أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيه القاسم - رواية جوبلين بحري لدعاء زعبي وأيّة رواية نريد؟















المزيد.....


رواية جوبلين بحري لدعاء زعبي وأيّة رواية نريد؟


نبيه القاسم

الحوار المتمدن-العدد: 7164 - 2022 / 2 / 16 - 17:12
المحور: الادب والفن
    


يقول الروائيّ السّوري حيدر حيدر في تَظهيره لرواية "جوبلين بحري"، "لو استبدلنا عنوان رواية "جوبلين بحري" للروائيّة دعاء زعبي بعنوان آخر "التّحدّي" وهو عنوان مُباشر غير رمزي، لكانَ المعنى واحدا".
ويُتابع "المحور الأساسي والمَفصلي للرواية هو مواجهة فلسطينيي الـ 48 وتحدّيهم لنَهج القوّة والعنصريّة الإسرائيليّة، عن طريق العلم والدّراسة والمعرفة في مواجهة العُسف والظلم".
ويُقرّر حيدر حيدر أنّ "الأهميّة في هذه الرواية أنّها شهادة رائعة ومستقبليّة للضوء والنور في مُواجهة الظلام والوحش الأعمى."
ويختتم كلامَه: تبقى رواية "جوبلين بحري" علامة فارقة ومُميّزة في سجل الأدب والرواية الفلسطينيّة مُواصلة درب غسان كنفاني وبقيّة الروائيين الفلسطينيين الذين كتبوا بالحبر والدّم سجل تاريخ فلسطين وذاكرتها التي لن تُنسى أبدا".
وتشدّني كلمات حيدر حيدر هذه إلى صرخة محمود درويش بعد نكسة الجيوش العربية في حزيران 1967 "أنقذونا من هذا الحبّ القاسي!"
وقد اتّفق كلّ الذين تناولوا الرواية، وأنا اتّفق معهم أيضا، على أنّها تُعالج قضيّة وجود العرب الفلسطينيين الذين بقوا هنا يُصارعون من أجل الحفاظ على كرامتهم ومستقبلهم وحقّهم في بناء حياة حرّة كريمة" كما قال الدكتور رياض كامل.
وقد شهدنا في السنوات العشرين الأخيرة عشرات الروايات التي صدرت وتناولت مختلف القضايا التي تُشغل إنساننا العربي في هذه البلاد، ولكنّ القليل منها حظي بالوَهَج الإعلامي والأمسيات والكتابات، وثلاث من هذه الروايات هي: "نجمة النمر الأبيض" للدكتور محمد هيبي، و"الوقائع العجيبة في زيارة شمشوم الأولى لمانهاتن" لهشام عبدة، و"جوبلين بحري" لدعاء زعبي خطيب.
ورغم التّفاوت ما بين الروايات الثلاث من حيث البناء الروائي والطّرح للمواضيع المختلفة إلّا أنّها اتّفقت على أهميّة معالجة القضية الأساس وهي المواجهة اليومية ما بين الإنسان العربي والآخر اليهودي على مجرّد الوجود والعيش وبناء المستقبل.
كما أنّ الروايات الثلاث وقعت في مَطبِّ رفع الشعارات والصّراخ العالي والكلام الكبير لإظهار بطولة العربي أمام الآخر وحتى انتصاره عليه في مَشاهد غريبة وغير مَنطقية ومُسيئة للعمل الروائي المُقَدّم.
وكنتُ قد تناولتُ رواية الصديق هشام عبدة في دراسة مُطوّلة نشرتُها في جريدة الاتحاد يوم 26.6.2020 وبعدها قرّرتُ التوقّفَ عن التّعرّض لما يٌنشَرُ هنا من شعر ونثر حتى لا أخسر مَنْ أُعزّ وأحترم من الصديقات والأصدقاء.
ولكنّ رواية "جوبلين بحري" لدعاء زعبي أثارتني، والسبّبُ أنّ دعاء كانت قد لفتت انتباهي بإصدارها الأوّل "خلاخيل" عام 2017 بنصوصه الجميلة الرّاقية التي كتبَتْها، ويومها رأيتُ فيها كاتبة واعدة خاصّة بلغتها المتينة القويّة السلسة الجميلة، وقد قلتُ ذلك لبعض قريباتي من صديقات دعاء اللاتي حاولت بعضُهنّ التّلميح لي للكتابة عن "خلاخيل" فاعتذرتُ بأنّني لا أكتبُ عن العمل الأوّل للكاتب.
الضجّة الإعلاميّة التي رافقت صدور رواية "جوبلين بحري" والأمسيات الاحتفالية التي خُصّصت لعَرضها ومناقشتها سارعت في دفعي لقراءة الرواية التي تروي قصة كفاح "ميار" طالبة جامعية عربية سنة ثانية فُصلت من دراستها في جامعة تل أبيب.
