أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين - العدد 64 من «كراسات ملف»: «اتفاقات أبراهام» ومعضلة اندماج إسرائيل في المنطقة















المزيد.....



العدد 64 من «كراسات ملف»: «اتفاقات أبراهام» ومعضلة اندماج إسرائيل في المنطقة


الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين

الحوار المتمدن-العدد: 7545 - 2023 / 3 / 9 - 13:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


■ صدر عن المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات/ «ملف»،العدد 64 من «كراسات ملف»، وهو بعنوان: «اتفاقات أبراهام» ومعضلة اندماج إسرائيل في المنطقة. يتضمن الكراس دراسة أعدها الزميل فيصل علوش، الباحث في مركز «ملف». تتناول الدراسة مسار التطبيع العربي الرسمي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي كما عبرت عنه «اتفاقات أبراهام»، التي تم توقيعها رسمياً بدءاً من منتصف شهر أيلول /2020، وشملت كلاً من : الإمارات والبحرين والمغرب والسودان.
وتوضح الدراسة أن « التوقيع على اتفاقات أبراهام شكلت خروجاً صريحاً على «مبادرة السلام العربية»، التي ربطت أي اعترافٍ عربي بإسرائيل وإنشاء علاقات طبيعية معها، بانسحابها الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، عاصمتها القدس الشرقية. وبينت الدراسة أن هذه الاتفاقات تتنكر تماماً لفلسطين ولمسألة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ووقف الاستيطان، وأنه لم يرد فيها أي بند يتضمن التزام إسرائيل بوقف ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة».
وتظهر الدراسة صدمة قيادات الدولة العبرية بعدما لمست بشكل ميداني أنّ الموقف الرافض للاحتلال الصهيوني لفلسطين، يحتلّ وجدان الشارع العربي، وأنه من الغباء التفكير أنّ العالم العربي سيتجاهل القضية الفلسطينية.
وحول مسعى إسرائيل للاندماج في المنطقة من خلال تعميم هذه الاتفاقات، تخلص الدراسة إلى أن معضلة إسرائيل تكمن في بنية وطبيعة الكيان الذي أنشأته بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف تطور بعد ذلك، أي ككيان قام على فرض عناصر القوة والغلبة والإكراه، واغتصاب حقوق الفلسطينيين والدول العربية المجاورة، وعدم الاعتراف والاستجابة لقوانين الشرعية والدولية، وهو ما حال سابقاً، وسيبقى يحول مستقبلاً، دون قبوله واندماجه في المنظومة الإقليمية، لأنه كيان استعماري استيطاني توسعي، يكرس نفسه كنظام فصل عنصري»■

المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات/ «ملف»
9/3/2023




المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات
«ملف»





«اتفاقات أبراهام»:
معضلة اندماج إسرائيل في المنطقة



فيصل علّوش

باحث في مركز«ملف»









سلسلة «كراسات ملف»
العدد الرابع والستون ــ أوائل آذار(مارس) 2023











































المحتويات



■ مقدمة
■ تمهيد
1 ـ نقطة تحول فاصلة
2 ــ شرق أوسط متغيّر
3 ـ بدايات التطبيع
4 ـ «الحقبة النفطية»
5 ـ المسار الإقليمي لـ«خطة ترامب»
6 ـ تعاون إقليمي على حساب فلسطين
7 ـ التطبيع بين الإمارات وإسرائيل
8 ـ التطبيع مع البحرين و«الضوء الأخضر»السعودي
9ـ تطبيع المغرب مع إسرائيل
10ـ التطبيع مع السودان













مقدمة
■ يتضمن هذا الكراس دراسة أعدها الزميل فيصل علوش، الباحث في مركز «ملف». تتناول الدراسة مسار التطبيع العربي الرسمي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي كما عبرت عنه «اتفاقات أبراهام»، التي تم توقيعها رسمياً بدءاً من منتصف شهر أيلول /2020، وشملت كلاً من : الإمارات والبحرين والمغرب والسودان.
توضح الدراسة أن « التوقيع على اتفاقات أبراهام شكلت خروجاً صريحاً على «مبادرة السلام العربية»، التي ربطت أي اعترافٍ عربي بإسرائيل وإنشاء علاقات طبيعية معها، بانسحابها الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، عاصمتها القدس الشرقية. وبينت الدراسة أن هذه الاتفاقات تتنكر تماماً لفلسطين ولمسألة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ووقف الاستيطان، وأنه لم يرد فيها أي بند يتضمن التزام إسرائيل بوقف ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة».
وتظهر الدراسة صدمة قيادات الدولة العبرية بعدما لمست بشكل ميداني أنّ الموقف الرافض للاحتلال الصهيوني لفلسطين، يحتلّ وجدان الشارع العربي، وأنه من الغباء التفكير أنّ العالم العربي سيتجاهل القضية الفلسطينية.
وحول مسعى إسرائيل للاندماج في المنطقة من خلال تعميم هذه الاتفاقات، تخلص الدراسة إلى أن معضلة إسرائيل تكمن في بنية وطبيعة الكيان الذي أنشأته بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف تطور بعد ذلك، أي ككيان قام على فرض عناصر القوة والغلبة والإكراه، واغتصاب حقوق الفلسطينيين والدول العربية المجاورة، وعدم الاعتراف والاستجابة لقوانين الشرعية والدولية، وهو ما حال سابقاً، وسيبقى يحول مستقبلاً، دون قبوله واندماجه في المنظومة الإقليمية، لأنه كيان استعماري استيطاني توسعي، يكرس نفسه كنظام فصل عنصري»■


المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات/ «ملف»


































تمهيد
■ تمّ الإعلان عن اتفاقية التطبيع بين إسرائيل ودولة الإمارات، في 13 آب (أغسطس) 2020. وبعد أقلّ من شهر، أُعلن عن اتفاقية مماثلة مع البحرين، وتم توقيع الاتفاقيتين معاً، تحت اسم «اتفاقات أبراهام» في واشنطن برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب ــ 15 /9/2020، وانضم إليهما لاحقا السودان والمغرب، قبل أن يتوقف قطار التطبيع، ربما بانتظار إقلاع جديد له.
وسعى تقرير نشره «معهد أبحاث الأمن القومي» في جامعة تل أبيب، وأعدّه كل من مئير بن شبات وديفيد أهرونسون، اللذين كان لهما دور في عقد هذه الاتفاقيات، إلى الترويج لها وتسليط الضوء على الانجازات التي تحققت خلال العامين الأولين من عمرها، في وقت رأت فيه بعض التقارير الإسرائيلية، التي صدرت مؤخراً، أن خطوات التطبيع التي أقدمت عليها إسرائيل لم تأت بالمأمول منها من ناحية المكاسب المادية والاقتصادية.
وركّز التقرير كذلك على التحديات، التي ما زالت تواجهها تلك الاتفاقات، مشيراً إلى المجالات التي لا بدّ لإسرائيل من الالتفات إليها لتعزيز التعاون والتنسيق بينها وبين دول التطبيع، بما يعود بالفائدة عليها ليس من ناحية اقتصادية فقط، وإنما أيضاً من ناحية تبييض صورتها في الإقليم وتطبيع وجودها فيه، على الرغم من سياستها الاستعمارية وممارساتها القمعية تجاه الفلسطينيين.
وخلال عامين من عمر هذه الاتفاقات، أقامت إسرائيل تمثيلاً دبلوماسياً لها في الدول المُطبّعة حديثاً، إلى جانب تشغيل خطوط طيران وتسيير رحلات جوية مباشرة بين تل أبيب وأبو ظبي ودبي والمنامة والدار البيضاء ومراكش، وتم التوقيع على اتفاقات تعاون كثيرة ومتنوعة مع تلك العواصم. وأسفر ذلك عن زيادة كبيرة في ميزان التبادل التجاري بين إسرائيل وتلك الدول، بما في ذلك استثمارات مباشرة في قطاعات إنتاجية وخدمية مختلفة.
ويذكر معدّا التقرير أنّ «التجارة الثنائية بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة بلغت 1.407 مليار دولار في الأشهر السبعة الأولى من عام 2022، متجاوزة مبلغ الـ 1.221 مليار دولار من التجارة المسجلة بين البلدين عام 2021 بأكمله»، استناداً إلى دراسة نشرها «معهد اتفاقات إبراهام للسلام». بيد أنّ النجاح الأكبر للاتفاقات، حسب التقرير، كان في المجال الأمني؛ حيث تم التوقيع على حزمة من الاتفاقيات والتفاهمات ذات الطابع الأمني- العسكري، تخللها زيارة رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي لتلك الدول، وإجراء مناورات عسكرية مشتركة معها.
وتطرّق التقرير إلى مرحلة ما بعد ترامب، الذي كان مُشجّعاً وراعياً لهذه الاتفاقيات، حيث تبنّتها الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن، وعملت على عقد «قمة النقب» في آذار (مارس) 2022، التي شارك
فيها وزراء خارجية الدول الموقعة على الاتفاقيات إلى جانب مصر. وفتحت بعدها السعودية مجالها الجوي أمام الطيران المدني الإسرائيلي. لكنْ، ومنذ خسارة ترامب للانتخابات، ومن ثم خسارة نتنياهو وانتقاله
للمعارضة منتصف عام 2021، لم تُضَف أي دولة عربية إلى قائمة التطبيع مع إسرائيل.
ويُشير التقرير إلى أن انتهاء المقاطعة الاقتصادية التي كانت مفروضة من قِبَل دول الخليج على إسرائيل،
يمكن أن يُشكّل فرصة لفتح طريق تجاري برّي، يُسهم في تعزيز التبادل التجاري بين إسرائيل والدول الخليجية، أو حتى بين الدول الأوروبية ودول الخليج عبر إسرائيل، وبالتالي تحقيق الأرباح الاقتصادية لكافة الأطراف.
ويُشير كذلك إلى أن تعزيز المشاريع الإقليمية بين إسرائيل ومصر ودول الخليج من شأنه حلّ بعض المشاكل الأساسية لقطاع غزة في مجال البنية التحتية والاقتصاد،(من دون أن يزيد في المخاطر الأمنية على إسرائيل). ويتطرّق التقرير أيضاً إلى الأزمة الأوكرانية وما تسبّبت به من نقص في مصادر الطاقة، ويرى أن دول الخليج إضافة إلى إسرائيل، يمكن أن تتحول إلى مصدر للطاقة (النفط والغاز)، لا سيّما وأن الدول الأوروبية باتت تبحث عن مصادر بديلة للطاقة.
ويقترح مُعدّا التقرير أن يتم الاستفادة من الخبرات والتكنولوجيا الزراعية الإسرائيلية في استغلال المساحات الواسعة من أراضي السودان والمغرب، للإسهام في خلق مصادر بديلة للقمح في العالم. ويُشير التقرير إلى أن الخبرات الإسرائيلية في مجال تحلية المياه من الممكن أن يتم استغلالها لتطوير العلاقات مع دول التطبيع للتغلّب على مشاكل المياه الموجودة فيها.
كما يقترح تعزيز التبادل الطلابي والورشات الثقافية المشتركة بين إسرائيل ودول التطبيع، ليس على الصعيد الرسمي فقط، وإنما أيضاً على الصعيد الشعبي والجماهيري، من أجل «خلق رأي عام شعبي مُساند للتطبيع للحفاظ على العلاقات مع إسرائيل في مختلف الظروف».[عبد القادر بدوي/«مدار» ـ 22/8/2022،«تقرير إسرائيلي جديد يقرأ «اتفاقيات أبراهام» بعد عامين على عقدها.. ما الذي تحقّق؟ وكيف يُمكن تطويرها؟»].
(1)
نقطة تحول فاصلة
■ مثّل التوقيع على اتفاقات أبراهام خروجاً صريحاً على «مبادرة السلام العربية»، التي ربطت أي اعترافٍ عربي بإسرائيل وإنشاء علاقات طبيعية معها، بانسحابها الكامل من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، وقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، عاصمتها القدس الشرقية. في حين أنّ الاتفاقات الإبراهيمية تتنكر تماماً لفلسطين ولمسألة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية ووقف الاستيطان، ولم يرد فيها أي بند يتضمن التزام إسرائيل بوقف ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو حتى تأجيله،عكس ما حاولوا الترويج.
ومع ذلك، فإن تلك الاتفاقات تمثل نقطة تحوّل فاصلة في سياسات المنطقة، وربما في تاريخها، كونها تعكس مدى التغيرات البنيوية العميقة التي شهدتها في العقود الماضية، والتي أفضت إلى تراجع الاهتمام العربي عامة بالقضية الفلسطينية، وكان من أبلغ مؤشراته موقف الجامعة العربية من الاتفاق «الابراهيمي»، الذي اعتبرته «قراراً سيادياً لدولة عربية، لن تتدخل فيه»، في حين أنها سارعت إلى قطع علاقاتها مع «مصر السادات»، بعد توقيعها على «كامب ديفيد» عام 1979. وأقلّ ما يقال في هذا الشأن، أنّ دوافع ومصالح العواصم التي وقعت على الاتفاق تقدّمت على الشأن الفلسطيني، ولقي ذلك في الوقت عينه، «تفهماً» من قبل المنظومة العربية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الأهداف المعلنة للاتفاق تُفصح عن حقيقة الرهانات المُعلّقة عليه، فهو يجري ضمن أفق التطلع إلى إدماج إسرائيل في منظومة إقليمية جديدة للمنطقة. ولذلك نلاحظ كيف يُقدّم أحد مهندسي الاتفاق، (شابات)، في التقرير المشار إليه أعلاه، حزمة من المقترحات والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن أن تجد ترجمة عملية لها إلا إذا بات الوجود الإسرائيلي مقبولاً في المنطقة، وجزءاً لا يتجزأ منها، هذا إذا لم نقل في موقع القيادة الفعلية لها، بالاستناد إلى عناصر القوة الاقتصادية والعسكرية النوعية التي تتمتع بها إسرائيل، إضافة إلى تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة الذي يضمن لها امتيازات عدة أهمها؛ تفوّقها العسكري الدائم على جيرانها في المنطقة، في ظلّ قانون صادر عن الكونغرس يُلزم أيّ إدارة أميركية بأن تحافظ على هذا التفوّق ولا تُخلّ به.
وفي هذا الصدد، رأى محللون أنّ قمة النقب السداسية، تندرج في إطار العمل من أجل تكريس «عهد جديد» في العلاقات بالمنطقة، البند الأبرز فيه يتمثل في حضور إسرائيل وتأثيرها الإقليمي، وذلك من خلال تدشين تحالف إقليمي عربي، تكون إسرائيل المحور الأساسي الفاعل والقائد فيه، اقتصاديا وعسكريا، وتحت إشراف الولايات المتحدة طبعاً، على أساس «التصدي لتهديدات إيران في المنطقة».
التحول الهام والنوعي إذن، هو تحول إسرائيل من دولة منبوذة في المنطقة إلى حليف لعدد من الدول العربية. علماً أن إسرائيل لطالما أولت قضية إقامةَ علاقاتٍ طبيعية مع الدول العربية أهميةً قصوى، وعملت ما بوسعها على تطبيع علاقاتها وتعزيزها مع هذه الدول، ولكنها أرادت لتلك العلاقات أن تعطي شرعية لسطوها المسلح على فلسطين، وأن لا تمنعها، في الوقت نفسه، من تعزيز الاستيطان والتهويد. ولذلك، رفضت مبدأ «الأرض مقابل السلام»، الذي نادت به مبادرة السلام العربية ، واستعاضت عنه بمبدأ «السلام مقابل السلام»، من منطلق إدراكها أنّ تطبيع العلاقات وعقد اتفاقيات سلام مع الدول العربية، قبل التوصل إلى حل القضية الفلسطينية، سينزع أحد أهم عناصر القوة من الفلسطينيين ويعزلهم عن عُمقهم العربي، ويسهّل عليها التفرُّد بهم وفرض الاستسلام عليهم.
وكانت إسرائيل وقعت مع مصر على معاهدة «كامب ديفيد» عام 1978،(على نحو منفرد ومن دون اشتراط حل القضية الفلسطينية)، ووقعت كذلك مع منظمة التحرير الفلسطينية على «اتفاق أوسلو» عام 1993، وعلى اتفاق «وادي عربة» مع الأردن عام 1994، بيد أنّ ذلك كله لم يُفضِ إلى حلّ القضية الفلسطينية،(أساس الصراع مع الصهيونية)، بل لقد زادت إسرائيل من تطرّفها ومن ممارساتها العنصرية والاستيطانية التوسعية، بهدف ضم أكبر مساحةٍ ممكنة من الأراضي الفلسطينية المحتلة. لذلك، وعلى رغم تلك الاتفاقات الموقعة، ظلت إسرائيل على مدار العقود السابقة في موقع الدولة العدوة المغتصبة للحقوق العربية، وبقي الموقف العربي، (أقلّه المُعلن عنه)، متمسّكا برفض تطبيع العلاقات معها قبل التوصل إلى حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية.


