أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان الحوت الصغير طلال حسن















المزيد.....



رواية للفتيان الحوت الصغير طلال حسن


طلال حسن عبد الرحمن

الحوار المتمدن-العدد: 7596 - 2023 / 4 / 29 - 00:15
المحور: الادب والفن
    


رواية للفتيان





الحوت الصغير






طلال حسن








" 1 "


منذ أيام ، وأنثى الحوت ، تجوب وحيدة ، مياه المحيط ، على غير هدى . ووسط مياه لا تحدها سوى السماء ، توقفت مرة أخرى ، ومرة أخرى رفعت رأسها، وأطلقت صيحة حزينة ، مستغيثة : النجدة .. النجدة .. أنا هنا .
وأنصتت ملياً ، لكنها لم تسمع غير صدى صوتها : النجدة .. النجدة .. أنا .. هنا ، ممتزجاً بأنين الريح ، ووشوشة مياه المحيط .
ودمعت عيناها ، لا أحد يسمعها ، ولا يردّ عليها أحد ، في هذه المتاهة ، بين الماء والسماء ، اللهم إلا صغيرها، الذي يتحر بين فترة وأخرى في أحشائها ، ربما رغبة منه بالخروج إلى الحياة . لقد عاشت حياتها كلها ، ضمن قطيع الإناث ، يقودهنّ ويرعاهنّ ويحميهنّ ، ذكر قويّ محبّ ، وهي تريد لصغيرها ، الذي قد يولد في يوم قريب ، أن يعيش مثلما عاشت ، لا أن يضرب معها في تيه لا نهاية له .
وتحرك صغيرها في أحشائها ، فندت عنها شهقة بين الألم والفرح . وتلفتت متطلعة نحو الآفاق البعيدة ، لعلها تقع على أثر لقطيعها ، الذي تاهت عن ، لكن لا فائدة ، فعلى امتداد البصر ، لم تكن هناك سوى المياه .
وتناهت إليها ، عبر مياه المحيط ، دمدمات من بعيد ، وتملكها الخوف والقلق ، أهو الحوت القاتل ؟ أم الحبار العملاق ؟ أم مجموعة من القروش ؟ جذبتها وأفقدتها صوابها ، رائحة كائن بحريّ جريح ؟
وتراءى لها الحوت القاتل ، بزعنفته الظهرية العالية ، الرفيعة ، وفمه الرهيب ، المدجج بأسنان ضخمة على كلا الفكين ، يندفع من بعيد ، شاقاً المياه باتجاه القطيع. وفوجيء الذكر بهجومه ، فاستدار رغم خوفه وتردده ، وانطلق محاولاً اعتراضه ، ومنعه من الوصول إلى إناثه. واتجه الحوت القاتل نحوها مباشرة ، وقد فتح فمه على سعته ، وتلامعت أنيابه الخناجر ، فأسرعت صوب الذكر ، وهي تصيح : النجدة .. النجدة .
وهنا ، ولحسن الحظ ، امتدت من نحت الماء ، أذرع طويلة قوية ، ذات أقراص ماصة ، مؤذية ، وأمسكت بالحوت القاتل ، إنه الحبار العملاق ، ولعله توهم ، فظنّ أنّ الحوت القاتل ، هو عدوه اللدود ، حوت العنبر .
وانشغل الحوت القاتل بمقاتلة الحبار العملاق ، فمزق بأسنانه الخناجر ، العديد من أذرعه ، لكنه لم يستطع الإجهاز عليه ، إلا وقد أصيب بجروح بليغة و تمزقت قطع كبيرة من جلدة رأسه .
وخلال تلك المعركة لاذ الذكر بالفرار ، وتشتت إناثه في جهات المحيط الأربع ، وحين أفاقت الأنثى الفتية من الصدمة ، وجدت نفسها وسط مياه المحيط ، التي لا تحدها سوى السماء .


















" 2 "


ظلت الأنثى الفتية ، معظم تلك الليلة ، مستيقظة ، لا يغمض لها جفن . وحتى عندما أغفت ، قبيل الفجر ، كانت إغفاءتها كالعادة ، خفيفة متقطعة . فهي تخشى أن يمرّ بها أفراد القطيع ، ولا يروها ، وهم بلا شك ، يبحثون عنها في كلّ مكان ، منذ أن فرق شملهم الحوت القاتل .
وخيل إليها ، أكثر من مرة ، أنها تسمع دمدمة قطيع من الحيتان . وظنت لسبب ما ، أنّ ما تسمعه كالعادة حلماً من الأحلام .
وحين أفاقت صباحاً ، تبين لها أنّ ما سمعته ليلة البارحة، لم يكن حلماً ، بل حقيقة . فقد رأت ، تحت أشعة الشمس المتلألئة ، قطيعاً من الحيتان ، يشق طريقه على البعد ، وترسل نفاثاته سحابة من البخار ، تندفع إلى الأعلى ، مكونة قوس قزح ، غاية في الغرابة والجمال .
ورفعت رأسها ، وأطلقت صيحة فرح ، ثم انتفضت ، وراحت تشق الماء بسرعة ، نحو القطيع ، وهي تصيح بأعلى صوتها : أنا هنا .. أنا هنا ، انتظروني .
وتوقف الذكر ، وتوقفت معه إناثه ، وتطلع نحو مصدر الصوت ، ومعه تطلعت إناثه ، وقال متسائلاً : من المنادي ؟
وردت إحدى الإناث ، وهي تدقق النظر في البعيد : أظنها أنثى فتية .
وقالت أنثى متقدمة في العمر : إنها على ما يبدو ليست من قطيعنا .
والتفت الذكر إليها ، وقال : اذهبي ، وانظري ماذا تريد .
وعلى الفور انطلقت الأنثى المتقدمة في العمر ، نحو الأنثى الفتية ، وقالت : حالاً .
وصاح الذكر في أثرها : لا تتأخري ، علينا أن نواصل طريقنا نحو الشمال .
وزادت الأنثى المتقدمة في العمر من سرعتها ، وهي تقول : أمرك يا عزيزي ، لن أتأخر ، سأرى ماذا تريد ، وأعود .
وعلى الفور ، قطعت الأنثى المتقدمة في العمر ، حديثها مع الأنثى الفتية ، وقفلت عائدة بسرعة ، وقالت : المسكينة ، تاهت عن قطيعها ، بعد أن هاجمهم ، الحوت القاتل .
وعلق الذكر قائلاً : هذا أمر لا يعنينا .
وقالت الأنثى المتقدمة في العمر مترجية : إنها حامل ، وفي أيامها الأخيرة ، ومن الصعب أن تتحمل البقاء وحدها في مثل هذه الظروف .
ولاذ الذكر بالصمت ، فتشجعت الأنثى المتقدمة في العمر ، وقالت : سأهتم بها وحدي ، إذا سمحت .
ومضى الذكر ، يشق الماء ، مواصلاً طريقه ، والإناث يمضين في أثره ، وهو يقول : حسن ، وإن كنت أنت بحاجة إلى من يهتم بك .
وبفرح غامر ، أشارت الأنثى المتقدمة في العمر ، للأنثى الفتية ، وصاحت بصوت خافت : تعالي ، تعالي بسرعة ، وانظمي إلينا ، هيا ، هيا .


















