أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مؤيد عليوي - الفصل الرابع والخامس رواية لم اشرقت ..لم رجعت















المزيد.....


الفصل الرابع والخامس رواية لم اشرقت ..لم رجعت


مؤيد عليوي

الحوار المتمدن-العدد: 7480 - 2023 / 1 / 2 - 11:20
المحور: الادب والفن
    


الفصل الرابع """""" غرفته .. وبنت عشتار """""""""""""
في تلك الليلة الباردة كأنها من ليالي لندن، حين تقدمت الأيام بالشتاء فكشرت أنياب برده على الأرض، كان السومري قد نفض يديه من دفتره، مد ظهره على الارض واضعا رأسه على وسادته التي سحبها من جانبه لتصير تحت رأسه، كان يتأملُ وجه ديانا صديقته وهي تلقي ابتسامتها ونفسها في نفسه، أمتطى ذكرياته والخيال فتداخلت الأزمنة والأماكن، ذهب مع الغيم والسحاب، وهو ينظرها من نافذة الطائرة، كان يرى وجه ديانا في الغيم وهي تقبله بتلك النكهة من المشاعر التي لم يعرفها من قبل، بعمق إحساسها الذي تردد صداه في أرجاء نفسه التي سرحت منه إليها، أسدل ستار عينيه بهدوء، سمع نبرة صوتها :(أحبك وأحميك)، أنا ديانا بنت عشتار، ظنّ أول وهلة إنها من ذكرياته وبقايا كلامها له عن الإرث الحضاري للعراق، حتى طرق سمعه:(محمد سوف اذهب ، أحدهم قادم إلى غرفتك، سأرجع في وقت مناسب)، فتح عينيه مفزوعا ونهض عن وسادته:(ماذا ؟! لم تكن مجرد ذكريات ؟!)، ثم اعتدل في جلسته وقد أخرج علبة سجائره التي أهدتها إياه ديانا في لندن، فيها بقايا عطر من ذكرياتهما، كانت تراوده ذكريات لندن وديانا، وهو ينظر إلى السيجارة بين أنامله، ثم أشعلها وهو يتأمل ما سمع، دون أن ينتبه لنفسه أنه قام ليفتح شباك نافذته الملتصق بباب غرفته، شباكه المطل على حديقة بيت عمه حيث غرفته هناك، ظل يتمتم بصوت مسموع (هل يُعقل هذا.. ؟!)، حتى طرقتْ البابَ ابنة عمّه نرجس بلهفة وشغف بذريعة أنها تحمل له صينية العشاء، لم ينتبه لشغفها أول الأمر، سمعتْ هي صوته دون فهم معنى منه، نادته (محمد هل يوجد عندك أحد؟) قالتها بنبرة صوت عالية يلفاه الغنج ويحوطها الاستغراب، أجابها (مَن هناك؟) وقد أطفأ اللفافة التي بيده، ثم نهض عن الارض حيث كانت جلسته كما يحب أن يجلس في العراق وفتح باب الغرفة، بادرته:( أنت تحجي وحدك ، لو تقرأ قصيدة) كان غنج نبرة صوتها في العبارة الأخيرة يأخذ بلبّه، مدّ نظره إلى الأفق قبل أن يتناول منها العشاء وهما مازالا عند باب غرفته وهو يستجيب ليديها وسؤالها (نعم كنتُ أردد قصيدة ونسيت نفسي، آسف جدا لمْ أسمعكِ)، فيما ذهبتْ هي إلى مطبخهم عند أمها وأبيها، دخل هو الى غرفته ووضع العشاء على الأرض، ثم فتح جهاز التلفاز محاولا أن يهرب مما هو غير المعقول، لكنَّ في نفسه مازال يتساءل (هل من الممكن أن تحدثني ديانا وترى مَن هو قادم إلى غرفتي، وهي في لندن؟!)