أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أمين أحمد ثابت - الجزء الثالث رواية ( هروب . . بين المضيقين ) - من اعمالي الروائية الاخيرة 2020م غير المنشورة















المزيد.....



الجزء الثالث رواية ( هروب . . بين المضيقين ) - من اعمالي الروائية الاخيرة 2020م غير المنشورة


أمين أحمد ثابت

الحوار المتمدن-العدد: 7459 - 2022 / 12 / 11 - 14:43
المحور: الادب والفن
    


الحزن يغرق المرء حين يستولي عليه ، يفقده البقاء ، حتى ممن
جنبك قارعة الطريق – غادر بخفض سقف احلامك
وعش وقتك بسيطا . . حتى تنجلي معالم الطريق .






الضرورة تطبع نفسها كحاكم مطلق للسلوك والفعل للأحياء والاشياء ، كحافظة للبقاء في نظامية اتزانيه لمتحرك التغير كقانونية تحكم كل شيء وامر وحال ، فعند كل تغير جزئي تفتح الضرورة مسارات تبدو في قياساتنا كاحتمالات ، يجد كل موجود ذاته متحركا في المسار الخاص به ليحقق الاستمرار لذاته او نوعه ، ومن يخطئ الولوج في المسار الصحيح يكتب له الفناء سريعا أو متأخرا ببطء ، فبالنسبة للإنسان دون غيره من الكائنات في قدرته على التفكير المجرد بصور من الافتراضات المبنية على التحليل لإدراك حقائق الأمور من المتطلبات التي يحتاج توفيرها او العمل عليها بما يتناسب وذلك التغير القادم المتوقع بما يضمن استمرار الحياة وبكفاءة اعلى مما كان عليها قبلا ، وعادة الضرورة غير مدركة ملموسا عند الانسان ، بل يتحسسها العلماء والمفكرين النادرين بعدد أصابع اليد . . بصورة مجردة ذهنيا . من خلال مشاهدات متغيرة غير ملحوظة الاهتمام عند عموم البشر ، يجمعها في بحث تساؤلي لما وراء كل واحدة ومتربطها مع بعضها باحثا ما سيأتي – استباقا – بتصورات نظرية تأويلية توقعيه . . منها ما تحمل ادراك الحقيقة لما سيأتي لاحقا ، وغالبا ما تعبر الضرورات دون أن يلحظها أو يلتقطها احد ، ونادرا ما تكشف الضرورة عن نفسها ليلاحظها المرء ليعمل وفقا لها ، خاصة حين يكون خطأ الفعل او السلوك يقود الى الفناء – هذا ما ورد الى ذهني مع استعادتي لحالة توازني ، وجدت أن الضرورة تشكل حالتي ومساراتي دون تفكير . . حسب الظرف الذي اتواجد فيه – فلم تعد تحضرك احاسيس الغربة وشعور الضياع . . إلا نادرا وتعبر ، إلا حين تصدف ما يجرحك ، ينزعك عن لين تكيفك ويعيد زرعك نبتة برية ، وحيدة في ارض غريبة قاحلة ، يكون مخزون وجودها اختلال مربك من اللوعة والحسرة المتألمة . . كيف لها أن تخرج عن عذاباتها المهددة حياتها ، لتحفظ لنفسها البقاء – كان اعتيادك قضاء يومك بعيدا عن مستضيفيك ، أعاد لهم حياتهم الطبيعية ، لا كربة تحيط بهم لمراعاة حالتك ، ولا وجود لك يلخبط نظام حياتهم ، أو انزعاج لتحمل انفاق مضاف لإطعامك – عبر الوقت دون أن يلحظه احد ، حتى انت . . تحررت من عالم الكبت الذي جثم عليك في موطنك ، لا تحقيقات او مطاردات و قتل احلامك ، لا قبائل وإرهاب ديني يلاحقك – قل ما تريد ، اذهب ف . . العالم المحيط بك مفتوح ، كل انسان مشغول في حاله ولا يعير انتباها لغيره – امسى حين تعود . . تجد من تصادفه يسألك كيف حالك ، كيف قضيت يومك واين ذهبت ، واحيانا . . إذا ما كنت تحتاج فلوس . . لا تستحي فنحن اخوه و . . والواحد لا يستغني عن الاخر – كانت الثلاثة أيام من الانكسار النفسي بعد لقاء خالي السفير و . . وانغلاقي على ذاتي كمريض ينحو الى فقدان عقله ، ومن بعدها الأيام التالية الى الأسبوع الثاني الكئيب ، كنت اسمع غير قليل من المحادثات التلفونية الجارية خلال وجودي – يظهر انها كانت غالبا مع من كانوا معنا خلال فترتنا الجامعية ، حتى من لم يكن يعرفني عن قرب ، يعرف اسمي أو يتذكر حضوري الملحوظ آنذاك من ضمن عدد محدود من طلبة الجامعة ، يرد فيها ذكري . . والتعاون معا لكي لا اضيق ، فمن يجد لديه وقتا يعوض انشغال سهيل وعلي في دراستهم ، حتى أن مكالمات تأتي للتحادث معهم و . . دعوات لزيارتهم والشوق للجلوس معي – لم أكن أتذكر أي واحد منهم ، لكن هذا الاهتمام والحفاوة – وحاجتي أن لا أكون وحيدا – كنت افتح لكل متصل منهم ذكريات أيامنا . . فيسترسل اين كان منها . . بما يقرب لي ادعاء تذكره – اخمن بأن ذلك كان تخطيطا ذكيا من سهيل تحت إلحاح عامر بأن يجد تصريفا لبقاء اقامتي غير المحدودة - الى متى ؟ ؟ ! ! . . . .

كان ذهابي – خلال أيام من الأسابيع الثلاثة الأولى . . بعد يومين من نكبة لقائي بخالي – مرافقة مع سهيل لأكثر من مرة الى جامعة القاهرة ، والتمشي عند وقت فراغه والاجازات ، خاصة في المساء الى التحرير بالشوارع المحيطة بها . . ومقهى ريش وغيرها ، ومرات عند التسكع على كورنيش الجسور العابرة اعلى النيل ، وكثيرا الى الدقي وشارع الرابطة اللذان يعدان المكانين لأن تلتقي باليمنيين أو من تبحث عنه من الطلبة او السياح او من جاء للعلاج - كانت مسارات تطوفيه وتسوقيه بصورة جماعات يتبادلون الحديث حتى وقت متأخر من الليل ، إلا من كانوا منهم يتحضرون لدخول السينما او مسرحا ما – وهو ما وسع معرفة الكثير بي ، والالتقاء ممن كنت اعرفهم عن قرب . . ولم اكن اعرف عن وجودهم في القاهرة ، واخرين عبر الحديث يتوزعون في الإسكندرية واسيوط والزقازيق – صدفة قابلنا احمد فكري وكارم احمد ، اللذين كنت اعرف ابتعاثهما للدراسة العليا من المعهد الوطني للعلوم الإدارية ، وكانا من البارزين خلال فترتنا الجامعية في كلية التجارة والاقتصاد ، وقد فوجئت بوجود اشخاص أتذكر ملامحهم . . دون أن تكون هناك علاقة تربط بيننا – فتحت هذه الأيام دعوات عزومه لي وسهيل ، وبدأت تصل مكالمات خاصة بي – لأول مرة – من أناس يعرفون بأنفسهم لا اعرفهم ولكنهم يعرفوني – الغريب أن اجد ممن التقيهم صدفة أو يتصل طالبا أنهم فوجئوا بوجودي و . . يذكروني بمعرفتنا الوطيدة من قبل . . من المراحل الدراسية لما قبل الجامعة ، او كانت تجمعنا العابا او هوايات خلال فترتي الطفولة او المراهقة – لم انسى السؤال عن مشفى القوات المسلحة في المعادي و . . حديقة الحيوان في الجيزة ، لمسألة ترد في ذاكرتي من الطفولة مع والدي ، حين جاء بي في رحلة علاجية . . حين كنت مصابا بالشلل الكلي - بعد طبع خارطة الشوارع ومتصلاتها مع بعضها و . . ما يتفرع عنها بنوع من التخمين ، المرتبط بفترة وجودي بأيام قليلة تحكم أن تكون معرفتي ضئيلة بها - جمعت المعالم والاشارات للتنقل وحدي ، لرفع ثقل تحركي ووجودي على سهيل ، وأماكن قضاء وقتي خلال اليوم ، من المقاهي لتجمعات المثقفين والأخرى التي يتواجد فيها اليمنيين والمسارح ومطعم الوجبات اليمنية – لم يقصر سهيل من اعطائي من ان لآخر مصروف جيب ، خاصة عندما وجد في بضعة أيام قليلة بتحرر حياته الشخصية من الانشغال بي ، ولم يعد يجد شعور ضغط الاحراج الكبير المتكرر من عامر – وجدتني دون وعي مني خارجا عن خرم الابرة التي انغلت على عالمي ، كل يوم مفتوحا ما دمت فارغا كليا – كنت اتعرف على طلاب يمنيين في كافتيريا الجامعة لكلية الآداب ، وحين الى محاضرته اتزور في رواق الجامعة بين الكليات المختلفة مع من يتبقى ولديه فسحة وقت من الفراغ – تعرفت على إجراءات الدخول ، فتارة تكون بوابات الجامعة مفتوحة وأخرى يقف امامها ضابط امن يطلب عرض البطاقة الطلابية أو تبرير الدخول – كنت اعرض جوازي ووثيقة من التي الاوراق التي حملتها معي اثناء مغادرتي من اليمن ، والتي تضم اسمي بين اخرين كمرشح مبتعث للدراسة العلياء في مصر – وهي واحدة من عشرة ترشيحات من جهات رسمية متعددة في اليمن لابتعاثي الى بلدان مختلفة من العالم ، منها بريطانيا ، أمريكا ، تشيكوسلوفاكيا ، المجر وسوريا – متذعرا بكوني جديد ولم تكتمل إجراءات استلامي البطاقة من إدارة الجامعة ، وهو امر مألوف . . أن تجد عند المستجدين واحيانا من قضوا عاما كاملا ولم يستلموا بطاقتهم الطلابية (الكارنيه ) .

