أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قيس كاظم الجنابي - المحجر.. المكان والموقف















المزيد.....

المحجر.. المكان والموقف


قيس كاظم الجنابي

الحوار المتمدن-العدد: 7702 - 2023 / 8 / 13 - 11:56
المحور: الادب والفن
    


-1-
تبدأ مجموعة محمد خضير الرابعة (المحجر) بمقدمة عنوانها (توازيات وتقاطعات) عن "قصص تشرين"، أو انتفاضة تشرين 2019م، حاول فيها البحث عن نقاط الالتقاء والافتراق بين هذه الانتفاضة والانتفاضات العالمية السابقة لها، وصفها بانها "توازيات الحاضر إزاء تقاطعات الماضي في وعي العشاري المتجول ؛أخوة "الكاووس" وأخوة"الناموس" يشقّان الممرّ الهادئ ويدخلان اللقطة الأخيرة يداً بيد، وخطوة بخطوة".[ص11/دار شهريار البصرة، 2012م]
تضمنت هذه المقدمة الملغومة بالأحداث والاحالات الى نضال الطبقات المسحوقة ،مثل(كومونة باريس) كما تحدثت عنه (حنّة أرندت) في كتابها (في الثورة) حول علاقة الانتفاضة بالجانب الفكري والثوري،أو ما اسماه (الكومونة الجديدة)،وما تحتاج اليه من مقومات فكرية، ولا يكفي العنف لاحداث الثورة، وقد صرّح بأن هذه القصص تنتنمي الى (الفترة التشرينية)، التي قدمت منها هذه القصص، ثم أشار الى أنه على الكتاب"الا يستعيروا أسلوب العنف في نصوص قديمة لتجديد السّرد بموجبها (قصص مكسيم غوركي وجاك لندن وجون شتياينبك؛ إضافة الى قصص عربية وعراقية من مرحلة الكفاح ضد الاستعمار والاحتلال: قصص النضال الفلسطيني مثلاً). فان نجحت تجربة الالتحام الدّامي،والتحشيد المليوني، في خانق صغير محصور بين ميدان ساحة التحرير ومنفذ ساحة الخلاني باتجاه الجسرين التاريخيين(الجمهورية، والاحرار)، فقد لا تكون المتابعة السردية ،وتجديد منافذها محددين بالمكان والمنوال ذاتيهما مرة ثانية ؛ ما دام الكيان السياسي الضاغط على الحريات ليس نفسه "الكيان التسلطي القديم، وميكانيكيته الكلاسيكية".[ص13]
ثم حاول القاص توضيح العلاقة بين قصصه والانتفاضة،فرأى بأنه التقط (الكتابة) من هاجس عميق متعاطف مع هذه الانتفاضة بطريقة أو بالأخرى، لأن هذه الحركة الاحتجاجية وفرّت"هواجس عالية في الخصوبة، احتبستها صدور شخصيات مختارة ، قبل تحليلها في الوقت المناسب".[ص15]فقد تحركت هذه القصص في فضاء مخنوق ، بين الانفاق وتحت الجسور،وفي الصناديق المغلقة،وفي أجواء وفضاء محاصرة بالخوف والرفض والالم.
كتب القاص المقدمة بعد انجاز هذه المجموعة عام 2021م، وكتب أغلب القصص عام 2020م، باستثاء قصة(النفق) التي كتبها عام 2019م، وهذه مسألة مهمة لمعرفة المناخ/الفضاء السياسي والنفسي المرتبط بالانتفاضة وسردياتها المختلفة، ولكن القاص اختار قصة (المحجر) لتكون عنواناً للمجموعة وما يعنيه الحجر والمحجر من العزلة والخوف والتوغل في الأقبية البعيدة، وغالب هذه القصص ، هي من النوع الذي يتخذ الدهاليز الضيقة فضاء مكانياً يتصل بحركة الشخصيات ، فقد انتقل محمد خضير من (الصندوق) في مجموعتة الأولى(المملكة السوداء) الى التاج ،وبقيت هواجس هذا الصندوق واضحة في سردياته ،بوصف الصندوق بديلاً عن الكوابيس والأحلام المرعبة والصمت المطبق.