كان قرار اللجنة التي عيّنتها جامعة تل أبيب المكوّنة من ثلاثة أعضاء ترْأسُها الدكتورة سارة فنكلشتاين للنظر في أمر رسوب ميار المتكرّر في امتحان "أخلاقيّات المهنة" والقاضي بتغيير ميار لموضوع دراستها "الصحافة والإعلام" بحجّة أنّها ليست ملائمة للعمل الصحافي مستقبلا، أو أنْ تُعيد سنتها الدراسيّة الثانية. ورفضت ميار القرار واعتبرته قرارا عنصريا يهدف منعها من متابعة دراستها، هذا القرار كان المُسبب لكل ما جرى من أحداث عاشتها ميار، كما أنّ قضايا أخرى طُرحت عرضَت المشهد الكامل الصّعب للمُواجهات على البقاء والحياة ما بين الشعبين.
رفض ميار لقرار اللجنة كان حازما، وحسمَت أمرَها بالسفر إلى الخارج لتحقيق هدفها، وحتى تُهيّء نفسها ماديّا عملت لمدّة سنتين، ومن ثمّ سافرت إلى برلين لدراسة الصحافة في جامعة "برلين الحرّة" مُخلّفة في الوطن والديها وحبيبها نديم الذي أعلنت له أنّها تنهي علاقتها معه لقرارها ترك البلاد والسفر لمُتابعة دراستها في ألمانيا.
مدة الدراسة التي توّجتها بالحصول على شهادة الدكتوراه كانت خمس عشرة سنة، حرصت خلالها على زيارة أهلها كل سنة مرّة واحدة تلتقي صديقاتها وأقاربها وتنعم بحبّ والديها.
المعلومات التي تُقدّمها الرّاوية عن الخمس عشرة سنة قليلة جدا وعامّة، انحصرت في أنّ ميار كانت طالبة متفوقة متميزة بدراستها ونجاحها، تلقى الاهتمام من الجميع، تعرّفت على العديد من الزملاء والزميلات خاصة العرب. وخلال سنوات دراستها نشطت صحافيا ونشرت العشرات من المقالات المهمّة بكل ما يتعلّق بالشعب الفلسطيني وحقّه في دولة مستقلة وحياة كريمة، وفَضح سياسات وسلوكيّات الاحتلال الاسرائيلي في الأراضي المحتلة. وكانت حلا الفتاة العربية الدمشقية الأقرب إليها ورفيقتها الدائمة. كذلك توقفت كثيرا عند رحلتها إلى إسبانيا ومدينة طنجة في المغرب.
الرواية كما يبدو كتبت بمعظمها في ليلة واحدة، ليلة رأس السنة الميلاديّة، حيث آثرت ميار البقاء وحيدة في غرفتها لتتوحّد مع نفسها وصديقتها "حلا" التي فارقت الحياة قبل أشهر بعيدا في دمشق، وتركت في قلبها حزنا وألما وشوقا للغالية التي رحلت. وفي توحّدها مع نفسها تَضَخّم إحساسُها بالفَقْد وعَبثيّة الحياة وأنّه لم يعد لها مع تطمح لتحقيقه وتحدّي الغير به، فقد درست ونجحت ونالت شهادة الدكتوراة في موضوع الصحافة الذي أحبّته وبرزت فيه ونجحت كصَحفيّة، فماذا بقي لها لتعيش من أجله وقد أضاعت خمس عشرة سنة في الغربة في بلاد تُغري القادمين إليها، "هذه المدن الغريبة، مدن الريح والضباب والقصدير، تلك التي نأتيها مسكونين بالأحلام والأضواء، تأخذنا إليها من حيث لا ندري، تُثير فينا لهفة الحياة المشتهاة إلى الحريّة والتحليق، تسحرنا، تبلعنا، تنسلّ إلى حدائق عمرنا بخفّة جنيٍّ شقيٍّ، مُغازلة حمائم أيكنا مُداعبة ثغرَ فَراشنا سارقة منّا ورد العمر وزهر السنين. وإذ نشتاق لأعماقنا النديّة القديمة، ودواخلنا المنتفضة شوقا لزوايا هجرناها وروائح أثقلها الحنين، يكون العمر قد فات والوقت قد خان، عندها نُدرك فقط مدى خسارتنا وحجم فقداننا الكبير" (ص12) ويشتدّ شعورها بمضيّ الزّمن وقسوته "سنوات طويلة مضت منذ أن غادرتُ يافا سرق فيها الزمن عمري. مضاجعة شرسة يغتصبُ فيها الوقتُ أعمارَنا حتى نكاد نعتادُ لذّة الاغتصاب. لصوصيّة تحترف سرقة الورد من حدائق عمرنا، تستبدل عطره بكيماويّاتها الزّائفة، ملقية به داخل قارورات من عزلة ووحدة ونحن بدورنا ندفع الثمن" (ص122)