زيارتي بين حين لآخر الى جامعة القاهرة ، كانت تتوقف على برنامجي النهاري لليوم الواحد - إذا ما كان يبتدئ بالذهاب الى الجامعة أم يخلو من هذه الزيارة - الذي اعده بعد مغادرتي الصباحية . . قبل صحيان المتواجدين في الشقة من الليلة الماضية – عند جلوسي على احد المقاعد المتوزعة على جوار ثلاث طاولات خشبية قديمة على وضعت خارج المقهى الشعبي على الرصيف . . جوار العمارة ، ارتشف كأس البن الثقيل بتأني ثم يليه كاس شاي مخمر - ما لحظته . . أن الجدول الدراسي لسهيل وعلي يكون غالبا بعد الواحدة ظهرا ، ولذا تجد صحوهم عند الحادية عشرة عادة . . ونادرا في وقت ابكر من الصباح . . إذا ما كان لدى احدهما موعدا او التزاما عليه أن يفي به – كان ذهابي المتكثف في البدء الى جامعة القاهرة قد خلع عني جزءا كبيرا من شعور الضياع والغربة – كنت اجد نفسي كما كنت خلال دراستي الجامعية او السنوات اللاحقة بعدها ، التي لم تقو كل الظروف والعوامل على قطع ارتباطي بالجامعة ، بعد منع تعييني فيها . . وتعييني في وزارة التربية كمدرس ممنوع من التدريس ، او عند دراستي في المعهد البريطاني كمتفرغ مرشح على منحة لأكثر من عامين ، ما أن نغادر المعهد الثانية عشرة ظهر ، تقودني قدماي الى الجامعة - اتنقل بين اقسام كلية العلوم و . . خاصة قسم البيولوجي ، في حضور بعض المحاضرات المقامة في المدرجات ، حتى لا يتنبه احد لوجودي ، وتارة في التعرف على الأساتذة والتحادث معهم في مفاهيم او إشكاليات علمية ادعي انها تأخذ جل اهتمامي كمواضيع لدرجتي الماجستير والدكتوراه ، مع الإشارة بتحديد دراستي من التعليم العالي في القسم لديهم من بدية العام القادم ، واني الان أهيئ نفسي للتكيف مع الجامعة واجوائها ، وفي أوقات أخرى اتخذ ذات المسلك في الآداب ، في دراسة الفلسفة ، الاجتماع ، الادب الحديث ، او كلية التجارة في محاضرات الاقتصاد السياسي ، واستغل محادثات نقاشية مع المحاضرين بعد الدرس اذا ما كانت هناك أمور مشوقة تحضرني من قراءاتي السابقة – وبذات التذرع بتعريف نفسي طالب دراسات عليا في المجال – كانت كثير من مناقشاتي تجذب الأساتذة فيتواصل تفاعله على حساب فترة راحته من دخول المحاضرة الثانية – كلما كان شغفي يأسرني ، اجد نفسي اطوف في المعارض لكلية الفنون للرسم التشكيلي ولمختلف اقسام كلية العلوم الطبيعية ، ولا اخرج إلا بعد منتصف النهار – وفي الأيام التي لا تسحبني الجامعة اليها ، كعادتي أحمل حقيبتي بالوثائق التي احتاجها خلال برنامجي اليومي ، تكون الحقيبة اكثر حملها من الأوراق الفارغة التي استهلكها في الكتابة . . في الأماكن التي اجلس فيها لساعات النهار حتى الخامسة عصرا ، اظل اكتب لساعات طويلة واتأمل فيها ، في موضع يسمح لي الانفراد مع نفسي ، ومراقبة العالم حولي المتحرك امامي بصورة شبه صامتة لا تخلخل من خلوتي – كنت دائما انتقي المكان الذي اقيس تأثير سحره علي ، من الأشجار الوارفة والامتداد العشبي الأخضر واصوات الطيور الحرة في تنقلاتها ، وغالبا أن يكون في امتداد بصري مجرى ماء او بحيرة . . او اسكن في وسط او حد منها ، وليلا حيث اضاءات المصابيح تنير مكاني بشكل شاحب و . . وما تصل الي من الانوار المتوهجة في عالم القاهرة ليلا ، خاصة في المواضع التي احل فيها بإطلالة على النيل وانعكاس الانوار على صفحته في حال مناقض لتكاسل هبوب نسماته الباردة وحالة الحركة الشبحية للقوارب الشراعية . . عند لحظات تعب العبارات وكل المصادر التي تنوح منها صراخ الأغاني المتداخلة بشكل فوضوي – إنه ذات عالمي الاسر لي في حياتي الماضية في بلدي ، الذي اعتدت التواجد فيه و . . اخلقه بنفسي في بعض الأحيان ، بما فيها اللمبة الخافتة وشرائط الأضواء الملونة الضعيفة . . حيث اغرق في وسطها ، ويكون مكتبي الذي اجلس عليه مواجها للعالم الخارجي ، اتقطع في النظر اليه من وراء زجاج نافذتي مع كل توقف لحظي من التأليف ، اراقب كل شيء ولا يراني احد ، وكل ما يصل منعكسا لدماغي صور حسية لعالم صامت . . يضج بالزعيق و . . لا يصل إلي .

