أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - رويدة سالم - الفقد الطوعي للخصوصية : كيف تطور مفهوم -الخصوصية- من جون ستيوارت ميل إلى مارك زوكربيرج















المزيد.....


الفقد الطوعي للخصوصية : كيف تطور مفهوم -الخصوصية- من جون ستيوارت ميل إلى مارك زوكربيرج


رويدة سالم

الحوار المتمدن-العدد: 7592 - 2023 / 4 / 25 - 12:36
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


الفقد الطوعي للخصوصية : كيف تطور مفهوم "الخصوصية" من جون ستيوارت ميل إلى مارك زوكربيرج

أحدثت الإنترنت، منذ ظهور شبكتها العنكبوتية في تسعينات القرن الماضي، ثورةً كبرى في أسلوب التواصل البشريّ، وهو ما سمح لمستخدميها بمشاركة المعارف والمعلومات بشكل غير محدود. ولئن كان لهذه المشاركة منافع معرفيّة وخدماتيّة، فالمُلاحظ أنّها لم تُولِ مسألةَ الحياة الخاصّة ما هي جديرة به من صونٍ وحمايةٍ، وهو أمرٌ تكشف عنه بجلاء تلك الزيادةُ المذهلةُ في حجم الانتهاكات التي تتعرّض لها خصوصيات المستخدِمين. ولتبيّن ما تطرحه الخصوصية في عالَم الإنترنت من أسئلة وقضايا، يعرض عليكم هذا المقال حوارًا أجرته الكاتبة البريطانية "كلير هيميري" (Clare Hemery) مع عالم الاجتماع الفرنسي أنطونيو كاسيلي (1972)، وهو المتخصّص في الشبكات الاجتماعية والمحاضر في اختصاص العلوم الإنسانية الرقمية والباحث في مركز إدغار موران مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية ومؤلف كتاب "العلاقات الرقمية" (2019).

* ما هو مفهوم الخصوصية الذي يفرضه عمالقة الإنترنيت؟
- يميل الناس، غالبا، إلى اعتبار شركات القطاع الرقمي مجرد لاعبين اقتصاديين وتكنولوجيين يبتكرون أشياء جديدة ويوفرون، من خلال إبداعهم، حلولا للمشاكل القائمة. إلا أن هذه الشركات تضعُ، أيضًا، مجموعة من المعايير في شكل أوامر وتعليمات ذات طبيعة اجتماعية وتكنولوجية، في آن واحد. لا أرمي، انطلاقا من هذا، إلى القول إن هذه الشركات تعرض مجموعة متجانسة من القيم، فمواقفها متباينة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. لكن بعض مواقعها الكبرى المهيمنة تفرض نفسها ورؤيتها للعالم على مُرتادِيها، مثل، علامة الاختصار GAFA (جوجل وأمازون وفيسبوك وأبل). وإذا ما فكّرنا في الإيديولوجية الإيرينية irenic لوسائل الإعلام الاجتماعية، حيث الجميع "أصدقاء" أو إذا تأملنا كيفية قيام خوارزميات مواقع التجارة الإلكترونية "بخصخصة" كل جوانب حياتنا، سنفهم أن تلك المفاهيم مشحونة إيدولوجِيًا، بل هي تهيكل وجودنا ضمن المجتمع، ويستوي تأثيرها على العاملين لصالح تلك الشركات ومعها كما على من يستهلكون المنتجات والخدمات التي تقدمها.