(2)
شرق أوسط متغيّر
■ أثرت تطورات إقليمية ودولية كثيرة على معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، على نحو أضحى فيه التطبيع بمثابة نتيجة وصيرورة طبيعية لعملية التحول العميقة في المصالح والتحالفات، التي شهدها العالم العربي في العقود الأخيرة، وما ترتب عليها من توجهات جديدة للسلطات العربية المسيطرة، بحيث أصبحت إسرائيل لاعباً مرحّباً به، «بدل أن تكون هي العدو المنبوذ»!، وبات لسان حال الكثير من العواصم الخليجية والعربية يُردّد: «لقد ولّى زمن الصراع مع إسرائيل، وأضحى هناك أخطار وأولويات أخرى»، بل وباتت إسرائيل هي «فرس الرهان» في مواجهة هذه الأخطار!
وقد حضر «الخطر الإيراني» بوصفه «قاسماً مشتركاً» بين تلك الدول وإسرائيل، وهو ما شجّع تلك العواصم، التي كانت تقيم في الأصل علاقات سرية مع إسرائيل، (أشبه بـ«زواج عرفي»، كما وصفها كثيرون)، إلى الإقدام على خطوة نقل تلك العلاقات إلى العلن وإشهارها على الملأ، وما رافق ذلك من «همروجة» حفلات التطبيع، التي لم تكن أكثر من تثبيت ذلك الزواج العرفي من دون أي حرج!.
وعليه، فإنّ الأطراف التي هرولت خلف إسرائيل، (وخصوصاً الخليجية منها)، من أجل التطبيع العلني معها، بدت مدفوعة باحتياجاتها ومصالحها المباشرة، أكثر مما هي مدفوعة بتصورات ورؤى استراتيجية وعقلانية لحلول مقبولة وقابلة للحياة للصراعات القائمة في المنطقة. كلّ ذلك في مرحلة (عربية وإقليمية وعالمية) طابعها العام أنها «انتقالية»، يحيط بها الكثير من الغموض والقلق والخوف.
ولعلّه ذو مغزى، في هذا الصدد، ما نقلته مراسلة صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، نوعا لانداو، (قبل ساعات من توقيع الاتفاقات في حديقة البيت الأبيض(15/9/ 2020)، من أنّ وزير خارجية البحرين لم يكن يعرف ماذا تتضمن بالضبط الوثيقة التي سيوقعها، والتي يبدو أنّ ترامب ونتنياهو قد أعدّاها سلفاً وعلى عجل، ليأتي هو ويوقع عليها فحسب!
وغير بعيد عن ذلك، ما لاحظه كثيرون من أنّ الدول الخليجية المُطبّعة لا تبغي التطبيع فقط، بل تأمل أن تنخرط في «تحالف استراتيجي»، بأبعاد اقتصادية وعسكرية وأمنية متعدّدة، مع إسرائيل لعلّها تشكل حليفاً و«ظهيراً إقليمياً» لها في مواجهة إيران والجماعات التي تُصنّف أميركياً على أنها إرهابية ومتطرّفة، في وقت نصّ فيه الاتفاق على «تعهد أطرافه بعدم الدخول في أي التزام يتعارض معه».
وعلى رغم ما ورد في نصّ الاتفاق أبراهام، بشأن إبداء استعداد الأطراف الموقعة للانضمام إلى الولايات المتحدة لتطوير وإطلاق «أجندة استراتيجية للشرق الأوسط»، من أجل توسيع العلاقات الدبلوماسية والتجارية وغيرها من أشكال التعاون الإقليمي، إلا أنّ ثمة من ذهب إلى حدّ اعتبار الاتفاق بمثابة تحوّط من قبل قادة الخليج، ضد احتمال فك الارتباط الأميركي بالمنطقة، وذلك عبر سعيهم إلى «علاقة أمنية استراتيجية» مع إحدى القوى الإقليمية العظمى في المنطقة، وهي إسرائيل.
كل ذلك بالتزامن مع درجة عالية من الفساد السياسي والإداري والمالي و الأخلاقي في الدول العربية عامة، بحيث بات الهم اليومي للمواطن هو تلبية احتياجاته المادية والمعيشية الضاغطة، أما الاحتجاج على توقيع اتفاقات استسلام مذلّة مع إسرائيل، فصار شيئاً من الترف لا يملك المواطن العربي الوقت أو القدرة على ممارسته. والحال، فإنّ السؤال المهم الذي يجدر طرحه هو؛ كيف تغيرت المنطقة على نحو أصبحت فيه «اتفاقات أبراهام» ممكنة؟ آخذين بعين الاعتبار، طبعاً، أنّ هذا التغيير لم يحدث بين ليلة وضحاها.
في مقال له بعنوان«اتفاقيات إبراهيم والمعالم المتغيرة للشرق الأوسط»، نشره في موقع «معهد واشنطن: 2 تموز/ يوليو 2022»، يشدّد دنيس روس (المفاوض الأمريكي الرئيسي في أوسلو، وما رافقه من مفاوضات عربية ـ إسرائيلية)، على الدور الذي لعبته اتفاقات أوسلو في تغيير ما يسميه «السياق السائد بالنسبة للدول العربية (السنّية)»، التي صار لسان حالها يقول: «إذا تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية من التعامل مع إسرائيل، فلمَ لا تتعاون هذه الدول مع إسرائيل أيضاً؟!».
ويشير روس إلى قيامه بالتحضير لعدد من «الاجتماعات السرية بين مسؤولين إسرائيليين ونظرائهم في دول الخليج خلال تسعينيات القرن الماضي، تمحورت معظمها حول التعاون الأمني وتطوير العلاقات والاتصالات الاستخباراتية مع جهاز الموساد الإسرائيلي»، وهو الأمر الذي يقول إنه اتسع نطاقه فيما بعد، وخصوصاً مع تنامي التهديد الذي تطرحه إيران بالنسبة لهذه الدول. ويشير أيضاً، في هذا السياق، إلى أنّ وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، كوندوليزا رايس، اكتشفت هذه التطورات في عام 2007، عندما قررت إطلاق مبادرة طموحة لحل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، وفكرت بعرضها أولاً على قادة البلدان الخليجية، متوقعة منهم تبنّيها وتأييدها بالكامل. ولدهشتها، فقد «أبدى القادة الخليجيون اهتماماً ضئيلاً بمبادرتها، وبدلاً من ذلك أوضحوا أن لديهم ثلاث أولويات: «إيران ثم إيران ثم إيران»، وهي الأولوية ذاتها التي شاركتهم بها إسرائيل، ما ساهم بتعميق التعاون في المجال الأمني بينهما، كما يقول روس.
ويلفت روس إلى تجربة حصلت معه شخصياً و«أثبتت بشكل واضح تقارب المصالح بين إسرائيل وإحدى الدول الخليجية». ففي شباط(فبراير) 2009، طلب السفير الإماراتي لدى الولايات المتحدة، يوسف العتيبة، مقابلته بشكل غير رسمي، للتحدث بشأن المقاربة التي ستنتهجها إدارة أوباما إزاء إيران. وعندما جاء روس للاجتماع به في جناحه في فندق «ريتز كارلتون»، فوجئ الأخير بوجود السفير الإسرائيلي، سالاي ميريدور، إلى جانب العتيبة. ويضيف روس بأنه فهم من الموقف، ومن دون التفوه بكلمة واحدة، أن «البلدين يتشاركان وجهة نظر واحدة فيما يتعلق بإيران، وعلى الإدارة الأمريكية أن تدرك أنهما يتعاونان معاً في هذا الشأن».
ونظراً إلى الإمكانات التي باستطاعة إسرائيل تقديمها للعالم، كما يضيف روس، بدأت دول مثل الإمارات والبحرين في الانتقال من التعاون السري إلى العلني، حيث دعت الإمارات إسرائيل بالفعل لافتتاح ممثلية دبلوماسية في أبوظبي في مكتب «الوكالة الدولية للطاقة المتجددة» عام 2015. وعقب ذلك، بدأت وفود إسرائيلية متنوعة(تجارية ورياضية) بزيارة الإمارات. وبحلول عام 2019، تمت دعوة إسرائيل لإقامة جناحها الخاص في معرض «إكسبو 2020 دبي».
وخلال هذه الفترة أيضاً، قامت كل من البحرين والمغرب بزيادة الدعوات الموجهة إلى الوفود الإسرائيلية بشكل كبير. وفي حين بقي نطاق التعاون بين إسرائيل والسعودية سرياً ، إلّا أنه وحتى قبل توقيع اتفاقيات أبراهام، كان هنالك 500 شركة إسرائيلية تزاول أعمالاً تجارية في جميع أنحاء دول الخليج، وفقاً لتصريحات أحد كبار المسؤولين الإسرائيليين خلال عام 2019.
إذن أصبح القادة العرب،كما يستنتج روس، يرون بشكل متزايد أن التعاون مع إسرائيل يصبّ في مصلحتهم، وخصوصاً في المجال الأمني، في وقت بدا لهم أن الولايات المتحدة بدأت تنسحب من المنطقة، ولم يعد بالإمكان التعويل عليها بشكل أساسي.
ويذكر روس كيف بات المسؤولون الخليجيون يتجرؤون على القول بأنهم لن يحرموا بلادهم من «مصالحها الفضلى إكراماً للفلسطينيين». ويسوق على ذلك مثال بندر بن سلطان، السفير السعودي السابق في واشنطن، الذي ظهر على قناة «العربية» في آب (أغسطس) 2020، متذكراً ومُعدّداً «كافة الفرص التي فوّتها القادة الفلسطينيون على مرّ التاريخ لتسوية النزاع».[ دينس روس/«اتفاقيات أبراهام والمعالم المتغيرة للشرق الأوسط»/«معهد واشنطن» ــــ2 تموز (يوليو) 2022»].
(3)
بدايات التطبيع
■ وهكذا يظهر، من كتابات واعترافات روس وغيره، أنّ هناك «تاريخاً طويلاً ومتواصلاً» من الخطوات التطبيعية مع إسرائيل على مستويات عدة؛ اقتصادية وتجارية وأمنية وعسكرية وثقافية ورياضية. وأخذت هذه الخطوات منحىً متسارعاً وعلنياً، قبل الإعلان الرسمي عن الاتفاقات «الأبراهيمية».
ووفقًا لبيانات دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، فقد «قُدّر إجمالي الصادرات الإسرائيلية من السلع والخدمات إلى أسواق المنطقة العربية بنحو سبعة مليارات دولار أميركي سنويا، من بينها أكثر من مليار دولار لدول الخليج»، (هذا قبل العام 2020، ومع الدول التي لا تربطها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل).
أما الدول التي تربطها «معاهدات سلام» مع إسرائيل، فالأرقام الدالة على حجم التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري هي أعلى بكثير؛ ففي أيلول (سبتمبر) 2016، أعلنت شركة الكهرباء الوطنية الأردنية وشركة «نوبل إنيرجي» الأميركية عن توقيع اتفاقية لاستيراد الغاز الطبيعي المسال من إسرائيل بقيمة 10 مليارات دولار أميركي، وفي شباط (فبراير) 2018 أعلنت شركة دولفينوس القابضة المحدودة للغاز المصرية، عن طريق الشركة الأميركية ذاتها، عن توقيع اتفاقية مع مجموعة «ديليك للحفر» الإسرائيلية (Delek Drilling) بقيمة 15 مليار دولار، تزود بموجبها الثانية مصر بالغاز الطبيعي.
وفي كانون الثاني (يناير) 2019، أعلنت مصر عن تأسيس «منتدى غاز شرق المتوسط»، الذي يضم سبع دول من بينها إسرائيل، بغرض إنشاء سوق إقليمية للغاز لتأمين العرض والطلب للدول الأعضاء.
أما على المستوى الاستخباراتي والأمني، فتُعدّ بعض الدول العربية زبونا رئيساً للمنتجات الأمنية والتقنيات الاستخباراتية الإسرائيلية. وقد استعانت الرياض، في آب (أغسطس) 2012، بمجموعة من الشركات العالمية في الأمن السيبراني، من بينها شركة إسرائيلية لحماية أمن المعلومات لوقف الهجوم الذي تعرّضت له شركة «أرامكو» السعودية؛ حيث اخترق متسللون أجهزة كومبيوتر تابعة للشركة باستعمال فيروس يدعى «شمعون»،الأمر الذي أدّى إلى تعطيل إنتاج النفط السعودي.
وعلى مستوى العلاقات الدبلوماسية والزيارات المتبادلة التي كانت تتم تحت الطاولة فحدث عنها ولا حرج، وكان من النشاطات المعلن عنها، على سبيل المثال؛ استضافة العاصمة البحرينية، المنامة، ورشة العمل التي كانت بعنوان: «السلام من أجل الازدهار»، في 25 و26 حزيران (يونيو) 2019، التي خُصّصت لترويج الشق الاقتصادي من خطة الرئيس ترامب للسلام المعروفة بـ«صفقة القرن».
وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2019، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأول زيارة علنية إلى سلطنة عُمان، تلاها لقاء مع رئيس المجلس السيادي في السودان، عبد الفتاح البرهان، في أوغندا في شباط (فبراير) 2020.[«التطبيع العربي مع إسرائيل.. مظاهره ودوافعه»/المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـ 21/6/2020].
(4)
«الحقبة النفطية»
■ ربط بعض المحللين اتفاقيات التطبيع الأخيرة بما أسموه «الحقبة الخليجية أو النفطية»، المتمثلة بصعود دور بعض العواصم الخليجية وتصدّرها المشهد السياسي العربي والإقليمي،وخصوصاً في العقدين الأخيرين، وذلك مع انتقال مركز الثقل والقرار السياسيين إليها بعد تقويض دور العواصم العربية الكبرى (القاهرة، بغداد، دمشق) ، وتراجعها وانكفائها على نفسها، لأسباب كثيرة لسنا بصددها الآن، وهي الحواضر التي لعبت دوراً بارزاً في قيادة العالم العربي، وخاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال والصراع مع إسرائيل.
وقد بدأت الحقبة النفطية أولاً مع صعود دور المملكة السعودية، وخصوصاً إبان الارتفاع الكبير في أسعار النفط عقب حرب 1973، وترافق هذا مع انهيار «المشروع القومي العربي» بجناحيه «الناصري والبعثي»، والذي لعبت السعودية، كما هو معروف، دوراً فاعلاً في انهياره، (ولكن بالتفاعل مع تحولات وتبدلات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة شهدتها تلك العواصم)، وبالتشابك مع انقسامات واصطفافات كانت، وما زالت، تشهدها المنظومة العربية، ومن أبرز علائمها التنافس السابق على زعامة العالم العربي بين القاهرة،في عهد عبد الناصر، والرياض، مع الإشارة إلى مرحلة لاحقة من التقارب، وأحياناً التعاون والتنسيق، بين هذه العواصم منذ سبعينيات القرن الماضي، وخاصة في العقد الأخير منه والعقد الأول من القرن الحالي.