قاومت تمزق نفسي بحدة . . على والدتي – كانت صورتها لا تفارقني لحظة وهي تجهش بالبكاء ليل نهار ، في كل مكان توجد فيه ، عند احاديثها مع الاخرين او في العصرية حين تقعد في زاويتها تسبح وتدعو لي واخوتي ، عند صلاة الفجر . . اراها امامي تبكي بقهر وتكثر الدعاء لله أن يحميني ويوقف لي أولاد الحلال للأخذ بيدي ، و . . أن يوفقني ويحقق لي املي في مواصلة دراستي لأرجع دكتورا عالما كبيرا – لا يفارقني وجهها الشركسي الأبيض المحمر المضيء وعينيها مغزلية الشكل بزجاجتيها الواسعتين بحلقة حدقية رمادية متشربة اللون السماوي الشاحب . . والدمع لا ينقطع عن حفر مجراهما على وجنتيها ، وهي تحاول مئات المرات على كتم واخفاء شهقات بكائها عن أولادها وهي واقفة في المطبخ تعد الاكل لإخوتي – من سيرعاهم ويحميهم في غيابك ، تعرف كل المؤامرات والاحابيل التي كانت ترسم لجر أي منهم للانحراف قصدا – كنت تقطع عنهم كل المسالك ، كنت شديد البأس معهم . . بما يظهرك دكتاتوريا قاسي القلب في التعامل معهم . . منذ عرفت نفسك في السادسة عشرة من عمرك . . بلا وجود حامي لكم ، ذقت المآسي ولم تجد احد جنبك يسندك ، خلقت انسانا انفعاليا متوحشا فيك للدفاع عن ضعفكم – كنت تحاكي ضربات القتال لبروس لي وفان دام – تستعيد لذة البطولات التي كانت تحكى لك عند طفولتك الأولى من ابيك او امك . . قبل المنام – ظلت تأسرك الشجاعة والاقدام لإنسان من اسرة فقيرة مستضعفة يواجه ظالم او متعجرف متسلط يهابه الجميع و . . ينتصر عليه امام انظار الاخرين – التحقت بأنواع مختلفة من الرياضة القتالية – كنت تمارسها بجنون قتالي في صالة التدريب ، وتعيد تطبيقها في حوش المنزل بعد ان يكون الجميع قد غفى في نوم ثقيل ، والعالم الخارجي المحيط غارقا في ظلمة صامتة – كان عليك أن تدفن شعور الخوف الذي ينتابك عند أي ظرف من النزاع – تخرج كل يوم مع تخفف حرارة الشمس بعد إتمام واجباتك المدرسية لتلتقي بالأصدقاء على احد المقاهي المشرعة على شارع 26سبتمبر او نهاية شارع جمال في تعز ، واحيانا على حافة تبه فندق الاخوة – كان شيئا يحفر فيك دون وعي ، يجعلك متنبها ممشطا لكل تفصيلية عابرة من سلوك الاستقواء يجري في المقهى او امتداد الشارع او التقاطعات خلال التمشي اليومي – لم تكن هناك غير الشوارع مكانا للتنزه – تجد نفسك مبادرا للضرب في عراك دفاعي عن ضعيف او فتاة تتعرض للتحرش بوقاحة – كانت روح التضحية تدفعك لاختبار نفسك للاشتباك مع شخص قوي البنية او ذا جثة كبيرة ، ويشد جذبك للمواجهة حين يكون المستقوي يحمل مسدسا أو جنبية او لوجود اخرين يقفون معه – عكست ما اسقطه على نفسك من تدريب جسدي اشبه بالتعذيب . . ليطال اخوتك الصغار ، الذين كان اكبرهم لم يتجاوز العاشرة واصغرهم الخامسة من العمر – كنت تشرف على أدائهم التدريبات ومشاق القهر الجسدي لساعات – كانت من الشدة أنها لم تمارس بحدها هذا في الوحدات القتالية الخاصة – على كل واحد من الاخوة أن يكون قادرا على مواجهة أي كان ، مهما كانت قوته او حجمه او . . كم كان عددهم – قاومت وجعي وحزني على والدتي . . من الاتصال بها خلال الأسبوع الأول من وصولي القاهرة ، رغم وعدي لها اني سأتصل ساعة وصولي – ادرك لو اني لم افعل ذلك ل . . كانت تموت مباشرة من القهر والحسرة . . أو تنشل في احسن الأحوال – وصلني صوتها المجهش بالبكاء من الفرحة لسماعها صوتي في يوم من الأسبوع الثاني – كيف انت حبيبي ، تأكل تمام ، مرتاح ، الله يوفقك ويكون معك وكيل ، لقيت خالك و . . خالتك – الله يفتح عليهم – ارتحت . . انك في الأمان و . . انك لن تضيع – ها . . خبرني ، اشتي اشبع من صوتك – لم يكن امامي إلا طمأنتها ، وأن خالي سيتدبر تسفيري على منحتي الى بريطانيا . . لكن المسألة تحتاج لوقت ، اكيد السنة القادمة ، وخالتي ما قصرت معي – انهم اصروا علي أن أقيم معهم ، وأن لا اخجل ولن يتركوني احتاج شيء – لكني يا أمي . . استحيت ، معهم بنات وانا فارغ ما يجعلني اتواجد في المنزل وخالي في العمل طوال النهار ، وتكون خالتي مقيدة من الخروج وتركي في البيت مع البنات . . وحدنا – اعتذرت لهما امي . . بأني أقيم مع صديق لي وانا مرتاح . . فلا يقلقوا علي ، ووعدتهم أن ازورهم من يوم لآخر – تصدقي يا أمي . . كم لقيت من الأصدقاء . كثير . . كثير ، و . , كلهم يتلقفوني من واحد للثاني أن أعيش معه – لا تقلقي ولا تبكي ف . . انا بخير وسعيد و. . كل شيء تمام – المهم انت اطمئني وارتاحي و . . ولا تبكي – افرحي . . وادع لي كثير ، فخروجي كان السبيل الوحيد لبناء مستقبلي ، وابعد عنك واخواني حالة الخوف . . الذي كنتم تعانون منه كل يوم – احبك امي – لا تقلقي اذا لا اتصل إلا بين فترات متباعدة ، وذلك لأنها مكلفة جدا – سلمي على اخوتي ونبهيهم على الاهتمام بدراستهم والابتعاد عن أصدقاء السوء و . . يحافظوا على انفسهم ويكونوا رجال . . كما عرفتهم – سلم على خالك وخالتك و . . قلهم امي تدعو لكم كل وقت – الله يحفظهم ويعطيهم الخير الكثير – انتبه لنفسك ، الله يحميك – الو . . الو – كان خط الاتصال قد انقطع ، فمدته الزمنية محدودة بالمبلغ المدفوع مسبقا . . . .


* * *

في جلستك تحت شجرة وارفة ، وضعت تحتك صحيفة الاهرام على الحشائش المبللة بندى ماء الصباح – كنت خلال تجولك في مسارات حديقة الجيزة ، كعادتك حين يرد زيارتها في برنامجك لذلك اليوم ، تكون ضمن اول جماعة تدخل مع موعد فتحها الصباحي للجمهور ، تاركا لحالتك الشعورية أن تتماهى مع المساحات المخضرة . . المنتشة بفصل الربيع ، باحثا عن موضع زاوية تطل على مشاهد متنوعة تبصرها من تفاعل حي من التنوع البشري ، العائلات في افرادها بأعمارهم المختلفة ، لهو الأطفال في عالم يخصهم لا علاقة للكبار به ، العشاق في جلساتهم التركنية المنكشفة عفويا في طبيعة الجلسة المتقابلة . . القريبة لالتصاق الوجهين أو المتجاورة بالتحام الاكتاف . . المنزلقة بين حين لأخر لاحتضان صدر احد الحبيبين للآخر ، ولا يخلو تلك الاريحية من المداعبة البريئة ، التي تظهر حالة الاهتمام والهيام و . . وتارة كنوع من المشاكسة المصحوبة بالضحك . . الدافع الى التلامس والابتعاد اللا شعوري ، وينعكس في دماغك ما لم يهتم به غيرك . . ذلك التفاعل السحري بين مختلف الزائرين بمصممات البيئة الخضراء وأنواع الحيوانات المختلفة ، ويزيدك تشبعا أصوات الطيور المتنوعة المستوطنة ربيع الحديقة – خارج العرض الرسمي - بين أعالي الأشجار واغصانها أو على الحشائش المضمخة برائحة الطين المعتق و . . جوار الشجيرات الصغيرة ، ولا يفوتك من حين لآخر رؤية العصافير الصفراء الترابية صغيرة الحجم وهي في مطاردة سباقيه التحدي مع فراشات هنا او هناك – تنتقي زاويتك المفتقرة وجود مقاعد للجلوس أو أماكن خدمات للزائرين ، بعيدة عن التجمعات وعن اقفاص الحيوانات – تكون خلال تجولك الباحث قد مررت على تفاصيل صفحات الجريدة ولم يستوقفك غير موضوعين على الأكثر ، نزعت الصفحتين المحتوية عليهما وعطفتهما بجانب صحيفة الأهالي الذي صدر عددها باكرا – غير عادتها في التأخر . . بسبب الرقابة ، التي غالبا ما ترجع العدد من المطبعة ، لإلغاء موضوعا واستبداله باخر لا اعتراض عليه لإجازة طباعة العدد رسميا ، واحيانا لا يخرج عدد الجريدة . . حتى بعد عدة أيام من موعد نزو لها المعتاد ، وهو امر قد عرفناه في اليمن من سنوات ماضية ، لكونها صحيفة لها قراء كثيرون من اليسار اليمني - تبدا التصفح السريع خلال ارتشافك الشاي المصبوب من البراد الصغير ، بعد تعديل جلستك بإسناد ظهرك على جذع الشجرة ، ووضعت قلميك ورزمة الارواق المثقلة بحجرة فوقها . . تجنبا لتطايرها مع هبة الرياح - هي فكرة نفذتها من اليوم الثالث من بدء عملك على برنامجك النهاري في شراء براد الشاي ، تحمله متى لا تكون هناك زيارة الجامعة او تلبية دعوات عزومه أو أماكن لقضاء أغراض . – تملأه بشاي اللبتون الحار المركز قبل مغادرتك المقهى جوار عمارتك السكنية واحكمت غلق فتحة رأسه بالغطاء ، وقد ابتعت كأسا زجاجيا صغيرا . . تضعهما في حقيبة يدك ، في خانة مفصولة بحاجز جلدي عن ملف الوثائق واوراق الكتابة .

مسحت كل ما يقع على بصرك من المعالم المحيطة بك . . لبرهة من انتهائك من قراءة الجرائد ، لا تحضرك هواجس او إلهام او . . حتى أفكار تحرك قلمك – رغم ضجيج ازدحام دماغك بالكثير من المواضيع والأمور التي يجب عليها الخروج على الورق – كعادتك الدائمة – وإلا تظل نفسك قلقة يعصف بها الضيق وانعدام التوازن . . يستبد عليك الحزن مجددا ، يستثير شدة تحسسك وانفعالاتك وحنق من الاخرين . . لأتفه قول او سلوك . . يكون غالبا غير مقصود . . حتى تسيطر عليك سوداوية العالم . . لتسقط في دوامة فجيعة تساؤلك لماذا انت دون الاخرين . . يطالك الأذى من كل جانب ، ولم تأتي امرا قبيحا . . حتى تحصد المآسي طول عمرك – لعنة الله عليها حياة ، لعنة الله عليه زمن ، لعنة الله عليك وطن – تريد له الخير و . . يريد لك الموت أو المهانة . . .

