أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ابراهيم محمد جبريل - المجتمع المدني والديمقراطية والدولة واللامركزية















المزيد.....



المجتمع المدني والديمقراطية والدولة واللامركزية


ابراهيم محمد جبريل
الشاعر والكاتب والباحث

(Ibrahim Mahmat)


الحوار المتمدن-العدد: 7444 - 2022 / 11 / 26 - 15:20
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


رقم الواتساب0237696839527
تعريف المجتمع المدني :عرف مفهوم المجتمع المدني كغيره من المفاهيم في العلوم الإنسانية والاجتماعية تغيرا و تطورا منذ ظهوره، ظهر المفهوم في القرن السابع عشر حيث حدده توماس هوبز بشكل لا يميز فيه بينه و بين الدولة على النحو التالي : المجتمع المنظم سياسيا عن طريق الدولة القائمة على فكرة التعاقد” أما جون لوك فقد سجل تحديده للمجتمع المدني بتمييزه عن الدولة دون أن يلغي تماما الروابط التي تجمع بينهما عندما أشار إلى أنه قيام المجتمع المنظم سياسيا ضمن إطار الدولة مهمته تنظيم عملية سن القانون الطبيعي الموجود دون الدولة 1.
أمافي القرن الثامن عشر أصبحت الفكرة موقعها وسيط بين مؤسسات السلطة و بقية المجتمع، اعتبره روسو “هو مجتمع صاحب السيادة، باستطاعته صياغة إرادة عامة يتماها فيها الحكام و المحكومون، كما نجد نفس الاتجاه عند مونتسكيو الذي ربط المجتمع المدني “بالبني الأرستقراطية الوسيطة المعترف بها من قبل السلطة القائمة بين الحاكمين و المحكومين” وكذلك لدى الفيلسوف الألماني هيغل الذي أكد الموقع الوسيط للمجتمع المدني دون أن يغفل حقيقة التداخل الموجود بين المجتمع المدني و العائلة والدولة2
أما عن مفهوم المجتمع المدني في سياق الفلسفة السياسية الغربية فإننا نجد أن أرسطو أول من أشار إلى مفهوم المجتمع المدني في الفلسفة اليونانية ، ولكنه لم يميز بين الدولة والمجتمع المدني.
و في الفلسفة الاوربيه الحديثة فإننا نجد أن المفهوم الليبرالي للمجتمع المدني مرتبط بضرورة تقليص دور الدولة في إدارة المجتمع وفصل الدين عن الدولة فيستبعد الجماعات والمنظمات والهيئات ذات الطابع الديني من مؤسسات المجتمع المدني
ويُعرف المجتمع المدني في الفكر العربي المعاصر على انه “مجموعة المؤسسات والفعاليات والأنشطة التي تحتل مركزاً وسيطاً بين العائلة، باعتبارها الوحدة الاساسية التي ينهض عليها البنيان الاجتماعي من ناحية، والدولة ومؤسساتها ذات الصبغة الرسمية من ناحية أخرى3
التعريف لغوياً: تتألف عبارة المجتمع المدني من مصدرين “مجتمع”، وهو صيغة ترد في اللغة العربية أما اسم مكان أو اسم زمان ، وبالتالي فهو لا يؤدي معنى اللفظ الأجنبي الذي نترجمه بـ Society، والمصدر الآخر “مدني” فهو يميل في اللغة العربية إلى المدينة إلى “الحاضرة” .
التعريف إصطلاحاً: يشير حسنين توفيق إلى”المجتمع المدني” على أنه عبارة عن مجموعة من الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية التي تنتظم في إطارها شبكة معقدة من العلاقات والممارسات بين القوى والتكوينات الاجتماعية في المجتمع، من خلال مجموعة من المؤسسات التطوعية التي تنشأ وتعمل باستقلالية عن الدولة.
التعريف إجرائيا : مجموع التنظيمات، غير الحكومية، التي يقوم نشاطها على العمل التطوعي، الذي لا يستهدف الربح ولا تستند فيه العضوية على روابط القرابة .
وتعرف أماني قنديل المجتمع المدني باعتباره “مجمل التنظيمات الاجتماعية التطوعية غير الارثيه وغير الحكومية، التي ترعي الفرد وتعظم من قدراته على المشاركة في الحياة العامة، وتقع مؤسسات المجتمع المدني في مكان وسيط بين مؤسسات الدولة والمؤسسات الارثية4.
وهكذا نرى أن المفهوم يستبعد المؤسسات الاجتماعية الأولية كالأسرة والقبيلة، كما يستبعد منه المؤسسات الحكومية ويبقى في نطاق المجتمع المدني المؤسسات والمنظمات غير الحكومية التي يقوم نشاطها على العمل التطوعي, وترى هذه الدراسة تعريفا للدلالة على مفهوم المجتمع المدني باعتباره ” مجموعة من التنظيمات التطوعية الحرة التي تملأ المجال العام بين الأسرة والدولة لتحقيق مصالح أفرادها ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والإدارة السلمية للتنوع والخلاف، كما يلاحظ إمكانية اعتبار أن الحركات الدينية تعد جزءً من المجتمع المدني، وأن إقصاء هذه الكتلة الاجتماعية لا علاقة له بالتقييم العلمي وإنما يرتبط بوجهة النظر الأيدلوجية5 .
المرتكزات ومعايير المجتمع المدني:
وتتباين دلالات مفهوم المجتمع المدني وفقاً لاختلاف المرجعيات الفكرية والأيدلوجية , إلا أن هناك قدر من الاتفاق على الخصائص المشتركة للمصطلحات الدالة على المجتمع المدني ومنها ما يلي:
1ـ الركن التنظيمي المؤسسي: فالمجتمع المدني يضم مجموعة المؤسسات و المنظمات التي يؤسسها الأفراد أو ينضمون إليها بمحض إرادتهم ، و منها على سبيل المثال النقابات المهنية و العمالية و الجمعيات الأهلية ، فضلا عن الحركات النسائية و الطلابية و الهيئات الحرفية و مراكز الدراسات غير الحكومية و المؤسسات الدينية غير الخاضعة لسلطة الدولة، وغرف التجارة و الصناعة وغير ذلك. و من المهم أن نذكر أن كل هذه المؤسسات و المنظمات تعبر عن فئات و شرائح اجتماعية مختلفة و هي تعمل من أجل تحقيق مصالحها المادية و المعنوية و الدفاع عن هذه المصالح سواء في مواجهة الدولة 5 .
2ـ الفعل التطوعي الحر: منظمات المجتمع المدني يؤسسها الأفراد بمحض إرادتهم الحرة أو ينضمون إليها طواعية بحريه شخصيه كاملة فلا يمكن إجبار شخص على المشاركة , و يمكن للفرد أن ينتمي إلى أكثر من مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني فقد يكون عضوا في نقابة مهنية أو اتحاد رياضي أو جمعية أهلية .
3ـ الاستقلالية عن الدولة: من أبرز معايير المجتمع المدني أن تتمتع مؤسساته و منظماته استقلالية حقيقية عن سلطة الدولة سواء في النواحي المالية أو الإدارية أو التنظيمية، وهذا هو سر فاعليتها الذي تفقده إذا أصبحت جزء من مؤسسات الدولة فتفقد قدرتها عن التعبير عن حاجتها الخاصة .
4ـ عدم السعي إلى تحقيق الربح: أن مؤسسات المجتمع المدني لا تقوم على أساس تجاري غايته الربح كما هو الحال في القطاع الخاص ، لأن غايتها حماية المصالح المادية و المعنوية لأعضائها ، و حتى في حال بعض المؤسسات التي قد تحقق أرباحا من خلال نشاطها و خدماتها فإنها لا توزعها على أعضائها بل تستخدمها في دعم نشاطاتها وتطوير مستواها ولكن تبقى المؤسسة غير قائمه على تحقيق ربح .
5ـ الإطار القيمي: وهو مجموعة من القيم التي تلتزم فيها مؤسسات المجتمع المدني و منظماته سواء في إدارة العلاقات فيما بينها أو فيما بينها و بين الدولة، و من هذه القيم، التسامح و الاحترام المتبادل و القبول بالتعدد و الاختلاف في الفكر و اللجوء إلى الطرق السلمية في إدارة الصراعات، و قد يطلق البعض على هذه المعايير الثقافة المدنية .
6ـ العمل الجماعي: يتسم المجتمع المدني بالحالة الجماعية وليس الفردية لان الفرد يستطيع أن يضغط من اجل تحقيق أهدافه بينما يتضاعف دور الفرد في الحالة الجماعية ويكون تمثيل المؤسسة له دور كبير في المطالبة بأهدافها
7ـ عدم السعي للسلطة: لا تسعى مؤسسات المجتمع المدني للوصل إلى السلطة ولكنها قد تؤثر في سياسات النظام العام وهذا ما يميزها عن الأحزاب السياسية، حيث أن أي مؤسسه تسعى إلى السلطة تخرج من نطاق المجتمع المدني .
وتبقى هذه المعايير نظريه و يبقى الإطار القيمي نمطا لما يجب أن يكون عليه المجتمع المدني، و بالتالي فان واقع المجتمع المدني من حيث طبيعة تكوينه وعدد مؤسساته و مدى التزامه بالمعايير القيمية و طبيعة علاقته بجهاز الدولة ، تتفاوت من منطقة لأخرى بل من دولة إلى أخرى و ذلك طبقا لمكوناتها التاريخية و الثقافية و طبيعة نظامها السياسي، ومن شأن المجتمع المدني أن يخرج المنطقة التي ينتمي إليها من أزماتها، كما انه يرتبط بمستوى تقدم او تخلف الوعي العام.6
مفهوم التحول الديمقراطي
التعريف اللغوي : تعنى كلمة التحول التغير أو النقل ، وتقابل في اللغة الفرنسية والإنجليزية كلمة Transition وتعنى الانتقال من حالة أو مرحلة معينة إلى حالة أخرى، كلمة الديمقراطية يونانية الأصل ومركبة من شقين الأول Demos وتعنى الشعب و Kratos وتعنى السلطة والحكم وبذلك تعنى كلمة الديمقراطية حكم الشعب نفسه بنفسه وبذلك تصبح كلمة التحول الديمقراطي تعنى الانتقال إلى حكم الشعب نفسه بنفسه.7
التعريف الاصطلاحي: هي عملية يتم من خلالها ممارسة مبادئ الديمقراطية في مؤسسات الدولة والمجتمع، أي أنها تعطى للأفراد الحق للمشاركة في الانتخابات والعمل على اكتساب السلطة، ويحدث ذلك عندما يستجيب النظام للمطالب الجديدة، فهو عملية معقدة تعبر عن الانتقال من النظام السلطوي إلى النظام الديمقراطي
التعريف الإجرائي :هي عملية مستمرة من التفاعلات، ويقصد بها بأنها عملية تراجع نظم الحكم غير الديمقراطية بكل أشكالها، لتحل محلها النظم الديمقراطية والتي تعتمد على المشاركة في عملية صنع القرار السياسي، وتقوم على المؤسسات السياسية التي تتمتع بالشرعية، ويعتمد قياس درجة هذا التحول على تطبيق المؤشرات الأساسية اللازمة لتحقيق الديمقراطية8
يمكن تعريف التحول الديمقراطي بأنه هو تحول يمس النظام في جميع جوانبه، النخبة، الهياكل والمؤسسات وأيضا النسق الاقتصادي والثقافي، فهو العملية التي يهدف النظام من ورائها إلى تفعيل مختلف الأنساق (السياسية ، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية) المرتبطة بالعملية السياسية.
وأيضا بأنه العملية التي من خلالها يجرى تطبيق قواعد وإجراءات المواطنة على المؤسسات السياسية بما يشمل حرية الانتخابات والمحاسبة السياسية ويمكن القول بأن التحول الليبرالي هو مقدمة للتحول الديمقراطي.
خلاصة ذلك يتم تعريف التحول الديمقراطي بأنه عمليات وإجراءات يتم اتخاذها للتحول من نظام غير ديمقراطي(شمولي أو تسلطي) إلى نظام ديمقراطي والتخلص من هيمنة النظم وتحقيق مبدأ المساواة بين المواطنين.
ثانيا : أنماط التحول الديمقراطي :
يقصد بأنماط التحول هي تلك الأشكال والإجراءات التي تتخذها عملية التحول للانتقال من النظام السلطوي إلى النظام الديمقراطي، وتتخذ أربعة مسارات للتحول :
1ـ التحول من أعلي لأسفل :
يحدث هذا النوع من التحول عندما تقوم النخبة الحاكمة بإدخال عدد من الإصلاحات فى النظام لشعورها بالسخط الشعبي وعدم الرضا,لذلك يأخذ النظام المبادرة بالتحول ويدخل أو يعد بإدخال الإصلاحات سواء لرغبة النظام في التحول الديمقراطي أو لامتصاص غضب الشعب وهذا من أجل مد سيطرته وسيادته السياسية، وقد لا يكون الدافع إلى الإصلاح هو الإيمان بالمبادئ الديمقراطية ولكن قد يجد الحاكم نفسه عرضه للخطر من الداخل أكثر من الخارج فيقوم بعملية التحويل خوفا من أن يقوم بذلك شخص آخر، التحول من أعلى غالبا ما ينتج عنه مايسمى”الديمقراطية المقيدة” بمعنى أن هذا النوع قد يتسم بنوع من الخدعة السياسية أي أن ليس عملية التحول الديمقراطي عملية حقيقية، ومن أمثلة هذا النمط التحول الديمقراطي الذي حدث في أسبانيا التي تعتبر أوضح مثال عليها9
2ـ التحول من أسفل لأعلي التحول الاحلالي :
قد يحدث هذا النوع من التحول نتيجة لوجود دلائل على تدهور سلطة النظام التسلطي وتحرك قوى المعارضة لاستغلال هذا التدهور، حيث إن النخب المعارضة لا تتمتع بالقوة الكافية التي تمكنها من فرض التغييرات التي تريدها، ويتسم هذا النوع من التحول بالعنف فقد تحدث صراعات ومظاهرات عنيفة ومطالبات من قبل الشعب بإنجاز الإصلاحات، كما أنه يتسم بضعف القيادات القائمة على النظام في مواجهة القوى المعارضة.
في هذا النوع من التحول لا يمكن أن يؤدى إلى ديمقراطية مستقرة وذلك بسبب عدم وجود اتفاقيات ومواثيق خلال مرحلة الانتقال، وهذا يمثل عقبة أمام الاعتدال والتصالح الضرورية لعملية ترسيخ الديمقراطية.
ومن أمثلة هذا النمط في عملية التحول الديمقراطي نجاح الحركات الاحتجاجية الاجتماعية في الفلبين في إجبار الرئيس “جوزيف استرادا” على التنازل عن منصبه تحت وطأة التظاهرات الشعبية والتي طالبت بمحاكمته على مخالفاته ماليا وانتهاكاته لحقوق الإنسان 10
3ـ التحول عن طريق التفاوض :
في هذا النمط تأتى المبادرة مشتركة من قبل النظام والقوى الاجتماعية المختلفة وذلك للوصول إلى أسس مشتركة للتخلي عن النظام غير الديمقراطي وإقامة نظام ديمقراطي بديل ,ويكون من خلال ميثاق يحافظ على مصالح كل القوى السياسية الفاعلة والوصول للديمقراطية.
