أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الشريف زيتوني - ماذا يمكن أن يوقظ فينا وباء الكورونا؟ (خواطر وآمال)















المزيد.....



ماذا يمكن أن يوقظ فينا وباء الكورونا؟ (خواطر وآمال)


الشريف زيتوني

الحوار المتمدن-العدد: 6777 - 2021 / 1 / 2 - 20:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


(خواطر وآمال)
لا أحد، يستطيع أن يبقى متفرجا من دون أن يعمل شيئا، أو يقول شيئا حول راهن العالم الإنساني، وما يحصل فيه من حوادث مؤلمة، تتمثل في الموت الذي يهدد الحياة في كل مكان. والمتسبب في الموت كائن جرثومي، لا مرئي، عدو، يأتي من دون استئذان، الخوف في كل مكان، على مستوى الأفراد، والأسر، والأمم، الأخ يخاف من أخيه، والصديق لم يعد باستطاعته لقاء صديقه، وأفراد الأسرة، انتشر بينهم الخوف، يعيشون معا في رعب، وأما على مستوى الأمم ، فقد أغلقت الحدود، وتوقفت كل أشكال المواصلات: برية، وبحرية، جوية، لم يبق سوى التواصل عبر الوسائل الإلكترونية، إلى حين، فقد تحرم هي أيضا، خوفا من الجراثيم الإلكترونية التي قد تنتقل عبر مكالمة هاتفية، أو رسالة قصيرة، لا ندري؟ فكل شيء ممكن مع المفاجئات، فكما جاء وباء الكورونا من دون توقعات مسبقة، بحيث لم يترك للدول الاستعداد لمواجهته، فما المانع من حدوث أي شيء يكون أكثر فتكا للبشرية من هذا الوباء؟. ما دام إنسان العصر مهتما، بمصالح آنية، نفعية، أعد لها كل الوسائل، لكي يحصنها، ويزيد في تراكمها، بكل أدوات القمع، والاستبداد، بما فيها تطوير الأسلحة الفتاكة، مهددا بذلك، أمما بكاملها، حتى لا تقف حائلا بينه، وبين استغلال ما يملكونه في حدودهم الجغرافية من ثروات طبيعية، تؤخذ بدون ثمن، توظف في توفير العيش الرغيد لمن لا يملكونها، وأما الشعوب الأخرى صاحبة الحق في الاستفادة من هذه الثروات، فإنها، بسبب ضعفها، وتقاعسهاـ وتساهلها، أو تزهدها في الدنيا، أخرجت نفسها من دائرة الصراع الحضاري، وبالتالي من التاريخ، وتركت غيرها، يصول ويجول في فضائهم الطبيعي، والاجتماعي، والثقافي، فلم تسلب منهم ثرواتهم الطبيعية فحسب ، بل غيبوا عن ذاتهم، وابتعدوا عن تاريخهم. بسبب ذلك، أو بغيرها من الأسباب، انقسم العالم إلى عالمين: عالم الفقراء الضعفاء، وعالم الأغنياء الأقوياء. لكن وباء الكورونا يضرب بقوة وبدون تمييز؟ يقتل في كل مكان وزمان؟ إنها حرب عالمية، وأية حرب؟ هل تغير مدلول الحرب؟ ما وقع/ وواقع هذه الحرب على وجود المجتمع الإنساني؟ وما تداعياتها على المفاهيم التي نحتت في دوائر الاستعمار؟ فهل يتعظ العقل الإنساني السياسي، ويعود إلى رشده، ويفكر إنسانيا بعقلية السلام العالمي، وبعاطفة حب الإنسان؟ يمكن أن نجيب على هذه الأسئلة من خلال العناصر التالية:
الراهن العالمي المؤلم
حرب من نوع جديد
أولية الكرامة الإنسانية أم الفوضى
أولا: الراهن العالمي المؤلم
نحن الآن، الإنسان الآن، الإنسانية الآن، نمر بمرحلة مأساوية، لم يعرفها التاريخ من جراء ما هو حاصل، في الكوكبة الأرضية ، رائحة الموت في كل مكان، الخوف تملك النفوس البشرية، حداد عم سكان الأرض، توقف كل شيء، لم تعد هناك حركة في كل المنشآت الحيوية للبلدان، شيء واحد فقط، يتحرك خلسة، ليضرب بقوة، جرثومة مجهرية، لا متناهية في الصغر، أصابت العالم بالحيرة، والذهول ، أسكتت كل الأسلحة، من أصغر سلاح إلى الصواريخ، قصيرة المدى، وبعيدة المدي، جمدت أنشطة حاملات الطائرات، والغواصات،كل المواصلات، البرية والبحرية، والجوية. فرقت الأفراد، والأسر، والعائلات، والمجتمعات، والدول، كل دولة تلتزم بحدودها الجغرافية، وتهتم بمشاكلها الداخلية، بمواطنيها، كل الجهود تحولت إلى الجانب الصحي، لا أحد يعبأ بالقطاعات الاقتصادية، والمنشآت الإنتاجية، شبح الركود الاقتصادي، صار واقعا مؤلما،كارثة عالمية أصابت المجتمع الإنساني.
