أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الشريف زيتوني - إشكالية تجاوز القول الميتافيزيقي















المزيد.....



إشكالية تجاوز القول الميتافيزيقي


الشريف زيتوني

الحوار المتمدن-العدد: 7076 - 2021 / 11 / 13 - 20:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


إن الحديث عن القول الميتافيزيقي ـ في عصر طغت عليه النزعة العلمية التي لا ترى من الوجود إلا مظهره الخارجي المتغير- يعد في نظر من يرضون باليقين العلمي المؤقت ضربا من الخيال، إذ إنهم لا يرون في القضايا الميتافيزيقية سوى عبارات خالية من المعنى، الأمر الذي دفعهم إلى نبذها، وإبعادها من المجال المعرفي. وقد يحلو للبعض ممن لم يستطع أن يتخطى القول الميتافيزيقي أن يعطي لها وضعا جديدا، يتماشى/ يتطابق مع حركة العلم، كأن يجعلها خزانا للفروض والنظريات العلمية، أو يجعلها علما، ويقول بوجود متافيزيقا علمية، وبذلك تكون الميتافيزيقا ليست بحثا في كيانات لها وجودا حقيقيا، يختلف بالنوع عن الكيانات التي يبحثها العلم سوى من الناحية الوجودية، أو المفاهيمية/التصورات التي تعبر عن حقيقة كل منهما، غير أن المتأمل في هذه المواقف كلها يجد فيها شيئا من الدهشة الفلسفية الدافعة إلى استقصاء أقوالهم ا لعلمية، وتمحيص حججهم لتبيين تهافتها، وإقامة الدليل على بطلانها، ليتسنى له بعد ذلك، بيان صلاحية القول الميتافيزيقي من حيث هو قول يتسع إلى تفسير كل ذلك، ولا تستغني عنه المعرفة الإنسانية برمتها. ذلك ما سنحاول أن نبحثه من خلال النقاط التالية:
ـ الميتافيزيقا والقول بموتها.
ـ نقد القول بموت الميتافيزيقا.
ـ مبررات حياة الميتافيزيقا، ومعرفيتها.
أولا: الميتافيزيقا والقول بموتها
تعتبر الميتافيزيقا في العرف الأرسطي علما أولا، للإشارة إلى أسبقيتها المنطقية على باقي أنواع المعرفة الأخرى مع أنها تأتي بعدها جميعا من ناحية ترتيب الدراسة. وللميتافيزيقا ـ من وجهة نظر أرسطو ـ حقول للبحث والدراسة: أولها يتمثل في الوجود أو الواقع النهائي أي الطبيعة الأساسية وعللها، فهو يبحث في الوجود بما هو كذلك وخصائصه الأساسية، وبذلك فإنها تعد دراسة كلية شاملة لطبيعة الأشياء وعللها القصوى وليس دراسة تجزيئية لها. وأما الثاني، فهو البديهيات والمبادئ التي تطلبها العلوم الأخرى بوصفها منطلقات لها وقواعد لبحثها، إلا أنها تفترضها دون البرهنة عليها وهذه المبادئ هي: مبدأ عدم التناقض، والثالث المرفوع، ومبدأ العلية، والهوية، والوحدة... هذه البديهيات والمبادئ مع أنها تشكل القواعد الجوهرية للعلوم الجزئية وتستخدمها لأغراضها الخاصة، فهي عامة لكل الأنواع المختلفة للوجود، ووظيفة الميتافيزيقا هو ضبطها، وفحصها وتبريرها، والدفاع عنها ضد أي هجوم عليها. والمتأمل في وظيفة الميتافيزيقا ومحتواها المعرفي، والأفكار التي تدافع عنها والتي تشكل موضوعها، يجد أنها من طبيعة خاصة تعلو عن التفسير الحسي، ويبدوـ من وجهة نظرنا ـ أن هذه الطبيعة هي التي كانت سببا في جعلها تكون هدفا لهجوم خصومها الذين تذرعوا بحجج متباينة تترواح بين الإنكار الفلسفي، والرفض العلمي، والتقويض لمعناها اعتمادا على التحليل المنطقي للغة، الأمر الذي أدى إلى القول بلا مشروعيتها في المجال المعرفي بكامله.