وقد انتقلت «الحقبة النفطية»، في طورها الثاني، إلى بروز دور دول خليجية أصغر حجماً، ولكنها غنية جداً بمواردها المالية المتصلة بتصدير النفط والغاز. وارتبط الدور الإقليمي «المُكتسب» لهذه الدول باستمرار احتياج العالم لموارد الطاقة، من جهة، وبالمهام والوظائف التي أنيطت بها، إقليمياً ودولياً، من جهة ثانية. وهذا ما يفسّر علاقاتها المتعدّدة والمتشعبة مع دول متخاصمة، وعلى النقيض من بعضها البعض سياسياً!. وقد دخلت هذه الدول في منافسة مع بعضها البعض لأداء أدوار وظيفية هنا أو هناك، وهو ما دفع البعض إلى حدّ اعتبار أن «التحالف الإماراتي ــ الإسرائيلي» لم يكن يحدوه سوى الوهم بأن الإمارات ستصبح «دولة إقليمية عظمى»، على غرار جارتها ومنافستها قطر.
وقد بلغت هذه المرحلة ذروتها مع المآلات الكارثية التي آلت إليها أوضاع العراق منذ حرب الخليج الثانية، ومن ثم الغزو الأميركي عام 2003، وبلدان ما سميّ «الربيع العربي»، وخصوصاً في سورية واليمن وليبيا، بعد أن تحوّلت إلى ساحات لصراعات النفوذ والسيطرة بين العواصم الفاعلة على صعيد الإقليم والعالم، وذلك بالتضافر مع طفوّ المشاكل الداخلية وتعمّق الانقسامات والاستقطابات، سواءً داخل كلّ دولة على حدة، أم بين الدول العربية بعضها مع بعض.
ذلك كلّه أفضى، في المحصلة، إلى تراجع الاهتمام العربي؛ على مختلف الصعد والمستويات الرسمية والسياسية والشعبية، بالصراع العربي ــ الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، وبرز في المقابل، «الخطر الإيراني» بالنسبة إلى بعض العواصم الخليجية والعربية، و«الخطر التركي» بالنسبة إلى عواصم أخرى.
(5)
المسار الإقليمي لـ«خطة ترامب»
■ وقد تناغم هذا في مرحلة لاحقة مع خطة ترامب المُسمّاة بـ«صفقة القرن»، والتي تضمنت في شقها الإقليمي العمل من أجل «تحويل إسرائيل إلى جزء من المنطقة، عبر الاعتراف بوجودها وتطبيع العلاقات معها»، بالتلازم مع تبنّيها على نحو شبه تام، لخطط ومشاريع اليمين الإسرائيلي المتطرّف الرامية إلى طي صفحة الصراع العربي الإسرائيلي نهائياً، والانتقال إلى تموضعات واصطفافات جديدة في المنطقة ككل، تصبح فيها إسرائيل حليفاً، معلناً أو مضمراً، في مواجهة إيران في الدرجة الأولى، أو في مواجهة تركيا وحركات الإسلام السياسي المرتبطة بها في الدرجة الثانية، أو في مواجهتها كلّها مجتمعة، تبعاً لسياسات وارتباطات ومصالح كل عاصمة من العواصم العربية.
وفي سياق ذلك، أفاد موقع «Axios» الإخباري الأميركي بأن مسؤولين رفيعي المستوى من الولايات المتحدة وإسرائيل والإمارات، عقدوا اجتماعا سريا في البيت الأبيض في 17/12/2019، لبحث تنسيق الجهود ضد إيران. بعدها، وقبل زيارة الرئيس جو بايدن إلى المنطقة، نقل الموقع نفسه عن مصادر أميركية أن إدارة بايدن تتوسط بهدوء بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل ومصر، لتطبيع العلاقات بين المملكة وإسرائيل. وأشار الموقع إلى أن الترتيب يتضمن إنهاء نقل السيادة على الجزيرتين الاستراتيجيتين في البحر الأحمر «تيران وصنافير» من مصر الى السعودية، بعد الحصول على الموافقة الإسرائيلية، بسبب معاهدة السلام الموقعة معها، حيث أن الجزيرتين تسيطران على مضيق تيران الذي يعتبر ممراً بحرياً استراتيجياً يتحكم في موانئ العقبة في الأردن وإيلات في إسرائيل.
في غضون ذلك، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية تقارير عن زيارة قامت بها مجموعة من الصحافيين الإسرائيليين بصورة سرية إلى المملكة السعودية، واستخدمت المجموعة جوازات سفر أجنبية.[ميرال قطينة/ «النهار العربي»: 6/7/2022].
وأشارت العديد من المصادر إلى أنّ الشركات الإسرائيلية تتعاون مع نظيراتها السعودية بطرق وأشكال وأساليب مختلفة. وتأخذ إسرائيل بعين الاعتبار أنّ العلاقات مع المملكة العربية السعودية ستستغرق المزيد من الوقت وستكون بمثابة جائزة كبرى لها.
وفي دبي، استغل عضو البرلمان الإماراتي السابق أحمد عبيد المنصوري اتفاقية التطبيع لافتتاح أول معرض كبير عن «الهولوكوست» في العالم العربي. علماً أنّ العلاقات مع الإمارات كانت الأسرع تطوراً منذ توقيع اتفاقيات التطبيع، وقد أشاد بها السفير الإسرائيلي في الإمارات العربية المتحدة أمير حايك، قائلاً إن المجتمع الإماراتي «مجتمع منفتح ومتسامح، يتشارك القيم ذاتها مع الإسرائيليين». وقد زار نحو 300 ألف إسرائيلي الإمارات سنة 2021، لكن السياحة في الاتجاه المعاكس لم تتطور بالقدر ذاته. وعلينا أن نلاحظ هنا أنّ الشركات الإسرائيلية لا تنظر إلى الإمارات كشريك فقط، بل على أنها منصّة انطلاق لاختراق أسواق الخليج العربي الأخرى.[بن لينفيلد/«فورين بوليسي»:«مسار التطبيع العربي مع إسرائيل.. ما الذي تحقق؟»، ترجمة وتحرير:«نون بوست»: نشر بتاريخ 1/2/2022].
(6)
تعاون إقليمي على حساب فلسطين
■ ما هو مطروح إذن هو بمثابة تحقيق لحلم قديم لقادة الحركة الصهيونية ؛ ما سمّاه ناحوم غولدمان، رئيس «المؤتمر اليهودي العالمي»، في بداية سبعينيات القرن الماضي، «زواج الذكاء اليهودي والرأسمال العربي». وإذا أزحنا جانباً ما تنضح به هذه المقولة من عنصرية فاضحة، إذ تفترض أن العرب يفتقدون إلى الذكاء، إلا أنّ من روّج لها يومها (غولدمان وسواه)، كان يفترض أن الشرط الضروري لتحقيقها، هو مبادلة الأرض بالسلام، أما الآن فيتم العمل على تطبيقها بأبخس الأثمان، وذلك انطلاقاً من الأخذ بالمقولة الإسرائيلية البديلة، «السلام مقابل السلام»، حيث أضحى هناك جيلٌ جديد من قادة خليجيين مستعداً للتحالف مع إسرائيل، «من دون انسحابها ولو مِن جزء من الأراضي العربية المحتلّة عام 1967، انطلاقاً من اقتناعهم بأن مثل هذا التحالف سيُعظّم من قدرات أنظمتهم الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، ومن وزنها الجيوسياسي الإجمالي، باعتبار إسرائيل أحد أقطاب التطوّر العلمي والتكنولوجي في المنظومة العالمية».[ وليد شرارة / «موجة أولى من زلزال إقليمي مقبل: محور صهيوني - خليجي برعاية أميركيّة»: الأخبار: 10/10/2020].
وإلى ذلك، فقد بات من الواضح للجميع، أنّ العمل بموجب «صفقة القرن» ومتطلباتها لا يقتصر على إدارة ترامب، صاحبة المبادرة والمروّجة لها، بل إنّ إدارة بايدن (الديمقراطية) تبدو ملتزمة بكل القرارات والخطوات التي اتخذتها وقامت بها الإدارة الجمهورية السابقة. وما عرضه الرئيس بايدن على زعماء المنطقة في زيارته التي قام بها الصيف الماضي، (وخصوصاً في ملف التطبيع وعملية السلام)، هو ذاته عملياً ما كان يعرضه سلفه ترامب؛ لجهة التشديد على ضرورة التقارب والتطبيع السريع مع إسرائيل، ليشمل الأطراف التي لم تطبع بعد (المملكة السعودية)، وتركيز موازٍ على ضرورة التعاون الأمني الإقليمي، والتوسع في المشاريع الاقتصادية المشتركة.. الخ.
وفي الوثيقة التي وقعها الرئيس بايدن (14/7/2022) مع رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لبيد، وأطلق عليها «إعلان القدس للشراكة الاستراتيجية المشتركة بين الولايات المتحدة وإسرائيل»، تم التأكيد فيها مراراً على أمن إسرائيل، وعلى «العلاقة الخاصة» بين أمريكا وإسرائيل، والعمل على «دعم دمج إسرائيل في المنطقة» و«تعميق الشراكة مع إسرائيل في المنظومات الدفاعية الأقوى».
وإذا كانت أجيال عدة من شعوب المنطقة قد شهدت آثار وتبعات العلاقة الخاصة بين الطرفين، وذلك عبر الدعم الأمريكي المستمر؛ العسكري والمالي واستخدام «حق النقض» (الذي استخدم أكثر من 50 مرة لحماية إسرائيل من أي قرار أممي يمكن أن يدين ممارساتها وجرائمها)، هذا فضلاً عن معاقبة المؤسسات الأممية على أي شكل من مواجهة إسرائيل أو التعاطف مع الفلسطينيين، فإنّ التطور الإضافي على ذلك يتمثل الآن في الخطوات التطبيعية الرامية إلى «دمج إسرائيل في المنطقة»، والسعي إلى تشكيل حلف دفاعي مع الدول الخليجية الغنية بالنفط والغاز. غير أن افتراض إمكانية «الدمج» هذه، من دون تقديم حل حقيقي للمسألة الفلسطينية، يتجاهل مسألة تتواشج فيها الجغرافيا مع التاريخ والسياسة والاجتماع، وبالتالي فهو أمرٌ ليس بالمضمون أو الهين أبداً.
وعلاوة على ذلك، تبدو إدارة بايدن قد تراجعت عن وعودها المتكررة؛ من قبيل إعادة فتح القنصلية الأمريكية في القدس الشرقية، وإعادة فتح مكتب المنظمة في واشنطن، وشطب اسم منظمة التحرير من قائمة الإرهاب، ولم تتعهد حتى بإلزام إسرائيل بسياسة الولايات المتحدة المعلنة بوقف الاستيطان، والحفاظ على الوضع الراهن في القدس. والشيء الوحيد الذي وافقت عليه هو استئناف الدعم المالي الملغى للفلسطينيين، وهو ما يؤكد مواصلتها لسياسات ترامب، أي اللجوء إلى الوعود والحلول الاقتصادية.
وكما ذكرنا آنفاً، فقد اندرجت قمة النقب السداسية في إطار السعي من أجل تكريس عهد جديد من العلاقات في المنطقة، تكون فيه إسرائيل ركناً رئيسياً من أركانها، انسجاماً مع جوهر التوجه والتطبيع الذي تنطوي عليه الاتفاقات الإبراهيمية. في وقت يُنظر فيه إلى إسرائيل من قبل الدول المطبعة إما كشريك أمني رئيسي في الترتيبات الإقليمية الرامية لاحتواء ما يسمّى «الخطر الإيراني»، أو كدولة ذات اقتصاد قوى ومتقدم «ينبغي على العرب السعي إلى تطوير علاقاتهم الاقتصادية والتجارية معها والتبادل التكنولوجي والاستثماري الذي يربطهم بها، أو كالأمرين معا». فمنذ توقيع الاتفاقات الإبراهيمية ودول مثل الإمارات والبحرين، (ومن خلفهما السعودية)، تعملان على توطيد تعاونهما الاستراتيجي- الأمني مع إسرائيل إلى جانب الاقتصاد والتجارة. [ عمرو حمزاوي / «القدس العربي»: 5/4/2022].
وبات من النافل التنويه إلى أن الكلام لا يقتصر على التطبيع، أو إقامة «اتفاقية سلام» عادية، بل يذهب إلى مستوى أعلى وأعمق من ذلك بكثير، وهو بناء «حلف» سياسي وعسكري موجّه ضد طرف، أو أطراف محدّدة. ونستدل إلى ذلك من الطابع العسكري والأمني (استيراد المعدّات العسكرية وأجهزة التجسّس وتبادل المعلومات الاستخباراتية)، للعلاقات بين بعض الدول الخليجية وإسرائيل، منذ بداياتها السريّة، وخاصة إزاء ما يسميه الطرفان «التهديدات الإيرانية لأمن واستقرار المنطقة»، إضافة إلى اتفاقهما على ضرورة الحدّ من تأثير النفوذ التركي وأدواته السياسية في المنطقة.
وفي حال قيام الحلف الشرق الأوسطي الجديد، بأبعاده الاقتصادية والعسكرية والأمنية المأمولة، فمما لا ريب فيه أنه سيكون على حساب استمرار الهيئات والمنظومات الإقليمية المعروفة مثل؛ مجلس التعاون
الخليجي السلام، والجامعة العربية، وما يتفرع عنهما من مشاريع وأحلام أخرى مثل؛ السوق العربية المشتركة، ومشاريع الدفاع العربي المشترك.. الخ.
وربما ساهمت بعض التطورات السياسية التي عصفت بالمنطقة، في دفع الأمور نحو هذا المآل؛ مثل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة في منطقة الخليج، والحرب باهظة الكلفة التي تخوضها السعودية والإمارات في اليمن، فضلاً عن تدخلهما في الحرب الليبية وسواها من الحروب التي تشهدها المنطقة. وأمام تقلب وتردّد مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة في الآونة الأخيرة، بحيث باتت واشنطن حليفاً غير مضمون بالنسبة إلى الدول الخليجية، فلم يبقَ لديها، كما يبدو، سوى إسرائيل لتكون ظهيرها الإقليمي الذي يمكن أن يؤمّن الحماية اللازمة لها من جهة، فضلاً عن كونها بوابةً للتأثير في السياسات الأميركية، من جهة ثانية.
وهنا، يمكن تسجيل بعض العناصر التي غذّت قلق الدول الخليجية على أمنها وأمن منطقتها؛ من قبيل القرارات الأميركية بسحب جزء من قواتها ومعداتها الموجودة في الخليج، فضلاً عن امتناع واشنطن عن القيام بأي عمل ملموس بعد الهجمات على «أرامكو»، والتباين الكبير في مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة، (ديمقراطية وجمهورية)، والاستراتيجيات التي تطرحها كلّ منها للتعامل مع أهم القضايا المطروحة، وهو ما وضع المصداقية الأميركية عموماً على المحك بالنسبة إلى تلك الدول!.
وعلى الصعيد العربي، فمن الواضح للجميع أن لا فائدة ترجى، في المدى المنظور على الأقل، من معاودة لملمة أشلاء الواقع العربي المتشظية، وهو ما يزيد من اندفاع كل دولة عربية إلى البحث عن حليف قويّ لها من خارج المنظومة العربية.
هذا الواقع البائس وحال البلدان العربية «الداشرة»، فتح شهية القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة (إيران، تركيا وإسرائيل)، إلى الاندفاع والتدخل فيها بحثاً عن نفوذ أو عن موطئ قدم لها هنا أو هناك. وما أفسح في المجال أمام هذا القدر الكبير من التدخل الإقليمي، هو عدم توافق، (أو عدم استعجال ورغبة)، الدول الكبرى في الوصول إلى حلول للصراعات الساخنة القائمة في المنطقة، وفي مقدّمها الصراع العربي – الإسرائيلي.