* ما المعايير المعتَمَدة لدى تلك الشركات؟ ولِمَ لها كلّ هذا التأثير على خصوصية حياة مستخدِميها؟
- فعلاً، تتعلق مجموعة محددة من هذه المعايير بالخصوصية. ومنها خاصّة الخطابات التي تشكّك في جدوى حماية الخصوصية. فإذا تناولنا تصريحات بعض متعهّدي (رجال أعمال) الإنترنت سنجد أن سكوت ماكنيلي، الرئيس التنفيذي لشركة صن مايكروسيستم، على سبيل المثال، كان قد قال سنة 1999: "لم يعد لديكم أية خصوصية على الإطلاق. فلتتجاوزوا هذا الأمر". لا يوجد، في قوله هذا، إقرارٌ حول التلاشي المزعوم للحياة الخاصة فحسب، بل وأيضا، هو أمرٌ ذو طبيعة أخلاقية مفاده: "اِطْوِ الصفحة وتجاوزْ هذه المرحلة". وقد وصف بعض المفكرين ممن يلقبون بـ"عرابي الإنترنت" هذه المرحلة بـمرحلة الحياة "العامَّوِيَّة" publicness وهي نقيض "الخُصوصية" التي إذا كانت تُعرَّفُ على أنها سلوكٌ دفاعي يهدف إلى حماية جوانب معينة من الحياة الخاصة للمرء أو هي حِفظُ مجاله الشخصىّ من أعين الآخرين فـ"العامَّوِية" تعني، بالأحرى، حياةً مكشوفةً أمام الآخرين. وهي وضعية تبسيطية تُعبِّر عنها مقولة : "إذا لم يكن لديك شيء لتخفيه، فلا يوجد شيء يمكن أن تخشاه". أولئك الذين شجعوا هذه "العامَّوِية" وحوَّلوها إلى قاعدة حقيقية، هم الفاعلون الجدد، في شبكة الإنترنت، خلال أواخر القرن العشرين والعشرية الأولى من القرن الحالي، كفيسبوك أو جوجل. نتذكّر حرفيا تصريحات مارك زوكربيرج بمناسبة حفل تقديم الشكلاطة المقرمشة "كرانشيز" في 2010 حين أكّد على أن مستخدمي الفيسبوك هم، اليوم، أكثر ارتياحًا لأنهم يتبادلون كل شيء، دون عوائق، وقد أضاف قوله إن: "الحياة العلنية هي القاعدة الاجتماعية الجديدة". وظاهرٌ أنّ مارك زوكربيرج يؤكّد الوجود الفعليّ لهذه القاعدة، حتى ليبدو لنا أنّ مسألة "الحياة العلنية" قد ظهرت فجأة، ودون سابق إنذار، وأن فيسبوك لا يقوم، وفقا لرأي زوكربيرج، إلا بمجاراتها، والتكيف معها.
وقد سعى آخرون إلى وضع تحليل تاريخي للخصوصية. وفي هذا الشأن، أذكر مداخلة أحد المنظِّرين وهو ليس مؤرخا بل عالم الرياضيات وأحد الآباء المؤسسين للانترنت، فينت سيرف Vint Cerf، الذي يشغل، منذ عدة سنوات، دور "رئيس المبشرين" في غوغل. لقد صرّح سنة 2013 قائلا: "قد تكون الخصوصية، في الواقع، شذوذا". وأصل كلمة شذوذ مشتق من المصطلح اليوناني "نوموس" nomos والذي يعني القاعدة والقانون. وقد شرح فكرته بقوله إن الخصوصية لا تعكس حالة طبيعيةً، وإنّما "الحالة الطبيعيةّ الحقيقيّة هي الموافقة على اختراق الفضاء الشخصي للمواطنين، وهو أمر تَمتدِحُه شركته وتمارسه، دونما تحفظ. في بقية مداخلته، أشار فينت سيرف إلى أن الخصوصية هي استثناء، بين مرحلتين من الحياة العامة، هما عالم ما قبل الصناعة والعالم الذي شكلته الإنترنت. فالمرحلة السابقة لظهور المجتمعات الحديثة كانت مرحلة المجتمعات الريفِيّة حيث كانت الحياة العلنيَّة هي القاعدة. ثم مع بروز الخصوصية، ظهر شكل جديد من التعايش الاجتماعي الذي ميّز المجتمعات الحضرية والبرجوازية والنفعية. خلال هذه المرحلة، مال الفرد إلى حماية مجاله الشخصي، وقد استمرَّ هذا النهج طوال القرنين التاسع عشر والعشرين. لكن، في عصر منصات التواصل الاجتماعي أي في القرن الحادي والعشرين، فإن البشر هم في طور إغلاق القوس التاريخي والعودة إلى الوضع الطبيعي الذي يتسم بهذه الاتصالية المتفشية وهذه العامَّوية الشاملة. وبذلك تغدو الخصوصية مجرد انحراف، في المدى التاريخي الطويل. إن تحليله هو، بالأساس، خطاب معياري وأخلاقي محدّد، إذ أن التاريخ لا يخبرنا دوما بمثل هذا الذي قاله.

