أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - شريف حتاتة - عودة الحرباية















المزيد.....

عودة الحرباية


شريف حتاتة

الحوار المتمدن-العدد: 7534 - 2023 / 2 / 26 - 16:12
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


----------------------------
بعد أن تجاوز سني العقد الثامن ، أصبحت تلح علي ذكريات الطفولة لتعود إلى حية نابضة كأنني عشـتها بالأمس، فالطفولة هـي سـنين البـراءة، والتفـاؤل، والحماس، أحتاج أن أعيش فيها من جديد. تساعدني على مواجهة القسوة والقبح اللذين نحياهمـا يوميا، قادرة على أن تنقلني إلى أيام كانت بالنسبة لي أكثـر إشراقا، أن تضفي على الحاضر لحظات فيها سعادة. علمتني التجارب أن أحد أسرار السعادة ، هـي القـدرة على الإستغراق في الأشياء الجميلة فـي حياتنا، أن نعيش لحظاتها في الحاضر، ألا نتركهـا تضـيـع فـي طاحونة الأيام، وصراعاتها.
في الصباح عندما أستيقظ أفتح نافذتي لتتسلل إلى أشعات الشمس. أقول لنفسي أنت محظوظ فمازلت على قيد الحياة. ساقاك تحملانك فوق المسـافات، وقلمـك يزحف فوق الأوراق. بين الحين والحين تقرأ اسـمـك مطبوعا على رواية من رواياتك، أو تحضر إجتماعـا يتحدث فيه الشباب عن أحلامهم، عن جهودهم لتغييـر الأوضاع التي فرضها علينا حكامنا. أو أشاهد فيلمـاً أخرجته إمرأة شابة يقول ما لم يجرؤ على قوله الكبار، فيلما فيه فن ورهافة الإحساس، فأخرج مـن صـالـة العرض بخطوة استعادت الحيوية التي تفقدها أحيانا.
لكن ذكريات الطفولة ، قد تفشل في إنتزاعي مـن الضيق الذي أشعر بهما إزاء ما يحدث في بلادنا، تعيـد إلـىَ أشياء تضفي على الحياة كآبة، تذكرني بمواقف رجال ونساء احتلـوا مكان الصدارة في المسرح السياسي والثقـافي، وتلاعبـوا بالشعارات والأهداف التي كانت تعبر عن آمالنا.
قضيت أغلب سنين الطفولة في بيت جدي، في منزل كبير من دورين يشبه الدوار. كانت على نوافذه العاليـة قضـبان، وكان محاطا بحديقة واسعة تطل في امتداها على شارع "سراي الجزيرة" أمام نادي "الجزيرة" ، الذي كان مخصصـا فـي ذلـك الوقت للإنجليز ، ثم إنتقل في عهد "عبد الناصر" إلى المصريين ، الذين شكلوا الطبقة الحاكمة الجديدة .
في هذا المكان ، تعلمت أن السعادة تكمن في الالتفاف حول الأوامر التي كان يصدرها جدي. كان مثل قوة خفية لا أراهـا، مثل الإله يتحكم في حياتي، في مساعدة البستاني الذي يرعـى الزهور، ويروي الأشجار، في الحديث يدور بيننا وهو يـزرع ويقلع، أو هو يتناول الطعام الذي تسلمه من البـاب الخلفـي للبيت الكبير من عم عبده الطباخ، في الجلـوس علـى مقعـد "الحنطور" إلى جوار "الأسطى حسين" ينطلق بي في الشـوارع الخضراء لحي الزمالك، في مطاردة الفراشات الملونـة تطيـ بحركتها السريعة المتعرجة بين الأحواض، في تتبع الضفادع وهي لا تزال يرقات تسبح في مياه القنوات.
في يوم من الأيام أثناء تجولاتي وقعت على كائن لـم أره من قبل، يشبه "السحلية" التي كنت أراها راقدة فـي الأمـاكن المشمسة، وتختفي بسرعة عندما تلمحني مقدما. كان له ذيـل طويل، ورأس كرأس السلحفاة، وعينان صغيرتين، سـوداوتين تظللهما جفنان من الجلد الداكن السميك ، يغلقهما أحيانـا لمـدة قصيرة كأنه ينسحب إلى الداخل ليتأمل أحواله.