(7)
التطبيع بين الإمارات وإسرائيل
■ مع أن الإمارات والبحرين لم تخوضا يوماً حرباً مع إسرائيل، فإن الإسرائيليين أصرّوا على أن تُصاغ الاتفاقيتان معهما بوصف كل منهما كـ«معاهدة سلام»، على غرار تلكما الموقعتين مع كلٍ من مصر والأردن. وعلل مسؤولون إسرائيليون ذلك بأن هذا يعطي الاتفاقيتين صبغةً أكثر جدّية، ويفرض التزاماً أكبر بهما من كل الأطراف، كما أنه يبعث رسالة مفادها بأن الاتفاقيتين طويلتا الأمد، وليستا مجرّد صفقتين مؤقتتين.
واعتبر بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها، أن ما جرى يمثل «نقطة تحول هائلة في تاريخ إسرائيل والشرق الأوسط». وقال: «من كان يحلم يوما باتفاق سلام مع دولة عربية دون عودتنا إلى حدود عام 1967». وأكد أن اتفاقات السلام مع أبوظبي والمنامة ستدرّ على الاقتصاد الإسرائيلي مليارات الدولارات من الاستثمارات والتعاون الاقتصادي.
ولا تخفي الاتفاقيتان سعيهما إلى إعادة تشكيل وعي المنطقة وثقافتها بما يسمح بدمج إسرائيل فيها، من دون أي تغيير في سلوكها وسياساتها تجاه الفلسطينيين. وفي سبيل ذلك، سعت إدارة ترامب منذ عام 2018، إلى إنشاء ما أسمته «مشروع تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي»، على أن يضم إسرائيل ودول الخليج إضافة إلى مصر والأردن، لمواجهة إيران والجماعات التي تعدها واشنطن متطرّفة. كما عرضت دمج تلك الدول في مظلة دفاع صاروخي، وتزويدها بمعدّات وأسلحة حديثة، وتطوير قدراتها الاستخباراتية والعسكرية والتدريبية.
ويشير نص معاهدة السلام الإماراتية - الإسرائيلية وملحقها، إلى أن الطرفين يتجهان إلى تعاون شامل في؛ الاستثمار، الطيران، المياه، الطاقة، السياحة، الصحة، الثقافة، البيئة، الاتصالات والزراعة، وصولاً إلى الأمن والتكنولوجيا والعلوم والفضاء.
• غموض بشأن قرار الضم
■ لم يرد في نص الاتفاقيتين أي إشارة إلى مستقبل الخطط الإسرائيلية الخاصة بضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية المحتلة. أما الإعلان المشترك في 13 آب (أغسطس) 2020، فنصّ على «تأجيل»، وليس «وقف» قرار الضم الإسرائيلي. علما أن هذا التأجيل كان قد حُسم سابقاً لأسبابٍ تتعلق بالائتلاف الحكومي في إسرائيل، وبموقف ترامب من هذه المسألة. أما نتنياهو فأكد في مؤتمره الصحفي الذي أعقب صدور الإعلان الثلاثي أنه متمسك بمشروع الضم، وأنه «ما زال على الطاولة لاتخاذ القرار بتحقيقه في الوقت المناسب». وبحسب تقرير لصحيفة تايم أوف إسرائيل، فإن الإمارات حصلت على تعهد من إدارة ترامب بعدم الموافقة على أي قرار إسرائيلي بضم أجزاء من الضفة الغربية قبل عام 2024، إذا نجح ترامب لدورة ثانية.[«المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»/ «قراءة في التطبيع/ التحالف الإماراتي والبحريني مع إسرائيل»: 17/9/2020].
وأتى الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي تتويجا لعلاقات سرّية وعلنية امتدت لنحو عقدين تقريباً، وشملت مجالات أمنية وعسكرية وتجارية واقتصادية. وقد وصف رئيس تحرير صحيفة «إسرائيل اليوم»، بوعز بيسموط، الاتفاق بقوله: «إنّ الإمارات كانت عشيقة إسرائيل السرية لأكثر من عقدين، وتغيرت مكانتها إثر الاتفاق لتصبح زوجة رسمية في العلن»!.
وإلى ذلك، فقد ساد اعتقاد لدى حكام الإمارات وبعض الدول الخليجية، وخصوصاً في عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، بأن الولايات المتحدة تخطط لانسحاب عسكري من المنطقة، وتفكّر بإعادة صياغة علاقتها مع دولها عموماً، وإجراء ترتيبات أمنية جديدة فيها تشمل إيران. وتعززت المخاوف الخليجية بعد الموقف الأميركي من الانتفاضات العربية، والذي فُسر على أنه تخلٍ عن حلفاء رئيسيين في المنطقة (حسني مبارك نموذجاً)، إضافة إلى المفاوضات التي كانت تجريها واشنطن ومهدت لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران في صيف 2015، والذي انفردت الإمارات والسعودية وإسرائيل برفضه بشدة.
في ظل هذه الأجواء، تسلم دونالد ترامب الحكم في مطلع العام 2017، وتبنّى سياسات أكثر تشدّداً تجاه إيران (مصدر القلق الرئيس لدول الخليج)، إلا أن ذلك لم يكن كافياً لطمأنة هذه الدول، وخاصة في ظلّ السياسات المتقلبة التي انتهجها ترامب، واعتماده على مبدأ الابتزاز في إدارة العلاقات الأميركية مع دول العالم، بصرف النظر عن حجم المصالح التي تجمع واشنطن بأي منها. وهو ما جعل الإمارات تعتقد أن التحالف مع إسرائيل هو الخيار الأنسب، لأن ذلك، وفق رؤيتها، قادر على حمايتها، وفي الوقت نفسه ضمان استمرار تأثيرها داخل واشنطن، خصوصاً بعدما تدخلت في أكثر من دولة عربية، وبات نفوذها مهدداً بالتراجع أكثر من أي وقت مضى.
• مؤشرات العلاقات المتنامية
■ في عام 2008، وقّعت هيئة المنشآت والمرافق الحيوية في أبوظبي(المسؤولة عن الأمن والسلامة) عقداً بلغت قيمته 816 مليون دولار مع شركة «AGT International»، وهي شركة سويسرية يمتلكها رجل الأعمال الإسرائيلي، ماتي كوتشافي، من أجل شراء معدّات مراقبة للبنية التحتية الحيوية في الإمارات، بما في ذلك منشآت النفط والغاز. وزوّدت الشركة نفسها، أبوظبي، بثلاث طائرات مسيّرة، تهدف إلى تعزيز قدراتها الاستخباراتية والأمنية. كما زوّدت شرطة أبوظبي بنظام مركزي للمراقبة الأمنية يعرف باسم «عين الصقر»، وقد بدأ العمل به رسميًّا في تموز/ يوليو 2016. وفي آب (أغسطس) 2018، اشترت الإمارات من مجموعة «NSO» الإسرائيلية تكنولوجيا متطورة لقرصنة الهواتف النقالة؛ بغرض التجسّس على معارضيها في الداخل والخارج، ومن تعتبرهم خصومها(بينهم صحافيون ومثقفون).
عسكريّا، ومن بوابة التهديد الإيراني وضمان أمن الملاحة في الخليج، تعمّقت العلاقات العسكرية بين إسرائيل والإمارات، وخصوصا بعد الهجمات التي تعرّضت لها ناقلات نفط قرب ميناء الفجيرة في أيار(مايو) 2019. وفي آب (أغسطس) 2019، صرّح وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، يسرائيل كاتس، إن إسرائيل باتت جزءًا من «التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية وضمان سلامة الممرات البحرية». وقد أنشأت الولايات المتحدة الأميركية هذا التحالف، وهو يضم كلًّا من السعودية، الإمارات، البحرين، بريطانيا، أستراليا وألبانيا، ويهدف إلى تعزيز أمن وسلامة السفن التجارية التي تمر عبر الممرات البحرية.
وعلى المستوى الدبلوماسي والثقافي والرياضي، شهد التطبيع بين الإمارات وإسرائيل تناميا ملحوظًا في السنوات الأخيرة؛ إذ قام عديد المسؤولين الإسرائيليين بزيارات علنية إلى أبوظبي، للمشاركة في مؤتمرات ثقافية واقتصادية وعلمية دولية في أبوظبي ودبي. كما شاركت وفود إسرائيلية في مسابقات دولية رياضية عدة في الإمارات.
وأخذت العلاقات بين الطرفين منحىً متسارعاً في الآونة الأخيرة؛ ففي 12 حزيران (يونيو) 2020، نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية مقالًا للسفير الإماراتي في الولايات المتحدة، يوسف العتيبة، بعنوان «الضم سيمثل نكسة كبرى لجهود تطوير العلاقات مع العالم العربي». وفي السابع عشر من الشهر نفسه، شارك وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، في المؤتمر الافتراضي السنوي للجنة اليهودية - الأميركية، وألقى كلمة فيه.[«المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»/ «اتفاق أبراهام .. تطبيع علاقات أم إعلان عن تحالف قائم بين الإمارات وإسرائيل؟»: 16 آب (أغسطس) 2020].
ويرى محللون أن التطبيع التدريجي بين الإمارات إسرائيل كان نتيجة لتشاركهما التصورات نفسها إزاء عدد من الملفات الساخنة في المنطقة، ومنها: اعتبار إيران العدو الأول، هي والأدوات التي تستخدمها، ضرورة محاصرة التأثير التركي والتيارات الإسلامية التي تدعمها أنقرة، العمل المشترك داخل واشنطن للتأثير في سياسات الإدارة الأميركية في الاتجاه ذاته. وكلّ ذلك في ظلّ سعيّ الإمارات إلى تذليل العقبات بين بلدين من أكثر دول الشرق الأوسط اعتماداً على العولمة وتركيزاً على التكنولوجيا.
وبالفعل، فقد حاولت الإمارات تصوير مبادرتها للتطبيع على أنها «زواج بين دولتين تكنولوجيتين ومنفتحتين على العلم». ونقل المعلق ديفيد إغناطيوس في صحيفة «واشنطن بوست»(17/9/2020) عن مسؤول إماراتي قوله: «كفى كلّ هذا الهراء الأيديولوجي، نريد التركيز على المستقبل وعلى العلم والتكنولوجيا وشريك تجاري مع الجميع».[ أورده إبراهيم درويش في «القدس العربي»: 20/9/2020 بمقال تحت عنوان:«هل عاد وهم الشرق الأوسط الجديد ووعود الازدهار والتعاون بثمن دفن القضية الفلسطينية؟»ٍ].
وأكثر من ذلك، فقد بات حكام أبوظبي يرون أن قدرتهم على توسيع رقعة التطبيع العربي مع تل أبيب، هي أحد نقاط قوتهم في عيون مسؤولي الإدارتين الإسرائيلية والأميركية، ، لتكون الإمارات دولة إقليمية أساسية تحظى بدعم أميركي كبير، بغض النظر عن هوية ساكن البيت الأبيض، أكان ديمقراطياً أم جمهورياً.
وقد حققت العلاقات مع الإمارات لإسرائيل ما لم تحققه ربما أربعة عقود من السلام مع مصر منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وعقدان ونصف العقد مع الأردن منذ وادي عربة، تحديداً لجهة جعل التطبيع مع الاحتلال وكأنه أمر عادي، طبيعي.[«العربي الجديد»/ «الإمارات تجرّ أتباعها باتجاه إسرائيل: تطوُّع أم تكليف؟»: 13/7/2020].
وعلى سبيل المثال، ينص الاتفاق الموقع مع الإمارات على تعهد الطرفين، بـ«تعزيز التفاهم المتبادل والاحترام والتعايش المشترك وثقافة السلام بين مجتمعيْهما المتأثرين بروح سلفهما المشترك، إبراهيم، والحقبة الجديدة من السلام والعلاقات الودية المعلن عنها (...)، بما في ذلك تطوير برامج بين الشعبين، وحوار بين الأديان، وتبادلات ثقافية وأكاديمية وشبابية وعلمية وغيرها بين شعبيهما»، وهو ما يمكن وصفه بالتطبيع الثقافي.
وقد تكون «معاهدتا السلام» التي وقعتها إسرائيل مع مصر والأردن، نصّتا على العديد من القضايا المشابهة، ولكن تمت إحالة هذه القضايا غالباً إلى الملاحق، ولم يتم الوفاء بها عملياً قط. وعلى سبيل المثال، تشير المعاهدة الأردنية إلى نشاط بين الأديان (المادة 9.3) وتبادلات ثقافية/علمية (المادة 10)، ولكن لم يتحقق أي منها خلال العقود التي تلت إبرام المعاهدة.[ ديفيد ماكوفسكي/ «كيف تتطلع اتفاقات أبراهام إلى السير إلى الأمام وليس إلى الوراء»،«معهد واشنطن»: 21/9/2020].
(8)
التطبيع مع البحرين و«الضوء الأخضر»السعودي
■«لم يكن دخول البحرين على خط التطبيع العلني مع إسرائيل ليمرّ لو لم يحصل على ضوء أخضر من المملكة السعودية»، هذا ما أجمعت عليه الأوساط السياسية المهتمة؛ العربية والغربية، خاصة وأن المنامة تعتمد على الرياض بشكل كامل منذ انتفاضة «ميدان اللؤلؤة» عام 2011. وذكّرت الأوساط ذاتها بأنّ البحرين كانت المكان الذي اختارته إدارة ترامب لإطلاق «الشق الاقتصادي» من خطتها المعروفة بـ«صفقة القرن». فضلاً عن أنها، وعلى خلفية اتهامها لطهران بدعم المعارضة («الشيعية»)، وبالتسبّب في حدوث اضطرابات على أراضيها، فإنّها تعتبر نفسها «شريكة لإسرائيل في العداء لإيران»!
وجاء في بيان أصدرته الحكومة البحرينية أن إقامة علاقات مع إسرائيل تهدف إلى «حماية مصالح البحرين العليا، وتقوية الشراكة الاستراتيجية مع واشنطن وسط التهديد المستمر من إيران». وينسجم هذا البيان مع تقييم ولي العهد السعودي الذي صرح، في نيسان (أبريل) 2018، لمجلة التايم الأميركية، عند سؤاله عن مدى توافق مصالح السعودية مع إسرائيل، قائلًا: «لدينا عدو مشترك، ويبدو أن لدينا الكثير من المجالات المحتملة للتعاون».
والسعودية لم تعترض على مسار التطبيع الجديد، علماً أنها أهم داعم خليجي للمنامة، وكانت تعهّدت بتقديم مساعدات مالية بقيمة 10 مليارات دولار لها في العام 2018. كما تدخلت قوّاتها في العام 2011 لدعم المنامة إثر الاحتجاجات المطالبة بالإصلاح آنذاك. ومع وجود العديد من المؤشرات الدالّة على إمكان وجود علاقات متنوعة بين السعودية وإسرائيل، إلا أنّ الرياض ما تزال حذرة في الإعلان عن تلك العلاقات وتفضّل عدم الكشف عنها.
وعلى رغم اهتمام إسرائيل الشديد بالتطبيع مع السعودية، لإدراكها بوزن المملكة الاقتصادي (صاحبة أكبر اقتصاد في العالم العربي)، وحجم تأثيرها السياسي في محيطها، إلا أنّها تتفهّم، في الوقت نفسه، حذرها ودواعي تردّدها وتأنيّها في حسم هذا القرار. وتُرجّح معظم التقديرات السياسية أنه من السابق لأوانه انخراط الرياض في أي اتفاق علني للتطبيع، لأنها ليست على عجلة من أمرها، وتدرس هذه النقلة برويّة، وقد تُفضّل أن تسبقها إليها سلطنة عُمان، كما فعلت الإمارات والبحرين من قبل.
والرياض لازالت تربط تطبيع علاقاتها مع إسرائيل بإحراز تقدّم في عملية السلام مع الفلسطينيين، بالاستناد إلى الأسس التي ارتكزت إليها مبادرة السلام العربية، التي كانت هي نفسها وراء طرحها، ومن أبرز بنودها إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة على حدود ما قبل الخامس من حزيران (يونيو) 1967، لكنّها لم تعترض، في المقابل، على الخطوة التي أقدمت عليها أبوظبي والمنامة، بل وبدت متعاونة بشكل عملي لتسهيل إقامة علاقات كلٍّ منهما مع إسرائيل، وهو ما تجلّى في فتح مجالها الجوي لرحلات طيران مباشرة بين تل أبيب والعاصمتين المذكورتين.
وكان غير مصدر غربي تحدث عن لقاء عُقد في مدينة نيوم السعودية (المستقبلية)، وجمع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في 22/11/2020، بحضور وزير الخارجية الأميركي السابق مايك بومبيو، (الرياض نفت ذلك طبعاً). وأشارت المصادر إلى أنّ هذا اللقاء لم يكن الأول بين الرجلين، بل عُقدت لقاءات سابقة بينهما على متن قوارب بحرية فاخرة في البحر الأحمر. ويعتبر سايمون هندرسون أنّ التواصل الأمني والاستخباراتي بين الجانبين ليس بالأمر الجديد، بل هو قائمٌ منذ ثمانينيات القرن الماضي، وربما قبل ذلك. إذ اعتاد البريطانيون رعاية «ولائم عشاء طويلة في فندق ماندارين أورينتال» في لندن، لمجموعات من كلا الطرفين لمناقشة الأمور بينهما.[سايمون هندرسون/«الدبلوماسية السعودية الإسرائيلية تمضي قدماً وسط تحديات تلوح في الأفق في الشرق الأوسط»/ «معهد واشنطن»: 27/11/2020].
ويلفت هندرسون إلى أن الأمير محمد بن سلمان ربما يشعر بأنه مُقيّد إزاء تغيير مسار المملكة، والتحوّل من دعم الفلسطينيين الذي استمر طوال عقود إلى الانضمام لعربة التطبيع. وثمة من يتحدث، في هذا الصدد، عن خلاف مع أبيه الملك سلمان، إزاء المقاربة المتصلة بالقضية الفلسطينية، أو بالأحرى خلاف بين الموقف التقليدي للمملكة التي تعتبر نفسها داعمة للفلسطينيين، ووصية على الأماكن المقدسة (الإسلامية) عموماً، ومنها القدس، والذي لازال كثير من أمراء آل سعود يأخذون به، وبين الرؤية التي يمثلها ولي العهد، التي تقول بـ«السعودية أولاً»، وأن حل النزاعات الإقليمية ينبغي أن لا يكون على حساب المملكة.
هذا يعني، في المحصلة، أن المملكة لا يمكنها أن تمرّر التطبيع بالسهولة والهدوء النسبي اللذين مرّر بهما قادة الإمارات والبحرين هذا الأمر، فالأخيرون لم يشهدوا خلافات فيما بينهم في هذا الشأن، فضلاً عن أنّ بلادهم لا تعتبر «مرجعية إسلامية»، كما هو الحال بالنسبة للمملكة، التي تجد نفسها في منافسة على النفوذ في العالم الإسلامي مع أطراف تسعى لتحدي مكانتها (إيران، تركيا)، والاتفاق مع إسرائيل قد يمسّ بهذه المنافسة.
ومع ذلك، فإن محمد بن سلمان يُظهر انفتاحا لافتاً للتعامل مع إسرائيل. ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» (18/9/2020)، عن مستشارين له قولهم إنه يأمل بمشاركة شركات تكنولوجية إسرائيلية بتطوير وبناء مدينة «نيوم» (المستقبل) التي رصد لها 500 مليار دولار. وأعرب بعض هؤلاء عن اعتقادهم أنّ «الاتفاق مع إسرائيل، قد يكون خير وسيلة لتعزيز علاقات المملكة مع الولايات المتحدة». إضافة إلى أنه قد يكون كفيل بتحسين صورتها ومكانتها الدولية التي تضرّرت في السنوات الأخيرة، بسبب بعض الخطوات التي اتخذتها.
هنا علينا أن نفتح قوسين لنشير إلى أنّ كثيراً من المحللين يرون أنّ المملكة تحت قيادة ولي العهد عانت الكثير من النكسات في اليمن ولبنان وسوريا ودول أخرى، وخسرت الكثير من التأييد في واشنطن وعدد من العواصم الغربية، التي يرتبط فيها اسم محمد بن سلمان بمقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي، على أيدي عملاء سعوديين عام 2018، وكمّ الأفواه واعتقال الناشطين والناشطات وإساءة معاملتهن.
وعلى سبيل المثال، أكد الرئيس ترامب في مقابلة مع «فوكس نيوز»، أنه هو الذي أنقذ ولي العهد السعودي، بعد جريمة قتل وتقطيع الصحافي المعروف خاشقجي؛ «أنا من حميت مؤخرته» قال ترامب.
ومن هنا قد يجد محمد بن سلمان (في التطبيع مع إسرائيل) «فرصة لإصلاح سمعته التي انهارت عالميا، وخسر الدعم التقليدي في واشنطن، حيث يجد معارضة قوية داخل الكابيتال هيل».[وردت لدى إبراهيم درويش ضمن مقالته:«هل عاد وهم الشرق الأوسط الجديد ووعود الازدهار والتعاون بثمن دفن القضية الفلسطينية؟»/ «القدس العربي»: 20/9/2020].
وفي هذا الشأن، أفاد موقع «والا» الإخباري الإسرائيلي أن إسرائيل تنوي استخدام نفوذها في الولايات المتحدة من أجل دفع إدارة بايدن إلى الامتناع عن الضغط على السعودية ومصر والإمارات في قضايا حقوق الإنسان،«تحسباً لما قد يجلبه ذلك من التأثير على التقدم الذي تم إحرازه في تطبيع العلاقات بين الدولة العبرية وجيرانها العرب».[موقع «روسيا اليوم»: 26/2/2021، نقلاً عن وسائل إعلام إسرائيلية].
وفي المحصلة، تميل السعودية حتى الآن إلى اتخاذ خطوات مدروسة، يمكن أن تندرج في إطار «التطبيع الزاحف» مع إسرائيل، ولكن النقلة الأخيرة في هذه الخطوات، أي التطبيع العلني، ستكون بمثابة «جائزة كبرى» بالنسبة لإسرائيل، لأنها ستفتح الباب، على الأرجح، أمام التطبيع مع بقية العالم العربي والإسلامي. ولأنها كذلك، فإن مثل هذه الخطوة لن تكون مجانية، حسب تقدير أغلب المحللين، الذين يتوقعون أن تطالب الرياض، مقابلها، بوقف عمليات البناء الاستيطاني في شرق جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية، والموافقة كذلك على المبادرة العربية التي تشترط القبول بمبدأ إقامة دولة فلسطينية مستقلة.