" 3 "


ارتاحت الأنثى الفتية لوجودها بين إناث القطيع ، رغم أنّ الذكر لم يبد ِ أي اهتمام بها . وكلما التقت عيناها بعينيه ، وهو يستعرض إناثه ، ويتفقدهن الواحدة بعد الأخرى ، يشيح بوجهه عنها ، ويبتعد عن المكان الذي تتواجد فيه. ولذلك فقد حرصت دوماً ، أن تحيد عن طريقه ، وتبقى بين إناث القطيع ، وبالأخص قرب الأنثى المتقدمة في العمر .
وبالرغم من خوف الإناث من الذكر ، إلا أنهنّ كنّ يتحيّن الفرص لإبداء تعاطفهنّ معها، ويحاولن طمأنتها والتخفيف عنها .
وطالما سألتها الأنثى المتقدمة في العمر عن حملها ، فكانت تجيب قائلة : إنه يرفس في أحشائي .
وتستطرد مبتسمة : لابد أنه ذكر غضوب .
وتبتسم الأنثى المتقدمة في العمر ، وتقول : إنه مستعجل، يريد أن يأتي ، ويراك بأسرع وقت ممكن .
وسألتها أنثى شابة مرة : أهو حملك الأول ؟
فهزت رأسها بالإيجاب مبتسمة ، فقالت الأنثى الشابة : لا عليك ، ستكون ولادتك أسهل مما تتصورين .
وضحكت بصوت خافت ، وقالت : كدتُ أموت خوفاً ساعة الولادة ، لكن ما إن رأيتُ صغيري حتى غمرني الفرح ، ونسيتُ كلّ شيء .
وذات ليلة ، والقمر بدر يطل من السماء ، أفاقت الأنثى المتقدمة في العمر ، على حركة خفيفة قربها ، ففتحت عينيها ، وإذا الأنثى الفتية تتسلل بهدوء ، مبتعدة عن القطيع . فانسلت وراءها دون ضجة ، وحاذتها قائلة بصوت خافت : عزيزتي ، الليل يكاد ينتصف ، من الأفضل أن تعودي إلى مكانك ، وسط القطيع .
وتوقفت الأنثى الفتية ، وقالت بصوت متوجع : لا أستطيع ، يبدو أنني سألد .
وأضاءت ابتسامة فرحة ، وجه الأنثى المتقدمة في العمر، وقالت : هذه بشرى سارة ، مهلاً ، سأستأذن الذكر ، ثم أرافقك حتى تولدي .
وبدا التأثر على الأنثى الفتية ، وقالت : عفواً ، يا عزيزتي، إنني أتعبك ، وأسبب لك الكثير من الحرج .
وربتت الأنثى المتقدمة في العمر عليها ، وقالت : لا تقولي هذا ، أنت الآن واحدة منّا .
واستدارت عائدة إلى القطيع ، واقتربت من الذكر ، وهمست في تردد : سيدي .
وفتح الذكر عينيه ، وتساءل بشيء من الاستغراب والغضب: ما الأمر ؟
فردت الأنثى المتقدمة في العمر في تردد أشدّ : إنها الأنثى الفتية .. الغريبة .
وبنفاد صبر ، تساءل الذكر : ما لها ؟
فأجابت الأنثى المتقدمة في العمر : ستلد .
وكاد الذكر أن ينفجر ، فسارعت إلى القول مترجية : المسكينة ، إنها أنثى وحيدة ، وتحتاج إلى من يساعدها .
وأغمض الذكر عينيه ، وقال : افعلي ما تشائين ، هيا ، اذهبي ، ودعيني أنم .
وقالت الأنثى المتقدمة قي العمر فرحة ممتنة : أشكرك ، أشكرك جداً ، يا سيدي .
ومضت مسرعة ، وبدون ضجة ، إلى الأنثى الفتية ، وقالت لها بصوت هامس : هيا يا عزيزتي ، لنبتعد قليلاً عن القطيع ، وآمل أن تري صغيرك مع فجر الغد ، هيا نمضي ، هيا ، هيا .









" 4 "