* كيف تطور مفهوم الخصوصية عبر الزمن؟ هل يمكنك منحنا بعض المعلومات التاريخية؟
- يجب علينا، بالفعل، اختيار نقاط مرجعية تاريخية دقيقة. أنا متأثر، خصوصا، بأعمال المؤرخين الفرنسيين العظماء، مثل فيليب أرييس وروجر شارتير وجورج دوبي، الذين تناولوا ظهور الخصوصية كثيمة تاريخية، وكمفهوم يستقي معناه من الفلسفة والقانون، وبطبيعة الحال، من تمثلاتنا وسلوكنا. في السياق الغربي، يمكن الحديث عن أنّ فكرة خصوصية الفرد ذات جذور عائليّة وإقليمية وسياسيّة ودينيّة، وهي حاضرة بقوّة منذ العصور الوسطى وإلى حدّ العصر الحديث. حيث يمكننا ملاحظة تبدُّدٍ واختفاءِ تدريجيَّين لروابط الولاء الإقطاعي وروابط الإخلاص للمجتمع المحلي وللنَّسَبِ، وتكوُّنٍ تدريجيٍّ أيضا، لجملة من الممارسات والامتيازات المتعلقة بإمكانات الفعل والتعبير لدى الأفراد، والتي ظهرت كتعويض عن فقدانهم لذلك النوع من النسيج الاجتماعي القديم. نُطلقُ على هذا الفضاء الجديد، الذي يعد أيضًا مساحة ملموسة ورؤية مُختلفة لما يعنيه البيت وأطر الحياة، اسم "المجال الخاص" وقد برزت معه أسئلة جديدة من قبيل: ما الذي يمكنني فعله في سياق مادي فردي؟ وما هي حدود فعلي وإمكاناته؟ وهل كل شيء مسموح به داخل بيتي؟ وهل يمكنني قول أشياء تكون خاصة، وحصرية، بفضائي الشخصي؟ وما الذي يجب أن يَربط بين ما أقوم به في فضائي الخاص وما أفعله في الفضاء العام؟
عندما بدأ المرء البحث في الحَدِّ بين العامِّ والخاصِّ، بداية من القرن التاسع عشر، شرع في تعريف مفهوم الخصوصية وتحديد إطارها ورسم حدودها. برز هذا الأمر، على وجه خاص، في فِكرَةٍ أنجلو-سكسونية بالغة الارتباط بالولايات المتحدة وبالتفكير في ديمقراطيات القرن التاسع عشر الأولى. تحضرني، هنا، أعمال ألكسيس دو توكفيل، الذي أثار هذه الإشكالية، من بين مواضيع أخرى. لقد رأى هذا المؤرخ والمنظر السياسي أن الديمقراطية يمكن أن تكون نظامًا قمعيًا، بقدر الأنظمة الأوتوقراطية والتيوقراطية والأوليغارشية، أو أكثر منها. ذاك أنها يمكن أن تُمارِس على الفرد ما سماه "استبداد الأغلبية"، ويتمثَّل هذا الاستبداد في مساندة الأغلبية من الناس لفكرة عامة إضافة إلى مجموعة معينة من القواعد والقوانين وشروط السلوكيات الجماعية. لكن ماذا عن الاستقلالية الفردية في هذا السياق؟ بالنسبة إلى الأفراد، ومن وجهة نظر كميّة صرفة، يمكن أن يصبح هذا التصرُّف قهرًا لا يمكن احتماله أكثر مما في النظم الأخرى. ونتيجة لذلك، شرع عدد من الفلاسفة في مساءلة مفهوم الاستقلالية الفردية، ضمن علاقتها بحرية الفعل والخصوصية. بعد ذلك بعشرات السنوات، أوضح "جون ستيوارت ميل"، سنة 1859، في أطروحته الموسومة بـ"حولَ الحرية"، والتي ميزت بشكل دقيق بين العام والخاص، أن الحرية الفردية هي مطلقة ما لم تضر بمصالح الآخرين. وقد وضع هذا الفيلسوف "مبدأ بسيطا للغاية"، على حد تعبيره، هو "مبدأ عدم التسبب في الضرر". يمكننا تلخيص هذا المبدأ، على النحو التالي: تكون الحرية الفردية مطلقة ما لم تتسبب في إيذاء الآخرين. وبالتالي فالفرد يتمتع، ضمن مجاله الخاص، بكامل الحرية في قول ما يريد والقيام بالسلوك الذي يرغب فيه، والأهم من كل ذلك، بممارسة قناعاته التي يرى أنها تتّفِق مع أهوائه وطبيعة شخصيته. وهكذا نَصِل، مرحليّا، إلى القرن العشرين والى هذا السؤال المركزي: ما هو الموقف الذي ينبغي على القانون اتخاذه إزاء المجال الشخصي؟ وقد كانت فلسفة التشريع، في نهاية القرن التاسع عشر، سنة 1890، قد تناولت، بدورها، هذه المسألة من خلال قانون "الحق في الخصوصية" الذي عرَّفه كل من "لويس برانديز" و"صمويل وارن" في مقاليهما على أنه "حق المرء في أن يعيش في سلام".

