|
رواية للفتيان النمر طلال حسن
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7617 - 2023 / 5 / 20 - 23:37
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
النمر
طلال حسن
شخصيات الرواية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ لين كنج الفتى
2 ـ ايو يانج الجد 3 ـ نولي الفتاة
4 ـ تيانج والد نولي
5 ـ تاجر الأعشاب الطبية
" 1 " ــــــــــــــــــــــ
قبيل الغروب ، عادت نولي من الغابة ، منتشية ، فرحة ، تحمل سلتها الصغيرة ، التي وضعت فيها ، ما جمعته من الأعشاب الطبية . واستقبلها أبوها العجوز تيانج ، محدقاً فيها بعينيه الكليلتين ، وسحنته الشائخة المتجهمة ، وقال بنبرة تشي بغضبه : تأخرتِ اليوم أيضاً . ووضعت نولي سلتها الصغيرة على المائدة ، وقالت : الطريق ، كما تعرف ، طويل ووعر ، يا أبي . ومدّ تيانج يده الشائخة ، وراح يتحسس الأعشاب ، التي في السلة الصغيرة ، وهمهم قائلاً : الأعشاب التي جلبتها اليوم قليلة جداً . وردت نولي ، وهي تبدأ في إعداد طعام العشاء : لا تنسَ ، أننا في آخر الربيع ، يا أبي . ونظر تيانج إليها بعينيه الكليلتين ، وقال : ليس هذا هو السبب ، على ما أظن . وتراءى لنولي الحطاب الشاب لين كنج ، وهو يُجلسها تحت الشجرة ، ويجلس إلى جانبها ، وكادت تستغرق في هذا الحلم ، لكن أباها أيقظها بقوله : بنيتي . وأدركت نولي ما وراء " بنيتي " هذه ، فقاطعته قائلة : دعني الآن ، يا أبي ، إنني أعد طعام العشاء . واقترب تيانج منها ، وقال بنبرة مهادنة لينة : ستعده لكِ قريباً ، خادمة ماهرة ، يا بنيتي . وتوقفت نولي عن إعداد طعام العشاء ، دون أن تردّ عليه ، فقال تيانج : غداً سيأتي تاجر الأعشاب الطبية ، ويأخذ الأعشاب هذه المرة .. وصمت لحظة ، ثم قال بنبرة مُمنية فرحة : وفي المرة القادمة سيأخذك أنتِ ، يا بنيتي . وألقت نولي متذمرة ، ما كان بين يديها ، وقالت : كلا يا أبي ، كلا .. وقاطعها تيانج قائلاً : إنه غنيّ ، غنيّ جداً . فقالت محتجة : لكنه عجوز . وردّ تيانج : أنا أيضاً ، عندما تزوجت ، لم أكن شاباً . وتململت الفتاة متذمرة : أوه .. وقاطعها أبوها قائلاً : سيدللك ، وسيسعدك ِ . وقالت الفتاة ، وهي تهمّ بمغادرة الغرفة : لا أريده ، يا أبي ، لا أريده . وهتف بها أبوها : العشاء .. وغادرت الفتاة الغرفة قائلة : لن أتعشى . وألقت الفتاة نفسها على فراشها ، وقد إغرورقت عيناها بالدموع ، هذا تاجر الأعشاب الطبية اللعين ، إنه يلاحق أباها منذ أشهر ، أعطني الفتاة ، سأجعلها أميرة ، سأغرقها بالذهب . وانقلبت ثائرة ، لا أريده ، حتى لو كان هو نفسه من ذهب . وهدأت قليلاً ، ليذهب تاجر الأعشاب الطبية إلى الجحيم ، لقد كبر أبوها تيانج ، وربما خرف ، كيف يمكن أن تتزوج هذا التاجر العجوز ، وتترك .. الحطاب الشاب لين كنج ؟ وأغمضت عينيها ، آه .. ها هي في الغابة ، تركض فرحة مقهقهة ، وفي أثرها يركض الحطاب الشاب لين كنج ، ثم يمسكها ضاحكاً فرحاً ، ويُجلسها تحت الشجرة ، ويجلس إلى جانبها ، ويمطرها بالأحاديث العذبة ، والأماني .. آه .. واستغرقت في نوم عميق .