(9)
تطبيع المغرب مع إسرائيل
■ في العام 1994، وبعيْد التوقيع على اتفاقيات أوسلو الأولى بين الفلسطينيين وإسرائيل، أقام الملك الحسن الثاني علاقات دبلوماسية مع إسرائيل على مستوى أدنى من تبادل السفراء. وبذلك، أصبح المغرب الدولة العربية الثالثة – بعد مصر والأردن – التي تقيم علاقات رسمية مع الدولة العبرية. لكنّ نجله الملك محمد السادس، قطع هذه العلاقات في 21 تشرين الأول (أكتوبر) من عام 2000، بعد اندلاع الانتفاضة الثانية ــ 28/9/2000، كمؤشر دعم للفلسطينيين.
وظلت هذه العلاقات مقطوعة، (أقلّه نظرياً)، إلى أن تم التوقيع على إعلان مشترك بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل ــ22/12/2020، ليفتح آفاقاً جديدة من التعاون بين البلدين. كان أحد تجلياتها موافقة المملكة المغربية على طلب إسرائيلي قديم، وهو إقامة جسر جوي مباشر لنقل اليهود المغاربة والسياح الإسرائيليين من وإلى المغرب.
ووقتها، ذكرت العديد من المصادر أنه لطالما كان بين المغرب وإسرائيل «علاقات سرية وتقارب ثقافي وتعاون اقتصادي»، على الرغم من تجميد العلاقات بينهما. وأوضح بعضها أنّ قيمة التبادل التجاري السنوي بينهما وصلت إلى 30 مليون دولار سنوياً على الأقل. كما تعاونت الجهتان سرّاً في مسائل الأمن، حيث ساعدت إسرائيل النظام المغربي على الحصول على معلومات استخباراتية وأسلحة.
وفي تشرين الأول (نوفمبر) 2021، أصبح المغرب أول دولة عربية توقع بشكل علني مذكرة تفاهم دفاعي مع إسرائيل، خلال زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس إلى الرباط. وبعدها شارك جنود إسرائيليون صيف العام الحالي كمراقبين في مناورة الأسد الأفريقي 2022 العسكرية التي جمعت المغرب وعدة دول أفريقية. كما وقع المغرب عقداً لشراء طائرات بدون طيار Harop»» من شركة إسرائيلية.[«القدس العربي»:17/9/2022«صحيفة فرنسية:اتفاقات أبراهام و«خصوصية» العلاقة بين المغرب وإسرائيل»].
وكان ثمن إعادة إحياء العلاقات بين البلدين هذه المرة، اعتراف الولايات المتحدة بالسيادة المغربية على الصحراء، علماً أنّ استراتيجية النظام المغربي تتمحور بشكل أساسي حول «كسب الاعتراف الدولي بحقوقه في الصحراء الغربية». كما أنه يعطي الأولوية إلى علاقاته مع الدول الخليجية، التي تقدّم له الدعم المالي والتأييد الدبلوماسي عربياً وإقليمياً.
وفور الإعلان عن عودة العلاقات مع إسرائيل، بادر الملك المغربي واتصل برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وأكّد على دعم بلاده الثابت للقضية الفلسطينية. وجدّد محمّد السادس، وهو (رئيس لجنة القدس) كذلك، التزام المملكة بالحفاظ على الطابع الإسلامي للمدينة المقدسة. وقال إنّ المغرب يضع مسألة أراضيه والقضيّة الفلسطينية على المستوى ذاته.
ويرى محللون ومؤرخون أنّ انفتاح المغرب على إسرائيل يتميز بجذور عميقة تاريخية وثقافية ودينية، إذ بقي اليهود يعيشون في المغرب حتى هجرتهم الجماعية إلى إسرائيل بعد قيام دولتها. وكانوا منتشرين في أرجاء المغرب كافة، في القرى والبلدات والمدن، واعتاشوا عموما من التجارة والتبادلات والأعمال المصرفية. ونظراً إلى خبرتهم الواسعة في مجال التجارة الدولية، عينهم السلاطين المغاربة كوكلاء ماليين وتجاريين لهم وحملوا لقب: «تجار السلطان».
■ وخلال الحرب العالمية الثانية عندما أرادت حكومة فيشي الفرنسية الملحقة بالنازيين اضطهاد يهود المغرب، رفض الملك محمد الخامس ذلك واعتبر أن اليهود مواطنون تماماً كغيرهم من المغاربة، وهو المسؤول عن سلامتهم، ما ساهم في إنقاذ حياة نحو 250 ألف يهودي مغربي من اضطهاد وهمجية ألمانيا النازية. وسار الملك الحسن الثاني على خطى والده وعامل اليهود المغاربة باحترام كبير، واحتفظ اليهود المغاربة الذين غادروا البلاد بالجنسية المغربية، ويمكنهم العودة إلى المملكة متى رغبوا في ذلك. وعين أحدهم، أندريه أزولاي، مستشاراً ملكياً وكان له دور مهم في التقارب بين مصر وإسرائيل في عام 1977، ولاحقاً في الاتصالات التي أفضت إلى اتفاقات أوسلو عام 1993.
وبقي في المغرب حوالي ثلاثة آلاف يهودي، بينما يقيم نحو 700 ألف يهودي من أصل مغربي في إسرائيل. ورغم توقف العلاقات الثنائية في عام 2000، استمرت التجارة بينهما وبلغت 149 مليون دولار بين الأعوام 2014 و2017، بحسب الصحف المغربية.
واليوم، يتغنى المغاربة بفخر بهويتهم المتعددة والمركبة؛ المؤلفة من الأمازيغ والعرب والمسلمين واليهود والأفارقة والأندلسيين والمتوسطيين. وينص الدستور المغربي على «الرافد العبري»، باعتباره مكوناً من مكونات الهوية الوطنية، وهو ما يعد أمراً نادراً في العالم العربي.
ولكن التطبيع بين البلدين أثار سخط الكثير من المغاربة، فقد قال 88% من الذين شملهم استطلاع للرأي إنّهم يعارضون الاعتراف الدبلوماسي بإسرائيل، وأيّد 9% فقط معاهدات السلام بين إسرائيل والإمارات العربية المتّحدة والبحرين. ورأى 70% منهم أنّ القضيّةَ الفلسطينية قضيّة تهمّ العرب برمّتهم (بحسب تقرير مؤشّر الرأي العربي للعام 2019-2020).
وفي هذا السياق، استنكرت «الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع»، أنشطة التطبيع التي ينغمس فيها المطبعون في المغرب بوتيرة متصاعدة. وقالت الجبهة في بيان إنها تعتزم إعداد «قائمة للتاريخ»، تضم «أسماء الشخصيات العامة المُطبّعة مع الاحتلال الإسرائيلي». وإن هدف إعداد القائمة أن «يشهد التاريخ على تهافتهم واندحارهم في سلم القيم، وليذكرهم كوصمة عار في سجل تاريخ المغرب».[ «الخليج الجديد»:4/9/2022].

