أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ابراهيم الوراق - جذور التصوف















المزيد.....


جذور التصوف


ابراهيم الوراق

الحوار المتمدن-العدد: 1729 - 2006 / 11 / 9 - 09:30
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


اختلفت تعاريف الصوفية للتصوف، وتنوعت حقائقهم عن مذهبهم، ، حتى قال السهروردي: وأقوال المشايخ في ماهية التصوف تزيد على ألف قول، فمن ناظر إلى المنهج جزيئا أو شاملا، إلى ناظر في الثمرات والغايات، أو بتعير آخر، منهم من نظر إليه باعتبار المقدمات( المجاهدات) ومنهم من نظر إليه باعتبار النهايات(المذاقات)، ومنهم من تأثر بومضة الحال، ولمسة الوجدان، ونفحة الأذواق، ومنهم من تكلم بإشارة المقام ، و لغة أهل الحال ، وكلها تعبر عن أحوال أصحابها، وتعبر عن مقامات أهلها، وتبين منازل السير والسلوك، وتقدم لنا إطارا جامعا يمكن لنا أن نتعرف من خلاله على التصوف منهجا وموضوعا وغاية.
وسر هذا الاختلاف يمكن توضيحه في أمور.


أولا: إن المصطلح عموما لا يكشف عن الحقيقة أو الطبائع الجوهرية للماهية، فالمصطلح ليس إلا ألفاظا مقيدة، أو قوانين معيارية، لا تدل إلا على جزء خاص من الحقيقة كما نتصورها، لا هي بأكملها على ما هي عليه كما وكيفا، فالحقيقة المصورة في أذهاننا نرسمها كما تتجلى لنا، ونعرفها كما نتخيلها، بلغتنا المتداولة إما حقيقة أو مجازا، فهل صياغتنا للمصطلح( التعريف من باب ذكر الجزء وإرادة الكل) يعني أننا قد اكتشفنا جوهر الموضوع وحقيقته، واحترزنا عن دخول المخرَجات من ماهيته؟؟وهل تشخيصنا له بلغتنا تدل على أننا نستكنِه حقيقته الوضعية؟؟
إن حقيقة الشيء هي كل ما يقع، على ما هو واقع عليه، وواقع الحقيقة ما هو حاضر بصورته في خيالنا وإحساسنا، وما هو ماثل أمام إدراكنا المباشر بالحس والعيان، وإدراكنا للحقائق بهذا المفهوم مختلف، باختلاف أشخاصنا المدركة، ومتنوع بقوة أو ضعف إدراكنا للعناصر الجوهرية من العناصر الثانوية من الشيء الواقع مدرَكا، والكفيل بتبيان حقيقة الشيء ومدى تطابقها لذلك المصوَر في الذهن هو في أنظار المناطقة النظر العقلي والاختبار، وإن كان هذا يختلف باختلاف المستكنَه، فمستوى الحقيقة العلمية الموضوعية لا يدرك على حقيقته إلا بالاختبار، ومستوى الحقيقة الغيبية الوجودية هو الكشف، ومستوى الحقيقة المنطقية المفهومية هو التجريد كما ذكر بعض أهل البحث، فالتصوف حقيقة غيبية وجودية، والنظر الكفيل بتبيان مطابقتها للواقع ( أي بتبيان حقيقتها التي صورت بها مع الواقع) هو الكشف، فما هو الكشف؟؟أهل بالمعنى الصوفي؟؟أم بمفهوم آخر؟؟
لا أخال هذا المناط سيحقق لنا الحديث في ذلك، فيبقى أن نشير إلى أن التجربة الروحية ولو تحَصَل لدينا بعض العلم بها، فإن ذلك لن يكون مؤهِلا للكشف عن حقيقته على ما هي عليه في واقعها، لأنها إدراكات تنسجم فيها الروح مع الإحساس الباطني، وبعض العواطف التي تدفع إليها التجربة.
ومن هنا جاز لنا أن نعتبر التعريفات التي عرف بها التصوف بأنها تشكل ماصدق التصوف، ومفهوم التجربة الروحية، ومعاني التجربة الذوقية للإيمان.