ما يقارب نصف سكان الكوب الأرضي تحت الحجر الصحي، الموتى بمئات الآلاف، والمهددون بالموت أو الذين في طريقه، كثيرون، والمعاناة النفسية لغير المصابين به، عصية على الوصف، إنها محنة إنسانية رهيبة، معضلة لا ندري متى يمكن ألتخلص منها، بأية قوة، كل ما يملكه الإنسان من قوة صارت موضع ارتياب ، سواء أكانت قوة بدنية، أو قوة سلاح ننوي، بيولوجي... أمام كائن مجهري، لا مرئي، هل ينبغي إعادة النظر في دلالات القوة، ومفاهيمها؟ ماذا ينبغي على الفلاسفة، والعلماء أن يفعلوه بعد هذه الكارثة الإنسانية التي جاءت بصورة فجائية أذهلت العقول، بصورة غير منتظرة، هل سيعيدون النظر فيما توصلوا إليه من نتائج، ارتاحوا لها، ليدققوا فيها، لتعديلها، أو تبديلها، أم سيواصلون الثقة المتزايدة، القائلة بأن الإنسان "سيد الطبيعة" أو تلك التي مفادها أن "العلم يجيب على كل ألأسلة التي يطرحها الوجود الإنساني". أم يعودون إلى تلك الحكمة القائلة " أن الإنسان لا يعلم إلا شيئا واحدا، وهو أنه لا يعلم شيئا"؟ بهذه الأزمة المهلكة غير المتوقعة، يكشف الإنسان، محدودية قدراته العقلية والمادية، ويعرف أن ما توصل إليه من تطورات في مجالات العلم المختلفة، لا تحمي وجوده، ولا حياته الفردية، والجماعية. لقد تعطل كل شيء في العالم الإنساني، والدليل على ذلك، هو توقف الحياة في كل مكان، يتجلى ذلك، في غلق دور العبادات، ودور التعليم بمختلف مستوياته، روضات الأطفال، دور الثقافة، وأماكن السياحة، والرياضة والترفيه (حدائق، مساحات عمومية) ، وتوقيف وسائل النقل (العمومية،والخاصة). والأكثر من ذلك، سجن كبير فرضته هذه الجائحة، ألزمت الناس في أن يلتزموا بيوتهم، إذا أرادوا أن يحموا حياتهم، على اعتبار أن الوقاية من هذا الوباء لا تكون إلا بالبقاء في منازلهم، وهي الحيلة الوحيدة التي يمكن أن تحد من انتشار هذا الفيروس، وبالرغم من نجاعتها، فإن تداعياتها على الناس كثيرة، خاصة على المستوى النفسي (قلق، كآبة، الشعور بالملل...) كل ذلك، بسبب تقييد حرياتهم.
إن الحريات الفردية، التي طالب بها فلاسفة الحرية، واختلفوا في وجودها من عدمه، وفي هل هي مطلقة أو نسبية؟ أو تلك الحريات التي تصل إلى درجة الفوضى، بحجة أن الإنسان، كائن حر لا تحده، حدود أخلاقية، ولا قانونية، وباسم الحرية أفعل ما أشاء، أو حتى الحرية التي يمنحها القانون، كل ذلك، صار موضع شك، في ظل هذه الظروف المستجدة، وضعتنا أمام تحديات جديدة، تجعلنا نفكر فيما بعد هذه الكارثة، ونتساءل ماذا ينبغي علينا أن نفعل؟ ونطرح مرة أخرى، إشكالية الحرية، وحدودها، ونفهم، أن الحرية حق إنساني، ليست حكرا على إنسان دون آخر. وأن مصادرتها بدون وجه حق، فعل مضاد للطبيعة البشرية، تمنعه كل الشرائع السماوية، والقوانين الوضعية. إن هذا الوضع الراهن الذي فقدت فيه شعوب العالم، نعمة الحرية مجبرة، سيحفر في ذاكرتهم، ويسجل في تاريخهم، كم هو مؤلم أن يفقد الإنسان حريته، ويدفع كل مستبد، ومعتدي على حريات الآخر، إلى أن يتراجع عن تماديه في ظلم الآخر، والاعتداء عليه، ويبعث في قادة العالم التفكير بجدية في حقوق الشعوب، وخاصة حق الحرية والاستقلال، لأن ذلك هو الطريق الوحيد الذي يؤمن الكوكب الأرضي من الحروب التي لا تخلف سوى الدمار، والأحقاد، التي ستظل سببا في عدم الاستقرار العالمي. ويكفي دليلا على ذلك، الحروب التي وقعت في تاريخ البشرية، وما خلفته من كوارث اجتماعية، وطبيعية، ما تزال آثارها محفورة في ذاكرة الإنسانية وفي كل مكان من العالم. وها نحن، أمام قوة أخرى، تدمر الإنسان دون غيره من الكائنات الأخرى، وصار الإنسان في حرب مع كائن مجهري، لا تنفع معه الوسائل التدميرية (النووية، والبيولوجية). مما يجعلنا نقول، إن الحرب لم تعد بين إنسان وإنسان، بل غدت بين الإنسانية كلها، وكائن جرثومي مجهري؟ الكل ضد جزيء حيوي مدمر للكائنات العاقلة؟
ثانيا: حرب من نوع جديد
أتى من الكوب الأرضي، كائنا غريبا، خطيرا، جرثومة جزيئية تضرب الإنسان دون غيره من الكائنات الأخرى، وكأنها مبرمجة فقط على ذلك، ضرباتها لا تميز بين صغير وكبير، بين جنس وآخر، بين أمة وأخرى، خطرها موجود في كل مكان، انتشرت في كامل المعمورة. لا أحد يعترض طريقها، عولمة حقيقية، اخترقت كل الحدود، جغرافية، ثقافية، تاريخية، اجتماعية، سياسية، تجاوزت كل الموانع، متحدية عقل الإنسان، وما أنتجه من معارف. الكل وقف ضدها، لمجابهتها، لمحاربتها، بكل الوسائل، مع ذلك لم ينتصر عليها. يحضر الإنسان المعاصر حربا لا متوازنة بين قوتين، قوة ما يملكه الإنسان من أسلحة طالما استخدمها ضد أخيه الإنسان ليخضعه، ويذله، ويسلبه حقه في الوجود، وقوة لا تريد شيئا، ليس لها غايات، ولا تريد تنافسا على تملك ما، أو نهب ثروات بقوة النار، غير أنها تحصد الأرواح. من المعروف، إنه في منطق الحرب التي نعرفها، (فردية، أهلية، أو دولية)، فإنها تكون موجهة نحو أهداف معينة، المتحاربون يعرفون بعضهم بعضا، ففي الحرب الدولية مثلا، تكون بين متحاربين، يملك