ويكبُر شعورها ورغبتها في الانتقام من سارة فنكلشتاين التي كانت السبب في تركها للجامعة في تل أبيب ومغادرة الوطن والابتعاد عن الأهل وقطع علاقة الحب مع نديم، والأهم من كل ذلك خمس عشرة سنة مضت من عمرها في الغربة حرمتها نعمة الحب والزواج والأولاد (ص49) وتركت الزمنَ يُنهك جسدَها ويُضعف بَريقَ إشعاعها ويترك آثارَ خَرْبشاته على مواضع جمالها. ويستفحل الشعور بالانتقام "لن أترك هذا للزمن. سأفعلها بنفسي. لن تستطيع سارة فنلكلشتاين إلحاق الهزيمة بي" (ص126) وتكتب رسالة شديدة اللهجة قاسية للدكتورة سارة وتُعيد قراءتها بصوت عال يُخفّف من حدّة شعورها وتَفجُّر غضبها.
وختمت ميار ليلتها بكتابة ثلاث رسائل أخرى. الأولى لنديم الحبيب من الماضي البعيد لعلّ وعسى. والثانية لصديقتها ورفيقتها فترة الدراسة، "حلا" التي خطفها الموتُ بعيدا في دمشق. والثالثة للصحفي من غزة هاشم عبد الكريم الذي حافظت على التّواصل معه خلال دراستها في ألمانيا. وكانت نهاية الرواية أنْ عادت ميار إلى البلاد ويافا في رحلة خاطفة لتلتقي نديم ويعلنا زواجهما ويعيشا في نعيم ويرزقا من البنات والبنين ما يشاءان.
كلمة لا غير
قد نرى في مُجمل الرواية قصّة عاديّة ممكن أنْ تحدث مع عشرات ومئات الطلاب الذين يدرسون في جامعات خارج البلاد، لكن الكاتبة دعاء زعبي جعلت منها قصّة دراميّة مثيرة تُظهر فيها وحشية وظلم وكراهية اليهودي للعربي وسَعيه لتعطيل كل طموحات العربي وأحلامه، ودَفْعه ليظلَ العبدَ الذليل المُطيعَ شاكرا لسيّده نِعَمه التي يتحسّن بها عليه.َ وبالمقابل تُبرز قوّة العربي وصَلابة إرادته وتحدّيه للآخر بإصراره على شقّ طريق حياته التي اختارها وتحقيق النجاح حتى أعلى درجاته مؤكّدا استحقاقيّة العربي في العيش بحريّة وكرامة فوق تراب وطنه الذي لا وطن له سواه.
ولأنّنا نتوق للانتصارات وللبطولات التي حرمونا منها سارعنا لاحتضان "ميار" بطلة دعاء مُهلّلين مُكبّرين مُركزين على هذا الجانب البطولي مُتغافلين عن الكثير الذي كان يجب أنْ يُثيرنا وينبّهنا ويدعونا للتروّي وعدم الاندفاع وراء عواطفنا وأهوائنا.
صحيح أنّ دعاء زعبي بروايتها هذه قدّمت عملا مختلفا عن نَصّها الإبداعي السابق "خلاخيل" وأنّها بشجاعة خاضت مغامرة كتابة الرواية. وحتى تكون مطمئنة على عملها عرضته على العديد من الأصدقاء والأدباء، ومعظمهم إنْ لم يكن جميعهم، قد امتدحوا الرواية وشجّعوها على نشرها. وما لاقته الرواية من استقبال لافت من خلال الأمسيات واللقاءات الأدبية أكدّ لدعاء أحقيّتها في أنْ تكون الروائية التي أجمع الكلّ على تميّزها وفَرادتها، كيف لا؟ ولم تُسمَع كلمة انتقاد ولو بسيطة. فروايتها وبشهادة الكاتب الكبير حيدر حيدر "تبقى علامة فارقة ومميّزة في سجل الأدب والرواية الفلسطينيّة مواصلة درب غسان كنفاني وبقيّة الروائيين الفلسطينيين الذين كتبوا بالحبر والدم سجل تاريخ فلسطين وذاكرتها التي لن تُنسى أبدا"
ولن أصرخ كما فعل محمود درويش: أنقذونا من هذا الحبّ القاسي! وإنّما سأقف على بعض النقاط، وأطرح بعض الملاحظات، ليس تقليلا من عمل دعاء، وإنّما لصالحها وتنبيهها ونُصحها حتى لا تغرق في طوفان الكلمات المَعسولة المُفرحة، ولتتّعظ بما نصحنا به الآباء والأجداد، وأكّدته تقلّبات الحياةِ والإنسان "أمر مُبكياتك لا أمر مُضحكاتك".

