتناسق. يقول محمد إقبال: ((والمتناهيات الطبيعية متنافرة فيما بينها، وليست المتناهيات الفكرية كذلك، لأن الفكر بجوهره لا يقبل التقيد، ولا يستطيع البقاء حبيسا في نطاق ذاتيته الضيق. وليس في العالم الفسيح وراء الفكر شيء أجنبي عنه، وعندما يسهم الفكر شيئا فشيئا في حياة ما هو أجنبي عنه في الظاهر، فإنه يحطم حدود تناهيه ويستمتع باللامتناهي الموجود فيه بالقوة. وحركة الفكر لا تصبح ممكنة إلا بسبب حضور اللامتنتاهي حضورا ضمنيا في ذاته المتناهية، فيبقي شعلة الأمل متأججة فيه وتغذيه في حركته التي لا تنتهي. ومن الخطأ أن نحسب الفكر غير قادر على الوصول إلى أحكام قاطعة فإنه هو أيضا على طريقته الخاصة (التقاء) بين المتناهي و غير المتناهي))(14). وهكذا تأخذ المعرفة أبعادها الحقيقية الجامعة بين ماهو تجريبي وما هو عقلي، ولا تبقى حبيسة النظرة التجربانية الضيقة، ويعود للعقل قوته الادراكية التي ضيقها (كانط) حينما جعلها لا تتجاوز الظاهري المحسوس.
لقد أصبح العقل البشري في حاجة إلى الميتافيزيقا أكثر من ذي قبل، ذلك أن النظرية العلمية المعاصرة لم تعد تقتنع بذلك الرأي القائل بأن الوجود يمكن أن يعرف بالاعتماد على ما تقدمه لنا الحواس من معطيات حسية، بل يعرف من خلال ((الموضوعات المادية بكل تعقيداتها وتشابك علاقاتها بوصفها موضوعات أولية للإدراك الحسي)) على اعتبار أن الشيء المدرك لم يعد ينظر إليه ككيان مستقل عن العالم، بل بوصفه منتميا إلى هذا العالم الذي ينبغي أن يكون مدركا ككل بصورة ما. وهذا يعني أن فكرة العالم كفكرة شاملة ولو كانت غامضة هي شرط أولي، وسابق منطقيا لإدراك الأشياء إدراكا حسيا. وهاهنا تكون الملاحظة التي هي نتيجة للإدراك الحسي مرتبطة بالتفسير حتى على مستوى الحس المشترك الذي هو ببساطة تطور مطرد وإيضاح وتفسير للمدركات الحسية من خلال الفحص العقلي والإدراكي للوضع الذي يعطي لهذه المدركات الحسية معنى. وبتطوير العلم لهذه العملية الإدراكية أصبحت الملاحظة تتضمن بعدين: بعد حسي، وبعد عقلي(15). وبالإضافة إلى ذلك، فإن الملاحظة لا يمكن أن تكون من عدم، إذ لا بد أن تكون مسبوقة بتراكم معرفي خاص، أي بوجود خلفية معرفية سابقة عن الملاحظة ويمكن أن نتأكد من ذلك حينما نعرف أن الجاهل إذا دخل أحد المختبرات المجهزة بأحدث الأجهزة لا يستطيع أن يقوم بأية ملاحظة علمية، لأنه لا يملك من المعارف والتجارب ما يجعله يستنطق ما يلاحظ. فالملاحظ، إذن، إن لم يكن مزودا بمعرفة مسبقة في المجال المختص فيه تساعده على حسن صياغة الفروض العلمية فإنه يعجز عن محاورة الوقائع الملاحظة، ومن ثم، تصير عملية إدراك ما يحكمها ويفسر وجودها أمرا مستعصيا، وعلى ذلك، فإن القول بأن الملاحظة هي قاعدة الانطلاق في المعرفة العلمية هو قول لا معنى له(16).