*هل لمبدأ "الحق في أن يعيش المرء في سلام" معنى في أيامنا الراهنة؟
- بكل تأكيد، إذا فكَّرْنا في مفهوم الخصوصية، اليوم، في سياق تواصل منتشر في كل مكان واتصالية شاملة، فإن نظرتنا للأمور ستتغير. لقد بدأنا بلوَرة مجموعة كبيرة من المخاوف حول مفهوم الخصوصية وخاصة الخوف من تلاشيها. فعلى الإنترنت، لا أحد يريد أن يتمتع بوحدته، ويُترَك في سلام، ويعيش حياة العزلة. إذ أن مبدأ الاتصال عبر الإنترنت في حد ذاته هو مبدأ عملية تواصل بين كيانين مختلفين ممّا يعني، انطلاقا من هذه الرؤية، أن العزلة قد أضحت أمرا مستحيلا. في هذه المرحلة، علينا أن نتخذ خطوة مهمة متسائلين: ماذا حلَّ بالخصوصية اليوم؟ ما أدافع عنه في كتابي "ضد فرضية نهاية الخصوصية" (والذي ألفته بالاشتراك مع باولا توبارو وياسامان سارابي) هو أن خصوصيتنا لم تختف، رغم تصريحات بعض مروجي ثقافة السوق المشحونة إيديولوجيًا، بل على العكس من ذلك، هي قد تغيرت نوعيا، أي أنها لم تَعُد تُعرَّفُ على أنها حق فردي كما كانت عليه في أواخر القرن التاسع عشر، وإنّما تحوَّلت لتصير مفاوضة جماعية. لقد تغيرت وضع الخصوصية، والتحدي الحالي صار إعادة تعريف هذا المبدأ والدفاع عنه.