ومن ضمن الأسباب المؤدية لهذا النوع من التحول فقدان النظام للشرعية التي كان يتمتع بها، انهيار الإيديولوجية التي يقوم عليها النظام,تردى الأوضاع الاقتصادية مما يؤدى إلى إخفاق النظام في تلبية المطالب والاحتجاجات للشعب، كل هذه الأسباب أدت إلى دخول النظام في مفاوضات مع القوى المعارضة، وقد يكون هذا النمط يضمن تحقيق نجاح لتحقيق مصالح أطراف التفاوض، ومن أمثلة هذا النمط حالة جنوب أفريقيا عام 1989-1990 من خلال المفاوضات التي دارت بين دى كليرك ونيلسون مانديلا الذي كان يتزعم المؤتمر الوطني الإفريقي11
ثالثاـــ عوامل التحول الديمقراطي : تعد عوامل التحول الديمقراطي من أهم الإشكاليات التي اختلف حولها الباحثون وذلك نظرا إلى تداخل العوامل الداخلية و العوامل الخارجية المؤدية إلى التحول الديمقراطي :
العوامل الخارجية: سيادة وخصوصية قضايا الدولة لا تمنع وجود عوامل خارجية تلعب دور في إحداث تحول ديمقراطي بالقضاء على النظم السلطوية والتحول نحو الديمقراطية و من أهم هذه العوامل:
دور القوى الخارجية في دفع الدول نحو التحول الديمقراطي: يمكن الإشارة إلى دور الدول التي تتحكم في الاخري من خلال قوتها الناعمة كالدول التي تقرض دول أخري مثل المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد ، حيث أعطي ذلك للدول نفوذ هائل في الدول الاخري للتحكم في السياسة الدولية وتتحكم في اتجاه الدول نحو الديمقراطية، وتلعب الدول و المنظمات المانحة دور الضاغط ، حيث نجد الدول المانحة تؤكد على ضرورة وجود المزيد من المشاركة السياسية و المسئولية الشعبية إذا ما أرادت الدول المستقبلة للمنح أن تستخدمها بفاعلية في التنمية، فتؤكد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا و غيرها من الدول المانحة على وجود الديمقراطية السياسية كشرط أساسي لتقديم المنح و المساعدات لهذه الدول ، وفي بعض الأوقات يرتقي دور الدول الضاغطة من عملية التحفيز على التحول الديمقراطي إلى المراقبة على عملية التحول الديمقراطي 12
أثر العدوى أو الانتشار: أي التقليد للتحول الديمقراطي الناجح لدولة في دولة أخري ، حيث يشجع ذلك على إحداث تحول ديمقراطي في دولة أخرى بنفس الشاكلة ، ففي أوائل موجة التحول الديمقراطي ونجاحها شجعت الدول الأخرى على السعي في طريق الديمقراطية ، و لقد ظهر اثر النماذج الناجحة في التجربة الديمقراطية عام 1990 في حالات بلغاريا و رومانيا و يوغسلافيا و ألمانيا ، و لعل من العوامل المساعدة في ذلك التطور الهائل في نظم الاتصالات و شبكات الإذاعة المرئيــة و المسموعة و سهولة التقاطها في كل أنحاء العالم رغم إرادة بعض الحكومات ومحاولتها حجب وصول مثل هذه الأخبار إلى شعوبها ، ولكن نظرا إلى وجود قوي معارضة لهذه الأنظمة تنتقل بسهولة الأخبار بأكثر من وسيلة إلى الشعوب مما يتيح فرصة للرأي العام العالمي للتأثير على شكل وبلورة الرأي العام الداخلي إلى جانب هذا تلعب عوامل أخرى في تحقيق أثر العدوى مثل التشابه الثقافي والحدود الجغرافية بين الكثير من الدول مثل دول أوروبا الشرقية وخروجها من لواء سيطرة الاتحاد السوفيتي 13
2ــــ العوامل الداخلية : هناك الكثير من العوامل الداخلية التي تؤثر في عملية التحول نحو الديمقراطية ولعل أهمها:
التغير في إدراك القيادة والنخب السياسية: من الناحية الفعلية تعد القيادة السياسية عامل هام من عوامل التحول الديمقراطي والتي تساعد على اتخاذ القرار في ذلك حيث أنه من الضروري لعملية التحول الديمقراطي وجود قياده يقدر لها مواجهة حركات المعارضة السياسية المختلفة بها ، و التمكن من نطاق المشاركة السياسية في عملية صنع القرار ، كما تحمل هذه القيادة على عاتقها عملية التماسك الديمقراطي و عملية حماية الأفراد من تعسف وديكتاتورية الدولة و عمل حوار وطني مع الجماعات الاجتماعية المعارضة المختلفة التي تهدد عملية التحول مصالحها ، ومن هنا لابد من توفر الشروط التي تؤدي إلي نجاح العملية الديمقراطية من شروط اقتصادية و اجتماعية ، إلى جانب ضرورة توفر الرغبة من قبل القيادة في عملية التحول ويمكن وضع أهم الأسباب التي تجعل قادة النظم السلطوية يتجهون نحو الأخذ بالخيار الديمقراطي كالتالي:
• غياب أو فقدان النظام السياسي لشرعيته .
• في اعتقاد القادة التحول الديمقراطي سوف يأتي بالعديد من المنافع لدولتهم مثل زيادة الشرعية الدولية ، و الحد من العقوبات التي تفرضها الدول المانحة على دولهــم، و إمكانية الحصول على قروض من صندوق النقد الدولي .
• إدراك القيادة السياسية بأن تكاليف بقائها في السلطة مرتفعة للغاية إلى جانب انقسام التحالف الذي يؤيد بقاءها في السلطة 14.
انهيار شرعية النظام السلطوي :أنشأت النظم السلطوية لخروج الدولة من أزمة اقتصادية ،ومن الطبيعي أن يكون لها مدة زمنية معينه وبعدها تكون مهمتها كاملة ، أي أنها نجحت في حل المشاكل التي دفعتها لتولي السلطة ، أو تنتهي شرعيتها في حالة فشلها في تحقيق ما خول إليها من مهام وهناك مظاهر أخري تحمل في طياتها فقدان النظام السياسي شرعيته منها التغيير في القيم المجتمعية وثقافة المجتمع ، ومن هنا يصبح المجتمع أقل تفاعل مع النظام ومشكلات الشرعية تتباين ففي النظام الديمقراطي شرعيتها تعتمد على الأداء الناجح له ، حيث يقيم الحكام شرعيتهم على أساس أدائهم و ليس ما يتوقعه منهم منتخبوهم ، بينما في النظام السلطوي ليس هناك فرق بيــن شرعية الحـــكام و النظام 15
قوة المجتمع المدني :من أهم العوامل الداخلية التي تؤدي إلى تهديد بقاء الأنظمة السلطوية ، فمنظمات المجتمع المدني تحصل على قوتها نتيجة إلى تردى عام على المستوي الاجتماعي و التنمية الاقتصادية والتحضر ، ويتحدث ” دي توكفيل “عن مؤسسات المجتمع المدني بأنها هي ” حجر الأساس للديمقراطية ، حيث أصبحت المصادر البديلة للمعلومات و الاتصالات، فهم يتحدون مباشرة الأنظمة السلطوية من خلال تتبع المصالح التي تتصارع و التي تؤدي إلى تآكل قدرة الحكام السلطويين على السيطرة على مجتمعاتهم ، ومن الناحية الفردية فنتيجة إلى كفاءة التعليم وزيادة ثقافة وفاعلية الجماهير لمتابعة الإصلاحات الديمقراطية 16
القيم والأخلاق الداعية إلى الديمقراطية : ونعني بذلك وجود القيم و العادات والتقبل الديني التي تشجع على تحول النظام السياسي نحو الديمقراطية ، أي انه لابد من أن يسود المجتمع قيم الديمقراطية من التضامن الوطني و الاحترام المتبادل التي تحتاج إليها الديمقراطية حتى تقوم17
الأوضاع الاقتصادية : من العوامل الهامة التي تؤثر على شرعية الأنظمة السلطوية ، ففي حال تردي الأوضاع الاقتصادية تهتز شرعية النظام السياسي نتيجة نوع من الغضب العام الذي يسود المجتمع .
مراحل التحول الديمقراطي :
مرحلة الاستعداد والتأهب : حيث يزداد الصراع في تلك المرحلة سواء الصراع السياسي أو الصراع الاجتماعي مما يهدد استمرار وبقاء النظام السياسي.
2ــــ مرحلة الإجماع: في هذه المرحلة يظهر إجماع كامل حول التغيير وتحديد مطالب سياسية وأولها تفعيل دور البرلمان أو إنشاءه .
3ـــ مرحلة تأمين التحول الديمقراطي :عن طريق إرساء مجموع من المؤسسات والقواعد ويكون شأنها تدعيم
المؤسسات التمثيلية وتنمية الثقافة الديمقراطية، ولكن نظرا لوجود مجموعة من المخاطر في هذه المراحل والتي قد تساعد على ارتداد النظام السلطوي والتي تنتج نتيجة وجود مؤسسة من مؤسسات النظام السلطوي إلي جانب احدي المؤسسات الديمقراطية في مرحلة من المراحل الثلاث لذا لابد من الإتمام الكامل لإنهاء النظام السلطوي عن طريق أربع مراحل وهي :
• مرحلة القضاء على النظام السلطوي .
• مرحلة اتخاذ قرار التحول نحو الديمقراطية .
• مرحلة تدعيم النظام الديمقراطي .
• مرحلة النضج الديمقراطي .
آليات التحول الديمقراطي: هناك عدة آليات سلمية تكرس التحول الديمقراطي منها:
1ــ التداول على السلطة والاحتكام إلى الشعب من خلال الإجماع حول القضايا الأساسية: من خلال الانتخابات النزيهة والتي تتم بقدر من الشفافية إضافة إلي الإجماع حول القضايا الأساسية للدولة إلي جانب تفعيل مبدأ ترجيح الأغلبية علي الأقلية 18
2ـ التعددية الحزبية: من خلال السماح لمشاركة الأحزاب المختلفة بممارسة النشاطات السياسية بقدر من الحرية وعدم اللجوء لسيطرة حزب واحد مما يجعل هذه التعددية مجرد شكل دون فاعلية .
3ــ الفصل بين السلطات :من خلال اختصاص كل سلطة بعملها حتى لا يتحول النظام إلي شمولي تجمع فيه سلطة واحدة الحكم.
4ـــ تكريس دور المجتمع المدني:
من خلال إعطاءه حرية الحفاظ علي استقلاليته وتوفير الإطار القانوني المناسب له .
5ـــ تكريس آلية عمل الإعلام والصحافة: من حيث تناول القضايا المختلفة بحرية تامة وعدم فرض القيود القانونية علي ذلك لتتمكن من نقل صورة صحيحة إلي الرأي العام إلي جانب ضرورة عدم وجود إعلام موجه أو تكميم الصحاف
علاقة الدولة بالمجتمع المدني
علاقة الدولة بالمجتمع المدني من: إن العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني علاقة تكامل وتوزيع للأدوار، فالمجتمع المدني هو أحد أركان الدولة الحديثة التي تهيئ له البيئة التشريعية لتنظيم الممارسة لعمل المنظمات المدنية والجماعات داخل المجتمع، فالدولة والمجتمع المدني متلازمان، ولا دولة حديثة من دون مجتمع مدنى ، بل إن المجتمع المدني هو أحد أركان قوة الدولة ومؤشر على ديمقراطيتها، فلا ديمقراطية من دون مجتمع مدني19
مفهوم الدولة :
- The Concept of State تتميزت العصور القديمة والوسطى بغياب مفهوم الدولة بشكلها الحالي، حيث انتشرت مسميات مختلفة منها، الإمبراطورية، والسلطنة، والممالك. إلا أن أغلب الممالك التي حكمت في العصور الوسطى في أوروبا حكمت باسم الدين، كفرنسا على سبيل المثال، وكان لسلطة الكنيسة أثر سلبي في التحكم بالدولة وسياستها، وإمكانها في عزل الملوك والأمراء عن طريق سحب الثقة منهم وفصلهم من الكنيسة، ما يعني افتقادهم لثقة وطاعة الشعب الذي يثق بالكنيسة لما كانوا يروا من أنَّها تطبيق لإرادة الرب، فانتشرت الحروب الدينية لمدة ثلاثين عاماً وانتهت في عام 1648 بتوقيع اتفاقية وستفاليا في أوروبا؛ واضعة حداً للحرب الدينية وسلطة الكنيسة على الحكم؛ بإنشاء نظام جديد للدول في أوروبا عرف فيما بعد باسم الدولة الحديثة وتَعَمَّمَ في أنحاء العالم فيما بعد.20
وتعتبر الدولة منذ نشأتها الحديثة في أعقاب مؤتمر وستفاليا، إحدى حقائق الحياة السياسية المعاصرة التي رسخت تدريجيَّاً حتى أصبحت تشكل اللبنة الأولى في بنية النظام الدولي الراهن، وبالرغم من اعتبار الدولة مؤسسة عالمية ضرورية، إلا أن تعريفها واسع ومتنوع لا يكاد يجمع عليه اثنان، بل ويمكن أن يُقال أَنَّ إيجاد تعريف واحد لمفهوم الدولة هو صراع إيديولوجي بحد ذاته؛ كون التعاريف المختلفة ناتجة عن نظريات مختلفة لوظيفة الدولة، مما يولد استراتيجيات سياسية ونتائج مختلفة، فمصطلح "الدولة" يشير إلى مجموعة من النظريات المختلفة والمترابطة والمتداخلة في كثير من الأحيان، حول مجموعة معينة من الظواهر السياسية22
تعريف الدولة الحديث: تعود جذور كلمة الدولة للغة اللاتينية لكلمة Position التي تعني الوقوف، كما ظهر مصطلح الدولة في اللغات الأوروبية في مطلع القرن الخامس عشر، وفي القرن الثامن عشر تطور مصطلح الدولة واستخدم تعبير Publicae اللاتيني والذي يعني الشؤون العامة.
وللدولة عدة تعريفات وُضِعت من قبل العديد من المؤسسات ولاسيما الأوروبية منها، إلا أن التعريف الأكثر شيوعاً لمفهوم الدولة هو تعريف المفكر الألماني ماكس فيبر - Max Weber إذ عرَّفها بأنها منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين الأراضي.
كما عرَّفت موسوعة لاروس - Larousse الفرنسية الدولة بأنها: "مجموعة من الأفراد الذين يعيشون على أرض محددة ويخضعون لسلطة معينة".
في حين رأى العديد من فقهاء القانون الدستوري أن الدولة: "كياناً إقليمياً يمتلك السيادة داخل الحدود وخارجها، ويحتكر قوى وأدوات الإكراه”23
وثمة تعريف آخر مقبول عموماً للدولة هو التعريف الوارد في اتفاقية مونتيفيديو - Montevideo بشأن حقوق وواجبات الدول في عام 1933. وقد عُرِّفَتْ الدولة بأنها: مساحة من الأرض تمتلك سكان دائمون، إقليم محدد وحكومة قادرة على المحافظة والسيطرة الفعَّالة على أراضيها، وإجراء العلاقات الدولية مع الدول الأخرى24
وبالرغم من البساطة التي يَتَمَيَّزْ بها تعريف الدولة إلا أن مفهوم الدولة والبحث في تحديد أصل نشأتها واساس السلطة فيها يثير في الواقع عدداً هائلاً من الإشكاليات؛ فالدولة هي حقيقة سياسية؛ لأن المجتمع الدولي يتكون أساساً من وحدات سياسية يحمل كل منها لقب “دولة”، والدولة أيضاً مفهوم قانوني قُصِدَ منها ابتكار أداة ملائمة لتنظيم العلاقة بين وحدات سياسية غير متكافئة في القوة على أساس من العدالة والمساواة. فالعلاقات بين الدول يجب أن تؤسس من وجهة نظر القانون الدولي على مبدأ أو قاعدة المساواة في السيادة. والدولة فوق هذا وذام هي فكرة فلسفية مجردة؛ لأن نشأة المجتمعات السياسية المنظمة ليست معروفة أو مُوَثَّقَة تاريخيَّاً. وفي غياب هذه المعرفة التاريخية المُوَثَّقَة توجد نظريات أو رؤى أو أفكار ذات طبيعة فلسفية تحاول تفسير نشأة الدولة، أو بعبارة أدق نشأة أهم ركن من أركانها وهو السلطة السياسية المنظمة. والدولة أخيراً هي كائن اجتماعي؛ لأن أحد أهم مقوماتها هو البشر الذين تجمعهم روابط خاصة تجعلهم قادرين على الحياة المشتركة.
لذا سنستعرض وإياكم لمحة موجزة عن مفهوم الدولة ونشأتها وما تثيره من قضايا وإشكاليات إذا ما نُظر إليها من أي من مختلف الجوانب25.
مفهوم الدولة كحقيقة سياسية: تعتبر الدولة ومنذ نشأتها الحديثة في أعقاب مؤتمر وستفاليا لعام 1648، هي إحدى حقائق الحياة السياسية المعاصرة التي رسخت تدريجيّاً حتى أصبحت تشكل اللبنة الأولى في بنية النظام الدولي الراهن. وليس أدل على هذه الحقيقة من أن عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة قد ناهز الـ 185 دولة، في حين عدد الدول الأعضاء في عصبة الأمم لم يتجاوز في أي لحظة من لحظات وجودها في مرحلة ما بين الحربين 40 دولة.
كما تلعب الاعتبارات السياسية عادةً دوراً رئيسياً في نشأة واختفاء الدول. وعلى سبيل المثال، فقد تغيرت الخريطة السياسية للعالم ثلاث مرات خلال القرن العشرين. فقد ترتب على الحربين العالميتين الأولى والثانية اختفاء دول وظهور دول أُخرى كثيرة على المسرح الأوربي، وأدت حركات مناهضة الاستعمار في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حصول عدد كبير جدَّاً من الدول في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية على استقلالها ومن ثم إلى ظهورها لأول مرة على مسرح السياسة الدولية26.

