أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الشريف زيتوني - وقفة مع ابستيمولوجيا كارل بوبر















المزيد.....



وقفة مع ابستيمولوجيا كارل بوبر


الشريف زيتوني

الحوار المتمدن-العدد: 6942 - 2021 / 6 / 28 - 17:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


وقفة مختصرة مع ابستيمولجيا كارل بوبر
لا أحد ينكر ما تزخر به ابسيتمولجيا كارل بوبر من قضايا حيوية تمس كل جوانب المعرفة بصورة عامة والمعرفة العلمية بصورة خاصة، تناول فيها الكثير من الجوانب الخاصة بالمعرفة العلمية، وكيف تنمو وتتقدم؟ كما ناقش جوانب جمة من حياة الإنسان والمجتمع، والسياسة ... وقد كان في كل ذلك، ناقدا عقلانيا، لا يروم الرؤى القطعية المغلقة، السالبة لحرية إعمال العقل النقدي، ولكي يحقق ذلك، رافع من أجل المنهج الفرضي الاستنتاجي معتقدا أنه المنهج العلمي الوحيد الصالح لاكتشاف مجاهيل الطبيعة، والانسانيات؛ ولكي تكون لدينا فكرة واضحة لكل ذلك، ارتأينا أن نقف من بعض قضايا أبستيمولجيا كارل بوبر هذه الوقفة المختصرة، مع تبيين مداها وحدودها، وذلك من خلال توضيح مساره الابستيمولوجي، وكيفية نمو المعرفة العلمية، ووظيفة اللغة عنده، ومنطقه في العلوم الاجتماعية، وأخيرا السياسة عنده. وذلك في النقاط التالية:
- لا شك في أن مشروع كارل بوبر هو مشروع يتميز بالأصالة والجدة، بل يعد إضافة جديدة إلى عالم المعرفة؛ إذ إنه يقوم على جملة من المقولات المنطقية والموضوعية، التي جعلته يتجاوز المقولات النفسانية التي كانت تحكم الابستيمولجيا الكلاسيكية، تلك الابستيمولجيا التي كشف كارل بوبر عن تناقضاتها، ومشكلاتها التي تعيق في زعمه تحقيق المعرفة الموضوعية وتقدمها، وأهم مشكلة عانت منها الابسيتمولجيا الكلاسيكية، هي مشكلة الاستقراء التي أثارها في البداية دافيد هيوم؛ حينما شكك في المبادئ التي يقوم عليها المنطق الاستقرائي، خاصة مبدأ العلية، فترتب عن ذلك، انهيار فكرة الضرورة التي تحكم العلاقة بين الجزئي والكلي، أو بين المنطوقات الجزئية والقوانين الكلية، وقد أدى ذلك إلى خلخلة اليقينيات في العلوم التجريبية، وامكانية التنبؤ. وقد وجدت هذه المشكلة حلها مع كارل بوبر؛ إذ أكد بأن المنهج الاستقرائي لم يعد منهجا مقبولا، لأن، ما يصدق – في رأيه – على الجزء، لا يصدق بالضرورة على الكل، مستوحيا ذلك من هيوم، لكن برؤية منطقية جديدة، يتم من خلالها تحويل مشكلة هيوم إلى مشكلة منطقية، حيث تساءل فيما إذا كان يمكن تبرير نظرية ما تجربيا، أو إثابتها بملاحظات تجربية؟ وقد كان جوابه بالنفي؛ إذ مهما كانت محاولات التحقق من قضية ما لا تستطيع أن تثبت صواب نظرية كلية. فقد كان هذا الموقف ضربة قاضية للتجربانية، والتجربانية المنطقية، ولمنطقهم الاستقرائي القائم على مبدأ الحتمية الذي يفيد بأن الشروط ذاتها ينبغي أن تؤدي إلى النتائج ذاتها، غير أن هذا المبدأ – في منظور كارل بوبر – في حاجة إلى إثبات، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية، فنقع في حلقة مفرغة لا تفيد في شيء.
إضافة إلى ذلك، فإن كارل بوبر، لم يكتف – كما هو معروف – بدحض مبدأ التحقق، بل استبدله بمبدأ جديد، وهو معيار القابلية للتكذيب، مفاده، أنه يمكن لتكذيب نظرية أو دحضها، يكفي أن تكون حالة أو ملاحظة جزئية، تناقضها. فيترتب عن ذك، أنه إذا كان من غير الممكن التحقق من النظرية تجربيا، يمكن على العكس من ذلك وبواسطة ملاحظات تجربية أن نثبت بأنها خاطئة. مع كارل بوبرـ، إذن، تتغير حركة المنهج العلمي، التي كانت تنتقل من الجزئي إلى الكلي، أو من الملاحظة الجزئية إلى النظرية، لتصبح من الكلي إلى الجزئي، أو من النظرية إلى الملاحظة الجزئية، وبذلك يحل المنهج ألاستنتاجي، محل المنهج الاستقرائي. غير أن ما يمكن التأكيد عليه هاهنا، هو أن طريقة الاستنتاج، ليست تلك المعروفة في التراث العلمي المدرسي التي كانت تقوم على مبادئ عامة تتصف باليقين، بحيث تكون الحقيقة مستمدة منطقيا من مبادئها، وبالتالي فهي يقينية بالضرورة، هذه الحركة المنطقية لم تعد مقبولة مع كارل بوبر؛ لأن النظرية تتخذ أهميتها من خصوبتها، وقدرتها على التفسير، وتخضع دائما للاختبارات التجريبية التي لا واحدة منها يمكن أن تؤكدها بصورة قطعية نظرية ما، بل يمكن في مرة من المرات أن تكذبها، وهذا يعني أن النظرية تبقى صالحة حتى إلى اليوم الذي تفقد فيه صلوحيتها تجريبيا، فتكون عرضة إما للتعديل، أو اعتبارها خاطئة ومن ثم وجب رفضها، واستبدالها بنظرية جديدة مؤقتة. نفهم من هذا، أن الطريقة العلمية في منظور كارل بوبر، تقوم على الفروض أو النظريات التي تخضع إلى محاولات التفسير التجريبي، وتفضي إلى استبعاد الخطأ. ولهذا فستظل النظريات العلمية دوما حدوسا أو فروضا، وما يبقى منها فقط هي تلك التي نجحت في اختبار الدحض، وعليه، فإن تقدم العلم ونموه، يكون برفض النظريات الأقل صحة واستبدالها بنظريات أفضل.