تركت مجلسي واشيائي متروكة فيه ، بما فيها البالطو الصوف الأسود الذي ارتديه لتقلبات الجو نحو تزايد البرودة ، سرت على الممرات ذات المشاهدات المختلفة . . ملامسا لها بتمعن وذهني شارد في نفس الوقت – كنت ألاحق أمورا في ذهني . . غير واضحة المعالم ، لكن لا يستوقفني شيء – اطلت التجول لما يقارب الساعة في محاولة لاستدعاء . . حتى شبه ملامح شبحية لفكرة . . اسقط اول كلمات عنها في الورقة البيضاء – إني اعرف طبيعة دماغي – ينساب القلم دون توقف . . بهندسة معمارية شديدة التعقيد في تصميم بناء تلك الفكرة التي لم تكن واضحة . . بسلاسة تامة – لا شيء البتة ، وجدتني اوضع ظهري مجددا بإسناد ظهري على جذع الشجرة خلال جلستي ، صببت كأس شاي ، حملقت في السماء . . والاحق اهتزازات الاغصان العليا للأشجار عند هبوب تيارات هوائية تراقصها ، وأخرى زقزقة عصافير تتصارع فيما بينها ، فيستقر بصري على صحيفة الأهالي – لا اعرف لماذا . . فقد انهيت تصفحها من قبل ولا يوجد ما يستدعي قراءته – طرأ تذكر سابق ، لحديث تم التفكير به في جلسة خاصة كانت بيني ورفيقاي علي الذبحاني والشميري . . بعد اختمار ضرورة فكرة الهروب الى مصر أو سوريا عبر مصر – التي لم تكن لها رحلات مباشرة من اليمن الشمالي بفعل المقاطعة بين البلدين ، وبالمثل من الجانب الاخر لا وجود لرحلات طيران مباشر بين اليمن الجنوبي ومصر . . بسبب المقاطعة ، فمواطنين من جنوب اليمن يطلعون الى الشمال للسفر الى القاهرة ، والعكس لم يذهب الى سوريا عبر مطار عدن كرحلة مباشرة . . وهذا للمواطنين الاعتياديين ممن ليس لهم أية شبهة امنية من الطرفين – ما دمت في كل الأحوال ستذهب الى القاهرة – إذا لم تجد فائدة من خالك لتدبير منحة لك . . وهو امر متوقع . . طالما يعمل مع النظام الحاكم في الشمال وسيكون مضغوط تحت أوامره – هو ما أشار اليه الذبحاني – تردد على مقهى ريش . . فهو مكان التقاء لكثير من المثقفين المصريين ، واذهب الى التجمع الوحدوي - اطرح وضعك ، ستجد هناك من كبار الرموز الوطنية – الذين نعرفهم اسما بمؤلفاتهم او كتاباتهم في الأهالي او المجلات العربية التي كنا نواظب على متابعتها – سيجدون لك مخرجا ل . . لاستكمال دراستك العليا في مصر او غيرها – واذا لم يحدث ذلك ، لا تطيل وجودك في مصر ، استغل تذكرة العودة من مصر الى اليمن . . بتحويل خطها الى دمشق . . استكمالا للفسحة في اجازتك ، وستحجز الى اليمن من دمشق – عند وصولك دمشق . . مباشرة تصل الى سفارة الجنوب وسلم وضعك لهم لإرسالك الى عدن ، وتحرك الى اتحاد الطلاب العرب والعالمي ، اطلب مقابلة البكيلي ، ممثل اشيد هو السكرتير فيهما . . واطرح قصتك والوثائق التي معك ورغبتك بتسفيرك الى عدن . . عبر سفارة الجنوب في دمشق – دونت على الصفحة الأخيرة من دفتر الملاحظات زيارة ( حزب التجمع ، مقهى ريش وسط البلد ، السفر الى دمشق . . كمحطة أخيرة ) – وضعت ملاحظة هامة بعد ثلاثة نجوم وتحت اللفظ خطين داكنين ، وكتبت . . تدرج الاولى والثانية بشكل متكرر ضمن مخطط البرنامج النهاري بزمن مسبق – تنفست الصعداء ، وبدأ يسري في عروقي رغبة جامحة للحياة و . . شعور لذيذ من الغبطة والسرور – إذا بقلمي لا شعوريا يرقص كتابة بتسارع غريب على الأوراق البيضاء غير المخططة التي خصصتها للتأليف – صفحات تلو صفحات دون توقف – كانت بين قصائد لنثر شعري وأخرى لسرد قصصي . . يستكمل حالة الانسياب اللاشعوري في الكتابة – امتع اللذات التي اشغف بها ، الى جانب لذات الحسية – الروحية أخرى تتنافس معها بتداخل وتقاطع بسقوفها العالية شديدة الحدة ، تشكل ثالوث هرمي التكوين ، يخلق من داخلي حالة مثالية من السعادة ، الرضى وتحرر الذات في العيش والتمسك بالحياة . . حتى في محيط مظلم ينازع بقاءك ، ويسد عليك المنافذ من كل صوب .

. . وضعت سماعة الاذن بعد أن ادرت جهاز التسجيل بصوت مرتفع . . على كاسيت موسيقى هادئة مونا مور – صحبتهما في سفرك مع مجموعة من شرائط التسجيل ، تقارب الاربعين عددا – هو ما استطعت حمله من مكتبتك الموسيقية المؤلفة عن ما يزيد عن الفين وخمسمائة – عبرت بها خلال فحص الحقائب عند مغادرتك مطار الحديدة ، لما طبع بعامليه باللامبالاة الأمنية . . طالما جهاز الفحص بالأشعة للأمتعة وبوابة العبور لم يكشفا وجود أي معدن او سلاح ، بينما مثل حسن النية التي سلكت بها ، كانت تعرضني للاشتباه بمنع السفر وارسالي للحجز في سجن جهاز الامن الوطني ، يترافق الفحص الدقيق لكامل محتوى تلك الأشرطة المضبوطة في حقيبتي ، سلسلة من التحقيق المتبع بالتهديد والتعذيب ، المتزايد وحشية ل . . انتزاع اعترافا تحت التعذيب . . كلما قطع الفاحصون للأشرطة شوطا كبيرا . . يقترب من الانتهاء من مهمتهم و . . لم يجدوا شيء فيها من الجرم المفترض بالتجسس - إذا ما كانت تمويها وتحتوي رسائل جاسوسية مشفرة داخل محتواها ، والذي حسب طبيعة عملهم الافتراضية الأمنية ، الموسومة بالتخمين الشكي المطلق تجاه كل انسان يجلب إليهم . . فهو مجرم . . ليس عليهم سوى تركيب اثبات التهمة . . ليس إلا - حين تنعدم وجود ادلة للإدانة ، فإن ذلك لا يعد إلا حرصا وذكاء خارقا للمشتبه الواقع بين أيديهم ، يمثل تحديا صارخا لذكائهم الذي تدربوا عليه على ايدي خبراء من الاستخبارات الامريكية والروسية والاردنية ، ما يثير فيهم مزيدا من الكراهية والعداء ، المسقط خلال التلذذ بوسائل التعذيب . . كنوع من التفنن ، التي تمثل الطريقة الناجعة لكشف الحقيقة التي لم يقدروا على اثباتها كجرم . . إلا من خلال انتزاعها عبر بالاعتراف – كانت مجموعة الكاسيتات . . منتقاة من الموسيقى العالمية ، الرومانسية على الجيتار او الساكسفون والبيانو ، والأخرى لمنوعات من الموسيقى الكلاسيكية الى جانب السمفونيات الشهيرة لبتهوفن ، باخ . . شوبن وغيرهم – كانت الوصلات المتلاحقة والمتقطعة للموسيقي الدائرة تقتلعني من وجودي في حالة من سكرة وجد طافي . . يسيح على المدى دون معالم ، احمل بدء من خلال موجات صوت العصافير ، او على اجنحة طير لمحته محلقا في الفضاء ، وتارة على ضحكات طفل يزعق جذلانا عند هروبه من ابيه وهو يركض وراءه – اجدني متنسجا الكون كروح تتمدد دون حدود من عالمي المحسوس . . الى عوالم خفية توصلك اليها نبض الاحرف الموسيقية ، ترحلك في محطات لفضاءات متنوعة الشبيهة بالحلم اللذيذ ، تفجر فيك قدرات خارقة من الحسية – التي تفتقدها في حياتك اليومية - تأسر لبك و , , تشعرك ببكاء جميل صامت يدغدغ كل ذرة فيك . . ما يجعلك في نشوة ذهان لا تود مغادرتها ، تربطك بواقعك الحسي من خلال تدفق الأفكار والصور كتابة على الورق المتزايد تراكمها بالحبر . . كسيل عارم يجتاح مساره بعنفوان لا يقوى أي عائق على قطع سيره أو إيقافه .