، فتح التلفاز وعاد يجلس قرب عشائه مسندا ظهره الى الوسادة والحائط الملصقة عليه صورة باب عشتار، قلّب الأمور في رأسه بين الفلسفة وعالم اللاهوت وعلم النفس فلم يصل إلى نتيجة، ثم عاوَد نفسه:(الأفضل أن أنسى ما مرّ بي، وأحقق رغبتي من أجازتي هذه السنة)، اطمأن قليلا وتذوّق بعض الطعام، ثم واصل تناوله، أخذه الشغف بحثا عن قصيدة عبد الحسين أبو شبع (جسام يا ضنوتي) التي سبق وسمعها من أبيه الأستاذ عزيز، فـأخذ "الريمونت" القريب من يده، وراح يقلّب الفضائيات بحثا عن قناة تبث القصيدة التي لم يجدها، ظل يتمتم بها وهو خارج من باب غرفته يحمل الصينية بيديه حتى وصل باب المطبخ، وقف عندها رافعا صوته ( نرجس، نرجوسة ، يا أهل الدار..) لم يجبه أحد، فدفع أسفل الباب بقدمه، وبكوعه من أعلاه، ووضع الصينية من يديه على مائدة الطعام التي تتوسط المطبخ، غسل يديه وأحكم إغلاق باب المطبخ عائدًا إلى غرفته فأطفأ التلفاز والإضاءة، ليخرج إلى أحد المواكب بعد زيارة المرقد.
*****
خرج من بيت عمه ليلا باتجاه المرقد الذي كان قد تغيير عمّا رآه في صور أبيه التي تحمل ذكرياته حين التقطها مع بعض أصدقائه وزملائه المعلمين وفيهم مِن كل مشرب سياسي وثقافي وفكري أبان منتصف السبعينات، لقد كانت قبة المرقد زرقاء في الصورة تعانق زرقة السماء جمالا وبهاءً، وهي تحتضن اسراب السحاب والحمام واليمام والعصافير، كما صار ذلك الانطباع عنها في ذهنه، حيث كان يعدّها لوحة فنية بنقشها وعملها، ولطالما تباهى بفنّها أمام زملائه البريطانيين عندما كان في الدراسة الثانوية، بينما صارتْ منذ منتصف التسعينات قبة ذهبية واحتفظت المئذنتان بنقشهما الفني، كان أبوه الاستاذ عزيز يستفهم ويتعجب وهو في غربته، حين سمع أن قبة المرقد صارت من الذهب، والشعب يعيش تحت وطأة حصارين، حصار الحكومة وحصار أمريكا، أبوه الذي غادر المدينة والعراق مجبرًا، ومجرّباً منفاه الاختياري في مدينة لندن آخر محطات تنقله،
لم يكن يعلم محمد سببا منطقيا، حين اختار أن يتوجه بسيارته التي استعارها من عمه، إلى الشارع والطريق الرئيسي خارج المدينة بعد زيارته المرقد، الشارع الذي يربط بين مدن الجنوب والشمال مرورا بمدن وقرى الفرات الأوسط، حيث كانت تلك البساتين التي تحيط بالمدنية من خارجها، يشقها شارع الإسفلت العام مثل باخرة تمخر عباب البحر، وعلى جانبيه المواكب الحسينية للعشائر المحيطة بالمدينة، وتساؤل يلح عليه: (ما الذي جاء بي إلى مضيف الشيخ جاسم؟!) ويستدرك :( نفس الشيء جميعها مواكب حسينية)،عند تلك اللحظة وصل إلى "مضيف الشيخ"، قبل نزوله من سيارته أحس، أنه بحاجة إلى أن يتصل بديانا في لندن، أخرج هاتفه المحمول من سترته الشتوية وهو مازال خلف مقود سيارته، نظر إلى قائمة الأسماء باللغة الانكليزية تردد والحيرة تأكله:( لمَ أريد الاتصال بها؟ وأنا لم أحسم مشاعري اتجاهها، أم لأنني أمر بهذا الأمر الجديد؟ وفزعي مِن صوتها غير المتوقع في غرفتي؟)، قطع سلسلة أفكاره وتساؤلاته التي أزعجتْ نفسه، نفر مِن عقله وحزم شجاعته، اتصل بها دون تردد بدفقة من عاطفة مشاعره إليها :
- مساء الخير
- قصدكَ صباح الخير
- كيف أنتِ ؟ ها أنا اتصلتُ كما طلبتِ مني في صالة المطار.