" 2 " ـــــــــــــــــــ
لأن الجد ايو يانج ، كما كانت تقول زوجته الراحلة ، ينام مبكراً مثل الدجاج ، فإنه مثل أي ديك فتيّ ، يستيقظ قبل مجيء الفجر . وهكذا استيقظ هذا اليوم ، والظلام مازال مخيماً في الخارج ، فنهض من فراشه ، ودبّ ببطء ، على ضوء القنديل الخافت ، إلى حفيده لين كنج ، وهزه برفق قائلاً : لين كنج ، استيقظ . وفتح لين كنج عينيه ، اللتين لم يغادرهما النوم بعد ، واعتدل قليلاً ، وقال مندهشاً : جدي .. ونظر الجد ايو يانج إليه ، وقاطعه قائلاً : انهض ، يا بنيّ ، طعام الفطور جاهز . واعتدل لين كنج قليلاً ، وقال : نحن في منتصف الليل ، يا جدي . ودبّ الجد ايو يانج مبتعداً ببطء ، وهو يقول : بل في الفجر ، انهض . وتمدد لين كنج في فراشه ثانية ، وقال : أيّ فجر هذا ، يا جدي ، إن الديك لم يصح بعد . وهنا ارتفع من الظلام في الخارج ، صوت ديك فتيّ يصيح : كوكو ريكو . فأشار الجد ايو يانج بيده ، إلى مصدر الصوت ، وقال : بنيّ لين كنج ، اسمع . وردّ لين كنج قائلاً : هذا ديك مجنون . وقال الجد ايو يانج محتجاً : لين كنج .. ونهض لين كنج متثائباً ، فقال الجد ايو يانج : الديك حيوان ، والحيوان لا يجن ، الإنسان وحده يفقد عقله ، ويجن ، أغسل وجهك ، وتعال كُل . ورغم برودة الجو ، رشق لين كنج وجهه ، بحفنتين من الماء البارد ، ثم جلس قبالة جده ايو يانج ، وقال مازحاً : آه منك ، يا جدي . ووضع الجد ايو يانج ، لقمة صغيرة من الطعام في فمه ، وقال : عندما كنتُ في عمركَ .. وقاطعه لين كنج مبتسماً : أعرف يا جدي ، طالما حدثتنا الجدة كثيراً عن مغامراتك . وضحك الجد ايو يانج ، بصوت مرح مكتوم ، وقد تراءى له أبو نولي تيانج ، وقال : مغامرة واحدة لا تصدقها ، النمر . ونظر لين كنج إليه ، وقال : لكن هذه المغامرة ، كانت جدتي تتفاخر بها دائماً أمام الجميع . وتوقف الجد ايو يانج عن تناول الطعام ، وقال بصوت حالم : النمر كان صديقي ، كيف أقتله ؟ وصمت لحظة ، ثم قال : عرفته ، وصحبته ، منذ كان يرضع ، وطالما رافقته في تجواله ، وقد مرض مبكراً ، وسرعان ما رحل . وصمت الجد ايو يانج ثانية ، ثم قال بصوت حزين دامع : حين رحل ، ولكي لا أفارقه ، أخذتُ فراءه الناعم الجميل ، وها أنا ، كما ترى ، أتدثر به ، حين أنام ، حتى الآن . ونهض لين كنج ، فنظر الجد ايو يانج إليه ، وقال : لم تحدثني اليوم عن نولي وأبيه الخرف تيانج . فقال لين كنج : مازال العم تيانج على عناده ، يرفض حتى أن أقترب من ابنته نولي . وهزّ الجد ايو يانج رأسه ، فأخذ لين كنج فأسه ، متأهباً للخروج ، وقال : جدي ، أريدها ، أريدنولي . فنهض الجد ايو يانج ، وقال : لا عليك ، دعك من هذا العجوز الجشع ، لن تكون إلا لك . ونظر لين كنج إليه ملياً ، ثم فتح الباب ، ومضى إلى الغابة ، وتابعه الجد بعينه الغاضبتين ، وهو يقول : هذا العجوز الجشع ، ليزره .. النمر .