-2-
انتقل القاص من العالم الأعلى الى العالم الأسفل، من خلال تمثله لشخصية تموز الذي أودعته عشتار في دهاليز ذلك العالم، عالم اللاعودة ، عالم الخوف، عالم الشياطين، عالم الهروب من الواقع الى اللاواقع،والهروب من السرد الى ماوراء السرد، ومن الحقيقة الى عالم الرؤى والكوابيس، في ظل تحولات تاريخية ونفسية واحساس خفي بالقطيعة مع الآخر. نضوب جسدي ،وشحوب في المخيلة ، وهاجس قدري بالخوف وزحف للشيخوخة، والاقتراب من الموت ، مع بقاء الروح الثورية وتقدمها.
وقد نتساءل: هل عبرت قصة (المحجر) عن علاقة جائحة كورونا بالانتفاضة، بحيث صار الحظر عاماً على سكان البلد، وصار المنتفضون في تشرين مطاردين بحاجة الى الحجر، أو الى أنفاق وأمكنة عميقة تؤويهم وتخلصهم من الملاحقات؟
تبدو هذه العلاقة وان لم يصرح بها القاص غير واضحة تماماً؛ فالحجر على الأفكار والنشاطات هو جزء من الحظر المفروض على البلد، لأسباب عديدة داخلية وخارجية، بحكم ظروف الاحتلال وما بعد الاحتلال، وعلى الرغم من أن الكاتب يتحاشى استخدام المفردات الصادمة،مثل السقوط ، الاحتلال.. وغير ذلك، لأنه يعتقد بأنهما يسوغان التشجيع على العنف والصراعات.
والحَجِر قديم قدم الأمراض والجائحات، وكان يسمى الحجر الصحي، وهو يحيل الى بناء مغلق الجدران ، يقضي المحجور فيه مدة زمنية حتى تتوضح حالته من الإصابة،وخصوصاً في الحدود بين الدول والاقاليم. وكان اختيار القاص لمفردة حجر هو إحالة واضحة وغير مضمرة الى الصندوق، صندوق الأسرار،وصندوق المخاوف،والعالم المظلم ،والجدران السوداء، ومن هنا صارت هذه القصة عنواناً مشتركاً لمجمل القصص، حيث تبدأ المجموعة بقصة(النفق)، نفق التحرير،وأنفاق المنتفضين الهاربين من المطاردة، مطاردة كل من يعارض السلطة، بطريقة تقترب من أساليب الأنظمة الشمولية.
عنوان القصة الأولى(تحت الجسر)يحيلنا الى المكان/الفضاء المحاصر، المضغود عليه، يكتبها عبر ضمير الغائب، لهذا أشار الى الأحداث الغاضبة لمتظاهري تشرين عام 2019م، وبطلها(شاهر الشاهري) المصور الفوتغرافي؛ ليدلل على وجود أكثر من صلة بين الاحتجاج والتصوير ولها علاقة بالاشهار، وكانت حاجياته التي يعمل بها ،وأدواته محشورة في حقيبة ظهره، فلما دخل في صميم الحركة الغاضبة "حُشر بين المتاريس الخفية، وأجل صعوده الى الأعلى، ريثما يضيف تعديلات على خطّة انسحابه".[ص19] مما يشير الى أن الأمكنة التي ترتادها شخصيات الكاتب ومنذ القصة الأولى (النفق) هي أمكنة محاصرة، ومقموعة، لا يسمح للإنسان فيها بالتطلع الى الأعلى، وهذا ما يبدو على الشخصية الأولى في القصة (فارس الصفواني) ؛والكاتب في الغالب يفضل التقليل من التفاصيل، ويحاول ربط الماضي بالحاضر،والسيطرة على القصة من خلال تبويبها وترتيبها على ستة أقسام، تشكل في مجموعها فصول حركة الاحتجاج من البدايات الى النهاية.
لقد بدأ مع(المنقبون، الاختطاف، التحقيق، الجصاصون، تحت الجسر)،وانتهى عند (تحت الجسر) حيث استقت القصة عنوانها منه، وهو في كل هذا وذاك يحاول أن يوظف بعض الاحالات الاسطوية لكي يبتعد عن الحدث المباشر، ويبقى قريباً منه حسب تسلسل الاحداث وتواليها. وهذه الطريقة التي يكتب بها القاص قصصه تقترب من طريقته وأسلوبه في كتابة مقالاته في كتاب(الحديقة في الصيف) وفي كتاب(العشار)؛ وهو أسلوب تعدد المشاهد ،والحلقات المتصلة بعضها ببعض، بحيث يشكل كل قسم من القصة /المقالة موضوعاً مستقلاً من جهة ،ومتصلاً من جهة أخرى،وهو يحاول توثيق الأحداث ومتابعتها في صفحات الكتاب المختلفة، لكي يحيل القارئ اللبيب الى موقع(التحت) السياسي /الجسدي،وبروز فكرة الطبقات في المجتمع العراقي في ظل متغيرات المرحلة.
