|
ٱلْمُسْنَدُ إِلَيْهِ: تَمَدِّيَاتُ ٱلْتَّأْوِيلِ وَتَعَدِّيَاتُ ٱلْتَّعْوِيلِ (1)
غياث المرزوق
(Ghiath El Marzouk)
الحوار المتمدن-العدد: 7560 - 2023 / 3 / 24 - 23:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ٱلْمُسْنَدُ إِلَيْهِ لَا يُوغِلُ فِي ٱلْاِنْقِسَامِ أَوِ ٱلْاِنْشِطَارْ إِلاَّ حِينَمَا يَسْتَوْغِلُ فِي ٱلْكَلامِ مِنْ إِطَارٍ إِلى إِطَارْ جاك لاكان
(1)
يطرحُ هذا المقالُ قضيةَ التضادِّ المطلقِ بالتَّمَامِ بينَ القَسِيمَيْنِ النفسانيَّيْنِ للأنا (الشاهدةِ): قَسِيمِ الأنا الموضوعيِّ في إطارِ تمثيلِهَا «الواعي» وقَسِيمِ الأنا الذاتيِّ في إطارِ تمثيلِهَا «اللاواعي» – لِكَيْمَا يُصَارَ إلى سَبْرِ أغوارِ مَا يقتضيهِ مفهومُ كلٍّ منهمَا في مجَالِ التحليلِ النفسيِّ باعتبارِهِ فرعًا من فروعِ الدراسةِ العلميةِ معنيًّا في آخِرِ المطافِ بشخصٍ مُفْرَدٍ ومُحَدَّدٍ، ليسَ إلاَّهُ من شخصٍ آخَرَ. وهكذا، سيناقشُ المقالُ جُلاًّ كيفيةَ التَّرَادُفِ النفسانيِّ-الإنسانيِّ بينَ معنى (هُوِيَّةِ) القَسِيمِ الذاتيِّ للأنا «اللاواعيةِ» وبينَ معنى (هُوِيَّةِ) ذلك الشخصِ المُفْرَدِ والمُحَدَّدِ باعتبارِهِ تعميمًا أو تجريدًا، يُشارُ إليهِ في الإطارِ التنظيريِّ اللاكانيِّ، على الإجمالِ، بمصطلحِ «المُسْنَدُ إليهِ» The Subject. سيتطرَّقُ المقالُ، عندئذٍ، إلى مَا سوفَ يُحَدَّدُ بماهيَّتَيِ المدلولَيْنِ «السُّلُوكِيَّيْنِ» المتضادَّيْنِ لهذا المصطلحِ، المدلولِ «الفاعليِّ» Active والمدلولِ «المنفعليِّ» Passive، على وجه التحديدِ. وسيتطرَّقُ، من ثمَّ، إلى وِضْعَتِهِ النظريةِ مصطلحًا غيرَ مبتوتٍ في أمرِهِ في مؤلفاتِ فرويد، الأمرِ الذي كانَ، في أرجحِ الظنِّ، داعيًا أساسيًا لأنْ يحتلَّ المصطلحُ مكانَ صدارةٍ في مؤلفاتِ لاكان. فمن وجهتَي النظرِ الفلسفيةِ واللغويةِ كلتَيْهِمَا، سيعرضُ المقالُ مَا يُمَيِّزُ من تلك الأنواعِ الثلاثةِ من عينِ المُسْنَدِ إليهِ: المسندِ إليهِ اللاشخصيِّ، والمسندِ إليهِ اللامعرَّفِ (أو اللامسمَّى)، والمسندِ إليهِ الشخصيِّ، ولَسَوفَ يحاولُ أن يروزَ كلاًّ من مفاهيمِ هذِهِ الأنواعِ الثلاثةِ عينِهَا، وذلك استنادًا إلى تلك المسألةِ المنطقيةِ التي يضعُهَا لاكان بوصفِهَا «مغالطةً جديدةً» New Sophism. وبناءً على ذلك، سيشدِّدُ المقالُ تشديدًا خاصًّا على مفهومِ المسندِ إليهِ الشخصيِّ (بالإضافةِ إلى مفهومِ الأنا «الشخصيةِ» التي تستكنُّ فيهِ شاهدةً)، فيدلُّ بذاك على المقايسةِ الثنائيةِ بينَ القَسِيمَيْنِ الموضوعيِّ والذاتيِّ للأنا (الشاهدةِ) وبينَ التمثيلَيْنِ الواعي واللاواعي للمسندِ إليهِ – من حيثُ كونُهُ الشخصَ الناطقَ بلسانِ ضميرِ المتكلِّمِ المُفرَدِ «أنا»، على الترتيب. بعدئذٍ، سيعمدُ المقالُ أيضًا للإشارةِ إلى ذلك الفارقِ المفهوميِّ بينَ كلٍّ من يعقوبسون ولاكان في تعريفِ ضميرِ المتكلِّمِ المُفرَدِ «أنا» على أنَّهُ «حَدٌّ مُرَاوِغٌ» أو، بالأحرى، «مُتَغيِّرٌ (ضَمِيرِيٌّ)» Shifter: ففي حينِ أنَّ يعقوبسون ينظرُ إلى ذاتِ المُتَغيِّرِ (الضَّمِيرِيِّ) هذا باعتبارِهِ «رمزًا قرائنيًّا» Indexical Symbol، فإنَّ لاكان ينظرُ إليهِ باعتبارِهِ «دالاً قرائنيًّا» Indexical Signifier – فيضعُ التوكيدَ، والحالُ هذِهِ، على التناقضِ الكاملِ بينَ مَا يصرِّحُ بِهِ المسندُ إليهِ مِنْ «بيانٍ تصريحيٍّ» Statement وبينَ مَا يتلفَّظُ بِهِ مِنْ «بيانٍ تلفُّظيٍّ» Enunciation. سيتَّضحُ، إذن، أنَّ هذا التناقضَ الكاملَ بينَ البيانَيْنِ إنَّمَا هو مُسْتَلْزَمٌ أو مُتَطَلَّبٌ ضروريٌّ يَحْدُو بالمسندِ إليهِ إلى تردُّدِهِ المتأصِّلِ، ومن ثَمَّ إلى انقسامِهِ المترسِّخِ، بينَ ضميرِ المتكلِّمِ المُفرَدِ الواعي في البيانِ التصريحيِّ، من جهةٍ أولى، وبينَ ضميرِ المتكلِّمِ المُفرَدِ اللاواعي في البيانِ التلفُّظيِّ، من جهةٍ أُخرى: إذْ يظهرُ أنَّ فكرةَ انقسامِ المسندِ إليهِ بهذا المعنى، أو انشطارِهِ بالحَرِيِّ، لَمَردُّهَا في الأصلِ إلى مفهومِ فرويد عن ماهيةِ «الأنا (الشاهدةِ) المنشطرةِ» Split Ego (أو «ضميرِ المتكلِّمِ المُفرَدِ المنشطرِ» Split-I، على حدِّ تعبيرِهِ). أخيرًا، سيبيِّنُ المقالُ أنَّ التردُّدَ المتأصِّلَ للمسندِ إليهِ وانقسامَهُ المترسِّخَ هٰذين إنْ هُمَا إلاَّ سِمَتَانِ ناجمتانِ نَجْمًا عن انسلابِهِ واغترابِهِ المقدَّرَيْنِ قَبْليًّا من خلالِ تمثيلِ اللغةِ المُسْتَدِيمِ لوجودِهِ وتفكيرِهِ، على حدٍّ سَواءٍ – هٰذِهِ اللغةِ التي تبتكرُ عَالَمَ الأشياءِ، من طرفٍ أوَّلَ، والتي يَبُثُّهَا كُنْهُ «الدَّالِّ» Signifier، بوصفِهِ وسيطَهَا الرئيسيَّ في عَالَمِ الأفكارِ، من طرفٍ ثانٍ.
