أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيه القاسم - إبراهيم نصر الله في -طفولتي حتى الآن- يفتتح نَهجا مُغايرا في كتابة السيرة الذّاتيّة















المزيد.....


إبراهيم نصر الله في -طفولتي حتى الآن- يفتتح نَهجا مُغايرا في كتابة السيرة الذّاتيّة


نبيه القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 7484 - 2023 / 1 / 6 - 15:41
المحور: الادب والفن
    


إبراهيم نصر الله في "طفولتي حتى الآن.."
يفتتح نَهجا مُغايرا في كتابة السّيرة الذّاتيّة
د. نبيه القاسم

"كتبت لي "نور": أخاف على الماضي، أخشى ألّا يعود. وإن لم نستعد الماضي، فسنخسر المستقبل. محزن أنْ نحسّ أنّنا لا نملك من هذا العالم إلّا خوفنا على الماضي بعد أنْ أصبح وحده حياتنا المؤكّدة، مع هشاشة حاضرنا". وأجابها إبراهيم: في أوقات الخطر الشديد، نغدو مثل كل أولئك الذين يلتجئون إلى ماضيهم ويستعيدونه كشريط سريع، أو بطيء، وهم يُواجهون خطر الوجود، لكن معضلتنا أنّنا لا نستطيع استعادة الماضي، للعيش فيه، نستطيع أنْ نتذكّره. ولذا ليس لدينا خيار سوى أنْ نصعد عتبات المستقبل، مهما كانت مهشّمة، بل حتى لو لم نستطع رؤيتها."
بهذه الكلمات القصيرة المُتبادلة بين إبراهيم ونور التي كانت المَدْخل لسيرته "طفولتي حتى الآن" حدّد إبراهيم نصر الله المأزق الصّعب الذي يعيش فيه الفلسطيني منذ عام النكبة 1948 ولا يزال. فهذا الفلسطيني اختلف عن غيره من الشعوب الأخرى أنّ قَدرَه فرض عليه الحياة ما بين الماضي والمستقبل، أمّا الحاضر فهو تشريد وغُربة وفَقر وظلم وإذلال وموت بطيء، وطالما أنّه من المستحيل استعادة الماضي إلّا بالذاكرة فقط فلم يبق أمامه إلّا التّطلّع إلى المستقبل والقَفز إليه. وهكذا فعلَ إبراهيم نصر الله. فقد تَقافَزَتْ عنده الأحلامُ والآمالُ منذ سنوات عمره الأولى في المُخيّم الذي استقرّت فيه عائلتُه في القُرب من مدينة عمّان بعد تَهجيرها من وطنها فلسطين عام 1948، فقد بنى مع أصدقائه المُقرّبين مطارا افتراضيّا، كان يستقلُّ منه طائرتَه التي صنعها خيالُه الخصبُ برفْقة أقرب الأصدقاء إليه " نور" الفاتنة التي تكبُره بسنة ونصف فيتنقّل معها من دولة إلى أخرى، ويعودان والسّعادة تغمرُهما مُنهكين مُصَمّمَين على استئناف السّفر بعد أيام لبلد آخر، وهكذا حتى حطّمت الطائراتُ الإسرائيلية في عُدوانها في حزيران 1967 مَطارَه وحرَمته حُلمَه الجميل.
وكما التّحليق في الفضاء، حلم وأراد أنْ يكون شاعرا، ولأنّه عشق إبراهيم طوقان وأخته الشاعرة فدوى أراد أنْ تكون له أخت باسم فدوى ليكون شاعرا بقامة إبراهيم طوقان، فألحّ على أمّه أنْ تأتي له بأخت يُسمّيها فدوى، ونجح في إقناعها وولدت له فدوى الصّغيرة الجميلة التي تَكَفّل برعايتها. وأراد أنْ يكون قاصّا فكتب القصص القصيرة ونشرها وأحبّها القراء، وأنْ يكون مَسْرَحيّا فكتب المسرحيات التي عُرضَت على المسرح وصفّق لها المشاهدون طويلا، وأحبّ الرّسم والموسيقى والعزف على العود فالتحق بدورات موسيقية ولحّن الكثير من أناشيده الوطنية التي كتبها، وقد انتشرت ولاقت النّجاح الكبير وحفظتها الجماهيرُ ورَدّدتها. وأراد أنْ يكون مُقاتلا مثل نور وباقي الشباب، ويشارك في تحرير الوطن فنصحه والدُه بأنّ الوطن بحاجة للشباب المتعلّم والنّاجح أيضا، ولكنّ إبراهيم عاد في سنوات متأخّرة والتحق بالفدائيين وساهم في المجهود الوطنيّ. كما أنّه أراد أنْ يكون روائيّا وأصبح مع السنوات في المقدّمة مع كاتبي الرواية العرب وحتى العالميّين.
حياة إبراهيم، رغم العَثَرات والصّعوبات والحاجة التي عرفها كمعظم أبناء شعبه الفلسطيني إلّا أنّه حقّق كلّ ما أراده وسَعى لتحقيقه على المستوى الفرديّ. ولكنه لم يتجاهل ما ألمّ بشعبه وأهل مُخيّمه من تشرّد بعد عام 1948، وحياة بائسة مُضْنية ومُعاناة وحالات يأس وألم، والصدمة الكبيرة بهزيمة الجيوش العربية في حزيران 1967 وما تبع ذلك من احتلال كل الوطن الفلسطيني، وأيام إيلول الأسود عام 1970 والمُواجهة بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية، والحرب الأهلية في لبنان، واقتتال الفصائل الفلسطينية فيما بينها وإخراجها من لبنان بعد الاحتلال الإسرائيلي لبيروت، وما تركته هذه الأحداث من مَرارة وحزن.
هذا هو الحاضر البائس الذي عاشه إبراهيم مع أفراد أسرته وكل سكان المخيّم، لكنّ إبراهيم فضّل القَفْز إلى المستقبل ببسمة وأمل وثقة.