إن استقراء التجربة الميتافيزيقية في بعدها التاريخي، يبين بجلاء بأنها تجربة كانت تحمل سؤال البحث عن الوجود الحقيقي. الوجود من حيث هو عنصر مشترك بين الموجودات المختلفة، من أهم خصائصه: الكلية، والتجريد، والبساطة... ولهذا، فإن المعرفة الميتافيزيقية في بداية تشكلها كانت تسعى إلى الكشف عن الوجود العام والمبادئ التي يقوم عليها دون النظر إلى الوجود الظاهري المتغير، ومن ثم، كان موضوع الميتافيزيقا هو المعاني الكلية. وينبغي أن نلاحظ، هاهنا، بأن هذا الفهم للخطاب الميتافيزيقي هو الذي سيطر على الفلسفة اليونانية، والفلسفة الإسلامية، والفلسفة المسيحية الوسيطية إلى أن حدثت قفزة جديدة مع ديكارت تتمثل في تحول الخطاب الميتافيزيقي من البحث قي الوجود إلى البحث في المعرفة، بحيث أصبحت ألذات المفكرة هي أساس كل حقيقة، وقد انسحب هذا النوع من التفكير بنسب متفاوتة على كل فلاسفة الفكر الغربي الحديث الذين مهما حاولوا أن يبنوا أنساقا ميتافيزيقية خاصة بهم، فإنهم لم يبرحوا بشكل فعلي (ارض الكوجيتو الديكارتي ). وبعد ذلك، جاءت الفلسفة الوجودية بنظرة مغايرة للتراث الميتافيزيقي سواء في شكله اليوناني، أو في شكله الغربي الحديث، إذ حولت مجال البحث الميتافيزيقي ومنهجه من الوجود العام والذات ألمفكره إلى البحث في الوجود الإنساني الخاص على اعتبار أن هذا الأخير هو المدخل الحقيقي إلى معرفة الوجود العام. ومهما تغير مجال الخطاب الميتافيزيقي عبر مراحل التطور التاريخي للتفكير الفلسفي، سيظل ـ من وجهة نظرنا ـ محكوما بجملة من الخصائص التي يمكن أن نختزلها فيما يلي:
أولا، إنه خطاب يهتم بدراسة موضوعات لا يمكن للعلوم الجزئية التي تهتم بالوجود من حيث مظهره المتغير أن تتناولها، إذ إن الوجود المشترك بين الموجودات وعلله الأولى والمبادئ التي تقوم عليها المعرفة بصورة عامة (مبدأ الهوية، وعدم التناقض، الوحدة، العلية والجوهر، الماهية...) فضلا عن البحث في المسائل الإلهية، والأخلاق التي تقتضي معرفة ماهية الإنسان ومصيره، ومعاني الحرية والخير والفضيلة فإنها ستظل من اختصاص البحث الميتافيزيقي.
ثانيا، إن المفاهيم الميتافيزيقية التي تتجلى في: الوجود، والعدم، الماهية، الجوهر، المادة، الصورة، المبدأ المطلق، القائم بذاته، الجوهر... وغيرها من المفاهيم التي تعتبر كيانات عقلية مجردة، هي التي تشكل مضمون التراث الميتافيزيقي في جملته منذ أن بدأ يتكون، وينمو باستمرار إلى يومنا هذا، وستبقى هي الأدوات التي يعبر بها العقل البشري على موضوعات الميتافيزيقا. و لا شك، أن هذه المواضيع المختلفة، والمتنوعة، تتميز عن المعرفة العلمية بطابعها التأملى ، ومعانيها العقلية المجردة.
إن هذا الطابع ألتأملي المجرد الذي تتميز به الميتافيزيقا هو الذي دفع الذين جذبتهم المعرفة العلمية الجزئية المتغيرة إلى اعتبار قضاياها، قضايا زائفة تفتقر إلى مقومات وجودها العلمية، واللغوية والمنطقية، الأمر الذي دفعهم إلى أن يطعنوا في مشروعيتها المعرفية، ولا شك في أن الأمر الذي شجعهم على اتخاذ مثل هذا الموقف المعادي للميتافيزيقا، كان مرتبطا أشد الارتباط بالتطورات التي حصلت في حقل المعرفة العلمية سواء في بعدها التجريبي، أو التبصر الجديد الذي حصل في طبيعة المنطق التحليلية، واعتماد المنطق الرمزي لغة للتعبير على القضايا العلمية . وفد كان من نتيجة هذه التطورات أن ظهرت إلى الوجود في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي جماعة تضم فلاسفة، وعلماء التفت حول مورتس شكليك حينما جاء عام 1922م لشغل كرسي الفلسفة بجامعة فيينا، ولذا أطلق على المجموعة التي يتزعمها اسم ((جماعة فيينا)) ، والتي أصبح يطلق عليها فيما بعد اسم (( التجربانية المنطقية)) ، لقد كان لهذه الجماعة موقفا عدوانيا واضحا من الميتافيزيقا ، ويتضح ذلك من خلال المبادئ التي أقاموا عليها نظريتهم العلمية التي يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولا، الفلسفة من حيث هي تحليل وتوضيح للأفكار: وقد أراد التجربانيون المنطقيون من خلال هذا المبدأ أن تكون مهمة الفلسفة محصورة في التحليل المنطقي لعبارات العلماء بهدف الوقوف على المبادئ الأصلية أو الفروض التي يقوم عليها كل علم، ومن ثم، فإن وظيفة الفلسفة لم تعد مرتبطة بالبحث عن الحقائق المتخفية وراء الظواهر، أو توجهها رغبة بناء المذاهب الكبرى، بل أصبحت تكمن في محاولة فهم ما هو معقد في هذا العالم بالاعتماد على ما هو ظاهر للعيان، وهذه وظيفة لا يمكن أن تتحقق إلا بأمرين: ـ الأول، يكون بالتخلص من الألفاظ الميتافيزيقية، وتحويل المشكلات الفلسفية إلى مشكلات قابلة للدراسة العلمية. ـ الثاني، يكمن في اعتبار المعطى التجريبي هو المصدر الأساس لكل معرفة علمية.