لم ترَ الأنثى الفتية وليدها مع فجر الغد ، كما توقعت الأنثى المتقدمة في العمر ، بل رأته عند منتصف نهار اليوم التالي . وغمرها الفرح ، عندما سمعت غمغمته الشاكية للأول مرة ، كأنما يقول : ماما .. ماما .
وحاول قرش جذبته رائحة الولادة ، التقرب من الحوت الصغير ، متحيناً الفرص لنهشه بأسنانه الرهيبة القاتلة ، وصاحت الأنثى الفتية ، وهي تحضن صغيرها : يا إلهي، القرش .
واستدارت الأنثى المتقدمة في العمر بسرعة ، متصدية للقرش ، ولطمته على وجهه بذيلها الأفقي الجبار ، فتهاوى صارخاً نحو الأعماق ، ثم ولى مبتعداً ، حتى غاب في عتمة مياه المحيط .
وتنفست الأنثى الفتية الصعداء ، وقالت : أشكرك ، لولاك لتعرضت أنا وصغيري للكثير من الأخطار .
وردت الأنثى المتقدمة في العمر قائلة : هذا واجب ، فأنت بمثابة ابنتي .
وقالت الأنثى الفتية ممتنة : أشكرك ، أشكرك جداً .
وتطلعت الأنثى المتقدمة في العمر إلى الصغير ، وقالت : أنظري ، ما أجمله .
ونظرت الأنثى الفتية إلى صغيرها فرحة ، وقالت : إنه يشبه أباه .
وضحكت الأنثى المتقدمة في العمر ، وقالت : الذكر الصغار ، في رأي أمهاتهم ، يشبهون آباءهم دائماً .
واحتضنت الأنثى الفتية صغيرها بحنان وتأثر ، فقالت الأنثى المتقدمة في العمر : صبراً ، يا بنيتي ، ستجدين قطيعك ، إن عاجلاً أو آجلاً ، وستعيشين أنت وصغيرك، سعيدين مطمئنين .
وعند العصر ، انتبهت الأنثى المتقدمة في العمر ، إلى أنّ القطيع قد واصل طريقه ، واختفى عن الأنظار ، فالتفتت إلى الأنثى الفتية ، وقالت : هيا نمضي ، يا عزيزتي ، لعلنا نلحق بالقطيع ، قبل أن يخيم الظلام .
واحتضنت الأنثى الفتية صغيرها ، وردت قائلة : لا أستطيع أن أمضي الآن ، إنني متعبة ، متعبة جداً .
ولاذت الأنثى المتقدمة في العمر بالصمت لحظة ، ثم قالت بحرج : أنت تعرفين الذكر ، إنه متشدد لا يتسامح ، وسيغضب مني إذا تأخرت .
وتنهدت الأنثى الفتية ، وقالت : لا عليك ، اذهبي أنت ، وسألحق بكم في أسرع وقت ممكن .
وتململت الأنثى المتقدمة في العمر ، وقالت : أرجوك ، الحقي بنا على عجل ، فأنا لن يهدأ لي بال ، حتى أراك أنت وصغيرك معنا .
وابتسمت الأنثى الفتية ، وقالت : اذهبي ، يا عزيزتي ، اذهبي ، رافقتك السلامة .
ومضت الأنثى المتقدمة في العمر ، تشق المياه الهادئة بعزم ، كأنها عادت أنثى فتية ، حتى غابت عن النظر . وتململ الحوت الصغير ، مصدراً أصوات شاكية ، وفكرت الأنثى الفتية ، لابد أنه جائع ، فقربته من أثدائها، وقالت بصوت أمومي : ارضع ، يا بنيّ ، ارضع .
وكأن الحوت الصغير أدرك ما قالته أمه ، فتشبث بأحد أثداءها ، وامتص منه على عجل ، حليباً غزيراً دافئاً غاية في الدسامة .
وأسرعت الأنثى الفتية ، فرفعته فوق سطح الماء ، وضحكت فرحة ، حين رأته يشهق متنفساً مغمغماً : ماما .. ماما .
وضمته إلى صدرها ، وقالت : نم الآن ، وارتح .
أغمض الحوت الصغير عينيه ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق .





" 5 "


عند الفجر ، بدأت الأنثى الفتية رحلتها للحاق بقطيع الحيتان ، مؤملة الوصول إليه ، إذا لم يعوقها عائق ، خلال يوم أو يومين . وراح صغيرها يسبح إلى جانبها تارة ، ويرقد فوقها تارة أخرى . وكلما سمعته يغمغم شاكياً ، توقفت برهة لترضعه حتى يشبع ، ثم تواصل طريقها ، يحثها ما قالته البارحة ، الأنثى المتقدمة في العمر : لن يهدأ لي بال ، حتى أراك بيننا .
ولاحت من بعيد ، بعد منتصف النهار ، نفاثة وحيدة تتعالى بوهن ، ويتساقط بخارها رذاذاً فوق سطح المياه ، وقالت في نفسها : من يدري ، لعله حوت تائه ، كما تهتُ أنا من قبل .
ولأنها عرفت الوحدة ، والضياع ، فقد أرادت أن تمدّ يد المساعدة لهذا الحوت ، إن كان بحاجة إلى المساعدة . ودفعت صغيرها أمامها ، ومضت مسرعة نحوه ، وإذا هو ذكر عجوز متعب ، فحيته قائلة : صباح الخير .
ونظر الذكر العجوز إليها ، وإلى صغيرها ، ورد بصوت واهن : صباح النور .
وصمت لحظة ، ثم قال : مرّ بي عند الفجر ، قطيع تتبعه من بعيد أنثى متقدمة في العمر ، وإذا كان هذا قطيعك ، فامضي بسرعة ، لعلك تلحقين به ، قبل حلول الظلام .
وحدقت الأنثى الفتية فيه ، وقد أدركت أنه يريد أن تمضي بعيداً عنه ، وقالت وهي تتأهب لمواصلة طريقها : ليتك لا تبقى هنا وحدك ، فهذا المكان يعجّ بالأخطار .
وردّ الحوت العجوز بصوت واهن : لا عليك ، يا بنيتي ، فأنا حوت عجوز .
وواصلت الأنثى الفتية وصغيرها الطريق ، يحثها هاجس بأنها قد تأخرت ، وأنّ الأنثى المتقدمة في العمر ، تنتظرها بفارغ الصبر . وتوقفت أكثر من مرة ، بعد أن تعالت غمغمات صغيرها الشاكية، فارضعه على عجل ، ثم مضت بسرعة مواصلة الطريق في أثر القطيع .
وبعد الظهر بقليل ، فوجئت الأنثى الفتية بالقطيع ، يقف على مسافة ليست بعيدة ، ملتفة إناثه حول الذكر . وداخلتها مشاعر متضاربة ، وخمنت أنّ الأنثى المتقدمة في العمر، أخبرتهم بأنها وضعت ، فتوقفوا هنا ، لانتظارها هي وصغيرها .
ومضت نحوهم مترددة ، يتنازعها القلق والاطمئنان ، فهي لا تصدق بسهولة ، أنّ الذكر يمكن أن يتقبلها مع صغيرها هذه المرة ، ضمن القطيع . ولكن من يدري ، لعله راجع نفسه ، وعاد عن خطئه ، وتصرف كحوت عطوف شهم . وما إن اقتربت منهم ، حتى زايلها الاطمئنان ، واستبد بها القلق وحده . فقد رأت الجميع ، بمن فيهم الذكر نفسه ، يلفهم وجوم وحزن عميقين . وتلفتت حولها ملتاعة ، متسائلة في نفسها : ماذا جرى ؟
ورفع الذكر عينيه ، وحدق فيها غاضباً ، ورغم خوفها شهقت ، وكادت تصيح : أين هي ؟ أين الأنثى المتقدمة في العمر ؟ وقبل أن تنطق بكلمة ، خاطبها الذكر بغضب قائلاً : منذ البداية ، رفضتُ انضمامك إلينا ، لكني وافقت احتراماً لها .
وصمت لحظة ثم قال بحزم : لم بعد لك مكان بيننا ، بعد أن تسببت في مقتلها .
وأطرقت الأنثى الفتية رأسها ، وقد غرقت عيناها بالدموع ، فمالت عليها أنثى قريبة منها ، وهمست لها قائلة : لقد فتك بها الحوت القاتل ، وهي في طريق العودة إلينا .
واستدار الذكر ، ومضى يشق الماء ، وهو يقول : هيا ، لنمض ِ من هنا ، فالحوت القاتل مازال في الجوار .
ومضت الإناث تشق الماء ، في أثر الذكر ، حتى غابوا جميعاً وراء الأفق . وبقيت الأنثى الفتية وصغيرها وحيدين وسط مياه ساكنة ، تضج بالغموض والخطر .