حضرتني لوحات بعيدة من الذكريات ، خرجت تغسلني شعرا لنفس مفتوحة متماهية بحجم الكون . . المطلق في ازمنته وامكنته المختلفة . . كتقلبات من بالألم والعذاب والغضب

كنت وحدي . . الذي لا يخونه التماهي
ولا تخيفه تضـاريس الأزمنة
كنت وحــدي . . أجيد الرقص البحري
وأعـرف أن الحـرام سوط إخافة للعـاشقين
وأن التحــريم لفـظ وهـم من اللغة
مثـل الزمـــن يأتي خلسـة
ويذهـب حاملا معـه تفاصـيل الحنين
حين تمـر بحانة . . ويسكرك العذاب
تخـط لنفسك منحنى
. . بحثا عن أنيس
، وعن مفترق طرق تعيد الذاكرة

* * * *

هـذا أنا
ـ الفصـول لا تأتيني بشـيء
أجلـس في زاويتي الحزينة
أراقب ليـلا يعاودني الذاكرة
لطفل لم يعرف فـرحا
. . لم يعرف غير الشكاء
. . والحاجة التي لا تنقطـع
- لا يعـرف سوى صوت الرصاص
وخوف الناس عند قدوم العـسـس
. . لا يعـرف سوى قدح الأمير
وتهديد الإمـام بالحرب من باب لباب
، وأن الحكم يقف على رؤوس الثعابين
- لم يعـرف غير أم تدعو باكية ـ خالقا ـ
وتمـدح الإمـام – خوفا -
وانتهاك اللصوص حرمات الرجال

* * * *

هـــــذا أنـــا
محـاصـر بوهـم من الذرائـع
وبعـبيد من الذكور تنتشـر في المكان
في المجالـس ـ بين أنفسـها ـ تنفش الريش
، وفي الشـوارع تـــوطي الرؤوس
. . وتعادي أحرار المدينة
ـ تمضغ فتات المهانة . . لضعفهـم
فيعـيث التابعين بأمـر الإمـام
. . ما تبقى من اسم البلاد
، وما قيل عن قتبـان . . تركت موضعا للنقوش
. . ولم تبقي سوى المقابر
ـ مقابـر حزينة ـ
وبشر خــط على وجوههـم.. أخاديد مضـغ القات
، وهـم النفط القادم . . للرخـاء
- لم يتركوا في القلب
. . غـير وجع مدمي
، وحلم لم يصـلوا إليه
. . حين تسرق صـنعاء عـمر الزهـور
، تشـحــذ القبائل بنادقها لحرق السنابل
، حـصــد الجمـاجم
. . بحـماية الإمـام
- تـظـــل تردد النشـيد
، واسم وطن .. ليـس له وجود !!

* * * *

هـذا إنا الذي لا يـنـتـــهي
تاهـت كلـماتي
فأسـتـجـلب تاريـــخ الأعاصير
. . من دمـي
لـكن صـنـعــــاء لم تـجــد فاتـحـا
- لم يـأتـها بـيــرقا-
مضت عليها السـنون
سـنون . . حـمـلت طفولة لم ترد
، لم يرد غـيـــر .. الصـدى
لـشـعـب راكـع في الخـسـوف
، في الكـســوف .. خاشعا
وفي الـفصـول - متعـبــدا – داعيا الـلـه
. . خيـر المعاش
و . . حــفـظ الأمير


** * *
هذا الطيف . . أنا
أعرف أن التوحد في يمني
. . هما
، وهـمــــا . . يكون
دمــاء تـسـيـــل الدمع . . طويــلا
. . تفـقــدنا الـذاكــــرة

* * * *
هذا الناسخ في الخيال
. . أنا
في وحـــدتـي أجالـس عنترة
، المقنع الكندي و . . زرقاء اليمامة
- في وحدتي -
وبـقـايا أعمدة من تراب
- استرجع ذكرى الغافقي
وبيوت حاكم وصــفوه .. الطـاغية
، لم تعرف زخــرفا
كـهـنـوتي . . لم يحتقر العلم . . كيومنا
، لم يعرف خزائن تستـبدل البحـر واليابـســـة
- ما تحتـهـمــــا .. وفوقـهـمــــا -
نـقـدا . . واغسـالا بالدمـــاء
- في وحــــدتي . .
أحسست غرامشي يـعـلن عـودة الأزمنة
، ويـحـتـويني بن خـلدون ، شافـيـــز وجـيـفارا
، انـجـــلز .. حين استـهـواه اصـل الـعـــائلة
- ويـحـتـــويني الأيهم.. بشـقاوته
وفرط طـمـــوح الحالمين
- أحسست إني رشيـقا
يدور الزمـــن .. ويأتي إلي
أحسست شـبابا يعود إلي
. . فـتـخذلــــني الأمكنة .

* * * *

هــــذا إنا
المــلم صـمـتــــــي
، اجـمــع بقايا طـفـــل مزقتــــه الحــروب
، وآنسة . . فضت بكارتـهــــا تحت تـهـديد الـسلاح
.. في بـقـعــــة نائـــية – في صنعاء –
بوضح النهار

* * * *

هــــــذا إنا
الــــزمــــن . . لا يأتـــي جديـــد
ولم تـعــــد . . تفرحــني اللغـــــــة .


لا أعرف لما لم تأتني الذاكرة مما يخصني ، أو وجه والدتي الملائكي الجميل ، الموجوع بنظرات ذابلة من ظلم سنين تكسر ظهر جبل عهد فيه الشموخ – أتتني عن العم سعيد ، الذي لم يكن غريبا عنا ، فهو يقطن في ذات المنطقة التي نعيش فيها ، وعن مأساته . . قد سمع عنها الكثيرون ، حتى ما يدور في خلجات نفسه ليل نهار – صادفته عن قرب حين كنت في الصف الثاني ثانوي ، أي بعمر ستة عشرة ستة ، وقت ما عملت عبر وساطة . . في مكتب شركة خلال الاجازات الصيفية وقبلا في ادارة المصنع الذي كان العم سعيد يعمل فيه - كواحد من المصانع التابعة للشركة - تذكرت اني كنت اراه من سابق . . ايضا .
أيام لا أذكر هل تجاوزت الأسبوعين أم أكثر .. صادفته خلالها أثناء دخول الصباحي إلى مكتب الشركة التي أعمال فيها... وعند خروجي في حوالي الثانية ظهراً ، بل كنت ألمح قامته الخلفية اثناء الدوام , التي كانت تظهر جهداً كبيراً في حمل رأسه الأصلع المتكور الحامل بعض شعيرات الشيب البيضاء المتهالكة على جانبي أذنيه والتي قاربت على فقد لونها الأبيض .
كان العم سعيد حين عرفته في المصنع . . ذا شكل آخر عنه اليوم , مفتولاً قوي تنفجر فيه الطاقة بشكل ملحوظ حتى أنه لم يحدث في يوم من الأيام أن رآه أحد أثناء الدوام الرسمي للعمل غير مبتل الملابس أو غارق في عرقه , أما رأسه المستدير الأسود كان يحمل بعض خصلات بيضاء متفرقة ومتخفية بين الكم الهائل من الشعيرات السوداء بصورة تكتل مصغر في بعض مناطق الرأس والتي كانت كما لو أنها تعكس مدى الخبرة العملية التكتيكية التي كان يحتويها - كثير من الأحيان خيل إلي أن سبب كبر مساحة دماغه عائد لشدة تنامي هذه الخبرات في رأسه . . قد سببت ازاحة في تجاويف جمجمته وتوسعها لتظهره بهذا الحجم المذهل .

- يا ناس . ( صرخ عالي متهالك )
. . حرام عليكم . . عندي أكوام من اللحم لا يوجد من يأكلهم .

. . على الأقل تذكروا أن مكاتب الشركة هذه التي أنتم قاعدون عليها , لم تكن ستوجد إذا لم نكن نحن ، شغلنا المصنع وطورناه . . حتى وصل لما هو عليه الآن في صورة شركة كبيرة . . لها العديد من الفروع في مختلف أنحاء البلد هذا غير فروعها المنتشرة في الخارج .

طول تلك المدة والعم سعيد يداوم في الحضور يوميا إلى مبنى الشركة, متنقلاً بين مكتبي المدير العام والمدير المساعد في انتظار أن ينصفه صاحب الشركة التي لم يكن يأتي إلى البلد ليوم واحد حتى يسافر في اليوم التالي , بعدها يتأخر في المجيء إلى ما شاء الله .
كان مدير الشركة يؤمله خيراً , فكثيراً ما ردد على مسامعه أن حظه سعيد , فصاحب الشركة هذه الأيام كثير المجيء إلى البلد نتيجة الصفقات الكثيرة التي تلزمه التنقل بين الخارج ومركز الشركة الرئيس .

- غداً سيكون الحاج هائل في مكتبه , وسوف نساعدك في الدخول إليه وعلى ما أعتقد أنه سيضمن لك مرتب ثابت شهرياً .