ثانيا، استبعاد الميتافيزيقا عن طريق التحليل المنطقي للغة: بتحول مهمة الفلسفة إلى التحليل المنطقي للعبارات العلمية، لم يعد اليقين المعرفي فيما يمكن أن يتصوره العقل، أو ما يمكن أن يستقرى من الطبيعة في شكل قوانين عامة وضرورية تفسر ظواهر الوجود، بل أصبح فيما تحمله اللغة من معاني. ولهذا فإن التحليل المنطقي للغة ـ كما لا حظ كارناب وغيره من التجربانيين المنطقيين ـ يكشف عن زيف العبارات الميتافيزيقية. يقول كارناب: ((بفضل تطور المنطق الحديث، أصبح من الممكن تقديم إجابة جديدة وأكثر دقة عن السؤال المتعلق بصلاحية الميتافيزيقا ومشروعيتها. إن الأبحاث في المنطق التطبيقي أو نظرية المعرفة، التي تحدد مهمتها بتوضيح المحتوى المعرفي للألفاظ العلمية عن طريق التحليل المنطقي، ومن ثم، توضيح التصورات الواردة فيها، قد أدت إلى نتيجة ايجابية، وأخرى سلبية، أم النتيجة الإيجابية، فقد تحققت في العلم التجريبي، فاتضحت التصورات الخاصة بمختلف فروع العلم، وتحددت اقتراناتها من وجهة نظر المنطق الصوري، ونظرية المعرفة. أما في مجال الميتافيزيقا ( بما فيها فلسفات القيم والعلوم المعيارية)، فإن التحليل المنطقي قد أفضى إلى نتيجة سلبية مفادها أن العبارات المزعومة في هذا المجال لا معنى لها)) . ويرد كارناب سبب خلو القضايا الميتافيزيقية إما إلى احتوائها على لفظ يعتقد خطأ أن لها معنى، وإما إلى احتوائها على ألفاظ لها معنى ولكنها وضعت بطريقة لا تخالف القواعد اللغوية، وبالرغم من ذلك، فإنها لا تحمل معنى. وكمثال على النوع الأول، نأخذ عبارة : ((قيصرهو و)، وعلى النوع الثاني، عبارة: (قيصر هو عدد أولي). القضية الأولى، تعتبر من دون معنى لأنها جاءت على نحو يخالف قواعد النحو التي تفرض وجود اسم، أو صفة في مكان حرف "و". وأما القضية الثانية، هي فضية تتطابق مع قواعد النحو، ولكن ليست ذات معنى، لأن ((عبارة عدد أولي)) هو صفة للعدد ولا يمكن حمله بالنفي أو الإثبات على أي موضوع آخر فالعبارة تشبه القضية، ولكنها ليست قضية حقيقية، لأنها لا تقول شيئا، ولا تعبر عن أي حالة للأشياء، لا موجودة ولا غير موجودة .
ثالثا، معيار القابلية للتحقق: إذا كان التحليل المنطقي يكشف عن لا معنى القضايا الميتافيزيقية، كيف يمكن أن نتحقق من صدقها أو كذبها، أو بمعنى آخر كيف يمكن أن نثبت معنى القضايا؟ إن الإجابة عن هذا السؤال في فلسفة التجربانيين المنطقيين تكمن في اعتماد معيار إمكانية التحقق الذي ينص على أن معنى القضية يكمن في طريقة تحققها. وأن المقصود بذلك، عند كل من شلييك، واويزمان، وكارناب، هو أن مصدر التثبت من معنى القضايا في كل الحالات هو الملاحظة الحسية، أي أن محك التحقق من معنى القضية يكمن في مدى تطابقها مع المشاهدة الحسية أو عدم تطابقها معها، وبما أن المفاهيم الميتافيزيقية (( المطلق، الوجود، العدم، الشيء في ذاته، اللامشروط... )) هي مفاهيم لا يوجد ما يطابقها في العالم الخارجي، فهي مفاهيم خالية من المعنى، ومن ثم، وجب عدم الاهتمام بها، أو رميها في الجحيم كما قال من قبل دافيد هيوم ، بل لا بد، من وجهة نظر كارناب، من إخراجها من مجال البحث المعرفي. ويمكن أن نصوغ موقفهم هذا في صورة منطقية على الشكل التالي: إن كل ما لا يمكن التحقق منه خال من المعنى، وقضايا الميتافيزيقا لا يمكن ألتحقق منها، إذن، فهي خالية من المعنى. واعتمادا على معيار القابلية للتحقق تكون القضايا المشروعة عندالتجربانيين المنطقيين لا تتجاوز ثلاث أنواع وهي: القضايا التحليلية وهي قضايا لا تقول شيئا عن الواقع، فضلا عن أنها تحمل صدقها في ذاتها وهذا النوع من القضايا إنما يكون في الرياضيات والمنطق، ثم القضايا المتناقضة، وهي عبارة عن سلب لقضايا النوع الأول على اعتبار أنها تحمل تناقضا داخليا، ولذا، فإن بطلانها يرجع إلى صورتها فقط، فالقضايا التركيبية، وهي القضايا التي تعود في صدقها أو كذبها إلى أحكام التجربة، الأمر الذي يجعلها تنتمي إلى العلم التجريبي، ويترتب عن ذلك نتيجة مفادها أن أي قضية خارجة عن هذه الأنواع الثلاثة ستكون بالضرورة خالية من المعنى، وبما أن الميتافيزيقا ما هي قضايا تحليلية، ولا هي قضايا تجريبية فهي إذن ليست بذات معنى، وبالتالي وجب التخلص منها إذا أردنا أن نكون رؤية علمية نقية عن العالم.