" 3 " ـــــــــــــــــــ
حالما وصل لين كنج ، إلى الغابة حيث يحتطب ، بحث عبثاً عن فتاته نولي ، فهي تأتي كلّ يوم ، في هذا الموسم ، لتجمع الأعشاب الطبية . وانتابه القلق ، لقد تواعدا البارحة ، قبل أن ينصرف كل منهما إلى كوخه ، أن يلتقيا هنا كالعادة ، وها هو الساعات تمرّ ، ولم تأتِ ، وفكر أنها ربما تعرضت لوعكة صحية . وقبل منتصف النهار ، قفل لين كنج عائداً من حيث أتى ، دون أن يحتطب ، على غير العادة ، أي شيء ، ليقل جده ما يقول ، فالأولوية عنده لفتاته نولي . وحين وصل محيط كوخ فتاته نولي ، توقف متلفتاً بحذر ، الكوخ هادئ ، لعل أبا نولي ليس في الداخل ، هذا ما تمناه ، فلابد له أن يطمئن على نولي . وطرق الباب بحذر ، ووقف ينتظر قلقاً ، وبدل نولي أطلّ أبوها العجوز تيانج ، وحدق فيه بعينيه الصغيرتين ، الكليلتين ، وقال : من ؟ وردّ لين كنج بصوت خافت : أنا . وصاح أبو نولي : لين كنج ! وقال لين كنج متردداً : جدي ايو يانج يسلم عليك . وتعكرت قسمات أبي نولي ، وقال : هذا اللعين ، مازال حياً ؟ كنت أظنه في العالم الآخر . ولمح لين كنج فتاته نولي ، تومئ له من داخل الكوخ ، فرفع صوته قائلاً : إنه قلق عليك ، ويتساءل لماذا لم تأتِ اليوم إلى الغابة ؟ وثارت ثائرة تيانج ، وصاح منفعلاً : اذهب ، ولا تطرق بابي ثانية . وهمّ أن يغلق الباب ، ويمضي إلى الداخل ، فمدّ لين كنج يده ، وأمسك طرف الباب ، وقال : أرجوك ، إنني عطشان ، اسقني جرعة ماء . فأغلق تيانج الباب ، وهو يصيح : ليس لدينا ماء ، اذهب من هنا . واقترب لين كنج من الباب ، وصاح : سأذهب إلى النبع ، وأشرب منه ، نعم ، سأذهب إلى النبع . وكتمت نولي ابتسامتها ، لقد وصلت لها الرسالة ، فاقتربت من أبيها ، وتساءلت ببراءة : من كان بالباب ، يا أبي ؟ وردّ الأب منزعجاً : أحمق يريد جرعة ماء . وهزت نولي رأسها ، وقالت : يا للمسكين ، لعله عابر سبيل ، لو كان لدينا جرعة ماء لقدمتها له . وحدق الأب فيها ، بعينيه الصغيرتين الكليلتين ، وتساءل قائلاً : ألم يعد لدينا ماء في الجرة ؟ وردت نولي : لا عليك ، يا أبي ، لنبقَ اليوم بدون ماء ، سأذهب غداً ، وأملأ الجرة من النبع . وصاح الأب منفعلاً : نبقى حتى الغد بدون ماء ! اذهبي الآن إلى النبع ، واملئي الجرة . وتظاهرت نولي بالتذمر ، وقالت : أمرك ، يا أبي ، وإن كان النبع بعيداً . وحملت نولي الجرة ، ولا داعي لأن نقول إنها لم تكن فارغة ، وخرجت من الكوخ ، وأغلقت الباب ، وعلى الفور ، انطلقت مسرعة نحو النبع .