لذلك، فإن قيادة العقل بما يملكه من محتوى معرفي للملاحظة أمر ضروري، وقد انتبه إلى ذلك فلاسفة العلم المعاصرون وراحوا يقوضون أركان الدعوى الاستقرائية المتطرفة التي بلغت أوجها مع المذهب التجرباني المنطقي، وأحلوا محله موقفا جديدا يتخذ من النظرية العلمية قاعدة موجهة للملاحظة، كما سبق أن لاحظنا ذلك في فلسفة (بوبر)، ويمكن أن نستمد العون لتوكيد هذا الرأي من ((أدنجنتون) وهو العالم الذي كان وضعيا، ولكنه لم يرم متابعة موقفه هذا فقال: (( عادة ما يزعم العالم أنه يبني اعتقاده اعتمادا على الملاحظة، لا على النظريات. بعبارة أخرى فإن النظريات تكون مفيدة للعالم من حيث إنها تنطوي على أفكار واقتراحات جديدة تتعلق بالبحث، غير أن ((الوقائع الحاسمة)) هي وحدها التي تشكل الأساس الملائم للتوصل إلى نتائج. ومع ذلك لم أصادف أحدا يطبق هذا الزعم. إذ إن الملاحظة وحدها لا تكفي، فنحن لا نثق في حاسة البصر إلا إذا اقتنعنا أولا بمعقولية ما يظهر أمام أعيننا. إن القارئ الذي يميل إلى التقليل من أهمية النظرية، ولا يعترف إلا بالوقائع الملاحظة المحددة، سوف يلقى بكل كتب علم الفلك جانبا، لأنه لا وجود لوقائع ملاحظة على نحو خالص فيما يتعلق بالأجرام السماوية))(17). وهكذا يكون دور النظرية من حيث هي نسق صوري في انطلاق البحث العلمي. وليس من السهل القول بأن هذا النسق يملك بصورة قبلية تأييدا من التجربة أم لا. ولهذا يعمد العالم إلى جملة من الاستنتاجات المنطقية التي تمكنه من الوصول إلى القضايا التي يمكن التثبت منها تجريبيا. ومن البديهي أن تقوم هذه الاستنتاجات على جملة من المبادئ التي لا يمكن التحقق منها بواسطة التجربة. وعلى هذا الأساس تكون منطلقات العلم هي جملة من الأفكار والمبادئ الأساسية التي ينطلق منها مستدلا ومستنتجا لقضايا من المفترض أن تكون مترابطة لتفضي إلى نتائج معقولة، فإن كان هناك اتساق بين المقدمات والنتائج اكتسبت النظرية قوة وتماسكا، وأن كان الأمر عكس ذلك، وكانت فروضها ضعيفة لا بد من تعديلها أو تبديلها. إن هذا التحول العميق في خطة المعرفة برمتها الذي يتمثل في عكس خطوات المنهج العلمي، بحيث لم يعد الانتقال فيه ـ كما كان سابقا ـ من الواقع إلى العقل، بل من العقل إلى الواقع يدل دلالة قاطعة على الحاجة الملحة إلى الميتافيزيقا، وإذا تساءلنا عن وجه الحاجة إليها وقلنا: أين يظهر؟ فإن الإجابة عن ذلك تكون كما يلي: إن رصد الحركة التطورية للعلم تبين بوضوح بأنها أخذت شكلا تصاعديا، فكانت متعثرة في البداية، فبدائية، ثم وصفية تركيبية، إلى أن أصبحت صورية مترابطة منطقيا، وشاملة، وهذا الطابع الشمولي يظهر بكل صدق في الميتافيزيقا التي صاحبت العلوم منذ نشأتها إلى اليوم. حيث أنها تظهر بقوة في النشاط العلمي بمفهومه الواسع في :
1 ـ تقديم نسق أفهومي شامل لكافة جوانب التجربة
2 ـ إذا كانت العلوم تقوم على جملة من المبادئ والمسلمات، وإذا كانت أيضا وظيفتها هي تقديم إجابات على الإشكاليات الضرورية التي يطرحها الوجود الإنساني من دون أن تتساءل عن مصدر هذه الإجابات وقيمتها المعرفية، فمن يفحص ويتشكك، في هذه المبادئ والمسلمات؟ ومن ينظر في القيمة المعرفية لنتائج العلوم؟ إن الميتافيزيقا بمعانيها ومفاهيمها الكلية الواسعة تستطيع أن تزود العلوم بالمبادئ التي تمنحها الوجود ـ كما ذكرنا آنفا ـ ولكونها تقوم على العقل الذي لا تقيده حدود التجربة، ويتمتع بحرية النظر النقدي، فإنها، تقف من نتائج العلوم موقفا لا تبريريا، بل موقفا نقديا وفاحصا لقيمة هذه النتائج، ومدى خدمتها للإنسان، وهذا يؤدي حتما إلى تطور الحركة العلمية، بل الحركة المعرفية برمتها.