بهذه الطريقة إذن، حذفت الميتافيزيقا من دائرة المعرفة العلمية، وإذا كان لها وجود في الخطاب التجرباني المنطقي فلا يعدو أن يكون سوى (( نزوع عام للحياة))، وهذا يعني ـ في زعمهم ـ أن التراث الميتافيزيقي فما هو إلا نتيجة انفعال نفسي لا يمت بصلة إلى ما قام به العقل المنطقي من محاولة لتفسير الحقائق، والكشف عن طبيعتها. وإذا كانت الميتافيزيقا هي تعبير عن ((نزوع عام للحياة)) فإن للغة التي تستخدمها هي اللغة التعبيرية التي تشير إلى حركات الشخص، وأقواله التي تترجم مشاعره، ومزاجه، وما إلى ذلك، من تغيرات انفعالية أخرى، وبالتالي فهي ليست لغة شيئية تخبرنا عن شيء ما. وإذا كانت تقدم لنا أفكارا و أراء، فإنها لا تستطيع أن تمنحنا حقائق يمكن أن نستدل على صحتها بواسطة معيار القابلية للتحقق. إن هذا الموقف الرافض للميتافيزيقا يتسحب أيضا على القيم الأخلاقية، والجمالية، إذ إن هذه القيم تعبر عما ينبغي أن يكون، وليس عما هو كائن، وما دام التجربانيون المنطقيون لا يهتمون إلا بالكائن اللغوي الشيئي، والكائن اللغوي الصوري، وحسب منطوقهم التجرباني المنطقي، فإن القيم الأخلاقية لا تنتمي إلى أي واحد من هذين المجالين، وعليه، فإنها، تبقى قيم ذاتية لا مجال فيها للمناقشة لأنها، غير قابلة للتحقق، وما دامت هي كذلك، فإنها لا تعبر عن قضايا صادقة أو كاذبة، بقدر ما تعبر عن أحاسيس شخصية. والشيء ذاته يمكن أن يقال عن القيم الجمالية التي تعتمد هي بدورها على حالة المدرك الذاتية، ولا تعتمد على الموضوع المدرك. وبجملة واحدة، تكون القيم لأخلاقية، والجمالية، عبارة عن جملة الأفعال الصادرة عن الأحاسيس والمشاعر والرغبات التي تعبر عن حالات اجتماعية وفردية، الأمر الذي يجعلها قابلة للبحث الاجتماعي والنفسي، ومن ثم، وجب إخراجها من دائرة القول الفلسفي، وجعلها تنتمي إلى علم النفس، وتقديم تحليلها في سياق التحليل المنطقي للتصورات النفسية بشكل عام.
2 ـ نقد الموقف القائل بموت الميتافيزيقا
إن الجهود المعتبرة التي قام بها التجربانيون المنطقيون سواء أكانت على المستوى العلمي، أو على المستوى اللغوي، والمنطقي الرياضي، هي جهود معتبرة لا يمكن نكرانها، إذ إنهم، غيروا بأعمالهم تقنيات البحث العلمي التي أدت إلى تغير نوعي دقيق في آليات ضبط لغة العلم. ولكن، موقفهم المعادي للميتافيزيقا، جعل موقفهم العلمي بعيدا عن المعقول، إذ إنه، وبشيء من التمحيص الدقيق لدعواهم، يمكن أن نكشف عن مغالطات تجعل موقفهم من الميتافيزيقا متناقضا، سواء على المستوى العلمي، أ والمنطقي، أو اللغوي. وأما على المستوى اللغوي، فإن التجربانيين المنطقيين جانبوا الصواب في مسالتين على الأقل. المسألة الأولى: تبدو في أن تحليلهم المنطقي للغة العلم، كان منصبا على العبارات العلمية فقط، ولم يتسع إلى العبارات الميتافيزيقية، وبالتالي، فإن رفضهم للميتافيزيقا من دون تحليل لعباراتها والوقوف على معانيها فيه نوع منه التجني على منطق البحث العلمي الموضوعي. كما أن التحليل المنطقي للغة ينتهي إلى مفارقة غريبة لا تقبلها العقول السليمة، وتتجلى هذه المفارقة في أن تحليلهم للغة كان مقطوع الصلة بالواقع على اعتبار أن إمكانية التحقق المشروعة في مذهبهم هي الإمكانية المنطقية اللغوية فقط، ومن ثم، فقولهم بأن القضايا تأخذ معناها عن طريق تحققها في الواقع أمر غير مقبول طالما بقي بحثهم محصورا في المستوى اللغوي. وأما المسألة الثانية، فتتجلى في إن التجربانيين المنطقيين بربطهم المعنى بما هو تجريبي قد أضروا بنظرية المعنى بحد ذاتها، ذلك أن المعنى، وإن كان على المستوى العلمي يدل فعلا على ما هو حسي تجريبي، ويمكن التثبت منه علميا، فإن له مقاصد أخرى ذهنية لا تتسع لها التجربة، ولكن يمكن تصورها عقليا، وما دامت القضية الفلسفية قد تعكس في أذهان أنصارها وخصومها على السواء صورا من هذا النوع، أي من النوع العقلي، فإن للقضايا الفلسفية صورا تقدمها إلى أفكارنا، وبالتالي، هناك مجال للصدق، والكذب، الأمر الذي يجعلنا نقول بوجود قضايا كاملة جديرة بهذا الاسم في العرف المنطقي.