كما سَبَقَ أنْ نُوقِشَ في مقالٍ آنفٍ، تَمُورُ النفسُ الإنسانيةُ، فيمَا يتبدَّى، في تمزُّقٍ مستديمٍ أمامَ ذاك التنافرِ أو الاختصامِ المستمرِّ بينَ مبدأِ الواقعِ، بوصفِهِ المبدأَ الذي يُرْشِدُ أعمالَ الأنا (الشاهدةِ)، وبينَ مبدأِ اللذَّةِ، بوصفِهِ المبدأَ الذي يوجٍّهُ أعمالَ الأنا الغائبةِ، تنافرٍ أو اختصامٍ قد تُفَاقِمُهُ تانك القَسْوةُ «بالتَّعَسُّفِ» والصَّرَامَةُ «بالتَّقَشُّفِ» اللتانِ يقضِي بهِمَا مبدأُ الخُلْقِ، باعتبارِهِ المبدأَ الذي يحكمُ أعمالَ الأنا العليا. ومِمَّا لاريبَ فيهِ، والحَالُ هٰهُنَا، أنَّ التنافرَ أو الاختصامَ المتواصِلَ هذا إنَّمَا تتأصَّلُ جذورُهُ في ميولِ الجهازِ النفساني، عمومًا، إلى التشبُّثِ الحَرُونِ بمَصَادرِ إشباعِ الرَّغْبَةِ الحِسِّيَّةِ أو «اللَّبِيدِيَّةِ» في الحَوْزِ على اللذَّةِ (سواءً كانتْ هذِهِ المَصَادرُ «جنسيةً» بالمعنى الحرفيِّ أم غيرَ ذلك من معاني الإسناداتِ المجازيةِ)، من جانبٍ أوَّلَ، وتتأصَّلُ جذورُهُ في الجَهْدِ الجَهيدِ الذي يكابدُهُ عَيْنُ الجهازِ النفسانيِّ إزاءَ الارتدادِ أو النُّكُوصِ عن تلك المصادرِ، من جانبٍ آخَرَ. فإذا وَهُنَ مبدأُ الخُلْقِ في سَرَيانِ تأثيرِهِ وَهَنًا أخلاقيًّا ثمَّ أصبحَ، فيمَا بعدُ، عاجزًا كلِّيًّا أو جزئيًّا عن «رقابةِ» مبدأِ اللذَّةِ، فللوَهَنِ الأخلاقيِّ، عندَئِذٍ، أن «يَسْرِيَ» بالإتباعِ إلى مبدأِ الواقعِ، إنْ جازَ القولُ، وأن يجدَ هذا المبدأُ ذاتَهُ، بدورِهِ هو الآخَرُ، قائمًا قُبالةَ واحدٍ من مصيرَيْنِ بديلَيْنِ محتملَيْنِ – أو حتى كليهما: أوَّلاً، مصيرٌ يَعْتَرِيهِ خسرانُ مبدأِ الواقعِ خسرانًا كاملاً لقدرتِهِ على صَوْنِ التوازنِ الرَّغَبِيِّ والمِنْيَويِّ (نسبةً إلى المِنْيَةِ) ذاتًا، بصفتِهِ توازنًا لاغنًى عنهُ في الإمتاعِ الذاتيِّ للأنا (الشاهدةِ)؛ وثانيًا، مصيرٌ يَعْتَوِرُهُ إذعانُ عقلانيةِ المبدأِ نفسِهِ إذعانًا مطلقًا للشطحاتِ الخياليةِ اللاعقلانيةِ التي تُطْلِقُهَا تلك اللُّزُوبِيَّةُ الحِسِّيَّةُ أو «اللَّبِيدِيَّةُ» في الأنا الغائبةِ، وذاك نظرًا لكونِ تيك العقلانيةِ، فيمَا يظهرُ، عقلانيةً قد وَهُنت كذلك وَهَنًا أخلاقيًا عن طريقِ عَيْنِ «السَّرَيانِ» المنوَّهِ عنهُ عَيْنًا. فمن جرَّاءِ مَا يُسْفِرُ من عواقبَ نفسانيةٍ عن هٰذين المصيرَيْنِ المحتملَيْنِ، فضلاً عن قابليةِ إدراكِهَا المؤَاتِي، تَمُورُ النفسُ الإنسانيةُ في تمزُّقٍ أشدَّ ضراوةً بينَ الأنا (الشاهدةِ)، من ناحيةٍ أولى، حِينَمَا تنجرفُ انجرَافًا ذاتيًّا في تيَّارِ العَالَمِ الشَّوَاشِيِّ الذي يَكْمُنُ في الأنا الغائبةِ (إذْ تتكشَّفُ الماهيةُ النفسانيةُ الأولى، والحَالُ هُنَا، عن طبيعةٍ لامنسَّقَةٍ كمثلِ طبيعةِ الماهيةِ النفسانيةِ الأخيرةِ) وبينَ الأنا (الشاهدةِ) ذاتِهَا، من ناحيةٍ أُخرى، ولٰكنْ عندَمَا تنغمسُ انغماسًا أشدَّ ذاتيَّةً في الإشباعِ اللامُوَجَّهِ للنُّزُوعَاتِ الرَّغَبِيَّةِ التي تُضْمِرُهَا ذاتُ الأنا الغائبةِ (إذْ تنجلي الماهيةُ النفسانيةُ الأولى، والمَآلُ هُنَا، عن طبيعةٍ شَهْوِيَّةٍ كمثلِ طبيعةِ الماهيةِ النفسانيةِ الأخيرةِ). وفي كُلٍّ من هذِهِ الحَالِ وهذا المَآلِ، إذن، لاشيءَ ثمَّةَ يُخْلِي سبيلَ الانفلاتِ بغيةَ خَلاصِ الأنا (الشاهدةِ) هذِهِ من المَوْرِ في التَّمَزُّقِ المستديمِ المذكورِ قبلَ قليلٍ، لأنَّ الماهيةَ النفسانيةَ عينَهَا، من حيثُ تشبيهُهَا بـ«مَنْ تمتطِي صهوةَ حِصَانٍ، في إطارِ علاقتِهَا بالأنا الغائبةِ»، سوفَ يكونُ حكمُهَا إذَّاكَ، وسوفَ تكونُ إدانتُهَا بالتالي، واحدًا من «قِصَاصَيْنِ» محتملَيْنِ كذلك: إمَّا النسيانَ الاِجتماعيَّ كُلاًّ (بموجبِ المصيرِ الأوَّلِ) وإمَّا النبذَ الاِجتماعيَّ كُلِّيًّا (بموجبِ المصيرِ الثاني). علاوةً على ذلك، حتى في حالِ «نجاةِ» الأنا (الشاهدةِ) من كِلَا المصيرَيْنِ المَعْنِيَّيْنِ، إذْ لا يَوْهُنُ مبدأُ الخُلْقِ، بذاتِ الإتباعِ، وَهَنًا أخلاقيًّا، ستبقى النفسُ الإنسانيةُ مَائِرَةً في تمزُّقِهَا المستديمِ المذكورِ قبلاً يَتَعَاوَرُهَا تناقضٌ مطلقٌ لا مناصَ منهُ بَتًّا، ذلك التناقضُ الكاملُ بينَ الأحكامِ الخَاطِئَةِ التي تُطْلِقُهَا الأنا (الشاهدةُ) إطلاقًا «واعيًا» وبينَ الأحكامِ الصَّائِبَةِ التي تُطْلِقُهَا الأنا الغائبةُ إطلاقًا لاواعيًا، بحيثُ إنَّ الخطأَ الصَّرِيحَ يُوحِي إلى القَسِيمِ الموضوعيِّ للأنا الواعيةِ، من كَنَفٍ أوَّلَ، وإنَّ الصَّوَابَ الضِّمْنِيَّ يُلْمِعُ إلى القَسِيمِ الذاتيِّ للأنا اللاواعيةِ، من كَنَفٍ آخَرَ[1].