كل منهما قوة عسكرية، ضاربة، وراءها عقل مدبر، يسير الحرب وفق خطط، واستراتيجيات ... لتحقيق أهداف معلنة، وغير معلنة. وبالتالي تكون الحرب تعريفا هي: ((صراع عسكري واسع النطاق بين مجموعتين بشريتين على الأقل)) . وقد تكون –كما يرى كانط – دفاعية أو عدوانية،وعند دعاة السلام المطلق، يرفضون كل تقييم لها، وأما دعاة السلام المعتدلين، فإنهم، يلجئون لها كآخر حل دفاعي. ماكيافيلي: تكون الحرب عادلة، حينما تكون ضرورية. أما هيجل: الحرب تمد الصحة الأخلاقية للشعوب، سارتر: الحرب، لا نصنعها، بل هي التي تصنعنا. هذه بعض الرؤى تعرف أو تصف الحرب، لكن يبدو أنها في كل الحالات ضرورية، وتكون بين البشر، مما لا شك فيه، فإنها، إذا حدثت تخلف خسائر بشرية كبيرة، وتدمير لكل المنشآت، بل تصل إلى سحق أمم من الوجود، هي في ذلك، لا تختلف من حيث الخسائر البشرية، مع هذه الحرب الجديدة، فضلا عما، تحدثه من خسائر اقتصادية، وتعطيل في الحياة الاجتماعية، لكن الفرق يكمن في أن هذه الحرب ليست بين مجموعتين بشريتين، كما أشرنا سابقا، بل بين المجتمع الإنساني بكامله، المجتمع الذي يمتلك قوة العلم والتكنولوجيا، قوة الأسلحة الفتاكة، لكنه مع ذلك يقف عاجزا أمام جرثومة مجهريه، كائن حي غريب، ضرباته غير محسوبة، وغير متوقعة، لم يأت غازيا من كواكب آخر، كما تصوره لنا العلوم الخيالية، إنه من الكوكب الأرضي، مملكة الإنسان العاقل، فالحرب إذن حرب من نوع جديد، أرضية، بين العالم الإنساني بكامله، وعدو مجهري، عطل حياة الإنسان بكاملها. عدوانيته وحدت العالم الإنساني، ربما لأول مرة في تاريخ البشرية، وحدته لكي يجابهه، وينقض الحياة الإنسانية، من التدمير والهلاك، أو من السير إلى الهاوية على حد تعبير إدغار موران .
لا نشك أبدا، في أن الإنسانية ستخرج منتصرة، من هذا التحدي الخطير، وهذا الوباء العالمي، كما خرجت من قبل، مما أصابها، من أوبئة، أو كوارث طبيعية، أو حروب عدوانية بين الشعوب، سيرتها مصالح آنية، مؤقتة، حصدت أرواحا لا تحصى ولا تعد. كذلك، فإن هذا الوباء المهلك، وبالنظر إلى الجهود المكثفة، والتضامن الوطني، والدولي، لمحاربته، لإعادة الحياة إلى مجراها الطبيعي. غير أنه ينبغي أن نفهم بأنه إذا كان الانتصار مهم، لكن بأي ثمن؟ الثمن كان غاليا، مأساويا، مؤلما بكل ما تحمله هذه الكلمات من ثقل في الدلالات. لكن يبقى إشكالا كبيرا على فرض، أن الإنسانية خرجت منتصرة، وهو هل سيتعظ قادة العالم الإنساني، ومن سار في ركبهم من هذه التجربة الأليمة، ليجنبوا الكوكب الأرضي من عوامل أسباب الذهاب إلى الهاوية؟.
إن أسباب الذهاب إلى الهاوية، أو الكارثة لمتعددة وأكثرها دمارا وسحقا للوجود الإنساني، تكمن في تكديس الأسلحة بمختلف أنواعها، وخاصة الفتاكة (نووية، كيماوية، بيولوجية)، المصنوعة بغاية، الصراع على تزعم العالم، أو تهديد الشعوب المغلوبة على أمرها بهدف ابتزازها. إن نسيان أو تناسي المصير الإنساني المشترك، لا ينبع إلا من نزعة الأنانية، وحب الذات، وكراهية الآخر، وهي نزعة مذمومة، لا أخلاقية، من تداعياتها إنها تؤدي في كل الحالات إلى تدمير الحياة برمتها. إن الخطأ مسألة متأصلة في الطبيعة البشرية، ويكفي أن نقرأ في صفحات التاريخ الإنساني بكل مراحله، وأحقابه،كم من فرد، أو أمة، أو حضارة بكاملها، اندثرت بسبب دعوات، تبدو أنها صائبة، لكن سرعان ما يكتشف بأنها لم تكن كذلك. فماذا يجب على العقل الإنساني المعاصر الذي وصل إلى صناعة أسلحة التدمير الشامل، أن يعمل؟. إن الاستفادة من التاريخ بماضيه، وحاضره، والنظر بما حدث، وما يحدث، وما سيحدث، ليس واجبا فحسب، بل ضرورة لتجنب ما هو أتعس، وأكثر ألما. لذا فإن ما هو مصنوع من الأسلحة الفتاكة، وما هو الآن بصدد التطوير لأهداف عسكرية، بحتة سيكون ضحيتها لا محالة الإنسان في كل مكان، بل الكوكب الأرضي بكامله. سوى أستخدم بإرادة أو من دونها، أو بخطأ بشري، نتيجة خلل تقني في احد مصانع هذه الأسلحة، أو تسرب جرثومي من أحد المخابر المخصصة لذلك. يقول كارل بوبر على حق: (( ليست إدارة العالم سهلة، إذ يؤثر كل نوع حيواني، وكل نوع نباتي، بل وكل نوع من أنواع البكتيريا في بيئة الأنواع الأخرى، وربما كان تأثيرنا نحن، إلا أنه من الممكن دائما أن يقضي فيروس جديد أو وباء فيروس جديد بل وباء بكتيري جديد على الإنسانية في زمن قصير)) ، هذا الرأي لا يخلو من الصدق بدليل ما هو حاصل الآن، وما حصل نتيجةـ الانفجار الننوي الذي وقع بمحطة تشيرنوبيل ، وما أحدثه من خسائر بشرية، ومناخية، ومادية. وقبل ذلك، كارثة هيروشيما، ونغزاكي. كل هذه الأحداث الكارثية، وغيرها، تنبئ بمستقبل إنساني غير آمن. إن الصراع بين الأمم أو الدول القوية الذي توجهه في الكثير من الأحوال أيديولوجيات ضيقة، تنبني على عقدة التفوق، والتعالي، والميل نحو السيطرة على الآخر، وإخضاعه، لا تؤدي في كل الأحوال، إلا إلى عدم استقرار العالم، وتمديد عمر الحروب التي ستؤدي إلى التدمير التدريجي، للحياة على هذه الأرض.