" 6 "


ـ والآن ، إلى أين ؟
ومرة أخرى تساءلت الأنثى الفتية هذا السؤال ، الذي طالما رددته خلال الليل والنهار ، وصغيرها إلى جانبها يلهو .. ويرضع .. وينام .. وينمو شيئاً فشيئاً ، فجميع القطعان ترفضها ، وقطيعها لا أثر له في أي مكان ، وهي تدور .. وتدور .. على غير هدى .. في مياه شاسعة .. لا تحدها سوى السماء .
ورغم اهتمامها بما حولها من كائنات بحرية عديدة ، وبحثها المستمر عن قطيعها ، الذي تاهت عنه منذ أشهر طويلة ، إلا أنّ الحوت الصغير ، كان محور حياتها ، لا تهتم إلا براحته ، وإبعاده عن الأخطار ، وما أكثرها في عالم المحيطات .
وذات يوم ، لاحت للحوت الصغير من بعيد ، نفاثة يتعالى بخارها ، ويتلامع تحت أشعة الشمس ، فصاح مبهوراً : ماما ، أنظري .
ونظرت الأنثى الفتية إلى حيث ينظر صغيرها ، وصاحت فرحة : يا إلهي ، إنه الحوت العجوز .
وتساءل الحوت الصغير مندهشاً : من ؟ الحوت العجوز؟
وردت الأنثى الفتية ، وهي مازالت تنظر إلى الحوت العجوز : نعم ، ألا تذكره ؟
وفكر الحوت الصغير ، ثم قال : لا أدري ، ربما رأياه مرة ، ونسيته .
ودفعته الأنثى الفتية أمامها ، وانطلقت نحو الذكر العجوز ، وهي تقول : تعال ، لعلك تتذكره حين تراه .
ورآهما الذكر العجوز ، يقبلان نحوه ، وتذكرهما على الفور ، فأسرع إليهما ، واعترضهما قائلاً : توقفا رجاء ، توقفا .
وأمسكت الأنثى الفتية صغيرها ، وتوقفت قائلة : رأيناك من بعيد ، فجئنا لتحيتك .
واختلس الذكر العجوز نظرة إلى البعيد ، وقال : أهلاً ومرحباً بك وبصغيرك .
ومال على الأنثى الفتية ، وقال بصوت هامس يشي بالخطورة : هاتي صغيرك ، يا عزيزتي ، ولنبتعد بسرعة من هنا .
وتلفتت الأنثى الفتية قلقة خائفة ، ثم حدقت في الذكر العجوز ، وقالت متسائلة : من ؟ أصدقني ، أهو الحوت القاتل مرة أخرى ؟
وهزّ الذكر العجوز رأسه قائلاً : كلا .
وتقدم ببطء في الاتجاه المعاكس ، وقال بصوت خافت : هيا ، اتبعيني .
ودفعت الأنثى الفتية صغيرها برفق ، وتبعت الذكر العجوز ، وتساءلت بقلق : أخبرني ، ما الأمر ؟
فردّ الذكر العجوز ، دون أن يلتفت إليها : استمري في طريقك ، هناك سفينة حواتة في الأفق ، وأخشى أن ينتبه إلينا بحارتها .
ولاذت الأنثى الفتية بالصمت ، وقلبها يخفق بشدة ، خوفاً على صغيرها ، لكنها تمالكت نفسها ، ومضت بثبات وهدوء ، تشق الماء في أثر الذكر العجوز.
















" 7 "


توقف الذكر العجوز والأنثى الفتية والحوت الصغير، عند منتصف الليل ، وسط مياه هادئة حدّ السكون ، يطل عليه قمر مضبب شديد الشحوب ، وسماء قاتمة مرصعة بالنجوم .
واحتضنت الأنثى الفتية صغيرها ، وقالت بصوت خافت : مسكين صغيري الحبيب ، لقد تعب اليوم كثيراً .
وبصوت خافت ، ردّ الذكر العجوز : أنت تعبت أكثر .
ونظرت الأنثى الفتية إليه مستغربة ، فأضاف قائلاً " إنه صغير ، لا يدري بالضبط ما يدور حوله .
وتململ الحوت الصغير مبتسماً في نومه ، فابتسم الذكر العجوز ، وقال : آه ما أسعد الصغار .
فردت الأنثى الفتية قائلة : نعم ، ولكن ليس في هذه البحار والمحيطات .
وتأثر الذكر العجوز لنبرة الحزن واليأس في صوتها ، فقال بصوت خافت حنون : هذه البحار والمحيطات ، يا بنيتي ، ليست كلها الحوت القاتل ، والسفن الحواتة ، والحبار العملاق .
وأطرقت الأنثى الفتية رأسها ، وقالت : إنني للأسف لم أرَ فيها ، حتى الآن ، غير الحوت القاتل ، والسفن الحواتة ، والحبار العملاق ، وكذلك .. الوحدة القاتلة ،في هذه المتاهة التي لا يحدها حدّ .
وتطلع الذكر العجوز إليها ، وقال : أنت متعبة الآن ، نامي يا بنيتي ، مادام صغيرك مستغرق في النوم ، وربما سترين غداً ، أنّ في البحار والمحيطات أيضاً الكثير من الحب الخير والجمال .
وأطرق الذكر العجوز رأسه ، وقد لاذ بالصمت ، ثم قال بصوت هادىء حنون : لم تكن حياتي كلها شيخوخة ومصاعب ووحدة ، فقد عشت طفولة مطمئنة سعيدة ، في كنف أمي ، ضمن قطيع كبير من الإناث والصغار ، يقوده ذكر قوي ، مرهوب الجانب ، كما عشت فترة مرحة ، لاهية جميلة ، وحين شاخ الذكر ، وآثر حياة التنسك والعزلة ، حللتُ محله إلى جانب عشرات الإناث المحبة ، وعشنا حياة مطمئنة سعيدة ، حتى كان يوم ..
وصمت لحظة ، ثم تابع بصوت حزين متألم : خرج عليّ من قطيعي ، ذكر فتيّ مغرور بعنفوانه وقوته ، وتصدى لي أمام إناثي ، والحق بي هزيمة مذلة ، والأنكى أنّ الإناث جميعاّ تركنني وتبعنه دون استثناء ، فمضيت مبتعداً ، مفضلاً حياة الوحدة والتنسك ، انتظاراً للحظة النهاية ، وهي على ما يبدو ليست بعيدة .
وصمت الذكر العجوز ثانية ، ثم رفع رأسه ، وابتسم بحنان ، عندما تبين أنها كانت تغط في نوم عميق .


