أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد محضار - زمن التشظي والتمزق















المزيد.....

زمن التشظي والتمزق


محمد محضار
كاتب وأديب

(Mhammed Mahdar)


الحوار المتمدن-العدد: 7589 - 2023 / 4 / 22 - 08:26
المحور: الادب والفن
    


1
البحر أمامي، الأمواج تتكسر عند الصخور الناتئة ، فتتحول إلى موجات صغيرة ،الأفق يعانق زرقة الماء التي تتحول إلى خضرة مشوبة بالبياض وأشعة الشمس المنفلتة من بين الغيوم الرصاصية تعكس ألوانا متداخلة على سطح البحر ، على بعد خطوات مني اعتلى صياد في متوسط العمر صخرة متشحة بالسواد وطرح صنارته في البحر ،علَّ سمكة تعلق بها، كان منشرحا مستمتعا بالأجواء.
تقدمت خطوة إلى الأمام ،أصبحت على مستوى واحد مع الصياد، رش رذاذ الموج وجهي ومناطق أخرى من جسمي، أحسست برعشة نشوة سرت في كل ذاتي، التفت إلى الخلف رأيت زوجتي منشغلة بجمع أصداف البحر وقطع الأحجار المتناثرة بين الصخور وعلى الرمل، تركتها لحالها، وعدت لأحضن بفرح طفولي سحر المنظر المبهج الذي كانت ترسمه الطبيعة أمامي، قلت لنفسي : "أريد هدنة تبدد بعضا من ثقل السنين الماضية، وتُسكّن إلى حين أوجاع الخاطر والبدن، وتسمح لي بمواصلة الرحلة دون توترات طارئة ، فالطوارئ لا تحمل إلا ظلال الكآبة و بؤس اللحظة ، وتزيد شدة التمزق والتشظي."
نادتْ عليَّ زوجتي تدعوني لمغادرة المكان، رفعتُ يدي مطالبا إياها بالتريث لحظة، وافقتْ، ثم عادت لأصدافها وأحجارها، وعدت أنا إلى عالمي أمارس طقوسي بصيغة خاصة بي، سألتني موجة حمقاء وهي تلقي بمائها وزبدها نحوي :"أتبحث عن الزمن الضائع عند البحر؟.."
لم تترك لي فرصة الرد وأجابت عن سؤالها:" لن تجد هنا إلا الضياع دون زمن، ولن ترى إلا الوجع المضمر في سحر المنظر وجمال الصورة".
استفزني الأمر وأيقظ داخلي مرارة لم أفهم سِرّ انبلاجها، هناك طبعا شيء غير طبيعي يقلب مزاجي ويضعني في مواجهة حقائق ووقائع ذات حمولة سلبية تقتل ذلك الإحساس السابق وتصيبني بالخرس ، تراءت لي فجأة بين أحضان الموج المتلاطم جثثا آدمية تطفو على سطح البحر ، تذكرت نصيحة قديمة لوالدي :" احذر يا بني البحر والنار والمخزن".
اهتز وجداني بقوة، تلاشت جمالية المنظر، وقفزت الى الذاكرة جُملة من التساؤلات الغامضة، وفُتِحتِ الأقوس، وتناسلت الجمل الاعتراضية في نسق ناشز لا يقود الى معنى.
للبحر جوع من نوع خاص ، فهو يعشق ابتلاع المغامرين الباحثين عن لقمة عيش افتقدوها في أوطانٍ ضاقت بأحلامهم ودفعتهم قربانا لأمواجه القاسية، حتى إذا صعدت أرواحهم لباريها عاف جثثهم وقذف بها بعنجهية.
أحسست فجأة بِيدٍ تضغط على كتفي، وصوت يوقظني من سهوتي، تبينت أنه لزوجتي التي هتفت بي:
- عُد إلى رشدك يا فيلسوف عصره، فأنا لم أعد قادرة على تحمل لسعات البرد.
ابتسمت وقلت :
-تلك نسمات وليست لسعات
ضحكنا، ثم غادرنا المكان، وفي طريقنا إلى السيارة تكلمنا عن "محسن " قالت زوجتي أن اتصالاته معنا قد قلّت، وأنه أصبح يعيش لنفسه ونسيّ أن له والدين يخفق قلباهما شوقا له، قلت لها :
-هو منشغل بدراسته، وهموم الحياة اليومية في أرض الغربة تستنفد جهده وَقُوَّتَهُ
علقت زوجتي بلهجة غاضبة:
-أنا لا أتحمل صمته وعدم سؤاله عنّا
ثم أضافت :
-إنه وحيدنا وليس لنا سواه، وأنا خائفة أن تسرقه أضواء باريس فيمكث هناك.
ركبنا السيارة، تبادلنا الابتسامات، أدرتُ محرك السيارة وانسبنا عبر طريق الكورنيش.
فكرت في أن حديث زوجتي بِوجعٍ عن عدم سؤال محسن عنا يبدو منطقيا، فرغم المبررات التي اختلقتها لأمتص غضبها، كنت أنا الأخر مقتنعا في قرارة نفسي بأن سلوكه غير مقبول ولا عذر له، إذ كان عليه فقط أن يُركب رقم هاتف أحدنا ويجود علينا بسماع نبرات صوته، لأنّ ذلك يهبنا كثيرا من راحة البال.
عندما أصبحنا على مشارف المول المجاور لسيدي عبد الرحمن انعطفنا يساراً في اتجاه طريق أزمور، كانت عربات بائعي الحلزون مصطفة على طول الشارع.
انتبهت فجأة إلى أن زوجتي كانت غارقة في نوبة بكاء، أوقفت السيارة وسألتها:
-ما بك يا خديجة ؟
لم تُجبْ، بل اكتفت بالنظر إليَّ وهي تكفكفُ دموعها، أمسكت يدها بحنو وقلت:
-سيعود إلينا محسن قريبا دكتوراً مبجلاً
نظرت إلي بطرف منكسر
-الكبدة "حارّة" أنا مشتاقة إليه ولا أستطيع التحكم في مشاعري
وعَدتها أن نتَّصلَ به عندما نصل إلى بيتنا. شَغَّلتُ جهاز التسجيل، انساب صوت أم كلثوم عذبا يكسر جوَّ الكآبة الذي يخيم علينا منذ حين –خديجة تعشق أغاني أم كلثوم وتحفظ بعضها- اخترت قصيدة "أراك عصِيَّ الدمع" لأبي فراس الحمداني التي لحَّنها السنباطي بعبقرية فاقت التصوّرَ.
اندمجت خديجة في جو الأغنية وتماهت مع سحر الكلمات، وجمالية الأداء.
واصلنا المسير عبر طريق أزمور ثم انعطفنا يمينا نحو شارع سعد الخير، في اتجاه حي الزُّبير، فحيّ الليمون .
عند وصولنا إلى بيتنا بحي اسميرالدا ، صعدنا مباشرة إلى الطابق العلوي، دخلنا غرفة محسن، ارتمت زوجتي فوق الأريكة الرمادية المقابلة لسرير نومه، جلستُ بجانبها، وقلت:" لنتصل بمحسن "
رَكَّبْتُ رقم محسن على هاتفي النقال وضغطت على زرِّ الاتصال، رن الهاتف دون جواب، كررت الاتصال مرة ثانية ، وجاءني صوت محسن خافتا وهو يقول:
-عذرا يا أبي أنا في المكتبة المركزية أبحث عن بعض المراجع التي احتاج لها في بحث الدكتور
قلت بعد تشغيلي لخاصية مكبر الصوت:
-والدتك منشغلة بسبب عدم اتصالك بها، هي مشتاقة لسماع صوتك.
هتف "محسن" بصوت دافئ النبرات:
-أنتِ حاضرة في العقل والقلب يا حبيبتي، وأنت أيضا يا أبي، أنتما معا البركة والخير، رضاكما من رضى الله.