" 4 " ـــــــــــــــــــ
على مقربة من النبع ، وفي ظل شجرة ضخمة ، وقف لين كنج ينتظر نولي ، على أحرّ من الجمر ، لعلها توافيه ، ويتحدثان عما يجري ، وعما يمكن أن يفعلاه ، لمواجهة ذهب تاجر الأعشاب الطبية . صحيح أنه ليس بينهما موعد محدد ، كما يفعلان دائماً ، لكن حديثه أمام والدها ، وهي تقف خلفه ، تضمن إشارة واضحة إلى الموعد ومكانه ، وآه إذا لم تلتقط نولي الإشارة ، وتفك شفرتها . لكن نولي ، على ما يبدو ، التقطت الإشارة ، فها هي نولي ، تقبل مسرعة ، تحمل الجرة على كتفها ، متجهة إلى النبع ، وما أن لمحها تنظر إليه ، حتى أشار لها ، متمتماً بصوت خافت : نولي ، تعالي . وأقبلت نولي على لين كنج مسرعة ، متلهفة ، فمدّ لين كينج يده ، وأمسك بيدها ، وقال : انتابني قلق شديد ، حين لم أجدك اليوم في الغابة .ْ وتوقفت نولي على مقربة منه ، والجرة مازالت على كتفها ، وقالت بصوت منفعل لاهث : لم أستطع اليوم الخروج من الكوخ . وتساءل لين كنج : لماذا ؟ فردت نولي قائلة : إنه أبي ، يا لين كنج . وقال لين كنج : أخشى أن يكون قد عرف ، بأننا نلتقي في الغابة . وهزت نولي رأسها سلباً ، فتساءل لين كنج : عجباً ، ماذا إذن ؟ ونظرت نولي إليه ، وقالت : تاجر الأعشاب الطبية .. وصمتت لحظة ، ثم قالت : إنه يريدني . وشهق لين كنج مستنكراً : ماذا ! واستطردت نولي قائلة : يريدني زوجة له . وقال لين كنج مستنكراً : لكنه بعمر أبيك . فردت نولي : إنه غني . وقال لين كنج : نولي .. وتلفتت نولي متوجسة ، ثم نظرت إلى لين كنج ، وقالت : الأمر خطير ، يا لين كنج ، ولابد أن .. وهنا تناهى إليهما وقع أقدام ، تتجه نحو النبع القريب ، فتراجعت نولي قليلاً ، وهي تتلفت حولها بحذر ، وقالت : أحدهم قادم . وقال لين كنج : دعكِ منه ، يا نولي . فاستدارت نولي ، وقال بصوت خافت : كلا ، يا لين كنج ، لا أريد أن يرانا أحد هنا . وسارت نولي مبتعدة ، فسار لين كنج في أثرها ، وهو يقول بصوت خافت متوتر : نولي ، توقفي .. لم تتوقف نولي ، فقال لين كنج : الأمر خطير ، يا نولي ، علينا أن نفعل شيئاً . وتوقفت نولي ، ونظرت إلى لين كنج ، وقالت : نعم ، لابد .. ، لكن ماذا نفعل . واستدرت متلفتة ، ثم انحدرت نحو النبع ، والجرة فوق كتفها ، وتوقف لين كنج ، مطرقاً رأسه ، لا يعرف ماذا يفعل ، ثم سار حائراً ، نحو الكوخ .