سيرة ذاتيّة أم رواية؟
يقول الكاتب أحمد زكارنة في مقالته حول "طفولتي حتى الآن" " فهي ليست مُجرّد سَرديّة تقول حكاية إنسان، لكنّها جَمْع ذكريات من لحم ودمّ، ترى شخوصَها مرّة إلى جانبك، ومرّات أمامك، تصدم عينك فرحًا ووجعًا، وفي الحالتين تبكي، لتقول: إنّها حكاية كُتِبَتْ لتَعبُرَ بنا إلى الضفّة الأخرى من الحلم، حلم الحرّيّة والتّحرّر من نكبة وقعت، ولا تزال فصولها تتكرّر."(موقع فسحة الثقافي 19.10.2022)
ولكنّها، كما أرى، تظلّ في تأطيرها سيرة ذاتيّة اكتسبت الكثير من فَنيّة السّرد الروائي. هي سيرة إبراهيم نصر الله حتى أواسط الثمانينات من القرن الماضي، القرن العشرين، ولكنّها مع إبراهيم تروي لنا سيرة كلّ الذين عاشوا معه من أسرة وأصدقاء وأحبّاء. تنقّلوا معه من فترة زمنيّة إلى أخرى، شاركوه فرحَه ونجاحَه وحزنَه وأحلامَه وانكسارات بعضها. جعلهم شركاء حياته ومُكمّلين له، عرفناهم كما عرفناه وعايشناهم كما عايشناه. تركهم ينطلقون بحريّة يعرضون أفكارَهم ومواقفهم مُصرّا على المحافظة عليهم وشَدّهم إليه. يقول إبراهيم نصر الله: " لقد تعمّدتُ تفكيك الأنا وتذويبها، وتبديد زهوها بنفسها وبما أنجزته كما يجيء دائما في السيرة، التي من النّادر أن يستطيع فيها كاتبُها أنْ يكون أقلّ من بطل. ومَنطق السيرة يُحوّل البطل إلى قطار مُنطلق في اتّجاه واحد، من طفولته، إلى العمر الذي بلغه عند كتابة السيرة".
ويُتابع قائلا: " لم أفضّل قط هذا النّوع من السّرد، ولم أُرد التورّط فيه، ببساطة لأنّني كنتُ أريد أنْ يكون معي، من أوّل الرحلة إلى آخرها، كلّ أولئك الذين بنوا محطة قطاري معي، ومدّوا قضبان ذلك القطار الذي كنتُ أريد أن أقول بوضوح إنّه ليس قطاري وحدي، وإنّ الحياة لم تكن لي وحدي، وما كان لي أنْ أنجح لولا اللجوء إلى فنّ الرواية". ولهذا جاءت سيرته تتقاطع مع سيرهم. ويؤكّد قائلا: "سعيد أنّني ومَن أحبُّ كنّا معا في البداية، ومعا الآن، ومعا دائما، في نصّنا المشترَك هذا.. في هذا الخيال الذي عشتُه، والحقيقة التي عاشتني!"(من كلمته في معرض عمّان الدّولي للكتاب لعام 2022).