لاحظت على هذا الكائن ، أن لون جلده يتغير حسـب لـون البيئة المحيطة به. فإذا زحف فـوق الحشائش أو النباتـات الخضراء تحول لونه إلـى الأخضـر العميـق. وإذا استقرت تحركاته على الرمال الصفراء ، كساه لون أصفر فاتح يكاد يخفيه عن نظراتي. وإذا رقد بين حبــات البرتقـال الـذي اقتطفهـا البستاني ، أصبح لون جلده يشبه قشرة البرتقال. فلمـا سـألت البستاني ، فحصني بعينه الوحيدة في صمت قبل أن يجيـب "دي اسمها "حرباية " وبتغير لونها عشان ما حدش يشوفها بسهولة ويئذيها."
انقطعت علاقتي بالحرباية بعد ذلك لمـدة دامـت سـنين طويلة. مات جدي سنة ١٩٢٧ ، في ذات السنة التي توفي فيها "سعد زغلول" فتركنا الدوار. قام الورثة ببيعه هـو والحديقـة وصلت مساحتها إلى ما يقرب من ثمانمائة متر مربـع ، مقابـل خمسة ألاف جنيها ، فرحلنا أنا وأبي وأمي إلى مكان آخـر فـي الزمالك.
لكن في سنة 1986 ، أقمت بيتاً صغيراً في بلدتي "القضابة" بمحافظة الغربية . ثم أحطتـه بحديقـة عنـد شـاطيء ترعـة "الباجورية" التي تصل بين مركز "قسطة" ومدينة دسوق. وفي بعض الأيام كنت ألمح "الحرباية" وسط شجيرات العتـر التـي زرعتها ، لأنها طاردة للبعوض يكثر فـي مـوسـم شـتل الأرز ، وزراعته نتيجة إغراق الحقول بمياه الري.
اختفت الحرباية مرة أخـرى مـن حيـاتي ، نتيجـة رش المبيدات الضارة في الحقول بكميات كبيرة، لكن عادت ذكراها إليَ عندما شاهدت التغير السريع في مواقـف أفـراد النخبـةالمعروفين في الحياة السياسية والثقافية والإعلاميـة للـبلاد. ظلوا راقدين في أحضان السلطة، وهيئاتهـا، وفـي صـفوف المعارضة سنين طويلة ، مستفيدين بشكل أو آخر من أوضاعهم المميزة. كانوا ينتقدونها في بعض الأمـور دون أن يجرؤوا على تناول القمم المسئولة عما يجري في البلاد. يتطرقون إلى مسائل لا خطورة فيها حرصاً على أوضاعهم. عاصر بعضـهم أكثر من عهد، تلونوا ليظلوا كما هم النخبة التي تفسر، وتبرر سياسات الحكم، وتساعد على تمريرها. لكنها تمارس قدرا من النقد حتى تضفي على نفسها مصداقية . وعلى الاخص عنـدما يبدو على العهد ما ينم عن الضعف، وينبيء بنهايته.
هكذا في الأيام الأخيرة ، أعاد بعضهم اكتشاف "الليبراليـة"التي سادت، على حد قولهم، في ظل حكم الإنجليز، والإقطاع، والقصر. وصفوها بأنها كانت أجمل أيام الحرية فـي مصـر. فظهر أن إعجابهم بالمراحل الممتـدة بـين ۱۹۱۹، و ١٩٥٢ يرتبط برضائهم عن الحقبة التي نعيشها الآن، حقبـة رجـال الأعمال وملاك الأرض المتعـاونين مـع الولايات المتحـدة الأمريكية، ودول الاتحاد الأوروبي، وهـى ديموقراطيـة رأس المال تعطي الحرية للأقلية من الأغنياء لتدافع عن مصالحها خلال الهيئات التشريعية، والتنفيذيـة، والقـوانين القائمـة، أوالقوانين التي تعد لخدمتها، لكنها تفرض مزيداً مـن القيـود والحرمان على أغلبية الشعب.
في السنين الأخيرة ، انضمت إليهم بعض النخـب الشـابة ، استوعبت الدرس وتعلمت مـنهم، لتتميـز حركـات التلـون، والإنتقال من موقف إلى موقف ، بقدر أكبـر مـن المرونة والسرعة. فالإنتهازية الشابة أسرع في حركتها من الإنتهازية الكهلة أو العجوزة، ولأننا نعيش في عصر التكنولوجيا حيـث نتقل رؤوس الأموال، والأفكار، والعقول عبر العالم في لمـح البصر، في القرن الأمريكي الجديد بقيادة "بوش" و" تشـيني و رامسفيلد"، في فترة زادت فيها وتيرة التطورات في بلادنـا ، بعد أن سقط القناع الديمقراطي للنظام، واتضحت هشاشته.