ثانيا: إذا كان المقصود من التعريف هو إفادة العلم بالمعرف، واستحضار صورة الموضوع في ذهن الذهن، فإن تعريف التصوف ليس من هذا النوع، فقد عرف بمئات التعريفات، لكنها لا تستجلي حقيقته، وإنما تبحث في ظواهره وأحواله، وهذا ما جعل المنكرين للتصوف يعارضون قدمه وأصليته، لبعد حقيقته ومعناه.
وسر هذا التعدد في التعريف لا يفك رمزه إلا تفكيك الباحث لبني التصوف حتى يستطيع أن يستظهر الكليات التي تنتهي إليها كل الجزئيات التي جعلت التصوف بعيد الغور، عميق الغاية.
فالتصوف عندي حركة روحية يمارسها الفرد أو الجماعة، وتنطلق عموديا من ذات الإنسان لإكتشاف عوالم النفس، والتعرف على موارد النقص
فيها، ومواطن القوة والعظمة في بنائها، وعموديا في استظهار تجليات الأسماء والصفات في الكون والإنسان والحياة، ومعراج هذه الحركة هو الروح، والعقل فيها هو باطن الإنسان، واللغة هي الإشارات، والمعنى فيها هو الإلهام، والحقيقة بين يدي مصدقها، وجماع الرضا،
هو قوله سبحانه وتعالى: وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، فالروح من أمر ربي، وحقيقتها لا تستفاد بالحواس، ولاتنال بالوسائط، وكل ما انتهى إليها لا يمكن فهمه إلا في دائرة علم الله عز وجل الذي تفرد به.
ومن المعهود عند المناطقة أن المحسوسات لا تنال إلا بالمشاهدة، والمعقولات بالوسائط، وهما مادة المعارف(العلوم) النظرية التي يكتسبها العقل، والروح ليس من مقدوره أن يحده لخروجه عن حدوده، يقول الجرجاني في تعريفاته: الروح الإنساني، هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان الراكبة على الروح الحيواني، نازل من عالم الأمر، تعجز العقول عن إدراك كنهه..... فالروح بناء على تعريف الجرجاني، نازل من عالم الملك، (على اعتبار الفرق بين عالم الملك وعالم الملكوت)مرتبط بكينونة كن الإلهية، فهل في قدرة عقل البشر أن يدرك سر هذه اللطيفة؟؟ وهل تستطيع اللغة بقدرتها الدلالية أن تعبر عن ذلك؟؟
إن العقل لا ينفذ إلا المحسوسات، واللغة لا تحدد إلا المعقولات، ولا سلطان لأحد منهما على اختراق مدار الروح، واكتشاف عوالمه الباطنية،وحين يمتلك العقل خيط النور، وتستطيع اللغة التعبير، يمكن لنا أن نرسم تصورا ذهنيا للتصوف، وتخطيطا عقليا لحقيقته، وأجساما لغوية للشعور به.
فالتعاريف الموجودة في كتب التصوف، آثرت الإشارة على العبارة، والذوق الوجداني على الإحساس الذهني، فكل يعبر حسب قدرته على تطويع الدلالة للإحساس الذي يقربه بعبارته.
وهذا الاختلاف في التعريف كان سببا في تأليب خصوم الحياة الروحية على التصوف، ووسيلة لحشد المنكرين لمقاماته وأحواله، فهل يعني الاختلاف في التعريف أن التصوف حادث في الأمة، إن لم نقل حادث في الملة؟؟
وقبل أن أجيب عن هذا السؤال، لا بد من الإشارة أولا إلى أن الاهتمام بالاختلاف في تعريف التصوف، قليل العائدة على البحث العلمي، ونوع من الفوضى الفكرية، فمن الأولى، أن نهتم بالكشف عن حقيقة التجربة الصوفية، وتبيان ما فيها من عوامل الصدق مع النفس، أو خداع للآخرين، كما يقول بعض الباحثين.
يقول الدكتور محمد بنعيش في كتابه،التصوف بين السنية والتطرف:إن الاهتمام بأهل المذهب، ومحتوى مبادئه، هو الأهم في البحث، لأن المصطلحات لا أهمية لها أمام المسلك والمنهج العلمي، ولب الشيء إذا اكتشف على حقيقته، فلنسمه بما شاء، بل المهم أن نعرف القصد، وإلى أين الهدف، ثم بعد ذلك نحكم بالجواز أو بالمنع، بالجزم أو بالإنكار.
فما هو السر في اختلاف تعريف التصوف؟؟
قبل أن أجيب عن هذا أيضا، لا بد أن نذكر بأن منكري مقامات التصوف، وأحوال الصوفية أنواع وألوان وأطياف كثيرة، وملاك أمرهم وهم متعددو المشارب ،(ملاحدة، علمانيون، حداثيون، فلاسفة، إسلاميون، وهابيون) أنهم لم يستطيعوا أن يغوصوا في عالم التجربة الروحية ، ولم يقدروا أن يكتشفوا كمالها ونقصانها، ويتعرفوا على مواطن الخلل والقوة فيها، وفاتهم وهم يعيرون التصوف بمقاييس مادية بحتة، أن التصوف ليس علما حتى نحاكمه بمقاييس العلم، بل هو تجربة روحية مناطها الروح والوجدان، ووسيلته المراقبة في الخطرات والسكنات والحركات.
والروح قيمة إضافية للذات المخلوقة، وهو الجزء العلوي في الإنسان.
وقد حاول من قبلنا حتى في الزمن الأول الذي طرحت إشكاليات فكرية عويصة أن يستكنه عالم الروح، وأن يجعل لها ماهية تخضع للعقل، فسألوا المصطفى صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأجاب القرآن نيابة عنه قاطعا الأمل في ذلك، منهنيا علمه إليه سبحانه وتعالى، كما مر معنا.
فيبقى كل ما اتصل بالروح تكتنفه هذه المحدودية في التصور، وتنظمه هذه المفهومية المستعصية، وقد يحاول البعض أن يضع لها إطارا ماديا، وحدا مرسوما، فتضيق عليه العبارة أحيانا، وربما قد تتسع بدون جدوى ولا طائل، فينشئ ألفاظا ومعاني متشاكسة لا تجمعها وحدة ولا نظام، وربما قد يخرج ما ظاهره يستدعي الارتياب والشك، وهذا ناتج عن عجز قدرة الإنسان بعقله المحدود أن يحلق في برزخ الروح.