- بهذا التصور الجديد للمنهج العلمي الفرضي الاستنتاجي، قلب كارل بوبر خطوات المنهج الاستقرائي الذي كان ينطلق من الملاحظات الجزئية إلى القوانين الكلية أو النظريات، والذي يحقق التراكمية، لتصبح معه النظريات أو الفروض هي أول خطوات المنهج الفرضي الاستنتاجي الذي به تنمو المعرفة العلمية وتطور، فيحل نمو المعرفة العلمية وتطورها، محل التراكم المعرفي الذي عرفناه في الابستيمولجيا الكلاسيكية.
- إن هذه التصور لم يبدعه كارل بوبر من العدم، بل استوحاها من تاريخ العلوم والفلسفة أولا، ومن التطورات والاكتشافات العلمية التي حصلت في زمانه، والتي تأثر بها كثيرا ثانيا . مثلا: حلت نظرية نيوتن محل نظريات كبلر، وغاليلو الفلكية، لأنها اقوى منها، وقابلة لأن تختبر، وتجاوز أنشتاين نظرية نيوتن. بجملة واحدة، لقد عرفنا ونحن نتابع المسار الابسيتمولجي لكارل بوبر الكثير من الشخصيات التي استلهم منها كارل بوبر تصوراته التي أثث بها معرفيته، ويمكن أن نسوق بعض الأسماء على سبيل المثل لا الحصر: زينوفانيس، سقراط، كانط، دارون، تارسكي، بولهر... كما يمكن القول أيضا بأنه استفاد من نقده المنطقي، ومناقشته العقلانية مع معارضيه: ماركس، وهيجل، وفرويد، وكارناب وغيرهم. إذ إن مناقشاته لهم ولمذاهبهم جعلته يقف على ما فيها من تصورات دوغماتية، لا تخدم العقلانية المفتوحة، وبالتالي لا تفيد في تطور المعرفة بصورة عامة، ولا المعرفة العلمية بصورة خاصة، وقد ساعده ذلك على بناء رؤية مخالفة رآها أكثر حيوية وديناميكية،ـ تخدم العلوم الطبيعية والاجتماعية، وهذا من منطلق منطق التشارك في البحث عن مطاردة الأخطاء، ويكون السبيل إلى ذلك، هو المناقشة العقلانية النقدية.
- إذا عرفنا، بأن المعرفة التي يدافع عتها كارل بوبر، بالمعنى الموضوعي، هي معرفة بدون ذات عارفة، بمعني أنها مستقلة في وجودها عن الذات، تنتمي إلى عالم المعرفة، وهو العالم الثالث، عالم النظريات، والمشكلات، والحجج الموضوعية، وعرفنا بأنها (المعرفة الموضوعية) تتشكل من توقعات مصاغة في لغة وتخضع للمناقشة النقدية، عرفنا الأهمية التي يوليها كارل بوبر للغة، الأمر الذي دفعه إلى بناء نظرية لغوية تتفق ونسقه الإبستيمولوجي، إنها نظرية الوظيفة الحجاجية للغة، التي انبثقت من نقده للوظيفة الثلاثية للغة التي نحتها أستاذه بوهلر وهي: التعبيرية، والوصفية، والتمثيلية، ولقد أفضى به النقد إلى إبداع وظيفة رابعة وهي الوظيفة الحجاجية، التي تجاوز بها فلسفات اللغة التي كانت تهدف إلى تحليل المعاني، وأهملت - في نظره- البحث عن الحقائق الهامة والمثيرة، عن النظريات الحقيقية. هذا، ولكي يشكل كارل بوبر تصوره حول الحقيقة، وجدناه، يستمد العون من الفيلسوف اللغوي والمنطقي تارسكي، صاحب نظرية الصدق أو نظرية المطابقة، أي: مطابقة الحقيقة للواقع، التي ساعدته على انجاز مشروعه –كما ذكرنا سابقا – مشروعه الابستيمولوجي المفتوح على العالم الخارجي، الذي تستمد منه الموضوعية وجودها؛ الموضوعية التي تجد مشروعيتها في اللغة الحجاجية، ولهذا يكون الواقع الخارجي والصدق خلاصة المقاربة اللغوية البوبرية؛ لذا، فإن كارل بوبر يعطي للغة وظيفة جديدة، بفضلها تصير النظريات منظومات حجاجية، والاستنتاج هو منهجها، وتتجلى قوتها في: التأويل والمناقشة النقدية، وقوة النمو التي هي في النهاية قوة العلم، إذ لا وجود لعلم من دون محاججة، وان كل نقد للنظريات متوقف عليها، فهناك علاقة ضرورية بين تطور الوظيفة الحجاجية للغة وتطور النقد، وذلك يؤدي إلى نمو المعرفة العلمية. إذن، الموضوعية، والنقد العقلاني، ونمو المعرفة ... قضايا مشروطة باللغة الحجاجية في ابستيمولوجيا كارل بوبر.