" 5 " ـــــــــــــــــــ
في خطوات بطيئة متعثرة ، مضى لين كنج نحو كوخه ، وهو يفكر في ما عليه أن يفعله ، ليحظى بفتاته نولي ، ويمنع تاجر الأعشاب الطبية ، من أن بسبقه إليها ، ويختطفها منه . لكن ، فكر لين كنج ، إن تاجر الأعشاب الطبية ، رجل ناضج ، مجرب ، متقدم في العمر ، قد لا يكون شريراً ، ولعل التفاهم معه أمر ممكن . فلينتظره في الطريق ، ويرحب به ، ويحييه قائلاً : طاب يومك ، يا سيدي . ولابد أن تاجر الأعشاب الطبية ، سيتوقف ، وقد يترجل عن حصانه ، ويردّ قائلاً : طاب صباحك . وما دام الأمر كذلك ، ولابد أن يكون كذلك ، فسيتقدم منه لين كنج ، ويقول له بشكل ودّي : سيدي ، أريد أن أكون صريحاً معك .. وسيبتسم تاجر الأعشاب الطبية ، ويقول : أنا أحبّ الصراحة ، تفضل . وعندئذ سيقترب منه لين كنج ، ويقول له لين : إنني أحب نولي ، ونولي تحبني ، أرجوك أن تنسحب ، وتدعنا وشأننا ، فأحدنا ولد للآخر . وإذا كان تاجر الأعشاب الطبية طيباً ، كما أتمنى ، فسيفكر لحظة ، ثم يقول : مادمت تحب نولي ، ونولي تحبك ، فألف مبروك ، إنها لك . وتوقف لين كونج ، وراح يراجع نفسه ، وهو يعاود السير ، لكن تاجر الأعشاب الطبية ، قد لا يكون رجلاً طيباً ، ناضجاً ، مجرباً ، رغم تقدمه في العمر ، وقد لا يتوقف حين أحييه : طاب يومك ، يا سيدي . بل وقد لا يردّ على تحيته ، عندئذ سيعترض حماره ، الذي يمتطيه ، ويقول له بحزم : ترجل . وسيحتج تاجر الأعشاب الطبية ، ويقول له بعنجهية : ابتعد عن طرقي ، هيا ابتعد . وهنا سيمد لين كنج يده ، ويكشف عن خنجره ، وإذا لم يرتدع تاجر الأعشاب الطبية ، فسيستل لين كنج خنجره ، ويشهره في وجهه ، و .. آه ، قد يوافقه جده على هذا ، فهو يقول له دائماً : نولي لك ، وعليك أن تحارب من أجلها . نعم عليه أن يحارب من أجل نولي ، وفكر لين كنج ، لا أريد أن أقتل ، نعم ولكن لن أسكت ، مهما كان الثمن ، وإلا ضاعت نولي . وأفاق لين كنج ، وإذا هو أمام باب الكوخ ، آه ترى ماذا يفعل الجد ايو يانج الآن ؟ ودفع لين كنج الباب ، ودخل الكوخ ، وإذا الجد ايو يانج ، منكب على جلد النمر ، ينظفه ، ويسوي شعر فروته ، ويلمع أنيابه . وتوقف لين كنج ، فرفع الجد ايو يانج رأسه ، ونظر إليه ، وقال : لين كنج ، عدت اليوم مبكراً . ووضع لين كنج فأسه جانباً ، وقال بصوت حزين : لم أحتطب اليوم . ولاذ الجد ايو يانج بالصمت متحيراً ، فمال لين كنج عليه ، وقال بصوت دامع : جدي ، أريد نولي ، أريدها .
" 6 " ـــــــــــــــــــــ
من جهتها ، قفلت نولي عائدة إلى الكوخ ، تحمل الجرة على كتفها ، مفكرة في لين كنج ، وماذا يمكن أن تفعل ، كي لا تخسره . وتراءت لها أمها ، إنها الآن في العالم الآخر ، تنظر إليها بعينيها الحنونتين المحبتين ، ولابد أنها حزينة ، لما تعانيه في هذه الحياة . آه ، ماذا لو لم تحظ بلين كنج ، وأخذها تاجر الأعشاب الطبية بذهبه البارد ؟ عندئذ لا قيمة للحياة ، ومن الأفضل أن تذهب إلى أمها ، في العالم الآخر . ولعل أمها عرفت ما يجول في أعماقها ، فمالت عليها قائلة : لا يا بنيتي ، الإنسان لا يفرط بالحياة ، مهما كانت معاناته ، فالحياة نعمة ، وعلينا أن نتمتع بها . ورفعت نولي عينيها الغارقتين بالدموع إلى أمها ، وقالت : لا متعة ، يا أمي ، إلى جانب تاجر الأعشاب الطبية اللعين ، أنا أريد لين كنج . ومالت عليها أمها ثانية ، وقالت بصوتها الرقيق الطيب : هذا حقك ، يا بنيتي نولي ، ولك أن تدافعي عنه ، حتى النهاية . وتوقفت نولي ، ورفعت عينيه الدامعتين إلى أمها ، وصاحت : لكن أبي .. وصمتت إذ وجدت نفسها ، تقف أمام الكوخ ، لكن غضبها المتأجج لم يصمت ، فمدت يدها ، ومسحت دموعها ، ثم دفعت الباب بقوة . ورفع أبوها تيانج رأسه ، ونظر إليها بعينيه الصغيرتين الكليلتين ، ويبدو أن لاحظ غضبها ، فقال بصوت متردد : نولي ؟ وبشيء من الخشونة ، وضعت نولي الجرة جانباً ، دون أن تردّ عليه ، فقال أبوها تيانج بلهجة هادئة مهادنة : بنيتي ، أعطيني قليلاً من الماء . فأشاحت نولي عنه برأسها ، وردت قائلة بصوت جاف : الجرة فارغة . ونظر تيانج بصورة لا إرادية إلى الجرة ، وقال : لكنك ذهبتِ إلى النبع لتملئيها . وفالت نولي بنفس الصوت الجاف : نعم ، ذهبت إلى النبع ، فوجدته قد جفّ تماماً . وهزّ الأب رأسه ، ولاذ بالصمت لحظة ، إنه يعرف ابنته نولي ، إنها غضوبة على العكس من أمها الراحلة ، ثم قال : حسن ، أعدي طعام العشاء ، أنا جائع . وحدقت نولي فيع ، وقالت : أبي ، اسمعني ، اسمعني جيداً ، لابد أن نتحدث . وهرب الأب بوجهه منها ، وقال : لقد تحدثنا طويلاً ، وأنت تعرفين رأيي . وبعناد قالت نولي : لم أعد صغيرة . وقال أبوها : أنت في السادسة عشرة .. وتابعت نولي قائلة : لابد أن نتحدث . ولاذ الأب بالصمت برهة ، ثم قال بصوت مستسلم : دعي الحديث الآن ، إنني جائع ، أعدي طعام العشاء أولاً ، وسنتحدث .
" 7 " ــــــــــــــــــــ
طُرق باب الكوخ ، وقد أشرقت الشمس ، فرفع الأب رأسه ، وأنصت ، ترى من يكون ؟ وطُرق الباب ثانية ، بصوت أعلى هذه المرة ، فهتف تيانج منزعجاً : من ؟ من بالباب ؟ لم يأته ردّ ، فاتجه إلى الباب ، وتلمسه بيديه المرتعشتين أولاً ، ثم فتحه ، ونظر بعينيه الصغيرتين الكليلتين ، فلم يلمح سوى شبح غامض ، فقال : من أنت ؟ وامتدت يد ، أطبقت على يده ، ثم سحبتها عنوة ، وجعلتها تتحسس فراء خشناً ، فاستسلمت يده ، وتمتم بصوت خافت : آه ، أهذا أنت ؟ وجاءه صوت يعرفه جيداً ، يقول : النمر . وتمتم الأب بصوت خافت : يانج . وقال الجد : نعم ، يانج . وعلى الفور ، سحب تيانج الجد يانج إلى الداخل ، وأغلق الباب ، وهو يقول بصوت مرتعش : مازلت تحتفظ بجلد ذلك النمر ، يا يانج . فردّ الجد يانج قائلاً : النمر كان صديقي ، صيقي لفترة طويلة من السنين ، وأنا كما تعرف ، وفيّ لأصدقائي ، وخاصة الأوفياء منهم . ونظر تيانج إليه بعينيه الصغيرتين الكليلتين ، وقال : وتكتم أسرارهم أيضاً . فابتسم الجد لينج ، وقال : النمر ! وقال الأب بصوت متردد : فراؤه عندك ، وروحه مازالت حية في داخلي . واقترب ايو يانج منه ، وقال : دعك