الذّكاء في توزيع المَشاهد وجَماليّة السّرْد
انتبه إبراهيم نصر الله إلى مَيْل القارئ إلى النّصوص المتوسطة التي لا تُثقل عليه وتحبسُه لساعات طويلة مع الكتاب، ولكنّه كان على إدراك أيضا أنّ روايته السّيريّة لن تقتصر على العشرات من الصفحات وإنّما ستتجاوز المئات. وحتى يضمن جَذْبَ القارئ وشَدّه، وَزّعها إلى ستة أقسام، وفتح مَدْخَلا للقسم السابع الذي سيأتي وننتظرُه، وكلّ قسم إلى العديد من المشاهد التي لا يتجاوز معظمها الصفحتين أو الثلاث صفحات، وجعل كلّ مشهد مستقلّا عن الذي قبله. فلا يُثقل على القارئ، ويُوفّر له فرصة للتنفّس والاستراحة والعودة لقراءة المشهد التالي حتى يصل إلى النهاية وهو لا يشعر بمرور الساعات والتّعب.
وكما عوّدَنا الكاتب في رواياته السابقة، هكذا أيضا في هذه الرواية السّيريّة لم يهتمّ بالوصف التّفصيلي للأمكنة، لا للمُخيّم الذي عاش فيه ولا لغيره من المواقع التي زارها، مُتحاشيا بَعْثَ المَلل في قارئه. ولم يتعرّض لوصف شخصياته الخارجي مُكتفيا بالوصف الموجَز المُحدّد اللازم، وقدّمها كحالات إنسانيّة أهميّتها في ما تختزنه من فكر ومَشاعر وسلوكيّات إنسانيّة وقِيَم اجتماعيّة، وركّز على الجوانب الإيجابيّة في كلّ منها مُبتعدا عن ذكر السيّئات، وحتى إذا تعرّض لبعضها فبكلمات رقيقة غير جارحة كما في انتقاده للمُدرّسين الذين شكّكوا فيه.
السَّرد الهادئ المُتناغم المُنساب مع جماليّة الحرف والمفردة المُتراقصة والجملة المُتكَوّنة والعبارة المُتَخلّقة على إيقاعيّات المشاعر المُتمرّدة في الذات الإنسانيّة لكلٍّ من الشخصيات المشتركة في خَلق هذا الكون المُتشكّل في "طفولتي حتى الآن.." هو ما يُميّز سيرة إبراهيم نصر الله عن كلّ السير التي قرأناها، ويضعها في قمّة إبداعاته التي صدرت له حتى الآن.
وذكاء الكاتب برز في تضمين سيرته قصص مُعظم الشخصيّات التي رافقته في رحلته، منها مَنْ شدّتنا وتعاطفنا معها مثل قصة خاله "محمود" وقصّة "المصري" وقصة "عمّته" وقصة "جَدّه" وعشقه للمرأة السورية التي حلم عمره في الوصول إليها، وكرّس لها حياته وقال فيها أجمل القصائد، لكنّه مات قبل أنْ يصل إليها.
وضمنها حكايته الطويلة مع " نور" رفيقة الدّرب والحياة، وساعده الأيمن وأقرب الشخصيّات إليه، التي رَعَته وشدّت بيده ودفعت به للمُضيّ في النّجاحات وتحقيق الآمال، واللذان بعلاقتهما أثبتا إلى أيّ مدى تكون مُقدّسةً ونَقيّةً ورائعةً صَداقةُ الرجل والمرأة، وقد كانت نور رائعة في البَوْح لإبراهيم عمّا كان بالنسبة لها، مؤكّدة بذلك ما قلناه حول هذه الصداقة التي تكون بين الرجل والمرأة: " إنّ أجمل وأصفى فكرة راحت تلحُّ عليّ، هي أنّ لكلّ إنسان مَلاكا خاصّا به لا يستطيعُ أنْ يختاره لأنّه لا يستطيع أنْ يخوضَ حربا مع الغيب في أمْر كهذا، لكنّه قادر على اختيار كائن آخر بكامل إرادته، أتعرف مَنْ هو؟ إنّه إنسانه. دائما أردتَ أنْ تعرفَ مَنْ أنتَ بالنسبة إليَّ، والآن، أستطيعُ أنْ أقول لكَ بسلام عميق: أنتَ إنساني. الآن تستطيع أنْ تذهبَ لتتزوّج إنْ أردتَ، وتُنجب وتُسافر، وتكتبَ قصائد، وروايات، وربّما سينبُتُ لك جناحان، كما حلمتَ دائما، لكن كلّ ما هو لكَ، سيكون لي، لأنّ ذلك كلّه فيكَ، وأنتَ فيّ. أنا فكّرتُ وتأمّلتُ وعشتُ الكثير، وأعرف أنّني انتصرتُ لأنّني أستطيع أنْ أشير إليكَ من بين كلّ البشر وأقول بصوتٍ مرتفع: هذا إنساني."(ص486)
هذه القصص الرّائعة للشخصيّات التي عايَشها إبراهيم أخرجَتنا من عالم إبراهيم الدّائر حوله لنعيشَ ونتعاطف مع كلّ واحدة منْ هذه الشخصيات المُتميّزة برقّتها وإنسانيّتها وصدقها وعفويّتها.
وكان للحوار الدّور المهم، وبه قدّم كلُّ واحد من الشخصيات نفسَه، وجماليّة الحوار كانت في سَلاسة المُفردة وقِصَر العبارة وجماليّتها.