وقد تنشأ الدول الجديدة عن طريق الوحدة، وهو ما حدث لبعض الدول الأوربية مثل ألمانيا، وإيطاليا خلال القرن التاسع عشر، ولدول أخرى عديدة منها دول عربية مثل اتحاد سورية ومصر في دولة واحدة (الجمهورية العربية المتحدة) في عام 1958، واتحاد ست إمارات عربية خليجية ليشكلوا معاً دولة الإمارات العربية المتحدة.
وكما تنشأ الدول الجديدة نتيجة للوحدة والاندماج فإنها يمكن أن تنشأ نتيجة للتفكك والانفصال. وهذا هو ما حدث عندما انهار الاتحاد السوفيتي وتفكك إلى مجموعة كبيرة من الدول التي ظهر بعضها لأول مرة كدول مستقلة على المسرح الدولي. وقد يتم الانفصال نفسه بطريقة سلمية كما حدث بالنسبة لدولة تشيكوسلوفاكيا السابقة، وقد يتم بوسائل عنيفة أو بالحرب، كما حدث بالنسبة لدولة يوغسلافيا27.
التقسيم السياسي للعالم لم يستقر على شكل لا يمكن اعتباره نهائياً بعد
والواقع أن التقسيم السياسي للعالم لم يستقر على شكل لا يمكن اعتباره نهائياً بعد، فلا تزال احتمالات الوحدة والاندماج بين الدول وكذلك احتمالات التفكك والانقسام والانفصال داخل الدول القائمة حالياً أمراً وارداً. ورغم التسليم، نظريّاً على الأقل، بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو ما يعني الاعتراف لكل شعب بحقه في إقامة دولته المستقلة، إلا أن وضع هذا المبدأ موضع التنفيذ واجه، ولا يزال يواجه صعوبات عديدة، فهناك شعوب مجزأة ومقسمة وتطمح في الاندماج معاً داخل دولة موحدة، وهناك شعوب أُخرى خاضعة لإرادة تعتبرها أجنبية وتريد التحرر والانفصال عنها وتشكيل دولتها المستقلة. ويشكل استمرار هذا الوضع أحد مصادر عدم الاستقرار في الحياة الدولية.
مفهوم الدولة كمفهوم قانوني: لا يكفي أن تتمتع وحدة سياسية ما بالمقومات الثلاث اللازمة لقيام الدول (الأرض، الشعب، السلطة؛ لكي يصبح بمقدورها أن تمارس نشاطها بصورة طبيعية دون معوقات، وخاصة على الساحة الدولية. فاعتراف المجتمع الدولي بالدولة الوليدة يعتبر أمراً ضروريّاً لتمكينها من القيام بوظائفها في سهولة ويسر.
والاعتراف هو عملية يتم بموجبها إضفاء الشخصية القانونية على إحدى الوحدات السياسية والاعتراف بحقها في الانضمام إلى المجتمع الدولي كدولة جديدة لها ما للدول الأخرى من حقوق وعليها ما على هذه الدول من واجبات. غير أنه يتعين التمييز هنا بين الاعتراف بالدولة والاعتراف بالحكومة. فالاعتراف بالدولة عادة ما يتم لمرة واحدة ويظل قائماً طالما ظلت الدولة متمتعة بشخصيتها وأهليتها القانونية الدولية. أما الحكومات فتتغير. ولا تثور الحاجة للاعتراف بكل حكومة جديدة، خصوصاً إذا تم التغيير بالطرق السلمية والديمقراطية. لكن مسألة الاعتراف بالحكومة الجديدة تصبح واردة في أعقاب التغييرات الكبرى والمفاجئة التي تتم عادة من خلال ثورة شعبية أو انقلاب عسكري مفاجئ. ويأخذ الاعتراف بالحكومة الجديدة أي شكل من أشكال التعبير عن رغبة دولة ما في الدخول في علاقات رسمية مع هذه الحكومة. والاعتراف بالحكومة ينطوي ضمناً على الاعتراف بالدولة، لكن العكس ليس صحيحاً. فالاعتراف بالدولة ليس معناه بالضرورة الاعتراف بأي حكومة يمكن أن تسيطر على هذه الدولة في أي وقت، غير أن الحكومة التي لا تنجح في تأمين اعتراف دولي كاف بها عادة ما تواجه بمصاعب كبيرة في تسيير شؤونها الخارجية. والاعتراف بالحكومات قد يكون صريحاً إذا صدر إعلان خاص بذلك، وقد يكون ضمناً بتبادل البعثات الدبلوماسية والقنصلية28.
ويثير موضوع الاعتراف بالدول قضايا خلافية عديدة في القانون الدولي، فالاعتراف ليس ركناً من أركان قيام الدول الجديدة، وبالتالي فهو لا يعد من القواعد المنشأة وإنما هو قبيل القواعد المقررة لوجود هذه الدول أو الكاشفة عن حقيقة هذا الوجود. وتكمن أهمية الاعتراف بالنسبة لدولة أو حكومة ما، في التحليل النهائي، في أنه يعني اعترافاً من جانب المجتمع الدولي بسيادة هذه الدولة وممارسة حكومتها للسلطة الفعلية. والسيادة هي أخص خصائص الدولة وأهم سماتها.
وكلمة سيادة Sovereignty مشتقة من الأصل اللاتيني Superanus ومعناه الأعلى أي صاحب القول والفصل النهائي، وحين نقول إن الدولة صاحبة سيادة فإننا نقصد بذلك أمرين على جانب كبير من الأهمية29.
الأول: هو أن للدولة سلطة مطلقة في مواجهة رعاياها في الداخل.
الثاني: أي أن الدولة لا تخضع لسلطة أعلى منها في مجتمع الدول.
وكان المفكر الفرنسي جان بودان Jean Bodin هو أول من استخدم هذه الكلمة للدلالة على المعنى السياسي المتداول حتى وقتنا هذا. غير أنه ربما يكون من المفيد هنا أن نميز بين السيادة بمعاناها القانوني وبين السيادة بمعناها السياسي. ويقصد بالسيادة بالمعنى القانوني، ذلك الشخص الذي يخوله القانون، أو الهيئة التي يخولها القانون سلطة ممارسة السيادة أي سلطة إصدار الأوامر النهائية التي لا معقب عليها ولا راد لها. أما المعنى السياسي للسيادة فنقصد به شرعية السلطة التي تمارس السيادة باسم الدولة ولحسابها. فالسيادة بالمعنى السياسي، هي للشعب الذي يختار بإرادته الحرة، من خلال صناديق الاقتراع حكامه الذين يمارسون السلطة، أي مظاهر السيادة، نيابة عنه. كذلك فقد يكون من المفيد هنا أيضاً أن نميز بين السيادة القانونية، وبين السيادة الفعلية. فالسيادة الفعلية تجسدها السلطة التي يخضع لها المواطنون ويطيعون أوامرها بالفعل، بصرف النظر عمّا إذا كانت هذه السلطة شرعية أم غير شرعية، أي قانونية أم غير قانونية30.
السلطة القانونية
ولأن السلطة القانونية هي السلطة ينص عليها القانون أو الدستور فمن السهل تحديدها، بعكس السلطة الفعلية التي يصعب تحديدها أحيانا والتي قد تكون خفية أو مستترة. ولذلك قد توجد فجوة في بعض الأحيان بين السلطة الفعلية والسلطة القانونية أو الشرعية. غير أن السلطة الشرعية أو القانونية التي لا تستطيع فرض سيطرتها يصبح مصيرها إلى زوال، وتتحول السلطة الفعلية تدريجيّاً، وبحكم الأمر الواقع إلى سلطة قانونية، خصوصاً إذا ما تم إصدار قوانين تمنح سلطة الأمر الواقع مركزاً قانونياً ثابتاً. وفي جميع الأحوال فإن مركز السيادة هو الدولة بصرف النظر عن شرعية أو عدم شرعية من يمارس السلطة الفعلية فيها.
وعندما تمارس الدولة سيادتها في الداخل فإن هذه السيادة تسري على الشعب داخل الحدود السياسية للإقليم الذي يقطنه، أي أن لها جانباً يتعلق بالشعب وأخر يتعلق بالإقليم، فالسيادة الداخلية معناها حرية الدولة في اختيار نظام الحكم الذي يلائم أوضاعها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الخاصة، وفي السيطرة على مواردها الطبيعية داخل حدودها الإقليمية في البر والبحر والجو، وفي فرض قوانينها على كل المقيمين على أرضها، سواء كانوا مواطنين أو أجانب. أما السيادة الخارجية فتتجلى مظاهرها في حق الدولة في إدارة شؤونها الخارجية بحرية ودون تدخل أحد في شؤونها الداخلية، عدم خضوعها لسلطة دولة أخرى أو منظمة دولية. واستقلالية الدولة في ممارسة مظاهر سيادتها الخارجية لها مظاهر متعددة كالدخول في علاقات دبلوماسية أو قطع هذه العلاقات مع من تريد من الدول، والإنضمام أو عدم الانضمام إلى المنظمات الدولية، والاشتراك أو عدم الاشتراك في المؤتمرات الدولية. بل لها أن تستخدم القوة للدفاع عن مصالحها .. الخ31.
غير أن مفهوم السيادة ليس سوى مدرك قصد بها في واقع الأمر تنظيم علاقة الدولة بمواطنيها في الداخل وبغيرها من الدول في الخارج. فهذه السيادة ليست مطلقة وإنما هي مقيدة بطبيعتها. وربما كان من الممكن إبداء قدر من الفهم لدوافع المطالبين بفكرة السيادة المطلقة التي لا تحد حدود في عالم كانت الدول فيه تبدو كوحدات منفصلة ومتوازية وقائمة بذاتها تماماً. أما في ظل تداخل وتشابك وتعقد المصالح والعلاقات في الحياة الدولية المعاصرة، فقد أصبح من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الدفاع عن فكرة السيادة المطلقة سواء في الداخل أو في الخارج32.
مفهوم الدولة كفكرة فلسفية مجردة: إذا كان من الممكن تتبع النشأة التاريخية لبعض الدول، وخصوصاً تلك التي ظهرت حديثاً، إما كنتيجة لاتحاد إمارات إقطاعية أو تكوينات سياسية صغيرة أو كنتيجة لانهيار أو اضمحلال إمبراطوريات كبيرة، إلا أن الكيفية التي ظهر بها المجتمع المنظم إلى حيّز الوجود لأول مرة، وما صاحب هذا الظهور من نشأة السلطة كظاهرة سياسية، ليست معروفة أو موثقة تاريخيَّاً، ولذلك ظهرت نظريات كثيرة تفسر نشأة الدولة، من هذه النظريات نظرية النشأة المقدسة التي ترى أن الله هو الذي خلق الدولة، وأنه هو الذي ينتخب الملوك ويمنحهم السلطة حين يرضى عنهم وينتزعها منهم إذا غضب عليهم. وهذه النظرية هي أساس نظرية الحق الإلهي التي سادت في بعض المراحل التاريخية التي جمع فيها الحاكم بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية، وهناك نظريات أخرى كثيرة منها نظرية القوة، التي ترى أن الدولة نشأت وتطورت نتيجة الصراع وعلاقات القوة التي تسفر دائماً عن خضوع الضعيف للقوي، ومنها النظرية التاريخية، التي ترى أن نشأة الدولة ترجع إلى ما قبل التاريخ وأنها نمت نمواً تاريخيَّاً وطبيعيَّاً بمساعدة عوامل ثلاثة هي: علاقة الدم، والدين، والوعي السياسي، غير أن نظرية العقد الاجتماعي هي أكثر النظريات الفلسفية تأثيراً في الفكر السياسي على مدى الزمن.33
نظرية العقد الاجتماعي
وتقوم نظرية العقد الاجتماعي على أساس فرضين رئيسيين:
الأول: أن الأفراد كانوا يعيشون فيما بينهم حالة الفطرة أو الطبيعة قبل أن ينتقلوا إلى حالة المجتمع الذي يخضع لسلطة سياسية منظمة.
الثاني: أن الانتقال من حالة الفطرة أو الطبيعة إلى حالة المجتمع المنظم أو الدولة تم بموجب عقد اجتماعي.
وهذه النظرية قديمة ويمكن تتبع جذورها وإرهاصاتها الأولى في الفكر الروماني وفي كتابات العديد من فلاسفة ومفكري العصور الوسطى وخاصة كتابات سانت اوجستين Saint Augustine و توماس الأكويني Thomas Aquinas. لكن الفيلسوف البريطاني هوبز Thomas Hobbes، كان أول من بلور هذه النظرية بشكل واضح ومتكامل وصاغ فرضيها الرئيسيين على نحو متكامل ومتماسك. ثم تعاقب عليها كبار المفكرين بالنقد والشرح والتحليل والإضافة ابتداءاً من جون لوك John Locke، مروراً بجان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau، وحتى إيمانويل كانت Immanuel Kant كانت ومن بعده الكثيرون34.
وقد دار جوهر الجدل الذي فجرته نظرية العقد الاجتماعي حول عدة أمور أو محاور رئيسية مثل: حالة الفطرة، أو الطبيعة، وهل كانت حالة سلم وأمان أم صراع وعدم استقرار، وحول أطراف العقد الاجتماعي وهل هو عقد أبرم بين الأفراد وحدهم أم بين الأفراد من ناحية والأمير من ناحية أخرى، وحول مضمون هذا العقد وشروطه وإجراءات فسخه.. الخ.
فبينما كان هوبز Thomas Hobbes يرى أن حالة الفطرة أو الطبيعة هي حالة وحشية يسودها قانون الغاب وتتميز بالفوضى وعدم الاستقرار وانتفاء الأمن، فيما رأى جون لوك John Locke أن هذه الحالة كانت على العكس تماماً، حالة تسودها الحرية والمساواة التي يمنحها القانون الطبيعي كحقوق ثابتة للأفراد والممتلكات، ولكنها حالة تتميز بعدم الاستقرار في الوقت نفسه نظراً لعدم وجود شخص غير متحيز يحمي الأفراد. أما جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau فقد صور حالة الطبيعة أو الفطرة الأولى على أنها حالة مثالية حصل فيها الفرد على كل ما يطمح إليه من حقوق، ووصل إلى أعلى مراتب السعادة والطمأنينة، لكنه اضطر إلى العيش في جماعة بسبب تزايد السكان.
وبينما كان هوبز Thomas Hobbes يرى أن القانون الطبيعي حتم على الأفراد أن يبحثوا عن مخرج من حالة التعاسة المطلقة التي كانوا عليها في مرحلة الفطرة، وهو ما دفعهم لإبرام عقد لإنشاء الدولة تنازلوا فيه عن جميع حقوقهم ووضعوها في يد جهة واحدة تتركز فيها السلطة بشكل مطلق مقابل مصولهم على الأمن، رأى جون لوك John Locke أن الأفراد تعاقدوا فيما بينهم أولاً لإقامة المجتمع أو الدولة ثم تعاقدوا بعد ذلك مع الحاكم وتنازلوا له عن جزء من حقوقهم، وليس عن حقوقهم كلها، للقيام بالوظائف أو المهام التي يطلبونها منه. أي أن جون لوك John Locke ميز بين الدولة وبين الحكومة واعتبر أن سلطة الحكومة ليست مطلقة وإنما محدودة ومقيدة وأن هذه السلطة يمكن استردادها عند الضرورة. أما جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau فقد رأى أن الإنسان الفرد الذي اضطر، بسبب زيادة السكان، إلى التخلي عن حرياته الطبيعية التي منحته السعادة بموجب عقد أبرمه مع الأفراد الآخرين، لم يتخل عن هذه الحقوق لفرد وإنما للمجموع. وفي هذه الحالة فإن السيادة لا يمكن التنازل عنها وإنما تظل في يد الإرادة العامة. ولأن الحكومة ليست سوى خادم لهذه الإرادة، وما تتمتع به من سلطة حصلت عليها من الشعب صاحب السيادة وبطريق التوكيل، فإن هذه السلطة يمكن سحبها في أي وقت إذا ما أخل الموكل إليه بشروط العقد أو التوكيل. وفقاً للمنطق الكامن وراء هذا التحليل كان من الطبيعي أن يعتبر جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau أن إصدار القوانين لا يدخل ضمن مهام الحكومة أو السلطة التنفيذية، وأن هذه الوظيفة الحيوية والخطيرة يجب أن تظل بالكامل في يد ممثلي الشعب من السلطة التشريعية35.
وأياً كانت طبيعة الخلافات التي دارت حول نظرية العقد الاجتماعي أو الانتقادات التي شككت بعد ذلك في أسس النظرية نفسها، وخاصة بعد ظهور المدرسة النفعية أو المدرسة الماركسية (والتي قدمت تفسيراً مختلفاً لنشأة الدولة نفسها من خلال جدلية الصراع الطبقي)، فمن البديهي أن الانتقال من حالة الفطرة أو الطبيعة إلى حالة الدولة أو المجتمع المنظم لم يتم، كما يقول إيمانويل كانت Immanuel Kant وفقاً لعقد إبرامه بالفعل ووقع كحدث موثق زماناً ومكاناً، لكنه مفهوم مهم جدّاً، وضروري جدّاً، رغم ما يكتنفه من تجريد لتنظيم العلاقات الاجتماعية على أساس من احترام وسيادة القانون.