إن راهن العالم المصاب بجائحة فيروس كورونا، ليبين حقيقة هامة، لا يمكن نكرانها، وهو العمل بشيء من التعاون للتغلب عليه، ذلك عن طريق مجابهته بكل الوسائل المتاحة، والمناسبة، ومما لا شك فيه، فإن هذه الجهود ستكلل بالنجاح. لكن ما ذا بعد هذه الجائحة؟ هذا الوباء، الذي سيخلف لا محالة أثارا، سيطول أمدها، وسيكون لها تداعيات سلبية على المصير المشترك للإنسانية، وهم جديد يضاف إلى الهموم القديمة الناتجة عن فيروس الفقر، والعنصرية، والاستبداد، وبقايا الاستدمار؟ أو ليس من الضروري أن يفكر الإنسان في الإنسان والاهتمام به، بدلا من الاهتمام بكل شيء، ونسيانه. نعتقد والحالة هذه، أن حالة الموت اليومي في كل مكان من الكوكب الأرضي، وما يخلفه ذلك، من آلام، وأحزان، لفقدان أم، أو أب، أخ، أو صديق، أو عزيز... ناهيك عن موجة الخوف التي تملكت كل نفس إنسانية في كل بقعة من الأرض، نعتقد إنها ستبعث في العقول الحرة، والمتزنة، في البشرية كلها، بأن ما يمكن أن يبنيه الإنسان، بالعواطف الراقية التي من أعلاها الحب الإنساني، يتجاوز بكثير ما يمكن أن يتحقق بوسائل العنف والكراهية، إذ إن، بالحب الإنساني، يمكن أن يقتل الإنسان في ذاته بذرات الإرهاب والقتل، ويحي فيها خصال التواصل الإنساني التي من أهمها، الحوار العقلي الأخلاقي الذي أساسه احترام الذات الإنسانية التي تقدسها الشرائع الدينية، وتحميها القوانين والدساتير التي سنت من أجل ذلك. ينبغي أن يتحول مركز الاهتمام في كل المجالات إلى الإنسان، الإنسان الذي شيئته العلوم الاجتماعية، وقالت بموته بعض فلسفات الموتات ( موت الإله، موت الإنسان، موت الدين، موت الميتافيزيقا...). إن الوضع الراهن، وما أفرزه من حوادث مؤلمة، من شأنها أن تثير إشكالات فلسفية جديدة، حول مصير الإنسان ووجوده، مكانته في هذا العالم، حول القيم الأخلاقية، والروحية التي أزيلت، أو أبعدت من معادلة البناء الحضاري. إن إعادة النظر في العقلانيات التي تؤيد دراسة الموضوعات في استقلال عن الذات الإنسانية، هي عقلانيات حولت العالم بما فيه الإنسان، إلى كومة من التراكمات المادية الجامدة، الأمر الذي أدى إلى قتل ما هو إنساني، ما هو روحي مبدأ التواصل بين الذوات الإنسانية.كما أن الواقع السياسي المعاصر، يبين حقيقة هامة، تتمثل في تفضيل الاهتمام بالعالم دون الإنسان، جاء في كتاب: ما السياسة ل: حنة أرندت، تساؤلا بحمولة ثقيلة طرح في مائدة مستديرة: ما هو الهم الأساسي الراهن؟ وقد كان الجواب بالإجماع تقريبا : الإنسان. وقد تساءلت أيضا، هل الإنسان أم العالم هو القضية الجوهرية في الأزمنة الراهنة؟ لفتت الانتباه إلى مسألة جوهرية، تتمثل في أن ما هو يقيني: إن الذي يضع الإنسان في مركز الاهتمامات المعاصرة، ومن يزعم واجب تغييره ونجدته هو بعمق غير سياسي، لأن في السياسية نجد دائما اهتمام بالعالم لا بالإنسان . وهذه حقيقة، ويمكن أن نضيف تساءلا آخرا، وهو على أية نحو يهتم السياسي بالعالم؟ لا نجانب الصواب إن قلنا بأنه يراه حلبة صراع، وتنافس، وساحة قتال، وتصريف المصالح الأنانية، ولا يتحقق ذلك،إلا بوسائل، وأدوات القوة، لتدمير الحياة بكاملها (بشرية، وطبيعة) من أجل المؤقت، ولهذا، ماذا يجني الإنسان في هذا العالم الذي يعد هو بذاته جزءا منه؟ تقول حنة أرندت: ((سيكون من الممكن تصور أن كارثة معينة ستكون من الشناعة، بحيث تختزل العالم إلى عدم، وأن قدرات الإنسان التي تكون العالم، والتي تجعله واقعيا، تقوم بجمعه، ستجعل الإنسان يكون محروما من العالم بنفس الطريقة التي تحرم الحيوان...نستطيع أيضا أن نتخيل أن حربا نووية ... يمكن أن تثير كارثة ما بتدمير العالم كله.)) . ما دفع أيضا أحد الأصوات المناهضة للحرب النووية وهو برتراند راسل إلى أن يقول: ((هناك حاجة لإنشاء - وبدون تأخير - حركة جماهيرية عالمية كبيرة تطالب بالتخلي عن الأسلحة النووية ونبذ الحرب كوسيلة لتسوية النزاعات.)) ، وهذا مطلب يظل قائما دوما، لإنقاذ العالم من أيدي القوى التي لا ترى حلا للنزعات العالمية إلا بالحرب المدمرة التي تخلف ملايين الموتى، وترجع حضارات إنسانية بأكملها إلى مراحلها البدائية.