للقصة ايقاعها الخاص في تنامي السرد وتطوره،وفي الانتقال من صيرورة الى صيرورة، فالبداية تحيل الى وجود حركة،ومكان وهيكل حين يبدأ القصة في القسم الأول:
" كانت الحياة هادئة ومتوارية، تحت الجسر الحديدي الذي يربط ضفتيّ دجلة، قبل أن تدهم الهيكل الأعلى حركة مباغتة ،وأرجل هادرة"[ص19]، ثم يدخل في صميم الحديث بطريقة توثيقية ، ثم يستمر في استحضار الصور لهياكل الجسور والقناطر المصنوعة على انهار الوادي الخصيب، ويستحضر معها حياة الضيق والفتك، ومنها انه يستحضر رواية جبرا إبراهيم جبرا (صيادون في شارع ضيق) قبل نزوله أسفل الجسر، لماذا هذا التشتت بالأسفل ، هل يعني عرض للطبقة /الفئة المظلومة أو السفلى من المجتمع لأنها تعاني الأزمة الاقتصادية.
لم يكن الانتقال من حقل التصوير عند (شاهر الشاهري) الى التنقيب،أو من الجانب الظاهري الى الباطني، مصادفة، بقدر كون الكاتب يحاول الانتقال من الفضاء الاعتيادي الى الفضاء المكتوم، حتى انه ربط المصور (الشاهري) بحشرة العنكبوت التي هي جزء من حركة التنقيب والبحث في زوايا الجدران، ولعلها يقصد بها جدران المحجر ، ثم يزاوج بين التصوير والسينما، وكذلك علاقة (فارس الصفواني) بما يعنيه اسم كل منهما ولقبه، من حيث الاشهار والصمود،أما المتغيرات وعلاقتها بكتاب (في الثورة) للكاتبة(حنة آرندت) وعلاقة الثورة بالعنف والحرية، ولأنها الثورة الحقيقية فان وسائل تدميرها تنبع من خصومها الذين سرقوا الأحلام من خيالات الشباب،حتى تظهر مرحلة جديدة هي الاختطاف والوسائل الأخرى.
يستحضر القاص الأمكنة السفلى، كالسجون الأمريكية وجحيم الحروب والظروف الداخلية، فكان عنوان القسم الخامس(الجصاصون) مثيراً لأنه يحيل الى الطلاء الجبسي المعروف، لكنه يشير الى ان الجصاصين "في الأساس فرقة بوليسية"، وكأنه يربط فكرة السجن بالألوان المعتمة، وربما كان لاستثمار مضامين مسرحية بيتر فارس (شارلوت كورداي) التي بدورها دور والتي تحيلنا الى "تقديم رأس القائد الثوري العراقي في صندوق مقفل، بعد اغتياله ، الى المخرج الذي قرن نفسه بالمركيز دوساد".[ص54] في إحالة الى علاقة المحقق/الجصاص بالمخرج/السجان، ثم تكون نهاية القصة مع المشهد السادس(تحت الجسر) واحالة كلمة(تحت) الى السجن، ثم انهى القصة بمشهد إضافي مربع مرسوم، لغرض فصله عن الأقسام الستة التي تتكون منها القصة يتعقب فيه شخصية (شاهر)،وهو يستشرف مستقبل الانتفاضة، التي يرى بأنها كانت شاهداً على "سقوطه" على صفحة النهر القريبة، كالتماعة "مصباح الكاميرا"؛ بعد أن تأكد من خديعة الجصاص "المتبصص الأكبر" في إشارة الى الخديعة التي وقع فيها الشباب.