الملاحظة الأولى
تُخبرنا الراوية أنّ ميار "تلمع في دراستها مُنْهية سنتها الأولى في جامعة تل أبيب بنجاح منقطع النظير، فارضة حضورا مميّزا بين الطلاب والمحاضرين. وتدخل عامها الدراسي الثاني وشهقات الفرح لا تزال تُرافق خطواتها الواثقة. تنهي فصلها الأوّل بنجاح باهر مُباشرة الاستعداد لامتحاناته."(ص42) وفجأة تخبرنا الراوية أنّ أجوبة ميار في أحد الامتحانات أزعجت ضمير أستاذها لأنّها عبّرت فيها عن الأنا الجَمعيّة، وعن آلام شعبها ومعاناة مثقفيه النازحين" ممّا استدعى إلغاء امتحانها وتقديمها للجنة تأديبيّة حكمت بمنعها من متابعة دراستها أو أنْ تعيد دراستها للسنة الثانية"(ص42-43). طبعا ميار رفضت وكان ما كان من باقي القصة.
وسؤالي البسيط هل يُمكن أنْ يحدث هذا، طالبة متفوّقة وناجحة وفي سنتها الثانية للدراسة يُقرَّرُ فصلها لمجرّد إجابة في امتحان لم ترق لأستاذها؟! وماذا مع رصيد الطالبة العلمي ونجاحاتها وانبهار الجميع بها؟ وماذا مع باقي امتحاناتها التي اجتازتها بنجاح باهر؟ وكيف يمكن أنْ يوقَف طالب عن متابعة دراسته لمجرّد سقوطه في امتحان واحد؟ أفهم أنْ يُطلب منه إعادة المَساق المُحدّد من جديد أمّا السنة بكاملها فغير معقول. وقرار اللجنة بفصلها أو اجبارها على إعادة السنة الثانية غير قانوني ولا يمكن أن يُطبّق إلّا في حالات خاصة.
كنتُ أقبل هذا المشهد لو حدث الرّفض من قبل لجنة القبول للدراسة في السنة الأولى.