" 8 "


أفاقت الأنثى الفتية ، صباح اليوم التالي ، على كركرات صغيرها ، وشهقاته المليئة بالمرح والسعادة . وفتحت عينيها ، وإذا به يتواثب حول الذكر العجوز ، ضارباً صفحة الماء بذيله الأفقي القوي ، والذكر العجوز يقهقه قائلاً : ستكون ذكراً قوياً مقداماً ، مثلما كنت أنا في شبابي .
ونسيت الأنثى الفتية ، ما قالته ليلة البارحة عن البحار والمحيطات ، ولم ترَ فيها ، هذه المرة ، سوى الشمس .. والمياه البهيجة .. وصغيرها .. الذي ينثر مع المياه .. رذاذاً ملوناً بالفرح .
ولوحت لهما محيية بصوت مفعم بالبهجة والمرح : صباح الخير .
وردّ الذكر العجوز ملوحاً : صباح النور ، تعالي يا عزيزتي ، وشاركينا اللعب .
وتوقف الحوت الصغير عن التواثب ، وضرب صفحة المياه بذيله الأفقي القوي ، وقال مكركراً : ماما ليست صغيرة ، لتشاركنا مثل هذه اللعبة .
وقهقه الذكر العجوز قائلاً : هذا حق ، يا رفيقي ، فأنا وأنت فقط .. صغيران .
ولم تتمالك الأنثى الفتية نفسها ، فضجت هي الأخرى بالضحك ، ثم أشارت للحوت الصغير ، وقالت : لابد أنك جعت ، بعد كلّ هذا اللعب ، تعال ارضع .
ونظر الذكر العجوز إلى الحوت الصغير ، وغمز له ، ثم قال : لم يعد صغيراً ليرضع ، بل سيأتي معنا ، ويأكل ما يشاء من القشريات .
واحتجت الأنثى الفتية ، وهي تغالب ابتسامتها الفرحة : لا ، أرجوك ، إنه صغير على تناول القشريات .
وضرب الحوت الصغير صفحة الماء بذيله الأفقي القوي، وصاح : كلا ، لم أعد صغيراً وسآكل القشريات معكم .
واقتربت الأنثى الفتية من الذكر العجوز ، وقالت دون أن تستطيع إخفاء فرحها : أنظر فعلتك .
فردّ الذكر العجوز بنبرة مازحة : هذا ليس ذنبي ، بل ذنبه ، لقد كبر وتجاوز سن الفطام ، دون أن يستأذنك .
وهزت الأنثى الفتية رأسها ، وقالت : آه منك .
واندفع الذكر العجوز ، يشق الماء بهمة الفتيان ، هاتفاً : هيا إذن إلى القشريات .
وعلى الفور ، انطلق الحوت الصغير متواثباً إلى جانبها، صائحاً بصوته القوي : إلى القشريات .
وانطلقت الأنثى الفتية ، في أثرهما فرحة مطمئنة ، فها هو صغيرها قد كبر فعلاً ، وتجاوز سن الفطام ، وسيبدأ منذ اليوم بتناول القشريات .
ولاحت القشريات من بعيد ، تطفو فوق سطح الماء ، تتموج إلى ما لا نهاية ، كأنها حقل لا حدود له ، مليء بالسنابل .
وما إن وصلوا مشارف القشريات ، حتى فغر الذكر العجوز فاه على سعته ، وهو يصيح : هيا ، يا بنيّ ، افتح فمك مثلي ، وعب ما تشاء من هذه القشريات اللذيذة .
وفتح الحوت الصغير فاه ، وكذلك فعلت الأنثى الفتية ، وتقدموا جميعاً جنباً إلى جنب ، يعبون من حقل القشريات ، الذي لا ينتهي .
ومع العبات الأولى من حقل القشريات ، شعر الحوت الصغير ، أنّ حليب أمه ألذ بما لا يقاس ، إلا أنه كتم ذلك في نفسه ، فهو قد كبر ، ولا يريد أن يستمر على الرضاعة ، كأي حوت صغير أبله .
وركن الذكر العجوز والأنثى الفتية والحوت الصغير إلى الراحة ، بعد الظهر ، وقد امتلأت بطونهم بالقشريات . ونسي الحوت الصغير بأنه قد كبر ، فغاص تحت الماء ، وتشبث بأحد أثداء أمه ، وراح يعبّ من حليبها اللذيذ الدسم الدافيء .






" 9 "

مرت الأيام على الحوت الصغير، مليئة باللهو واللعب ، وعبّ القشريات ، والاستماع إلى أحاديث الذكر العجوز ، التي لا تنتهي .
وكلما نادته أمه : بنيّ ، تعال ارضع .
يردّ عليها بشيء من الانفعال : قلت لك ألف مرة ، لن أرضع بعد الآن ، لقد كبرت .
وحين يتعب من اللهو واللعب ، وعبّ القشريات ، والاستماع إلى أحاديث الذكر العجوز ، يلجأ إلى صدر أمه ، وهو يتثاءب . وما إن يغمض عينيه ، حتى ينسى من جديد أنه كبر ، فيتسلل إلى أحد أثدائها ، فيرضع .. ويرضع .. ويرضع .. حتى يغفو .. ويستغرق في نوم عميق .
وبدت الأم خلال هذه المدة ، سعيدة مطمئنة ، حتى كادت تنسى الحوت القاتل والسفن الحواتة والحبار العملاق ، بل وحتى قطيعها ، الذي لم تعد تعرف عنه أي شيء .
ولعل الذكر العجوز ، عوضها بعض الشيء عن قطيعه، الذي تاهت عنه ، فقد ظل إلى جانبها ، لا يفارقها ، ولا يفارق صغيرها ، لحظة واحدة . وصاروا بمثابة أسرة واحدة ، قلما يستطيع أحدهم الابتعاد عن الآخر .
وعندما تتوقف الأنثى الفتية ، وتركن للراحة ، أو تستسلم للنوم ، يبقى الذكر العجوز إلى جانب الحوت الصغير ، يلهو معه مرة ، ويحدثه مرات عن الحيتان .. والدلافين .. والدببة القطبية .. وطيور الماء ..وأسماك الأعماق ، ويحذره من الحيتان القاتلة .. والسفن الحواتة .. والحبار العملاق .. والقروش المفترسة ، كما حدثه عن مسراته .. ومكابداته .. ومشاهداته في البحار والمحيطات .. والمناطق القطبية الباردة . وطالما تمنى له ، وهو يتغامز مرحاً ، أن ينمو ، ويكبر ، حتى يغدو شاباً ، ويلتحق بأحد القطعان .
وغالباً ما يقهقه ، ويقول له بنبرة ذات معنى : لا تختر قطيعاً من الذكور .. بل قطيعاً من الإناث .. كما فعلت أنا في شبابي .
وتساءل الحوت الصغير : وفارقت أمك ؟
وردّ الذكر العجوز قائلاً : طبعاً ، فارقتها ، فارقتها إلى غير رجعة .
وبشيء من الاستنكار ، احتج الحوت الصغير قائلاً : كلا، لست مثلك ، أنا لن أفارق أمي مهما كان الأمر .
وقال الذكر العجوز مغالباً ضحكته : هذا ما قلته أنا أيضاً، يا صغيري ،عندما كنت في عمرك ، وما إن غدوت شاباً ، حتى نسيت ما قلته ، والتحقت بقطيع الإناث .