أما حان الوقت، والحالة الجديدة هذه التي يعيشها العالم مع نوع جديد من الحرب الجديدة المدمرة للبشر مع فيروس وبائي، لا نعلم مصدره للتفكير بحزم، وحسم في واجب أو ضرورة قراءة جديدة للعصر الجديد، وتغيير أسلوب التفكير في كل شيء، والنظر إلى الإنسان ليس كأداة، بل كغاية يعمل العقل الإنساني على إنجازها؟ إن ذلك ، لا يتحقق، إلا إذا غيرنا ذواتنا، وأدركنا حقيقتنا، وجوهرنا، وفهمنا قوله تعالى: (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)) ، إنها تحمل في شطرها الثاني، إرادة بينة، فإن التغيير يأتي من داخل الإنسان، وليس من خارجه، فهو الذي يريد، ما يريد، خيرا أو شرا، والجدارة الإنسانية، تتحقق بالميل إلى فعل الخير، وإذا فعل الإنسان عكس ذلك، فقد اضر بوجوده. إن النظر إلى الإنسان، من حيث هو الأصل في التأثير في الوجود، وما يحيط به، وذلك عن الإحاطة بذاته فكرة دعا إليها فلاسفة العقلانية، نذكر أحدهما في الفلسفة الإغريقية سقراط الذي قال: اعرف نفسك بنفسك، ودلالة ذلك، تكمن في أن الإنسان لا يستطيع، أن يستوعب ما حوله، إذا جهل بمكنونات ذاته. وفي الفلسفة المعاصرة، وجدنا من أهاله وضع الإنسان والمجتمع الإنساني، يدعو إلى تصور جديد إلى الحياة، جوهره العناية بكرامة الإنسان، وبالمجتمع الإنساني، وبالكون بكامله. وهذا يحتم علينا واجب إعادة النظر في كل ما ينتجه العقل الإنساني في المجالات المعرفية المختلفة التي لا ينبغي ردها إلى أصول طبيعية جامدة فجسب، بل أصول روحية وإنسانية، أي: أن ننظر إلى كل ما ننتجه من معارف بمنطق معياري إنساني بالدرجة الأولى، بذلك فقط يمكن أن نتفاءل بمستقبل البشرية.
ثالثا: أولوية الكرامة الإنسانية أم الفوضى
لطالما ملأت كلمة الإنسانية، أمهات الكتب الفلسفية، والسياسية، والآداب والفنون، وغيرها من المؤلفات التي تهتم بالإنسان، الفت حولها روايات، وقصائد، وملحميات ... وقد كانت كلها، تحمل تفاءلا بمستقبل إنساني أفضل من الراهن. لكن مع ذلك، كم سحقت من أرواح، ودمرت من مجتمعات إنسانية باسمها؛ لقد أصبحت الإنسانية مبررا للاستبداد، والاستعباد، بدلا من أن تكون تصورا مركبا مستوعبا لمكونات الإنسان الروحية والمادية، لطموحه، وميله للعيش في كنف الحرية والعدالة، يمارس حقوقه الروحية والمدنية وفقا لقانون عادل بين الأفراد في المجتمع، ولقانون دولي، يضبط بكل صرامة حقوق الدول بدون نزاع. بذلك فقط يمكن أن تتجنب الإنسانية الصراع الدموي الذي ينزل بالأمم إلى مرتبة المجتمعات البدائية المتوحشة، فهل بقي للوحشية مكانة في عالم إنساني قطع أشواطا تاريخية ليبلغ هذه المرتبة من التحضر. إنه لمن التناقض الفظيع أن نتحدث عن حضارة إنسانية تبطن توحشا، أو يسكنها جنون التوحش، ذلك الذي يتبدى في غطرسة الأقوياء، واضطهادهم للضعفاء، مع أن القوي والضعيف، ليس إلا إنسانا، له ما له، وعليه ما عليه في هذا الكون الذي يتسع للجميع. إن انقسام العالم الإنساني إلى أقوياء وضعفاء، ليس قدرا محتوما، ولم يكن أمرا طبيعيا، بل كل الناس ولدوا سواسية وأحرار، وإنما الذي فاضل بينهم هي الممارسات غير العادلة التي تنتهي في كل الأحوال إلى التكسب غير المشروع بوسائل القمع والترهيب والاستبداد، إما بين الأفراد، أو بين الأمم، إذ كم من فرد استولى بالقوة، أو بالتحيل على فرد آخر، أخذ منه أملاكه عنوة، وكم من أمة أعتدت على أمة أخرى سلبتها ثرواتها ظلما وعدوانا. وما صفحات تاريخ الإنسانية في جانبها السوداوي، وراهنها المؤلم الذي نراه في الشعوب المغلوبة على أمرها في معاناتها من ويلات الفقر المدقع، وتداعياته على حياتهم الاجتماعية، والثقافية، والتعليمية، بل على مصيرهم، إلا بينة دامغة لا يمكن نكرانها، تبين الثقوب السوداء في الحضارة الإنسانية المعاصرة التي تسير نحو مصير لا ندري ما هي نهايته؟. لا يمكن تاريخيا إخفاء أعمال التوحش الإنساني التي تتجلى في الحروب الدامية، بسبب الاستعمار المدمر لشعوب بأكملها، طمعا في الاستيلاء على ثرواتها، أو صراعات قومية عنصرية، أو دينية، كان من نتائجها سقوط أمم بأكملها تحت خط الفقر، الفقر المتفشي في الدول التي وقعت تحت القوى الاستعمارية الغربية، والذي ما يزال إلى اليوم، يهدد هذه الدول بالدمار، بل إنه العلة الحقيقية التي دفعت/تدفع بقوافل من المهاجرين إلى أوربا التي في نظرهم جنة الأرض، أو ربما، بطريقة أخرى هي مطالبة باسترجاع ثرواتهم التي أخذت منه بالغلبة، من جهة، ومن جهة أخرى، بأن يرفع الاستعمار يده عن هذه البلدان وتركها تؤمن مستقبلها بكل حرية.