شخصيّات واقعيّة وَقَعْنا في حُبّها
إبراهيم هو بطل الرواية السّيريّة التي أخذَتنا بجماليّاتها، الإنسان الذي عرَف منذ سنوات عمره الأولى ماذا يختار، وكيف يصل إلى تحقيق آماله وأحلامه التي جسَّدها في الواقع، لم ينطو على نفسه وعلى أحزانه ووضعه وشُحّ حياته، فعزَفَ عن الغَرَق في واقعه المَعيش البائس، وحلَّق بذكرياته من خلال القصص التي سمعها من أمّه وعمّته ووالده وجَدّه وجلساء مَجالسهم ليستعيدَ ذلك العالمَ الجميل الذي كان له ولأهله وأبناء مُخَيّمه وشعبه سنوات ما قبل عام 1948 عام النّكبة والتّشرّد، وليقفز عاليا مُتجاوزا حاضرَه للمستقبل الذي يثق بقدرته على تحقيق كلّ آماله فيه، وهكذا انطلق بتفاؤله وثقته وإصراره في رحلته الصّعبة مُتغلّبا على كلّ عَثْرة وصَدْمة ونَكْسة تُواجهُه.
ولم تكن رحلته في الحياة معزولة عمّن يحيط به من أهل وجيران وأصدقاء وزملاء ومَعْرفة وناس مُختلفين. فرافقوه في رحلته وعاشوا معه النّجاحات والاخفاقات، والأحزان والأفراح، والآمال والطّموحات، وكم كانت سعادة إبراهيم وهو يقول "سعيد أنّني ومَنْ أحبّ كُنّا معا في البداية، ومعا الآن، ومعا دائما، في نصّنا المشترك.. في هذا الخيال الذي عشتُه، والحقيقة التي عاشتني" (من كلمته في معرض الكتاب في عمّان)
وهذه الشخصيات التي رافقت إبراهيم في حياته هي شخصيّات حقيقيّة واقعيّة حتى ولو كان بعضُها من صُنع خياله. لم يُحاول إبراهيم جعل شخصياته أبطالا متميّزين وإنّما أناسا عاديّين كمُعظم أهل المخيّم بما يتّصفون به من الصّدق والبراءة والأمانة والاخلاص والحبّ والوفاء والتّضحية، وكما إبراهيم، حضنوا الحياة بتفاؤل رغم بُخلها عليهم، وشقّوا طريقَهم، وحقّقوا الكثيرَ من الآمال والأحلام التي لاحقوها في مَسيرة عمرهم.
وكأصدقائه ورفاق دربه، كان أفرادُ أسرة إبراهيم أيضا على وَعْي كبير بما تطلبُه الحياةُ المُتَغيّرةُ. منهم مَنْ تَحدّى الظُّلْمَ والفقرَ والغربةَ ونجح كأمّ إبراهيم في إدارة شؤون البيت وتوجيه أفراده في طريق النجاح. وعمّته التي رغم وحدتها وتقدُّم سنّها كانت شديدة التّفاؤل والثقة، وكانت مصدرَ الدِّفْء والحنان والحبّ لكلّ واحد، وفي منتهى الإخلاص والتّقدير والوفاء لزوجها المصريّ الذي اختارته. وكان الجَدّ النّموذجَ الإنسانيّ لمَن كسَرته الغربةُ وفُقْدانُ الوطن والحبيبةُ التي عشقها فعاش سنوات عمره في الغربة وهو على أمَلٍ لم يتحقّق بلقائها.