" 10 "


يوماً بعد يوم ، ازداد اعتماد الحوت الصغير في طعامه ، على القشريات منصرفاً بالتدريج عن الرضاعة، ومرت به الأيام هادئة هانئة ، حتى كان يوم . كان الوقت عصراً ، والريح تتصاعد ، وتتصاعد معها الأمواج ، وكانت الأنثى الفتية ، والذكر العجوز ، والحوت الصغير ، يسبحون وسط حقل لا نهاية له من القشريات ، وقد فتحوا أفواههم على سعتها ، وراحوا يعلون باطمئنان من طعامهم المفضل .
وحانت من الأنثى الفتية التفاتة ، فلمحت من بعيد زعنفة ظهرية عالية ، تشق المياه المتوجة نحوهم ، وخفق قلبه بشدة ، إنه الحوت القاتل . ومالت على الذكر العجوز ، وقالت بصوت خافت مضطرب : لنتوقف .
وتوقف الذكر العجوز متسائلاً : ما الأمر ؟
وردت الأنثى الفتية مرعوبة : الحوت القاتل .
وتلفت الذكر العجوز متمتماً : يا إلهي ، الصغير .
واعترضت الأنثى الفتية صغيرها ، وراحت تدفعه إلى الجهة المعاكسة ، وهي تقول : بنيّ ، فلنبتعد ، من هنا .
واحتج الحوت الصغير قائلاً : دعيني ، يا ماما ، دعيني، إنني لم أشبع بعد .
ودفعته الأنثى الفتية مرة أخرى ، وقالت : هيا ، سأرضعك بعد قليل .
وحاول الحوت الصغير عبثاً أن يتوقف ، وهو يقول : لا أريد أن أرضع ، هناك قشريات كثيرة ، دعيني ..
وقاطعته أمه قائلة : كفى ، يا بنيّ ، علينا أن نبتعد ، وبسرعة .
ولحق بها الذكر العجوز على عجل ، وهمس لها بصوت يشي بالخطورة : توقفي .
وأبطأت قليلاً ، لكنها لم تتوقف ، فمال عليها ، وقال : سفينة حواتة .
ورفعت رأسها ، وإذا ثلاثة قوارب ، تشق الماء مبتعدة عن السفينة الحواتة ، متجهة نحوهم ، يستقلها بحارة شرسون ، مدججون بالرماح .
وتوقفت حائرة مضطربة ، ما العمل ؟ الحوت القاتل من جهة ، والبحارة المدججون بالرماح من جهة أخرى . واستدارت بسرعة ، ودفعت صغيرها أمامها ، وهي تصيح : فلنهرب .
وانطلق الثلاثة هاربين ، والأنثى الفتية تدفع صغيرها قائلة : أسرع يا بنيّ ، أسرع ، أسرع .
لكن الحوت القاتل ، والقوارب الثلاثة ، كانوا أسرع منهم، فدفعت الأنثى الفتية صغيرها إلى الذكر العجوز ، وصاحت : خذه ، واهرب .
واحتضن الذكر العجوز الحوت الصغير ، وقال : بنيتي، تعالي .
وقاطعته الأنثى الفتية متوسلة : أرجوك ، خذه واهرب ، سيقتلوننا جميعاً إذا بقينا معاً .
وعلى مضض ، أخذ الذكر العجوز ، الحوت الصغير ، وانطلق به بعيداً . وانقض الحوت القاتل على الأنثى الفتية ، فانهال عليه البحارة برماحهم ، مما أجبره على التراجع ، ومن ثم اللوذ باللفرار .
ومن بعيد ، رأى الذكر العجوز ، الأنثى الفتية ، وقد أحاط بها بحارة القوارب الثلاثة ، ورماحهم تتلامع في أيديهم ، فدفع الحوت الصغير أمامه برفق ، وقال : هيا ، يا بنيّ ، هذا مكان خطر ، علينا أن نبتعد عنه ، هيا ، هيا.













" 11 "


مرت الأيام ، وكبر خلالها الحوت الصغير ، واشتد عوده ، وغدا حوتاً فتياً ، مليئاً بالحيوية والعنفوان . وغابت عن ذهنه بالتدريج صور كثيرة ، وأحداث عديدة، إلا أنّ صورة أمه ، وحادثة مقتلها بين فكي الحوت القاتل ، ورماح البحارة ، لم تغب مطلقاً . وطوال هذه المدة ، ظلّ الذكر العجوز يقاوم الأيام والشيخوخة ، كي لا يبقى الحوت الصغير وحيداً ، وسط هذه البحار والمحيطات ، بعد أن غابت عنه أمه إلى الأبد .
وطالما شاهدا قطعان الحيتان ، تمرّ من بعيد ، ونفاثاتها تطلق نافورات من البخار إلى أعلى ، وتتساقط رذاذاً ناعما حولها . وذات يوم ، لمحا على البعد ، قطيعا يضج فوق سطح الماء، فقال الذكر العجوز: انظر ، هذا قطيع من الذكور، وأغلبهم في عمرك.
وتطلع الحوت الصغير إليهم، وقال مندهشاً : ذكور ! وما أدراك ؟
وابتسم الذكر العجوز، وقال: إنهم ككل الذكور الفتيان ضاجون، مرحون، كثيرو العبث.
والتفت إليه، وأضاف قائلا : لو كنت مكانك ، يا بني، لانضممت إليهم في الحال.
وتطلع الحوت الصغير إليه، ثم قال : لن انضم لا إلى هذا القطيع ، ولا إلى غيره ، وأتركك.
وضحك الذكر العجوز، وقال : لا تستعجل ، ستتركني يوما، وتنضم إلى احد القطعان، ولكن ليس إلى مثل هذا القطيع .
واحتج الحوت الصغير متسائلا : أنا !
فرد الذكر العجوز : نعم ، أنت، وأنا شخصيا لا ألومك.
وضرب الحوت الصغير صفحة الماء بذنبه، ومضى يشق الماء قدما، وهو يقول: أنت لم تعرفني بعد.
وضحك الذكر العجوز، وقال : هذا ما تظنه، وستثبت لك الأيام ، أنني على حق.
وتوقف الحوت الصغير ، متطلعا إلى قطيع الحيتان ، وقال بصوت مضطرب: أنظر .
ونظر الذكر العجوز إلى حيث ينظر الحوت الصغير ، ورأى الحيتان يتوقفون مضطربين خائفين ، فقال : أنهم يواجهون خطرا، لعله الحوت القاتل.
وصمت لحظة، ثم قال بصوت منفعل، خائف: انه هو ، انظر ، ها هو اللعين يهاجمهم.
وتراجع قليلاً ، وهو يقول : بني ، لنبتعد من هنا، انه وحش كاسر.
وبدل أن ينصاع الحوت الصغير للذكر العجوز، وينطلق معه مبتعدا، تسمر في مكانه، وعيناه الخائفتان تتابعان الحوت القاتل ، ينقض على أحد الحيتان الفتية ، ويفتك به بأسنانه الخناجر . ورأى الحيتان الأخرى، يلوذون بالفرار ، تاركين رفيقهم يواجه وحده مصيره المحتوم. فصاح بغضب: يا للجبناء ، فروا ، وتركوا رفيقهم.
ورد الذكر العجوز قائلاً : لا عليك، هذه عادتهم.
ودفع الحوت الصغير برفق، ثم قال: هيا، يا بني، هيا.
ومضى الحوت الصغير ، يشق الماء صامتا، حزينا، ولحق الذكر العجوز به ، وقال : قد تستغرب إذا عرفت أن للإناث عادة تختلف عن عادة الذكور هذه ، فعندما تصاب أنثى منهن بمكروه، تلتف الأخريات حولها، ولا يتركنها أبدا ، لكن هذا يسبب لهن أذى شديدا ، وخاصة إذا كانت قربهن سفينة حواتة .