(10)
التطبيع مع السودان
■ بعد نحو ساعة فقط من إبلاغه الكونغرس الأميركي رفع اسم السودان من لائحة الإرهاب، أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (23/10/2020)، موافقة الخرطوم على التطبيع مع إسرائيل. وبذلك بدت المقايضة جلية بين التطبيع وشطب اسم السودان من «قائمة الدول الراعية للإرهاب»، وفق المنظور الأميركي. وقد مارست إدارة ترامب أقصى ابتزاز وضغط ممكن على الخرطوم من أجل القبول بهذه المقايضة، على خلفية إدراكها حاجة العاصمة السودانية الشديدة لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، والتي تتطلب حذف السودان من «لائحة الإرهاب» الأميركية. وقد لعبت الإمارات دور «العرّاب» في صفقة التطبيع هذه، حيث استضافت وشاركت في محادثات سودانية أميركية على أعلى المستويات، بالتناغم مع دورها الراهن في استدراج دول عربية إلى فخّ التطبيع.
ومن الواضح أن كسب السودان إلى صف الدول المطبّعة، والحلف الإقليمي المنتظر في مواجهة إيران، شكل بالنسبة لواشنطن وإسرائيل مكسباً كبيراً، تفوق أهميته التطبيع الذي حصل مع كلّ من الإمارات والبحرين. وخاصة في حال تردّد وتأخر السعودية وعُمان عن الانضمام إلى موجة التطبيع هذه. فلا ريب أن دخول السودان ــ بحجمه وتعداد سكانه ودوره العربي والإفريقي ــ على خط التطبيع كان أكثر أهمية من «اتفاقات أبراهام» المشؤومة. ولذا فقد تمسّكت إدارة ترامب بإقدام السودان على هذه الخطوة كشرط جوهري لرفع اسمه من قائمة الإرهاب، وهو ما رضخت له الخرطوم، ظنّاً منها أن ذلك يمثل «مصلحة وطنية سودانية»، ويساعدها على رفع العقوبات عنها وتجاوز مصاعب المرحلة الانتقالية.
يجدر بالذكر أنّ استمرار وجود السودان ضمن لائحة الإرهاب، (التي تُدرجه عليها الولايات المتحدة منذ التسعينات، خلال عهد الرئيس المعزول عمر البشير، على خلفية إيوائه حينذاك لإسلاميين متطرفين بينهم زعيم تنظيم القاعدة، أسامة بن لادن)، يعوق فرص الاستثمار الأجنبي، كما يحول دون حصوله على مساعدات وقروض من الهيئات المالية الدولية، في وقت يبدو السودان في أمسّ الحاجة إلى ذلك، في ضوء استمرار تدهور وضعه الاقتصادي.
ونظرياً، تفتح خطوة شطب السودان من القائمة الأميركية للإرهاب بارقة أمل أمام الاقتصاد السوداني المثقل بالديون المقدّرة بنحو 60 مليار دولار، وبمعدلات تضخم عالية بلغت أكثر من 200%، فضلاً عن تدهور مريع في كافة القطاعات الإنتاجية والخدمية والبنية التحتية، وتراجع كبير في قيمة العملة الوطنية، ومعدلات فقر فاقت الـ70% وبطالة بلغت 40%.
وإلى ذلك، فقد حمل التطبيع الإسرائيلي مع السودان جانباً رمزياً مهماً، لأنه جاء بمثابة انتقام من «لاءات الخرطوم» الشهيرة؛ «لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض» مع الدولة العبرية، التي تبنّاها القادة العرب خلال قمتهم التي عقدت في العاصمة السودانية عقب هزيمة حزيران (يونيو) 1967. وهو ما لفت إليه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بقوله: اليوم «الخرطوم تقول نعم، نعم للسلام، نعم للاعتراف، ونعم للتطبيع مع إسرائيل»، واصفاً ذلك بـ«التحول الاستثنائي الهائل»،ومعتبراً أنه يمثل «عصراً جديداً في المنطقة».
• من «المستور» إلى العلن أيضاً
■ وفي الواقع، فإن حال السودان لا يختلف كثيراً عن حال الدول الخليجية في العلاقات السرية، أو «المستورة»، مع إسرائيل. فمنذ عهد الرئيس المعزول عمر البشير بدأت العلاقات مع تل أبيب، وتم عقد لقاءات عدة بين مسؤولين إسرائيليين وسودانيين، قبل أن تنفجر الانتفاضة الشعبية وتجرف معها نظام البشير. واستُؤنف هذا المسار مع السلطات الانتقالية برعاية أميركية مباشرة، ليتوج بلقاء جمع في شباط (فبراير) 2020، رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان، ونتنياهو في عنتابي الأوغندية.
وثمة من يُرجِع سعي تل أبيب إلى اختراق الساحة السودانية، إلى مرحلة أسبق بكثير من عمر نظام البشير. فمنذ حصول السودان على استقلاله عام 1956، بدأت وزارة الخارجية الإسرائيلية والموساد، ببناء علاقات خاصة مع معارضي الناصرية في السودان، وبالأخص حزب «الأمة»، بغرض منع تمدّد النفوذ الناصري، ومحاربة القوى السودانية المؤيّدة لعبد الناصر.
وحسب وثائق إسرائيلية رُفعت السرية عنها قبل سنوات، فقد التقت غولدا مائير عام 1957، رئيس الوزراء السوداني حينها، عبد الله خليل، ثم جرت لقاءات كثيرة في تل أبيب وباريس وإسطنبول، بين مسؤولين سودانيين وممثلي الموساد، وجرى الاتفاق على أن «تقوم إسرائيل بتقديم دعم مالي مباشر لحزب «الأمّة»، وتجنيد دعم فرنسي وبريطاني وأمريكي لحكومة «الأمة» في السودان، وذلك لتقوية الحزب في مواجهة النفوذ المصري. وتوقفت هذه العلاقة بعد الانقلاب العسكري عام 1958، الذي قاده إبراهيم عبّود، الذي اتخذ سياسة منسجمة مع التوجهات الناصرية.
وفي عهد الرئيس جعفر النميري، استؤنفت العلاقات الإسرائيلية مع السودان، وطلب مناحيم بيغين من أنور السادات تسهيل الأمر. وشملت الاتصالات لقاءات كثيرة بين مسؤولين من الطرفين، بما فيها لقاء جمع النميري بأرئيل شارون عام 1982، في مزرعة الملياردير السعودي عدنان خاشقجي في كينيا. وأهم ما توصل إليه الطرفان هو السماح بتهريب يهود «الفلاشا» من إثيوبيا عبر الأراضي السودانية. وفي عهد الرئيس البشير، حصل توتّر شديد في العلاقة مع إسرائيل، بعد اتهام الخرطوم بأنها تسمح بعبور الأسلحة والعتاد إلى قطاع غزة، قبل أن تعود وتهدأ بعد أن غيّر البشير سياسته وانضم الى المحور السعودي الإماراتي، واستغلّت إسرائيل الفرصة وبدأت في التمهيد للاتفاق مع السودان.[جمال زحالقة/ «موسم الهجرة إلى تل أبيب وخمس مطامع إسرائيلية في السودان»/«القدس العربي»:29/10/2020].
وإضافة إلى تعاونهما الأمني والاقتصادي، تريد إسرائيل من الاتفاق مع السودان تكريس التطبيع مع أكبر عدد ممكن من الدول العربية والإفريقية. وهي تريد منه على وجه الخصوص تعزيز حضورها في إفريقيا، وعبر السودان هذه المرّة، بما يسمح لها بتخطي الكثير من العقبات التي كانت تحول دون استكمال اختراقها للقارة الإفريقية. وليس هذا فحسب، بل لعلّها تطمح إلى توسيع هامش الحماية الأمنية والعسكرية لدولتها ليشمل بناء طوق أمني مترامي الأطراف حولها يمتد من وسط افريقيا حتى الخليج، سواءً بالتواجد العسكري المباشر، أم عبر تأمين الحماية لها بالوكالة.
وإلى ذلك، فإنّ إسرائيل ترى في السودان موقعا استراتيجيا مهمّا على البحر الأحمر، يمكن أن يساعدها على وقف تهريب الأسلحة إلى سيناء وغزّة، ومنع تمركز قواعد عسكرية إيرانية وتركية في المنطقة، عملاً بالشق الإقليمي من صفقة القرن. إضافة إلى الحفاظ على خط الملاحة الإسرائيلي عبر البحر الأحمر، وكذلك بناء تعاون عسكري وثيق يشمل تصدير معدات وتكنولوجيا عسكرية وأمنية، ويمكّن من القيام بعمليات عسكرية مشتركة إذا اقتضت الحاجة.
• التطبيع و«الانتقال الديمقراطي»
■ الانقلاب الذي قام به الجناح العسكري في السلطة الجديدة في الخرطوم، ضد حكومة عبدالله حمدوك، (الممثل للجناح المدني في الحكم)، لم يكن مفاجئاً، بل كان من المتوقع أن تشهد عملية الانتقال السياسي انتكاسة في أي لحظة، بسبب الإرث الثقيل الذي خلّفه نظام البشير (الإسلامي)، وخصوصاً المشاكل القبلية والعرقية والأزمات الاجتماعية والاقتصادية الحادة التي كانت أشبه بقنابل موقوتة مزروعة في طريقها. إضافة إلى الدور (الملغوم) الذي اضطلعت به المؤسسة العسكرية في الإطاحة به.
وما زاد من المخاطر التي هدّدت عملية الانتقال الديمقراطي في السودان، هو التباينات والانقسامات التي شهدها الداخل السوداني حيال قرار التطبيع أيضاً. حيث أدانت معظم القوى السياسية السودانية المنضوية في تحالف قوى الحرية والتغيير، (الشريك المدني في السلطة الانتقالية، والظهير السياسي لحكومة عبدالله حمدوك)، التطبيع مع إسرائيل، معتبرةً أنّه «يناقض المصلحة الوطنية العليا، ويتجاوز صلاحيات الفترة الانتقالية ومهام الحكومة المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية»، وأنه بمثابة «خيانة للقضية الفلسطينية، وانتكاسة لمبادئ وقيم الشعب السوداني». في حين أنّ المكوّن العسكري داخل «مجلس السيادة» كان متحمساً للتطبيع، في ظل اعتقاده أن هذا القرار ليس من شأنه شطب اسم بلاده من لائحة الإرهاب فحسب، بل وتدعيم وضعه داخل هيئات الحكم السودانية الانتقالية، وضمان دور أوسع للمؤسسة العسكرية في نظام الحكم لاحقاً!.
وحسب مصادر سودانية، كان البرهان طالب الأميركيين بتحصين قيادات الجيش من أي ملاحقات مستقبلية، في وقت كانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تميل فيه للتعامل مع قيادات ذات خلفيات عسكرية، بوصف ذلك خياراً أسهل من التعامل مع قيادات مدنية، كما لقي هذا النزوع دعماً وتأييداً من القيادات الإسرائيلية أيضاً.
وفي السياق، كشفت مصادر سياسية إسرائيلية، أن قادة «الموساد» أجروا (من وراء ظهر حكومتهم)، لقاءات مع قائد قوات «الدعم السريع»، محمد حمدان دقلو، الملقب بـ«حميدتي». وأكد موقع «والا» الإسرائيلي أن حميدتي، ومنذ بداية عملية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسودان، حاول إقامة قنوات اتصال مستقلة مع إسرائيل. وبأنه قام بذلك من خلال الالتفاف على البرهان وحمدوك. [نظير مجلي وأحمد يونس/«لقاءات الموساد»مع حميدتي تفجّر غضباً..وصمت في الخرطوم»/«الشرق الأوسط»: 26/6/2021].
وعلى الرغم من أنّ المصادر أشارت إلى أن البرهان عبر عن استيائه من هذه الاتصالات أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو ومبعوثيه، إلا أنه من الواضح أنّ الأمر لا يعدو كونه سباقاً بين الرجلين (البرهان وحميدتي) لتقديم الولاء والخدمات على هذا الصعيد.
وواقع الحال، أنّ السودان لم يكن ينتظر فقط رفع اسمه من قائمة الإرهاب، إنما كان يطمح لما هو أكثر من ذلك؛ وهو رعاية «الانتقال السياسي» بالدعم والمشاريع الاستثمارية السخية التي تساعده على تجاوز مصاعبه الاقتصادية والحؤول دون اندلاع أية احتجاجات جديدة. في حين أنّ المساعدات الأميركية كانت تقدّم له بالقطارة، ولا تكفي قطعاً لانتشاله من أزمته الاقتصادية وضائقته المعيشية الصعبة التي يمرّ بها؟.
في هذا الصدد، لفت مراقبون إلى أنه لو كانت واشنطن والعواصم الغربية حريصة فعلاً على تثبيت قيم الديمقراطية وحقوق الانسان التي تتشدّق بها، لعملت ما بوسعها على انجاح الانتقال السياسي وتمكين الديمقراطية الناشئة في السودان، ولبادرت فوراً إلى دعم السلطات الجديدة، وخصوصاً الشق المدني منها، من دون رهن ذلك بأية شروط سياسية مذلة، كما حصل تجاه قضية التطبيع.
(8)
هل نحن أمام «شرق أوسط جديد»؟
■ ما سبق عرضه يوحي وكأن الخطوات التطبيعية الأخيرة ستؤتي أكلها، وستكرّس واقعاً جديداً يُغري بقية بلدان العالم العربي اللحاق به وركوب موجته. وفي إطار التسويق لذلك، عاد الحديث مجدّداً عن الفرص الاقتصادية والتكنولوجية والأمنية والسياحية التي ستنجم عن اتفاقات التطبيع الموقعة، تماماً على غرار وعود التنمية والازدهار الاقتصادي التي روّج لها سابقاً شمعون بيريس في كتابه «الشرق الأوسط الجديد» الذي أصدره بعد «أوسلو» 1993. وهو الكلام ذاته الذي سمعناه بعد أن وقع الأردن معاهدة وادي عربة، وهكذا وهلمجراً.. وعلى ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو؛ هل نحن أمام شرق أوسط جديد حقاً؟ وما مصير كلّ تلك الوعود، ما الذي تحقق منها؟ ألم تتبدّد وتضيع هباءً؟، وهل سيكون حال الوعود الجديدة أفضل من سابقاتها؟!
قد يبدو الجواب للوهلة الأولى غير محسوم، وخصوصاً أنّ المنطقة العربية شهدت بعد الاتفاقات الأخيرة ما يمكن تسميته بـ«حلف تسويق التطبيع»، وذلك عبر زعماء سياسيين ورموز ومثقفين وشخصيات عامة، بهدف إحداث اختراق في موقف الشعوب العربية، بموازاة الاختراق الحاصل في موقف الحكومات الرسمي تجاه إسرائيل، على نحو يتقاطع مع المساعي الإسرائيلية منذ عقود، لفك الارتباط الوجداني والاجتماعي بين فلسطين ومحيطها، والتمهيد لاندماجها في الإقليم، عبر تقديم عروض التطبيع المغرية المحمولة على وعود الاستقرار والتنمية والرخاء التي ستعود بالنفع العام على الجميع.
وواقع الحال، وعلى رغم المياه الكثيرة التي جرت تحت جسور السياسات العربية والدولية طوال العقود المنصرمة، إلا أنّ طبيعة المشروع الصهيوني (الاستيطاني التوسعي العنصري) بقيت ثابتة ولم تتغير، وما انفكّت ترفض الاعتراف والإقرار بالحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني. ولذلك فقد ظل الرفض الشعبي العربي للكيان الصهيوني وسياساته العنصرية ثابتاً هو الآخر ولم يتغير. و«قد لا يكون من المبالغة القول، إن ذلك مثّل، بالنسبة لإسرائيل، الواجهة المرعبة في صراعٍ كان يُفترض، بمقاييس القوة العسكرية، أن تحسمه إسرائيل منذ فترة طويلة».[محمد أحمد بنّيس/ «سراب التطبيع»/ «العربي الجديد»: 13/2/2020].
وفي هذا السياق، فإنّ الجهات المختصّة في إسرائيل شعرت بالصدمة والخيبة من نتائج دراسة صادرة عن وزارة الشؤون الاستراتيجية والدعائية، أظهرت أن 90% من روّاد مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي يعارضون التطبيع مع إسرائيل. وقد استندت الدراسة إلى بحث أُجري بين (12/8 و 8/9/2020)، أي مع ذروة الاندفاعة الخليجية نحو التطبيع، وهي يمكن أن تشكل مؤشراً إلى توجّهات الرأي العام العربي حيال مجمل حركة التطبيع، منذ اتفاقية «كامب ديفيد» عام 1978، مروراً بـ«اتفاقيتَي أوسلو ووادي عربة»، وصولاً إلى الاتفاقات الأخيرة.
