أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عايده بدر - إضاءة على رواية -نالين ذاكرة الرماد- للروائي والإعلامي الكوردي كنعان بليج/ عايده بدر















المزيد.....

إضاءة على رواية -نالين ذاكرة الرماد- للروائي والإعلامي الكوردي كنعان بليج/ عايده بدر


عايده بدر
باحثة أكاديمية وكاتبة شاعرة وقاصة

(Ayda Badr)


الحوار المتمدن-العدد: 7575 - 2023 / 4 / 8 - 09:17
المحور: الادب والفن
    


وطن ننزح منه فــ ننزح إليه
لطالما كان الأدب هو وسيلة الإنسان في تدوين أفكاره ومشاعره، يحاول في ذلك بأبهى صورة إبداعية يمكن أن يصل إليها ، والكتابة الإبداعية كما وصفها الناقد والروائي "كولن ولسون" هي "عملية شاقة كالصعود إلى أعلى التل ، حيث يتساقط الضعفاء بينما يواصل الأقوياء بتؤدة كي يصبحوا كتاباً جيدين" ، من أجل ذلك كان على الكتابة حتى يطلق عليها كتابة إبداعية أن تقدم نفسها بطريقة لا تترك القارئ إلا متورطاً معها وفيها ، بحيث يظل حتى وداع آخر حرف فيها مشدوهاً بها كما يشير في ذلك أستاذ الأدب العربي "د. سامي قرة": "إن القراءة تشبه إلى حد ما تلاوة الصلاة" ، فالقارئ ينقطع خلالها عن عالمه مؤقتاً ليدخل إلى عالم الكاتب يشاركه تجربته، ومن خلال المرور بهذه التجربة يكتشف نفسه وعلاقته بما يحيطه من واقعه، فإذا كانت القراءة منفذاً للهروب من الواقع فهي ذاتها من تعيدنا إليه ...
ولعل الراواية هي أكثر الأجناس الأدبية التي تتيح للقارئ زمناً أطول من هذا التفاعل الحي الذي يحتك فيها القارئ بتجربة الكاتب الإبداعية وخبرته الحياتية وعوالم خياله ، ليس فحسب في عدد صفحاتها لكن من حيث المد الزمني لها ، لأنها تضمن في سياق أحداثها أن تعبر فترات زمنية أطول مما تقدمه الأجناس السردية الأخرى، وتبعاً لتنوع أحداثها والحبكة القوية للهدف الذي يضعه الكاتب له فيتيح الفرصة لنمو الصراعات الداخلية للشخوص، وبالتالي فإن الرواية تخلق مديات زمانية ومكانية متعددة وبأساليب كتابية متنوعة، يميزها في هذا وجود "الراوي أو السارد" الذي يمنحنا صورة فوقية للأحداث، ويبين موقع الشخوص منها ومن بعضهم البعض، وحركتهم داخل النص والحوار القائم بينهم.
العنوان باب النص الروائي:
وفي الرواية التي بين أيدينا والتي تحمل عنوان "نالين ... ذاكرة الرماد " أرادنا الكاتب أن ننغمس معه مباشرة في أحداث روايته ، ونلمس هذا التفاعل من بوابة العنوان الذي اختاره بعناية ليكون مفتاح ولوجنا إلى روايته ، فالاسم الكوردي "نالين" يحمل في ذاته معنى الأنين والألم، ويعطفه بوصف "ذاكرة الرماد" فكأنها هي ذاتها الألم والأنين وهي ذاتها ذاكرة الرماد واحتراق العمر والروح والجسد .. يمكننا ونحن على بوابة العنوان أن ندرك الموضوع الذي اختار الكاتب أن يعتمده لروايته، وأن الاسم بما يمثل من ألم وأنين قد صار رماداً لكنه يبقى حياً في الذاكرة .. ولعلها تمثل الوطن بجمالها المشهود وثقافتها وتطلعها نحو الافضل وبما حاق بها من ألم ووجع .