لا تختلف قصة (النفق) كثيراً عن قصة(تحت الجسر) من حيث طبيعة المناخ السردي ، ولكنها أقصر منها، وتتكون من جزء/قسم واحد، ويشكل فيها (النفق) عنصراً مكانياً ضيقاً ومحوراً مهماً فيها، وهي ربما تكمل حركة المتظاهرين في القصة السابقة، في انتقالهم من مكان الى آخر، بحيث يمكن للمتفحص أن يجعل من هذه القصة باباً مكملاً لما سبقها ،وتكوين صورة خاصة، وكأن قصص (المحجر) تشكل وحدة موضوعية،ووحدات سردية مشتركة، لمتابعة واقع متشظٍ ومأزوم، ينسلخ الشباب منه لتأسيس وجودهم الفعلي والتعبير عن احساسهم بالظلم، بحيث يكون (النفق) منقذاً، هرباً من القوات المزوّدة بالهراوات ودموع الزجاج التي طوّقت الساحة، حيث "انحدر قلائل منهم الى مداخل النفق الدائري الذي يتوسط الساحة".[ص 69]
لقد قلل الكاتب من أسلوبه المعتاد في قصصه الأخيرة من مجموعته الثالثة(رؤيا خريف) وهو استخدامه للكولاج/اللصق، مكتفياً بتطعيم المشاهد السردية بتصورات تشكيلية من خلال اللوحة التي صورت" أحد القرابين التي ظل المتظاهرون يُضحون بها يوماً بعد يوم، طيلة الشهرين الماضيين من نهاية العام . كانوا يتساقطون كأوراق الخريف. وظلّت أعماق النفق تبتلع بقيتهم المصرّة على الاندفاع نحو الجدار الزجاجي الذوات البرزات السّود، بلا هوادة أو استسلام".[ص70] لكنهم احبطوا بجدار من نار وغار فغابوا عن المشهد. ولكي لا يصبح النفق محوراً وحده راح الكاتب يتابع (فتحة النفق الدائرية)؛ فالحركة الدائرية هي التي تتحكم بحركة الحياة، بتدورالاشياء بطريقة ذكية.
وكتبت قصة (النفق) في بداية الانتفاضة،وهي أول قصة من قصص المجموعة، لكن الكاتب جعلها في المرتبة الثانية، بعد قصة(الجسر) حتى يصبح تسلسل الأحداث منطقياً في ترتيب القصص، فانطلق بعد (النفق) الى (البرج)؛ ففي قصته (البرج) يجري الانتقال من الأعماق(السراديب/الانفاق) الى الاعالي،ويقصد بالاعالي الأبراج(برج ساحة التحرير)، والقصة تتكون من ثلاثة أقسام وبعض الملاحق،وهي عبارة عن رسائل وتقارير وتعليقات استخباراتية مع ملاحظات الراوي، وتاريخ كتابتها (شباط عام 2020م)، من خلال ادامة الصراع بين المتظاهرين والعدميين، بعد ان أصبحت "بغداد مدينة الأبراج المستباحة"، وكانت رغبة فرقة الهجوم السوداء الاستيلاء على البرج/الرأس/القيادة/ التاج ، في القسم الأول حيث يبدأ القسم الثاني بعد الاستيلاء على البرج ،وظهور كوفيد 19، ثم ينتقل في القسم الثالث الى صفة البرج وتعرضه الى قصف طائرات التحالف الدولي، قبل دخولها بغداد. ففي قصة (البرج) حاول الكاتب تنفيذ بناء الكولاج/اللصق بطريقة ذكية ، من خلال زج الملاحق التي هي تقارير ورسائل تفسر ما جرى في قضية البرج.
-3-
في قصة(الصحفي) يستكمل ترتيب القصص ، لتكون هذه المجموعة القصصية عبارة عن عمل سردي موحد ومنضد، يشبه الى حدّ ما بناء الليالي العربية ،ومع انه كتب قصة(النفق) عام 2019م، الا انه أعاد حساب ترتيبها ضمن هذا المجموع،وان كانت بعض القصص قد سبقت غيرها أو الحقت بها، فان المناخ العام لهذه القصص يتعلق بالانتفاضة التشرينية، وما حولها من أحداث ، اذ ينحدر من قصة (البرج) حيث التحليق في الاعالي، الى البحث عن منفذ "يؤدي الى ذلك الوكر الصحفي، مقر جريدة "الضباب". ومن وكر الصحفيين المغامرين هذا".[ص87]ثم ربط هذا المناخ الصحفي بالحركة المقترنة بالضباب أو بالسينما، من خلال الإشارة الى قناع الممثل السينمائي (خواكين فينيس) هذا"الذي عُرف بدور(الجوكر)،والمراسل التلفزيوني أحمد عبد الصمد الذي أغتيل أخيراً، وشاعر ساحة التحرير الذي عُرف بين المتظاهرين بحروف اسمه الرباعي"سديم"...".[ص88] وكأن الانتقال من البرج الى المشهد الإعلامي هوتعبير عن تحليق روح الصحفي في الفضاء المختنق، داخل الانفاق المنشرة لحماية المطالبين بالحرية، وهذا ما يبدو من خلال وصفه لدار المسنين وعلاقتها بالصندوق الهائل من الأخبار والطلاسم ، في نوع من البحث عن الاثارة التي تزيد المشهد التهاباً، فبعد "أيام من نشر مقابلة المرأة المسنة، مع صورة مختلسة لها، على الصفحة الأولى من جريدة "الضباب" ، هجومهم وكر الصحفيين وأضرمت النار فيه".[ص93] وهنا بدأت الحكاية الحقيقية بين العالم الأسفل المتمثل بالوكر/المحجر/النفق،وبين الأضواء /الاعلام/السينما/الصحيفة؛ لأن الكاتب يعتقد بأن الصراع القائم هو صراع بين الظلام والنور، للبحث عن كينونة الانسان.