وأما على المستوى المنطقي، فإن قول التجربانيين المنطقيين بمعيار إمكانية التحقق لا يمكن استساغته منطقيا، لأنه معيار لا يفعل سوى أنه يبين، بأن قضايا الميتافيزيقا هي قضايا لا علمية لا غير، ولعل أول من انتقد هذا المعيار بشيء من الفحص المنطقي هو (كارل بوبر) الذي اقترح معيار التكذيب، وهو معيار ـ يبدو من وجهة نظره ـ لا يستبعد أي قضية مهما كان نوعها، وبالتالي، فإنه لا يستبعد القضايا الميتافيزيقية، بل، يرى أن بعض القضايا الوجودية المستمدة من الدين والسحر والتنجيم، مثل القضايا القائلة (( الشيطان موجود))، و (( يوجد بعث بعد الموت)) . هي قضايا يمكن ـ من وجهة نظر ((كارل بوبر)) ـ التحقق منها منطقيا، وبعد ذلك يمكن استبعادها من المجال العلمي، ولكن من الصعب تكذيبها، ولا نملك سوى أن نقول إنها ـ كما ذكرنا آنفا ـ قضايا لا علمية، وعليه فإن كل ما أثبته التجربانيون المنطقيون هو أن القضايا الميتافيزيقية ليست قضايا علمية، ما دامت ليست رياضية، ولا هي فيزيائية، ولا يلزم منطقيا من كونها هذه أو تلك، أن تكون خالية من المعنى، ولا كاذبة، لأن القضية التي يدعيها التجربانيون المنطقيون والتي تقول: ليست القضية الميتافيزيقية ذات معنى هي قضية كلية سالبة ولا يمكن استنتاجها إلا من قياس من الشكل الأول إحدى مقدمتيه يجب أن تكون سالبة، وهم في الحقيقة ينطلقون من هذا المبدأ: إن كل ما لا يمكن التحقق منه خال من المعنى، وقضايا الميتافيزيقا لا يمكن التحقق منها، إذن، فهي خالية من المعنى، فيكون في هذا توحيد بين قابلية التحقق ووجود المعنى، في حين أنه لا يوجد تطابق بين المفهومين، ويكون في توحيد هما تعسف، وتحكم قائم على خيار شخصي، وليس على دليل منطقي يفرض نفسه على صحيح العقول السليمة.
وأما على ا لمستوى العلمي فإن التجربانيين المنطقيين قد أخطئوا في جانبين: الأول، حاولوا عبثا أن يجعلوا من الفلسفة منطقا للعلم، وهذا يبدو ـ في تقديرنا ـ ضربا من المحال، لأن طبيعة الفلسفة تختلف بالنوع عن طبيعة العلم، إذ إن لكل منهما خصوصياته التي يعرف بها، سواء من حيث المنهج أو الموضوع، بل إن التجربانيين المنطقيين بتحويلهم لغة العلم إلى لغة منطقية موغلة في التجريد، وسعوا من دائرة التفلسف إلى فروع جديدة من العلم، وهذا يعني أن كل توسيع في مجال العلم يؤدي بالضرورة إلى توسيع في مجال الفلسفة، فضلا عن ذلك، فإن المشكلات المعرفية والوجودية تتجاوز كثيرا حدود المعرفة العلمية، الأمر الذي يجعل الفلسفة ذات علاقة عضوية بنشاط الإنسانية الكلي والمتعدد الأشكال التاريخية، والإنسانية، هي مهمة ـ تبدو من وجهة نظرنا ـ مستعصية على العلم الذي لا يفكر في مثل هذه الفضاءات المعرفية. والثاني، يكمن في أن رد كل معرفة إلى العلم أمر لا عقلاني، ولا منطقي، إذ إن المعرفة بما تتضمنه من أنواع، وفروع معرفية لا نهائية، أوسع من أن يحتويها العلم. ولذلك، فإن التجربانيين المنطقيين حينما ردوا كل معرفة إلى العلم، قد قلبوا المفاهيم المنطقية، بحيث صار ـ في عرفهم ـ الجنس متضمنا في النوع، وهذا محال، لأن العلم نوعا تابعا لما فوقه وهو الجنس الذي يمثل شجرة المعرفة التي تضم مختلف أنواع المعارف الفلسفية منها والعلمية، فلا يعقل والحالة هذه أن نرد كل المعارف إلى العلم.
إن هذه المثالب المنطقية، واللغوية، والعلمية التي وقع فيها التجربانيون المنطقيون لا تعني سوى شيئا واحدا، وهو أن المعرفة الميتافيزيقية عصية عن التقويض، كما أن أي رفض لها يؤدي إلى تحطيم معقولية المعرفة برمتها. ولهذا، فإن المعرفة الميتافيزيقية التي هي من طبيعة خاصة لها مكانتها في فضاء المعارف الإنسانية، بل يمكن القول أن هذه المعارف ـ من دون ميتافيزيقا ـ تفقد مبررات وجودها.