المرأة هي الأساس في تَشْكيل وتَغيير شخصيّة الرّجل
يُثيرُ انتباه قارئ "طفولتي حتى الآن" أنّ الشخصيّات النسائيّة هي التي تُمسك بزمام الأحداث وتَصرّفات الشخصيّات وتحديد الأهداف وتقييم النتائج والحكم عليها. بينما يلاحظ أنّ الشخصيّات الذكوريّة كانت ثانوية وبعيدة عن تفاعلات الأحداث ولا تُعيرها الاهتمام اللازم، حتى الأب بكلّ سَطوته كان إلى حَدٍّ ما مُجانبا للأحداث ويتدخّل في اللحظات الحاسمة فقط، مثل قوله لإبراهيم عندما أخبره برغبته في الالتحاق بالمقاومة "إنّ الوطن بحاجة أيضا لأبنائه المتعلّمين" وعندما كان المُوَجّه لإبراهيم بدخوله لدار المعلمين وعمله مدرّسا لمدّة سنتين في السعوديّة. والجَدّ العاشق الذي عاش سنوات عمره بعد النكبة يحلم بلقاء المحبوبة البعيدة عنه في سوريا، ويقول فيها أجمل القصائد لم يأخذ حظّه الكافي من الاهتمام بمأساته العاطفيّة، وإنّما تُرك لوحدته وعذاباته حتى فارق الحياة حزينا مكتئبا ومثله كان المصريّ.