فتعدد التعاريف منشؤه من عدم وجود حدود لآفاق الروح، وهذا السر هو الذي حاول بعض الباحثين أن يكتشفه فلم يوفق إليه، ولم يجد سبيلا ليصل إليه، ويبقى أن نشير هنا إلى أن التصوف عبارة عن أحوال ومقامات، فتعدد الأحوال، وتجدد المقامات، يسيغ تعدد التعريف، ويستلزم أن يعبر كل واحد من مقامه وعن حاله، فليس حال أهل البسط حالا لأهل القبض، أو حال أهل الصحو حالا لأهل السكر، فلكل مقامه، ولكل عبارته التي يعبر بها عن مقامه وحاله، وإذا سلمنا باعتبار هذه الأحوال والمقامات، فإننا لا نكاد نختلف في وجود ما يسمى بالسمة النفسية، أو الخاصية الذاتية، وهي صفة ثابتة لدى الإنسان لا تبرحه في تصوراته وتصديقاته، وتنطبع على أفعاله وأقواله وحركاته، وهذا أيضا له انعكاس في تصور الصوفي وعبارته، وقد يعبرون عليه بالجلال والجمال.
فالسالكون مورد الطريقة، والمنخرطون في تجربة الحقيقة، درجاتهم متفاوتة في الهمة، فمن كان أقوى قوة، وأكثر طاقة، وأشد شكيمة، استفاد المعارف، واستوعب الحقائق، ولو على مستوى الإحساس والشعور الباطني، ومن كان خاملا ضعيفا، كان أبعد منها منالا، وأقرب منها حرمانا، فالغواص المقتدر لا يرضى بدون اللئالئ، والراسب بدون مهارة اختنقته الأمواج، والمحمول على متون المراكب، ليس هو الطافي على السطوح، والمجرد من الأسباب، ليس هو المعانق لها، والقائم بحق الربوبية، ليس هو المخل بقوانيها، فبينهما مساحة شاسعة، ومسافة طويلة، فحالهما كحال المسافر والمقيم، والسائر والواصل، فهل يستحيل في علم الله أن يمنح عز وجل زائره من عطاياه ما لم يخطر على بال من وقف بباب الحس والمادة؟؟
نشأة التصوف،
يذهب كثير من الباحثين في التصوف، إلى أن التصوف قراءة للمنهج القرآني في ترتيب سلوك البشر على ما يؤول عليهم بالعائدة والخير، فيكون التصوف جزءا من التفسير( أو التأويل) المتراكم (التراث)بين أيدي المسلمين، يحتاج على شاكلة غيره إلى نظرة فاحصة جديدة، وقراءة نقدية حديثة تكشف عواره وصدقه، فيكون هذا الرأي منبيا على اعتبار التصوف لصيقا بأطوار النص الديني، فقد يكون نابعا معه، أو جزءا من صيرورته، أو مرحلة من تاريخه، أو قراءة تفسيرية أو تأويلية لمضمونه.
ويصح انثروبولوجيا بناء على هذا القول، اعتبار التصوف (لأن التصوف هنا حلقة من فهم القرآن دونها المسلمون بنمط العيش الذي اختاروه) تراثا اجتماعيا للذين يستكشفون الحياة الاجتماعية للمسلمين الأوائل، ويستقرءون طرائق العيش، ووسائل محاربة النفس.
فيستلزم من هذا، أن نتعرف أولا على المجابهات التي واكبت النص الديني في القرن الثاني الهجري، سواء كانت فكرية أو سياسية، حتى نستطيع أن نضع جردا عاما لخريطة المجتمع الإسلامي الدينية، فإن استطعنا ذلك، فقد دللنا الطريق للحكم على التصوف، فإما أن نعتبره ناتجا عن قراءة للنص الديني، أو سلوكا لا يفسر النص الديني، وإنما توافد على البيئة الإسلامية من ديار الغير.
وإلى جانب هذا الرأي نجد فريقين:
الفريق الأول يقول: بوجود التصوف في عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم فيكون التصوف ناتجا عن الوحي الإلهي، مؤسسا بالنص الديني، يقول سيدي محمد بن الصديق: إن أول من أسس التصوف أو الطريقة هو الوحي السماوي، إذ هو بلا شك مقام الإحسان، الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما بينها واحدا واحدا دينا بقوله فيما رواه مسلم، هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم، فالصحابة والتابعون كانوا صوفيين بهذا المعنى، وإن لم يتسموا بالصوفية، وما يراد بالتصوف كما ذكر الدكتور عبد القادر عيسى، إلا أن يعيش المرء لربه لا لنفسه، ويتحلى بالزهد وملازمة العبودية والإقبال على الله بالروح والقلب في جميع الأوقات، والصحابة قد فازوا بالقدح المعلى في تذوقهم لمعاني الإيمان، ووجود حلاوة الطاعة في حياتهم، وشدة اللصوق بالله سبحانه وتعالى حبا وولاء.
وعلى النقيض من هذا القول وهو الفريق الثاني، من يقول بحدوث التصوف في الأمة، وكانت بداية نشأته وظهوره في أوائل القرن الثاني الهجري، لكن هذا القول، لا ينفي عنه اتصاله بسلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، كما نرى ذلك عند ابن خلدون في مقدمته. ومن هذا الفريق (القائل بحدوثه في القرن الثاني) من ينكر الاتصال بالسلف، ويجعل التصوف بعيدا عن دائرة المركبات الدينية، (وسيأتي معنا سبب الخلط الذي وقعوا فيه).
فما هو السبب في ظهور التصوف؟؟
إن التصوف ظهر لحاجة طبيعية إلى غذاء الروح الإنسانية، وتسكين رغبات النفس المندفعة، فكما ظهر عند الإنسان الأول، وفي الديانات الأخرى، ظهر عندنا في عهد الإسلام، فاحتياجات البشر متحدة قديما وحديثا، و شوقه دائما شديد إلى ما يسكن روعه، ويهدأ طبعه، ويضفي على حياته طمأنينة وأريحية، فهذا الشوق هو الذي راوده، وهو يستكشف ربه المغروز في فطرته، والمغروس في جبلته،