يتبيَّنُ مِمَّا تقدَّم، إذن، أنَّ النفسَ الإنسانيةَ، لدى مِسَاسِهَا بأدنى تَجَلٍّ من تجلِّياتِ ذلك التناقضِ الكاملِ بينَ الأحكامِ الخَاطِئَةِ والأحكامِ الصَّائِبَةِ من المنظورِ عَيْنًا، سَتَغْدُو نفسًا مُرَكَّبَةً تتضمَّنُ مَاهِيَّاتٍ نفسانيةً متعاضدةً ثلاثًا: الأنا الغائبةَ وشَفَفَهَا عن طبيعةٍ شَهْوِيَّةٍ أوَّلاً، والأنا (الشاهدةَ) وطَيَّهَا على طبيعةٍ عقلانيةٍ ثانيًا، والأنا العليا ونَمَّهَا عن طبيعةٍ رقيبةٍ ثالثًا. وفضلاً عن ذلك، تتكشَّفُ مَاهِيَّةُ الأنا (الشاهدةِ) بطبيعتِهَا العقلانيةِ، بدورِهَا هي الأُخرى، عن قَسِيمِهَا الموضوعيِّ في إطارِ تمثيلِهَا الواعي وعن قَسِيمِهَا الذاتيِّ في إطارِ تمثيلِهَا اللاواعي. وينجلي هذا التمثيلُ اللاواعي الأخيرُ، بدورِهِ هو الآخَرُ، عن مُوَاءَمَتِهِ وذلك التشابُهَ الجوهريَّ الحاسمَ بينَ الأنا الغائبةِ، باعتبارِهَا ماهيةً نفسانيةً فِطْرَانِيَّةً، وبينَ الأنا (الشاهدةِ)، باعتبارِهَا ماهيةً نفسانيةً فِطْرَانِيَّةً-خِبْرَانِيَّةً، لدى الحُضُورِ النَّاشِئِ للأنا العليا، على أَنَّهَا ماهيةٌ نفسانيةٌ خِبْرَانِيَّةٌ – أي مُكْتَسبَةٌ «كُلِّيًّا» من العَالَمِ الظاهريِّ. فإذا كانَ القَسِيمُ الذاتيُّ للأنا (الشاهدةِ) في إطارِ تمثيلِهَا اللاواعي يرادفُ بمَعْنَاهُ الكَنِينِ مَعْنَى الهُوِيَّةِ الأَكَنَّ مُنَوَّهًا عنهُ في موضعٍ آخَرَ آنِفٍ[2]، وإذا كانَ عَيْنُ التحليلِ النفسيِّ، سواءً من حيثُ جانبُهُ التنظيريُّ أم من حيثُ جانبُهُ التطبيقيُّ، فرعًا من فروعِ الدراسةِ معنيًّا في الأساسِ بشخصٍ مُفْرَدٍ ومُحَدَّدٍ، فإنَّ القَسِيمَ الذاتيَّ للأنا (الشاهدةِ) في إطارِ تمثيلِهَا اللاواعي، عندئذٍ، لَيُرَادِفُ بمَعْنَاهُ الكامنِ هذا معنى ذلك الشخصِ المُفْرَدِ والمُحَدَّدِ بوصفِهِ تعميمًا أو حتى تجريدًا، يُشارُ إليهِ في مَسَارِ التنظيرِ اللاكانيِّ إجمالاً باصطلاحِ «المُسْنَدِ إليهِ» The Subject، شخصٍ مُفْرَدٍ ومُحَدَّدٍ يتمثّلُ تخصيصُهُ أو تَمْدِيَتُهُ (بالجَعْلِ المَادِّيِّ) في الطفلِ أو في المريضِ[3]. ومن القَمِينِ بالذِّكْرِ، في هذا الصَّدَدِ، أنَّ فرويد نفسَهُ لا يستخدمُ اصطلاحَ «المُسْنَدِ إليهِ» على اعتبارِهِ مُبْتَنًى أو مُنْشَأً نظريًّا بحكمِ مَا يستحقُّهُ من استحقاقٍ تنظيريٍّ مُسْتَحَقٍّ، بلْ يجزمُ بقولِهِ مُسْتَدْرِكًا بأنَّ النفسَ الإنسانيةَ، بكُلِّيَّتِهَا الثالوثيةِ ذَاتًا، لا تزال، مع هذا، تخضع لأحكامِ ثلاثٍ من الثنائياتِ التضادِّية أو، بالحَرِيِّ، الطِّبَاقِيَّةِ حَدًّا، ألا وهي: ثنائيةُ «الذاتِ-الموضوعِ» أوَّلاً، وثنائيةُ «اللذَّةِ-اللالذَّةِ» ثانيًا، وثنائيةُ «الفاعلِ-المنفعلِ» ثالثًا. فمن ثنائيةِ «الذاتِ-الموضوعِ» Subject-Object، إذن، يقصدُ فرويد، بكلِّ بساطةٍ، ذلك التفاعلَ المتعدِّدَ الأشكالِ إلى حدٍّ بعيدٍ بينَ الأنا (الشاهدةِ) ذاتِهَا وبينَ مَا يُسَمِّيهِ بـ«اللاأنا (الحاضرةِ)»، على النقيضِ – فيدلُّ بفَحْوَاءِ القصدِ هٰهُنَا على تَوَازٍ مفهوميٍّ بينَ الأنا (الشاهدةِ) والذاتِ، أي ذاتُ المُسْنَدِ إليهِ بالذاتِ، من طرفٍ أوَّلَ، وعلى تَوَازٍ مفهوميٍّ بينَ اللاأنا (الحاضرةِ) والموضوعِ، أي موضوعُ العَالَمِ الظاهريِّ بالعَيْنِ، من طرفٍ آخَرَ. وعلى حدِّ تعبيرِ فرويد، من هذا الخُصُوصِ، فإنَّ الثنائيةَ الطِّبَاقِيَّةَ هذِهِ «يتمُّ إقحامُهَا بالإكْرَاهِ في [دخيلةِ] الفردِ أو المُتَعَضِّي في أَمَدٍ مُبَكِّرٍ»، فيُصَارُ من ثَمَّ إلى «إبقائِهَا، فوقَ كلِّ شيءٍ، مُهَيْمِنَةً على نشاطِنَا الفكريِّ» في أَمَدٍ مُتَأَخِّرٍ، فِيمَا يتبدَّى[4]. وبصَرْفِ النظرِ المُجَرَّدِ كُلاًّ عَمَّا تَبْتَغِيهِ ثنائيةُ «اللذَّةِ-اللالذَّةِ» Pleasure-Unpleasure، هذِهِ الثنائيةُ الطِّبَاقِيَّةُ التي تقرِّرُ في المَسْعَى ضُرُوبَ النشاطِ الإنسَانيِّ (كالنيابةِ والإرادةِ الإنسَانِيَّتَيْنِ)، والتي تقترنُ بالمَدَى المعياريِّ المقرِّرِ للمشاعرِ والأحاسيسِ الدفينةِ، ترومُ ثنائيةُ «الفاعلِ-المنفعلِ» Active-Passive ميداءَ التوكيدِ أو التركيزِ على تَجَلِّي الطابعِ الازدواجيِّ لذاتِ المُسْنَدِ إليهِ في إطارِ مِسَاسِهَا «السُّلُوكِيِّ» المؤَاتِي بموضوعِ العَالَمِ الظاهريِّ: ففي مقامٍ أوَّليٍّ، يتجسَّدُ المُسْنَدُ إليهِ كائنًا منفعلاً، أو «مستقبِلاً مُتَلَقِّيًا»، مَا دامتْ تحفِّزُهُ معطياتُ العَالَمِ الظاهريِّ؛ وفي مقامٍ ثانويٍّ، يتجسَّمُ المُسْنَدُ إليهِ كائنًا فاعلاً، أو «مرسِلاً مُنْتِجًا»، إنْ كانَ يستجيبُ لمعطياتِ العَالَمِ الظاهريِّ نفسِهِ. وهكذا، من الأرجَحِ أن يكونَ الطابعُ الازدواجيُّ للمسندِ إليهِ هذا، من خلالِ تمثيلِهِ في شكلٍ تفاضُليٍّ لثنائيةٍ طباقيةٍ، ومن جَرَّاءِ وِضْعَتِهِ النظريةِ غيرِ المبتوتِ في أمرِهَا في مؤلفاتِ فرويد، من الأرجَحِ أن يكونَ باعثًا رئيسيًّا على أن يحتلَّ الاصطلاحُ ومُبْتَنَاهُ أو مُنْشَأَهُ النظريَّ برُمَّتِهِ، مكانَ صَدَارَةٍ في مؤلفاتِ لاكان.