3 ـ مبررات استمرار حياة الميتافيزيقا ومعرفيتها
أولا: إن العارف لطبيعة المشاكل الميتافيزيقية، يدرك أنها ذات طبيعة معرفية حقيقية، لأنها تعبر عن حقائق لا يمكن تناولها بالمعرفة العلمية، إذ إنها، تتناول قضايا عقلية لا يمكن أن نحيط بها عن طريق الاستقراء العلمي. فضلا عن أنها، وبالرغم من خصوصيتها، تتقاطع مع العلم في الكثير من المفاهيم التي كان يعتقد أنها مفاهيم ميتافيزيقية، ولكن مع تقدم العلم المعاصر تبين أنها مفاهيم علمية، ضرورية، أدت إلى تغيير أنظار الناس إلى بنية الكون، ويمكن أن نسوق كمثال على ذلك الذرة التي كانت في الفلسفة اليوناينة (ديمقريطس) مفهوما ميتافيزيقيا، وأصبحت في المنظور العلمي المعاصر مفهوما علميا لا يستغني عنه العلماء في تفسير حقيقة العالم. هذا، وإذا كانت المشاكل الميتافيزيقية بسبب طبيعتها اللاحسية تبدو للتجربانيين القدماء منهم والمعاصرين، أنها حقائق زائفة، ومن ثم، لا بد من تركها، فإن هذا ـ بالرغم من بطلانه ـ يبدو أمرا طبيعيا، لأن المشاكل الميتافيزيقية لا تقلق إلا ذوي الحس الميتافيزيقي ، وهي مشاكل تتجاوز حدود التجربة الحسية، على عكس المعرفة العلمية التي تحدها حدود الضرورة الحسية أو الضرورة العقلية والتي تنكر بغير حق فكرة المعرفة الممكنة، و يمكن أن نبين ذلك بشيء من النظر المنطقي الذي يرفض أن تحصر المعرفة العلمية في المدرك المحسوس، ذلك إنه، إذا كان كل محسوس موجودا، وهذا أمر لا يمكن أن ينكره عاقل، فإنه، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقبل العقل الإنساني القول بأن كل موجود محسوس، فيترتب عن ذلك أن الموجود يحتوي على حقائق لا يمكن التحقق منها تجريبيا، وعدم التحقق منها لا يعني أنها غير موجودة، وإذا أردنا أن نأخذ برأي التجربانيين المنطقيين ونأخذ بمعيار إمكانية التحقق، أي نأخذ بما تقدمه لنا التجربة الحسية من معارف، فإن ذلك، كما لا حظ (كارل بوبر) يؤدي إلى سقوط سلطة العلم بصورة كاملة، لأن هناك من الظواهر الطبيعية ما هو غير قابل للتجربة الحسية، ولا للتعيين، ولا حتى للبرهنة، فهل يمكن أن نقول عن هذه الظواهر إنها ظواهر مزيفة؟ فإذا كانت الحقائق الميتافيزيقية من النوع الذي لا يمكن أن يحس به، فإن ذلك، لا يعني أنها غير موجودة، ولا معنى لها، كما أدعى الذين رفضوها، وقد يتساءل البعض عن الكيفية التي تحصل بها المعرفة الميتافيزيقية الممكنة، وإجابة عن ذلك، يمكن القول إن المعرفة الميتافيزيقية الممكنة هي معرفة يهدي إليها، ويبعثها الاستدلال المنطقي الذي ينطلق من مقدمات هي عند أصحابها باعثة على الوصول إلى نتائج يعدونها مرضية لأسباب لا يقرها غيرهم ، وإذا كان هناك من يطلب من المعرفة الميتافيزيقية أن تكون معرفة قابلة للتحقق لكي تكسب مشروعيتها مثل باقي المعارف الأخرى، فإن ذلك يعود ـ في تقديرنا ـ إلى تجاهل طبيعة المعرفة الميتافيزيقية التي هي في الأصل معرفة تتميز بعدم قابليتها للتحقق، وعدم قابليتها للتكذيب. فهي غير قابلة للتحقق، لأن قضاياها لا يمكن ردها إلى قضايا أولية تجريبية، وهذا ما جعل التجربانيين المنطقيين يثورون عليها، ويقولون بلا مشروعيتها، وهي غير قابلة للتكذيب، لأنه ـ كما رأى كارل بوبر ـ إذا كان من الممكن تكذيب القضايا الكلية في المعرفة العلمية عن طريق القضايا الشخصية، فإن ذلك لا يمكن أن يحصل في الميتافيزيقا، لأنها عرفت عبر التاريخ بأنها قضايا لاتجريبية ، ومن ثم، فهي غير قابلة للتكذيب، وفد وضح كارل بوبر ذلك، حينما رأى أن القضية القائلة (( الروح خالدة)) قضية كلية لا يوجد ما يكذبها في الواقع، ومن ثم، فإن القضايا الميتافيزيقية غير قابلة للتكذيب. وتأسيسا على ذلك، فإن القضايا الميتافيزيقية من طبيعة معرفية ممكنة، لا يثبتها التحقيق ولا ينفيها التكذيب، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنها ليست ذات معنى، وبالتالي فهي ليست مشروعة.
ثانيا: إن الميتافيزيقا تستمد حياتها، واستمرارها في الوجود المعرفي مما تقدمه من مبادئ ضرورية لمختلف المعارف، كما أن هذه المعارف بحد ذاتها هي الفضاء الحيوي الذي تتطور فيه الميتافيزيقا ويتوسع مجالها. وهذا ما يجعلنا نقول إن الميتافيزيقا هي منبع للمعرفة، من جهة، وامتداد لها، من جهة أخرى. فيكون بعد ذلك، رمي قضاياها باللامعنى ضرب من المحال، إذ إننا نرى على حق مع كارل بوبر، بأن الميتافيزيقا يمكن أن تكون مصدرا للفروض العلمية، و خير دليل على ذلك، ما وجدناه في تاريخ العلم من حقائق كانت عبارة عن تفسيرات ميتافيزيقية لا هي قابلة للتكذيب، ولا هي قابلة للتحقق بردها إلى الخيرة الحسية، ومع ذلك، كانت محاولة جادة لتفسير الطبيعة الفيزيائية للعالم، ويمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر النظرية الذرية لـ (ديمقريطس) ـ التي ذكرناها آنفا ـ القائلة بأن المادة مركبة من جزيئات صغيرة قابلة للتجزئة، فهذه النظرية مع مرور الزمن وفي وقتنا الحالي تعد من أكبر النظريات العلمية مما يجعل أصحاب الدعوى القائلة بأن الميتافيزيقا لا معنى لها، وبالتالي لا جدوى منها يواجهون بعض الخيارات الصعبة يمكن تلخيصها فيما يلي: 1ـ القول بأن النظرية الذرية كانت دوما نظرية علمية، يلزم عنه ، أنها كانت ذات معنى، وهذا يؤدي حتما إلى الاعتراف بعلمية النظرية الذرية في ثوبها القديم، وهذا أمر ليس من السهل استساغته. 2ـ القول بأن النظرية الذرية ظلت من دون معنى منذ القدم حتى القرن 19م، حين اكتسبت الصورة العلمية، فأصبحت ذات معنى، يؤدي إلى القول بأن علماء القرن 19م، قد استمدوا العون من نظرية تخلو تماما من المعنى في صياغة نظريات ذات معنى، وهذا أمر لا يمكن قبوله لعدم معقوليته. 3ـ إذن، لا يبقى سوى الاعتراف بأن الميتافيزيقا لها معنى، ومفيدة لتطور العلم في آن واحد ، ومن ثم، فهي مشروعة منطقيا ما دام كل رفض لها يؤدي إلى خلخلة معقولية المعرفة.