- يمكن القول إذن، أن كارل بوبر، كان وفيا لكل المفاهيم التي نحتها، وهي مفاهيم شكل بها منطقا عقلانيا نقديا جديدا، على أساسه يتم نمو المعرفة وتقدمها، وقد طبق ذلك، على العلوم الطبيعية والاجتماعية، والسياسية، إذ إنه ميز بين كل هذه العلوم، لكنه لم يجعلها متعارضة، من حيث خضوعها لمعيار القابلية للتكذيب، أو منهج المحاولة واستبعاد الخطأ. وعليه فإن ابستيمولجيا كارل بوبر برمتها، هي ابستيمولجيا مفتوحة نقديه، تتناول كل المشكلات المطروحة تناولا نقديا، ومن ثم فإن النقد - بالنسبة له- هو شرط التقدم في جميع ميادين المعرفة، الأمر الذي يجعلنا نقول، بأنه قد حرر الفكر من المنظومات المعرفية المغلقة، والمقيدة للعقل، وبين الأثر السلبي للمنهج العقيم في دراسة الظواهر الاجتماعية، ذلك المنهج الذي تبناه دعاة المذهب التاريخاني، الذين يرفضون اخضاع العلوم الاجتماعية إلى منهج العلوم الطبيعية، كونها تختلف بالنوع عن العلوم الطبيعية، وهو الأمر الذي يرفضه كارل بوبر الذي رأى بأن الاختلاف بينهما هو اختلاف في الدرجة لا غير؛ لذا، فإن المنهج الذي يمكن إتباعه في الدراسات الاجتماعية، هو المنهج ذاته المتبع في العلوم الطبيعية، منهج المحاولة واستبعاد الخطأ، فوحد بذلك منهج البحث في العلمين، وقد امتد نقده لقضايا المجتمع إلى المجال السياسي، وانصب بشكل خاص على نقد الأنظمة الشمولية المغلقة، التي تضيق على الحريات الفردية، تلك الأنظمة التي كان من روادها أفلاطون، وهيجل، وماركس... وهم الرواد الذين لم يتسامح معهم كارل بوبر، لأنهم يمثلون – في رأيه – المجتمع المغلق الذي يخلو من عناصر التطور والتفتح، لذا دعا إلى نظام ليبرالي جديد، يقوم على ديمقراطية تختلف دلاليا على الديمقراطية التي كانت تعني حكم الشعب إلى مدلول جديد وهو محكمة الشعب. حيث تحول السؤال الأفلاطوني: من يحكم؟ إلى السؤال الجديد كيف يمكننا أن ننظم بصورة ما المؤسسات السياسية بحيث تمنع الأشرار أو غير الأكفاء في التسبب في الكثير من الضرر؟ وهذا تساؤل أساسي، وعميق يهز تلك العقول السياسية، بل البنيات المؤسساتية المسؤولة عن مصائر الناس، خاصة تلك التي تتشبث بالحكم بوسائل لا ديمقراطية. بجملة واحدة موقف كارل بوبر السياسي، ينتهي إلى التمييز بين مجتمعين مختلفين، مجتمع مغلق شمولي تنتفي فيه كل الحريات، ومجتمع مفتوح ديمقراطي، يكون فيه المواطنون أحرارا، يتمتعون بحق المحاكمة، وإسقاط الحكومة بوسائل عقلانية نقدية، لا بوسائل العنف.