وفي هذِهِ القرينةِ – ولا بُدَّ، لا بُدَّ للأَنَاةِ مِنْ أنْ تُنْتَضَى مِنْ مَطَاوِيهَا الدَّفِينَةِ، فإنَّ مَا يُمْكِنُ الاِستدلالُ عليهِ بِيُسْرٍ يَسَارٍ مِنْ تنظيرِ لاكانَ عَنْ مُبْتَنَى المسندِ إليهِ بوصفِهِ تعميمًا أو حتى تجريدًا، هو أنَّهُ يَتَّسِمُ، قبلَ كلِّ شيءٍ، بِسِمَةِ الكائنِ «الشخصيِّ» Personal بالاصطلاحِ المُتَاحِ، على الخلافِ الكُلِّيِّ مِنْ كلٍّ مِنَ المُبْتَنَى الآخَرِ مُنْجَليًا عَنْ سِمَةِ الكائنِ «اللاشخصيِّ» Impersonal والمُبْتَنَى الآخَرِ الآخَرِ مُنْطَوِيًا، بدورِهِ هو الآخَرُ، على سِمَةِ الكائنِ «اللامُعَرَّفِ» Undefined (أو «اللامُسَمَّى» Anonymous، بالحَرِيِّ). ومن حيثيةِ ذاك الرأيِ الذي ارتآهُ لاكانُ عنْ رَوِيَّةٍ في مؤلفاتِهِ الأخيرةِ، ذلك الرأيِ القائلِ باليقينِ المُطْلَقِ، أو بالكادِ، بأنَّ «المسندَ إليهِ [مَأْخُوذًا هٰكذا على سَجِيَّتِهِ] لنْ يكونَ، والمَآلُ هُنَا، أكثرَ مِنْ كائنٍ مُفْتَرَضٍ، فِيمَا لَهُ مِسَاسٌ بتلك السَّجِيَّةِ»[5]، يَتَبَيَّنُ الآنَ بشَيْءٍ مِنَ اليقينِ المُمَاثِلِ أو حتى المُوازِي أنَّ أنواعَ المسندِ إليهِ الثلاثةَ هذِهِ لَيَسِيرَةُ الاِستدراكِ بمَبَانِيهَا ولٰكِنَّهَا عَسِيرَةُ الإدراكِ بمَعَانِيهَا، نظرًا لعُمْقِ أيٍّ مِنْ دلالاتِهَا الفلسفيةِ وتدليلاتِهَا اللغويةِ، على حَدٍّ سَوَاءٍ. لهذا السَّبَبِ، سَيُعْمَدُ في هذا المقالِ البَحْثِيِّ إلى مُحَاوَلةٍ جَادَّةٍ في اسْتِكْنَاهِ مَا يَنْطَوِي عليهِ كُلٌّ مِنْ تلك المُبْتَنَيَاتِ من فَحَاوٍ بالغةٍ مِنَ التعقيدِ والعِيَاصِ مبلغًا، وذاك إشَارَةً إلى مقالِ لاكانَ بعنوانِهِ المَدِيدِ عِبَارَةً حتى، «الزَّمَنُ المَنْطِقِيُّ وَتَوْكِيدُ اليَقِينِ المُرْتَقَبِ: مُغَالَطَةٌ جَدِيدَةٌ»، هذا المقالِ الثاقِبِ والألمعيِّ الذي يَفِيضُ إثارَةً فِكْرِيَّةً دَائِبَةً وتحفيزًا ذِهْنِيًّا مُدَائِبًا ولا رَيْبَ، على الرَّغْمِ مِنْ غَلْوَائِهِ وإغْرَاقِهِ الكَؤُودَينِ في الغُمُوض والإبْهَامِ[6]. في هذا المقالِ، يطرحُ لاكانُ مسألةً منطقيةً على بساطِ البحثِ بوَصْفِهَا بكلِّ بَسَاطَةٍ «مغالطةً جديدةً» New Sophism، مسألةً منطقيةً يمكنُ عَرْضُها «سَابِغًا» بوجيزِ الكلامِ على النحوِ التالي: دَعَا سَجَّانٌ سُجَنَاءَ ثلاثةً مِنِ اختيارِهِ، ثُمَّ أعلنَ لَهُمْ تَمَتُّعَهُ بمُطْلَقِ الصَّلاحِ والصُّلُوحِ في إخلاءِ سَبِيلِ أحَدِهِمْ. ولٰكِنْ، قبلَ أنْ يتَّخِذَ السَّجَّانُ قرارَ إخلاءِ السَّبِيلِ هذا، أرادَ أنْ يعهدَ بالنتيجةِ إلى اختبارٍ مشروطٍ، وأنْ يُجْرِيَ هذا الاختبارَ على السُّجَنَاءِ الثلاثةِ بِاسْتِجْوادِهِمْ وقُبُولِهِمْ كَافَّةً. يَقْتَضِي الاختبارُ، إذن، أنَّ قرصًا واحدًا «مجهولاً» يتمُّ توخِّيهِ من بينِ أقراصٍ خَمْسَةٍ «معلومةٍ»، أقراصٍ مُتَمَاثِلَةٍ تمامًا لا تختلفُ عَنْ بَعْضِهَا البَعْضِ إلاَّ باللونِ (ثلاثةٍ بَيْضَاءَ واثنَيْنِ أسودَيْنِ)، لِكَيْمَا يُصَارَ إلى تثبيتِهِ بينَ كَتِفَي كلٍّ مِنَ السُّجَنَاءِ الثلاثةِ، بحيثُ يتوضَّعُ القرصُ في موضعٍ وَاقِعٍ خَارِجَ مَجَالِ الرؤيةِ المُبَاشِرَةِ. ويستلزمُ الاختبارُ أيضًا مَنْعَ كَافَّةِ الوَسَائِلِ غَيْرِ المُبَاشِرَةِ لرؤيةِ كلٍّ من السُّجَنَاءِ الثلاثةِ انعكاسَهُ، ويستلزمُ كذلك استثناءَ جميعِ أشكالِ الحديثِ المُتَبَادَلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، بطبيعةِ الحَالِ: إذْ أنَّ أوَّلَ سَجِينٍ في مقدورِهِ أنْ يخرجَ مِنَ الزنزانةِ، وأنْ يستدلَّ على معرفةِ لونِ قرصِهِ، سيفيدُ مِنْ قرارِ إطلاقِ السَّرَاحِ. فقامَ السَّجَّانُ، عندئذٍ، بتثبيتِ كلٍّ مِنَ الأقراصِ البَيْضَاءِ الثلاثةِ بينَ كَتِفَي كلٍّ مِنَ السُّجَنَاءِ الثلاثةِ، مِثْلَمَا هو مَسْنُونٌ. وبعدَ أنْ تأمَّلَ السُّجَنَاءُ الثلاثةُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا لـِ«زمنٍ مُحَدَّدٍ»، خَرَجُوا جميعًا مِنَ الزنزانةِ في آنٍ واحدٍ، وأَدْلَى كلٌّ على حِدَةٍ بصيغةِ البرهانِ التامِّ على المسألةِ المنطقيةِ. من هُنا، يعيدُ لاكانُ صياغةَ البرهانِ التامِّ هذا بقولِهِ: «إِنَّ لونَ قرصِي أبيضُ، وإليكَ كيفيةَ معرفتِي إيَّاهُ: بِمَا أَنَّ لَوْنَي قُرْصَي صَاحِبَيَّ أبيضَانِ، زعمتُ لنفسِي أَنَّهُ لَوْ كانَ لونُ قرصِي أسودَ لكانَ بِوُسْعِ كلٍّ مِنْهُمَا أنْ يستنتجَ مَا يلي: «لَوْ كانَ لونُ قرصِي أسودَ أيضًا، لأدركَ الآخَرُ بلا تردُّدٍ أنَّ لونَ قرصِهِ أبيضُ بالضَّرُورَةِ، ولغادرَ [الزنزانةَ] لِتَوِّهِ. إذنْ، لونُ قرصِي ليسَ أسودَ». و[لَوْ كانَ لونُ قرصِي أسودَ أيضًا]، لغادَرَ الاِثنانِ [الزنزانةَ] معًا، وهُمَا على يقينٍ مِنْ أَنَّ لونَي قُرْصَيْهِمَا أبيضَانِ. وبِمَا أَنَّهُمَا لَمْ يقومَا بهذا الفعلِ [أي بِمَا أَنَّهُمَا تردَّدَا فيهِ]، لا بُدَّ مِنْ أَنْ يكونَ لونُ قرصِي أبيضَ كلونَي قُرْصَيْهِمَا. حينذاكَ، يُمَّمْتُ وَجْهِي شَطْرَ البابِ لِكَيْ أُدْلِيَ باستنتاجي – وهٰكذا، خرجَ [السُّجَنَاءُ] الثلاثةُ في آنٍ واحدٍ مُحَصَّنِينَ بدواعي الاستنتاجِ ذاتِهَا»[7].