- لكنك تأخرت بالاتصال، كنت انتظر اتصالك منذ 5 أيام حتى كدتُ أن اتصل بك الآن، كان هاتفي المحمول بين يدي أريد الاتصال بك للتو .
- لقد اخذتني مدن الطين بعيدا عنكِ، كيف أنتِ ؟
- اوكي، أنت كيف هي أموركَ ؟
- تمام جيدة ، سنتواصل فيما بعد، كما أرجو أن تتصلي بي متى جمحت بك الرغبة لذلك، باي
- تمام، باي .
أحسّ براحة نفسية وتوارت أفكاره قليلا عن رأسه، نزل من السيارة وأغلق بابها، كان صوت شيخ العشيرة الشيخ جاسم، يعلو في الفضاء الفسيح، مِن مكبرات الصوت الكبيرة التي تشبه طاولة صغيرة سوداء، فيما صار الجو باردا أكثر، وأغلب الزوار في داخل الموكب، فالمكان مكتظ ولا مكان لجالس جديد، ألقى محمد التحية من باب الموكب حين صار وجهه بوجه الشيخ الذي رفع يده بالتحية، وهو جالس على الأرض بين أبناء عمومته والزوار، يقصّ حكاية حياة صاحب المرقد الذي يطل ضوء قبته المميز على البساتين والمواكب خارج المدينة، لارتفاع المرقد عن مستوى سطح أرض المدينة وما يحيطها من منخفض، تعلوه القبة الشاهقة، ليطل منها الضوء برأسه على البعيد، حيث يقف السومري مستمعا، وقد جاء الشيخ بمختصر حكاية صاحب المرقد " القاسم بن موسى الكاظم عليهم السلام" وحبه للعمل بيديه فهو كان يعمل سقاءً.. وحين أكمل حديثه وضع يمينه على الأرض متكأ عليها، لتعينه بقيامه مِن جلسته، فيقوم منتصبا في وفقته، وقد مدّ كلتا يديه ليسوي عقاله المتربع فوق يشماغه الفراتي، ثم رفع صوته:(وين عِشه الزوار..)، بينما لم يكن محمد السومري يديم الوقف، فاستعمر مكانا لجلوسه خارج الموكب، وقد اندلق فكره بما سمع من حكاية القاسم بن موسى بن جعفر، إلى أن: (صراع الفقراء والطيبين أغنياء أو فقراء، مع السلطة منذ حياة القاسم في العصر العباسي، وأبعد من ذاك التاريخ، هو الصراع ذاته إلى هذا الوقت، وعمل الخير ذاته في المجتمع، والثورات ذاتها ضد الأنظمة)،
كان جالسا خارج الموكب في جواره عند منعطف منه، ووجهه باتجاه الأفق المفتوح والبساتين حيث الأرض الممتدة والسماء الواضحة تتلألأ فيها النجوم ونفسه سارحة مع وميضها، بعد أن أوقد بعض الأخشاب من جذع نخلة مسجى لهذا الغرض مع بعض السعفات، فبين وميض النجوم وحسيس النار كان ينتقل ببصره بين السماء وما تأكله النار من السعف والحطب، ولا فكرة لديه، كان إحساسه مثل موج البحر يدفع به إلى شواطئ مجهولة، عيناه ترنوان إلى النجوم البعيدة، حتى كأنها صارت في تناول يده، في هدوء وسلام يعمّ أرجاء قلبه وعقله، سمع صوت ديانا مجددًا :(تحرك باتجاه الرجال هناك عند موقدهم) أنزل عينيه عن السماء، كشف بهما ذات اليمين وذات الشمال بتلفت رأسه، يتفحص المكان بدقة، ثم اطاح بعمود الضوء على الموقد القريب وحوله بعض الرجال والفتية ورجل الموقد يحاورهم وهو يعبث بالجمر يقلبه كيفما شاء، تأمل محمد قليلا وقال في سره: ( فلنجرب الأمر ) قام من مكانه الى الموقد يخطو بخطوات ثقيلة يحث تراب الارض بهدوء ..