من هذا ، لقد قلتُ لك مراراً وتكراراً ، إن ما فعلته ، يا صديقي تيانج ، أمراً طبيعياً . ونظر إليه تيانج ، بعينيه الصغيرتين الكليلتين ، وقال : لقد هربت منه ، يا ايو يانج ، وكأني .. وقاطعه ايو يانج قائلاً : لو لم يكن ذلك النمر صديقي ، وعرفته منذ الصغر ، واطمأننت إليه ، لهربت منه أنا الآخر . ولاذ الأب بالصمت ، فانقض الجد ايو يانج نج عليه ، وطوقه بذراعيه ، وقال : جئت لأفترسك أيها العجوز الأحمق ، وهانا بدل ذلك أعانقك . وتطلع تيانج إليه ، بعينيه الصغيرتين الكليلتين ، وقال : ابنتي الوحيدة نولي ، يا ايا يونج ، يريدها زوجة له تاجر الأعشاب الطبية ، الغني جداً . وردّ الجد لينج قائلاً بصوت هادئ : لكنها تريد لين ، ولين يريدها . ولاذ تيانج بالصمت ، فقال ايو يانج : سأفترسك ، أيها العجوز الأحمق ، سأفترسك . ودون أن يردّ عليه ، مدّ تيانج يده ، وأطبق على يد ايو يانج ، وقال وهو يسحبه إلى خارج الكوخ : ، أيا يونج ، تعال معي . ومضى به مبتعداً عن الكوخ ، بعد أن أغلق الباب ، فقال ايا ينج متسائلاً : إلى أين تقودني بعينيك الصغيرتين الكليلتين ، يا تيانج . وسار تيانج به ، وهو مازال يطبق على يده ، وقال : أنت الآن عيناي ، اللتان أرى بهما ، خذني إلى النبع ، وانظر نيابة عني إلى الشجرة الضخمة . وهزّ ايو يانج رأسه ، وسار به بخطوات بطيئة متعثرة ، وقال : لقد جننت ، يا رجل . وقال تيانج بصوت هادئ ، حالم : هناك شجرة ضخمة ، قريبة من النبع ، كنت ألتقي بفتاتي في ظلها ، قبل أن أتزوجها ، و .. وتوقف الجد ايو يانج ، وقد جمدت عيناه ، فتوقف الأب أيضاً ، وقال : أخبرني ، ماذا ترى ؟ وابتسم الجد ايو يانج متنهداً : آه . فقال تيانج بفرح : أرأيت ، أيها النمر ، إنها ابنتي نولي ، وحفيدك لين كنج ، يقفان تحت الشجرة ، أليس كذلك ؟ تكلم . وضحك الجد ايو يانج فرحاً ، وقال : تيانج ، لقد رأيانا ، نولي ولين كنج ، وها هما يلوحان لنا فرحين ، من تحت الشجرة الضخمة . ورفع تيانج يده ، وراح يلوح لنولي ولين كنج ، رغم أنه لا يراهما بعينيه الصغيرتين الكليلتين .
28 / 4 / 2013
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الهدنة
-
رواية للفتيان وادي الافاعي
...
-
رواية للفتيان الفتاة الغزالة طلال
...
-
رواية للفتيان غابة الذئاب
...
-
رواية للفتيان الحوت الصغير طلال حسن
-
رواية للفتيان قمر من سماء عالية
...
-
روايةللفتيان الزنبقة
...
-
رواية للفتيان عينان في الماء طلال
...
-
رواية للفتيان يوهيرو الأمل
...
-
رواية للفتيان التاج طلال حسن
-
رواية للفتيان شترا و ريشيا
...
-
رواية للفتيان طائر الرعد طلال حسن
-
رواية للفتيان كوجافاسوك والحوت
...
-
رواية للفتيان كهف الدب الأسود
...
-
رواية للفتيان الذئب الأحمر الصغير طلا
...
-
رواية للفتيان ابني الديسم ميشا
...
-
رواية للفتيان جبل الوعول
...
-
حكايات للفتيان حكايات عربية
-
حكايتان طلال حسن الهارب
-
رواية للفتيان ذئب الأهوار
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|