وتظلّ حيرتي وتساؤلاتي حول واقعيّة شخصيَّتَي نور وهالة
نور أقرب الشخصيّات إلى إبراهيم، فهي ابنة المخيّم والجارة والزميلة ورفيقة الدّرب، تكبُره بسنة ونصف، كرّست نفسَها لتكون إلى جانبه، المسؤولة عنه في توجيهه وتنبيهه ودَفْعه للمزيد من النّجاحات في كلّ ما يقوم به، تعيش معه لحظة بلحظة وتَتَفهّم مشاعرَه وتعي أفكارَه وتَحِدُّ من رَغباته باطّلاعها على كلّ كلمة يخطّها ويُعطيها إيّاها لتقولَ رأيها، وكانت الطالبةَ المتفوّقة على الجميع، والمُتألّقة في كلّ مناسبة تُقام في المدرسة وكانت البنت الخَلوقة المحافظة على العادات والتقاليد، وبذاك كسبت محبّة الجميع ولكنها كانت أيضا جريئة في كلامها وتصرّفاتها. أحبَّتْ كلّ الناس وعشقت وطنَها المسلوب وانخرطت في العمل التّطوعي والنّضالي لتحرير وطنها، أفكارُها ونضالاتها جعلتها تحت عَيْن الرّقيب السّلطوي فطوردت واضطرَّت على الابتعاد عن البيت والأهل لسنوات، ولكنها عرفت كيف تُتابع دراستها وتنجح.
نور وإبراهيم كانا التّوأمَين اللذين كبرا وعاشا وحلّقا مع أحلامهما، ودرَسا وناضلا وتبادلا أسرارَهما وأخلصا لبعضهما البعض حتى كان وكلّ مَنْ عَرفَهما رأى فيهما تجسّدَ المَحبّة والتّكامل والوفاء.
لم نعرف أيّ عيب في نور، ولم تُسَبّب ألما لأيّ إنسان، بل كانت المعطاءة الكريمة الفادية المؤمنة بقيمة الإنسانيّة في الإنسان.
هذه الصفات الإيجابيّة المتكاملة تجعلني أتساءل: أفعلا توجد مثل هذه المرأة؟ أم أنّ إبراهيم نصر الله رسمها بكلّ مثاليّتها ليؤكد على أهميّة المرأة في سَيْرها إلى جانب الرجل في شَقِّ دروب الحياة، وعلى القُدسيّة العميقة النّقيّة في علاقة الصداقة التي تتكوّن بين الرجل والمرأة؟
وقد تكون نور صوت إبراهيم الثاني المُكمِّل لصوته الأول المُباشر، وكلا الصّوتين هما صوت إبراهيم الواحد.
وتقلّ حيرتي بالنسبة لشخصيّة هالة ابنة الذّوات التي طاردَت إبراهيم وأوقعته في شباكها، فمع إمكانيّة وجود مثيلاتها في الحياة، إلّا أنّ هالةَ الفاتنة غير المَحدودة في جمالها وطغيانها على كلّ مَنْ رآها فأوقعته في حِبالها، ظلّت قويّةً مُتماسكة إلى أنْ رأت إبراهيم، وسمعته يُلقي شعرَه، فاهتزّت مشاعرُها، وثارت عواطفُها فوقعت في عشقه وطاردته حتى كاد ينسى نور التي كانت ولا تزال توأمَ روحه.
هالة.. كما رسمها إبراهيم، أعتقد أنّها شخصيّة مُخْتَلقَة لم يكن لها دور في حياته لأنّها لم توجَد أصْلا، وإنّما أرادَها واستَدْعاها ليُخرِجَ نفسَه ويُحَرّرها من الصورة النّمطيّة الجديّة التي عُرِفَ بها ليُحبّ ويعشقَ ويهيم كباقي زملائه، وليُثبتَ أنّه رغم عدَم اهتمامه ومبادرته، كان وحده الذي عشقته هالة الجميلة التي عشقها الجميع، ولم تعشق إلّا هو إبراهيم..
وقد يكون إبراهيم نصر الله أرادها ليذكرنا أنّ للحياة أيضا جانبها الجميل، المُتمَثّل بقصّة الحبّ السّريعة بين إبراهيم وهالة وما أثارته حولهما، بعيدا عن الهموم اليومية والمعارك النضالية والقضايا الفكرية الكبيرة.
هذا الثالوث الجميل من نور وهالة ومعهما إبراهيم يأخذني إلى سنوات بعيدة، مائة سنة إلى الوراء لأستحضر الثالوث الذي أحببناه أيضا: عباس محمود العقاد، مي زيادة وسارة الأنثى الجميلة. فقد خلّد العقاد قصّته مع مي وسارة بروايته الوحيدة "سارة" والتي كشف فيها عن حبّه لسارة الأنثى اللعوب ومَي التي سمّاها في الرواية "هند" وأنّه لا يستطيع التنازل عن أيّ منهما، فمي كانت بالنسبة له المرأة المثقفة المُبدعة صاحبة العقل الرّاجح بينما كانت سارة المرأة الأنثى المُتفجّرة بعواطفها الساحرة، وقد قال العقاد جملته المشهورة عنها "المرأة كتلة من الأعصاب" ولا يمكن للرجل أنْ يستغني عنها.
أوَليْسَتْ نور صورة ثانية لـ مـَي زيادة وهالة الأنثى المُتَقمّصة شخصية سارة، حتى إبراهيم في علاقته معهما لا يختلف كثيرا عن علاقة العقاد بمي وسارة. فنور هي العقل والثقافة والوَعْي والمسؤوليّة والنَّقاء والإخلاص، وهالة هي الأنثى المُتفجّرة بعواطفها وحبّها، هي المرأة التي وصفها العقّاد بـ " كتلة من الأعصاب". وكما لم يتنازل العقّاد عن أيٍّ منهما، هكذا إبراهيم يرى في كلّ منهما مُكمِّلة للأخرى وفي علاقته معهما مُنتهى السعادة والفرح.