- سلام عليكم ... قالها محمد السومري
- وعليكم السلام ورحمة الله ، تفضل أستريح .



الفصل الخامس """"""موقد واشتعال"""""""""
جلس هو معهم حول نار الموقد، يتقي بها مع الرجال برد الليل، يتدفئون بها وبالأحاديث التي يرويها رجل الموقد أبو كوكب، جلس إلى الأرض المفروشة بشيء قليل من الفرش، جلس يستمع إلى حديث أبي كوكب رجل الموقد الذي يحاوره جلّاسه بسؤال أو بحث عن موضوع جديد، يقضون به على طول الليل وبرده، بادرهم رجل الموقد بطرف من الحديث المُذاع عبر مكبرات صوت الموكب عن قصة القاسم، واندفع عقل أبي كوكب بثقافته وعمقه الإنساني عن أهمية العمل في حياة الناس، كان جميع مَن حوله قد تسمّر في مكانه، ينصتون له، وهو قد انطلق بحديثه : أنظروا إلى سيرة القاسم عليه السلام، يعمل بيده وعقله بجد ونشاط وإخلاص، عمله من أجل كسب قوت يومه الحلال النقي،هل تعرف الناس هذه المعاني هل تنتبه إلى عظمتها اليوم، الإخلاص في العمل، بل هل تقدّر فكرة العمل والسعي إلى كسب قوتهم بالحلال..، ثم جالسهم حول الموقد، أحد أتباع الأحزاب الدينية الذي حصل وظيفة حكومية مؤخرا من خلال حزبه، فيما كان رجل الموقد متسمرا ببركانه وقد صوب حممه بوجه الجالس الجديد، هل تقدّر أنت معنى أن يكسب الإنسان رزقه بلا رشوة أو بلا وساطة حزب أو شيخ، من اجل الحصول على فرصة العمل ليكون مصدرها حلالا من أصل التقديم للحصول عليه، وكذلك هذا الموقف وطنيا، لأنه يجعل فرص العمل متساوية أمام أبناء الوطن المتقدمين للحصول عليها، فمساعدة الناس شيء، وأن تسعى للحصول على وظيفة أو فرصة عمل عن طريق لا يفضي إلى الخبز الحلال شيء آخر، وقد زاد انفعال أبي كوكب رجل الموقد وهو يدير جلسة الموقد في حديثه، كان قد خرج من استعماله لبعض اللغة الأدبية التي اعتاد عليها جلّاسه، نظر الرجل إليه وقد علم دون أدنى شك أنه هو المقصود بكلامه هذا، وفي داخله انكسار، وهو يسمع أبا كوكب، فتمالك نفسه وربط جأشه، وقال بصوت يخفي انكساره : لم أنتمِ لحزبهم الذي يدعي الدين لولا رغيف الخبز، وأنت تعلم أنهم حاصرونا من كل زاوية، هل أترك أسرتي تموت جوعا وأنا لا أعرف غير التحصيل الأكاديمي الذي قضيت عمري أتعلمه؟ لو كنتَ مسؤولا عن أسرة لعرفتَ معنى ما أقول، ثم نهض الرجل مودعا أبا كوكب بكلمة : (رحم الله والديك)عن غير رضىً، حاول احد الفتية أن يرد عليه الكلام إبان نهوضه، منعه أبو كوكب بإشارة من يده، وكلمة (ربما حقّه) إنه معنا وليس ضدنا، مادام حديثه بهذه الحرقة وهذا الألم، لن يكون أداة طيعة بأيديهم لأذية الناس، ثم انطلق بركانه من جديد يعيد ما قد بدأه، حتى صمتَ قليلا فأشعل سيجارته، وطاف بالوجوه من حوله ليرى أثر كلامه عليهم، كان أحدهم يعبث بعصا يمدّها في قلب جمرات الموقد الذي توسط الحاضرين، فيتصاعد منه الدخان، وكلما توهجت الجمرات أكثر كان داخله يغلي، نظر إليه رجل الموقد نظرة رحيمة أحس بمشاعره، وقد أختلط دخان لفافته وهو يتصاعد مع دخان الموقد