لم يقو العم سعيد سوى أن ينتظر مجيء اليوم الثاني - في كل مرة يعود فيها إلى منزله يظل يخطط كيف سيلقى الحاج ، الذي يعرفه من زمان بما يوصف به . . إنساناً متواضعاً حقانيا . . يستمع إلى شكاوي العمال المختلفة - سيحاول أن يسترجع الماضي لإخلاصه المحب للحاج ، لتقدير وضعه المؤلم الحالي المتجاهل ، وهو من ضحى بأطراف يديه اليمنى واليسرى من اجل إنقاذ إحدى الآلات من العطب عندما قام أحد العمال بالضغط على زر التشغيل دون تنبه لانتهاء العم سعيد من اصلاحها وابتعاده عن رؤوسها المسننة - مهما بلغ عدم انتباه الحاج له ، إلا أنه موقن سيستدر عطفه . . عتى بالبكاء امامه لما يجده أبناءه من مهانة العيش . . على الاقل اكراما لعمله الدؤوب المجد منذ بدء تشغيل المصنع وتوسع رأس مال الحاج وتجارته – كان طوال حياته ركيزة عمل المصانع كخبير اول يوضع له الف حساب . . وقوعه في كارثة فقدان اصابع يديه . . بخطأ ارتكبه غيره .

ساعات الليل رغم مرورها السريع , كانت تظهر متباطئة في سريانها , فقد كان يرفض أن تمر دقيقة دون أن يجمع الشكوى والذكريات القديمة في قالب مأساوي . . يحاول أن يستعرضها غداً في امتحانه الصعب .
كانت ذكرياته تختفي منها المواقف الممتلئة بالكبرياء ، لما كان عليه كإنسان له الخبرة التي توضعه من المكانة موضع التقدير ، خاصة وما وسم به من التفاني في الخدمة .

لم يكن راضياً على استدرار العطف بتلك الطريقة المذلة لنفسه . . لكن للضرورة احكام , لكنه لا توجد طريقة أخرى يمكن أن تعيل أطفاله الستة وأمهم ، الذين أصبحوا لا يجدون ما يكفيهم من القوت الضروري , فليس هناك ضمان اجتماعي من الدولة أو من العمل ؛ لذلك كل ما يستطيع أن يعمله هو استجداء عطف الحاج عسى أن يقرر له راتب حقيقي يتعيش عليه هو وأولاده .

- صباح الخير يا مدير .
- صباح الخير
. . ليش بكرت . . الجو بارد جداً
. . وهذا مضر بصحتك يا عم سعيد .
- كله يهون ما دام سأقدر أن أقابل الحاج .



في حديث مقتضب معه وهو جالس على جوار منضدتي ، بإطلالة على حوش الشركة والشارع المسفلت الموصل اليه ، وذلك من خلال زجاج النافذة الواسع من الطابق الثاني . . بدت سيارة صاحب الشركة تقترب في سيرها من على الشارع الاسفلتي المقابل و . . حتى وقوفها عند درجات السلم الحجري المغطى بالرخام المزخرف ، الواسعة والممتدة عرضا – كانت السيارة بلونها القرمزي الزاهي , تكشف من داخلها مستوى عالي من الرفاهية والفخامة – قبل نهوضه المتسارع لمقابلة الحاج على السلم قبل ولوجه البوابة الزجاجية لمدخل مبنى الشركة – حيث لن يسمح له من عندها احد من المحتشدين المجاملين والمرائين بالولاء والطاعة والمرافقين أن يلتقي وجها لوجه مع الحاج ، بدء من الصالة والممر المؤدي الى مكتبه في الطابق الخامس بعد خروجه من المصعد الكهربائي - بادرني صوت العم سعيد بآخر حديث كان معي بلهجة عامية متشربة بالحزن وسخرية القدر . .
- سنموت جوع . . أنا وأولادي
. . لو ما كنتش حمار .. زمان !! .

لا تغيب عن مخيلتي سيارة الحاج ، فكثيرا ما كنت اتأمل في محتواها الداخلي ، كانت اشبه ببهو قصر مصغر متنقل فيما عليه من الفخامة وما يحتوي داخله من الرفاهية ، تلفزيون ، راديو ، تلفون عبر الاقمار الصناعية ، براد للشاي وآخر للمشروبات المثلجة وطاولات تفتح ورفوف لاستخدامات متعددة الاغراض – اشعر بالعم سعيد ما يقوله في سره عند رؤيته ذلك لمرات كثيرة عند انتظاره عند موقف السيارة . . عسى أن يخرج الحاج . . كاشفا كذبهم بأنه مسافر في الخارج – يقول كيف هم مرفهون و . . نحن لم نحصل على شيء سوى فقد الأطراف ، نكبرهم . . حتى نصل لا حقوق لنا عندهم - بسرعة خاطفة ينزل السائق من مقعده ليفتح باب السيارة الخلفي ، يترجل من خلاله شخص بلغ من العمر حوالي السبعين عاماً – رغم فارق السن بعشرة سنوات بينه والعم سعيد ، إلا أنه بدت عليه القوة والصحة الجسمية مالم يكن معهوداً مع من كان من أمثاله قد بلغ مثل هذا السن .



نهض العم سعيد من جلسته القرفصاء على سلم مدخل الشركة ليكون أول المتحدثين ولينتهز الفرصة في الانفراد بالحاج قبل أن يأتي آخر ليسرق استماعه عن حديثه المتوجع – لا أحد غيره يعرف قدره , كيف يعرفون . . هناك الآلاف من المستخدمين . . الآن - تعثر في محاولته للوقوف ، فجثته أصبحت عبئاً على روحه المعذبة ليل نهار وروحه المريضة أرهقت جسده ، حتى أنه بدأ يميل إلى التفحم من كثرة احتراق خلايا البشرة فيه .
ما هي سوى لحظات ترجل خلالها الإنسان المهم من سيارته والصعود على الدرجة الاولى من السلم ، بينما ينزل العم سعيد ساحبا نفسه لاستقبال الحاج ببهجة وحب شديد الاخلاص لما رآه من ابتسامة رضى وعرفان . . قرأها على وجه الحاج عند رؤيته – كنت اعرف أنه لن ينساني ، اكيد سيأمر بإعطائي راتبا شهريا كاملا ، إن لم يوجه بمنحي علاوة ومكافأة ضخمة عرفانا لخدماتي الطويلة . . التي فنيت عمري فيها – ربما يوجه بتوظيف من ابنائي ، كان يقول خلال ترافقنا المشوار من اول سلم العمل بعد انشاء المصنع . . اننا شركاء فيه ، لنا فيه حق كما هو مالك له - أثناء هذه اللحظات الغامرة في روحه تراجعت مخيلته إلى ما قبل خمسة وثلاثين عاماً يوم أن كان أول خبير في المصنع .. يقف إلى جواره سليم هائل ( البك الصغير ) كما كانت شهرته آنذاك – يمتدحه الحاج لدرجة أنه كثيراً ما كان يردد بأن هذا المصنع مصنعك قبل أن يكون مصنعي أنا , ومرات عدة اقترح عليه مشاركته في المصنع ؛ عليه رأس المال وسعيد عبدالباقي عليه الجهد المبذول في تطوير إنتاجية المصنع – إلا أن كبرياءه أبى مثل هذه المشاركة , وأنه لن يكون سعيداً إلا بالراتب الشهري المعطى له وبكلمة العرفان فقط .

رفع العم سعيد يده المقطوعة الأطراف إلى جوار جبهته تحية للحاج وهو على بعد بضع درجات من السلم الرخامي ؛ الواقعة خارج لمبنى – لم يبدأ بفتح فمه , حتى فوجئ بأقدام متسارعة تتخطاه

- حمداً لله على السلامة يا حاج .

يأخذ الساعي الشنطة الدبلوماسية الفاخرة من السائق ويرتقي السلم سريعاً منتظراً الحاج عند مدخل المبنى بجوار البوابة الذي ارتفعت يده في تحيته شبه العسكرية , حتى تجاوز الحاج مكانه عند مروره من البوابة .

تجمهرت بتزاحم مفرط كثير من البدلات البيروقراطية والمستثمرين الأجانب حول الحاج يتسابقون في مصافحته والترحيب به والسؤال عن الأحوال , لم يستطع العم سعيد أن يشق مكاناً له بين الحضور رغم مجيئه المبكر – فأطرافه التي فقدها في يوم كان يعتقده بطولياً . . لعبت دورها في عدم قدرته على التنافس في الزحام للوصول إلى حضرة صاحب الشركة – لم ييأس فقد رفع صوته الجهوري بكلمات الترحيب حتى أنه كاد يتنطط في مكانه لشعوره بالجميل بمثل هذا الحب الموهوب من الجميع لإنسان مثل الحاج هائل , والذي لا يمكن أن يكون محبوباً إلا إذا وجد ما يبرر هذا الحب .