ثم تابع:
-أنا فقط منشغل بإعداد أطروحتي وعليّ مراجعة الأستاذ المشرف، والاشتغال بمختبر التجارب البيولوجية .
ردت خديجة بصوت تخنقه الدموع:
-حفظك الله يا ولدي، وسدّد خطاك
انتهت المكالمة ولم تنته هواجس خديجة، وبقيَّتْ ظلال من الحزن تخيِّمُ عليها، وأسئلة لا حدود لها تشُجُّ رأسها، وتبعثر أفكارها، قد أكون أنا أكثر منها جلَداً ولكنني في أخر المطاف أشاركها في الإحساس والشعور بثقل غياب محسن وبُعدهِ عنّا طيلة نصف عِقْد من الزمن بأرض الغربة، حيث لم نكن نحظى بتواجده بيننا إلا خلال فترات متقطّعَةٍ من صيف كل عامٍ، حيث اعتاد على الحضور صحبة إحدى صديقاته وهي فرنسية الجنسية ، تعيش جدتها صحبة زوجها بمدينة مراكش ، قَدّمها لنا كزميلة له بالجامعة توطدت صداقته به بعد أن عرفت أنه من المغرب، وأسرت له بأنها وُلدت بمراكش عندما كان والداها يقضيان عطلتهما عند جدتها لهذا أحبت المغرب لأنه مسقط رأسها وهي تحس بحنين لا تعرف سرّه يشُدّها إليه، حنين يكبر بشكل رهيب ويدفعها إلى تكرار زياراتها له والاستمتاع بدفء شمسه وسحر طبيعته، كنّا نرحب بها ونستضيفها ببيتنا دون أن نتدخل بحدود علاقتها بمحسن ونتعامل معها بكثير من الحميمية، خديجة كانت مرتابة وتزعجها علاقة محسن بهذه الفرنسية التي كانت تصغره بسنتين،
وكانت دائما تقول لي :" أخاف أن تسرقه منّا فيمكث معها بفرنسا" وكنت
أَرُدّ عليها محسن راشد ويعرف ما يريد، والفتاة الفرنسية لا تأثير لها عليه، لكنها كانت تعترض على ردِّي وتؤكد لي أن اهتمامه بها كبير وعلاقته بها وطيدة، وأنها في أخر الأمر ستقنعه بالبقاء في فرنسا، قد يكون كلام خديجة صحيحا لكن سُنّة الحياة تقتضي أن نؤمن بأننا خُلقنا لنكون أحراراً في اختياراتنا وليس من حقّ أي كان أن يفرض علينا وصايته حتى وإن كان أقرب الناس إلينا، محسن اِبننا، من صلبنا وهو وحيدنا لكنه ذات متفردة له قدراته الخاصة وكفاءته العقلية التي تجعله قادرا على اتخاد قرارته بكل حرية، دون حاجة إلى توجيه مِنّا إلّا إذا طلب ذلك.
2



#محمد_محضار (هاشتاغ)       Mhammed_Mahdar#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زمن التمزق و التشظي
- الإعلامي والمسرحي رشيد جبوج: مسار نضالي وإبداعي حافل
- سطوة القبح
- ثورة عاشق
- خفقات دافئة
- زمن التفاصيل
- خط الحياة
- الصمت الأعمى
- الحفرة
- صمت الأسحار
- لوعة الحب
- قراءة في الديوان الزجلي -فعلي يلقاني - للشاعر إدريس الطلبي
- مبرزكة
- الأيام الشاحبة
- روح تائهة
- تساؤلات مشروعة
- حديث الصباح
- قصة قصيرة :لحظة اِمتعاض
- مزبلة الحي
- رنين الذكرى


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد محضار - زمن التشظي والتمزق