في هذه الفترة قفزت لجنة السياسات إلى الحكـم، وقفـز معها رجال الأعمال المتخصصين في المضاربة، والإحتكار إلى مجلس الشعب، ومجلس الوزراء، وإلـى وسائل الإعـلام المختلفة. فقررت النخب المفكرة أن تقفز معهم إلى صحفهم، وإلى قنواتهم التليفزيونية، وإلى بنوكهم، وشـركاتهم. وقـرر أعضاء المجلس القومي لحقوق الانسان أن يكشفوا عن عجزه، وأن يلحقوا بركب الاتحاد الأوروبي. وقـرر خبـراء المـراكـز الاستراتيجية القومية أن يشنوا الحملات "الجريئة" على نظـام الحكم، وأن يسايروا الحركـات التـي تطالـب بـالتغيير، وأن يشاركوا في بعض أنشطتها، وأن يوزعوا عليها فتاويهم حول وسائل تطويرها.
شاركهم في هذا القفز ، نخب من النساء ثرن أخيـراً ضـد المجلس القومي للمرأة، وضد الحزب الوطني الديموقراطي ، بعد أن ظللن سنين جزءا أصيلا منهما، يدافعن عـن السياسـات والقيادات المشرفة عليها نظير ما تأتيهن من منافع، وشـارك فيه بعض الباحثين الإجتماعيين، والقادة المفكرين الذين تنبهوا فجأة لمزايا "الإخوان المسلمين" واستعدادهم للتطور وللتحـول من "إخوان مسلمين" إلى "مسلمين ديموقراطيين" ، بعد أن ظلـوا يهاجمونهم لحساب السلطة وأحياناً لحساب التيارات اليسارية. إننا نشاهد اليوم حركة تسعى نحو مزيد من الديموقراطية، لكن لا أظن أن حركة "الإخوان المسلمين" يمكن أن تصـبـح جـزءا منها ، حتى إن لجاوا إلى استخدام الفاظها وشعاراتها، وهـذا بسبب المصالح الرأسمالية والقيادات المسيطرة عليهم.
إن حركة التغيير الديموقراطي فـي المجتمـع يتنازعهـا اتجاهان، الاتجاه الأقرب نسبيا إلى الشعب ، تسيطر عليه مصالح الطبقة الوسطى، ويستطيع أن يحقق تطورا ديمقراطيا محدودا ، إذا تغلب على إنعزاله، على غياب الرؤية الواضحة في أهدافه، وفي أساليب العمل الجماهيري الذي يتبعـه، وإذا استطاع أن يغير ميزان القوى عن طريق الوعي والتنظيم الشعبي. الاتجاه الآخر الذي تتبناه أعداد متزايدة من النخب يسعى إلى ركـوب الموجة والارتباط "بليبرالية" رجال الأعمال، أو بأوتوقراطيـة رجال الأعمال "المتأسلمين"، كما يسعى للاستفادة من التحركات الشعبية ، حتى يجد المنضمين إليه مواقع لأنفسهم في العهـد البديل الذي يطل على بلادنا، عهد رجال الأعمال الجدد الأكثـر إرتباطا "بالسوق الحرة"، بالرأسمالية الأمريكيـة، والأوروبيـة المسيطرة عليها.
لكن إذا استمر الحال على هذا المنوال ، يمكن مرة أخـرى أن تغرق مصالح الشعب المرتبطة بلقمـة العـيش، والعمـل، والسكن، والتعليم، والصحة، والثقافة من جديد في بحـر مـن الكلام ، يمتطـي أمواجـه الصحفيون والمفكـرون والكتـاب "الفهلويون" ليظل رجاله ونسائه ضحايا مرارة الفقر والهوان. إن النخبة المسيطرة تتستر خلف الخطاب الـذي يـدور باسم الديمواقراطية، وحرية الفكر، وقبـول الآخـر، وحقـوق الإنسان، والقطاع المدني، والتحديث، والتنوير، وحقوق المرأة، لتظل القلة التي تحتكر ما يقال، أو يكتب، أو يدرس أو ينشـر على جماهير الشعب، حتى تبقى في مكانها، وتظل الجمـاهير مضللة، عاجزة عن إحداث تغيير ديموقراطي حقيقي، وليستمرمنْ يسعى للدفاع عن مصالح المواطنين، والمواطنـات الـذين يعانون من القهر، ومن ظروف للحياة تسوء يوما بعـد يـوم ، خاضعا للتهميش أو العقاب أو القمع، أو السجن.
غدا سأرحل إلى قريتي لقضاء أيام العيد. سـأبحث عـن "الحرباية" وسط أشجار العتر، فإن وجدتها ربما أوحـت إلـيَ بأشياء أخرى أكتبها، بظواهر في حياتنا يجب أن نتأملها لندرك ما الذي يجري في بلادنا.
من كتاب : " يوميات روائى رحال " 2008