مفهوم الدولة ككيان اجتماعي
وصف الكثير من المفكرين والفلاسفة الدولة بالكيان الاجتماعي، لسبب بسيط وهو أن العنصر الأساسي فيها يكمن في الرابطة المشتركة التي تجمع بين الأفراد الذين يتكون منهم شعب هذه الدولة. وهنا يتعين أن نميز بين مفهوم الشعب، ومفهوم الأمة.
تعريف الشعب: فالشعب عبارة عن مجمومة من الأفراد تربطهم رغبة مشتركة وقوية في العيش معاً، بصرف النظر عن تجانس هؤلاء الأفراد أو عدم تجانسهم من النواحي العرقية أو الدينية أو اللغوية..الخ.
تعريف الأمة: فهي من مجموعة من الأفراد الذين تجمعهم الرغبة في العيش معاً، ولكنهم يرتبطون فيما بينهم براوبط طبيعية ومعنوية مثل وحدة الأصل العرقي ووحدة اللغة والدين والعادات والتقاليد والتاريخ والثقافة المشتركة… الخ، ومعنى ذلك أن ما يربط بين أفراد الأمة الواحدة يكون في العادة أقوى وأمتن وأكثر كثافة مما يربط بين أفراد الشعب الذي لا يشكل في مجمله أمة واحدة. لكن ليس معنى ذلك أنه يشترط أن تتوافر في الشعب كافة عناصر ومقومات الوحدة الطبيعية التي تتوافر في الأمة لكي يصبح له الحق في إقامة دولته المستقلة. فليست كل أمة دولة وليست كل دولة أمة36.
وهناك نظريات عديدة تفسر نشأة الدولة كتطور طبيعي لعلاقات اجتماعية معينة أساسها رابطة الدم والقربى..الخ. وتؤكد هذه النظريات أن العائلة ظهرت أولاً، ومن تعدد العائلات نشأت القبائل والعشائر، ومن صراع القبائل والعشائر وتداخلها بالمصاهرة والزواج أو بالدمج والاستعباد، تبلورت التكوينات الأولى للدول، ككيانات اجتماعية أكثر تعقيداً وتشابكاً، كما ظهرت بشكل تدريجي سلطة من نوع مختلف عن سلطة رب الأسرة أو شيخ القبيلة، وهي السلطة السياسية المنظمة بمفهومها الحديث37.
ففي إطار العائلة ظهرت سلطة رب الأسرة بصفة عامة، والعائل هو الشخص المسؤول عن توفير الطعام والحماية لأفراد أسرته. وفي مقابل ذلك أصبح على جميع أفراد الأسرة أو العائلة طاعة عائلها والالتزام بتنفيذ ما يأمر به وما ينهى عنه؛ كي تحافظ الأسرة أو العائلة على تماسكها وقوتها، سواء في مواجهة الآخرين، الذين قد يهددون الأسرة في طعامها أو في أمنها، أو لتوفير المناخ الطبيعي اللازم لتمكين رب الأسرة من القيام بوظائفه الحيوية. وباتساع الأسر وتعدد وتشعب فروعها ظهرت العشائر والقبائل ومعها ظهرت سلطة شيخ العشيرة أو القبيلة وتميزت عن سلطة رب الأسرة. ثم أدت عوامل كثيرة، من بينها الحاجة إلى التوسع والحصول على مصادر أكبر للرزق، إلى إندلاع الصراع بين العشائر والقبائل المختلفة. وفي الصراعات والحروب يوجد منتصرون يصبحون عادة قادرين على فرض سطوتهم وسلطتهم، ومهزومون يخضعون لإرادة المنتصر وأوامره. ومع تطور الصراع اتسع نطاق المجتمعات وظهرت السلطة السياسية38.
وإذا كانت العلاقة بين رب الأسرة ومن يعولهم من الأزواج والأبناء والأحفاد قد اتسمت إلى حد كبير بالتكافؤ بين الحقوق والواجبات بسبب روابط الدم والقربى، فقد أصبح من الصعب المحافظة على علاقات التكافؤ هذه في إطار المجتمعات الأوسع التي أفرزتها التفاعلات الصراعية بين العشائر والقبائل. فقد أدى وجود منتصرين ومهزومين إلى ظهور طبقة من العبيد والأرقاء أصبح للأسياد عليهم حق المنح والمنع بل وحق الحياة ذاتها. وكما كانت هناك صراعات وحروب بين بعض القبائل كان من الطبيعي أن يصبح هناك تعاون وتحالف بين بعضها الآخر إما لدرء أخطار الطبيعة أو للتغلب على عدو مشترك. وهكذا ظهرت المدن والقرى ثم المجتمعات الإنسانية الأكبر والأكثر تعقيداً حتى وصلنا إلى شكل الدولة التي ظهرت فيها سلطة سياسية تختلف في طبيعتها وفي أدواتها عن سلطة رب الأسرة أو شيخ القبيلة أو العائلة أو حكام الإمارات الإقطاعية القديمة39.
وبصرف النظر عن دقة ما تنطوي عليه هذه الرؤية من تفسير لنشأة الدولة أو نشأة السلطة السياسية، إلا أن الدولة تحولت في نهاية المطاف إلى أداة لضبط علاقات اجتماعية أصبحت شديدة التنوع والتعقيد. فهناك دول لا تزال التوازنات القبلية والعشائرية تلعب فيها دور المحرك الأساسي لسياساتها وأنشطتها، وهناك دول أخرى زراعية وصناعية حديثة برزت فيها قوى وطبقات اجتماعية مختلفة كلياً، ومن ثم فقد تطلب الأمر اللجوء إلى أساليب وطرق مختلفة عن الأساليب السائدة في حياة القبيلة لإدارة العلاقات فيما بينها، لا شك أن طبيعة السلطة وطبيعة النظام السياسي في الدولة تعكسان حقيقة الاختلاف في طبيعة وأوزان القوى والفئات الاجتماعية المختلفة التي تتكون منها40.
في النهاية يمكن القول يمكن القول أنَّ مفهوم الدولة ذو تاريخ من الصراع لم ينقطع أو يتوقف؛ بهدف الوصول إلى أفضل صيغة ممكنة لشكل الدولة والحكم؛ لتكون قادرة على تلبية طموحات الشعب، وتنطوي في الوقت نفسه على الآليات والضوابط التي تمَّكن أي حكومة منتخبة من إدارة شؤون الدولة بأعلى قدر من الكفاءة41.
والدولة عبارة عن مجموعة من الأفراد، الذين يمارسون جميع نشاطاتهم البشريّة، مثل النشاطات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، على إقليم جغرافي محدد، وفق نظام سياسي معيّن، ومتفق عليه، وتعتبر الدولة من أهم مكوّنات السياسة بعد الإنسان، وينقسم العالم إلى مجموعة كبيرة من الدول، التي تختلف في أنظمتها السياسيّة، كما أنّها عبارة عن كيان سياسي منظم، ومكوّن من مجموعة من الأفراد المقيمين على إقليم معيّن بصفة دائمة، تحت ظل حكومة مستقلة، وذات سيادة على إقليمها، قادرة على ضمان طاعة كل المقيمين فيها، وغير خاضعة لقوة مباشرة أو سيطرة خارجيّة السيادة ويمكن تعريف السيادة بأنها حكم مجموعة من الناس على منطقة معينة بحكم الدستور أو القانون المتفق علية والساري المفعول في تلك المنطقة وعلى سكانها42
العناصر المكوّنة للدولة
العناصر المكوّنة للدولة وتتكون الدولة من مجموعة من العناصر الأساسية وهي:
العنصر البشري: وهو العنصر الأساسي في الدولة، الذي يستقر فيها، ويرتبط بها برابطة سياسيّة وقانونيّة، إذ تعتمد الدولة على الشعب في إدارة الأعمال، وتمثيلها في الخارج، والدفاع عنها، وكلما زاد عدد سكان الدولة زادت قوتها، كما أنّ زيادة حجم السكان يكسب الدولة أهمية من الناحية الاقتصادية، وزيادة الإنتاج.
العنصر الطبيعي: ويقصد به كامل مساحة الأرض محددة المعالم، التي تتبع الدولة، ويقيم على معظمها، أو على بعضها المواطنون، وتشمل المسطحات المائيّة، والمجال الجوي.
العنصر التنظيمي أو الحكومة: وهو العنصر المسؤول عن تنظيم مجتمع الدولة، والإشراف على الإقليم، وتسيير أمور الشعب، وتكتسب الحكومة شرعيّتها، في حال تم الاعتراف لها بذلك سواءً اختياراً، أو طوعاً، أو عنوةً، ويقصد بها السلطة العليا، بفروعها الثلاثة، السلطة القضائية، والسلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، وكل ما يرتبط بها من تنظيمات، تساهم بصنع القرار، أو ممارسة السلطة، وتسعى الحكومة إلى تحقيق نظام سياسي، واقتصادي، واجتماعي، وحقوقي في الدولة.
العنصر المعنوي أو السيادة والاستقلال: بحيث يكون لها كيانها المستقل بشكل مطلق، والبعيد عن أيّ تدخل خارجي، وعدم خضوعها بشكل مباشر لإدارة أجنبيّة، أو اتباعها لأيّة جهة، إلا أنّ واقع الدول في وقتنا الحاضر، يتميّز بتداخل المصالح بين الدول، وترابطها والاعتماد المتبادل فيما بينها لتنفيذ المصالح. الاعتراف الدولي بكيانها تنشأ الدولة ككيان مادي بمجرّد اكتمال عناصرها؛ من مواطنين، وإقليم، وحكومة واستقلال، وبالإضافة إلى هذه العناصر الأساسية، يجب اعتراف وإقرار الدول الأخرى بوجودها، والتعامل معها، والسماح لها بممارسة سيادتها الخارجيّة، واعتبارها عضواً في المجتمع الدولي، وقد يكون الاعتراف فرديّاً، صادراً من كل دولة على حدة اتجاه الدولة الجديدة، من تلقاء نفسها، أو استجابةً لطلب الدولة الجديدة، وقد يكون الاعتراف جماعيّاً، صادراً عن مجموعة من الدول، أو عن منظمة، أو هيئة دوليّة مثل هيئة الأمم المتحدة، ويكون الاعتراف أثناء انعقاد مؤتمر دولي، ويتضمّن وثيقة أو معاهدة43
الفرق بين الدولة والحكومة: يقع كثير من المحللين والاعلاميين بالخلط بين الدولة والحكومة في التعبير عن مفهوم الدولة باطارها الشامل وبين الحكومة باطارها الضيق او الاقل شمولا .
الحكومة: هي جزء من الدولة , وهي الاطار السياسي والذراع التنفيذي الذي يحكم مؤسسات الدولة .
فلذلك ينبغي التمييز بينهما رغم أن المفهومين يستخدمان بالتناوب كمترادفات في كثير من الأحيان، ولكي نعرف الفرق بين الدولة والحكومة وادوار كل منهما , وجب ان نذكر ذلك بالتفصيل المقتضب لكل منهما على حدا وذلك فيما يلي :
الدولة: التعريف السياسي: هي تجمع سياسي يؤسس كيانا ذا اختصاص سيادي في نطاق إقليمي محدد ويمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة، بالإضافة إلى السيادة والاعتراف بهذه الدولة، بما يكسبها الشخصية القانونية الدولية، ويمكنها من ممارسة اختصاصات السيادة لا سيما الخارجية .
وتتميز الدولة بخصائص أساسية تميزها عن المؤسسات الأخرى هي : ( ممارسة السيادة والطابع العام لمؤسسات الدولة والتعبير عن الشرعية والدولة أداة للهيمنة والطابع الإقليمي للدولة )
وظائف الدولة فهي : تقوم الدولة بالعديد من الوظائف المختلفة والتي يمكن تصنيف ابرزها إلى نوعين هما :
ا) الوظائف الاساسية
1) تأسيس جيش لحماية مصالح الدولة والافراد
2) حفظ الامن والنظام وتحقيق العدالة
3) تنظيم القضاء وإنشاء محاكم 4
) رعاية العلاقات الخارجية مع الدول الأخرى
5) تمويل مؤسساتها العسكرية والأمنية والمدنية
6) اصدار العملة .
ب) وظائف الخدمات
1) التعليمية والثقافية
2) الرعاية الصحية
3) المواصلات
4) خدمات المياه والكهرباء والصرف الصحي
5) إنشاء موانئ وبناء المطارات
6) الاتصالات السلكية واللا سلكية .
أهم عناصر الدولة فهي :
الشعب : يعتبر الشعب هو الركن الأساسي، وهو مجموعة من الأفراد يتوافقون على العيش معا في ترابط وانسجام إذ لا يمكن أن نتصور وجود دولة بدون الأفراد اللذين يعيشون بصفة دائمة فوق إقليمها ويخضعون لسلطتها السياسية.
الإقليم : لا يمكن قيام دولة بدون إقليم ثابت ومحدد، كما أن مساحة الإقليم في الدولة الحديثة متفاوتة فمنها ما يغطي مساحة كبيرة من الكرة الأرضية ومنها ما هو ضئيل المساحة ويقسم الإقليم إلى ثلاثة أجزاء هم :
1) الأرضي: يشمل مساحة الأرض ذات الحدود الواضحة سواء كانت طبيعية أم مصطنعة، كما يشمل الإقليم طبقات الأرض وما في باطنها من خيرات وثروات.
2) المائي: يتكون من الأنهار والبحيرات التي توجد داخل حدود الدولة إضافة إلى أجزاء من البحار والمحيطات المتلاصقة لحدود الدولة وهو ما يطلق عليه المياه الاقليمية وقد اختلفت الدول في تحديد المياه الإقليمية للدول ما بين ثلاثة أميال إلى 12 ميلا أو أكثر.
3) الجوي: هو الفضاء الذي يعلو مساحة الإقليم الأرضي والمائي دون تحديد ارتفاعه، ونتيجة لزيادة استخدام الطائرات عقدت دول اتفاقية في ما بينها لتنظيم حركة مرور الطائرات في الإقليم التابع للدولة.
السلطة السياسية : لا يكفي لنشأة الدولة وقيامها وجود شعب يسكن إقليما معينا وإنما يجب أن توجد هيئة حاكمة تكون مهمتها الإشراف على الإقليم ومن يقيمون عليه (الشعب)، وتمارس الحكومة سلطتها وسيادتها باسم الدولة بحيث تصبح قادرة على إلزام الأفراد باحترام قوانينها .

– الحكومة
تعريفات الحكومة :هي النظام السياسيّ الذي يتمّ من خلاله إدارة البلد أو المجتمع وتنظيمه، او أنها شكل من أشكال ممارسة السلطة في المجتمعات , او هي الهيئة التي تمتلك القوة/الشرعية لفرض الترتيبات والأحكام والقوانين اللازمة للحفاظ على الامن والاستقرار فى المجتمع و تنظيم حياة الأفراد المشتركة , او هي السلطة الاعلى ولها مطلق الحرية في التصرف والقدرة على معاقبة المخالفين لقرارات الحكومة , او هي المسؤولة عن وضع السياسة العامة للمجتمع بأكمله، وهي آلية التوجيه لمجتمع معين .
وظائف الحكومة :
1) حفظ النظام : لا يمكن للبشر أن يعيشوا دون سلطة مركزية، وبالتالي فإنّ الحفاظ على السلام الاجتماعيّ هو الهدف الأساسيّ للحكومة .
2) الدفاع ضد الأعداء وحماية المجتمعات من العدوان الخارجيّ .
3) إدارة الظروف الاقتصادية يقع على عاتق الحكومات تهيئة الظروف للنمو الاقتصاديّ، والازدهار الماديّ .
4) ضبط هذه الأسواق من خلال تنظيم حقوق الملكية، وحماية المستهلك، وإنفاذ العقود، وقوانين الصحة والسلامة. إعادة توزيع الدخل والموارد , وتقوم الحكومات بفرض الضرائب بهدف توزيع الاقتصاد، وبالتالي تقوم الدولة باستخدام هذه الأموال في خدمة المواطنين، وعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة تعيد الحكومة توزيع الأموال من الأفراد الأكثر ثراءً إلى الأفراد الأقلّ ثراءً .
يجب على الحكومة ان تتمتع بالخصائص التالية : (السيادة – الشرعية – الاختصاص القضائي – سلطة تنفيذ القانون ) .