والتصوف امتداد لهذا العشق الإنساني لربه، أو للحقيقة المطلقة، وصيرورة لحياته الممتدة إلى عمق روحه، وليس استنساخا للتجارب الحاضرة والقديمة، واجترارا للمقولات السابقة، وسيأتي معنا تبيان ذلك.
لكن بعض المفكرين يرون ظهور التصوف كان مسببا لجنوح الناس إلى المادة، وتفكك الحياة الروحية في الحضارة الإسلامية، فيكون التصوف نتيجة للصدمة التي حصلت بين الحضارات، وردة فعل على ما آلت إليه الأوضاع في الأمة، ومختبئا نفسيا يحاول الصوفية أن يتستروا به تخفيفا من حدة الحياة وهوجها.
فهل هذا التفسير صحيح في معيار العلم؟؟
لا أعتقد بصحته، ولا أجزم بصوابيته، فالإنسان إرادة حرة في الوجود، يسعى إلى أن يكون له موقف من الحياة، ( التحكم فيها، استهدافها بالنفع...)وتأثير فيما يدور حوله من المكونات، فهو منفعل فاعل، موجودة بكثافة، يتأثر بما يلمس حياته، ويتحرك بأقصى جهده لنيل رغباته، ويتدرج في سعيه مع تطلعاته، فلا أقبل أن يكون الإنسان المتدين منفعلا سلبيا لا يرى مشاكسة الحياة نوعا من الجهاد، ولا يسعى لمواجهة تناقضاتها، وفك ألغازها، ولا يحاول أن يخضعها لسلطانه، ويرغمها لطموحاته، فالتاريخ يحكي عن هذه الشراسة التي واجه بها الكمل مسار الحياة، وعاند بها الأقوياء غرورها وكبرياءها، وهب أن بعض الضعاف في هممهم، والفاترين في عزائمهم، قد حصل منهم ذلك( النكوص عن الدنيا) ، فذلك لا يعني أن التصوف كان ردة فعل ضد الأوضاع، وإنما هو استجابة لرغبة باطنية موجودة بجوانحنا نستقصي بها آفاق الكون والحياة.