* ماذا تعني هذه "المفاوضة الجماعية" وكيف تُدارُ؟
- أركِّز، في هذا التعريف، على اللفظ "جماعية". كثير من الناس، بعد نشر بحوثي وكتابنا، قاموا باخْتصَارٍ تبسيطِيٍّ يتمثّل في قولهم: "طيب، بما أنه تفاوض، فهو إذًا تفاوض تجاري، لذا يكفي أن تدع للأفراد صلاحية بيع بياناتهم الشخصية". ولكن ليس هذا ما قمنا بالتأكيد عليه في الكتاب. ولهذا السبب، سعيت إلى توضيح أن موقفي يعارض تماما "خصخصة الخصوصية". لقد شددتُ على أن تفاوض الخصوصية هو عمل تعاوني حول مسألة مشتركة وحوار يجمع المستفيدين من هذه المسألة المُتعلِّقة بحياتنا الجماعية. لتقريب هذه الرؤية، علينا أن نفكّر في ذاك التفاوض النقابي الذي تعرض فيه مجموعة من الفاعلين الاجتماعيين المنتظمين في مجموعات وجمعيات وهيئات عامة جملةً من المطالب والاحتجاجات للتعبير عن الحاجة إلى الاعتراف بها. وهذا الاعتراف هو أمر أساسي، في أيِّ مفاوضة. يجب، أولاً، طرح المطالب ثم العمل على جعل الطرف الآخر يقبل بها. وعلى سبيل المثال، يتجلى هذا التفاوض الجماعي، اليوم، في احترام ما يطلق عليه بعض الفلاسفة "سلامة السياقية للبيانات الشخصية". فمعلومة شخصية وقع تقديمها في سياق محدد لا يجب أن تنقل إلى سياق آخر قد يُبيح تُحوَّلَها عن معناها الأصلي. وفي حالة حدوث ذلك، يجب دائمًا الحصول على موافقة المستخدم الذي قام بتوفير هذه المعلومة. وتتعلق الحالة الكلاسيكية، مثلما في حالة الدعوى القضائية الجماعية ضد غوغل وفايسبوك، بسوء استخدام الصور والشهادات والمحتويات الإعلامية المتعددة التي يقع تحميلها على المواقع الكبرى، ثم تُستغَّلُ كروابط مدفوعة الأجر ضمن إعلانات سياقية تستهدف مستخدمين آخرين. لكي أكون أكثر دقة، أدعو لتخيُّلِ وضعيّة تُنشر فيها صورة أحدنا وهو على الشاطئ، وأنه تشاركها، في سياق معين، مع بعض الأشخاص الذين اختارهم، ولكن هذه الصورة انتقلت إلى قاعدة بيانات خاصة وبِيعَت إلى جهة دعائية أو إلى واضِع إعلانات يمكنه أن يستخدمها استخداما لا يوافق مطلقا "رغبة صاحب الصورة". ويمكن أن نتخيل أيضا، على سبيل المثال، صورة صاحب مزرعة مع بقرته، وقد وقع استخدامها، في النهاية، للإعلان عن الهمبرغر. إن النزاهة السياقية لم تعد تُحتَرم، اليوم. وهذا دون ذكر القضايا المتعلقة بالحقوق الشخصية للصور والسمعة الإلكترونية وما إلى ذلك. لذا فحديثنا عن المفاوضة الجماعية، يعني تَمكِين الفاعلين الاجتماعيين ممَّا يكفي من القوة ومن الضمانات ليكونوا مسلحين قانونياً وثقافياً وسياسياً وبالتالي قادرين على الدفاع عن أنفسهم في هذا النوع من المفاوضات، وهذا يَتحقَّق عبر إنشاء جمعيات للمستهلكين ليُعبّروا عن الإرادة العامة في سبيل الضغط على المشرِّعِين وهو أمر يمرّ، بطبيعة الحال، من خلال المحاكم، في بعض الأحيان.

* هل هناك تناقضات في صلب هذه المفاوضات الجماعية؟
- طبعا، توجد تناقضات. يجب ألاّ نعتبر هذا الصراع ممثَّلا في جبهة موحدة، ففيه تشرذم هائل، نظرا لنوعية الضغوط واعتبارا للغموض الذي يسود هذه المواضيع، سواء على مستوى المجتمع المدني أو على مستوى المشرِّعين، بل وحتى بين الشركات المتبنية لخطاب "نهاية الخصوصية" المزعومة. كما توجد أحيانًا، في صلب بعض الصراعات المحلية والمحدّدة، انقسامات تُغذِّيها مصالح مهنية شديدة التباين. في حالة الدعاوى القضائية الجماعية، كما سبق ورأينا في قضية غوغل، يمكن أن توجد اختلافات بين المصالح المعلنة لمحامي الأشخاص المعنيين بشكل مباشر والمستهلكين أنفسهم. يسعى المحامون إلى عقد اتفاقيات مع الشركات في حين يطالب أصحاب الدعاوى بمزيد من الحماية والاحترام وبالاعتراف بطلباتهم وحقوقهم. علاوة على ما سبق، لا توجد فعليا جبهة موحدة، على مستوى المسائل السياسية الكبرى. أذكر هنا على وجه الخصوص، الأحداث الأخيرة التي أعقبت قضية سنودنSnowden وموجة السخط العظيمة التي تلت تصريحاته، إضافة إلى أن ردود الفعل العامة والمطالبات راحت تزداد باطرادٍ وُضوحًا وتنظيما على إثر الكشف عن أنشطة الـ NSA و Five Eyes (التحالف بين أجهزة الاستخبارات في أستراليا، كندا، نيوزيلندا، والمملكة المتحدة والولايات المتحدة).