الحبكة والأسلوب:
يبدأ الكاتب روايته بجريمة قتل غامضة يعرفنا من خلالها إلى بعض شخوصه، ويرسم صورة غير مكتملة للعلاقة بينهم ، يجذب بها القارئ للتوغل في عوالمه أكثر ، واستطاع من خلال استخدامه لتقنية الاستباق (الفلاش باك) التي يبدأ فيها من النهاية ثم يعود إلى البداية أن يخلق حركة دائمة في الرواية ، يساعد القارئ على فهم طبيعة العلاقات بين شخوصه الرئيسية والأخرى الفرعية.. ويظهر مدى عمقها أو سطحيتها ودوافع الشخصية ومنظورها الذي تتحرك من خلاله وتبني بها هذه العلاقات، هذا الأسلوب الاستباقي بالعودة من الماضي للحاضر يزيد من تعقيد الأحداث وعمقها ، وبهذا فإن القارئ يكون دائما على استعداد لتلقي مفاجأت مختلفة من خلال كشف اللثام عن الأحداث ، ما يعني أنه سيكون متورطاً دائما مع الكاتب في محاولات دؤوبة لحل لغز الحدث وفك شفيرته ، فجريمة القتل التي ابتدأ بها الكاتب في روايته هنا لن نستطيع فك رموزها إلا مع نهاية الرواية ، وسندرك مع صفحات الختام هذه العلاقات المتشابكة بين الشخوص بعضهم البعض وبينهم وبين الأماكن ، معتمداً في ذلك على صوت الراوي الذي يتدخل ليكشف بين الحين والأخر عن خلفية الحدث، أو يمنح القارئ دليلاً يقوده للهدف الذي وضعه الكاتب منذ البداية .. ومن هنا تظهر قيمة معايشة القارئ للنص بين يديه، ولعله يتجاوز مرحلة التعايش النظري فيسقط الأحداث المقروءة على أحداث حياته اليومية ، خاصة إن توحدت ظروف القارئ مع الأحداث المطروحة أمامه.
- الشخوص:
لم يعرفنا الكاتب في بداية روايته بالشخوص التي اعتمدها، فرغم أن مشهد الافتتاحية حفل بعدد منها إلا أنه تركها بلا اسم مكتفياً بالوصف شبه التفصيلي لبعضهم ، وترك للقارئ محاولة التعرف إليهم بنفسه وربطهم بالأحداث من خلال التعمق فيها ثم وصولاً إلى النهاية سيدرك معها العلاقة فيما بينهم وسيضع بنفسه لكل شخصية اسمها المنطبق على هذا الوصف.
على القارئ وهو يتتبع أحداث الرواية أن يبذل جهداً أكبر ليستطيع مواكبة التطورات المتلاحقة في الأحداث التي كما ذكرنا لا تسير على وتيرة واحدة ، بل بطريقة الاستدعاء المفاجئ للماضي نفهم من خلاله الحاضر وهي عملية معقدة أن يبقي الكاتب مع خصوصية أسلوبه على امتلاك ذهنية القارئ فلا يقع في مخاطرة السقوط بين الماضي والحاضر والخلط بينهما.
حرص الكاتب أن يرصد معاناة الإنسان حين يفقد وطنه، الأنين والألم الذي يشق أنفاسه في معاناة النزوح، فلم يكن من قبيل المصادفة أن يكون اسم شخصيته النسائية البطلة في روايته هو "نالين" وما تحمل في اسمها من الأنين والألم ، وكان "باييز" ويعني اسمه بالكوردية "الخريف" وما يحمله من دلالة الشحوب والموت البطيئ