تعد قصة (المحجر) هي مركز ومحور المجوعة الأقوى ،وهي تسرد على لسان المتكلم (أنا) إذ يبدأ بقوله:
"في محجرنا إرسال خافت عبر حوار صحفي واهن، تواصل غير أكيد بين فريقين محجورين، معزولين عن بعضهما؛ وكان كل فريق يجهل ما يحتجزه القسم المجاور".[ص97]
وقد قسّم الكاتب القصة الى ثلاثة أقسام، يتحدث في الأول عن طبيعة المحجوزين/المحجورين، فيجعلهم قسمين:
(أ‌) على شبهة المرض.
(ب‌) على تهمة التحريض على التمرد،وبعض التهم الأخرى كالالحاد والمثلية والكتابة على الجدران.
وهو يرى بأنه "لا أحد بريء في المحيط الملغوم بالشائعات والقرارات احكومية المتبدّلة بين ليلة واأخرى، فكان "آخر ما يقال عن عالمنا، إنه "مَحجْر" كبير، يدخله الممسوسون من القادة والحكام والشخصيات المهمة".[ص98]
في القسم الثاني من القصة يتخلى الكاتب عن ضمير المتكلم في بداية الأمر، ويحوّل عدسته الذاتية الى موضوعية،مستهدياً بنصوص إدغار ألن بو، ثم يعود الى ضميره المتكلم فنعرف انه واحد من المحتجزين/المحجورين ،حتى يبلغ به المطاف الى إعادة تهم قديمة،أو تهم أمنية سابقة، قبل أربعة عقود،وهي "تحرير الكتب ونشرها في مطبعتك . هل ترغب في الانتقال للقسم الآخر؟".[ص103]
منذ البدء في القسم الثالث يتحدث على لسانه، فيقول:" عندما عدت الى معزلي في القسم الجماعي".[ص103]
ومحمد خضير مفتون في التوازيات التجنيسية ،أوالتراسل بين الاجناس الأدبية والثقافية ، فهو كثيراً ما يوازي بين اللوحة والقصة ،أو بين السرد والسينما،لهذا ينطلق من الفيلم المصوّر عن رواية جورج أوريل(1984)؛ مثلما يوازي بين شخصية كمحتجز وبين الحارس المتمرس(ط)،مع إشارة الى احتمالات التغيير التي ستولد "من طابعه المحجر،ولن يحيا الانسان ما جرّبه من حياة قبل عملها التحريفي لقوانين التاريخ والطبيعة".[ص106]
وعلى العموم فان المكان/المحجر هو سيد الموقف في هذه المجموعة،وبؤرتها المكانية تشكل الفضاء الضاغط على حركة الشخصيات والأحداث. لكن الكاتب في قصته الأخيرة(الناقوس) تعبر عن العودة الى فكرة(البرج)أو(التاج)،وكأنه يوحي للقارئ بان فعل الانتفاضة هو فعل ثوري متصاعد ، يتدفق مثل ماء الصنبور المتعالي، ومثل سعف النخلة التي تتعالى ولا يستطيع أحد أن يوقف نموها.
يصف الكاتب(الناقوس)، بانه شفاف"الى علوّ شاقولي يُقدر بثلاثين متراً، فوق منصة زجاجية، دائرية أكثر عتمة".[ص109] ولهذا الناقوس قمة ووسط وقاعدة ،والجزء الحيوي فيه هو القاعدة،أما الجزء الأوسط منه، فيتراءى فيه أعضاء مجلس الحكم،وهذه التراتبية الطبقية لها أكثر من بعد في حسابات الكاتب (أعلى ، وسط، أسفل)،والناقوس أداة لبث الصوت ،أو للتبليغ يحمل معه أمراً ما.