وما هو الفرق بين حركة التصوف والزهد؟؟
درج كثير من الباحثين على اعتبار التصوف ثمرة من ثمار الزهد، وهو استنتاج غير دقيق عندي، لأن التصوف عبارة عن الرياضات الروحية، والمجاهدات النفسية، والزهد يحصل بالاستنكاف عن الملذات، والإعراض عن زخرف الحياة، وقد يكون هذا ناتجا عن خلل فكري، أو عن عقدة نفسية، أو عن غير ذلك، (كما نلاحظ في كثير ممن اعتزلوا الحياة ليس من باب الزهد، وإنما لخلل في رغباتهم وغرائزهم ونفسيتهم) بينما التصوف، لا بد من عيار التجربة والاختبار، حتى يصل الإنسان إلى نتائجه التي منها عدم الاغترار بملذات الدنيا، وهو الزهد بمفهومه الشرعي.
وسأنتقل هنا إلى مصادر التصوف،
مصادر التصوف
إن أخطر قضية تواجه الباحثين في التصوف هو مصادره، والدليل على هذا، اختلافهم في النتائج التي توصلوا إليها، فقد يقدم أحدهم في مورد نتيجة ينقضها في مورد آخر، فيبقى السؤال المحير لم هذا الاختلاف في مصادر التصوف؟؟ أليس التصوف إسلاميا حتى يكون مصدره النص الديني؟؟ أم هو دخيل على الأمة فيكون نصيبه التخبط والفوضى؟؟وسأحاول أن أجيب عن ذلك وفق آليات معينة تساعد على اكتشاف السر من وراء هذه الفوضى التي تشير إليها الدراسات التي كتبت في التصوف.