فبالنظرِ المَدِيدِ إلى عَيْنِ المسألةِ المنطقيةِ هذِهِ وبرهانِهَا التامِّ، يَسْتَبِينُ، فيمَا يَسْتَبِينُ هٰهُنَا، أنَّ ثَمَّةَ حركتَيْنِ مُرْجَأَتَيْنِ اثنتَيْنِ دُونَمَا ترتيبٍ مكانِيٍّ – أو هٰكذا يتبدَّى، حركتَيْنِ مُرْجَأَتَيْنِ تُمَكِّنَانِ كَافَّةَ السُّجَنَاءِ الثلاثةِ بالذوَاتِ مِنَ الإدلاءِ باستنتاجَاتِهِمْ في غيرِ التباسٍ، على الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الدَّالَّتَيْنِ الحَاسِمَتَيْنِ لهٰتينِ الحركتَيْنِ لدَالَّتَانِ جوهريتانِ في الاِلتباسِ المنطقيِّ. ومِنْ أجلِ اسْتِشْفَافِ سَيْرُورَةِ الاِسْتِدْلالِ أو التَّمَاسِّ المنطقيِّ هٰهُنَا أيضًا، فَلْنُسَمِّ هٰؤلاءِ السُّجَنَاءَ الثلاثةَ بالمَجَازِ الجَبْرِيِّ، مِنَ الآنَ فَصَاعِدًا، بـ«المسندِ إليهِمْ آ، ب، ج» بهكذا ترتيبٍ. فأَمَّا الحركةُ المُرْجَأَةُ الأولى، مِنْ هكذا منظورٍ، فَتَتَمَثَّلُ في كيفيةِ الاِسْتِدْلالِ المنطقيِّ الذي كانَ المسندُ إليهِ آ سَيَعْزُوهُ إمَّا إلى المسندِ إليهِ ب وإمَّا إلى المسندِ إليهِ ج، لَوْ كانَ لونُ قرصِ المسندِ إليهِ آ أسودَ: فلَوْ كانَ لونُ قرصِ المسندِ إليهِ ب أسودَ أيضًا، لكانَ في مقدورِ المسندِ إليهِ ج أَنْ يرى قرصَيْنِ بلونَيْنِ أسودَيْنِ أمَامَهُ، قرصَ المسندِ إليهِ آ وقرصَ المسندِ إليهِ ب، ولأدركَ أَنَّ لونَ قرصِهِ أبيضُ بلا تردُّدٍ – والعكسُ بالعكسِ بذاتِ الاِسْتِدْلالِ المنطقيِّ، فيمَا يتعلَّقُ بالمسندِ إليهِ ج. إِنَّ مَا يحدِّدُ الحركةَ المُرْجَأَةَ الأولى، إذن، إِنَّمَا هو «إِخْيَارٌ» أو «تَخْيِيرٌ» بينَ تَرَدُّدَيْنِ متقاطعَيْنِ: إِمَّا أَنْ يكونَ تَرَدُّدُ المسندِ إليهِ ب قَدْ مَكَّنَ المسندَ إليهِ ج مِنْ إدراكِ أَنَّ لونَ قرصِهِ أبيضُ، وإِمَّا أَنْ يكونَ تَرَدُّدُ المسندِ إليهِ ج قَدْ مَكَّنَ المسندَ إليهِ ب من إدراكِ أَنَّ لونَ قرصِهِ أبيضُ أيضًا. ووفقًا لذلك، تَتَحَدَّدُ الحركةُ المُرْجَأَةُ الأولى، والحَالُ هذِهِ، في حُدُوثِ تَرَدُّدٍ مِنْ نوعٍ مُعَيَّنٍ مُؤَاتٍ يُمْكِنُ، في هذا السِّيَاقِ المنطقيِّ، توصيفُهُ بـ«التَّرَدُّدِ الإِخْيَارِيِّ أو التَّخْيِيرِيِّ» Hesitation Disjunctive. وأَمَّا الحركةُ المُرْجَأَةُ الثانيةُ، من منظورٍ آخَرَ، فَتَتَمَثَّلُ في كيفيةِ الاِستدلالِ المنطقيِّ الذي كانَ المسندُ إليهِ آ سَيَعْزُوهُ إلى كُلٍّ مِنَ المسندِ إليهِ ب والمسندِ إليهِ ج، لَوْ كانَ لونُ قرصِ المسندِ إليهِ آ أسودَ: فَلَوْ أدركَ المسندُ إليهِ ب والمسندُ إليهِ ج كِلاهُمَا أَنَّ لونَي قرصَيْهِمَا أبيضَانِ بالاستنادِ إلى تَسْيَارِ الحركةِ المُرْجَأَةِ الأولى ذَاتًا، هذِهِ الحركةِ التي يُحَدِّدُهَا نوعُ التَّرَدُّدِ الإِخْيَارِيِّ أو التَّخْيِيرِيِّ المُنَوَّهِ عنهُ تَوًّا، لغادَرَ هٰذانِ المسندُ إِلَيْهِمَا الاِثنانِ الزنزانةَ في آنٍ واحدٍ وبلا تَرَدُّدٍ. إِنَّ مَا يحدِّدُ الحركةَ المُرْجَأَةَ الثانيةَ، إذن، إِنَّمَا هو «إِعْطَافٌ» أو «تَعْطِيفٌ» بينَ تَرَدُّدَيْنِ مُتَوازِيَيْنِ، هذِهِ المَرَّةَ: إذْ أَنَّ الإدرَاكَ «المُتَوَازِيَ» لكُلٍّ مِنَ المسندِ إليهِ ب والمسندِ إليهِ ج، إدرَاكَ أَنَّ لونَ قرصِ المسندِ إليهِ آ أبيضُ فعلاً، لَهُوَ «الجَاعِلُ الذِّهْنِيُّ» الذي جَعَلَ كُلاًّ مِنَ المسندِ إليهِ ب والمسندِ إليهِ ج يَتَرَدَّدُ فيمَا إذا كانَ لونُ قرصِهِ أبيضَ فعلِيًّا. لهذا السَّبَبِ دونَ سِوَاهُ بأدنى تخمينٍ، تَتَحَدَّدُ الحركةُ المُرْجَأَةُ الثانيةُ، والمَآلُ هُنَا، في حُدُوثِ تَرَدُّدٍ مِنْ نوعٍ مُعَيَّنٍ مُؤَاتٍ آخَرَ يُمْكِنُ، في هذا السِّيَاقِ المنطقيِّ المُقَابِلِ، توصيفُهُ الآنَ بـ«التَّرَدُّدِ الإِعْطَافِيِّ أو التَّعْطِيفِيِ» Hesitation Conjunctive، بدلاً مِنَ التَّرَدُّدِ الإِخْيَارِيِّ أو التَّخْيِيرِيِّ. وبمَا أَنَّ المسندَ إليهِمْ جميعَهُمْ بالثَّلاثَةِ كانوا قَدْ أدْرَكوا حقًّا أَنَّ ألوانَ أقراصِهِمْ بيضاءُ مِنْ أَثَرِ تأمُّلِهِمْ بعضَهُمْ بعضًا لـِ«زمنٍ مُحَدَّدٍ»، وأَنَّهُمْ، فيمَا بعدُ، خَرَجُوا مِنَ الزنزانةِ في آنٍ واحدٍ مُحَصَّنِينَ بأسبابِ هذا اليقينِ، فإِنَّ كُلاًّ مِنَ المسندِ إليهِمْ بالثَّلاثَةِ هٰؤلاءِ كانَ قَدْ مَكَّنَتْهُ الحركتانِ المُرْجَأَتَانِ كلتاهُمَا مِنَ الاستدلالِ البَانِي على البرهانِ التامِّ للمسألةِ المنطقيةِ. وهكذا، يَبْدُو أَنَّ الحركتَيْنِ المُرْجَأَتَيْنِ هٰتينِ قَدْ أَدَّتَا وظيفةَ مَا يُمْكِنُ تحْدِيدُهُ عندَ هذا الحَدِّ بـ«الدَّالِّ التَّيْهَائِيِّ» Aporetic Signifier (نسبةً إلى التَيْهَاءِ)[8]، هذا الدَّالِّ الذي يؤدِّي، بدورِهِ هو الآخَرُ، وظيفةَ مَا جَرَتْ تَسْمِيَتُهُ في علمِ البَصَرِيَّاتِ بـ«النقطةِ العَمْيَاءِ» Blind Spot، وذاك لِمُجَرَّدِ أَنَّ الاستدلالاتِ المنطقيةَ المتزامنةَ التي استدلَّ بِهَا كُلٌّ مِنَ المسندِ إليهِمْ أولئك لَمْ يَتِمَّ بِنَاؤُهَا على أسَاسِ مَا كانوا يَرَوْنَهُ في الحقيقةِ (أي الأقراصُ البيضَاءُ الثلاثةُ)، بَلْ تَمَّ بِنَاؤُهَا على أسَاسِ مَا لَمْ يكونوا يَرَوْنَهُ حقًّا (أي القرصَانِ الأسودانِ). وبالتالي، تَتَجَلَّى هٰهُنَا ثَلَاثُ تَوَافُقِيَّاتٍ ثُلَاثِيَّةٍ باحتمالاتِهَا المنطقيةِ هٰكذا، (●●○، ●○○، ○○○)، وتَتَفَرَّدُ منهَا تَوَافُقِيَّتَانِ ثُلَاثِيَّتَانِ اثنتانِ هٰكذا، (●●○، ●○○)، تانك التَّوَافُقِيَّتَانِ الثُّلَاثِيَّتَانِ اللتانِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا، في واقعِ الأمرِ، وُجُودٌ سِوَى «وُجُودِ» دَالَّيْنِ تَيْهَائِيَّيْنِ، أو نقطتَيْنِ عَمْيَاوَيْنِ، ولٰكِنَّهُمَا مَعَ ذلك كُلِّهِ قَدْ حَدَتَا بالمسندِ إليهِمْ أولئك كافَّتِهِمْ إلى الاستدلالِ المنطقيِّ الصَّحِيحِ على التَّوَافُقِيَّةِ الثُّلَاثِيَّةِ الوحيدةِ، والوحيدةِ فقط (○○○)، بوصفِهَا في الأصْلِ مُعْطًى من المُعْطَيًاتِ القَبْليَّةِ[9].