- يمكن أن ننهي هذه الوقفة ببعض الملاحظات النقدية لمشروع كارل بوبر الابستيمولجي، أملتها علينا ما رأيناه في هذا المشروع من تمسك بموضوعية علمية صارمة، تصل إلى درجة نفي الذات العارفة، التي تعد طرفا جوهريا في بناء نظرية المعرفة العلمية، وليس أدل على ذلك، من الفيزياء الميكروسكوبية التي لا تستغني عن تدخل الذات التي –بحكم الاحتكام إلى التجربة – استبعدت كطرف في معادلة بناء المعرفة العلمية، لكن مع اكتشاف العالم الأصغر، عالم الّذرة، وهو عالم لا تجربي، بمعنى يفلت من الملاحظة العينية، والتحديدات التجريبية، عالم يفرض واقعا جديدا، لا يقبل بوجود الطبيعة ككيان خارجي مستقل عن الذات، بل يفرض حوارا بين الطبيعة والإنسان. يقول هايزنبرغ في كتابه "الطبيعة في الفيزياء المعاصرة": (( ... في خضم حوار قائم بين الطبيعة والإنسان، وليس العلم إلا جزءا منه، بحيث أن تقسيم العالم اتفاقا إلى ذات وموضوع، إلى عالم باطني وعالم خارجي، إلى جسد وروح، لم يعد قابلا للتطبيق وهو مثار للمصاعب بالنسبة للعلوم الطبيعية هي الأخرى، لم يعد موضوع البحث، إذن هو الطبيعة بحد ذاتها، بل الطبيعة ماثلة أمام تساؤل الإنسان...)). هاهنا تتجلى مسألة في غاية الأهمية، تتمثل في أن الذات صارت طرفا في معادلة الكشف العلمي، وهو الطرف الذي يدحضه كارل بوبر، بحكم دعوته الرافضة لتدخل التأكيدات الفلسفية الخاصة بتدخل الذات أو العقل في عالم الذرة، وهي تأكيدات تبدو في زعمه أنها جاءت نتيجة الأخطاء التأويلية التقليدية والذاتية المرتبطة بحساب الاحتمالات (la quête inachevée ). لكن هذا الرأي يبدو من وجهة نظرنا، إنكار فرضته ابستيمولوجية كارل بوبر القائلة بوجود معرفة موضوعية من دون ذات، وهي المعرفة التي لا يمكن أن توجد لأسباب كثيرة منها: - استحالة وجود معرفة دون أن يكون هناك حوار بين الذات والموضوع، بين العقل والطبيعة؛ فالعقل من دون موضوع هو محض قوة مفارقة، لا تؤثر في الواقع وفي تغييره، والطبيعة دون عقل فاعل تبقى مادة خام لا تنفع في بناء عالم الإنسان. كما أن تجربة فصل العقل عن العلم، أو الفلسفة عن العلم التي عرفناها مع دعاة النزعة العلمية التي أبعدت الفلسفة عن مجالات المعرفة، بحجة أن العلم يمكن أن يحل كل الإشكالات المعرفية التي يطرحها الوجود الإنساني؛ بل هناك من ذهب إلى تحويل وظيفتها إلى وظيفة منطقية محضة. هذا الفصل غير المبرر لم يفعل سوى أنه أدى إلى توقف حركة العلم، ولم يسهم في تطوره؛ بل أدى إلى جموده؛ لأن رجل العلم اهتم بسؤال كيف؟ وأهمل اللماذا؟ سؤال اللماذا؟ هو الذي يؤمن المجالات المفتوحة أمام العلم، ولعل أكبر دليل على ذلك، هو عودة السؤال الفلسفي الذي أدى إلى ظهور الابستيموولجيا التي تقوم على الحوار بين الفلسفة والعلم، حوار قوامه النقد العقلي الذي يضمن حركة المعرفة العلمية وتطورها. وهاهنا قد يبدو المشروع الابستيمولجي البوبري الذي يركز على مشروعية المعرفة العلمية وموضوعيتها مستخدما في ذلك أدوات العقل النقدي يتضمن صعوبة منطقية تتجلى في تأكيده على دور العقل النقدي في بناء المعرفة العلمية من جهة، ومن جهة أخرى يلح على المعرفة العلمية الموضوعية من دون ذات، وهو الأمر الذي لا يجعلنا نهضم بسهولة هذا المنطق المعرفي الذي يؤكد من جهة على النقد العقلي، وهو النقد الذي لا ينبع من أية جهة أخرى غير الذات، مما يجعلنا نقول أن المعرفة العلمية من دون ذات ؛كما هي في منطق كارل بوبر قد تؤدي إلى استبعاد الحوار بين الذات والموضوع في بناء المعرفة العلمية، وهو الأمر الذي لا تقبله الروح العلمية المعاصرة.
- لم تعد ابسيتملوجيا كارل بوبر في منأى من النقد من طرف فلاسفة العلم المعاصرين، إذ إن، النظريات الفيزيائية ليست قابلة للتكذيب بصورة معزولة؛ لأنها تأتي ضمن مجموعة من الفروض ككل كما لا حظ ذلك بيار دوهيم حينما أكد بأن عالم الفيزياء لا يستطيع على الإطلاق أن يخضع فرضا معزولا للاختبار التجريبي، غير أنه بإمكانه أن يخضع مجموعة كاملة من الفروض، وإذا لم تتوافق التجربة مع توقعاته، فإنه ينجح على الأقل في تبيان أن واحدا من هذه المجموعة غير مقبول وينبغي تعديله، ومن غير الممكن أن تحدد التجربة أيا من هذه الفروض قابلا للتعديل. (دونالد جيليز، فلسفة العلم في القرن العشرين). ((فمن مجموعة من الفروض ( ف .........ف ن) مثلا، استدل أحد العلماء على ل وبعد ذلك أظهرت التجربة أو الملاحظة أن ل كاذبة. يلزم عن ذلك أن واحدا على الأقل من الفروض (ف.....ف ن) كاذب. لكن أي واحد منها هو الكاذب؟ أي فرض أو فروض ينبغي على العالم أن يسعى لتغييره لكي يحدث مرة أخرى توافقا بين النظرية والخبرة؟...)). (ونالد جيليز، فلسفة العلم في القرن العشرين) وقد ذهب كواين إلى شيء من هذا، حينما رأى وفقا لنزعته الكلية (Holisme) ((إن العبارات العلمية لا تتعرض للنقد على نحو منفصل مقابل الملاحظات؛ لأن هذه العبارات لا تتضمن نتائجها القابلة للملاحظة إلا عندما تكون مرتبطة معا بوصفها بالفعل هذه النتائج)). وهذا يعني أن العبارة الكاملة ليست مكونة من مجموعة تقبل الانفصال من النتائج النظرية العلمية للملاحظة والاختبار. وإنما النظرية العلمية مأخوذة ككل هي التي ستملك بالفعل هذه النتائج. إضافة إلى نقد كواين، تعرض كارل بوبر إلى نقد الكثير من الابسيتمولوجيين مثل: لا كتوش، فيرباندا، الآن شارملز، هابرماس... وبونجي Bunge هذا الأخير، عارض كارل بوبر في جملة من المسائل الابستيمولوحية: كالمعرفة العلمية ، وعلاقة العقل بالجسد والعلوم الاجتماعية، ونقد أهم مبدأ في ابسيتمولوجيا كارل بوبر وهو معيار القابلية للتكذيب الذي يفيد في منطق كارل بوبر بمحاولة تكذيب تخمينات العلماء وليس تجريبها وتعزيزها، وهذه التوصية لا يستسيغها بونجي لاعتبارات كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: - استخدام بوبر لكلمة نظرية غير متقن، لأنه أراد به أن يكون شاملا للفرض والنظرية الملائمة، أي: نسق فرضي – استنتاجي. وهذه النقطة مهمة؛ لأنه على حين أن الفرض الواحد يجوز تأييده أو تفنيده عن طريق تجربة حاسمة، لا يمكن تحقيق الشيء نفسه حول النظرية؛ لأنها فئة غير محدودة العبارات. وفي هذه الحالة يختبر المرء فقط قلة من العبارات المهمة في الفئة ويأمل أن يتبين في النهاية أن يكون للبقية قيمة الصدق نفسها. – الملاحظات العلمية التجريبية، والقياسات، أو التجارب يتم انجازها لاكتشاف شيء ما، وقلما تكون لتكذيب تخمين. وفقا لهذه الأسباب وغيرها، يصل بونجي إلى أن توصية كارل بوبر لاختبار تخمينات المرء المفضلة وتفنيدها ليست منطقية ولا منهجية.
- لا حظنا أيضا، إبداع كارل بوبر في المجال اللغوي،وذلك بإضافته وظيفة لغوية جديدة تتمثل في الوظيفة الحجاجية التي شيد عليها صرحه المعرفي العقلاني النقدي الموضوعي، بفضلها أصبح التعامل مع المعرفة عامة، والمعرفة العلمية خاصة، نقديا بعيدا عن الذاتانية عماد الابسيتمولجيا الكلاسيكية المغلقة، وفي المقابل جعل المعرفة مفتوحة على المستقبل على اعتبار أن النظريات العلمية تدخل أعمالا جديدة للعالم، وان المستقبل غير متضمن في الحاضر ولا في الماضي، وبذلك، فإن كارل بوبر وضع حدا للوظائف الأخرى للغة خاصة التحليلية التي رأى بأنها لا تخدم المعرفة في شيء. لكن مع ذلك، فإن حصر العالم المعرفي،والكون في ما هو منطقي عقلي نقدي، يؤدي إلى تغييب مسألتين جوهرتين في نظرنا: - الأولى: تغييب ذلك البعد العاطفي الإنساني الذي يفلت من شباك ما هو منطقي عقلاني، والذي لا يمكن التعبير عنه بلغة منطقية، ولا عقلية. إنه بعد إنساني يكون التعبير عنه بلغة رمزية، فنية تذهب أبعد مما يمكن أن تعبر عنه الصياغات المنطقية الجامدة. الثانية: يمكن أن تكون مكملة للأولى؛ لأن الموقف الحجاجي البوبري، قد يكون صادقا في حالة واحدة فقط، وهي أن نلغي كل الجوانب الأخرى الهامة في اللغة، ونبقي فقط على ما أنتجه كارل بوبر، وهذا يخالف تماما إبستيمولجيا كارل بور المفتوحة؛ إذ إن، اختزال وظيفة اللغة في رؤيته الأحادية، لا يمكن أن يكون بديلا للأنساق اللغوية الأخرى التي لا يمكن إسقاطها من معادلة بناء المعرفة بمجالاتها المختلفة، وبدلالاتها الواسعة.
- في الواقع الرؤية المنهجية الأحادية، طاغية في ابسيتمولوجيا كارل بوبر، ذلك ما لا حظناه في موقفه من العلوم الاجتماعية؛ لذا فإن تصور رؤية منهجية تعددية متفاعلة، تراعي تعددية لعلوم الاجتماعية والإنسانية، وجذورها المغروزة في ثقافات الأمم، وتقيدها بما هو محلي وعالمي، لتجاوز النظرة العلمية الضيقة التي ربطها كارل بوبر بالعلوم الطبيعة، وقد اختار لها نموذجا يقربها من العلمية يتمثل في الاقتصاد، هي الطريق المناسب لمعالجة الظواهر الاجتماعية والإنسانية، كما أن الارتباط بالنموذج الغربي في الدراسات الإنسانية من دون مراعاة الخصوصيات الثقافية للأمم، يضرب بقوة روح الموضوعة العلمية، ويجعل كل دراسة تحاول أن تكون علمية لا تفي بالمطلوب. إن كل دراسة علمية تنشد الاقتراب من الإحاطة بعالم الإنسان المعقد، لا بد أن تتحرر من عقدة العنصرية، والنظرة الأحادية. وتتمسك بالتثاقف بين المجالات العلمية المتنوعة في تفاعل وتكامل للوقوف على ما يحكم المجتمع الإنساني من قوانين لتوظيفها في فهم، وتفسير الإشكالات التي يثيرها الوجود الإنساني، وأن تلك النظرة تكتمل أكثر، باتساعها إلى كل مكونات الوجود الإنساني خاصة المكون القيمي منها.