إن المفتتح البوليسي المشوق الذي يبدأ به الكاتب روايته، قد يخدعنا للوهلة الأولى فنظن أننا أمام رواية تنتمي لعالم الجريمة لكننا سرعان ما نبدأ بالولوج إلى العالم الذي أراد الكاتب أن نشاركه فيه، وسنكتشف كلما تعمقنا بالقراءة أكثر هذه الروابط المتشعبة التي نسجها الكاتب من خلال الأحداث التي تعيشها الشخوص وفقاً لحركة محسوبة تعتمد على مشاهد واقعية من الحياتية اليومية التي يعيشها النازحون .. والتي أوجزها في عبارة على لسان الراوي الذي أحيانا ما يكون هو البطل (باييز) وأحياناً يتخذ الكاتب دور الراوي، فيقول:( ملامح الناس بدأت تتغير شيئاً فشيئاً ، صديق اليوم أصبح عدواً وعدو الأمس بات صديقاً حميماً).
- الموضوع :
إن الموضوع والقضية المستهدفة منذ الحرف الأول في روايتنا تشير بقوة إلى تناول قضايا النازحين والوطن المسلوب، والذي تفاجأ أهله أنهم أغراب داخل بلادهم وأن عليهم العيش تحت وطأة حياة لا تمت للحياة الآدامية بصلة، وإلا فعليهم النزوح منه والرحيل عنه ، والنتائج التي آل إليها حال قطاع كبير من سكانه بالنزوح إلى أماكن أخرى قد تكون قريبة فيعبرون الحدود بينهم وبين المناطق المجاورة لهم .. أو يبحثون عن الهرب نحو البحر والحلم بحياة أفضل على الشاطئ الأوربي البعيد. والنتائج المترتبة على تفريغ الوطن من ساكنيه وفرار الكثيرين منهم طلباً للأمان بعد اجتياح أصحاب الرايات السوداء لمناطقهم .. وتردي الأحوال الإجتماعية بسبب الحرب والفقر الذي سدد ضرباته للغني والفقير على حد سواء، أو بحسب تعبير الكاتب على لسان الراوي (كانت البلاد منقسمة ومنشطرة أفقياً وعامودياً، بين معارض وموال .... لقد تغيرت الأحوال على نحو متسارع ومخيف ).
إن الحلم الذي يراود الكثيرين بالوصول الى بر الأمان والجنة الموعودة غير عابئين بالمصير المجهول الذي ينتظر من يصل والمصير المحتوم لمن يبتلعه البحر.. كان الكاتب قد ألح عليها بقوة في أكثر من موضع في روايته نجده يقول (المحظوظ هو من يصل بأقل خسارة ويصل لبر الأمان ،أوربا الجنة الموعودة).
على صعيد آخر ويرتبط أيضا بقضايا النازحين وحياتهم اليومية التي يمكن وصفها بصورة مصغرة من الجحيم ، يأتي تأكيد الكاتب على ظهور هؤلاء المنتفعين من حالة الهروب والنزوح البشري ، هؤلاء المتاجرون بالبشر والجشع الذي تملكهم فأصبحت أنفاس الحياة تزرح تحت وطأة البيع والشراء (أوروبا الجنة الموعودة ، حلم يدغدغ أفئدة الألاف من البشر الفارة، تاركة مصيرها للمجهول، وللمهربين، والمتاجرين بالبشر،الغابة تشبه السوق الى حد كبير، كل شئ فيها قابل للبيع والشراء،كل شئ له سعر خاص،الجشع سيد الموقف).
كان الوصف التفصيلي للأماكن التي تدور بها الأحداث عاملاً مهماً في جذب ذهنية القارئ ، فإذا كان يعرف بهذه الأماكن وعايشها فالصورة التي يقدمها الكاتب شيدة الواقعية، سيجد القارئ نفسه يعيش الأحدث كأنه يراها رؤية العين ولعل هذا يحسب للكاتب الذي أراد منذ أول حرف في روايته أن يستحوذ على قارئه لصالح القضايا المهمة التي ألح عليها بأكثر من موضع.
على الرغم من الإطار الخارجي الذي اختاراه الكاتب ليقدم فيه روايته هو الإطار الرومانسي .. قصة حب بين بطلين يواجهان مصاعب الحياة وتتفرق بهما السبل وقد يلتقيا مع نهاية الأحداث أو لا يلتقيا فتبقى تجربتهما مجرد تجربة تضاف لمئات قبلها.. إلا أننا بين الصفحات نرى أن قصة الحب لم تكن فقط إطاراً خارجياً أو هامشاً يستعرض من خلاله حياة مواطنيه ومن أجبرتهم ظروف الحياة والحرب على ترك أوطانهم والخروج منها هرباً من الموت وطلباً للحياة.. بل أن هذا الإطار هو نفسه أحد أهداف الكتابة وهذه القصة هي الأعمدة التي قامت على أكتافها الأحداث هنا ... يستعرض من خلالها شكل المجتمع وهيكله قبل الحرب.. وكيف كانت الأحزاب السياسية (حزب البعث النموذج الذي تحدث عنه) تتحكم في كل صغيرة وكبيرة به وعملائه ومخبريه بالوشاية وكتابة التقارير الأمنية الزائفة والتي وقع "باييز" كأحد ضحاياها ذات وقت..... والآن وقد تحول البعثيين والعملاء إلى معارضين سياسيين أو من يقوموا بالتحليل السياسي لأوضاع وطن هم من باعوه.. كما جاء على لسان "نالين" (أليس هذا مردان العميل .. ومتى أصبح معارضاً .. بل ومحللاً سياسياً .. انه قواد ومنافق افنى عمره في إيذاء الناس وتسبب في سجن وملاحقة الكثيرين من المساكين).