أنواع الحكومات
هناك أنواع وأشكال متعددة من الحكومات، من أهمّها: (الملكية المطلقة – الملكية الدستورية – أوتوقراطية – ديموقراطية – فيدرالية- ديكتاتورية – ملكية – جمهورية – أوليغاركية – طبقية – تكنوقراطية – ثيوقراطية – فاشية) .
أما أسس التقسيمات الحديثة لأنواع الحكومات فكثيرة , ابرزها : (الحكومة البرلمانية – الحكومة الرئاسية) .
اما اشكال بعض الحكومات فهي : (حكومة حزب الأغلبية – حكومة ائتلافية – حكومة وحدة وطنية – حكومة انتقالية – حكومة تصريف أعمال44
التمييز بين الدولة والحكومة
ان مفهوم الدولة أكثر اتساعا من الحكومة، حيث أن الدولة كيان شامل يتضمن جميع مؤسسات المجال العام وكل أعضاء المجتمع بوصفهم مواطنين، وهو ما يعني أن الحكومة ليست إلا جزءا من الدولة. أي أن الحكومة هي الوسيلة أو الآلية التي تؤدي من خلالها الدولة سلطتها وهي بمثابة عقل الدولة.
إلا أن الدولة كيان أكثر ديمومة مقارنة بالحكومة المؤقتة بطبيعتها، حيث يفترض أن تتعاقب الحكومات، وقد يتعرض نظام الحكم للتغيير أو التعديل، مع استمرار النظام الأوسع والأكثر استقراراً ودوماً الذي تمثله الدولة.
كما أن السلطة التي تمارسها الدولة هي سلطة مجردة، غير مشخصة: بمعنى أن الأسلوب البيروقراطي في اختيار موظفي هيئات الدولة وتدريبهم يفترض عادة أن يجعلهم محايدين سياسيا تحصينا لهم من التقلبات الأيديولوجية الناجمة عن تغير الحكومات.
وثمة فارق آخر وهو تعبير الدولة (نظريا على الأقل) عن الصالح العام أو الخير المشترك، بينما تعكس الحكومة تفضيلات حزبية وأيديولوجية معينة ترتبط بشاغلي مناصب السلطة في وقت معين 45
وجود الدولة في حياة المجتمعات الانسانية عبر كل العصور فهي التي تمنحنا الأمن و الأمان من خلال جمع الحشد البشري تحت سلطانها وقانونها حتى لتتحول حياة الأفراد الى صراع مرير من أجل تلبية الغرائز التي لحدود لها عند البعض .
ثانياا:لشك أن الإنسان كائن إجتماعي , بمعنى أخر ليمكن أن يعيش بمفرده , لهذا اقتضت الضرورة مبدأ الاجتماع الإنساني باعتباره الوسيلة المثلى لإنتاج النظام والتعاون والتعايش السلمي بين الأفراد, الأمر الذي معه ولد النظام السياسي أو ما يعرف اصطلاحا بفكرة بالدولة .
المعايير الأساسية لقيام الدولة:
المعيار الأساسي لقيام الدولة هو الاستمرار في المكان والزمان والاستقرار في مكان معين لعدة أجيال متلاحقة ومتعاقبة، وبناء مؤسسات تنظيمية تنظم العلاقة بين أفراد هذه الجماعة على أساس المصالح المشتركة والمتبادلة بين الأفراد، إن التحالفات المؤقتة لجماعات توحّدها وحدة المصالح لتعطي نواة دولة" لأن "الدولة ترتكز على مؤسسات دائمة ومن الصعب إقامة أمثال هذه المؤسسات إذا كانت الأرض التي تقوم عليها تتغير باستمرار، أو إذا كان تلاحم الجماعة يتغير تبعا الفصول السنة، ولذلك فإن البدو الحقيقيين ينشئون دولا
إذن الاستقرار وما يصاحبه من تنظيم وبناء المؤسسات عامل مهم في إقامة الدولة وبناء الجسم السياسي لهذه الدولة.
أمّا المعيار الثاني والذي يقل أهمية عن المعيار الأول يتجسد في وجود مؤسسات سياسية فعلية وغير شخصية. فلا يكفي أن توجد جماعات معينة حتى وإن كانت مستقرة ذات طابع قبلي أو مصلحي أو جهوي أن تنشئ دولة، لأن قيام الدولة مرهون بنمو العقل الجمعي والمؤسساتي. "إن تجمعات سياسية ذات طابع أولي أو مؤقت يمكن أن تعمل أحيانا بواسطة علاقات شخصية غير مبنية، مثل اجتماعات الوجهاء والجمعيات المحلية، وعند هذا المستوى قامت بعض العادات والأعراف بخصوص كيفية معالجة مسائل ذات أهمية عامة، وقد أقيمت طرق إجرائية تتيح تسوية المنازعات الداخلية وتنظيم الجماعات المسلحة في حالة الحرب، إلا أنه ل يمكن أن يكفي
لاستمرار الجماعة والاحتفاظ بسيادتها على أرض معينة، وأن تصهر في وحدة سياسية فعلية جماعات موحدة بصورة غامضة بروابط الجوار، وأن تتيح استخداماا أكثر فاعلية لمختلف المواردالبشرية، وتلزم مؤسسات تستطيع البقاء رغم تغيير الرؤساء، وتقلب إرادة التعاون لدى الجماعات الفرعية، وهي مؤسسات تتيح تخصصا معينا في ممارسة الشؤون العامة ومن ثم فعالية أكبر للعملية السياسية، والتي تعزز الشعور بالهوية السياسية للجماعة. وحين تنشأ أمثال هذه المؤسسات يكون قد تم بلوغ نقطة أساسية لأجل تشييد الدولة
لايمكن أن تظهر الدولة كحقيقة عينية بدون معيار الولاء أو الانتماء
إن إنسان اليوم مرتبط أشد الارتباط بالدولة، فهي التي تمنحه الاعتراف القانوني، وكافة المعاملات التي يحتاجها في حياته من الوثائق الرسمية التي تجعله ينتمي إلى هذه الدولة أو تلك.
فالدولة في عالمنا المعاصر: هي التي تعطي الإنسان الاعترافين الرسمي والشرعي بولدته وبموته وبوجوده على الأرض، إن الدولة هي جماعة دائمة ومستقلة من الأفراد يملكون إقليما معينا وتربطهم سياسة مصدرها الاشتراك في الخضوع لسلطة مركزية تكفل لكل فرد منهم التمتع بحريته ومباشرة حقوقه
أما الفرنسي كاريه فعرَّفها: بأنها مجموعة من الأفراد مستقرة على إقليم معين ولها من التنظيم ما يجعل للجماعة في مواجهة الأخطار سلطة عليا آمرة وقاهرة ، بأنها وحدة قانونية دائمة تتضمن وجود جماعة لها حق ممارسة سلطات قانونية معينة في مواجهة أمة مستقرة على إقليم محدد, وتباشر الدولة حقوق السيادة بإرادتها المنفردة وعن طريق استخدام القوة المادية التي تحتكرها
8 نظرية الدولة:
1 نظرية الحق الإلهي: وهي نظرية سيطرت على الحياة السياسية في الحضارات القديمة، وتؤكد - هذه النظرية بأن الدولة ذات مصدر إلهي، وتم إعادة إنتاج هذه النظرية في العصور الوسطى وخاصة في أوروبا، ويعد القديس أوغسطين رائد هذه النظرية، فقد أكّد أن الفكرة أو الديانة المسيحية هي أساس قيام الدولة المثالية، ففي كتابه )مدنية اله( لحظ أن الدولة تنشأ عن عقد وعن مطالب البشر، وإنما تنشأ وتظهر للوجود نتيجة الميول والغرائز الموجودة في الطبيعة الإنسانية والبشرية، والتي يجب كبحها من قبل الدولة والتي تتجسد في رجل اختاره اله ليحكم في الناس وعلى الجميع طاعته بلا شرط وقيد، ومن هنا تصبح الدولة ل غنى عنها من أجل تحقيق السعادة على الأرض والحفاظ على مستقبل النوع البشري من الخطايا والصراعات، فإن نظرية التفويض الإلهي ترى في الملك رمز كل السلطات الدينية والزمنية. وكان الإمبراطور يعتمد على نظرية الحق الإلهي في تأييد سلطته بمعنى أنه مفوض من قبل اله لحكم البشر، وأنه يحاسب أمام اله وحده عن تصرفاته التي قام بها بنا ا ء على ذلك التفويض، ويتحتم على الأفراد بنا ا ء على ذلك الخضوع التام لأوامر الملوك –والأباطرة وإطاعة ما يصدرونه من قوانين، لأن التمرد والمخالفة للإمبراطور )الحاكم( تعد جريمة لتغتفر ذلك أن الخروج عن طاعة الحكام وهم ظل اله في الأرض وخلفاؤه في إدارة شئون عباده والإشراف عليهم، يعد خروجاا عن طاعة اله، ومن هنا يكون الجرم الفظيع الذي يكون محلا للغفران ومن ثم ساد في العصور الوسطى الأوروبية الصراع والتطاحن بين الملوك والباباوات بقصد الستئثار بالسلطات في الدولة. وفي تلك العصور الوسطى تميزت الحياة السياسية والفكر السياسي في الغرب بالصراع بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، أي بين سلطة الإمبراطور وسلطة البابا.
وحين بدأ ذلك الصراع، عرف الشرق الاستقرار السياسي وقيام الحضارة الإسلامية التي كانت الحلقة الغنية التي
ربطت بين الحضارات القديمة الشرقية والإغريقية وبين حضارة العصور الحديثة. إن الحضارة الإسلامية لم تعرف ذلك الفصل، فالخليفة يجمع السلطتين معا، ويرجع ذلك إلى أن الإسلام دين ودنيا، ولم يفصل بالتالي بين الدين والدولة بل جمعهما، وهذا يعد عكس الديانة المسيحية التي تفصل بين الدين والدولة، فالإسلام دين ودولة وليمكن عزل أحدهما عن الآخر، فالدولة في الإسلام شرط قيامها هو البيعة أي بيعة الأفراد المسلمين للحاكم أو الخليفة، والذي يقوم بدوره في تطبيق شرع اله وتنظيم العلاقة بين مكونات المجتمع في إطار من التكافل الجتماعي والتعاضد الأسري، ومن هنا فإن
مفهوم الإدارات اللامركزية عبر التاريخ
وفي نفس الوقت، يحوي تعريف الديمقراطية أيضاً على مغالطات جمة؛ بسبب تحوله لشعار طنان يستخدم في البرامج السياسية للكثير من الأحزاب والدول. وبدافع الضرورة الاجتماعية كان التيار المقاوم للسلطة الدولتية حاضراً دائماً، ويتخذ أشكالاً إدارية تتوافق مع النموذج الذاتي للمجتمع الذي يمكننا تسميته بالديمقراطية. ومصطلح الديمقراطية إغريقي الأصل ويعني “حكم الشعب” لنفسه، هو مصطلح قد تمت صياغته من شقين (ديموس) “الشعب” (كراتوس) “السلطة” أو “الحكم، بمعنى أخر تعني الديمقراطية “قيامُ المجموعاتِ التي لا تَعرفُ الدولةَ أو السلطةَ بإدارةِ نفسِها بنفسِها.” إدارة الذات، هي الشكل الديمقراطي للإدارة المجتمعية، أما الحكم من قِبل فئة أو مجموعة معينة فهو الشكل السلطوي للحكم الذي يفضي إلى استفحال القضايا الاجتماعية.
الدولة وبكافة أنماطها، مركزية بالضرورة وتشكل بؤر السلطة بالأطراف لتقوية حكمها. الصراعات بين أشكال الحكم المركزية واللامركزية قديمة قدم التاريخ، وهي مستمرة إلى يومنا، ألا يقال إن الوقت قد حان للبشرية أن تتخلى عن جهاز الدولة…! الدولة لا تتوافق مع الديمقراطية جينياً، لأن الديمقراطية تعني اللامركزية والمشاركة، التي بدروها تقوض مصالح الفئة المسيطرة. وحتى أكثر الدول عصرية أيضاً، لا تستطيع التخلي عن الحكم السلطوي الذي هو سبب وجودها. فلا شكل الحكم الليبرالي (الوسط) الذي يٍسمى الديمقراطية الليبرالية الذي اعتبره المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما نهاية التاريخ السياسي، ولا المحافظ (اليمين) ولا اليساري أو ما يسمى الديمقراطية الاجتماعية، استطاع التخلص من سحر السلطة وأصلاً كانوا بإحدى المعاني شكلاً مموهاً وشرعياً للسلطة الدولتية.
التاريخ السياسي للبشرية على مفترق طرق وأشكال الإدارة المجتمعية تتجه نحو شكل توافقي يرضي كافة الأطراف إن صح التعبير.
جدلية تاريخية: مازال الجدل محتدماً حول مفاهيم المركزية واللامركزية وتطبيقاتها السياسية اليومية، حيث يبرر الفريق المؤيد للمركزية في الحكم بالمحافظة على النظام وضبط الفوضى والسيطرة على مفاصل الحياة (السلطة الحيوية). أما التيار الذي ينادي باللامركزية فيحاجج على قدرة الوحدات المجتمعية على إدارة الذات ومناهضة السلطة الاقتصادية والاحتكارية التي تجتمع في النظام المركزي بيد القلة الأوليغارشية.
المركزية: تعني المركزية الإدارية بكل بساطة، تركيز وتكاثف السلطة في مركز معين (دولة، فئة، أشخاص) حيث تدار كافة الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من هذا المركز الذي يكون هرمي بالضرورة، ولا يمكن للمستويات الإدارية الأخرى أن تتصرف إلا بناءً على أوامر وتعليمات المركز، حيث صلاحيات اتخاذ القرار محصورة في أشخاص أو مؤسسات محدودة. تمارس المركزية في الدول عن طريق جهاز رئاسي وحكومي مضبوط بشكل صارم، وأي قرار؛ مهماً كان أم بسيطاً يخضع لرقابة وموافقة المركز حصراً، أما الدستور هو الآلة القانونية التي تشرع هذه الممارسات.
الجغرافيا أيضاً تلعب دوراً مهماً في ممارسة السلطة المركزية، حيث تنبثق كل القرارات من مركز جغرافي واحد وهو العاصمة. وبذلك تصبح المناطق المحيطية مهمشة من كافة النواحي الخدمية والإدارية. يمكننا القول على المستوى الدولي بأن السلطة المركزية تمارس على دول المحيط وشبه المحيط أيضاً، ويتدفق رأس المال الاقتصادي والمعرفي من المحيط إلى المركز وبالتالي يصبح المركز القوة الاحتكارية الكبرى في المجتمع والنظام الدولي. هذا النسيج من العلاقات السلطوية تفرضها الحكومات بالبيروقراطية الصارمة على شعوبها داخلياً.
من آفات النظام المركزي أنه يعرقل عملية الإدارة الاجتماعية، وهذا ما يسبب حالة من الاستياء عند المجتمع. حيث البطيء في إنجاز المعاملات نتيجة الروتين الإداري والتعقيد بسبب كثرة الرئاسات المتعددة في الإدارة المركزية. من ناحية أخرى تفرض الإدارة المركزية حلول موحدة على قضايا مختلفة، كون القرار يكون بيد قلة قليلة من الأفراد الذين ينظرون إلى كافة القضايا من منظور واحد.
لم تشكل المركزية حلاً إدارياً للقضايا المطروحة، بل أدت إلى تراكم المشاكل والقضايا وبالتالي تكون النتيجة الحتمية هي “الأزمة”
اللامركزية
أصبحت اللامركزية من الاصطلاحات الدارجة كثيراً في الإعلام والرأي العام وخاصة بعد أزمات ما يسمى بالربيع العربي. اللامركزية تعني مشاطرة الإدارة مع الكل وممارسة الديمقراطية المباشرة. حيث توزع الوظائف الإدارية بين الأقاليم والوحدات الإدارية الصغيرة. وفي الأدبيات السياسية المعاصرة، تعني إعطاء دور أكبر للمجتمع المدني. بشكل جوهري اللامركزية تعني تقويض السلطة.
تعطي اللامركزية دوراً رئيسياً للإدارات المحلية التي تعتمد على المجالس والكومونات وممارسة الديمقراطية المباشرة نوعاً ما. ويعاد ترتيب العلاقات الاجتماعية وعلاقات القوة من أصغر الوحدات الاجتماعية إلى المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الكبرى.
ومن مقتضيات اللامركزية هو أن تكون السلطات المحلية متمتعة بالاستقلال الإداري والاقتصادي والخدمي عن المركز. وتفعيل دور الكومونات والتعاونيات والبلديات المحلية. اللامركزية تعني مشاركة أكبر عدد ممكن من الناس في صنع القرار والتفاعل والمشاركة.