لماذا نكتبُ سيرتَنا ونحبّ أن نعيش طفولتنا الدّائمة؟
تساءل إبراهيم نصر الله: ما مصير تلك الروايات التي لا نكتبُها؟ وأجاب: إنّها تُصبح ملكا لأعدائنا".
وشهدنا ونشهد في بلادنا على أكبر عمليّة مَحْو وتَزوير لتاريخنا وجغرافيّتنا وحكاياتنا وأشجارنا ونباتنا وتراثنا وقصصنا وحتى أسمائنا. حتى يَحار الواحدُ ويتساءل مُستغربا: أحقّا بقيت هذه البقعة الجميلة من العالم الكبير على مدار آلاف السنين خالية، لا يسكنها أحد منذ تركها مَن ادّعى أنّه الشعب الذي اختاره الرّب وفضّله على الجميع، إلى أن عاد وعمّرها وأعادها لتكون جنة الله على الأرض تدر الحليب والعسل وتوزّع الخيرات على كل العالم؟
من هذا الموقف الواعي والرؤية العميقة يرى إبراهيم نصر الله مدى أهميّة أنْ نكتبَ سيرتَنا ونروي حكاياتنا ونحفظ تراثنا ونُسَجّل تاريخَنا ونُخلّد عظماءَنا، ونسعى كي يظلّ الوطنُ وكلّ ما له عَلاقة به حيّا حاضرا عزيزا في واقع وذاكرة كلّ فرد من أبناء شعبنا. وهذا ما فعله إبراهيم نصر الله في روايته السّيريّة هذه كما فعل في الكثير من رواياته وأشعاره السّابقة.
وحتى تظل الذاكرة متوقّدة والعزيمة مشدودة والرؤية ثابتة والأهداف واضحة والأمل مُسْتَفِزًّا لا بُدّ من أنْ نتحاشى العَجْزَ ونرفضَ التّخاذل، ولأنّ الزمن يغدرُ بنا ويترك علاماته بارزةً على أجسادنا، وحوادث الدهر توهن عزيمتَنا وتُثقل كاهلنا فلا بدّ من التّمسّك بطفولتنا لترافقنا مشوار حياتنا كلّه. وكما قالت نور "لسنا بحاجة لإنسان نشيخ معه، بقدر ما نحن بحاجة لإنسان نبقى معه أطفالا"(ص487) " فقمّة النّضج، كما يقول إبراهيم، "أنْ نظلّ أطفالًا، لأنّ الطفولة قمّة الحياة... ذروتها، لا بداياتها الأولى وحسب، وغير ذلك، بغيرها، لا شيء إلّا الصّدأ". ويؤكّد قائلا " لم أترك طفولتي، يوما، تبتعد كثيرا، إنّ الوحوش تتجوّلُ في الجوار. لذا... لم أجد بُدًّا من الاحتفاظ بها... حتى الآن." لهذا اختار إبراهيم نصر الله هذا العنوان الجميل الغنيّ بالدّلالات:
"طفولتي حتى الآن.." عنوانا لروايته السّيريّة.

nabihalkasem.com



#نبيه_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- محمود شقير في -تلك الأزمنة- ما بين قَيْد الزّمن القابض وشبَح ...
- رواية جوبلين بحري لدعاء زعبي وأيّة رواية نريد؟
- رواية -زمن وضحة- لجميل السلحوت: حفر اسمه في كتاب الثقافة الف ...
- رسالة لأفنان القاسم
- أدونيس والمنفى الأليم وافتقاد الصديق
- أحلام مستغانمي وكسر تابو الرجل


المزيد.....




- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيه القاسم - إبراهيم نصر الله في -طفولتي حتى الآن- يفتتح نَهجا مُغايرا في كتابة السيرة الذّاتيّة