كيف دمرت الحرب الوطن ومزقت شمل ساكنيه (في الحروب تنهار كل القيم أولها الأخلاق).. ومن ثم نتائجها التي آلت بالكثيرين منهم إلى الحياة داخل خيام النازحين القادمين من أماكن متباينة .. تساوى في هذا الفقراء والطبقة التي تعلوهم بقليل وبعض الأثرياء الذين فقدوا الكثير من ثرواتهم كما حدث مه الزوج "كدر" الذي فقد كثير من ثروته وأصبح ضمن سكان المخيمات ومن احتفظ بالقليل استطاع أن يستأجر بيت بالمجمع السكني ..
ثم يبدأ في وصف أشكال هذه المعاناة .. الحياة داخل المخيم أشبه بقاع الجحيم خاصة مع الاحتراق المتكرر للخيمات فكما جاء على لسان أحد الشخصيات ( ... سنحترق الواحد تلو الآخر كل يوم ) و(هربنا من الجحيم إلى الجحيم ) ، الجحيم الذي يتحول إلى قطعة من الجليد مع انهمار الثلج أو بركات لا تنتهي من الوحل في أيام الشتاء الباردة وضربات الطقس الموجعة والرياح التي تهزم الخيام فتهوي ... فضلاً عن ازدياد العنف والعراك والنار التي تأكل أرواحهم كما تأكل خيامهم وأجسادهم .. فقدان الحياة الخاصة فالحياة مشتركة في أخص دقائقها كما جاء على لسان أحدهم (..أنت تتلص على زوجتي وهي ذاهبة إلى المراحيض المشتركة؟) .. وكما وصفته "نالين"( هذا المكان لا يشبه القرية ولا المدينة ، إنه طراز جديد من المجتمعات المتهالكة ، لا يربط بين سكانها سوى القهر والحنين..).
يحاول الكاتب على لسان الراوي أن يكسر التابو الخاص باالحديث عن الحياة الجنسية لشخوصه والتي ظهرت ضمن أحداث الصفحات الاولى للرواية ... نلاحظ تفاعله إما في صورة الرفض للاستغلال الجنسي للنازحين من قبل تجار الموت، أو الاستنكار لعلاقات المراهقة واستغلال صلات القرابة وغيرها ... الإشارة عن محاولة التحرش بالبطلة "نالين" في طفولتها والتي تركت أثراً لا ينسى داخلها .. أو الإشارة لعلاقة "الملا" بزوجاته وما فيها من إشارات ضمنية لزواج الفتيات الصغيرات .. أو استنكاره لعلاقة وزجة الأب لشخصية "حمدكو" صديق البطل "باييز" برجال آخرين غير زوجها ....أو التفهم لوجود علاقة حب بين بطلي الرواية اللذان كانا من المفروض أن يكللا العلاقة بالزواج لكن لم يحدث ... ننتبه إلى أن اللغة التي استخدمها في رسم هذه العلافات كانت تحمل قدراً كبيراً من التوتر على العكس من وصفه للعلاقة التي قامت بين بطلي الرواية .. ربما ليجعل القارئ أكثر استيعاباً أن يفرق بين علاقة الحب التي نشأت بين البطلين منذ أعوام شبابهما الأول والتي لم تنتهي حتى بمفارقة الحياة .. وبين العلاقات التي قامت تحت نوازع الخيانة والمراهقة وحتى الاستغلال الجنسي للنازحين الذي أشار إليه الكاتب.
هذه العلاقات حددت مسيرة الأحداث وخطوطها العريضة والفرعية .. فعلاقات المراهقة واثبات الرجولة الزائف سواء التي مرت أمام أعين البطل "باييز" منذ صغره أو علاقته العابرة بـ "كوثر" إحدى فتيات القرية، كل هذا جعله يدرك مسارات الحياة حوله منذ باكر طفولته .. ثم هذه العلاقة التي قامت بين الزوج "كدر" وبين "سعاد" جارة أخته والتي بسببها سيفقد حياته فتتحول حياة الزوجة "نالين" لمسار آخر ... أخيراً نكتشف ونحن نكاد ننتهي من القراءة أن العلاقة التي قامت بين "نالين" و"باييز" أثمرت عن وجود طفلها الوحيد الذي نسبته لزوجها العقيم "كدر" ..... هذه العلاقات شديدة التشابك ألقى الكاتب بخيوطها منذ أو حرف لكنه طعمها بشيء كثير من الغموض الذي يتكشف رويداً رويداً أثناء القراءة ما يجعل القارئ حتى اللحظة الأخيرة في تفاعل بينه وبين النص الروائي والتجربة التي يقدمها الكاتب.