يذهب بعض الباحثين إلى أن مصدر التصوف هو النص الديني، وبعضهم يقول بالتعدد، وسبب اختلافهم يعود إلى نقاط:
- أنهم لم يفرقوا بين ظهور التصوف منهجا فكريا وسلوكيا في الحياة، وبين تدوينه علما آليا معياريا يخضع لآليات المنطق والعقل.
- أنهم وجدوا التشابه بين الحياة الروحية في الإسلام وغيره، فخالوا التالي نسخة من المقدم.
- أنهم رأوا التجارب الروحية قد تتحد في نتائجها، فتوهموا أن التجربة الإسلامية من نبع تلك التجارب، وإن اختلفت المنطلقات والبدايات، والعقل يحيلنا إلى تفسير كل تجربة من داخل الحضارة أو الديانة التي تنتمي إليها.
- أنهم لم يقسموا التصوف تقسيما موضوعيا، فالتصوف إما سلفي، ( ولا أتحرج في استعمال هذا المصطلح، لأن الصوفية هم السلفيون حقيقة، ونتمنى أن نوفق لتحير المقال في هذا) أو فلسفي، أو عملي( وهو تصوف الأربطة والتكايا والزوايا)، والتصوف الفلسفي يمتاز من بين هؤلاء بمزج الفلسفة بالتصوف، وهذه قمة في الجمال، لأن التصوف من فروع الفلسفة عند البعض، يقول برتر اندرسل: إن من الفلاسفة من أمكنه الجمع بين النزعة الصوفية، والنزعة العلمية، ورأى في ذلك الجمع والتوفيق سموا فكريا جعل من أصحابه فلاسفة بالمعنى الصحيح، فإذا وجد من الصوفية من لفق بين الذوق والنظر فإن ذلك لا يدفع بنا إلى التجني على التصوف.
- أن التصوف ظاهرة مشتركة بين الديانات السماوية، والفلسفات الأرضية، (الديانات الشرقية) فلا يعني التشابه في بعض الطقوس، أو النتائج، أن أحدهما تأثر بالآخر.
- إذا حصل وجود البعض ممن يسيء إلى الظاهرة الروحية من الصوفية قولا وعملا، فإن من المسلمين من يسيئون إلى الإسلام قديما وحديثا، (قتل الأبرياء في مدريد ولندن والدار البيضاء وعمان...) فهل نستبيح عرض الإسلام لفساد أهله؟؟ فكذلك التصوف.
- أن الوصول إلى الحقيقة في الدراسات الحسية ليس سهلا، فكيف في الدراسات التي تعتمد الذوق والنظر.
- إن منهج البحث يفرض علينا أن ندرس المحسوسات في عالمها، والعقليات في عالمها، فلا يمكن أن يكون المحسوس سبيلا لنقد المعقول.
-إن تفسير ما هو مادي لا يتم إلا في إطار المادة، فتفسير ما هو وجداني وروحي بمقاييس العقل والمنطق هو نوع من اللخبطة والخلط والإضطراب في التحليل والفكر.
- إن الذي يفهم تركيب البشر لا يخفى عليه أن الإفراط يعيش إلى جانب التفريط في كل مناطات الحياة، فليس التصوف ببعيد عن هذا.
- إن الأشياء تبتدا جميلة وجيدة، ثم تدور عليها الأيام فتحيل جدتها إلى بلاء، سيما إذا انداحت الدائرة واتسعت، ودخل في التجربة من لا يستحقها) الدخلاء(
- إن الدراسات الدينية قد تعرضت لعمليات التشويه والدس، إما من قبل الساسة، أو من قبل التيارات والمذاهب الفكرية، والتصوف لم ينج من هذا خصوصا وهو القلعة المنيعة التي حمت الإسلام بدون مغالطات ومزايدات مجانية.
- إن أعظم ارتجاف يصيب بحثنا بالشلل ما نراه من دس مختمر في داخل تراثنا، فالحديث النبوي قد تعرض لذلك، بل كتب التفسير، بل غيرهما، وهذا مناط يجمع أسباب التحريف الذي كان سببا في العراك والشجار على التصوف.