"12"



لاحظ الذكر العجوز ، أن الحوت الصغير ، بدا مؤخرا ، يميل للصمت ،لكن هذا الصمت أثار هواجسه ، فقد لمس أن أعماق الحوت الصغير تدمدم كبركان ينذر بالانفجار . ولعل قفزاته الضاجة بين حين وأخر ، وصفعه لصفحة الماء بذيله الأفقي القوي ، كانت إحدى نذر ذلك الانفجار المتوقع.
وراح الذكر العجوز، يبتعد عنه بعض الأحيان، بحجة أو بأخرى ، ربما ليترك له الفرصة كاملة ، كي يفكر ، ويصل إلى قرار ، في الأمور التي تشغله.
وذات صباح ، والحوت الصغير يعب القشريات، ساهيا عما حوله، مرّ به قطيع من الإناث ، يقودهن ذكر مختال ، متوجس، سريع الغضب. ورفع الحوت الصغير رأسه عرضا ، ورأى قطيع الإناث، وتراءى له ، انه قد رأى هذا القطيع أكثر من مرة ، وحين تجاوزه الذكر، التفت إليه ، وحدجه بنظرة قاسية متوعدة .
وتجنباً لأي سوء فهم ، هم الحوت الصغير بالعودة إلى عب القشريات ، فتوقف الذكر مزمجرا، ثم استدار ، واندفع نحو الحوت الصغير ، وخاطبه قائلاً : أيها الفتى ماذا وراءك ؟ هذه رابع أو خامس مرة، تعترض فيها طريقنا .
ورد الحوت الصغير بصوت حاول جهده أن يكون هادئا : أخشى أنك واهم ، ولعلها صدفة ، لا أكثر .
وقال الذكر بحدة : مهما يكن ، فأنني لا أريد أن أراك ثانية ، وإلا.. ندمت .
وصمت الحوت الصغير قليلا ، محاولا لجم غضبه ، ثم قال : ليس الخطر عليك ، أو على إناثك ، يكمن فيّ ، بل في الحوت القاتل، الذي يصول ويجول في الجوار.
ورد الذكر قائلا : قلت لك ، لا أريد أن أراك ثانية في طريقي ، وكفى .
وبشيء من الحدة ، قال الحوت الصغير : هذا طريقي ، وإذا أردت ألا تراني ، فأبتعد أنت وقطيعك إلى طريق أخر .
واستبد الغضب بالذكر ، وهمّ أن ينقض على الحوت الصغير ، حين أقبل الذكر العجوز مسرعا، وهو يقول بصوت يشي بالخطورة : الحواتة .. الحواتة .
ورفع الذكر رأسه ، وما إن لمح السفينة الحواتة في الأفق، حتى أسرع إلى إناثه المذعورات ، وانطلق بهن ، على عجل ، بعيدا عن المكان.
ونظر الذكر العجوز إلى الحوت الصغير ، ثم مضى يتقدمه قائلاً : هيا ، يا بني ، إن السفينة تقترب ، وأخشي أن يرانا بحارتها.
وتطلع الحوت الصغير بغضب ، ونقمة ، إلى السفينة الحواتة ، ثم استدار بعنف ، ومضى يشق الماء ، في أثر الذكر العجوز .





















" 13"


لسبب لا يدريه ، ظل الحوت الصغير ، طوال أيام عديدة ، يتابع من بعيد ، قطيع الإناث ، محاولا تركيز نظره على الذكر ، وإن كانت عيناه تسترقان النظر أحيانا ً من الإناث ، وهن يسبحن بهدوء ، ورشاقة ، ورضوخ ، وراء الذكر .
لم يسأل الذكر العجوز الحوت الصغير، عن دوافع هذه المتابعة المستمرة ، فهو على ما يبدو قد خمن بعض هذه الدوافع ، وكيف لا ، وهو ذكر ..عجوز .. مجرب ؟
وذات يوم ، كان الذكر العجوز ، يتشاغل بعب القشريات، ويراقب خلسة مناورات الحوت الصغير ، ومتابعته الملحة لقطيع الإناث . وحانت منه نظرة إلى الوراء ، فأنقض قلبه فزعاً ، وأسرع إلى الحوت الصغير، وقال بصوت يشي بالخطورة : بني ، لنبتعد بسرعة من هنا.
وتوقف الحوت الصغير ، وقال بشيء من الحدة : ولم نبتعد ؟ هذا المكان لي ولك، كما هو للآخرين.
وأدرك الذكر العجوز ما يعنيه الحوت الصغير ، فمال عليه ، وقال بصوت هادئ : بني ، هناك سفينة حواتة وراءنا ، ويبدو أن بحارتها قد اصطادوا حوتا من حيتان العنبر.
ودمدم الحوت الصغير متذمرا ، غاضبا: يا للحياة ، ما أكثر منغصاتها ، الحوت القاتل من جهة ، والسفن الحواتة من جهة ، والذكر الغضوب من..
ورغم خطورة الموقف، قاطعه الذكر العجوز قائلا : آه .. الذكر لا يلام ، يا بني .
وحدق الحوت الصغير فيه مستغرباً، فقال : إنه يخاف على إناثه منك ، لقد بدأ يشيخ ، ويضعف ، أما أنت ففي عنفوان شبابك وقوتك .
وهمّ الحوت الصغير أن يردّ عليه ، حين رجت المياه حركة غير عادية ، فلاذ بالصمت ، وقد تملكه القلق والغضب ، فقال الذكر العجوز : لا عليك ، يا بنيّ ، إنهم القروش .
ودمدم الحوت الصغير منزعجاً : القروش ؟
واستطرد الذكر العجوز قائلا : يبدو أنهم شموا رائحة دم حوت العنبر ، المربوط إلى السفينة الحواتة .
وصمت لحظة ثم قال : إذا لم ينقذ البحارة هذا الحوت ، ويرفعونه قبل حلول الظلام ، إلى سطح السفينة ، فلن يجدوا صباح الغد سوى هيكله العظمي.
وتطلع الحوت الصغير ، إلى قطيع الإناث مرة أخرى ثم استدار ، ومضى يشق الماء مبتعداً، وهو يقول : هيا الأفضل أن نبتعد.