* أين يكمن تباين هذه المواقف؟
- إذا ما ركزنا، على سبيل المثال، على ما تلا قضية سنودن، سنرى وجود نواة صلبة تُمثِّلها، نِيابةً عن الولايات المتحدة وأوروبا، جمعيات ترتبط تقليديًا بالدفاع عن الحريات المدنية والخصوصية، كالاتحاد الأمريكي المدني للحريات، أو الخصوصية الدولية، أو جمعية الدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم على النت الـ LQDN. اهتمت هذه الجمعيات بهذه المواضيع، حتى قبل قضية سنودان، وسبق لهم الدفاع الدائم عن ضرورة امتلاك الأفراد لمزيد من المهارات التقنية، وإتقان استعمال أدوات متطورة بما فيه الكفاية (في التشفير، على سبيل المثال). وهذا، إذا صح التعبير، تَوجُّهٌ رياديٌّ: في أي حركة عامة للدفاع عن الخصوصية، توجد، دوما، شريحة تدفع الآخرين إلى الأمام.
لكننا نجد، في المقابل، مواقف بالغة الانتهازية، تحركها مصالح إقليمية، مثل مواقف المؤسسات الأوروبية. فلو ألقينا نظرة، مثلا، على ما حدث مع البرلمان الأوروبي، الذي رغم جهود اللوبي الصناعي الأمريكي، صوَّت في مارس 2014 على مشروع لائحة بشأن حماية البيانات ذات الطابع الشخصي، أو قرار مفوضية محكمة العدل الأوروبية وتصويتها على حق التمتع بشخصية مجهولة في شهر مايو لعام 2014، سنلاحط أنها إجراءات تحكمها، من جهة أولى، الحاجة إلى الالتحاق التشريعي بالتطورات الاقتصادية والتكنولوجية المعاصرة، ولكن، من جهة ثانية، تحركها انتهازية تجارية تتمثَّل في الدفاع عن المصالح الأوروبية. أي، أساسا، هي حماية خصوصية الأفراد الأوروبيين من التدخل المحتمل لجهات غير أوروبية. لكن لا شيء يقال صراحة، والمفارقة تكمن في أنه يمكننا، أيضا، إدراك العلامات المزعجة لموقف يسعى إلى القضاء على الحريات ويهدد بخطر مراقبة واسعة النطاق، في فرنسا والمملكة المتحدة، على وجه الخصوص. فهم يقومون بتنظيم التداول التجاري لبعض المعلومات الشخصية، لكن لا يذكرون شيئا حول حقوق المواطنين في حماية أنفسهم من المراقبة ومن حفظ البيانات، طويل الأمد، والذي من المحتمل أن الحكومات ذاتها تقوم به، كما لا يتناولون مسالة حمايتهم، أيضا، من تدخل الشركات الأوروبية المهيمنة وإساءة استخدامها للبيانات. هناك ازدواجية قوية عند المشرِّعين الأوروبيين، فبعض القوانين التي وقع إقرارها في الأشهر الأخيرة من سنة 2014، مثل قانون التخطيط العسكري، وتلك المتعلقة بتحديد الموقع الجغرافي في فرنسا، أو قانون الاحتفاظ بالبيانات وصلاحيات التحقيق (DRIP) والذي وقع اعتماده، للأسف، من قبل البرلمان البريطاني في صيف عام 2014، هي قوانين تقضي على الحريات . لهذا على المشرِّعين الإسراعُ في تبريرها أمام الشعب، لأن هذه القوانين تُدرِج استثناءات خطيرة للغاية.