بعكس الإدارات المركزية، تفسح الإدارة اللامركزية المجال أمام إيجاد أفضل الحلول وفي زمن مختصر لأكثر القضايا تعقيداً. فلو كانت مدينة ما أو شارع ما بحاجة للكهرباء، فالإدارة المحلية ستسرع في إيجاد الحل وسيشارك أبناء ذاك الحي أو تلك المدينة في هذه العملية دون اللجوء لموافقة العاصمة.
كون الكل يشارك في الإدارة في النظام اللامركزي، فالحلول المتنوعة والأفكار المبتكرة تكثر للمشاكل اليومية والقضايا الكبيرة العالقة، ويتم التخلص من الأسلوب الوحدوي المتبع لحل كل المشاكل كما في الإدارة المركزية.
للنظام اللامركزي ميزة أخرى مهمة جداً تفتقدها الأنظمة المركزية، ألا وهو “انخفاض نسبة المخاطر الناجمة عن قرار خاطئ”، حيث تكون النتائج محصورة فقط في القطاع المحلي الذي اتخذ فيه القرار الخاطئ. أما القرار الغير صحيح في النظام المركزي، فهو يدفع بكامل جسم النظام للمرض والتضرر.
وأخيراً يمكننا القول بأن كل إدارة تتجه نحو اللامركزية، بحاجة للدستور الذي تكمن وظيفته في وضع الترتيبات القانونية بين الإدارة المحلية والمركز.46
فلنتعرف على بعضٍ من أنماط اللامركزية في الحكم.
أنماط اللامركزية في الحكم
تُرتكب الكثير من المغالطات أثناء الانعكاف على شرح أنماط اللامركزية بالحكم، والقانون الدولي لم يعط التعريف الكافي والوافي لهذه الاصطلاحات السياسية. فاصطلاحات الحكم الذاتي والإدارة المحلية والإدارة الذاتية وشبه الاستقلال الديمقراطي تختلف عن بعضها من ناحية المعنى السياسي الإداري، وهنالك تشويش بصدد ذلك في القانون الدولي. الإدارة الذاتية تعني بكل وضوح إدارة المجتمع لشؤونه الخاصة (الاقتصادية والإدارية) من تلقاء ذاته، عن طريق المجالس والكومونات دون اللجوء لمؤسسات الدولة وتعتمد على الديمقراطية المباشرة. وتحترم الوحدة الترابية للدولة. الإدارة المحلية أيضاً تشبه نوعاً ما الإدارة الذاتية ولكنها جزء من مؤسسات الدولة، ولا تتمتع بالاستقلالية السياسية أو ما شابه. لنتعرف على شبه الاستقلال الديمقراطي والحكم الذاتي بشكل مفصل47.
شبه الاستقلال الديمقراطي
استخدم اصطلاح شبه الاستقلال الديمقراطي من قِبل المفكر عبد الله أوجالان الذي طرح هذا المفهوم ضمن إطار نظرية العصرانية الديمقراطية (الأمة الديمقراطية – الاقتصاد الكومونالي – الصناعة الإيكولوجية)، حيث يمثل الجسد السياسي والإداري لمجتمعات الأمة الديمقراطية.
تعتمد هذه النظرية من الناحية النسقية على جدلية المدنية المهيمنة المركزية – الحضارة الديمقراطية، حيث يمثل شبه الاستقلال الديمقراطي الشكل المعاصر من الإدارة الذاتية للمجتمع البشري ضمن مسيرة تاريخ الحضارة الديمقراطية (الذاكرة الجمعية). وإن كانت تشترك مع الحكم الذاتي والإدارة المحلية ببعض الخصائص ولكنها نموذج مختلف من حيث الممارسة السياسية والجوهر الديمقراطي.
يعتمد شبه الاستقلال الديمقراطي على الديمقراطية المباشرة والمشاركة الفعالة في الإدارة ويتخذ من الكومونات والمجالس الذاتية الوحدة الأصغر للقرار السياسي والإداري في المجتمع. “فمجتمعات شبه الاستقلال الديمقراطي هي مجتمعات سياسية كومونالية فعالة تأخذ من النظام اللامركزي أساساً في نشاطاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ككل متكامل. وتؤمن بأن السلطةَ المركزيةَ واقعٌ استثنائيّ، بينما السلطةُ المحليةُ هي القاعدةُ الرائجة.”
لا ترفض الدولة ولا تسعى للتدول بل تحافظ على شكلها شبه المستقل، وتسعى للتوافق الديمقراطي مع الدولة حيث الدستور الديمقراطي الضمانة القانونية لأقاليم شبه الاستقلال الديمقراطي. وللسياسة الديمقراطية دور كبير في إيصال التوافق الديمقراطي مع الدولة إلى أعلى مستوياته. السياسية الديمقراطية تعتمد على شقين في النضال السياسي مع الدولة والسلطة، حيث تعمل جاهدة على الوصول لتوافق دستوري قانوني وتدفع كافة الشرائح المجتمعية لمزاولة السياسة بفعالية وحرية تامة. حيث تمارس الديمقراطية وتعمل على دمقرطة مؤسسات الدولة والعمل معها ضمن إطار “الجدلية الإيجابية” إذ تعترف بالوحدة الوطنية الديمقراطية للدولة والمجتمع الديمقراطي.
يجب الانتباه إلى أن مجموعات شبه الاستقلال الديمقراطي هي مجموعات اجتماعية متعددة ومختلفة ثقافياً وإثنياً ودينياً وهويتها الاجتماعية هي الأمة الديمقراطية كتعبير ذهني عن كافة الشرائح والمكونات، وتنظم الشرائح ذاتها ضمن إطار المجتمع المدني الديمقراطي48.


الحكم الذاتي بالقانون الدولي؛ الاصطلاح والتعريف
اصطلاح الحكم الذاتي هو الأكثر تداولاً في القوانين الدولية والرأي العام، وكما أسلفنا سابقاً، للإدارات اللامركزية بنية تاريخية عميقة، وإن كان يعتبر من المفاهيم الحديثة في العلوم السياسية، ولكنه كان دائماً وأبداً، حاضراً في الذاكرة الجمعية للمجتمع.
من الناحية الاصطلاحية، الحكم الذاتي هو ترجمة للكلمة الإنجليزية «self-law» أي القانون الذاتي أو«self-government» بمعنى الاستقلال الذاتي أو القدرة على الحكم الذاتي. يتشابه اصطلاحا الأتونومي والديمقراطية، سِّيمَنطِيقيَاً (علم المعنى) ومن ناحية المنشأ. فاصطلاح الأتونومي autonomia إغريقي الأصل، (auto) بمعنى الذات، و (nomia) أو ((nomos الذي يعني القانون أو الحق، أي القدرة على أن يحكم الإنسان نفسه بنفسه، أو بمعنى آخر، القدرة على سن القوانين للذات. أما الديمقراطية، التي تعني حكم الشعب، فتأتي في السياق نفسه، من حيث البنية الاصطلاحية والعملية.
اكتسب مفهوم الحكم الذاتي، بعداً قانونياً دولياً، وتم التنصيص عليه في مواثيق الأمم المتحدة، الفصل الحادي عشر، المادتان 73/74. ينص في المادة 73 على أن يقرر أعضاء الأمم المتحدة – الذين يضطلعون في الحال أو في المستقبل بتبعات عن إدارة أقاليم لم تنل شعوبها قسطاً كاملاً من الحكم الذاتي – المبدأ القاضي بأن مصالح أهل هذه الأقاليم لها المقام الأول، ويقبلون أمانة مقدسة في عنقهم، الالتزام بالعمل على تنمية رفاهية أهل هذه الأقاليم إلى أقصى حد مستطاع في نطاق السلم والأمن الدولي الذي رسمه هذا الميثاق
إذاً يمكن اعتبار الحكم الذاتي، كشكل من أشكال الإدارة اللامركزية الشبه استقلالية، التي تعتمد على إدارة الشؤون الخاصة، بالتوازي مع الحكومة المركزية، أي توزيع السلطة بأشكالها الثلاثة (التنفيذية والتشريعية والقضائية)، بين المركز والأطراف.
تجدر الإشارة إلى أن الليبرالية تصبغ أشكال الحكم اللامركزية هذه بالصبغة القوموية أو الدينية تحت مسمى “الحقوق الفردية”، وبدل الحل السياسي تتعمق الأزمة ويزداد الطين بلة. ومن أسوأ تطبيقات هذا النموذج الشاذ والمنحرف هما مثالاً البوسنا والعراق، حيث إلى الآن تتنامى النعرات الطائفية والعنصرية في هذين البلدين، الذين أهلكتهما الحرب الأهلية.
النقطة الثانية التي يجب التطرق إليها هو دفع الليبرالية لهذه الإدارات نحو التدوّل، وهنا يظهر أمامنا نموذجا كردستان العراق وكتالونيا الإسبانية، حيث فشلت محاولة الإقليمين في التعبئة القوموية والخطاب الشعبوي المبتذل، الذي تم من خلاله تطعيم مطالب المجتمع الديمقراطية بمصالح الفئة البرجوازية المسيطرة، وطبعاً جوبه بعنف شديد من قِبل السلطات المركزية. وهذا ما يمكننا تسميته بسفسطات الليبرالية بخصوص حق تقرير المصير49.

الحكم اللامركزي والاتحادي عبر التاريخ
شكل نظام الاتحادات القبائلية والعشائرية الطواعية فترة طويلة جداً من التاريخ البشري، بالتوازي مع النظام المركزي المهيمن. كانت دول المدن السومرية تتمتع بشبه استقلالية إدارية واقتصادية، حيث لكل مدينة معبدها ورموزها وآلهتها المقدسة، لكاش، أوروك، إريدو وغيرها من المدن المستقلة التي مازالت تمثل أهم معالم الحضارة العالمية. حافظت مدن وقرى ميزوبوتاميا العليا تجاه الحضارة السومرية على استقلالها وشبه استقلالها الإداري والسياسي، حيث كانت آلهة الجبل نينهورسانج هي الحامية لبلادها من الاستعمار الأجنبي.
تعتبر دولة المدن الرومانية والإغريقية (ديمقراطية أثينا) وحتى دول المدن الإيطالية أثناء عصر النهضة استمراراً للتقاليد الإدارية السومرية الشبه استقلالية، واستمر هذا النمط من الحكم إلى يومنا الراهن، بأشكال مختلفة.
تمتعت الأنظمة الإمبراطورية الموناركية المركزية، بنوع من المرونة فيما يتعلق بإعطاء دور للإدارات المحلية، خلافاً للدولة القومية التي تعتمد على المركزية المفرطة والهوية النمطية المتجانسة.
أسباب التمتع بالإدارات المحلية
يمكننا تعداد أسباب تمتع الإدارات المحلية بنوع من شبه الاستقلال في ظل الإمبراطوريات كما يلي:
1. الجغرافيا: كان التباعد الجغرافي إحدى العوامل المهمة التي كانت تحد من المركزية في الحكم، لذا خفت السيطرة والتحكم بالأطراف من قبل المركز، وأعطي بعض الدور للإدارات المحلية في إدارة شؤون العامة.
2. الهوية: لعبت الهوية الدينية أو القبائلية الجامعة دوراً كبيراً في استقلالية المناطق بالأطراف. الهويات في الإمبراطوريات مرنة ومتفاعلة، بعكس الهويات القومية التي تتمحور حول أمة واحدة.
يجدر الإشارة إلى أن أنظمة الحكم في هذه الإمبراطوريات لم تكن ديمقراطية، بل مركزية موناركية أو ثيوقراطية مثل الدولة الإسلامية، وكانت تسمح للأقاليم بحيز من الإدارة بشرطين أساسيين:
1. الولاء للحاكم والإمبراطورية.
2. دفع الضريبة.
التاريخ الإسلامي حافل بهذه الأشكال في الحكم، حيث تمتع نظام الحكم في الحضارة الإسلامية بنوع من الاستقلال المحلي والإداري بحكم توسع نفوذها على أراضي جغرافية شاسعة واختلاف الثقافات والإثنيات المنضوية تحت راية الإسلام.
تعتبر وثيقة المدينة أو دستور المدينة، الذي تمت كتابته فور هجرة النبي محمد إلى يثرب (المدينة المنورة) 27 أيلول من عام 622م، من أهم إنجازات الحضارة الإسلامية. ويمكن تسميته بالدستور المدني أو التوافق الديمقراطي إن جاز التعبير. كانت المدينة المنورة أو طيبة الطيبة كما يسميها المسلمون، تحوي ثقافات وقبائل شتى وكلها ذات منشأ ساميّ. حيث كان سكانها من القبائل العربية واليهودية كقبيلتَي الأوس والخزرج العربيتَين والقبائل اليهودية (قبائل بني قَينقاع وبني النضير وبني قرَيظة)، ومع هجرة نبي الإسلام محمد إليها، ازداد عليهم المهاجرون وأنصار الإسلام من المدينة. هذا التنوع الثقافي والقِبَلي والإيديولوجي أفرز معه الحاجة إلى عقد اجتماعي ينظم العلاقات والشؤون الإدارية السياسية للمجتمع، وما صحيفة المدينة سوى تعبير عن الوحدة السياسية في ذاك الزمن.
أنشئ دستور المدينة نتيجة محادثات نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم مع رؤساء القبائل العربية واليهودية في المدينة ونتيجة لذلك تم وضع بنود الدستور الذي يتألف من 52 بنداً حسب اتفاق العلماء، بمشاورة واتفاق جميع الفرق والقبائل. نص الدستور على احترام العقائد والاختلافات والوحدة بينهم، حيث يشار وفي أكثر من بند إلى القبائل اليهودية والعربية وإن لها ما لغيرها، حيث يقال في إحدى البنود “وَبَنُو عَوْف عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى، كُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيَهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ.”
معاهدة المدينة أهم عقد اجتماعي مكتوب في التاريخ الكوني للمنطقة، حيث كانت تعتمد على المشاركة في الإدارة (الديمقراطية) والاتحاد الطوعي بين القبائل والعقائد المختلفة (الإدارة الذاتية).
بعد وفاة النبي محمد، دخلت الحضارة الإسلامية طوراً جديداً من أطوار السلطة وتوسع نفوذها الإمبراطوري. كانت الخلافة الراشدية بادئها والإمبراطورية العثمانية خاتمها إذ بدأت بعدها مرحلة التحول القومي والدولة القومية. كان الصراع محتدماً بين الفرق والمذاهب الإسلامية على شكل الحكم والإدارة، بين السلطة المركزية والمجموعات المصرة على الديمقراطية واللامركزية (الخوارج – العلويون – المتصوفون – الفلاسفة والعلماء المسلمون وغيرهم).
شهد عصر الخلافة الراشدية تحولات جمة في المفاهيم وخارطة النفوذ الإسلامي في المنطقة آنذاك، وكانت المناطق الداخلة تحت النفوذ الإسلامي بالأطراف تتمتع بحكمها الذاتي، بالإضافة لدفع الضرائب من قِبل غير المسلمين. فكانت الأقاليم أو ما كانت تسمى الولايات تدار من قِبل والي يعينه الخليفة، وتدار الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والإدارية بالتداخل مع الحفاظ على المبادئ العامة للشريعة الإسلامية.
وحتى العصور العباسية كان هنالك حيز للأقاليم بتشكيل مجالسها الذاتية وإدارتها بما كان يسمى مجلس ديوان الشورى. وظلت المجموعات المجتمعية والفكرية محافظة على حالة المقاومة لديها تجاه الحكم الإمبراطوري، بدءاً من الفلاسفة المسلمين إلى المجموعات المقاومة كالقرامطة.
فتح شبه الاستقلال الممارس في ظل الإمبراطورية العباسية الطريق للتطور والنهضة الفكرية أيضاً، حيث أعيد البحث في الفلسفات الشرقية القديمة واليونانية. وما عصر النهضة الإسلامية ما بين القرنين الثامن والثاني عشر سوى تعبير ذهني عن تلك المرحلة.
كانت الإمبراطورية العثمانية أو ما كانت تسمى الدَّوْلَةُ العَلِيَّةُ العُثمَانِيَّة (1299م – 1923م)، تعتمد على نظام الإيالات أو الإدارات الذاتية (المختارية) في الحكم، منذ دخول العثمانيين للقسطنطينية 1453م، وتوسع الإمبراطورية العثمانية جغرافياً، ووجود الكثير من الثقافات (العربية والكردية والتركية) تحت سقف الإمبراطورية، ولـّد معه نوعاً من شبه الاستقلال المحلي للثقافات والشعوب الموجودة في كنف الإمبراطورية، ومن هنا بدأ نظام الإيالة (وهي كلمة مشتقة من كلمة “Êl” الكردية ويستخدمها الفرس أيضاً). كانت الإيالات تقسم إلى ألوية أو ما كانت تسمى بالـ “السنجق”، وأما السناجق، فكانت تتكون من عدد من الأقضية، والقضاء كان يقسم لعدد من النواحي، يتبع لها عدد من القرى، ولكل سنجق، حاكم تعينه السلطة المركزية للإمبراطورية، وكانت الإمبراطورية تتألف من حوالي 50 إيالة.