"14"



ما كاد الحوت الصغير ، والذكر العجوز ،يبتعدان قليلاً ، حتى ارتفعت من قطيع الإناث صيحات استغاثة ، فتوقفا ، واستدارا بسرعة ، وإذا الحوت القاتل ، يتجه كالسهم نحو القطيع.
وتوقف الذكر مرعوباً ، حائرا، لا يدري ماذا يفعل. وتصايحت الإناث طالبات النجدة . وبدل أن يندفع الذكر لاعتراض الحوت القاتل ، والتصدي له، تراجع خائفاً، وراح يبتعد عن القطيع.
وعلى الفور ، انطلق الحوت الصغير ، ليقطع الطريق على الحوت القاتل، فصاح به الذكر العجوز : توقف، أيها المجنون، سيفتك بك الحوت القاتل.
لكن الحوت الفتي لم يتوقف ، وقبل أن يصل الحوت القاتل قطيع الإناث لطمه الحوت الصغير بذيله الأفقي القوي . وترنح الحوت القاتل من أثر اللطمة ، وهم أن يتمالك نفسه ، ويعاود الهجوم ، فلطمه الحوت الصغير بذنبه ثانية ..وثالثة .. ورابعة .. و..و.. وتهاوى نحو الأعماق، والدماء تنزف من جراحه . وصعد بعد قليل إلى السطح ، متقطع الأنفاس، ثم تحامل على نفسه، ولاذ بالفرار .
وتوقف الذكر مترددا، يتبادل نظرات قاسية مع الحوت الصغير . وهنا تقدمت الإناث، الواحدة بعد الأخر، ووقفن على جانبي الحوت الصغير . واطرق الذكر مفكرا ، ثم استدار ، ومضى يشق الماء ببطء ، مبتعدا عن القطيع .
وتقدم الذكر العجوز من الحوت الصغير ، وقال مبتسما: ها أنت قد وجدت قطيعك.
وتطلع الحوت الصغير إليه حائراً ، فقال : لقد قلت لك مرة ، أننا سنفترق يوما ما ، وها قد جاء هذا اليوم.
وقال الحوت الصغير بشيء من الرجاء : ابق معنا.
فهز الذكر العجوز رأسه، وقال : هذا مستحيل ، فليس للقطيع سوى ذكر واحد.
وصمت لحظة ،ثم قال : بني ، إن القطيع في حمايتك الآن ، فأمض.
وتراجع الحوت الصغير قائلاً بصوت دامع : إلى اللقاء .
ودمعت عينا الذكر العجوز ، وتمتم : وداعا.
واستدار الحوت الصغير ، الذي لم يعد صغيراً ، ومضى يشق الماء بعزم، وسرعان ما مضت في أثره الإناث الواحدة بعد الأخرى .
وهمّ الذكر العجوز أن يستدير ، ويمضي وحده مبتعداً، حين ارتج الماء بقوة ، فقال في نفسه : أنهم القروش،يبدو أننا لن نرى مرة أخرى .. الحوت القاتل .



3/8/2002



#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية للفتيان قمر من سماء عالية ...
- روايةللفتيان الزنبقة ...
- رواية للفتيان عينان في الماء طلال ...
- رواية للفتيان يوهيرو الأمل ...
- رواية للفتيان التاج طلال حسن
- رواية للفتيان شترا و ريشيا ...
- رواية للفتيان طائر الرعد طلال حسن
- رواية للفتيان كوجافاسوك والحوت ...
- رواية للفتيان كهف الدب الأسود ...
- رواية للفتيان الذئب الأحمر الصغير طلا ...
- رواية للفتيان ابني الديسم ميشا ...
- رواية للفتيان جبل الوعول ...
- حكايات للفتيان حكايات عربية
- حكايتان طلال حسن الهارب
- رواية للفتيان ذئب الأهوار
- رواية للأطفال هدية الإلهة بنيتين
- رواية للفتيان خزامى الصحراء
- رواية للفتيان الجوهرة المفقودة
- رواية للفتيان الصحن الطائر
- رواية للفتيان اشوميا الز ...


المزيد.....




- بعد نزول مسلسل عثمان الحلقة 160 مترجمة عربي رسميا موعد الحلق ...
- الإعلان الأول.. مسلسل صلاح الدين الأيوبي الحلقة 25 على فيديو ...
- إلغاء حفل استقبال -شباب البومب- في الكويت جراء الازدحام وسط ...
- قيامة عثمان الحلقة 160 مترجمة باللغة العربية وتردد قناة الصع ...
- قمصان بلمسة مغربية تنزيلا لاتفاق بين شركة المانية ووزارة الث ...
- “ألحقوا اجهزوا” جدول امتحانات الثانوية العامة 2024 للشعبتين ...
- الأبعاد التاريخية والتحولات الجيوستراتيجية.. كتاب -القضية ال ...
- مهرجان كان السينمائي: آراء متباينة حول فيلم كوبولا الجديد وم ...
- قال إن وجودها أمر صحي ومهم الناقد محمد عبيدو يعدد فوائد مهرج ...
- ركلها وأسقطها أرضًا وجرها.. شاهد مغني الراب شون كومز يعتدي ج ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - طلال حسن عبد الرحمن - رواية للفتيان الحوت الصغير طلال حسن