وتأسيسا على ما سبق تكون الميتافيزيقا عملا عقليا توليديا (توليد المفاهيم العلمية) وتنظيميا، أي تحاول أن تنظم بصورة شاملة الأحكام العلمية وتجعلها متكاملة وموحدة في نظام مفاهيمي كلي يضم كل العلوم، وهذا العمل لا يمكن أن يكون إلا بعملية تحليلية تهدف إلى توضيح المفاهيم وتفسيرها، ومن ثم، إلى الوقوف على العناصر الكلية الثابتة التي توحد الموقف العلمي برمته، ولذلك فقط، تتجلى لنا وحدة الكون، والطبيعة تلك الوحدة التي تختفي وراء الكثرة المتنوعة، وبذلك فقط يمكن أن نفهم دلالة الوحدة والتنوع التي تظهر لنا في المشهد الكوني البديع. ويبدو أن التفكير العلمي المعاصر بدأ يتجه إلى الاهتمام بهذه النظرة المعرفية الشاملة التي لا تقصي القول الميتافيزيقي في محاولة فهم الحقيقة في وحدتها، وتنوعها، وشموليتها، فصار ينظر إلى الميتافيزيقا من حيث طابعها التقييمي، ومن حيث أنها ((تبحث في الأسس النهائية لطبيعة ووجود موضوعات كل العلوم التجزيئية التي تدخل في دائرة اهتمامها، ومن ثم، يمكننا أن نقول: إن الميتافيزيقا هي تفسير التفسير، إنها علم من نوع ثاني، أو من نوع أعلى من حيث الدرجة، أو باختصار: الميتافيزيقا هي (العلم الشارح)(18) METASCIENCE ))(19).
وما يمكن أن نستخلصه مما تقدم، هو أن الميتافيزيقا تمد المعرفة بجملة من المفاهيم التي لا يمكن إبداعها بنشاط خارج الذهن الإنساني، وخارج مقولات الموروث المعرفي الميتافيزيقي الذي يعد ـ من وجهة نظرنا ـ خميرة كل إبداع علمي أو فني، أو أدبي... وهذا ما يجعل التواصل بين حقول المعرفة أمرا طبيعيا. ويمكن أن نستدل على ذلك بتاريخ العلم الذي تؤكد نظرياته على أنها في الأصل كانت ذات طبيعة ميتافيزيقية. بالإضافة إلى هذه الخاصية التي تتفرد بها الميتافيزيقا، فإنها تطرق أرضا لا يستطيع العلم أن يجول فيها، إذ الجمال، والخير، والحقيقة من حيث هي موضوعات معيارية، لها من المعاني ما يجعل الإنسان يشعر بقيمته، وبوظيفته في هذا الكون هي موضوعات لا يستطيع العلم أن يقول فيها شيئا. ثم أن الروح النقدية التي تستلزمها المعارف سواء كانت إنسانية، أو طبيعية لا تكون مبدأ فعالا إلا إذا كانت مجهزة برؤية شاملة، ومتكاملة عن الحقيقة في بعدها الظاهري، والماورائي. ألا يمكن أن نقول بعد كل ذلك، إن حاجتنا إلى الميتافيزيقا هي حاجة يفرضها الطموح إلى المعرفة المتكاملة، والمتناسقة، الكامنة خلف العالم الظاهري المتناقض؟



#الشريف_زيتوني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكون غير المحدد، مرافعة من أجل اللاحتمية
- الميتافيزيقا والعلوم: الرهانات الجديدة
- إشكالية تجاوز القول الميتافيزيقي
- وقفة مع ابستيمولوجيا كارل بوبر
- ماذا يمكن أن يوقظ فينا وباء الكورونا؟ (خواطر وآمال)
- مجتمعنا الإنساني إلى أين؟


المزيد.....




- -لم أستطع حمايتها-: أب يبكي طفلته التي ماتت خلال المحاولة ال ...
- على وقع قمع الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين بالجامعات.. النواب ال ...
- الصين تتيح للمستخدمين إمكانية للوصول السحابي إلى كمبيوتر كمي ...
- -الخامس من نوعه-.. التلسكوب الفضائي الروسي يكمل مسحا آخر للس ...
- الجيش الروسي يستخدم منظومات جديدة تحسّن عمل الدرونات
- Honor تعلن عن هاتف مميز لهواة التصوير
- الأمن الروسي يعتقل أحد سكان بريموريه بعد الاشتباه بضلوعه بال ...
- ??مباشر: الولايات المتحدة تكمل 50 في المائة من بناء الرصيف ا ...
- عشرات النواب الديمقراطيين يضغطون على بايدن لمنع إسرائيل من ا ...
- أوامر بفض اعتصام جامعة كاليفورنيا المؤيد لفلسطين ورقعة الحرا ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الشريف زيتوني - ضرورة المعرفة الميتافيزيقية