- الله يحيكم يا أولاد . . الحاج مؤمن لن يقصر ( في نفسه مغتبطاً )

رغم جهارة صوته القادم من خلف الزحام . . كما لو انه اقرب المقربين الى مالك الشركة ، كانت نبرات صوته واضحة التقطع من الانفعال المنتحب ، حتى ملامحه قد تغيرت . . لا يستطيع الحاج أن يعرفه من خلالها . . هذا إذا ما زال يذكر من رافقوه بدء مشوار استثماره التجاري - اكثر من خمسة وعشرين عاماً مرت منذ أن تكونت الشركة لم يره الحاج خلالها ، حتى وإن عرفه . . لا يعني شيء ، ما يعنيه سوى أخبار شركته وفروعها في بلدان العالم المختلفة .
وقف العم سعيد شبه منذهل من جفاء هذه الحياة التي أضحت تلاحقه بصور متعددة من البؤس ، حالما وجد الحاج قريبا منه اكتظ الحجيج حوله ، حتى اغلقوا مسارا لتقدمه نحوه - دمعات حارقة تبدأ مجددا بخط مجرى سيرها عبر وجنتيه لينطبع عليهما كأخدود غائر . . لا يختفي اثره مع مرور الوقت . . .


- لا بأس .. سأقابله في مكتبه .. وليس بعيداً أن يذرف دموعه.. تأثيراً كما هو حادث لي الآن .
. . انه طيب القلب . . مؤمن يخاف الله .

كان البرد قد ضرب أعضاءه .. وبإعياء بدأ يجر أقدامه المتثاقلة ببطء نحو مدخل الشركة , وفي كل خطوة يخطوها كانت تسمع اصطكاك عظامه .

- لو سمحت .. اعط خبر للمدير بأن العم سعيد يطلب الإذن في الدخول إلى حضرته .
. . قل له – الله يخليك – يشتي يقابل الحاج ضروري .

نظرة حزن تستميل البواب . . يدخله بعدها إلى مكتب المدير - كان العم سعيد معروف عند كل العمال والموظفين العاملين في الشركة ليس ذلك فحسب بل كان محبوباً يحظى بالاحترام والتقدير منهم جميعاً . . ويتأسى الجميع من اجله

الانتظار لم يدم طويلاً , فالرد كان قد عرفه العم سعيد من ملامح البواب المكتئبة التي تحمل في طياتها مشاعر التضامن معه .. ليس جديد عليه هذا الموقف , فقد تكررت مثل هذه التمثيلية معه من سابق مرات عدة – شوف لك حل يا عم سعيد , الحاج مسافر بعد ساعة : همس الساعي في أذنه وخرج لإحضار أكواب شاي لضيوف عبروا مكتب المدير دون استئذان أعوام بعد حادثة اصابته في المصنع ، حيث سوفت قضيته بضياع حقوقه , فأوقع اسرته في أحوال منكوبة . . تزداد سوءاً يوماً بعد يوم , وظهر العم سعيد تكاثرت فيه التقرحات والانحناءات حتى أصبح ملاحظاً عليه ممن كان يشاهده من الخلف يبدو كما لو أنه جثة متحركة بدون رأس .. ودموعه المحزنة الثائرة ظلت لا تبرح عينيه التي قاربتا العمى .
أعوام من الشقاء تعيد نفسها في كل يوم يأتي إلى مبنى الشركة, يظل جالساً القرفصاء بعد أن أنهكه عذاب التنقل بين مكاتب المسؤولين .. المتوزعة في الخمسة وعشرين طابقاً , لم يستطع خلالها أن يلتقي بصاحب الشركة المحبوب , الذي طالما ردد عليه أثناء الخدمة بأنه صاحب المصنع الحقيقي , وأنه جزء لا يتجزأ من خيرات هذا .

حتى اللحظة الاخيرة قبل مغادرتي اليمن ، تصلني الاخبار عن العم سعيد بأنه في حالة من شبه الجنون . . يرثى لها ، اشعث بهذوم متهالكة . . يحادث نفسه بصوت مسموع في السنوات الاخيرة من مجيئه اليومي من بدء الدوام و . . يغادر عند خروج كامل العاملين وتأمين غلق بوابة الشركة – يجلس متكوما على نفسه في جلسته مسندا وظهره مسندا على اعلى الجدار الجانبي للسلم الرخامي . . المتصل بحائط المبنى ، تارة على الجهة اليمنى واخرى على الجهة اليسرى ، بعيدا عن البوابة الزجاجية لمدخل الشركة ، الذي بعد وقت طويل . . لم يعد يسمح له بالولوج الى داخل الشركة ، ولم يعد مرئيا لاحد من العاملين . . عند دخولهم وخروجهم – كما لو انه غير موجود - حتى ممن كانوا يعرفونه . . ويولونه شدة الاحترام والتقدير من قبل - لا تفارقه الدموع . . حتى عند مغادرته راجعا الى منزله – منذ اختلال حالته النفسية . . توقف الزمن كأول مرة لديه عند تلك الايام الاولى الماضية لما تقارب العشرة سنوات او تزيد بعد بتر اصابعه . . اسير عادته بالسير الى الدوام في الشركة الام والعودة بعد انتهائه . . لمقابلة الحاج وعرض شكواه ، عسى أن يلقى الحاج عند مجيئه وقبل صعوده الطابق الخامس الى مكتبه ، المحجوبة فيه الزيارة للعاملين عدى كبار المدراء و . . ايضا في امور تخص العمل وبعد طلب الاذن منه لإدخالهم ، وذلك من قبل السكرتارية ومدير المكتب – حين يلتقيه . . يعرف طيبة الحاج – إنه يخاف الله . . أن يعرض عن أي سائل يأتي إليه . . ما بال أن اكون أنا ، من صاحبه خطوة خطوة من بدء مشواره – سيقابلني كعادته بالحفاوة والتقدير ، سيقول - كما اعتاد قوله عندما كان يصادفني - امام الجميع . . هذا صديق العمر ، و . . له فضل كبير لما وصلنا إليه – سيأخذ يدي مرافقا معه وكلمات الاسى على الفاجعة الاليمة لفقد اصابع كفي ، يدخلني معه الى مكتبه الفاخر ، يقعدني على كرسي الجلد الفاخر مقابلا له وراء طاولته الطويلة الانيقة المحيطة به كحدوة الحصان ، يضغط على جرس عند يده اليمنى طالبا قهوة لي وتوجيه امره لمدير مكتبه ألا يدخل كائن من كان . . إلا بعد خروج المهندس سعيد -سيستمع بتعاطف لشكواي المحرقة ، والغضب يظهر واضحا عليه . . كيف لهم أن طول هذا الوقت لم يعملوا شيء ، ولم يخبروه طلبي لمقابلته . . من ذلك الحين – هذا ما سيحدث . . متى ما يعود من الخارج – كما يخبرونه دوما ب . . انه مسافر خارج البلد - المدير ليس منه فائدة ولكلامه المعسول المتهرب دائما ، الذي طالما ردده . . ويعرفه الجميع بأنك والمصنع شيء واحد لا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر – كان ما فقد من ذاكرة عم سعيد ، أن الحاج البيك علي قد لحظه وتجنبه بتجاهل لمرات عدة . . وهو يزاحم بين لهث الموظفين لإلقاء تحية الصباح عند دخوله وتحية الوداع عند مغادرته –عشش عقل العم سعيد وهم الايمان بعطف وعدالة الحاج - يعرف دناءة المسئولين لما وصل إليه حاله واسرته – أكيد كذبوا على الحاج حوله وحقوقه ، فلا يمكن أن لا يبلغ بحادثته في المصنع ، فعلي بك – لم يكن يجرأ ومسموح له استخدام لفظ الحاج . . سوى العم سعيد فقط - لم يعد يذكر عنه شيئاً .. سوى الاجراءات كشوف النفقات الكبيرة المدفوعة لإسعافه وعلاجه في المشفى , والقرار الاداري لعدم اهليته للعمل و تسوية انهاء خدمته ومنحه كافة حقوقه وفق النظام المتبع في الشركة . . لمثل حالته – وهو ما مثل ظلما قاهرا . . لن يزيله إلا عبر الحاج حين يقابله – ومن غير الممكن ألا يكون ايامها . . البيك لم يسمع صوته المرتفع حنقا وضجيج المتعاطفين في توسطهم للسماح بدخوله . . او ابلاغ البيك ليأذن له بالدخول – كان الاذلال في نهر العم سعيد قول متكرر من مدير المكتب والمدير العام للشئون المالية والادارية . . نحن مش صندوق رعاية اجتماعية – لم يبقى أمام العم سعيد سوى الجلوس عند طرف اعلى سلم الرخام الخارجي خلال الدوام الرسمي واسفله عند انتهاء الدوام . . عساه يصل اليه يوماً – خلال اعوام طويلة مضت من انتظاره خارج مدخل مبنى الشركة في حالته النفسية المتدهورة ، تعدم ذاكرة العم سعيد ما تطبعه لمرات كثيرة . . عيناه في عقله وتنكره نفسه ، أن البيك كان يلمحه من بعيد و يتعمد تجاهله ، وبعدها لم يعد البيك يسقط نظره عليه . . حتى من بعيد ، وكعادته عندما يمر قريبا من مكانه يكون ملهيا مع من يصاحبونه عند الدخول والمغادرة . .