إن الواقع الإنساني المعاصر، ليس بأحسن حال من الأمس، ولا يمكن الاعتقاد في أنه سيكون بخير مستقبلا، ذلك، أن الأزمة الحادة التي نشاهدها، والتي ازدادت عمقا بسبب تفشي وباء كورونا، هي أزمة ستؤول لا محالة إلى مجاعة تمس جزءا كبيرا من المجتمع الإنساني، ستعمق من دون شك، في تدهور حضارة العلم والتكنولوجيا. الحضارة التي أخطأت الطريق التي كانت من الممكن أن تؤدي إلى شيء من التوازن الدولي المبني على قيم العدالة والمساواة والحق.
لقد غابت/غيبت هذه القيم من المجال السياسي _ الاقتصادي، وأبعدت من مجال العلوم بمختلف تخصصاتها، وأصبحت الحضارة الإنسانية – كما يرى ادغار موران – ((تسير على فكرة قديمة، وهي فكرة سفينة فضائية ، هي الأرض، تبحر على متنها الإنسانية. هذه السفينة تسير اليوم بأربع محركات: العلوم، التقنية، الاقتصاد، الربح، وهذه المحركات ليست مراقبة)) ، لقد نبذت، هذه الحضارة كل ما يمكن أن يوجه هذه المحركات إلى خدمة العالم الإنساني والطبيعي، ويخلق نوعا من التوازن بين المادة والروح، فيكون الوجه القيمي الإنساني هو الأصل في مراقبة، وتوجيه منتجات العقل الإنساني للحفاظ على كرامة الإنسان أولا، وصيانة الأرض، مأوى البشرية ثانيا، ومن ثم، تأمين مستقبل الحياة على هذا الكوكب. هذا الكوكب الذي لا يعد ملكا للا واحد من البشر، لكن يحق لكل إنسان أن يعيش فيه بكرامة، تحميها الشرائع، والدساتير، والقوانين العادلة.
مما لا شك فيه، أن البحث في الذاكرة الإنسانية، يكشف عن دعوات تعالت منادية، أو مطالبة باحترام حياة الإنسان، وحقه في العيش بكرامة على هذه الأرض، والتمتع بالسلم والسلام، بدلا من ويلات الحرب والعنف، الحرب والعنف وما خلفاه – كما سبق وأن قلنا – من دمار وتقتيل، بل أن آلتهما ما تزال تحصد أرواحا بريئة إلى يومنا هذا، إلى جانب الكورونا، الآلة الحربية الجديدة التي تضرب في كل مكان، تقتل من دون تمييز. ألم يحن الوقت لكي يراجع المجتمع الإنساني تاريخه، وثقافته، وقيمه، وشرائعه؟ ألا يكون من الواجب إعادة النظر في الأسس التي قامت عليها الحضارة المادية، وانتهت إلى الأفول، بل إلى التدهور؟. لقد كتب شبنغلر كتابا أسماه: أفول الحضارة الغربية. بل أن الأفول قد أصاب العالم الإنساني بكامله، بسبب النظرة الطبيعية الأحادية لحضارة الغرب، وابتعادها عن القيم الروحية فمات الضمير الإنساني، وأصبح كل شيء مباحا في عالم تحكمه سياسات لا ديمقراطية، ولا عادلة، انجر عنها مجتمع دولي غير متوازن، وغير مستقر، يحتكم إلى منطق الاستبداد والظلم في تسوية القضايا الدولية. إن تمحيصا نقديا لما أنتجته حضارة الغرب من علوم بلا قيم ومن فلسفات نسبوية قائمة على ما هو متغير مبتعدة على كل ما هو مطلق يحكم خطى الإنسان في عالم المتغيرات، لهو شرط ضروري لإعادة التوازن للمجتمع الإنساني. لقد وثق الإنسان بالعلوم والتكنولوجيا، وله أن يحتفل بالانتصارات التي حققها باستخدامه لها في التغلب على الطبيعة، ومحاولة فهم أسرار الكون آملا أن يحقق ما ذهب إليه ديكارت حينما أعلن مقولته "الإنسان سيد الطبيعة"، فتحرر الإنسان من القيود التي كانت تفرضها عليه الكنيسة وأتباعها، بل يمكن القول إنه بدأ يعتقد في أنه سيد هذا الكون، وأنه لا وجود لمخطط مسبق أزلي يحكم الكون وما فيه، ولهذا سيحمله الغرور، ويؤله ذاته، لتبدأ رحلة غزو الكون، وسوف تستمر تلك الرحلة للتوغل في ما يقبل من الأزمنة الموالية، وتطور بالتدريج على يد فلاسفة مثل بوفون Buffon، وماركس... وغيرهما، وستبقى هذه الرسالة – كما يرى – إدغار موران – إلى سنة 1970م، وقد كان من نتائج سيطرة الإنسان على الطبيعة، أن تدهور المجال الحيوي، وقد أمتد هذا التدهور إلى الحياة والمجتمع الإنسانين . إن نزعة تأليه الإنسان، جوهر فكرة الأنسة في حضارة الغرب، أدت إلى ظهور نزعة تفوق الجنس الأبيض على غيره من الأجناس الأخرى، وذلك ما تطالعنا بها الدراسات الأنتربولوجية التي حرفت عن مجراها وأهدافها العلمية، والتي سميت بالأنتروبولوجيا الكولونيالية، لأنها وظفت في خدمة الاستعمار، نجد من روادها - على سبيل المثال لا الحصر- إدموند دوتيEdmond Doutté ((1867 – 1926م)) من مدرسة الجزائر . وروبار مونتاني Robert Montaigne . فقد كانت الدراسات الاجتماعية تنطلق من خلفيات ايديولوجية، تهدف إلى خدمة الاستعمار في الجزائر بصورة خاصة، والمغرب العربي بصورة عامة، بل وفي كل المجتمعات التي رزحت تحت نار الاستعمار