وبالنظرِ السَّدِيدِ إلى الحركتينِ المُرْجَأَتينِ هٰتينِ، وعلى الأخصِّ مِنْ منظورِ مَا تَعْمَلَانِ بِهِ كَدَالَّيْنِ تَيْهَائِيَّيْنِ، أو كَنُقْطَتَيْنِ عَمْيَاوَيْنِ، يتبيَّنُ الآنَ، فيمَا يتبيَّنُ بشيءٍ مِنَ الإِجْلاءِ والاِنْجِلاءِ، أَنَّ ثَمَّةَ لحظاتٍ برهانيةً ثلاثًا دونَمَا ترتيبٍ زَمَانِيٍّ – أو هٰكذا يتبدَّى مُحَاذِيًا لِغِيَابِ التَّرْتِيبِ المَكَانِيِّ الآنِفِ، لحظاتٍ تَحْدُو بالمسندِ إليهِ (سَوَاءً تَمَثَّلَ في المسندِ إليهِ آ أم في المسندِ إليهِ ب أم في المسندِ إليهِ ج) إلى الإدلاءِ باستنتاجِهِ المُسْتَدَلِّ عليهِ منطقيًّا مِنْ غيرِ الْتِبَاسٍ، إِذْ أَنَّ القِيَمَ المنطقيةَ المُثْلَى لِكُلٍّ مِنْ هذِهِ اللحظاتِ البرهانيةِ الثَّلَاثِ تَنْطَوِي على أشكالٍ زَاخِرَةٍ بالاِخْتِلَافِ وعلى تَرَاتِيبَ مَاخِرَةٍ في التَّصَاعُدِ. فأَمَّا اللحظةُ البرهانيةُ الأولى، فيُحَدِّدُهَا الاِستدلالُ المنطقيُّ الذي يَنْبَنِي على أسَاسِ تمثيلِ التَّوَافُقِيَّةِ الثُّلَاثِيَّةِ الأولى، (●●○)، بوصفِهَا في المَحَلِّ بيانًا شرطيًّا احتماليًّا جِدَّ قابلٍ للوقوعِ مُعَبَّرًا عنهُ بالتَّعْبِيرِ المُعْجَمِيِّ المُلائِمِ، نَحْوَ: «إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ رَأَى قُرْصَيْنِ بِلَوْنَيْنِ أَسْوَدَيْنِ [فِعْلاً]، فَسَيَعْلَمُ أَنَّ لَوْنَ قُرْصِهِ أَبْيَضُ [حَلاًّ]»: إِذْ يَدُلُّ البيانُ الشرطيُّ الاحتماليُّ النَّاجِمُ، والحَالُ هذِهِ، على مَعْنَى «الاستثناءِ المنطقيِّ» بمَعْنَى أَنَّ التَّوَافُقِيَّةَ الثُّلَاثِيَّةَ الافتراضِيَّةَ، (●●●)، إِنَّمَا هي مُسْتَثْنَاةٌ اِسْتِثْنَاءً منطقيًّا لأسبابٍ بَدَهِيَّةٍ بيِّنةٍ بذاتِهَا. تَتَمَثَّلُ اللحظةُ البرهانيةُ الأولى تمثُّلاً إضْمَاريًّا، إذن، فيمَا يُسَمَّى اصطلاحًا بـ«لحظةِ الإِرْمَاقِ» Glancing Moment، لأَنَّ جُمْلَةَ الشَّرْطِ كَمُعْطًى قَبْلِيٍّ في البيانِ الشرطيِّ الاحتماليِّ المَعْنِيِّ (أي: «إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ رَأَى قُرْصَيْنِ بِلَوْنَيْنِ أَسْوَدَيْنِ»، جُمْلَةً) يَتِمُّ تَحْوِيلُهَا إلى جَوَابِ الشَّرْطِ كَمُعْطًى «بَعْديٍّ» في البيانِ الشرطيِّ الاحتماليِّ المَعْنِيِّ ذاتِهِ (أي: «فَسَيَعْلَمُ أَنَّ لَوْنَ قُرْصِهِ أَبْيَضُ»، جَوَابًا). ووفقًا لذلك، فَإِنَّ المسندَ إليهِ الذي يَتَبَنَّى جَوَابَ الشَّرْطِ في البيانِ الشرطيِّ الاحتماليِّ المَعْنِيِّ إِنَّمَا يُلْمِعُ إِلْمَاعًا إلى المسندِ إليهِ «اللاشخصيِّ» في هَيْئَةِ عِبَارةٍ تَبْعِيضِيَّةٍ لاتشخيصيَّةٍ، نَحْوَ: «يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ [عِلْمًا بِالذَّاتِ] أَنَّ...». وأَمَّا اللحظةُ البرهانيةُ الثانيةُ، فيُحَدِّدُهَا الاِستدلالُ المنطقيُّ الذي يَنْبَنِي على أسَاسِ تَجْسِيدِ التَّوَافُقِيَّةِ الثُّلَاثِيَّةِ الثانيةِ، (●○○)، بِصِفَتِها في المَحَلِّ هُنَا بيانًا شرطيًّا امتناعيًّا غيرَ قابلٍ للوقوعِ (نَقِيضًا للبيانِ الشرطيِّ الاحتماليِّ) مُعَبَّرًا عنهُ كذاك بالتَّعْبِيرِ المُعْجَمِيِّ المُوَائِمِ، نَحْوَ: «لَوْ كَانَ لَوْنُ قُرْصِ أَحَدِهِمْ أَسْوَدَ [حَقًّا]، لَعَلِمَ الآخَرَانِ اللَّذَانِ يَرَاهُمَا عِلْمَ اليَقِينِ أَنَّ لَوْنَي قُرْصَيْهِمَا أَبْيَضَانِ بِلَا تَرَدُّدٍ [حَقِيقًا]»: إِذْ يَدُلُّ البيانُ الشرطيُّ الامتناعيُّ الناتِجُ، والحَالُ هذِهِ، على فَحْوَى «معرفةٍ حَدْسِيَّةٍ» بِفَحْوَاءِ شيءٍ مِنَ الأشيَاءِ لا يَنْتَمِي إلى نطاقِ المُعْطَيَاتِ القَبْلِيَّةِ الحقيقيةِ أَصْلاً، كَحَالِ ذلك المُعْطَى القَبْلِيِّ حَالاًّ في رُؤْيَةِ قرصَيْنِ بلونَيْنِ أبيضَيْنِ ضِمْنَ التَّوَافُقِيَّةِ الثُّنَائِيَّةِ المُتَمَاثِلَةِ، (○○). تَتَجَسَّدُ اللحظةُ البرهانيةُ الثانيةُ هذِهِ تَجَسُّدًا إضماريًّا كَمِثْلِ آنِفَتِهَا تلك، إذن، فيمَا يُدْعَى اصطلاحًا أيضًا بـ«لحظةِ الإِدْرَاكِ» Comprehending Moment، لحظةٍ تحتوي على ذاتِ اللحظةِ البرهانيةِ الأولى آنِفَتِهَا تلك مُتَمَثِّلَةً في «لحظةِ الإِرْمَاقِ»، لأَنَّ كُلاًّ مِنَ المُسْنَدِ إِلَيْهِمَا الآخَرَيَنِ ذَوَيِ القرصَيْنِ الأبيضَيْنِ سَيَرَى أَمَامَهُ، على النَّقِيضِ المَاثِلِ، قرصًا أسودَ وقرصًا أبيضَ ضِمْنَ التَّوَافُقِيَّةِ الثُّنَائِيَّةِ المُتَغَايِرَةِ، (●○)، وسَيَعْلَمُ مِنْ ثَمَّةَ بِاليَقِينِ الكُلِّيِّ أَنَّ لونَ قرصِهِ أبيضُ استنادًا إلى تَرَدُّدِ شَبِيهِهِ الآخَرِ. وتبعًا لذلك، فَإِنَ المسندَ إليهِ الذي تُرْجِىءُ استنتاجَهُ (المُسْتَدَلَّ عليهِ منطقيًّا) سببيةٌ تبادليةٌ حِيَالَ تَبَنِّيهِ جَوَابَ الشَّرْطِ في البيانِ الشرطيِّ الامتناعيِّ المَعْنِيِّ إِنَّمَا يُوحِي إِيحَاءً إلى المسندِ إليهِ «اللامُعَرَّفِ» (أو حتَّى «اللامُسَمَّى»، بِقَدْرِ مَا يَعْنِيهِ الأَمْرُ كذلك) في صُورَةِ عِبَارةٍ تَعَاضُدِيَّةٍ لاتعريفيَّةٍ أو غُفْلِيَّةٍ، نَحْوَ: «يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ [لَدَى عِلْمِ الآخَرِ] أَنَّ...». وأَمَّا اللحظةُ البرهانيةُ الثالثةُ (في الأَخِيرِ لَا الآخِرِ)، فيُحَدِّدُهَا الاِستدلالُ المنطقيُّ الذي يَنْبَنِي على أسَاسِ تًجْسِيمِ التَّوَافُقِيَّةِ الثُّلَاثِيَّةِ الثالثةِ، (○○○)، على اعْتِبَارِهَا في المَحَلِّ هٰهُنَا بيانًا لاشرطيًّا إراديًّا وَاقِعًا أَصْلاً (بالخلافِ اللافتِ مِنْ آنِفَيْهِ) مُعَبَّرًا عنهُ كذاك بالتَّعْبِيرِ المُعْجَمِيِّ المُوَاتِي، نَحْوَ: «يُرِيدُ أَحَدُهُمْ أَنْ يُعْلِنَ أَنَّ لَوْنَ قُرْصِهِ أَبْيَضُ قَبْلَ أَنْ يُرِيدَ أَيٌّ مِنَ الشَّبِيهَيْنِ الآخَرَيْنِ أَنْ يُعْلِنَ أَنَّ لَوْنَ قُرْصِهِ أَبْيَضُ [بِالتَّشَابُهِ اللَّافِتِ]»: إِذْ يَدُلُّ البيانُ اللاشرطيُّ الإراديُّ الناشئُ، والمَآلُ هُنَا، على مَغْزَى «تَوْكِيدٍ حُكْمِيٍّ أو قَرَارِيٍّ» أو حتَّى على «أَصَالَةٍ منطقيةٍ»، نظرًا لاستمرَارِ ذاتِ اللحظةِ البرهانيةِ الثانيةِ سَابِقَتِهَا تلك مُتَجَسِّدَةً في «لحظةِ الإِدْرَاكِ» في ذلك الزَّمَنِ الذي تستغرقُهُ سَيْرُورَةُ التفكيرِ بالعَيْنِ. تَتَجَسَّمُ اللحظةُ البرهانيةُ الثالثةُ هذِهِ تَجَسُّمًا إضماريًّا كَمِثْلِ سَابِقَتِهَا تلك، إذن، فيمَا يُصْطَلَحُ عليهِ اصطلاحًا كذاك بـ«لحظةِ الاِسْتِنْتَاجِ» Concluding Moment، لحظةٍ تَتَأَوَّجُ في الاِستدلالِ المنطقيِّ الصَّحِيحِ على برهانِ المسألةِ المنطقيةِ بالذاتِ، لأَنَّ كُلاًّ مِنَ المُسْنَدِ إِلَيْهِمْ بِالثَّالُوثِ ذَوِي الأقراصِ الثلاثةِ البيضَاءِ ذَاتًا لَيْسَ لَهُ إِلاَّ أَنْ يستندَ بِحُكْمِهِ أو بِقَرَارِهِ إلى تَرَدُّدِ كُلٍّ مِنْ شَبِيْهَيْهِ الآخَرَيْنِ كذلك. وبناءً على ذلك، فَإِنَّ المسندَ إليهِ الذي يَتَبَنَّى البيانَ اللاشرطيَّ الإراديَّ المَعْنِيَّ بِكُلِّيَّتِهِ إِنَّمَا يُلَمِّحُ تَلْمِيحًا إلى المسندِ إليهِ «الشَّخْصِيِّ» في حَدِّ ذَاتِهِ، في غِرَارِ عِبَارَةٍ «أَنَوِيَّةٍ» تَفَرُّدِيَّةٍ أو تشخيصيَّةٍ، نَحْوَ: «أَعْلَمُ [عِلْمًا بِالأَنَا] أَنَّ...».