الملاحظة الثانية
سرعة اتخاذ ميار للقرار بالسفر وسهولة اقتناع والديها رغم أنّها وحيدتهما التي انتظراها ثلاث عشرة سنة، وسرعة وبساطة قرارها بإنْهاء علاقتها بنديم ومُصارحته بأنّ طريقهما اختلفت، ثم السفر واستمرار الدراسة مدّة خمس عشرة سنة خلالها لم تقم بأيّ اتصال بنديم وهو لم يحاول أيضا، وحتى في سفراته إلى أوروبا بحكم عمله لم يفكّر بها واللقاء معها. وفي كل زياراتها للبلاد خلال الفرص الدراسية لم تسأل عنه ولم تحاول اللقاء به. حتى أنّها نسيت معالمَ وجهه وجسده وتساءلت إذا كان قد تزوّج أو شابَ شعرُه أو بإمكانه التّعرّف عليها أو هي بالتعرّف عليه إذا صدف وجمعتهما الصّدفة؟
ثم سرعة قرارها بكتابة رسالة غراميّة وإرسالها إليه بعد خمس عشرة سنة من الانقطاع طالبة العودة للحبّ القديم، وسرعة قبول نديم للطلب، وحتى قرارها بالسّفر إلى البلاد دون إعلام والديها لتلتقي بنديم وتدفعه نحو بحر يافا الذي شدّه الشوقُ إليهما وشهدَ مَراسيم توقيع عقد زواجهما.
وسؤالي كيف؟ وكيف يحدث كلّ ذلك بمثل هذه القرارات العَشوائية المُتسّرّعة من الفتاة الصحفيّة اللامعة الجادّة القويّة الشخصيّة!!