- متى يا رب ؟


يأتي ويعود البيك مسافراً – كيف كان العم سعيد الأقرب اليه , بعناده , حبه , وبصوته الجهوري .. المتميز , فلا يحس صاحبه إلا بالناس المهمين الواقفين في استقباله , وسيره وسط قطاع المجاملين من المدراء الصغار ومجموعات الدراسات الشخصية لطاقم الأسرة المالية , المديرة للأعمال حتى يبتلعه المبنى ولا يسمع بعد انتظار طويل إلا أنه قد غادر من السلم السري الذي تفتح عليه مكاتب سليم بك وثلاثة آخرون من الأسرة الكريمة – أعضاء مجلس الإدارة – وخلال أيام قلائل – لا أحد يعلم إذا ما كان الحاج سيحضر خلالها – كان يجلس منتظراً محضراً قولاً مأثوراً ... تتفلق له الحجر – نفس سؤاله يومياً حتى يقول له أحد الحاج سافر أمس – ليس هناك مخرج - رغم حالته الذهانية . . لن يترك يوماً يعبر عليه - يقول لنفسه صباح كل يوم خلال ذهابه إلى مبنى الشركة والجلوس امامها طوال النهار . . الله لن يتركنا مهانين . . نموت جوعاً . . لن يتركنا .

تملكني الحزن مجددا . . وغصة تعصر نفسي . . حين ومض مرئي العم سعيد في ذهني ، و انسكابها دفقا لمأساته دون توقف . . كفلم حي اسر تفكيري وتخيلي الذي كنت ألح على مجيئه لإفراغ شحنات الامي الذاتية الجاثمة على نفسي – توقفت يدي عن الكتابة و . . توقف رغبتي وحالة الصفاء التي جئت من اجلها – رحل عالم التحليق وذاتي التي اطلقت لها العنان للتماهي معه ، نازعا عني قبح ما وقعت فيه – ما الذي أتى بالعم سعيد الى مخيلتي ، انه قصة عابرة من مئات الاف القصص التي تمر بنا ولا علاقة لها من قريب او بعيد بحياتنا الخاصة – لا افهم . . إذا ما كانت المعاناة الشخصية فيما انا واقع محاصر نفسيا فيه وما يحيط بي ، احساس الضياع ، تلاشي احلام المستقبل و . . كبريائي الذي يبدو وهما بفرض حقيقة من أكون رغم كل شيء يقف ضدي . . تحجب عني ذل العيش كغريب مفلس عاطل متصدق عليه المأكل والمشرب واقامة النوم . . لوقت محدود ، لا قيمة لوجوده أو هدف – تحجب عني عذاب الترهيب الذي عاشته امي وما تعانيه من حرقة . . عدم وجودي جانبها و . . خوفها وجزعها . . كيف انا الان ، كيف آكل وصحتي ، ابردان ام دفيان ، مرتاح حولي الكثير ممن يحبوني أو . . اكذب عليها كوحيد ضائع – حتى اخوتي . . من يحميهم . . في غيابي . . .


لملمت اغراضي مغادرا الحديقة . . شاردا – كان الساعة قد زحف الوقت عليها الى ما بعد الثالثة عصرا – وجدتني سائرا نحو الدقي لتناول وجبة الغذاء في مطعم الوجبات اليمنية ، فما زالت حالتي واقعة تحت الاثار اللاحقة للانفصال النفسي الذي غرقت فيه قبلا ، ربما السير خير وسيلة يعيدني لطبيعتي الاعتيادية . . .

حاولت مرارا مخادعة نفسي بالمشاهدات الحسية خلال الطريق لطرد ما يعلق بها من احياز غير واضحة للعقل . . تدخله في انشغال في اللاشيء – باءت كل المحاولات بالفشل – لا تزال لغة اللاشعور تواصل تدفقها خلال المسير ، اراها ترسم الفاظها امام بصري واسمع وقع احرفها حرفا . . حرفا

كم لهذا القلب
. . أن يفجع
. . في عزاء الاحبة
؛ ورحيل خالقي
. . النبض المفارق
. .فيا
- كل يوم قريب -
تقول - كاسرا لوعتك -
سيكون نهار مغامر
. . وتقف مختبئا
؛ تسرق بعض ضوء
؛ وقليلا. . من طلل الامنيات
؛ والزاد. . ليوم مغادر
- عساك . . تحظى
. . بالابتسام
. . في الوجوه التي انهكتها الحروب
أو فرحة تغرسها
. . في فنائك الخلفي
. . من الذاكرة
؛ تؤرقك
. . لأيام تالية
- تعرف انها قاطعة -
. . في شغف العيش
والالم المبرح
. . دون زوال
، تصبرك . . في كل من عرفتهم
؛ وتطمر - لوقت - مأسي تلبسك
. . خارج المعقول
والحلم الذي تسكنه
- كلما حاصرتك الحدود
. . بأفئدة ترنو إليك
؛ تتوسل لقمة انقاذ
. . في رمقها الاخير
واذا بدماها. . تراق
. . ثمنا لحرب الوكالة
. . ويعتريك الضعف
. . من كل جانب
. . للاعتراف
بأنك واهما
- قد كنت واهما
. . مدى عمرك الطويل
وينهزك صوت - يعاودك دوما -
بتسلل مهيب . . هامس
: ستأتي . . حمى جنون
تجرف وجع السنين
وما علق . . في حيك
. . من وسخ . . غطى المنابر
. . ورصعها الطريق
؛ وفي المسار. . . تجمع
. . متراكمات ديدان ثخنت
. . بأطماعها
. . ودماء الاخرين
- ويطول انتظارك
. . بين قلب مؤمن
. . واعصاب انهكها العيش
. . وسط زحام الراضخين
. . لشعب
. . تخدر بالوعود
؛ بأحلام يقظة
. . يعيش في الارتهان
؛ تلويك غصة
تحرق انفاسك الاخيرة
وتعصر. . ما تبقى لديك
- تهرب لذاكرة المطر
؛ حين كان يسقط رذاذا
- طول يوم. -
وانت تلاحق الفراش
- تلهو -
ويرحل النهار سريعا
- ويأخذك التعب
؛ للعنات تسوط اصطبارك
؛ ولعنات تنفثها
. . افواه الحالمين
- بوجهك -
؛ النازحين للقبول
. . وانقاذ القدر
فتعاود الانزواء
؛ الاختباء. . لليل
- في لحظة زهوه -
تسترق منه الذكريات
- أتراها. . تظل مورقة
- عساها . . تمدك بالارتواء
؛ تعاودك التوازن
. . في الزمن المقيت
؛ لصراع عفينات . . لا تنام
. . تسحق في طريقها
. . النائمين
؛ والرافعين. . ايديهم للسماء
- كم انت . . من قلب كليم
؛ تحرقك المواجع
- كل حين. -
لا تجد . . لك مكانا
. . للاغتراس
؛ ولا تجد . . لك مأمنا
او نزوة . . عابرة
. . للفرح .



#أمين_أحمد_ثابت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نسخة معدلة ( اغنية ثانية - لبغدادية - مرتبكة )
- 41 – مدخل . . الى العقل المتصنم / نفوس متطبعة . . على متكرر ...
- وقفة اجلال على وجه من التاريخ
- نظرية العبقرية / المعجزة - إشكالية مبحث يقود الى نظرية جامعة ...
- 40 – مدخل . . الى العقل المتصنم نفوس متطبعة . . على متكرر ...
- ومضة ملهات وآقعية - بطرفة عين
- هاجس . . بكلمتين لا أكثر
- الجزء الثاني رواية ( هروب . . بين المضيقين ) - من اعمالي الر ...
- الجزء الاول رواية ( هروب . . بين المضيقين ) - من اعمالي الرو ...
- 39 – مدخل . . الى العقل المتصنم اغتراب تاريخي . . في د ...
- 38 – مدخل . . الى العقل المتصنم اغتراب تاريخي . . في دورا ...
- 37 – مدخل . . الى العقل المتصنم اغتراب تاريخي . . في دوران خ ...
- رحيل جبل كان هنا - من ديواني ( أحلام مطاردة بظلال القبيلة )
- من ذاكرة تآكل الجدار
- 36 – مدخل . . الى العقل المتصنم اغتراب تاريخي . . في دوران خ ...
- بيننا - الشيطان يعتمر قبعة قصة قصيرة عن ارثيتنا السابقة لبدء ...
- تثمين الذات بذاتها - مقال سريع للتلذذ بإنسانيتنا
- 35 – مدخل . . الى العقل المتصنم اغتراب تاريخي . . في دوران ...
- 34 – مدخل . . الى العقل المتصنم انتظار مستقبل – عربيا – لا ...
- 33 – مدخل . . الى العقل المتصنم ذات مستبدلة بمنقطع عن محرك ...


المزيد.....




- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...
- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...
- “ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أمين أحمد ثابت - الجزء الثالث رواية ( هروب . . بين المضيقين ) - من اعمالي الروائية الاخيرة 2020م غير المنشورة