إن صلاحية الميتافيزيقا تزداد رسوخا في حقل المعرفة، إذا ما عرفنا، بأنها تمد المعارف الأخرى بأسباب الوجود، والتماسك، والثقة في نتائجها، ويكفي دليلا على ذلك، المبادئ التي تقوم عليها المعرفة بمختلف فروعها هي مبادئ في جوهرها ميتافيزيقية، والتي ـ تبدو في تقديرنا ـ ضرورية لكل معرفة تريد أن تكون مقبولة عقليا، بل يمكن القول في غير مبالغة، أن المعرفة من دون هذه المبادئ، تتهاوى معانيها، ويدب إليها الشك المطلق الذي يؤدي في كل الحالات إلى عدمية لا تقبلها العقول السليمة. وهذه المبادئ هي مبادئ أولية لا يمكن بأي حال من الأحوال رفضها، بل أن الذين حاولوا تجاوزها باستبدالها بما يناقضها، احتاجوا إليها لكي يثبتوا دعواهم. إن هذه المبادئ هي: مبدأ الوجود، ومبدأ عدم التناقض، ومبدأ العلية، ومبدأ الغائية. . . فمبدأ الوجود مثلا، وبالرغم، من أنه غير قابل للتعريف بوصفه من الأجناس العليا، لا يمكن إلا أن يكون هو أوضح المعاني الذهنية، وأكثرها ضرورة، إذ ما من شيء يدور في الذهن، إلا وهو على نحو موجود وحتى العدم لا يمكن للذهن أن يتصوره إلا عن طريق الوجود وبواسطة منه. كما أن ما من شيء خارج الذهن إلا وهو موصوف بالوجود، ولذلك، فإن هذا المبدأ الميتافيزيقي هو مبدأ مشترك بين المعاني، ذلك، إننا إذا تدرجنا في تحديد معاني العلوم المختلفة ورتبناها حسب درجة التجريد، فإننا لا نستطيع أن نذهب إلى ما لا نهاية في هذا التدرج، إذ لا بد أن نصل إلى مبدأ أول وأساسي تشترك فيه الكثرة المختلفة من الموجودات، وهو مبدأ الوجود الذي يجمع بين الموجودات. إن هذا المبدأ وغيره من المبادئ لأخرى التي ذكرناها آنفا تجعلنا نقرر حقيقة، وهي أن المعرفة من دون ميتافيزيقا تفقد شروط وجودها. كما أن المعرفة بصورة عامة، والمعرفة العلمية بصورة خاصة، تفتح لا محالة آفاقا جديدة للتأمل العقلي، وقد عبر محمد إقبال عن ذلك، حينما قال: ((بأن ما طرأ على العلم من تطورات حديثة مثل القول بأن طبيعة المادة تموجات ضوئية، ومثل القول، بأن الكون عمل من أعمال الفكر، وأن المكان والزمان لا متناهيان، ومثل القول بعدم التعيين في الطبيعة على ما قال به هيزنبرغ، يجعلنا نقول إن قيام مذهب يقول بإلهيات تعتمد على العقل، لا يكون من البطلان بالقدر الذي سبق إليه كانظ)) . ويمكن أن نضيف إلى ذلك، ما نراه من انفجار معرفي في الوقت الراهن، يكشف عن حقائق لم يكن يعرفها الإنسان من قبل، غير أن هذه ا لحقائق بقدر ما أضاءت لنا الطريق نحو اليقين، فإنها إلى جانب ذلك، بينت لنا، بأن هناك نقاط سوداء، ملغزة، غامضة في الكون، تبعث على التأمل العقلي الذي يجعل العلم يتجاوز محدوديته، ويقفز في المجهول مستعينا بفرضيات ليست من صنعه، ولا من تفكيره، بل من تفكير ميتافيزيقي يتطور بتطور المعرفة العلمية.