وقريباً من النهايات تبدأ حركة السكان (القوقعيون)لتسلق قبة الناقوس، بعد اجتماعات مجلس الحكم،لتلطيخه ونظم القصائد اهجائية "في مناخ خريفي، تقترب غيومه البيض من رؤوسهم، فيما حجر الوباء أغلبية السكان قيد قواقعهم خشية العدوى، يتمسكون بقبضات السطح،وسلالمه الخارجية، ثم الاطلال على اللقمانيين المجتمعون ورشقهم بكتل الطين والازبال بالمقابل".[ص11-112]
فكانت نتيجة ذلك كتابته قصائد (الأفق النكسر)،و(المسلة البابلية)،و(المنصة الشمسية)؛ حيث يتمخض الواقع عن وجود مناخين متضادين ،أسلوبين في استعمال اللغة والشعر؛والصراع الذي يدور هو بين مفهومين للحياة، بين اتجاهين ، اتجاه رمزي وأسطوري، قديم،واتجاه حديث متجدد، أو لنقل اتجاه يخرج حديثاً من المحجر،ويرفض الوصاية عليه،ولكن عمليات التسويق ،وإعادة انتاج الماضي من خلال استثمار حكم لقمان ونسوره الدالة على تقدم الزمن وأفول العمر.
-4-
في ختام هذه الاطلالة على قصص (المحجر)؛ يمكن ملاحظة جملة تحولات وتوافقات في هذه القصص، منها:
1- انها تتناول موضوعاً واحداً، هو انتفاضة تشرين، وظروفها وظروف الشباب المنتفضين، حيث تتوفر وحدة الموضوع،ووحدة الصورة ووحدة المؤثرات.
2- انها كتبت تحت ظل نوع من البناء الذي يمكن من خلاله أن يصوّر للقارئ بأنه عمل سردي واحد، أقرب الى بنية التنضيد التي قامت عليها حكايات (ألف ليلة وليلة).
3- ان محمد خضير كتب هذه القصص ، بعيداً عن تاريخه القصصي في مجموعاته السابقة الثلاث(المملكة السوداء، في درجة 45 مئوي، رؤيا خريف)؛ فكان جزءاً من تاريخ السنوات 2019-2020.
4- بقيت لغة الكاتب وتقنياته السردية رهينة الانفاق والاقفاص العميقة وهي تعاني الكبت والمؤثرات المكانية الخانقة.
5- زاوج الكاتب بين تقنية الكولاج ذات التوجه الحرفي/الصناعي في كتابة القصة ،وبين سرديات الرؤيا أو الخيال القصصي.



#قيس_كاظم_الجنابي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صندوق الغائب *قراءة جديدة في قصص(المملكة السوداء)*
- المقالة الأدبية وحكاية (الرجل الفسيل)
- المفارقة في حكايات (الفاشوش في حُكم قراقوش)
- شعرية الخيانة في كتاب (مخاطبات الوزراء السبعة)
- ذكريات مؤجلة في (الرحلة الناقصة)
- السرد والمقام في كتاب (العبرة الشافية والفكرة الوافية)
- هل كانت قصيدة النثر سومرية..؟
- شعرية التزوير في حكايتين عربيتين
- ذكريات سياسية في كتاب (مقتطفات من الذاكرة)
- بنية التوقيع في قصائد : اكليل موسيقى على جثة بيانو - للشاعر ...


المزيد.....




- “مش هتقدر تغمض عينيك” .. تردد قناة روتانا سينما الجديد 1445 ...
- قناة أطفال مضمونة.. تردد قناة نيمو كيدز الجديد Nemo kids 202 ...
- تضارب الروايات حول إعادة فتح معبر كرم أبو سالم أمام دخول الش ...
- فرح الأولاد وثبتها.. تردد قناة توم وجيري 2024 أفضل أفلام الك ...
- “استقبلها الان” تردد قناة الفجر الجزائرية لمتابعة مسلسل قيام ...
- مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت ...
- المؤسس عثمان 159 مترجمة.. قيامة عثمان الحلقة 159 الموسم الخا ...
- آل الشيخ يكشف عن اتفاقية بين -موسم الرياض- واتحاد -UFC- للفن ...
- -طقوس شيطانية وسحر وتعري- في مسابقة -يوروفيجن- تثير غضب المت ...
- الحرب على غزة تلقي بظلالها على انطلاق مسابقة يوروفجين للأغني ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - قيس كاظم الجنابي - المحجر.. المكان والموقف