- لقد امتدت عقلانية كارل بوبر النقدية إلى المجال السياسي، من خلال نقده للنظم السياسية الشمولية والمغلقة، التي تبدو في نظره أنها تقمع الفرد، وتمنعه من ممارسة حقه في الحرية، لذا وجدناه ينتقد رواد تلك الأنظمة من أفلاطون إلى هيجل، وماركس... وفي مقابل ذلك وجدناه ينتصر إلى النظام الليبرالي التعددي، المحكوم بمؤسسات تنظم تصرفات الفرد داخل جماعة بخدمها، وتخدمه، وذلك بان يحكم المواطنون أنفسهم، بواسطة الحكومة التي يختارونها، والتي يمكن أن يسقطونها من دون إراقة دماء، وهو موقف يبدو أنه معقول ومشروع ، وهذا تجسيد لمقترحه تغيير مفهوم الديمقراطية التي كانت تعني عند أفلاطون حكم الشعب إلى مفهوم جديد يتمثل في محكمة الشعب. غير أنه وبالرغم من أن هذا الطرح الأخير، يعد مطلبا مستساغا، ومبدأ يمكن وفقه أن يمارس الشعب حقه في مراقبة الحكومة، وجعلها تحترم إرادته... إلا أن تطبيقها تعترضه صعوبات كثيرة منها اختلاف توجهات المواطنين من جهة، وتمسك الحكومة بالسلطة، وحجتنا في ذلك، نجدها في تاريخ النظم السياسية، والواقع الإنساني الراهن، الذي يبين أن التخلي عن السلطة، أو إسقاط الحكومة ليس أمرا سهلا. ويبدو أن هناك عاملا إتيقيا مغيبا من معادلة الأنظمة السياسية، وهو ندا الضمير الإنساني، وتغييب القيم الانسانية الراقية التي تضمن احترام كرامة الإنسان، و حقه في الحياة والبقاء. وحينما نقول الإنسان، فإننا نعنى بذلك كل إنسان من دون تمييز، وهذه فكرة لا نجدها في فلسفة كارل بوبر السياسية؛ بسبب تحيزه للمجتمع الغربي فقط، أما المجتمعات الأخرى خارج ذلك فهي من منظوره لم تدخل التاريخ وهذه نظرة عنصرية، تجعل مجتمع كارل بوبر المفتوح مغلقا، وفلسفته دوغماتبة، هذا من جهة، كما أننا وجدناه ينتصر للديمقراطية الأمريكية، وهي الديمقراطية التي لا تتجاوز الحدود الجغرافية لأمريكا، بل حتى داخل هذه الحدود، فإننا نجدها لا تتسع للجميع. بالإضافة إلى ذلك، فإننا لا نستطيع أن نقبل موقف كارل بوبر من التاريخاينة، فإن كنا نقبل منه موقفه من النتائج التي توصل إليها من تحليله لها، كرفض الشمولية، والاستبداد وقمع الفرد، فإننا لا نستطيع أن نسايره في ثلاث مسائل على الأقل:1- مسالة التنبؤ بحوادث المستقبل، وهي مبدأ، يرفضه –كما رأينا سابقا – بوبر بحجة أن التاريخ، لا تحكمه قوانين، مسبقة، تفيد التوقع بما يمكن أن يحصل للمجتمع الإنساني، وهي فكرة ترجع في أساسها إلى موقف بوبر من اللاحتمية التي تتحكم في نظره في كل العلوم، وأعتقد، أن الاعتماد عليها، قد ساعد كثيرا في تقدم العلوم الدقيقة خاصة الكوانتية، ومن نتائجها، عودة الذات إلى الموضوع، لكن، هذا لم يؤد إلى إلغاء الحتمية في مجالات أخرى كونية لا يمكن فهمها، والتحكم فيها إلا بشيء من التوقع، وعليه، وبالعودة إلى موضوعنا، فإن التاريخ هو من صنع الإنسان، دون غيره من الكائنات الأخرى، بماضيه، وحاضره، ومستقبله الذي هو على تخوم الحاضر، إن لم نقل، يتحرك بداخله، يفرض على كل أمة، بأن تستشرف مستقبلها، وتوجهه، وهذا لا يكون إلا بنوع من التنبؤ المبني على شروط عقلانية، بعيدا عن العشوائية التي قد تهد كيان المجتمع الإنساني. 2 - قوله بتطبيق ذات المنهج العلمي في السياسة، بصورة مماثلة للعلوم الطبيعية، لأن السياسة هي عالم الممكن الإنساني، عالم المتغيرات، عالم تتحكم فيه، الذوات الإنسانية التي تحكمها شروط معيارية وأخلاقية، لا يمكن أن نستبعدها في التنظير السياسي للمجتمع ، وهذا ما يجعل الموضوعية التي يتحدث عنها بوبر، في عالم السياسة، أمرا تحف به المصاعب. والتخفيف من تلك المصاعب لا يكون إلا بالنظر إلى تلك الشروط التي ذكرناها آنفا. 3- نتساءل عن موضوعية كارل بور ونقده العقلاني؟ يبدو أن موضوعيته، محصورة في التاريخ الفلسفي الغربي، الذي يبدأ من الإغريق إلى حضارة الغرب المعاصرة، وكأني به، يجهل أو يتجاهل تجارب الشعوب الأخرى التي لها صفحات ناصعة في بناء الحضارة الإنسانية. فهذا تغافل، أساسه، ينبع من فكرة بوبرية، تفيد بأن التاريخ الإنساني، هو تاريخ الحضارة الغربية لا غير، وهذه ثغرة كبيرة تجعل مطالبة كارل بوبر بمجتمع مفتوح منقوصة، ومغلقة على حضارته الغربية. إن الإنسان، هو إنسان في كل مكان، وحري بأي مطلب فلسفي أن يأخذه في كل أبعاده الإنسانية، ويبدو، أن النظريات السياسية المختلفة، أكبر مبدأ ينقصها، هو كما سبق وأن قلنا هو صحوة الضمير الإنساني العالمي الذي يملي على الإنسان بأن يرى في ذاته الإنسان، ويكف على إيذائه، وأن على الدول أن تتوقف عن الاملاءات التي تمارسها على محكوميها، بإسم الايديولوجيا، أو النظم السياسية. الدولة هي المنظم، سلطتها، ينبغي أن تقف عند حدود مواطنيها، تبعا لسلم القيم الإنسانية. إذن، القوانين وحدها، والديمقراطية وما ينتج عنها من مؤسسات دستورية ... لضبط المجتمع، لا تكفي في حماية الإنسان، والحفاظ على حقوقه، ما لم تكن مسندة بصحوة الضمير الإنساني، وإننا، لا نجانب الصواب، إن قلنا، بأن الأزمات المتعددة برمتها التي تعاني منها المجتمعات المعاصرة المتخلفة، والمتقدمة لهي في الأصل، أزمة ضمير إنساني، أزمة قيم لا غير؟.
من خلال الملاحظات السابقة، يتبين أن ابسيتمولجيا كارل بوبر، جاءت برؤية جديدة إن على مستوى المنهج، أو المعرفة عامة، فأحدثت بذلك انقلابا جذريا في المفاهيم الابستيمولجية الكلاسيكية، فلم يعد الاستقراء هو الطريق الوحيد لاستجلاء الحقائق، بل المنهج الفرضي الاستنتاجي، فحل اللايقين محل اليقين، واللاحتمية محل الحتمية، وبذلك لم يعد للتنبؤ وجودا. ونمو المعرفة وتطورها، صار يخضع لمعيار القابلية للتكذيب، كل شيء قابل للنقد العقلاني، لا وجود للأحكام القطعية، ولا للاعتقاد، لا يوجد سوى المعرفة الموضوعية التي يمكن أن نصوغها في قوالب لغوية، بذلك فهي معرفة تنتمي إلى العالم الثالث، عالم المتوج الإنساني، إنه عالم مستقل عن العالم الفيزيائي، والسيكولوجي، وإن كان جاء من تفاعله معهما. لا شك في أن عالم كارل بوبر المعرفي، هو عالم يقوم تحديدا على النقد العقلاني المفتوح، على مقولات منهجية واحدة تحكم العلم الطبيعي والإنساني؛ لذا فهو صاحب فكر موحد، بمعنى أن ما ينطبق على العلوم الطبيعة، ينطبق أيضا على العلوم الاجتماعية والإنسانية، الخاصية الأساسية المميزة لكل هذه العلوم هو النمو والتطور، لأنها جميعا تخضع للقاعدة البوبرية المتمثلة في قاعدة المحاولة واستبعاد الخطأ. وإذا تساءلنا عن روح ابستيمولجيا كارل بوبر، أي: من أين استلهمها؟ وجدناه يعود بزمن ابسيتمولجيته إلى الفلسفة اليونانية، تحديدا إلى كزينوفانيس الذي كان يرى بأنه ليس لدينا معيار للصدق ولا أي معيار للمعرفة، لكن ذلك لا يمنعنا من البحث، إذ أن البحث، قد يساعدنا على الإمساك بشيء أفضل، ووفقا لذلك يمكن أن تتقدم معرفتنا، كما أنه استفاد من سقراط المعروف بمقولته: لا أعرف إلا شيئا واحدا، وهو أنني لا أعرف شيئا، وحتى هذا أكاد لا أعرفه. ومن تاريخ الفلسفة الحديثة، وجدناه يستنير بالمواقف التي لا تروم المناهج التي تؤيد القول باليقينيات، كالعقلانية والتجرباينة، والتجربانية المنطقية. كما أنه استفاد كثير من نسبية انشتاين... إن اهتمام كارل بوبر بتاريخ الفلسفة والعلوم، وقراءته لذلك بتمعن، جعله يعثر على الكثير من الأفكار التي تدعم ابستيمولوجيته المفتوحة التي أصبح لها وجودا مميزا في مختلف الدراسات العلمية. لكن، بالرغم من ذلك، فإنها تبقى كأي مشروع قابل للمناقشة والنقد، إذ من غير الممكن مثلا: الاقتناع بأسطورة الاستقراء التي قال بها كارل بوبر، لأن ذلك يشطب من قائمة تاريخ العلم، جهودا كبيرا بذلت من أجل معرفة حقائق الكون، وكل ذلك بالاعتماد على المنهج