الملاحظة الثالثة
السفر إلى مدينة طنجة وكلّ ما رافقها من أحداث. فكما يعرف كل مواطن عربي هنا أنّ جواز سفره الإسرائيلي كان مرفوضا في جميع الدول العربية حتى سنوات قريبة. ولا يُمكنه الحصول على تأشيرة دخول إلّا في حالات استثنائية. وميار نفسها عرفت ذلك وسألت الموظف المغربي حول الموضوع. (ص92)
ولهذا أسأل لماذا كانت هذه المفاجأة الكبيرة من الرّفض ومن تصرّف الموظف في طنجة؟ وهذا الموقف الخطابي بلغته الإنشائيّة النازفة ألما وحزنا ودمعا، حتى إمكانيّة استماع الضابط المغربي لكل خطاب ميار وفهمم كلماته مشكوك فيها (ص90-101)، فلماذا لم تحذف الكاتبة كلّ هذا المشهد غير الضروري لزيارة طنجة أو تختصره بسطور قليلة؟

الملاحظة الرابعة
مُضايقات ميار لسارة فنكلشتاين. أعتقد أنّ في تصرّفات ميار مع سارة فنكلشتاين ومضايقاتها لها أشياء غير منطقيّة وغير مقبولة من طالبة مثقفة واعية ترى في نفسها مُمثلة شعبها. فأنْ تحمل كلّ هذا الغضب وهذا الموقف الحادّ مدّة خمس عشرة سنة وتقذفه بكلمات حادّة غاضبة مسيئة مُتّهمة جارحة غير مقبول وغير مُقنع. كان بإمكان ميار كتابة رسالة هادئة تشرح فيها ما سبّبه رفض سارة لها وترْكها للجامعة في تل أبيب من حزن وألم ومَصاعب احتملتها وعائلتها كل هذه السنين، وبذلك تجعل سارة تشعر بالنَّدم والخجل والذنب. وكان بإمكان ميار أنْ تلتقي بسارة في جامعة برلين يوم المؤتمر وتُعرّفها بنفسها وتُذكرها بكل القصة. وتفتح صفحة جديدة لا حقد فيها ولا كراهية. كما أنّ مُضايقات ميار لسارة في المطار والطيّارة وحتى في مطار تل أبيب كانت مبالغة غير مقبولة، وكان بإمكان سارة استدعاء الشرطة واتّهام ميار بمضايقتها والاعتداء عليها، ممّا كان سيؤدّي إلى اعتقال ميار وتقديمها للمحكمة. وكان الأفضل لو تنازلت ميار عن كل هذه المضايقات واكتفت بكتابة رسالة هادئة عاتبة جارحة نوعا ما لسارة والتخلّص من حمل هذا العبء من الغضب والمَرارة والرّغبة في الانتقام كلّ هذه السنين.

الملاحظة الخامسة
لغة دعاء زعبي المتينة الهادئة السّلسة التي شدّتني في "خلاخيل" اختلطت بالكثير من المقطوعات الإنشائيّة التي قصدت بها التأكيد على إمساكها بتلابيب اللغة، فاتّسمت بعضُ هذه المقطوعات بلغة مُصطنعة واختيار كلمات قاسية بإيقاع صاخب كما في رسالتها إلى سارة، وبعضُها بمبالغات درامية غير مقنعة مثل خطبتها الطويلة أمام الضابط المغربي (ص97-98) و(ص 100-101) ومقطوعات رومانسيّة مُنطلقة بخيالاتها اللامتناهية. هذه المقطوعات التي كنتُ أفضّلُ لو أعادتْ دعاء كتابتها بلغتها الجميلة المتينة الهادئة الراقية.
لغة السّرد والحوار والوصف وكتابة الرسائل كانت على مستوى واحد، فكما هي راقية وجميلة وسلسة عند الراوية هكذا لدى معظم شخصيات الرواية، فكلام العمّة (ص67-69) وهي تروي لحلا قصة والدها وتَرْكه للوطن إلى ألمانيا قصد الدراسة، وكيف تعرّف على زوجته أم حلا، لا تختلف بقوة سَبْكها وجمال مفرداتها وإيقاعات حروفها عن كلام ميار في معظم المشاهد. وعن كلام حلا (ص 80) ومعظم الشخصيّات، وقد يكون السبب أنّ هذه الشخصيات تنتمي إلى الطبقة المتعلمة المثقفة.
الملاحظة السادسة نهاية الرواية غير المقنعة والتي ذكّرتني بالأفلام المصرية القديمة التي كانت تنتهي بموت أحد الحبيبين أو الزواج. فأن يحدث هذا التّوافق ما بين ميار ونديم بهذه السرعة بعد قطيعة تامة مدّة خمس عشرة سنة نسي فيها الواحدُ مَلامح الثاني ولم يعرف عنه أيّ معلومة، أمر لا يستسيغه المنطق، فالزمن الطويل يُغيّر الإنسان جسديا وعاطفيا وعقليا وحتى في علاقاته الاجتماعية. فكم بالحريّ إذا كانت القطيعة بقرار سابق وحاسم من الإثنين والتزما بها مدّة خمس عشرة سنة لم يُحاول أحدهما تتبّع أخبار الثاني ولو بسؤال عابر لقريب أو صديق؟
ولهذا كنتُ أفضل لو أنّ الكاتبة تركت نهاية روايتها مفتوحة وأنهتها بعد وصول الطائرة إلى مطار اللد واستعداد المسافرين لمغادرة الطائرة صفحة 192 (في هذه الأثناء تعود الهواتف النقّالة لتضيء الشاشات ويعود المسافرون لينشغلوا مُجدّدا في تفحّص هواتفهم ريثما يُسمَح لهم بالوقوف ومغادرة الطائرة.)