وزفرات الرجل الذي يهيج دخان الموقد بعصاه، كلّمه أبو كوكب:(خيرك يخوي؟) فلم ينتبه له أول الأمر، رفع صوته بأكثر حدة، وبجهورية أقوى:( أبو قيس خيرك؟! )، تنبه له أبو قيس بعد أن رفع عينيه عن جمرات الموقد المتلألئة مع نسمة هواء باردة تسف الرماد:( أخذني كلامك الواقعي هذا إلى واقعنا المرير وزيف المسؤولين في الحكومة ، محد بضيم أحد) نفث أبو كوكب دخان لفافته كأنه دفع صخرة عن صدره، ثم رمى عقبها الذي لامس أصابعه في الموقد، والتفت إلى الرجل بجواره: (ماذا به)؟ أجابه همسا (أن أبا قيس ماجستير هندسة وتزوج مبكرا وعنده أطفال، وإلى الآن لم يحصل على الوظيفة، وهو عامل معي أننا عمال الآن)، بينما كانت حركة الزوار قد أخذت تنحسر عند الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، مع برودة الجو إلا أن أبا كوكب أخذ يفور مثل بركان يتهيأ للانفجار، مخاطبا ابا قيس أخي أنت ومَن معك، و جميع العاطلين عن العمل، جميعنا نذهب في تظاهرات الحلة بعد انتهاء زيارة الأربعينية، فالحكومة فاسدة والأحزاب النافذة في السلطة فاسدة أيضا، فنبس احد الجالسين بصوت منخفض وهو يمارس طقوس الشاي مع الأقداح، وماذا ستقدم لنا التظاهرات فقد خرجنا بالتظاهرات منذ سنوات، لا الخدمات تحسنت ولا سمعوا منا ما نريد وكل مرة نعود بلا شيء؟! قال كلمته هذه وأنشد بصوت مسموع، مطلع قصيدة لمظفر النواب (أيام المزبن كظتْ ، تكْظن يا أيام اللف) ،
مرارة القول تحسستها أنفس المستمعين، وكل واحد منهم يتناول استكان الشاي من يده، مرارة لا يذهبها سكر الشاي ولا حتى العسل، وقد تركت لهجة الانكسار البادية في نبرة صوته أثرها في عقول وقلوب الجميع، حينها تسيد الصمت على وجوه الرجال والفتية، أراد الآخر أن يكمل ما بدأه غيره، أجابهم أبو كوكب، كم كانت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات، قاطعه محمد، كانت نسبة قليلة مقارنة بالسنوات الماضية ثم عاود الصمت، بينما استمر رجل الموقد وهذا معناه أن اغلب الشعب لا يريدهم وقد تيقن أن الانتخابات باتت لعبة بأيديهم، مثلما أموال النفط والثروات باتت محصورة بأيدهم، واغلب الشعب لا يحصل على شيء منها، حتى الوظائف العامة والخاصة لا يستطيع احد الحصول عليها، والبطاقة الغذائية غدت في طي النسيان موجودة وغير موجودة، أضف إلى ذلك عسكرة المجتمع مما سبب إهمال الزراعة وإهمالها عن قصد، لكي تدخل منتجات دول الجوار الزراعية إلى أسواقنا،
قاطعه حليم وهو يعبّ دخان سيجارته ثم ينفخه بسرعة، وعلى وجهه تقاسيم الغضب تناقض اسمه، كان مقطّب الحاجبين وسط وجه مكتنز ورأس كبير يعلو بنيته القوية وجسمه الكبير، وقد بانت عضلاته المفتولة من خلف ملابسه الشتوية، إنني تركتُ زراعة الأرض وصرتُ عسكريا، هل يعني أنني لستُ وطنيا؟ لا، أنت وطني ولكن الأفضل أنت تفلح بأرضك وأرض أبيك، التي أهملتها وصرت شرطيا، وأنت في عمر العشرين سنة، هذا سن العطاء خاصة نحن الفلاحين، المهم أن تكون معنا في التظاهرات القادمة، ثم واصل أبو كوكب كلامه عن محاربة نظام المحاصصة، للمنتج الوطني الصناعي على الرغم من جودته، لقد جعلوا العراق سوقا للسلع الأجنبية، بل أرادوا بيع مصانع الدولة ولم يفلحوا، حتى أمسى أغلب المجتمع جيوش من البطالة والبطالة المقنعة، وبسبب آخر لا يقل أهمية عن الأول، ألا وهو جلب العمال الأجانب أو العمالة الوافدة، وهذا يعني ضياع فرصة العمل علينا مرتين..، بادره الرجل المسن الوحيد في الجلسة حول الموقد بـ(عرفنا وفهمنا، العن أبو الأحزاب، وأبو يومها، احكي لنا الليلة عن زيد بن علي عليهما السلام)، ليتواصل معه رجل الموقد، بلغة الإشارة فقال له نعم بيده، واستمر منطلقا بكلامه : إن الصراع بيننا كشعب وبينهم، فإذا كان عدد المتظاهرين قليل في السنوات السابقة ففي هذه السنة وفي المستقبل سيكون اغلب الشعب معنا، قطّب الرجل المسن حاجبيه البيضاوين، ومسد لحيته الأنصع بياضا منهما، وقد اخرج شفته السفلى الى الأمام عن مكانها، كان محمد السومري ينظر الى الرجل المسن ولغة وجهه، وإلى رجل الموقد الذي أنتبه فغيّر مجرى حديثه وهو متواصل به، وأضيف لكم معلومة مهمة عن ثورة زيد بن علي عليه السلام، كان من أهم شعاراتها هو إعادة الجنود السخرة دون راتب من الدولة الأموية، إلى أهلهم في العراق ليعودوا للعمل في الزراعة، وشعار ثانٍ مكمل للأول، وهو سحب الأراضي الزراعية التي وضع يده عليها كل والٍ أموي، وأتباعه ليكوّنوا إقطاعيات زراعية خاصة بهم، وإعادة توزيعها على الفلاحين العراقيين والعائدين من الجنود، كانت ثورة زيد ناجحة بشعاراتها وتنظيمها، وكانت لجميع المظلومين، لكن الذي أفشلها التنابز بين هذا وذاك، وتخاذل البعض مما سبب تصدع كبير في صفوف جيشه فتفرق الناس عنه، وبعدها صارت ثورة ضد إقطاعيات ونهب الدولة العباسية للثروة وظلم الفلاحين في أذربيجان، فاشترك بها جميع الفلاحين من قوميات مختلفة، ألا وهي ثورة بابك الخرمي أو تسمى بالثورة البابكية، إن الأحزاب الحاكمة اليوم تحاول تفتيت صفوف المجتمع العراقي ليسهل نهب ثروات بلادنا، فهم لا دين لهم أفهموا هذا يرحمكم الله، إن فحوى الدين تتجسد في التعامل بمعنى الدين المعاملة، فهل كان تعامل الأحزاب النافذة معنا فيه دين؟ أجابه احد الجالسين حول الموقد بسرعة- طبعا لا، إننا نعيش كل لحظة خسارة من الخدمات والعمل الشريف والمعاناة اليومية، خسارات يجب أن تنتهي، لن يخدعوننا بمواكبهم وأغلبها من المال المنهوب من حقوقنا في النفط وغيره.
رنّ هاتف محمد المحمول، أخرجه من جيب سترته وهو يتوقع أن تتصل به ديانا صديقته، نظر إلى الهاتف، وقبل أن يجيب استأذن من الجالسين ونهض عن موقد الشاي وفي نفسه:( ماذا يريد في هذه اللحظة ؟!)، فتحرك بخطى واثقة وروح التحدي تدب في جسده، على الرغم من إحساسه بحاجة جسمه للنوم، أجاب بهدوء الواثق من نفسه :
- مساء الخير، تفضل فرانك
- مساء النور.. إجازة سعيدة وأوقات ممتعة، كنت أتمنى أن أكون معك في العراق الآن.