#شريف_حتاتة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثلاثة أيام فى تونس الخضراء
- تأملات فى صورة
- لماذا يبعون ؟؟ يوميات أستاذ زائر
- عن الابداع والقهر
- الصباح وحكايات الجُرن
- فى المنتدى الاجتماعى العالمى ... بناء عالم آخر ممكن
- فقراء العالم يزحفون
- البحث عن ثغرة فى الحصار
- الأعداء الحلفاء
- الخوف من التقدم
- الاغراء الأخير
- هل أصبح المستقبل للجواسيس ؟
- شجاعة الابداع
- الابداع وتجربة الوعى الباطنى
- يوميات ايطالية
- أدراج الحياة المنسية
- الرضا بالمقسوم .. حوار مع سائق تاكسى اسمه - ممدوح -
- آفة الفكر الأحادى فى النقد الأدبى
- - مارادونا - خواطر غير كروية
- رجل مثل شجرة الجميز


المزيد.....




- السعودي المسجون بأمريكا حميدان التركي أمام المحكمة مجددا.. و ...
- وزير الخارجية الأمريكي يأمل في إحراز تقدم مع الصين وبكين تكش ...
- مباشر: ماكرون يهدد بعقوبات ضد المستوطنين -المذنبين بارتكاب ع ...
- أمريكا تعلن البدء في بناء رصيف بحري مؤقت قبالة ساحل غزة لإيص ...
- غضب في لبنان بعد تعرض محامية للضرب والسحل أمام المحكمة (فيدي ...
- آخر تطورات العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا /26.04.2024/ ...
- البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمق ...
- لماذا غيّر رئيس مجلس النواب الأمريكي موقفه بخصوص أوكرانيا؟
- شاهد.. الشرطة الأوروبية تداهم أكبر ورشة لتصنيع العملات المزي ...
- -البول يساوي وزنه ذهبا-.. فكرة غريبة لزراعة الخضروات!


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - شريف حتاتة - عودة الحرباية