ملاحظة يجدرُ ذكرها
تفاوتت مشاهد الرواية فيما بينها، وتعدّدت الأماكن ما بين يافا وبرلين وإسبانيا وطنجة ودمشق، وأثارت المشاعر، وأيقظت التاريخ، وذكّرت بالأمجاد، وتفرّدت يافا بما تحمله من فرح الماضي القريب البعيد وأحزان وهموم الحاضر والمستقبل الآتي، ولكن دمشق بأهلها وشوارعها وأسواقها ورمزيّتها كانت المُتألقة في المَشاهد التي صَوّرت "حلا" وقد عادت من مدينة برلين التي ولدت وعاشت فيها مع والديها، عادت حزينة تاركة أمّها الحنون التي طلّقها زوجها "والد حلا" بعد سنوات جميلة من الزواج. فقد تميزت هذه المشاهد بالجلسات الدافئة التي جمعت حلا وعمّتها والحوارات التي دارت بينهما بلغة سلسة جميلة هادئة أخّاذة، وبالأجواء الدافئة الحميميّة التي أحاط الجميعُ حلا بالحبّ والعناية والجَوْلات التي قامت بها حلا وعمّتها في شوارع وأسواق دمشق التي تفنّنت الراوية في تفاصيل وصفها وإبراز تميّزها وفَرادتها، هذه المشاهد التي توقظ أحاسيسَ القارئ وتشدّه إليها وتُعيّشه في أجوائها، حتى ليكاد في لحظات يجد نفسَه تتساءل إذا ما كانت الراوية قد زارت دمشق وعاشت فيها كما يافا مدينتها الأم.
أمّا الزّمن، الذي طال وامتدّ على خمس عشرة سنة فقد توارى حتى كاد لا يُذكر، وفقط في بعض اللحظات الزمنيّة المُتباعدة، وفي ليلة رأس السنة الأخيرة استفاق وحضر بكلّ جبروته تاركا بصماته ليُنبّه ويُثيرَ الأحزان ويُفزعَ ويُحذّر من الآتي.

حتى يكون الكلام واضحا
هذه الملاحظات لا تُقلّل من قيمة عمل الكاتبة دعاء زعبي الإبداعي واقتحامها لعالم الرواية الواسع، ولكنها تهدف للفْتِ انتباه الكاتب والنّاقد إلى عدم التّقوقع في مضمون النصّ الأدبي والانجرار وراء الشعارات والبطولات وحتى المظالم التي يُعليها. وإدراك مدى خطورة تجْميل النّص بمختلف المصطلحات والاقتباسات التي تُزَيّنُه وتوهم القارئ أنّها ابتُكرت له وفُصِّلَت على مَقاسه. بينما تُهْمَل السَّقَطات الصغيرة الكبيرة التي يكون الكاتب قد وقع فيها وسبّبَت في انتكاسة النّص ككل.
اقتحام دعاء زعبي لعالم الرواية الرّحب فيه شجاعة ومغامرة وتَحدّ، ولكن فيه المَخاطر أيضا. واتقانها للغة، وما لديها من ثروة لغويّة، تُمكّنها من تطويع مفرداتها وبناء الجمل والعبارات على الشكل الذي تريد، وهذه ميّزة تُحْسَب لها، لكنها قد تُصبح مصيدة توقع مَن اعتقد امتلاكه للغة، وخُدع بقدرته على التلاعب بمفرداتها وإيقاعيّة حروفها وسحرها الكامن في كلّ مُركّباتها.



#نبيه_القاسم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية -زمن وضحة- لجميل السلحوت: حفر اسمه في كتاب الثقافة الف ...
- رسالة لأفنان القاسم
- أدونيس والمنفى الأليم وافتقاد الصديق
- أحلام مستغانمي وكسر تابو الرجل


المزيد.....




- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - نبيه القاسم - رواية جوبلين بحري لدعاء زعبي وأيّة رواية نريد؟