الاستقرائي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الاستقراء ما يزال يعمل به إلى يومنا هذا، وقد يكون منبعا لتكوين النظريات، التي يمكن أن تكون أرضية للاستناتج الفرضي، وهذا ما يجعلنا نقول إن هناك حوارا بين التجربة والاستنتاج، وقد نجد كارل بوبر يحد ذاته، لا يستغتي عن التجربة إذ إنه، يرتبها في المرتبة الثانية بعد الفرضيات. وأما عن معيار القابلية للتكذيب، فإننا يمكن أن نقول ليس كل شيء قابل للتكذيب، وقد وقع بوبر كارل بوبر بحد ذاته في موقف حرج حينما بدأ ينظر في القضايا الاحتمالية، ولم يجد حلا لذلك، وقد وجدنا كارل بوبر بحد ذاته، يعترف بذلك، في قوله: (( إن العلاقة بين الاحتمال والتجربة مازالت بحاجة إلى توضيح وعند بحث هذه المشكلة سوف نكشف ما يبدو في البداية أنه تقريبا اعتراض مستعصي على آرائي المنهجية. فعلى الرغم من أن قضايا الاحتمال تؤدي دورا حيويا مهما في العلوم التجريبية، يتبين أنها تتأبى على مبدأ التكذيب الصارم ومع هذا فإن ذلك العائق المسبب للتعثر سيصبح محكا لاختبار نظريتي للوقوف على قيمتها)) (دونالد جيليز، فلسفة العلم في القرن العشرين). في الواقع هناك انتقادات كثيرة وجهت إلى معيار القابلية للتكذيب، بحجج متباينة منها مثلا: إنه يلغي مشروعية العلم، بسبب إعطائه مكانة علمية للقضايا الميتافيزيقية، من جهة، وإسناد العلمية لكل قضية هو ادعاء قطعا كاذب، من جهة أخرى ، وفي تقديرنا، إن المصاعب التي أحاطت بمعيار القابلية للتكذيب، والتي كشف عنها كما ذكرنا آنفا- نقد بعض العلماء، يجعل التصالح مع ابسيتمولجيا كارل بوبر أمرا صعبا.
- في النهاية، لا نملك إلا نقول، إن ابسيتمولجيا كارل بوبر هي مشروع عقلاني نقدي، وهو كأي مشروع علمي يتضمن وقفات ثورية، مبدعة مؤثرة في حركة العلوم، ولكنه أيضا يحمل مواقف حدية صارمة لا تتلاءم ورح نقديته المفتوحة. وإذا كان لنا أن نستفيد منه، فإننا بقدر ما نحن في حاجة إلى خلخلة الأفكار البالية، والتقاليد، والتعصب، والاعتقادات القطعية اللامؤسسة عقليا، فإننا في حاجة إلى العقلانية النقدية البوبرية، للنظر في مشكلاتنا بروح حوارية مفتوحة، تخلو من النزعة الاقصائية والتسلط، ويمكن أن نستدل على أن النقد - وإن تطورت وسائله- كان هو روح تطور الحضارات وتقدمها، والحضارة التي غابت فيها هذه الروح انطفأ نورها وتخلفت في كل شيء. وأن ملاحظتنا النقدية التي سقناها في هذا العمل، ليست سوى محاولات، أملتها علينا رغبتنا في التنبيه إلى ما يمكن أن ينجر على القراءات التي يوجهها الإعجاب بالتلقي دون تمحيص ونقد، لما يمكن أن تحمله المشاريع المعرفية من أفكار، نبتت في أرضية حضارية وتاريخية معينة، لا تكون بالضرورة قابلة لأن تحمل بالضرورة صفة العمل التكاملي الذي يأخذ في معادلاته الرؤية المنهجية التي تحيط بالأبعاد الكونية للإنسان.



#الشريف_زيتوني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماذا يمكن أن يوقظ فينا وباء الكورونا؟ (خواطر وآمال)
- مجتمعنا الإنساني إلى أين؟


المزيد.....




- إسبانيا: رئيس الوزراء بيدرو سانشيز يفكر في الاستقالة بعد تحق ...
- السودان: متى تنتهي الحرب المنسية؟
- كأس الاتحاد الأفريقي: كاف يقرر هزم اتحاد الجزائر 3-صفر بعد - ...
- كتائب القسام تعلن إيقاع قوتين إسرائيليتين في كمينيْن بالمغرا ...
- خبير عسكري: عودة العمليات في النصيرات تهدف لتأمين ممر نتساري ...
- شاهد.. قناص قسامي يصيب ضابطا إسرائيليا ويفر رفاقه هاربين
- أبرز تطورات اليوم الـ201 من الحرب الإسرائيلية على غزة
- أساتذة قانون تونسيون يطالبون بإطلاق سراح موقوفين
- الإفراج عن 18 موقوفا إثر وقفة تضامنية بالقاهرة مع غزة والسود ...
- الى الأمام العدد 206


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الشريف زيتوني - وقفة مع ابستيمولوجيا كارل بوبر