الغربي. لقد كانت هذه الدراسات منصبة على الجانب الديني، والسحري، وكذلك التركيبة البشرية لشعوب منطقة شمال إفريقيا، لتطبيق سياسة "فرق تسد" التي ساعدته على إحكام القبضة على هذه المنطقة. وفي الواقع هذه النوع من الدراسات ما هو سوى، استمرار للأبحاث الاجتماعية الغربية التي بدأت مع علم الاجتماع عند أجست كونت، وكذلكـ ليفي بريل، فمع الأول كانت الأبحاث على المجتمعات الأقل تقدما لمتابعة المراحل التي مرت بها هذه المجتمعات لكي تصل إلى المرحلة الوضعية، وأما مع الثاني، فقد كانت الأبحاث حول العقلية البدائية. في كل الحالات يمكن أن نفهم بأن علم الاجتماع، اتخذ مسارين: مسار حضارة الغرب، ومسار المجتمعات غير الغربية . وهذه نظرة غير علمية، على اعتبار أنها، تقوم على نظرة تمييزية بين المجتمعات، فهناك مجتمعات غربية متحضرة، وأخرى غير ذلك، مجتمعات غربية لها تاريخ ، وأخرى ليس لها تاريخ، وهذه حقيقة تتناقض مع دلالة الحضارة بمفهومها العقلاني، الذي يخالف ما توصل إليه ليفي بريل الذي اعتبر الشعوب البدائية كائنات طفولية غامضة منحبسة داخل الفكر السحري، وغابت عنه أن العقلانية، موجودة في كل شكل من أشكال الحضارة .إن هذا النوع من الدراسات الاجتماعية لا تخدم إلا نزعات التفوق العنصري، وتذكي نزعة الاستعمار الذي دمر/ يدمر شعوبا بأكملها، بحجة أنها، لم تصل بعد إلى مرتبة الإنسانية. فمثل هذه النوع من الدراسات لا يساعد على التواصل بين الشعوب، ولا يؤدي إلى إقامة حوار نديا، وبالتالي إلى إقامة مجتمع إنساني، يقوم على مبدأ العيش معا في كنف الحرية والعدل. إن هذا النوع من الدراسات والمرتبط بمشروع كبير في العالم العربي وهو مشروع الاستشراق المرتبط بالدوائر الكولونيالية، لا يمت بصلة إلى المعرفة العلمية التي ينبغي أن تقوم على خلفيات لا إديولوجية، ولا عنصرية، لكي تقدم للمجتمع عناصر البناء والإصلاح والتقدم. فقد انحرفت هذه الدراسات على أبعاد الأخلاق العلمية والإنسانية التي تنبذ التفرقة على أساس الجنس، أو الفقر والغناء، أو الضعيف والقوي... الأمر الذي أدى إلى تفشي نزعة الكراهية والعنف بين الشعوب.
هذا، ويمكن أن نشير أيضا إلى ما نتج عن العلوم الطبيعية والبيولوجيا، والفلسفات التي أللهت الإنسان واعتقدت بأنه يملك قدرات خارقة يمكن أن تسير الكون، وتديره لصالحه، بأنها لا تعبر سوى عن خرافة كذبتها جائحة كورونا، ولهذا، فإن التخلي عن هذا الغرور لمن الأولويات التي ينبغي التخلي عنها للانتقال إلى حقبة تاريخية جديدة، إلى عودة الذات الإنسانية إلى ذاتها، وإدراك جهلها، وحدود مجالها الإدراكي، وان المعرفة التي اكتسبها الإنسان ستظل بعيدة عن الإحاطة بكل مكنونات هذه الكون الشاسع. كما أن إعادة النظر في النظريات العلمية والفلسفية التي ترى الإنسان كومة من المادة أو كائن طبيعي متطور، ينطبق عليه ما ينطبق على الكائنات المادية ألأخرى، وبالتالي، فإن ما فيه من تجاوز لهذه الطبيعة كالروح ذات المصدر الخارجي عن هذا الكون هي خرافة، هي رؤية قاصرة لا تحيط بحقيقة الإنسان. لقد تمادت أيضا التطورات البيولوجية التي تقدمت كثيرا، ولاشك في إنها تعمل بهدف الحفاظ على النوع البشري وتحسينه، وتجنيبه العاهات النفسية والجسمية، وصيانة حياته من الأمراض، وغيرها من المشاكل الصحية... لكن مع ذلك، الخوض في مجال الجينات، ومحاولة التحكم فيه بهدف التغيير من الطبيعة البشرية لهو مجازفة ومغامرة، قد تؤدي إلى كوارث بشرية، واعتقد أن أخلاقيات الطب والبيولوجيا التي دعا إليها ألأطباء والبيولوجيون لم تأت من العدم، وإنما من رؤيتهم الاستباقية لما يمكن أن تؤدي إليه المغامرة واللعب بالطبيعة البشرية، والمس بكرامة الإنسان. هذا، وفي المجال الإنساني، كما اشرنا سابقا، فإن النظرة الاجتماعية الكولونيالية التي كانت وراء إبادة شعوب بكاملها، لا تقل في ضررها عن النزعات الفلسفية التي تدعو إلى تشظي الإنسان، كونه مثلا: كائن اقتصادي، اجتماعي، سياسي، سيكولوجي، أخلاقي،روحي، ميتاقيزيقي، بنوي إلى غير ذلك، لا تقل في ضررها عما قلناه سابقا، عل اعتبار أنها، لا تنظر إلى الإنسان إلا من جانب جزئي يهمل الأجزاء الأخرى، ولا يحيط به ككل مركب يتسع إلى كل تلك المكونات. إن الرؤية التكاملية بين العلوم المختلفة والفلسفات العقلية والروحية هي الكفيلة بالإحاطة بهذا الكائن الإنساني، العنصر الأساسي على هذه الأرض، أو كما يقال في أدبيات التصوف العالم الأصغر.