تمتع الكرد بنوع من شبه الاستقلال، في ظل الإمبراطورية العثمانية، وكان عدد الإمارات الكردية، يزيد على العشرين إمارة، ويسمي المؤرخون، تلك المرحلة، بمرحلة الإمارات. كانت كردستان قبل سنة (1514م) تسود فيها إمارات مستقلة مشغولة بتنظيم شؤونها الداخلية، لكن سوء معاملة الشاه إسماعيل الصفوي إضافةً إلى الاختلاف المذهبي أدى إلى انضمام أكثرية الإمارات إلى جانب الدولة العثمانية فضلاً عن جهود ملا إدريس البدليسي الذي لعب دوراً كبيراً في استمالة الكرد إلى جانب الدولة العثمانية، في عام (1515م) قام العلامة إدريس، بعد تفويضه من قبل السلطان العثماني، بعقد اتفاقية مع الأمراء الكرد، يتضمن اعتراف الدولة العثمانية بسيادة تلك الإمارات على كردستان وبقاء الحكم الوراثي فيها ومساندتها عند تعرضها للغزو أو الاعتداء مقابل أن تدفع الإمارات الكردية رسومات سنوية كرمز لتبعيتها للدولة العثمانية وأن تشارك إلى جانب الجيش العثماني في أية معارك تخوضها الإمبراطورية إضافة إلى ذكر اسم السلطان والدعاء له من على المنابر في خطبة الجمعة. تضمن هذا الاتفاق اعترافاً من الدولة العثمانية ً بالسلطات الكردية.
لم تكن للإمبراطورية العثمانية، هوية قومية محددة وصارمة، بل كانت العثمانية هي الهوية الأعلى لكل الثقافات الأخرى. وأصلاً، رفض العثمانيون، الهوية التركية القومية، حيث كانوا يعتبرونها تخص المقاتلين وفئة معينة من المجتمع العثماني، فقد كان التعدد الثقافي والإثني، هو الطاغي على الهوية الاجتماعية للإمبراطورية، وإن عاشت في الفترة الأخيرة من عمرها، ما نستطيع تسميته بأزمة الهوية.
يجدر بالذكر هنا بأن الشعوب العربية والكردية والأرمنية وغيرها من الشعوب التي كانت تعيش في كنف الإمبراطورية العثمانية، ثاروا ضد سياسات التتريك والطورانية الممارسة من قبل جمعية الاتحاد والترقي وتركزت مطالبهم في الإدارة الديمقراطية اللامركزية (الأمة الديمقراطية) ولكن هذه المطالب أجهضت بمؤامرات دولية محبوكة، ورجحت كفة الدولة القومية الأتاتوركية (الشعب الجمهوري) والبعثية العروبية (عفلق والحوراني وغيرهم) على الميول الديمقراطية، وبالتالي طبق سيناريو الإبادات العرقية والثقافية بحق شعوب وثقافات المنطقة وقصة المجتمع الكردي من الأمثلة البارزة للعيان50.

الحكم اللامركزي
تجارب الحكم اللامركزي والاتحادي في العالم المعاصر: كل الثورات المعاصرة الفرنسية والأمريكية والروسية وغيرها، كانت تحمل الطابع الديمقراطية ضد الاستبداد الإمبراطوري المركزي. وبعد إعدام لويس السادس عشر باشر الفرنسيون فوراً ببناء مجالسهم وإدارتهم الذاتية الديمقراطية وما الثورة الفرنسية الرابعة وتتويجها بكومونة باريس سوى أهم الأمثلة على الميول الديمقراطية واللامركزية للثورات. كان شعار الثورة بسيطاً “مصدر الحكم والسيادة هو الشعب” الذي حُرِف وتحول إلى “الدولة تمثل الشعب وبالتالي على الدولة البرلمانية القومية أن تحكم” السوفيتات (المجالس) الروسية التي ظهرت في روسيا أثناء الثورة الروسية الأولى 1905م بالمبادرة الذاتية للمجتمع كانت مثالاً ساطعاً على الإدارة الذاتية واللامركزية الديمقراطية.
بعد الحروب الدينية والقوموية التي أودت بحياة الملايين من البشر، اتجه المجتمع الدولي نحو الإدارات اللامركزية الديمقراطية وإن بنحو جزئي51.
إسبانيا
تعتبر التجربة الإسبانية من أشهر تجارب الحكم الذاتي اللامركزي في العالم، ومن منا لم يسمع بمحاولات إقليم كتالونيا، الهادفة للاستقلال.
من الناحية الجغرافية، تقع إسبانيا في جنوب غرب أوروبا، وتبلغ مساحتها 504.030 كم²، حيث تعتبر من أكبر الدول مساحة في أوروبا الغربية، ويعتبر موقعها الجغرافي استراتيجياً، إذ تعتبر إحدى بوابات العالم الإفريقي والمغرب العربي على الغرب، ومنذ آلاف السنين مر الهومو نياندرتال Homo Neanderthalensis عبر هذه الأراضي نحو القارة العجوز، وانضمت إلى الاتحاد الأوروبي في عام 1992م.
في ثلاثينات وأربعينيات القرن المنصرم وفي ظل التمدد الألماني النازي، والشيوعي الستاليني، اندلعت الثورة الإسبانية التي طغى عليها الطابع الأناركي، وإن سيطرت فيما بعد الجبهة المضادة بقيادة الجنرال فرانسيسكو فرانكو على الثورة، إلا أن الروح الثورية المجتمعية لم تخمد وعادت إسبانيا بدستور جديد للمملكة، يعتمد على الديمقراطية واللامركزية. يعتبر الدستور الإسباني لعام 1978 من أهم إنجازات إسبانيا التاريخية، حيث تمتعت الأقاليم بنوع من شبه الاستقلال وإدارة الشؤون الذاتية. تم التصديق على الدستور، نتيجة استفتاء شعبي عليه في 6 كانون الأول عام 1978، حيث صوت 88 ٪ من الناخبين لصالح الدستور الجديد، وصدر الدستور في 29 كانون الأول في نفس السنة.
منذ ذلك الحين، تتألف إسبانيا من 17 من مناطق الحكم الذاتي ومدينتين ذاتيتي الحكم وبدرجات متفاوتة من الحكم الذاتي، وفقاً لدستور البلاد، الذي يؤكد في الحين نفسه، على وحدة التراب الإسباني. لا يوجد دين رسمي للبلاد، وينص الدستور على الحرية الدينية، وللمرأة تمثيل جيد في مجلسي النواب والشيوخ.
نظام إسبانيا هو نظام ملكي دستوري، وراثي من ملك وبرلمان من مجلسين، والمحاكم العامة. السلطة التنفيذية تتكون من مجلس الوزراء برئاسة رئيس الحكومة (مماثل لرئيس وزراء) يقترحه الملك وتنتخبه الجمعية الوطنية بعد الانتخابات التشريعية.
تتألف إسبانيا تنظيمياً من أقاليم ذاتية الحكم حيث إنها إحدى أكثر البلدان غير المركزية في أوروبا إلى جانب سويسرا وألمانيا وبلجيكا. على سبيل المثال، يمتلك كل إقليم برلماناً منتخباً خاصاً إضافة إلى حكومة وإدارة عامة وميزانية وموارد ونظم وغيرها كما تدار الصحة والتعليم إقليمياً، إلى جانب ذلك، تدير بلاد الباسك ونافارا أيضاً مالياتها العامة الخاصة بالإقليم. بينما توجد في كتالونيا وبلاد الباسك قوة شرطة تستبدل بعض وظائف الشرطة المركزية.
ينص الدستور الإسباني، على وحدة الاختلاف ضمن الأمة الواحدة، وهو مكتوب في التمهيد، حيث يقال: الأمة الإسبانية، راغبة في إقامة العدل والحرية والأمن وتشجيع ما هو في صالح شعبها، وفي إطار ممارستها لسيادتها، تعلن عن إرادتها في: ضمان التعايش الديمقراطي طبقاً للدستور والقوانين ووفقاً لنظام اقتصادي واجتماعي عادل. حماية كل الإسبان وكل شعوب إسبانيا في ممارستهم لحقوق الإنسان وثقافاتهم وتقاليدهم ولغاتهم ومؤسساتهم.
يعترف الدستور الإسباني بحق الأقاليم في الحكم الذاتي وإدارة الشؤون الخاصة، حيث يشدد في المادة الثانية على أن يقوم الدستور على وحدة الأمة الإسبانية التي لا تنفصل، وطن كل الإسبان الذي لا يقبل التجزئة؛ ويضمن ويعترف بحق الحكم الذاتي للقوميات والمناطق التي يتكون منها ويضمن ويعترف بالتضامن فيما بينها.
ينص في المادة 143 من الفصل الثالث، على حق الأقاليم في إنشاء حكمها الذاتي، وفق ما يلي: يحق للمحافظات المتجاورة التي تتمتع بخصوصيات تاريخية وثقافية واقتصادية مشتركة والجزر والمحافظات التي تشكل كياناً تاريخياً أن تتمتع بالحكم الذاتي وتكون مجتمعات حكم ذاتي في إطار ممارسة حق الحكم الذاتي المنصوص عليه في المادة 2 من الدستور، وفقاً لما ينص عليه هذا الباب وطبقاً لما تحدده أنظمتها الأساسية.
من المواد المهمة في الدستور الإسباني، هو الحماية القانونية التي تؤمنها الدولة لمناطق الحكم الذاتي، حيث يشار في المادة رقم 147 من الفصل الثالث إلى ما يلي: تعتبر أنظمة الحكم الذاتي وفقاً لما ينص عليه الدستور بمثابة القاعدة القانونية الأساسية لكل مجتمع من مجتمعات الحكم الذاتي وتعترف به الدولة وتحميه بصفته جزءاً مكوناً لنظامها القانوني.
في المادتين الثالثة والرابعة، يعتبر كل من ثراء مختلف الأنماط اللغوية بإسبانيا تراثاً ثقافياً يحظى باحترام وحماية خاصين، ويعترف بموجب الأنظمة الأساسية لمجتمعات الحكم الذاتي بأعلام ورايات تلك المجتمعات. وترفع هذه الأعلام والرايات إلى جانب علم إسبانيا فوق البنايات العمومية وفي المناسبات الرسمية الخاصة بهم.
يشار في البند السادس من المادة 135 في الباب السابع “الاقتصاد والمالية” من الفصل الثاني “سن القوانين”، إلى حق الأقاليم المتمتعة بالحكم الذاتي، في تحديد الميزانية المالية، حيث تتخذ مجتمعات الحكم الذاتي، وفقاً لقوانينها الداخلية وفي الحدود المنصوص عليها في هذا الفصل الإجراءات الضرورية من أجل التطبيق الفعلي لمبدأ الاستقرار في قوانينها وقراراتها الخاصة بالميزانية.
أما في حال النزاعات حول الصلاحيات بين الدولة ومجتمعات الحكم الذاتي أو فيما بين هذه المجتمعات، فإن المحكمة الدستورية تتدخل لحل الموضوع52.
سويسرا
لا توجد فيها لغة واحدة بل أربع لغات، لا هوية عرقية للبلد، تتألف من 26 كانتونأ مستقلاً، تعترف بحرية الاعتقاد والدين، وتشدد على المساواة بين المرأة والرجل.. الكونفدرالية السويسرية. تقع سويسرا في قلب القارة العجوز بين خمس دول، وهي ألمانيا من الشمال وإيطاليا من الجنوب والنمسا وإمارة ليختنشتاين من الشرق وفرنسا من الغرب، وتبلغ مساحتها حوالي 41300 كم2. ترجع نشأة الاتحاد السويسري الديمقراطي إلى عام 1291م عندما اجتمعت ثلاثة كانتونات وهي شفيتس وأونترفالدن ويوري، ووقّعت ميثاق تحالف دفاعي فيما بينها، يعرف باسم “الميثاق الدائم”، وانضمت المقاطعات واحدة تلو الأخرى للاتحاد وكانت تتمتع باستقلال شبه تام. بعد حروب طاحنة عصفت بالبلاد، انبثق الدستور الجديد لسويسرا عام 1848م والذي أقيم بموجبه نظام ديمقراطي فيدرالي، حيث تمّ اعتماد حكومة فدرالية ذات سلطة وصلاحيات وتحددت مدينة برن عاصمة للفدرالية السويسرية، وما زالت إلى يومنا هذا، وغدت سويسرا تضم اليوم 26 كانتوناً. وفي طوال تاريخها السياسي، حافظت على موقفها شبه المحايد من الحروب والصراعات العالمية.
مر الدستور السويسري بالكثير من التغييرات والتعديلات إلى أن وصل إلى شكله الحالي. تتألف الكونفدرالية السويسرية من 26 مقاطعة شبه مستقلة، ونظام الحكم يعتمد على الديمقراطية المباشرة عن طريق البلديات والمجالس، ويتألف جهاز الحكم من مجلسي النواب والشيوخ. حيث يشار في المادة الأولى من الدستور بأن؛ الاتحاد السويسري يتكون من الشعب السويسري والمقاطعات الآتية: زيورخ، بيرن، لوسيرن، أوري، شفايتز، أوبفالدن ونيدفالدن، جلاريس، تزوج، فرايبورج، سولوتورن، مدينة بازل وريفها، شافهاوزن، ابنزل أوسرهودن وابنزل انرهودن، سانت جالين، جراوبوندن، آرجاو، تورجاو، تسينو، فو، فالي، نيوشاتيل، جينيف، وجورا.
في المادة الثالثة يعترف باستقلالية المقاطعة وسيادتها؛ تتمتع المقاطعات بالسيادة طالما أن دستور الاتحاد لم يحد من هذه السيادة. كما تمارس المقاطعات كافة الحقوق التي لم تفوض إلى الاتحاد.
الأمة السويسرية ليست أمة عرقية، بل تؤمن بالتعدد الثقافي واللغوي ضمن إطار الأمة القانونية. حيث يشار في المادة الرابعة إلى أن اللغات القومية في سويسرا هي الألمانية، والفرنسية، والإيطالية، والرومانشية.
ينص الدستور السويسري على المساواة أمام القانون، ومذكور في البند الثاني من المادة الثامنة بأنه لا يجوز التمييز بين الناس بسبب الأصل أو العرق أو الجنس أو العمر أو اللغة أو الوضع الاجتماعي أو طريقة الحياة أو الاعتقاد الديني أو الفلسفي أو السياسي ولا بسبب الإعاقة البدنية أو العقلية أو النفسية.
تتمتع المقاطعات السويسرية بشبه الاستقلال السيادي الدستوري والسياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي، حيث لا يتدخل الاتحاد في شؤون المقاطعات إلا في حالات الضرورة، وللمقاطعات حريتها الإدارية، أي وحسب المادة 47 من الدستور يحترم الاتحاد استقلالية المقاطعات.
يعتبر النموذج السويسري من أهم الأمثلة على الأمة القانونية والحكم المحلي الديمقراطي. ولكم هو مؤسف، أن يعيش الشرق الأوسط الذي كان يوماً ما مثالاً على التعددية والديمقراطية والأصالة، في معممان الحروب القوموية والدينية القذرة التي أفقدت رونق الشرق الجاذب53.
الإمارات العربية المتحدة
نظام الاتحادات اللامركزية ليس مقتصراً فقط على القارة العجوز، حيث نشهد أنظمة مماثلة في الخارطة الشرق أوسطية أيضاً ومن الأمثلة البارزة للعيان الإمارات العربية المتحدة أو ما كانت تسمى الإمارات المتصالحة أو ساحل عمان. تأسست الإمارات العربية المتحدة واتخذت شكلها الحالي في سبعينيات القرن المنصرم، وبالتحديد استناداً إلى دستور 1971م، حيث تتكون من سبع إمارات اتحادية ويشار إلى ذلك في المادة الأولى من الدستور؛ الإمارات العربية المتحدة دولة اتحادية مستقلة ذات سيادة، ويشار إليها فيما بعد في هذا الدستور بالاتحاد. ويتألف الاتحاد من الإمارات التالية: أبو ظبي – دبي – الشارقة – عجمان – أم القيوين – الفجيرة – رأس الخيمة.
تتمتع الإمارات بشبه استقلالية اقتصادية وإدارية ضمن الاتحاد نفسه، حيث تلغى الرسوم الجمركية بين الإمارات وتشكل إمارات الاتحاد وحدة اقتصادية وجمركية وتنظم القوانين الاتحادية المراحل التدريجية المناسبة لتحقيق تلك الوحدة. وينص في المادة العاشرة للدستور على ما يلي؛ مع احترام كل إمارة عضو لاستقلال وسيادة الإمارات الأخرى في شؤونها الداخلية في نطاق هذا الدستور.