- إن الخيارات التي أمام النازحين وعلى لسان الزوج "كدر" لم تخرج عن انتظار الموت في الوطن والتلاشي في المجهول أو السفر إلى أوربا ..حيث يقول( نحن أكثر الشعوب بؤساً .. ليس لدينا شيء نفخر به سوى بعض الصور والمناسبات الحزينة وكأننا مجبولون بطينة الحزن) ورغم كل هذا الحزن وانحصار الحلول في نظرهم على السفر إلى أوربا طلباً للحياة.. هكذا نجد "باييز" الذي عبر إلى اليونان و"كدر" و"نالين" الذين قرروا السفر إلى أوربا فكأن القدر يحكم خيوطه من أجل الخاتمة التي ستغير من مسار حياة الشخصيات تماماً ... من تركوا الوطن بسبب الموت والحزن والمجهول المتربص بهم وسافروا فراراً من التبليغات الأمنية ليجدوا التظاهرات من بني جلدتهم هناك أيضاً .. ويقارب الكاتب هنا بين نمط التظاهرات في بلاده ونظيرتها في أوربا حيث يقول "باييز " مخاطباً نفسه (هل حقاً هذه الساحة هي المكان المناسب لأصرخ فيها وأشتم وأسب ملئ حنجرتي دون حسيب أو رقيب؟ ... أليس هنا أيضاً مخبرون يكتبون التقارير للفروع الأمنية؟)
يأخذ المكان وإن تعدد حيزاً مهماً في بناء اللغة السردية للرواية ، فبدون المكان لن يكون وجود للأحداث ويسقط السرد ..وقد تعددت الأماكن التي صحبتنا إليها صفحات الرواية .. منذ خرجت الشخوص من قريتهم "ديم كول" في روزآفا في سوريا ومروراً بكافة القرى والمدن التي قطعوها ليصلوا إلى أوربا ... وهناك تلتقي الخيوط جميعها بلقاء "نالين" و"باييز" ثم النهاية غير المتوقعة للزوج "كدر" ثم أخيراً حين يكتمل الحلم القديم ويعود الحبيبان معاً ويتوجا قصة حبهما بالزواج فنجد أنفسنا نعود مرة أخرى إلى الوطن الذي اختارته "نالين" ليواري جسدها بعد مرض مميت ... وهذا الوطن الذي نزحوا منه قبلاً بحثاً عن الحياة .. ها هم يعاودون النزوح إليه طلباً للموت بين ثراه حيث الآمان الأخير.. وكأن الأرض التي ظنوا أنها لا تعرف غير الحزن هي من تضم رفاتهم وأيضا من يغرسوا فيها شجرة الحياة للقادم .
إن التجربة التي يقدمها لنا الكاتب عبر صفحات روايته التي تجاوزت بقليل المائتي صفحة ، لا نستطيع من خلالها أن نقول أنه رصد كافة مشكلات وطنه ، لكنه بلا شك قدم صورة جلية لأكثرها حدوثاً .. وأظهر بشكل عميق النتائج المترتبة على ضياع أحلام النازحين تحت وطأة وطن مزقتها انياب الذئاب التي نهشته من كل جانب .. ولن نستطيع أيضاُ أن نقول أنه بانتهاء صفحات الرواية فإننا نغلق هذه الملفات التي فتحها الكاتب بجدارة .. لكننا من خلال القراءة المتأنية للقضايا التي ضمّنها سطور روايته نقف على صورة تقترب كثيراً من حقيقة ما حدث ليس لوطنه ومواطنيه فقط ولكن لكثير من الأوطان وإن احتفظ وطنه ومواطنيه بخصوصية مشكلاتهم التي لم تظهر الآن فقط ولكنها ممتدة عبر سنوات طويلة من الشقاء
إن الوطن الذي امتدت إليه معاول الهدم وتربصت به الذئاب لم يكن أيضاً ينتظر من بعض مواطنيه أن يرفعوا فؤوسهم ضد شجرته الثابتة بالأرض ، لكن دائما ما يكون من سوء حظ الأوطان أن يخرج منها بائعوها والمنتفعين من تشتتها .. ومع اجتياح الجماعات الحزبية تارة والدينية تارة ظهرت سوءات كثيرة لطالما كانت المجتمعات الشرقية تعاني منها ولا تظهر بصورة جلية إلا حين تحتدم نتائجها في صورة قرى مهدمة وبشر وقع أغلبهم تحت عجلات الموت والأحكام الطائفية ومن نجا منهم فهو نازح تارك أرضه وتاريخه ومن ترك اليابسة ليركب البحر فاستقر في قاعه بعد معاناة دفعته هرباً ليلتمس حياة ، ليفاجأ بعد أن يستقر على الضفة الأخرى أو ما يظنه بعيداً عن الموت أن الأرض الجديدة عليه تحمل أيضاً نسخ مكررة منه ومن الحياة البائسة في وطنه ، وحين تقترب صفحة حياته على الانتهاء يقرر أن يعود إلى أرضه التي نزح منها لأن الوطن بداخله قد نزح إليه يناديه ليواري جسده تراب أرضه فلعله ينبت فيما بعد لأطفاله شجرة حياة تظل تربطهم بالوطن فيظل فيه باقياً للأبد .
تبقى الرواية خير شاهد عصر على معايشة الواقع الأليم وبالقلم الذي نسج صفحاتها واضعاً نصب عينيه أحلاماً سكنت الذاكرة المحتدمة بالألم والأنين لكنها في نفس الوقت تفسح للأمل مكاناً وللمستقبل طريقاً يبدأ من حيث الوطن ذاته الذي ينزحون منه لكنهم ينزحون إليه عاجلاً أو آجلاً ليتموا مسيرة الحياة على أرض الأجداد والأبناء.