* ما الذي يدَّعِي عمالقة الإنترنيت الدفاع عنه أو حمايته، اليوم؟ وبعد أن أعلنوا عن نهاية الخصوصية، ما هو التّصوّر الذي يُقدِّمونه لنا، من الآن فصاعدا؟
- شهدنا ظهور العديد من المواقع التي تبيع "إنترنت سريعة الزوال" مثل "سناب شات" و"السرّ"، والتي تقترح قول أو فعل أو نشر مواد مصيرها التلاشي أو عدم مجاوزة دائرة محددة مسبقا من الأصدقاء الذين يتبادلون تلك "الأسرار". ما الذي يبيعوننا إياه؟ إنه وعد بالتحكم في المعلومة التي وقع تبادلها مع آخرين. في حين أنهم يقومون بتسويقها من خلال تضييق حلقة التواصل – أي عبر غربلتها لكي لا تصل إلا إلى مجموعات صغيرة من جهات الاتصال التي تنظمها منطقيات اتساق قوية للغاية. يَعِدُ تطبيق المراسلة واتساب، على سبيل المثال، بشيئين اثنين: أولهما، أن تكون المحادثات محصورة بين جهات اتصال محددة. وثانيهما، ألاّ يتم تخزين البيانات المتعلقة بهذه المحادثات على الخوادم. وبالتالي، هو يعدنا بأنه لن يكون هناك بيانات فَهرَسِيَّة محفوظة. كان مؤسس واتساب قد ادعى، بالتحديد، أنه قد أراد: " إنشاء مركز خدمات لا يخدع مستعمليه". على الأقل هذا ما كانت واتساب قد وعدت به إلى أن اشترتها شركة فيسبوك مقابل 19 مليار دولار وهو مبلغ هائل وليس من قبيل المصادفة، فهذه الشركة قد بلغت هذه القيمة سنة 2014، أي في حقبة ما بعد سنودن... بالضرورة، سيُغيِّر فيسبوك اللعبة، وهو الذي لم يُبدِ، يوما، اهتماما بالمراقبة والمحافظة على السرِّية. نعلم أنه يوجد سجل منهجي لأي محتوى يقع تحميله على الإنترنت مع مجموعة من البيانات الفهرَسِيَّة المُتعلِّقة به (من قبيل الموقع والتاريخ الدقيق وما إلى ذلك)، وهم يوسعون أحيانًا سعة التسجيل لتشمل حتى النسخة الأصلية للمنشور "post".
من بين كل خدمات الحواسيب الأخرى التي تنشأ، أفكر في الشبكات التي تُسمَّى "لا اجتماعية" أو تلك التي تعتمد السرية أو الإنترنت سريع الزوال. إنها تَعِدُ جميعها بأنها تَزهَد في تخزين البيانات الشخصية وبإمكانية حذفها، حتى اللحظة التي وقع فيها كشف الكذبة. وهذا هو ما حدث مع سناب شات في مايو 2014، عندما أدانتها لجنةُ التجارة الفيدرالية بالاحتيال. كان أصحابها يَزعمُون أنهم لا يحتفظون بالبيانات، في حين أنه، بالنظر إلى بنية سناب شات ذاتها، فإنه يتوجب، بالضرورة، على أصحابها الاحتفاظ بالصور التي يعتقد مستخدموها أنها من المفترض أنه قد وقع مَحْوُها. والمفارقة بالنسبة إلى التفاوض بشأن الخصوصية يتمثَّل، هنا، في أنّي، بعد أن أنتجت صورة على سناب شات، لم يعد بإمكاني ولا بإمكان أيٍّ من معارفي الوصول إليها، ولكن في مكان مّا، بإمكان سناب شات، ضمن الحقل الخاص بها للبيانات، أن تصل إلى المعلومات التي لم أعد قادرا على رؤيتها.
تسعى هذه الشركات إلى تقديم نفسها على أنها "تنافسية على الخصوصية". وبذلك تصبح الخصوصية إحدى منتجاتها ووعدها التجاري. وفيسبوك ذاته قد غيَّرَ بعض مبادئه الأكثر أساسية. فقد أدخلت شبكة مارك زوكربيرج، (في الأشهر الثلاثة الأخيرة من سنة 2017)، نوعًا من البرامج التوجيهية للمستخدمين الذين لديهم صورا رمزية. وهي عبارة عن ديناصور أزرق صغير يحذر المستخدمين عندما يكونون على وشك تغيير إعدادات السريّة لمنشور مّا. والتغيير الثاني هو أن الإعدادات التلقائية للمنشورات التي سبق نشرها من قِبل المستخدمين الجدد لشبكة التواصل الاجتماعي لم يعد عامًا. وهو تحول حقيقي بالمقارنة مع موقف الفيسبوك في عام 2010.
إذا ركز المرء على الخصوصية، فإنه يَحُدُّ ممّا يقوم بنشره. وفلسفة فيسبوك الجديدة تتمثَّل في احتجاز المستخدمين ضمن "فقاعات خوارزمية" بفضل ما يسمونه تضيِّيق النطاق الأساسي لمحتوياته. وبذلك تنحصر التبادلات، من الآن فصاعدا، في حدود ثلاثين شخصًا، مع إنشاء مجتمعات مصغرة داخل كل ملف شخصي وكل صفحة (...إلخ). وهذا هو، على كل حال، ما يَدعُون إلى فعله والاضطلاع به على المستوى المحلي خاصة، وهكذا، يُعزز فيسبوك شبكاتِ العلاقات الاجتماعية المتقاربة. ومن خلال اللعب على كلا المجالين: الخصوصية والمشاركة، سيتمكنون من بيع حماية الخصوصية للأفراد ومن التدفق إلى الشركات، شريطة أن تدفع مقابل الإعلانات المموَّلة.