ثالثا: إن ما أشرنا إليه سابقا يبين بجلاء حاجتنا إلى الميتافيزيقا، في عصر تطورت فيه المعرفة بكل فروعها، وتظهر حاجتنا إليها خاصة في بناء المعرفة، وإعادة بناءها، والدليل على ذلك، يكمن في ما يقدمه لنا الواقع المعرفي من ملاحظات تؤكد ميلاد حقائق جديدة تنبئ بنوع من التطور المنظم للعقل الإنساني. هذا العقل الذي هو في حاجة ماسة إلى التفكير الميتافيزيقي، بل أن استبعاد هذا التفكير على النحو الذي خطط له كارناب، وغيره، هو نوع من الإعدام اللامبرر للعقل أس الحركة الإنشائية للمعرفة، والبناء الحضاري. وتظهر حاجتنا إلى المعرفة الميتافيزيقية خاصة في المجالات التي لا يمكن أن تكون موضع دراسة علمية مثل: مبادئ الموجودات من حيث هي كذلك، وعلل الوجود، والقوانين التي تحكم وجود الموجودات أو عدمها، وقوانين لفكر الذي ينظر في هذا الوجود إلى غير ذلك من الموضوعات الأخرى التي تهتم بها الميتافيزيقا، ولا يمكن أن يهتم بها العلم. وبالإضافة إلى ذلك، فإن المعرفة الميتافيزيقية هي معرفة شاملة للحقيقة، تلك المعرفة التي لا تنحصر في ما هم ظاهري متغير فحسب، بل تسعى إلى إيجاد تفسير كلي لها، بالتطلع إلى معرفة ماهية الموجودات، وعللها القصوى، التي تصعب على العلم. العلم الذي يهتم بالعلل القريبة من حيث هي علاقات ضرورية بين الظواهر، فهو ينظر في كيف تتكون هذه العلاقات، وكيف يمكن تحويلها إلى قوانين تسير بمقتضاها الظواهر الطبيعية، والإنسانية، ومن ثم يسهل استغلالها أو توظيفها فيما يخدم حياة الإنسان. وبالرغم من الاختلاف الموجود بين العلم والميتافيزيقا، فهما مترابطان، يخدم كل منهما الآخر في حقل المعرفة الإنسانية الشاملة، بل أن درجة الارتباط بينهما دقيقة جدا، الأمر الذي جعل كل من بياجي، وكارل بوبر، يقرر في غير تردد، بأنه لا يمكن أن نقف على خط فاصل بينها. إن المتأمل في مقدرة العلم على استيعاب الظواهر الكونية، والكوانتية، التي تفلت من المشاهدة المباشرة، يسلم لا محالة بضرورة الاستعانة بالمعرفة الميتافيزيقية لتكوين رؤية متكاملة تجمع بين عالم الواقع المتناهي، وعالم الممكن اللامتناهي. وإذا كانت حقيقة الكون واسعة تتجاوز ما هو عيني حسي، فإن ذلك، لا يعني أن هذه الحقيقة تفوق قدرة العقل، وبالتالي لا ينبغي أن نضيع الوقت في النظر فيها، بل أن العقل المتناهي تجلبه الحقائق اللامتناهية، فتجعله يتخطى حدود الواقع الحسي المتنافر والضيق، ليضفر بما هو حقيقي متكامل ومتناسق، ولذا، فإن المعرفة الحقة هي التي تأخذ أبعادها من الجمع بين ما هو تجريبي، وما هو عقلي، وبذلك فقط، يمكن أن نتخطى التجربانية المنطقية التي قيدت العقل والواقع في مقولات لفظية منطقية، فتحولت إلى صورا نية موغلة في التجريد، كما يمكن أن تعود إلى العقل قوته الادراكية التي ضيقها كانط، حينما جعلها لا تتجاوز الظاهري المحسوس.
وخلاصة القول، وتأسيسا على ما سبق، تكون الدعوى القائلة بموت الميتافيزيقا دعوى لا مبررة ، لا منطقيا، ولا لغويا ، ولا علميا، وإن كانت في ظاهرها تدافع عن العلم، وتقدمه، وفائدته للإنسانية، فإن باطنها مسكون بنوايا إيديولوجية لا تخدم المعرفة الموضوعية في شيء. وإذا أردنا فهم الحقيقة في بعدها النسبي المتغير، وبعدها المطلق الثابت، فلا بد أن نؤازر بين الميتافيزيقي والعلمي، بهدف خدمة الإنسان في أبعاده المختلفة، تلك، لأبعاد التي لا يمكن الإحاطة بها إلا بمعرفة تأليفية تأخذ في حسبانها المتناهي واللامتناهي على حد سواء. ومن ثم، فإن الميتافيزيقا من حيث هي معرفة ممكنة، بمقدورها أن تعالج مسائل وجودية، ومعيارية بأدوات تختلف عن أدوات العلم، فضلا عن أنها، تفكر في العلم وفي نتائجه، وآثاره على الوجود البشري، بهدف جعله ينسجم والقيم الإنسانية العليا التي أصبحت ـ بفعل الدعوات الهدامة ـ مبعدة من مجال البناء الحضاري، ولكم هي ناقصة هذه الرؤية في الفكر الفلسفي المعاصر، فهل من عودة إلى إحيائها وبعثها من جديد لتوحيد المعرفة توحيدا يجمع بين مطالب العقل، ومطالب التجربة؟ أفلا يمكن أن نقول بأن قدرتها المفتوحة على وضع المشاريع المعرفية، والتفكير فيما لا يفكر فيه العلم، ورؤيتها التقويمية لنتائج المعارف. . . سببا كافيا لجعل القول بموتها قولا متهافتا؟.



#الشريف_زيتوني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- وقفة مع ابستيمولوجيا كارل بوبر
- ماذا يمكن أن يوقظ فينا وباء الكورونا؟ (خواطر وآمال)
- مجتمعنا الإنساني إلى أين؟


المزيد.....




- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...
- زاخاروفا: إستونيا تتجه إلى-نظام شمولي-
- الإعلام الحربي في حزب الله اللبناني ينشر ملخص عملياته خلال ا ...
- الدرك المغربي يطلق النار على كلب لإنقاذ فتاة قاصر مختطفة
- تنديد فلسطيني بالفيتو الأمريكي
- أردوغان ينتقد الفيتو الأمريكي
- كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي
- تظاهرات بمحيط سفارة إسرائيل في عمان


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الشريف زيتوني - إشكالية تجاوز القول الميتافيزيقي