- شكرا جزيلا ، وما يمنعك ؟
- الكثير من الأمور أولها العمل، هل وجدتَ شيئا جديدا في العراق هذه المرة ؟
- وما هو الجديد في العراق ؟ برأيك ؟
- أنت تعلم أنني مهتم بأرض الطين والعشق كما تسميها أنت ورئيسة تحرير الجريدة.
- وأنت ماذا تسميها أرض الميعاد هههههه؟ صديقي فرانك اهتمامك على غير اهتمامنا أنا ورئيسة التحرير. نحن نحب الإنسان في مدن الطين والعشق مع حب المعرفة، وأنت تبحث عن المعرفة والشهرة في الوسط الصحافي العالمي .
- نعم لا ضير في ذلك، نشترك في البحث عن المعرفة .
- والغاية تبرر الوسيلة عندك هههههه، أني أعرفك جيدا فرانك.
- هههههه لن تتغير ستظل عراقيا .
- كما تنتمي أنت إلى وطنك .
- وطني يحاول السيطرة على العالم من جديد، نحاول أن نعيد المملكة التي لا تغيب عن ممتلكاتها الشمسُ، بينما وطنك يقوده أفسد الناس في العالم، فالجميع يعلم بهذا علنا جهارا و نهارا .
- أتفق معك تماما، لكن لا تنسَ أننا شعب حي لا يموت، ننهض دائما، وأذكرك بثورة العشرين، وثورة 14 تموز 1958، تذكر عبد الكريم قاسم جيدا، فالتاريخ ليس لك وحدك، وها نحن هنا في العراق، يا صديقي هل لك مزاج أن تستمر ؟ .
- مثل كل مرة، لا جواب أمامك، فأنت تعلم إني أحترمك وأحترم إخلاصك لوطنك، لكن ما لا تعلمه أقولها بصراحة لك : أني أجدك منافسا يليق بي ثقافة وعمقا، خاصة إن العراق على أعتاب انتفاضة من الاحتجاجات المطلبية هذه الأيام، ألا تتابع الفضائيات الإخبارية ؟! ألا تفتح مواقع التواصل؟! .
- شكرا جزيلا، أنت تعلم أني في الإجازة وفي أغلب أوقات العمل، أهتم بعملي في الجريدة حول الأخبار الفنية والسينمائية والمسرح وكتب الثقافة والحضارة، أكثر من الفضائيات الإخبارية وغيرها، وتذكر أنت مَن يليق به أن يتعلم مِن إنسان مدن الطين والعشق والحرف الأول، وأشكرك على الاتصال .
- نلتقي يا صديقي في لندن، لنكمل الحوار ، مع السلامة.
- مع السلامة .
أنهى محمد المكالمة، بينما ظل هاتفه المحمول بيده، ودون أدنى تفكير مسبق، أرسل رسالة إلى ديانا ( كنتُ محتاج أن تتصلي، ولا أريد إزعاجكِ باتصالي الذي ربما يكون في وقت غير مناسب، أرجو أن ترسلي رسالة كي أتصل بكِ)، ثم أهمل هاتفه المحمول ينزلق من يده إلى مكانه، في جيبه الداخلي من سترته الشتوية، التي لبسها فوق ثوب الرجال الطويل من قطعة واحدة "دشداشه"، ذهب يحث خطاه مُلقيا التحية على الرجال حول الموقد مودعا جلستهم، ليعود إلى سيارته ويرجع حيث بيت عمه، بينما بات أبو كوكب مستمرا في حديثه عن الدولة وضرورة استقلال القضاء، إذ قال - إن عمل القاضي مرتبط بعمل المؤسسات، وليس بطاعة كهنة معبد أمون، ففي الزمان السابق كان ثمة رجل قضاء اسمه " عبد الجبار حسين" قال (لا) بوجه صنم السلطة الأوحد ورفض طاعته، كان القاضي عبد الجبار رجلا شجاعا لكن وقفته البطولية تلك كانت لوحده فدفع ثمنها حياته، كما تناقلت الناس ذلك حينها، تصوروا اليوم لو أن القضاة وقفوا بوجه السلطة الفاسدة وأحزابها الناهبة للثروة الوطنية، وقفة رجل واحد في فسحة الديمقراطية المشاعة لنا، كيف ستتغير الأمور بسهولة لصالحنا؟