[انتهى القسم الأول من هذا المقال ويليه القسم الثاني]
_________
المراجع
Fink, Bruce (1995): The Lacanian Subject: Between Language and Jouissance. Princeton: Princeton University Press. Freud, Sigmund (1915): Instincts and Their Vicissitudes. Penguin Freud Library, vol. 11. Freud, Sigmund (1921): Group Psychology and the Analysis of the Ego. Penguin Freud Library, vol. 12. Freud, Sigmund (1923): Neurosis and Psychosis. Penguin Freud Library, vol. 10. Freud, Sigmund (1927): Fetishism. Penguin Freud Library, vol. 7. Freud, Sigmund (1938a): Splitting of the Ego in the Process of Defence. Penguin Freud Library, vol. 11. Freud, Sigmund (1938b): An Outline of Psychoanalysis. Penguin Freud Library, vol. 15. Jakobson, Roman (1957): Shifters, verbal categories, and the Russian verb. In his Selected Writings, vol. 2. The Hague: Mouton (1971: 130-147). Jesperson, Otto (1928): Language: Its Nature, Development, and Origin. Allen & Unwin. Lacan, Jacques (1955-6): The Seminar. Book III. The Psychoses. Trans. Russell Grigg. Routledge (1993). Lacan, Jacques (1960-1): Le Séminaire. Livre VIII. Le Transfert. Paris: Seuil. Lacan, Jacques (1964): The Seminar. Book XI. The Four Fundamental Concepts of Psychoanalysis. Trans. Alan Sheridan. Vintage (1998). Lacan, Jacques (1966a): Écrits: A Selection. Trans. Alan Sheridan. Routledge (1997). Lacan, Jacques (1966b): Écrits. Trans. Bruce Fink. Norton (2006). Lacan, Jacques (1975-6): Le Séminaire. Liver XXIII. Le Sinthome. Est. Jacques-Alain Miller, Ornicar?, vol. 6. El-Marzouk, Ghiath (2007): Identification. Damascus: Maaber. El-Marzouk, Ghiath (2007): التماهي [Identification]. Damascus: Maaber. El-Marzouk, Ghiath (2008): The ego. Damascus: Maaber. El-Marzouk, Ghiath (2008): الأنا [The ego]. Damascus: Maaber. Peirce, Charles Sanders (1932): Elements of Logic. In his Collected Papers, vol. 2. Cambridge: Harvard University Press.
***
الحواشي [1] را: المرزوق، 2008.
[2] را: المرزوق، 2007.
[3] لاحظي، هنا، أن مصطلح «المسند إليه» بوصفه تعميمًا أو حتى تجريدًا إنما يشير إلى معنى تضمينه «الشمولي» Universal، على سبيل الحصر. لهذا السبب، ينحو فحوى المصطلح نحو الدلالة المُثلى على كينونة نفسانية لا مِساسَ لها بأيٍّ من معاني الإسنادات المتناهية بالعين لذلك الشخص المفرد والمحدَّد – أي الطفل أو المريض في إطار معناه «اللانوعي» أو «اللاجنسي» Nongeneric. فثمَّة وجه تشابه بين معنى التضمين الشمولي هذا وبين معنى فكرة «العمومية» Generality عند لاكان فيما يبدو، تلك الفكرة التي تتبدَّى معنًى بمعية فكرة «الجمعية» Collectivity بالذات على طرفي نقيض، وعلى الأخصِّ فيما يتعلَّق بمفهومها المنطقي. يقول لاكان في هذا الصدد: «تُعرَّف [فكرة] الجمعية على أنها زمرة تشكِّلها علائقُ التبادل بين عددٍ متناهٍ من الأفراد – على النقيض من تعريف [فكرة] العمومية باعتبارها فئةً تتضمَّن عددًا لامتناهيًا من الأفراد، على نحو مجرَّد» (قا: لاكان، 1966 ب، ص 174). وهكذا، فإن تلميح لاكان غير المباشر إلى ما يُسمَّى عمومًا بـ«علم النفس الجَمْعِي» Collective Psychology إنما يذكِّر بتنظير فرويد عن فحواء ما يُدعى خصوصًا بـ«علم النفس الزُّمَرِي» Group Psychology، ذلك العلم الذي يصبُّ جامَ اهتمامه على كيفية تكوين النفسانية الجمعية لزمرة ما على أساس جملةٍ من تغيُّرات أو تبدُّلات تطرأ على النفسانيات الفردية لأعضاء تلك الزمرة – على الخلافِ من تنظير لو بون حيث يضع التوكيد، بدوره، على ذلك «التغيُّر [النفساني] الذي يخضع له الفرد إبان كونه [عضوًا] في زمرةٍ من الزُّمَر» (قا: فرويد، 1921، ص 99).
[4] قا: فرويد، 1915، ص 131.
[5] قا: لاكان، 6- 1975.
[6] قا: لاكان، 1966 ب، ص 161 وما يتبعها.
[7] قا: لاكان، 1966 ب، ص 162.
[8] من الحَرِيِّ بالذكر، في هذا السياق التأثيلي، أن الصيغة الاسمية Aporia والصيغة النعتية Aporetic في اللغة الإنكليزية قد تمَّ اشتقاقهما في القرن السادس عشر من أصل دفين في اللغة اليونانية، ذلك الأصل الذي يعني بحرفيته «الأرض غير السالكة» أو حتى «الطريق المسدودة»، والذي يعني بمجازيته «حالة نفسانية ينتابها الارتياب أو التحيُّر أو حتى كلاهما». لهذا السبب، عُمد في هذا المقال البحثي إلى اختيار الصيغة الاسمية «تَيْهَاء» والصيغة النعتية «تَيْهَائي»، أو «تَيْهَاوي»، في اللغة العربية – نظرًا لكون الاشتقاقين كليهما دفينين كذلك، من ناحية أولى، ونظرا لكونهما كذلك يضمران كلاًّ من المعنيين الحرفي والمجازي للأصل في اللغة اليونانية على أقلِّ تقديرٍ، من ناحية ثانية. ومن القمين بالذكر، فضلا عن ذلك، أن الأصل اليوناني بمعناه المجازي، على وجه التحديد، كان قد اكتسب أهمية اصطلاحية فيما يتعلق بالفلسفة القديمة أصلاً (كفلسفة اليونان في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد)، فكان يشير بالتالي إلى ذينك الارتياب والتحيُّر اللذين ينجمان عن طرح بعض المسائل والقضايا دون الإدلاء ببراهين أو حلول لها، كما هي الحال في منهج سقراط (470-399 ق.م.) الذي كان يُعرف، لهذه المدعاةِ، بـ«المنهج التيهائي» Aporetic Method. ثم اكتسب الأصل اليوناني بمعناه المجازي، علاوةً على ذلك، أهميةً اصطلاحيةً أكبرَ فيما يخصُّ الفلسفة الحديثة فصلاً (كفلسفة فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين)، فصار يوحي إلى صراعٍ شواشيٍّ لا مَحِيصَ عنه بين ميدانَي «البلاغة» Rhetoric و«المنطق» Logic، صراعٍ مَتاهيٍّ تؤرِّثه كمونياتٌ عَصِيَّة من الفجوات الدلالية في النص (سواء كان هذا النص مكتوبًا أم مَقولاً)، فتؤجِّجه من ثَمَّ تجلياتٌ عفوية من التناقض الذاتي أو من حوائلَ توتُّريةٍ بين ما يعنيه النص طوعًا، من جهةٍ أولى، وبين ما يعنيه النص قسرًا، من جهةٍ أخرى، كما هي الحالة في أشكال القراءات المتعدَّدة لتيَّارِ «ما بعد البنيوية» Post-Structuralism عند رولان بارت (1915-1980) وميشيل فوكو (1926-1984) وجاك دريدا (1930-2004)، وغيرهم.