#عايده_بدر (هاشتاغ)       Ayda_Badr#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في عيد الحب -عشاق هاربون-
- أتذكر
- ترجمة نصي -أتذكر- للغة الكوردية بعناية الأديب والمترجم المبد ...
- في عشية الميلاد
- لنؤمن بالشتاء ... عايده بدر
- يقولون لي عنك أيها الغريب
- أين يقع صوتي ؟
- يا الله
- في المطر
- صلاة اللئام - تعديل
- الظل والطريق - قصة قصيرة
- صلاة اللئام
- قراءة في نص -ذكرى عتيقة- للمبدع القدير خالد أبو طماعة / عايد ...
- اطليني باللوّن ...!/ عايده بدر
- الصرخة... ق.ق / عايده بدر
- قراءة في نص -ثمن القمة- للمبدع القدير جمال عمران/ عايده بدر
- قراءة في نص -أرزاق- للمبدع القدير عدي بلال / عايده بدر
- النزوح و استمرار الحياة مخيم إيسيان Esyan Camp نموذجا- تحديث
- قراءة في نص -الموتى- للمبدع بوبكر قليل / عايده بدر
- قراءة في نص -المقامر- ق ق ج ... للمبدع جمال عمران / عايده بد ...


المزيد.....




- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...
- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...
- تردد قناة mbc 4 نايل سات 2024 وتابع مسلسل فريد طائر الرفراف ...
- بثمن خيالي.. نجمة مصرية تبيع جلباب -حزمني يا- في مزاد علني ( ...
- مصر.. وفاة المخرج والسيناريست القدير عصام الشماع
- الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن ال ...
- بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عايده بدر - إضاءة على رواية -نالين ذاكرة الرماد- للروائي والإعلامي الكوردي كنعان بليج/ عايده بدر