أنهى أبو كوكب كلامه ونظر إلى ساعة يده، كان قد بدأ الوقت يقترب من آذان الفجر كما بدأ الزوار يخرجون من مضيف الموكب، منهم مَن يتوضأ، ومنهم يجدّ المشي فيصلي في موكب آخر كأنه يريد اللحاق بوقت مضى، ومنهم مَن استقبل القبلة داخل المضيف ينتظر وقت الآذان والفطور بعد الصلاة، كان النعاس يطوف في جفون الرجال حول الموقد، وقد تثاءبت النار في الموقد وغفت الجمرات على برد تلك الليلة، التي لم تكن ليلة طبيعية لدى الجميع، كانت ثمة روح جديدة تدبُّ في الأجساد التي أكلها اللوم على انتخابهم أناس لم يقدروا تضحياتهم منذ الاستفتاء على الدستور قبل سنوات، حين كان الصراع بين الشعب وإرهاب السيارات المفخخة، في طريقه إلى صناديق الاقتراع، لم يقدروا مرارة أن يكون الإنسان فقيرا في العراق بلد الثروات والثورات والحضارات، لم يقدّروا عزة النفس التي تملكها المرأة العراقية ويملكها العراقي، عندما حاولت تلك الأحزاب أن يجعلوا أبناء الشعب أتباعا وذيولا طائعين لهم، لتزداد أمراض المجتمع عمّا خلفه النظام القديم..
لقد حلّت روحا جديدة أوقدتها كلمات أبي كوكب عن ثورة زيد بن علي، عن ثـبات الحسين في طفـه، عن عمل القاسم بيده، وقيمة العمل وأهميته في حياة الإنسان، تلك الروح الثورية التي استمدها الرجال والفتية حول الموقد، كانت مشعلا في نفوسهم، بينما كان محمد ينعم بنوم هادئ في غرفته، يغطيه لحاف قطن من الصناعة اليدوية وبطانية منقوشة بكلمة أحبك، جلبتها له بنت عمه نرجس، دون أن يدرك سرّ جلبها لتلك البطانية دون غيرها، فيما كان فرش نومه على ارض غرفته كما يحب أن يلتصق بجذوره في العراق ..



#مؤيد_عليوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثاني والثالث رواية لم اشرقت ..لم رجعت
- التميع والتطبيع
- شعر كزار حنتوش ومرجعية الجمال في قصيدته - قصائد رسمية - إنمو ...
- أخرُ عشاءٍ للشاعر تأبط شرا في بغداد
- تقنية السارد بين الراوي العليم والرواي الثانوي في رواية -رما ...
- أخرُ عشاءٍ لتأبط شرا في بغداد
- في 2021
- قصة قصيرة - ضوءٌ منتفض -
- جماليات إيقاع التقابل في -تحوّلات- / الشاعر عبد المنعم القري ...
- سقوط
- سيرة نضال نجفيّة في قصيدة -خطى على ضفاف- *
- فنيّة اليوميات ولغتها في ولهِ الشاعر عمر السراي
- فنيّة القافية عند الشاعر د. وليد جاسم الزبيدي / ديوان -أناشي ...
- التضاد المكاني في قصيدة -الملوك - لكريم جخيور
- لا اشبهكَ
- همس الايقاع الداخلي في مكان قصيدة - شهرزاد - لرسمية محيبس *
- طفولة بنات الشوارع في فنية السرد القصصي ل-هي لا تشكو.. الى م ...
- ما يخبئه النص في جيب المكان لديوان - ثمّة قلق- عماد الحيدري
- ولادتي
- فنيّة القافية والسكون في قصيدة -أرقص معي -


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مؤيد عليوي - الفصل الرابع والخامس رواية لم اشرقت ..لم رجعت