الدراسة تظهر إذن أنّ الموقف الرافض للاحتلال الصهيوني لفلسطين، لا يزال يحتلّ وجدان الشارع العربي، وإلى أنه «محظور التفكير أنّ العالم العربي يتجاهل فجأة القضية الفلسطينية»، وبأنّ «هذه القضية تقف هنا على أبوابنا كقنبلة موقوتة»، كما قال رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية «أمان»، العميد درور شالوم، في تعليقه على نتائج الدراسة.[علي حيدر/ «معركة الوعي الإسرائيليّة بلا نتائج: العالم العربي لم ينسَ فلسطين»/ الأخبار: 14/10/2020].
وهنا علينا أن نميّز بين «التطبيع الرسمي»، وبين «التطبيع الشعبي» إذا جازت التسمية، فالأول قد يكون متاحاً، في ظلّ الأوضاع المعروفة التي يشهدها العالم العربي، أما الثاني فمن الواضح أن السنوات الطويلة التي أعقبت التوقيع على الاتفاقات السابقة لم تفضِ إلى علاقات طبيعية بين إسرائيل والشعبين المصري والأردني.
قد لا تقتصر علاقات بعض الدول العربية مع إسرائيل على التطبيع فحسب، بل قد تتوطد إلى درجة التحالف العسكري والاستراتيجي، ومع ذلك فإنّ هذه العلاقة تبقى مدفوعة بحسابات الأنظمة وليس الشعوب العربية، التي ما برحت تمتلك حساسية شديدة تجاه إسرائيل وممارساتها العدوانية، وما زال الرأي العام فيها يرفض بأغلبية كبيرة الاعتراف بإسرائيل، ويعتبر القضية الفلسطينية قضية الأمة العربية أجمعها، وهو أمرٌ لم تستطع الأنظمة العربية تغييره.
ما من شك أن إيران تسعى للعب دور أكبر على الساحة الإقليمية، وتحاول أن تبسط نفوذها والتدخل في الشؤون الداخلية لهذه الدولة أو تلك، بيد أنّ هذا لا يجعلها في نظر الشعوب العربية العدو الرئيسي، كما أن «حيازتها للأسلحة النووية لا تشكل خطرا وجوديا بالنسبة للأردن، (على سبيل المثال). وذلك بعكس إسرائيل التي تمتلك أسلحة نووية منذ العام 1967، ما يشكل تهديدا وجوديا للمنطقة بأسرها. كما أن رفض إسرائيل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية على التراب الفلسطيني، يمثل تهديداً وجوديا من نوع آخر للأردنيين والفلسطينيين على حد سواء».[مروان المعشر/«زيارة بايدن والتحالفات الإقليمية»/«القدس العربي»: 9/7/2022].
وواقع الحال أيضاً، أنّ «الشرق الأوسط الجديد» ووعود التنمية الكاذبة التي يُرَوّج لها، لم يكن أكثر من فكرة إسرائيلية، تجسّد، من جهة أولى، رؤية اليمين الصهيوني، بأنه يمكن عقد معاهدات منفردة مع دول عربية، بعيداً عن قضية فلسطين وشعبها، أي العمل وفق مقولة «السلام مقابل السلام»، وليس «السلام مقابل الأرض». ومن جهة ثانية، فهي مدعومة من دوائر اليمين الأميركي المحافظ، لـ«تدوير حالة التخلف العام التي ترزح تحتها شعوب المنطقة، وتعبيدِ الطريق أمام هيمنة إسرائيل من خلال تعزيز تفوقها العلمي والتكنولوجي والاقتصادي».[محمد أحمد بنّيس/«سراب التطبيع»/«العربي الجديد»: 13/2/2020].
ولعله من المفيد التذكير هنا، أن «المبادرة العربية للسلام» التي طرحت في القمة العربية (بيروت 2002)، كانت ستمنح إسرائيل تطبيعاً كاملاً في حال التزامها بإعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، لكن إسرائيل رفضتها. وهي مستمرة برفض أية مقترحات بشأن الدولة الفلسطينية مهما كانت طبيعتها وشروطها، حتى لو طرحت من قبل الإدارة الأميركية ذاتها!.
الوقائع على الأرض تفضح الدعاية الإسرائيلية وتكشف زيفها، فمصر والأردن، الدولتان العربيتان الوحيدتان اللتان وقعتا منذ عقود اتفاقيتي سلام شاملة مع إسرائيل، لم تجنيا من «وعود السلام» غير حزمِ مساعدات وقروض ومعونات اقتصادية وعسكرية أميركية، لم تُحدث أيّ فارق يُذكر في الوضع المعيشي والاجتماعي للشعبين المصري والأردني، في حين أنّ مكاسب إسرائيل منهما كانت هائلة على غير صعيد.
أما «اتفاقات أوسلو» وما يسمّى بـ«عملية السلام» التي تم إطلاقها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فهي لم تُفضِ إلى أي نوع من السلام أو الاستقرار أو التنمية، بل وكانت سبباً في مزيدٍ من الانقسامات، سواء داخل البيت الفلسطيني أم في البيت العربي. وعاجلاً أم آجلاً سيدرك الجميع أنّ السلام الحقيقي يكمن في معالجة مشكلة ملايين الفلسطينيين؛ في الضفة الغربية وقطاع غزة وباقي مناطق الشتات واللجوء، الذين يتطلعون إلى أن يكون لديهم دولتهم المستقلة، مثل كلّ شعوب الأرض الأخرى، وستظل مأساتهم مستمرة حتى تجد لها حلا مقبولاً وقابلاً للحياة.
إحدى الحجج والمبررات التي يتداولها أنصار التطبيع تقول: إن «القيادة الفلسطينية تتحمّل مسؤولية الفشل الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية، وبالتالي فهي الوحيدة التي يجب أن تُلام على ما يحدث للقضية». وأحياناً تُضاف إلى هذه المبررات مواجهة إيران. فضلاً عن «الحديث السخيف والفارغ عن أن التطبيع هو من أجل حماية حقوق الفلسطينيين، ومنع إسرائيل من ضم أراضي الضفة الغربية»!
وفي الواقع، فإنّ المنطق الذي يحاول تسوّيق اتفاقات التطبيع المُذلة بمسوّغ أن «الفلسطينيين هم المسؤولون عمّا آلت إليه أوضاعهم»، هو «منطق مفلس ومنحط أخلاقياً، إذ يلوم الضحية على ما يقع لها، ويرفع المسؤولية عن المجرم»!.ولو كان «الفلسطينيون هم فعلاً المسؤولون عن ضياع قضيتهم، فلماذا كانت دول التطبيع تدعمهم منذ خمسة عقود وحتى وقت قريب، ما لم تكن شريكة في تحمّل مسؤولية فشلهم؟». [خليل العناني/ «تفكيك خطاب المطبّعين مع إسرائيل»/ «العربي الجديد»: 13/9/2020].
يجدر بالذكر أنّ وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري (في عهد الرئيس باراك أوباما)، قاد آخر جولة مفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين قبل أن تنهار عام 2014، عقب رفض إسرائيل إطلاق الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو، واستمرارها في البناء الاستيطاني. وفي عام 2015 اشترط نتنياهو الاعتراف الفلسطيني بـ«يهودية» إسرائيل، لقبوله التفاوض على التوصل لاتفاق سلام، وهو ما رفضه الفلسطينيون. وفي كانون الأول (ديسمبر) 2016، قال كيري إن «الطريق الوحيد الممكن من أجل السلام هو خيار حل الدولتين»، بينما كان نتنياهو مستمراً بدعم الاستيطان في مجمل أراضي الضفة الغربية، بما فيها القدس، وهو ما اعتبره الفلسطينيون وأداً لخيار حل الدولتين.
وفي عام 2018، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن خطته للسلام المعروفة إعلامياً بـ«صفقة القرن»، والتي تقوم على أساس «السلام الاقتصادي»، وتحسين ظروف حياة السكان المعيشية، مقابل منح إسرائيل سيطرة شبه كاملة على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، على نحو لا يسمح أبداً بإقامة دولة فلسطينية مستقلة. واعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهو ما يحرم الفلسطينيين من إقامة عاصمتهم في القدس الشرقية. ورفض الفلسطينيون طبعاً خطته بشدة، وهو ما تسبّب بفشلها.
ويرى الفلسطينيون أن «الولايات المتحدة لم تمارس أي شكل من أشكال الضغط على إسرائيل لكي تنفذ التزاماتها حسب اتفاق أوسلو». ويقولون إن هذه السياسة تعطي إسرائيل الوقت للاستمرار في التوسع الاستيطاني وقضم الأرض الفلسطينية، وهو ما يعني فعليا «قتل خيار حل الدولتين».
وعندما جاءت إدارة بايدن، وعلى رغم الوعود الكثيرة التي حملتها، فقد لاحظ الفلسطينيون أنّ جهدها الأساسي ينصبّ على الجانب الاقتصادي، وأنها تعمل يدا بيد مع حكومة الاحتلال وأطراف في السلطة لتحسين الأحوال المعيشية والاقتصادية والمالية للفلسطينيين بغرض منع الانفجار على الأرض. فقد أعادت المساعدات الأمريكية للسلطة، وإن ليس كاملة ومشروطة أيضاً.. وأعادت المساعدات للمنظمات الإنسانية، وأعادت المساهمة في ميزانية وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» وقدرها 360 مليون دولار، التي أحدث توقفها أزمة حقيقية للأونروا وانعكس سلبا على الخدمات التي تقدم للاجئين الفلسطينيين في جميع مناطق وجودهم الرئيسية. وبذلك كله، فقد كانت إدارة بايدن تنفذ عمليا «الشق الاقتصادي من صفقة القرن» وإن بقفازات حريرية، وبموافقة أطراف فلسطينية، ولم تطرح حلولا سياسية قط. وما خلا تمسكّها اللفظي بموضوع «حل الدولتين»، فإنها لم تتخذ أي خطوات عملية تشير إلى جديتها في تحقيق هذا الحل، كما لم تقم بأية محاولات جادة لوقف النشاط الاستيطاني.
لقد طالب الفلسطينيون بالتراجع عن القرارات المجحفة التي اتخذتها إدارة ترامب السابقة. من قبيل: الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وشرعنة الاستيطان في الأراضي المحتلة، وذلك بإلغاء سياسة أمريكية قائمة منذ عقود عديدة، تعتبر المستوطنات غير قانونية وفقا للقانون والشرعية الدوليين، وقتل ما يسمى حل الدولتين عبر صفقة القرن التصفوية التي قضت على إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة وعاصمتها القدس، وحدود وأجواء معترف بها، والسماح بضم 30% من الضفة، إضافة إلى الأغوار الشمالية وشمال البحر الميت. وكلّ ذلك لم تحرك إدارة بايدن ساكناً تجاهه.[علي الصالح/ (هل نشهد تطبيق «الجيل الثاني» من صفقة القرن؟) «القدس العربي» 29/1/2022].
والحال، فإذا بقيت القضية الفلسطينية، مركونة ومنتظرة من دون حلّ، فإنها ستستمر كبؤرة للتوتر والحروب في المنطقة، هذا فضلاً عن الحروب الفظيعة الناشبة في غير مكان منها!. وإذا كان من الصحيح أنه في ظل انشغال الدول العربية بمشاكلها اليومية والحروب الأهلية التي نشبت فيها فقد تراجع اهتمام شعوبها بالقضية الفلسطينية، لكن هذا لا يعني غياب التعاطف مع الفلسطينيين. ثم حتى لو ازدادت عزلة الفلسطينيين، فإنّ هذا لن يدفعهم إلى التخلي عن قضيتهم ومطالبهم. فالفلسطينيون «الخاسرون» في المعادلة العربية لن يختفوا في نهاية المطاف!.
وعندما يخسر الفلسطينيون، فهذا لا يعني بالضرورة أن إسرائيل هي التي ستكسب جرّاء ذلك، بل قد تكون هي خاسرة أيضاً. وفي الواقع، فعندما يخسر الفلسطينيون دولتهم، فإن إسرائيل هي الخاسر الأكبر جرّاء ذلك، لأنه يعمّق من أزمتها ومعضلتها الوجودية المتصلة بهويتها وطبيعة كيانها السياسي. ذلك أنها تريد أن تكون دولة يهودية صرفة، من دون أن يحصل الفلسطينيون، في المقابل، على دولتهم الخاصة بهم. وتريد أن تحافظ على ديمقراطيتها، وأن تبقى في الوقت نفسه دولة استعمارية تحتل أراضي ملايين الفلسطينيين، وتمارس ضدهم تمييزاً عنصرياً على النحو الذي كان قائماً في نظام الأبارتهيد في جنوب إفريقيا.
وإلى ذلك كله، فقد لاحظ الفلسطينيون كذلك أنه خلال العقد الماضي، ضَعُفت شعبية الأحزاب الإسرائيلية المؤيدة لـ«حل الدولتين» بشدة، وتزايدت في المقابل قوة الأحزاب اليمينية التي ترفض مبدأ إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وعلى سبيل المفارقة، فإن الأجواء السياسية في إسرائيل تبدو مؤاتية الآن لنمو أعتى موجة من موجات التطرف العنصري والقومي اليميني، ممثلة بالمتطرف اليهودي ايتمار بن غفير، الذي يشكل الدليل الأكثر «درامية» لمسيرة الانعطاف اليميني التي قطعها المجتمع الإسرائيلي في العقد الأخير، وذلك على الرغم من اتفاقات التطبيع الموقعة أخيراً، والتي يفترض بها، نظرياً على الأقل، أن تكبح جماح التطرف الإسرائيلي!
المحلل الأميركي المعروف، توماس فريدمان، (المعروف بقربه من إسرائيل، وبطرح المبادرات التي تخدمها)، كتب في صحيفة «نيويورك تايمز»، تعليقاً على جولة الرئيس جو بايدن في المنطقة، التي زار خلالها إسرائيل وفلسطين والسعودية، أعرب فيه عن اعتقاده أن «السعودية والعرب في إسرائيل لديهم القدرة على إنقاذ الديمقراطية اليهودية».
ورأى أن«ترياق إسرائيل (الذي يمكن أن ينقذها من معضلتها كدولة يهودية ديمقراطية)، يكمن في دور العرب داخل إسرائيل وسلام مع السعودية، وهو ما لن تقبل به بدون ثمن». ويضيف فريدمان: «هذه أسئلة وجودية تواجه إسرائيل منذ 1967، عندما احتلت الضفة الغربية والقدس الشرقية. وهي لن تصبح دولة ديمقراطية قابلة للحياة ما دامت تحتل وللأبد 2,7 مليون فلسطيني في الضفة الغربية. ويعني الاحتلال تطبيق القوانين الإسرائيلية على اليهود الذين يعيشون في الضفة الغربية، ومعاملة الفلسطينيين بناء على قوانين عسكرية أخرى، بحقوق أقل وبفرص أقل لامتلاك الأراضي وبناء البيوت والتجارة والتواصل والسفر أو التنظيم السياسي».
ويعتبر فريدمان أنّ الاحتلال الإسرائيلي «ربما ليس مشابها لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، لكنه شبيه وقريب منه على نحو قبيح، ويعمل على تآكل أخلاقية إسرائيل، وكذا الديمقراطية اليهودية». ويضيف أنّ «الاحتلال أصبح منفراً، وبخاصة بين اليهود الليبراليين في أمريكا، ولو استمر الوضع بهذه الطريقة، فلربما كان جو بايدن آخر رئيس ديمقراطي مؤيد لإسرائيل».[نقلاً عن إبراهيم درويش/ «القدس العربي»: 15/7/2022].
وواقع الحال، أيضاً وأيضاً، أن معضلة إسرائيل كـ«دولة يهودية ديمقراطية» تكمن في بنية وطبيعة الكيان الذي أنشأته بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف تطور بعد ذلك، أي ككيان قام على فرض عناصر القوة والغلبة والإكراه، واغتصاب حقوق الفلسطينيين والدول العربية المجاورة، وعدم الاعتراف والاستجابة لقوانين الشرعية والدولية، وهو ما حال سابقاً، وسيبقى يحول مستقبلاً، دون قبوله واندماجه في المنظومة الإقليمية، وإذا أراد ذلك، فما عليه سوى الانصياع لشروط السلام العادل القابل للحياة، وفي مقدّمها الكف عن كونه كياناً استعمارياً استيطانياً توسعياً، والكف كذلك عن طبيعة نظامه كنظام فصل عنصري، والتخلي عن الأراضي التي احتلها والسماح بقيام دولة فلسطينية كاملة السيادة، وهذا كله يتناقض مع وعي هذا الكيان لذاته، ولعلاقات السيطرة والغلبة التي أرساها على مدى عقود مع محيطه.