- إن التصوف هو العرفان، ونظرية العرفان خصوصا عند الشيعة معروفة، وهما مترادفان عند كثير من الباحثين، وقد ألف الشهيد مرتضى مطهري كتابا أسماه العرفان، أدخله كل ما له علاقة بالتصوف،
وقد قال البعض بالتفرقة فيما بين المصطلحين باعتبار، وليس المقام لذلك.
- إن التركيز على الجانب الوجداني، لا يمنع من التركيز أصلا على مشروعية تلك العبادة، ( الموافقة) حتى لا نقع في الإتهام الذي يأبى كثير من المتحذلقين من أبناء المدارس النصية أوالمادية أن يتهموا به التصوف، كل من منطلقه.
فملازمة الكتاب والسنة مما دعى إليه المشايخ، واستقصاء أقوالهم في هذا تكثر بها الصحف والمجلدات، إلا أن الفرق الذي حصل فيما بينهم وغيرهم، أنهم اعتمدوا على جوهر وحقيقة العمل، لا على طقسه وهيكله، واستجابوا للأمر لا لجدواه.
فالصوفية يؤدون فرائضهم وسننهم بدون تقديم لجانب على جانب، ولا لمهم على أهم، وغيرهم قد يشاطرونهم في ذلك، وربما يزيدون في الاعتداد بظاهر العمل (كما قال النبي في الخوارج، يحقر أحدكم صلاته أمام صلاتهم) ، لكن يختلفون معهم في نية العمل وقصديته، فالأداء بالحب، ليس هو الأداء بالامتثال!!!واتهام النفس بالتقصير، ليس هو الرضا عنها، وممارسة العمل بالوجدان ليس هو العمل بالجوارح، فما أبعد المنهجين.!!!
وجماع أمرهم أنهم اصطحبوا النية وصدق التوجه والإرادة في جميع أعمالهم فتحولت السنن عندهم إلى واجبات يلتزمونها إلا نادرا تعمدا( لئلا يقعوا في فرضية ذلك على أنفسهم) واستطاعوا بهذا المنهج أن يكوِنوا لديهم ملكة لا زمة يحركها الحب، والإخلاص.
-،إن قول البعض بأن التصوف مجاف للعقل، مخالف لنتائجه، فيه ظلم للتصوف، وتجن على أهله، فما هي حدود العقل حتى نقيس عليها مدى انسجامه أو مخالفته للتصوف؟؟ أهل العقل المعاشي الذي يبرر الخداع والكذب للوصول إلى النيات المبيتة في سواد الضمير؟؟أم العقل هو ذلك الوعاء الذي يتعامل مع النص بنفعية مفرطة؟؟أم ماهو العقل؟؟
إذا كان العقل هو أن يكسب الإنسان من دنياه آخرته، فإن الصوفية قد استبد بهم شعور الرغبة في الله حتى أنساهم الوجود والموجودات، ففنوا عن الخلق، وفروا إلى حضرة الله سبحانه وتعالى، أليس هذا هو العقل الذي يجب أن نقيس به الربح والخسارة؟؟
- إن السمو الروحي والفكري تنتج عنه معارف جديدة، وهذا مشاهد ومعقلن، ولا أدل على ذلك من الصفاء الذي يحصل للإنسان حين يكون وحيدا يتأمل الوجود، وينظر إلى الآفاق، ويستمع بسمع قلبه إلى نسمات الملكوت تسبح لباريها، فهذه المعرفة قد لا تكتسبها الإنسان في ضوضاء النهار، وهرج الآدميين، فهب أننا أردنا أن نعقلن هذا، أهل يصعب علينا ؟؟
- وأخيرا أتمنى أن تنفتح القلوب لرؤية الحقائق على ما هي عليه، لا كما يصورها أعداء التصوف ممن لا يحيون بحياة الإسلام، ولا يشعرون بجمالية الإيمان، ولا يسعون أن تكون الأرض والعباد في صفاء ووئام.






#ابراهيم_الوراق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أهمية التصوف
- التصوف وحوار الحضارات
- ][®][^][®][توابيت الموت ][®][^][®][
- مشروع شاعرة
- لن أرحل
- إلى الذي سأل أين الله
- قرية المجانين
- حين ولدتني أمي !!!
- خيال إنسانة
- خيال من خيالات انسانة
- لقاء على شاطئ سيدي بوزيد
- مسار عمرو خالد ، وخالد الجندي ، في الميزان
- صراع الوهم ، أم صراع الإرادات
- عمرو خالد بين الأسطورة والحقيقة
- شظايا في افق الكلمات
- اعباء الروح 1
- حوار بين العقل والعاطفة رقم 6
- 1-2-3-4-5-مرابع البؤس -الانسان ، الزمان ، المكان- رقم
- حوار بين العقل والعاطفة رقم 45
- حوار بين العقل والعاطفة -رقم 1-2-3-


المزيد.....




- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ابراهيم الوراق - جذور التصوف