ودمتم بخير



#رويدة_سالم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السيلفي بوصفه تمجيدا للتفاهة جونثان دوداي
- فلسفةُ الحُشود: اتَّبِع الحركةَ وتجنَّب التَّحْديقَ في الآخر ...
- حماية البيانات في عصر إنترنت الأشياء (القانون، والحَوْكَمة و ...
- العمل في عصر ما بعد الرقمنة: أي مهن لسنة 2030.
- هل تُشكِّل الروبوتات والذكاء الاصطناعي خطرا على البشرية؟
- إيقاعُ الجسد وفلسفةُ الرّقص
- مبدعاتٌ إيرانياتٌ يُحارِبْنَ شرورَ وطنٍ بصِيغة المُؤنَّثِ : ...
- ميناتا ساو فال: رائدة الكاتبات الفرانكفونيات
- باتريك شاموازو: النيوليبراليّة عملية غادرة تستنزف إنسانيةَ ا ...
- أي مهن للمستقبل في ما بين سنوات 2030 و2050 ؟
- هو وهي والquiproquo الازلي
- الأنوثة بين التجريم الذكوري والبناء الحضاري
- قصور من رمال
- الانثى في الرواية التونسية
- بداية القرن XIX تأليف صحيحي مسلم والبخاري
- ذهان Psychoses
- التعليم والأصولية وتفريخ العنف
- التاريخ وهم أم حقيقة: مقبرة توت غنج أمون مثالا
- دهشة الملائكة : هيفي
- دهشة الملائكة 1 : لاجئ إيزيدي


المزيد.....




- قيادي بحماس لـCNN: وفد الحركة يتوجه إلى القاهرة الاثنين لهذا ...
- مصر.. النائب العام يأمر بالتحقيق العاجل في بلاغ ضد إحدى شركا ...
- زيارة متوقعة لبلينكن إلى غلاف غزة
- شاهد: -منازل سويت بالأرض-.. أعاصير تضرب الغرب الأوسط الأمريك ...
- الدوري الألماني ـ كين يتطلع لتحطيم الرقم القياسي لليفاندوفسك ...
- غرفة صلاة للمسلمين بمشفى ألماني ـ مكان للسَّكينة فما خصوصيته ...
- محور أفدييفكا.. تحرير المزيد من البلدات
- خبير ألماني: بوتين كان على حق
- فولودين: واشنطن تضحّي بالآخرين للحفاظ على القطب والواحد
- فرنسا تتهم زوجة -داعشي- سابقة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - رويدة سالم - الفقد الطوعي للخصوصية : كيف تطور مفهوم -الخصوصية- من جون ستيوارت ميل إلى مارك زوكربيرج