7/3/2023



#الجبهة_الديمقراطية_لتحرير_فلسطين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (الكلمة الكاملة لفهد سليمان نائب الأمين العام للجبهة الديمقر ...
- العدد 63 من «كراسات ملف»: حكومات «الوحدة الوطنية» في إسرائيل
- بلاغ صادر عن المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- العدد 62 من «كراسات ملف»: التطبيع .. المسار والتداعيات
- العدد 60 من «كراسات ملف» : انتخابات الكنيست الـ20
- التقرير السياسي الصادر عن أعمال دورة اجتماعات المكتب السياسي ...
- موضوعات في الوضع السياسي الراهن
- صدور العدد 58 من «كراسات ملف»
- العدد 57 من «كراسات ملف»: المشروع الوطني الفلسطيني وراهنية ا ...
- العدد 56 من «كراسات ملف»: الاستيطان في قرارات مجلس الأمن
- كتاب جولة أفق سلسلة الطريق الى الاستقلال (43)
- العدد 55 من «كراسات ملف»: « المسألة اليهودية ونشوء الصهيونية ...
- جديد «كراسات ملف»: قراءة في كتاب «بين مشهدين»
- «الأحزاب العربية في إسرائيل» محور العدد 52 من «كراسات ملف»
- العدد 50 من «كراسات ملف»:مقتطفات من كتاب« دولة إسرائيل ضد ال ...
- اتحاد نقابات النرويج ينتصر لفلسطين
- جديدنا نايف حواتمة
- الجبهة الديمقراطية تنعي الشهيدة الفارسة الإعلامية شيرين أبو ...
- بيان صادر عن قطاع العمال في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين ...
- كتاب بين المشهدين


المزيد.....




- السعودي المسجون بأمريكا حميدان التركي أمام المحكمة مجددا.. و ...
- وزير الخارجية الأمريكي يأمل في إحراز تقدم مع الصين وبكين تكش ...
- مباشر: ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب ع ...
- أمريكا تعلن البدء في بناء رصيف بحري مؤقت قبالة ساحل غزة لإيص ...
- غضب في لبنان بعد تعرض محامية للضرب والسحل أمام المحكمة (فيدي ...
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /26.04.2024/ ...
- البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمق ...
- لماذا غيّر رئيس مجلس النواب الأمريكي موقفه بخصوص أوكرانيا؟
- شاهد.. الشرطة الأوروبية تداهم أكبر ورشة لتصنيع العملات المزي ...
- -البول يساوي وزنه ذهبا-.. فكرة غريبة لزراعة الخضروات!


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين - العدد 64 من «كراسات ملف»: «اتفاقات أبراهام» ومعضلة اندماج إسرائيل في المنطقة