أخيرا، ماذا يمكن أن نستنبط مما سبق؟ وماذا يمكن أن نأمل؟. إن الإنسانية تمر بأتعس مراحلها التاريخية، وبأكبر مأساة، عرفها التاريخ البشري المعاصر، في حربها ضد وباء جرثومي مجهري، حصدت أرواحا بريئة لم تكن تنتظر أن يكون الموت بهذه الطريقة المؤلمة. ولذلك، فإن الأمل كل الأمل، بأن تكون هذه المرحلة الخطيرة التي تمر بها الإنسانية سببا في تغيير أساليب الحياة في كل جوانبها، في إعادة النظر فيما أنتجته الحضارة الإنسانية من علوم وتكنولوجيات، وفلسفات، وثقافات...، لتعديلها، أو تجديدها على ضوء ما يخدم الكرامة الإنسانية. إن مرحلة ما بعد الكورونا، ستملي على المجتمع الإنساني جملة من القضايا التي طالما طالب بها عقلاء العالم منها: أخلقة العلوم بكل فروعها، ومجالاتها حتى لا تتحول إلى أداة تدمير للكون وما فيه من كائنات، وليس لنا دليل على ذلك، أكثر مما حققته العلوم والتكنولوجيا في صناعة الأسلحة التدميرية (نووية، كيميائية، بيولوجية)، ماذا يمكن أن تقدم هذه الأسلحة للإنسانية ومصيرها؟. إن الدعوة إلى الحرب، والقول بأنها تأتي بعد ما تفشل السياسة، هي دعوة لا إنسانية، ولا مسؤولة، ويكفي للسياسيين، ولمن يدعو لها، أن يراجعوا تاريخ الحروب البشرية، وما هو واقع في عالمنا المعاصر من خسائر في الأرواح، وفي الحياة العمرانية بكاملها، وما تلحقه أسلحة الدمار الشامل لكوكب الأرضي، وما صنعته هذه الجائحة في البشرية المعاصرة لكي يتعظوا، ويسلكوا طريقا أخرا أكثر تحضرا، واحتراما للإنسان. وعليه فالاستفادة مما تدعو إليه كل الأديان، والفلسفات المطالبة بالسلم والسلام العالميين، لأمر يخدم البشرية، ويصون وجودها، واستمرارها.إن نبذ العنصرية الجنسية، والمعرفية، والقومية...، ووأد بذرة الإرهاب بكل ألوانه، واقتلاع جذوره من الأساس من أجل بناء مستقبل إنساني دائم الاستقرار، مسؤولية فردية، وجماعية ، ودولية. إن كل ذلك مرهون باحترام كرامة الإنسان في بعدها الكوني، وجعلها عنوانا لكل نشاط إنساني، وهي الكرامة التي تنادي بحمايتها كل الأديان والقوانين الدولية. بتحقيق ذلك فقط، يمكن أن يتحقق العالم الجديد، عالم ما بعد الكورونا، تراجع فيه كل المفاهيم، والتصورات، وتصاغ فيه رؤى جديدة تخلو من الأفكار التأليهية للإنسان، عالم يعي فيه الإنسان ذاته ويراجعها، ويدرك بأنه بتغييرها، يمكن أن يغير ما حوله، ويكف عن إيذاء الإنسان.
مصادر ومراجـــــــــــــــــــــــــــــــــــع
- قرآن كريم، الرعد، الآية 11.
- حية أرندت، ما السياسة. ترجمة، زهير الخويلدي، سلمى بالحاج مبروك، ط2، منشورات الإختلاف، الجزائر،
2018م
- كارل بوبر، الحياة بأسرها حلول لمشاكل، ترجمة، بهاء درويش، منشاة المعارف بالأسكندرية، 1994م.
- ادغار موران، ثقافة أوربا وبربريتها، ترجمة، محمد الهلالي، ط1، دار توبقال للنشر، 2007م،
- محمد وقيدي، العلوم الإنسانية والايديولوجيا، ط1، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1983م
- Claire Maignons, L’art face a la guere, Presse universitaires de vaincennes, Saint-denis, Paris 2015.
https://www.humanite.fr/node/309885 -



#الشريف_زيتوني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مجتمعنا الإنساني إلى أين؟


المزيد.....




- شاهد ما حدث على الهواء لحظة تفريق مظاهرة مؤيدة للفلسطينيين ف ...
- احتجاجات الجامعات المؤيدة للفلسطينيين تمتد لجميع أنحاء الولا ...
- تشافي هيرنانديز يتراجع عن استقالته وسيبقى مدربًا لبرشلونة لم ...
- الفلسطينيون يواصلون البحث في المقابر الجماعية في خان يونس وا ...
- حملة تطالب نادي الأهلي المصري لمقاطعة رعاية كوكا كولا
- 3.5 مليار دولار.. ما تفاصيل الاستثمارات القطرية بالحليب الجز ...
- جموح خيول ملكية وسط لندن يؤدي لإصابة 4 أشخاص وحالة هلع بين ا ...
- الكاف يعتبر اتحاد العاصمة الجزائري خاسرا أمام نهضة بركان الم ...
- الكويت توقف منح المصريين تأشيرات العمل إلى إشعار آخر.. ما ال ...
- مهمة بلينكن في الصين ليست سهلة


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الشريف زيتوني - ماذا يمكن أن يوقظ فينا وباء الكورونا؟ (خواطر وآمال)