[9] حتى هذه النقطة بالذات، لقد تمَّ التنويه إلى ثلاثةِ أنواعٍ من «الدَّالِّ» Signifier متميِّزةٍ مبنًى ومعنًى، يمكن عرضُها من جديدٍ هٰهنا، على أمل أن يسهم هذا العرض في إنعاش الذاكرة ذاتًا، وذلك بمثابة تمهيد مفهومي لمقال بحثيٍّ لاحق عن ماهيتَي الدَّالِّ اللسانية والنفسانية، على وجه التحديد. كما سبق أن شُرح في مقال بحثيٍّ آنفٍ، يقوم «المتماهِي» Identifier، إبان تخلُّل العكس الفعلي لإواليةِ عقدة أوديب، يقوم بـ«دمج» نفسه في سمة خاصَّة مُفرَدة من سمات «المتماهَى فيهِ» Identified ليس إلا، كما هي الحال في البنت الشابة دورا التي كانت تحاكي إصابة أبيها بالنزلة الشُّعَبية المعذِّبة. ففي الممارسة الفعلية للتحليل النفسي، يجري النظر إلى السمة الخاصَّة المُفرَدة هذه على أنها «دَالٌّ» تمَّ إشرابه، بعدئذٍ، تحت تأثير «التماهي الرمزي»، ليدلَّ في نهاية المطاف على «التماهي في العَرَض». يتبيَّن، إذن، أن أول نوع من أنواع الدَّالِّ الذي أُشيرَ إليه في ذلك المقال البحثيِّ هو ما سُمِّي إذَّاك بـ«الدَّالِّ العَرَضيِّ» Symptomatic Signifier (أي عَرَض النزلة الشُّعَبية نفسها). على الخلاف من ذلك، فإن الشكلَ الأكثرَ بدائيةً للتحقُّق الانعكاسيِّ للذات، ذلك الشكلَ الذي يدركه الطفل ويستوعبه حين يرى صورته في المرآة للمرَّة الأولى، لَيَجْرِي النظر إليه بالمآلِ على أنه «دَالٌّ» كذلك، دالٌّ تمَّ إشرابه، والحال هنا، تحت تأثير «التماهي الخيالي»، بدلاً من «التماهي الرمزي»، لكيما يدلَّ في بداية المطاف على «التماهي في الصورة المقدَّسة للذات» – أي «الأمَجِية (المرئية)» Imago، في طور المرآة تحديدا (را: المرزوق، 2007). يتَّضح، إذن، أن ثانيَ نوع من أنواع الدَّالِّ الذي أُشيرَ إليه في المقال البحثيِّ الآنف هو ما دُعي حينذاك بـ«الدَّالِّ المرآويِّ» Specular Signifier (أي مرأى الأمَجِية (المرئية) عينها)، وأن النوع الثالث الذي تمَّ ذكره في النصِّ من هذا المقال البحثيِّ، حتى تلك النقطة، هو ما عُرِّف باسم «الدَّالِّ التَّيْهَائِيِّ» Aporetic Signifier (أي أثر الحركة المُرْجَأَة ذاتها). ولٰكنْ، يتَّضح هٰهنا، أيضًا، أن كلاًّ من أنواع الدَّالِّ الثلاثةِ هذه إن هو إلاَّ دَالٌّ يؤدِّي عمله النفسانيَّ خارجَ النطاق المحدَّد للغة الإنسانية، سواءً كان الدَّالُّ المَعْنِيُّ عَرَضيًّا أم مرآويًّا أم حتى تَيْهَائيًّا. لهذا السبب، سيُعمد إلى تصنيف الأنواع الثلاثة تلك تحت ما يُمكن اقتراحه الآن مُسَمًّى شَاملاً بـ«الدَّوَالِّ الدُّونَ-لغوية» Extralinguistic Signifiers – على النقيض الكامل مِمَّا يُمكن اقتراحه كذاك مُسَمًّى شَاملاً مقابلاً بـ«الدَّوَالِّ الضِّمْنَ-لغوية» Intralinguistic Signifiers، تلك الدَّوَالِّ التي تؤدِّي أعمالَها النفسانيةَ داخلَ النطاق المحدَّد للغة الإنسانية، كما سيتمُّ تفصيله في مقال بحثيٍّ لاحق.
*** *** ***
دبلن (إيرلندا)، لندن (إنكلترا) 19 آذار 2023
#غياث_المرزوق (هاشتاغ)
Ghiath_El_Marzouk#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يَاْ نِسَاْءَ ٱلْعَاْلَمِ ٱتَّحِدْنَ (8)
-
وَمَا قَبْلَ ذَيْنِكَ ٱلْجَحِيمَيْنِ حَوْلٌ: «بَائِنُ
...
-
وَمَا قَبْلَ ذَيْنِكَ ٱلْجَحِيمَيْنِ حَوْلٌ: «بَائِنُ &
...
-
وَمَا قَبْلَ ذَيْنِكَ ٱلْجَحِيمَيْنِ حَوْلٌ: «بَائِنُ &
...
-
وَمَا قَبْلَ ذَيْنِكَ ٱلْجَحِيمَيْنِ حَوْلٌ: «بَيْنُ &
...
-
وَمَا قَبْلَ ذَيْنِكَ ٱلْجَحِيمَيْنِ حَوْلٌ: «بَيْنُ
...
-
وَمَا قَبْلَ ذَيْنِكَ ٱلْجَحِيمَيْنِ حَوْلٌ: «بَيْنُ
...
-
وَمَا قَبْلَ ذَيْنِكَ ٱلْجَحِيمَيْنِ حَوْلٌ: «بَيْنُ
...
-
وَمَشَاهِيدُ مِنَ ٱلْجَحِيمِ ٱلْفُرَاتِيِّ: «مَشْه
...
-
وَمَشَاهِيدُ مِنَ ٱلْجَحِيمِ ٱلْفُرَاتِيِّ: «مَش
...
-
وَمَشَاهِيدُ مِنَ ٱلْجَحِيمِ ٱلْفُرَاتِيِّ: «مَش
...
-
وَمَشَاهِيدُ مِنَ ٱلْجَحِيمِ ٱلْفُرَاتِيِّ: «مَش
...
-
وَمَشَاهِيدُ مِنَ ٱلْجَحِيمِ ٱلْفُرَاتِيِّ: «مَش
...
-
مَشَاهِدُ مِنَ ٱلْجَحِيمِ ٱلْدِّمَشْقِيِّ: «مَشْهَ
...
-
مَشَاهِدُ مِنَ ٱلْجَحِيمِ ٱلْدِّمَشْقِيِّ: «مَشْ
...
-
مَشَاهِدُ مِنَ ٱلْجَحِيمِ ٱلْدِّمَشْقِيِّ: «مَشْ
...
-
مَشَاهِدُ مِنَ ٱلْجَحِيمِ ٱلْدِّمَشْقِيِّ: «مَشْهَ
...
-
يَاْ نِسَاْءَ ٱلْعَاْلَمِ ٱتَّحِدْنَ (7)
-
اِشْتِكَالُ ٱلْمَنْظِمِ ٱلْإِدْرَائِيِّ: بَيْنَ
...
-
اِشْتِكَالُ ٱلْمَنْظِمِ ٱلْإِدْرَائِيِّ: بَيْنَ
...
المزيد.....
-
هل هذا أغرب فندق في العالم؟ نظرة على “أكبر مبنى يتخذ شكل دجا
...
-
تزامنا مع سقوط الأسد.. إسرائيل تأمر جيشها بإنشاء منطقة آمنة
...
-
سقط نظام بشار الأسد.. فما الذي ينتظر سوريا بعد ذلك؟
-
مصر.. اتهام محمد رمضان بإهانة السادات والبرلمان يتحرك
-
كوريا الجنوبية تفرض حظر سفر على رئيسها على خلفية التحقيق حو
...
-
-سقط الأبد-...عهد جديد في سوريا والعالم يترقب
-
خبير: مستقبل سوريا غير واضح والفراغ السياسي سيترك مجالا لنمو
...
-
الخارجية الإندونيسية تعلن استهداف سفارتها في دمشق بإطلاق للن
...
-
ترامب يستخدم صورة جيل بايدن لبيع عطوره
-
إسرائيل تعلن إنشاء منطقة أمنية إضافية على الجانب السوري من ج
...
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|