بالرغم من اعتبار الدين الإسلامي واللغة العربية الدين واللغة الرسميين في الاتحاد، إلا أن جميع الأفراد لدى القانون سواء، ولا تمييز بين مواطني الاتحاد بسبب الأصل أو الموطن أو العقيدة الدينية أو المركز الاجتماعي.
تتكون السلطة الاتحادية من المجلس الأعلى للاتحاد ورئيس الاتحاد ونائبه ومجلس وزراء الاتحاد والمجلس الوطني الاتحادي والقضاء الاتحادي، حيث يتم تمثيل كل إمارة في مجلس الاتحاد الذي يعتبر السلطة الأعلى في البلاد. تدار السلطة في الاتحاد بصيغة تشاركية لامركزية وينوب عن كل إمارة ممثل في المجالس الإدارية، فمثلاً يتكون المجلس الوطني الاتحادي من 34 مقعداً موزعاً بين الإمارات، حيث لإمارة أبو ظبي 8 مقاعد ودبـي 8 مقاعد والشارقة 6 مقاعد ورأس الخيمة 6 مقاعد وعجمان 4 مقاعد وأم القيوين 4 مقاعد والفجيرة 4 مقاعد. أما في حالة النزاعات والمآزق بين الإمارات، فالمحكمة الاتحادية هي السلطة القضائية العليا لإيجاد الحلول المناسبة54.
كردستان العراق
تعتبر تجربة الحكم الذاتي في الجزء الجنوبي من كردستان، من التجارب الفتية في المنطقة، حيث تم توقيع اتفاقية الحكم الذاتي لإقليم جنوب كردستان، بين الحكومة العراقية آنذاك ومصطفى البرزاني في 11 آذار 1970م مع الإبقاء على قضية كركوك عالقة في الأجندة.
نموذج الفيدرالية العراقية، هو نموذج مشوّه ويعتمد على المحاصصة الطائفية والإثنية في السلطة تحت مسمى الحقوق الفردية وحق تقرير المصير بمعناه القومي الليبرالي. تتكون السلطة الاتحادية في العراق من السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتضم السلطة التشريعية مجلسي النواب والاتحاد.
ينص في المادة 116 من الفصل الأول في الباب الخامس على النظام الاتحادي اللامركزي في العراق وفق ما يلي؛ يتكون النظام الاتحادي في جمهورية العراق من عاصمة وأقاليم ومحافظات لامركزية وإدارات محلية ويعترف بالإقليم الذاتي لكردستان العراق في المادة 117 “يقر هذا الدستور عند نفاذه إقليم كردستان، وسلطاته القائمة إقليما اتحادياً.55
سوريا وتجارب اللامركزية بالحكم: بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918، سقطت الولايات العربية في السلطنة العثمانية بأيدي دول الحلفاء، وكانت سوريا، كما لبنان، من نصيب فرنسا بموجب اتفاقية سايكس-بيكو مع بريطانيا عام 1916.
لم تكن الميول القومية هي الطاغية على المشهد السياسي آنذاك، بل الميول الديمقراطية واللامركزية بالحكم هو كان المطلب الرئيس، لثقافات المنطقة. وفي الفترات اللاحقة، سيشارك الكرد والدروز والعلويون مع الإثنيات والطوائف الأخرى، في إنهاء الاحتلال الأجنبي، وبناء الجمهورية السورية. أما الأفهام التي تقلب التاريخ، وتشرحه باللغة العرقية والقومية، فلا تدرك بأن سوريا العربية وكل الدول الأخرى، هي وليدة اتفاقيات دولية، لا تمس الواقع المجتمعي التعددي والديمقراطي للمنطقة. وكل الشعارات الطنانة التي صموا الآذان بها، مثل وحدة – عربية – اشتراكية، هي أصلاً شعارات قوموية ومستوردة من الخارج، عفلق لم يبتدعها من رأسه، بل هي لرجل ماسوني قوموي إيطالي، اسمه جوزيبي ماسيني. كل ما فعلوه، هو إعادة تشكيل الوعي التاريخي للمجتمع السوري وصياغته بما يوائم مصالحهم.
في 8 مارس لعام 1920 أعلن عن المملكة السورية، بقيادة الملك فيصل الأول. وتم كتابة أول دستور لسوريا، في نفس العام، حيث شكل المؤتمر السوري لجنة خاصة برئاسة هاشم الأتاسي مهمتها صياغة دستور المملكة وجاء الدستور باثني عشر فصلاً و147 مادة. وإن كان نظام الحكم حسب الدستور، هو ملكي، ولكنه كان في الوقت ذاته، يشدد على النظام المدني النيابي، حيث كان المؤتمر السوري العام يتألف من مجلسي الشيوخ والنواب، فالنواب كانوا ينتخبون شعبياً، أما مجلس الشيوخ، فكان ينتخب من قبل مجلس النواب ويعين جزء منهم من قبل الملك. أما المحكمة الدستورية العليا فتتألف من /16/ عضواً نصفهم منتخبون من قبل مجلس الشيوخ والنصف الآخر من رؤساء محاكم التمييز. يشار في الدستور أيضاً إلى أن البلاد تدار حسب النظام اللامركزيّ ولكل مقاطعة مجلسها النيابي وحكومتها الخاصة وحاكمها المعيّن من قبل الملك ولا يتدخل أحد بإداراتها وشؤونها الداخليّة إلا في الأمور العامة التي هي من اختصاص الحكومة المركزية. وهذا هو النص الحرفي للمادة الثانية من الدستور: “المملكة السورية تتألف من مقاطعات تشكل وحدة سياسية لا تقبل التجزئة.” لم تدم هذه الحكومة الفيصلية إلا فترة محدودة من الزمن، حيث تدخل الفرنسيون وأقاموا حكومة انتدابية جديدة محل القديمة.
اللافت للانتباه، والذي قد يثير الجدل، في الفترات اللاحقة، هو أن “سوريا” وليست العروبة، كانت الهوية الجامعة للثقافات المختلفة التي كانت تعيش في كنف المملكة. ولم يظهر، مفهوم “الجمهورية العربية السورية” في عام 1946، إلا بعد المرور بما يسميه الأستاذ كمال ديب “مرحلة الدولة الوطنية” التي أسسها، العرب والكرد والدروز والعلويون وغيرهم من الإثنيات والطوائف الدينية في هذه البقعة الجغرافية.

سوريا التاريخية والسوسيولوجية
سوريا من الناحية التاريخية والسوسيولوجية، غير صالحة لأن تكون دولة قومية، فالتعددية المذهبية والإثنية لا تسمح بذلك. ضمت سوريا في الحدود التي انتهت إليها عام 1946 جماعات دينية وإثنية ولغوية متعددة: فقد بلغ عدد الجماعات المذهبية 16 طائفة، ومثّل السنّة زهاء 75 بالمئة من السكان يليهم العلويون بنسبة 12 – 15 بالمئة، ثم الروم الأرثوذكس بنسبة 5 بالمئة فالدروز 3 بالمئة، ثم بقية الطوائف المسيحية من موارنة وروم كاثوليك ولاتين وبروتستانت وسريان، إضافة إلى الإسماعيليين في جبل السلَميّة إلى شرق جبال العلويين، وأقلية صغيرة جداً من الشيعة الإثني عشرية والإيزيديين وعدد ضئيل من اليهود، وبلغ مجموع المسيحيين في سوريا نسبة 12 بالمئة من السكان. [27] أما على الصعيد الإثني، فقد بلغ عدد الإثنيات خمساً: عرب وكرد وأرمن وتركمان وسريان/أشوريون وشركس.
كان التنظيم الإداري السياسي للمجتمعات – الثقافات الكردية والعلوية والدرزية في سوريا تنظيماً ذاتياً، معتمداُ على البنية القبائلية العشائرية، وشارك أبناؤهم في حرب التحرير والاستقلال وبناء الجمهورية السورية، بل كانوا من بناة سوريا الفتية والديمقراطية آنذاك.
تعرضت جغرافية كردستان للتجزئة القسرية التي فرضت من قبل الاحتلال الأجنبي والنظام الدولي آنذاك، حيث قسمت كردستان إلى أربعة أجزاء وفق معاهدات سايكس بيكو 1916م وسان ريمو 1920م ولوزان 1923م، ولم تكن سيفر إلا وعوداً معلقة بالهواء، وتعبيد الأرضية للإبادة بحق الكرد.
وقع الجزء الغربي من كردستان تحت نفوذ الحدود المرسومة للدولة التي سميت لاحقاً سوريا، حيث توزع الكرد جغرافياً من ديرك أقصى الشرق السوري، إلى عفرين (جبل الأكراد) في أقصى غربه، وينتشرون في المدن السورية الكبرى كحلب ودمشق. يشكل الكرد 20 بالمئة من سكان سوريا ولعبوا دوراً تاريخياً في تأسيس سوريا، التي بقوا مهمشين فيها مثلهم مثل إخوانهم في الأجزاء الأخرى من كردستان.
شارك الكرد السوريون بشكل فعّال في بناء صرح الجمهورية السورية، وكان لهم دور بارز في مرحلة ما يمكننا تسميته التحول الديمقراطي. ولكنهم تعرّضوا للتهميش على يد الحزب البعثي العربي وعانوا الويلات، وتم تجريدهم حتى من حق المواطنة والجنسية السورية، ونسوا بأن الكرد في سوريا مثلهم في تركيا، كانوا من أهم مؤسسي سوريا المعاصرة، ومن منا لا يعرف قصة الشاب الكردي سليمان الحلبي ذو الأصول العفرينية من قرية كوكان بالتحديد، الذي قتل قائد الجيش الفرنسي كليبر.
تصدى الكرد مع المكونات الأخرى في سوريا للاحتلال الفرنسي، حيث كان لهم مساهمتهم الجديرة بالذكر، من معركة ميسلون إلى الثورة السورية الكبرى. قاتل وزير الحرب في المملكة السورية أيام فيصل، يوسف العظمة ببسالة وشجاعة كبيرة ضد الاحتلال الفرنسي 1920م فيما يسمى واقعة ميسلون. وعندما سئل هل تستطيع إيقاف الزحف الفرنسي؟ فأجاب: لن أدع التاريخ يسجل إنهم دخلوا سوريا بدون مقاومة!
مثل المكونات الأخرى طالب الكرد أيضاً بحكم ذاتي محلي يديرون به شؤونهم الخاصة. حيث أرسل وجهاء عشائر الجزيرة، أثناء توقيع فرنسا معاهدة مع الحكومة الوطنية في دمشق في ثلاثينيات القرن المنصرم، مطالبهم إلى فرنسا، طالبين فيها إعطاء دور أكبر لمكونات المنطقة لإدارة شؤونهم الذاتية، وقد سلم الدكتور كاميران بدرخان وحاجو آغا مذكرة وقع عليها أكثر من مئة شخصية من رؤساء العشائر والمخاتير والتجار الكرد والوجهاء المسيحيين، باليد إلى المندوب الفرنسي في بيروت. وبسبب عدم موافقة الفرنسيين والحكومة في دمشق على مطالبهم، نزلت مكونات الجزيرة إلى الشوارع وأعلنوا عن تمسكهم بمطالبهم، التي سرعان ما تحولت إلى مقاومة مسلحة. وعن مطالب الكرد يقول الشاعر جيكر خوين ما يلي “في الحقيقة كان هدفنا أن ينال الكرد في سوريا حقوقهم القومية والإنسانية، أي أن نتمتع بحقوقنا في سوريا في ظل العلم السوري مع إخواننا الآخرين بعد رحيل فرنسا، لأننا نخشى أن يصيبنا ما أصاب إخواننا الكرد في ظل حكم الأتراك والفرس، وفي النهاية حدث ما كنا نخشاه.
الدور الذي لعبته فرنسا لم يكن يختلف عن الدور البريطاني في العراق ومناطق نفوها الأخرى، فهي بريطانيا نفسها التي قسمت الهند إلى هند هندوسية وباكستان إسلامية، ومارست فرق تسد بوحشية لا مثيل لها في التاريخ السياسي للعالم. هذا ما فعلته فرنسا، دفعت سوريا إلى القوموية ومارست فرق تسد بنجاح موفق، إلى أن ظهرت البعثية الشوفينية التي أدخلت سوريا إلى عصور مظلمة.
مر العلويون السوريون بتجربة حكم ذاتي بدعم الفرنسيين ولكنها لم تكتمل، بسبب الميول الدولتية لبعض زعمائها وتحريض القوى القوموية (التي تشكلت خارجاُ مثل العربية الفتاة) وغيرها من المؤامرات السياسية. حتى القرن العشرين كان العلويون معروفين باسم النصيريين، وتم تداول اصطلاح العلويين من قِبل الفرنسيين. عانى العلويون من المذاهب السنية المتسلطة خلال كافة العهود الإسلامية وآخرها العثمانيون الأتراك، لذلك تمركزوا في الجبال مثل الأقليات الأخرى.
مع بداية دخول الفرنسيين لسوريا، وخاصة الساحل السوري، جوبهوا بمقاومة شرسة من قبل العلويين بقيادة صالح العلي. ولكن هذه المقاومة لم تدم ومع حلول 1921م سيطر الجيش الفرنسي بشكل كامل على جبال العلويين. في عام 1922م أقام الفرنسيون في تلك الجبال “الدولة العلوية” المرتبطة عضوياً باتحاد مع الدويلات السورية الأخرى، حيث كان الهدف إقامة حكم اتحادي فيدرالي، ولم يصل المشروع لمبتغاه.
كان للعلويين دور كبير في الجيش السوري حيث تمتعوا برتب ومناصب عليا، وانتهت التجربة الديمقراطية للعلويين، أما سيطرة العلويين على الدولة السورية بعد انقلاب حافظ الأسد، وانحسار الميول الديمقراطية، فجلب معه مذهبية باطنية تحت غطاء القوموية العروبية الخرافية التي أوصلت سوريا إلى حرب الأرمجدون، التي ذهب ضحيتها الآلاف والآلاف..
طائفة الموحدين الدروز من أهم طوائف سوريا ويتمركزون في السويداء وبعض مناطق حوران في الجنوب السوري وشمال غرب سوريا. ويعود أصل الدروز إلى الشيعة الإسماعيلية وإلى مصادر صوفية في الإسلام. حيث جمعوا بين الإسلام والمذاهب الصوفية الشرق أوسطية، وحتى تأثروا بالفلسفة اليونانية القديمة، وما تسمية “شيخ عقل” لكبار رجال الدين عند الدروز إلا تيمناً بفلسفة “العقل” إن صح التعبير.
كما للكرد والعلويين والعرب والمسيحيين وغيرهم من الثقافات والإثنيات الأخرى، فللدروز أيضاً دور مهم جداً في بناء الجمهورية السورية (الدولة الوطنية)، ومن منا لم يسمع ببطولة سلطان باشا الأطرش الدرزي زعيم الثورة السورية الكبرى عام 1925م.
الثورة السورية الكبرى
كانت الثورة السورية الكبرى (1925 – 1927) ثورة وطنية ضد الاحتلال الفرنسي وبمشاركة كافة الإثنيات والطوائف. كان الحس الوطني الديمقراطي وميول الأمة الديمقراطية المتعددة، طاغية على ميول الأمة – الدولة التي ترسخت بفضل ميثولوجيات جمال عبد الناصر وحزب البعث العربي الاشتراكي. حيث وتحت مسمى الدولة الواحدة، تمت ممارسة إبادة ثقافية بحق المكونات الأخرى في سوريا. واتهم كل ميل ديمقراطي لامركزي بالانفصالية، وتجذرت القوموية والشوفينية الحزبية.
أعلنت سوريا استقلالها في 25 نيسان عام 1946م، وكانت الجمهورية المتأسسة حديثاً تعيش صراعاً داخلياً بين الديمقراطية والتيار القوموي السلطوي. ظهرت آنذاك في سوريا العشرات من الأحزاب السياسية، من الحزب الشيوعي بقيادة خالد بكداش إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي بقيادة أنطون سعادة. نشطت الأحزاب القومية كثيراً في سوريا ولكنها لم تلقَ الحاضنة الشعبية المرجوة، كون الفكر القومي كان غريباً جداً بين السوريين المتعددي الهويات والإثنيات والمذاهب. والمثير للاستغراب والخليق بالبحث هو أن قواد الفكر القومي كلهم على وجه التقريب كانوا قد درسوا وعاشوا في فرنسا فترة طويلة متأثرين بالقوموية والثورة الفرنسية. كانت الطبقة الجديدة المتشكلة للتو، طبقة هوجاء واستشراقية لا تعي تاريخ شعوب المنطقة بعمق، كل ما سعوا إلى فعله هو إعادة إنشاء الوعي التاريخي للمجتمع السوري، كانوا مهندسي النظام الاستعماري الجديد، فلا يمكن تعريف القوموية سوى إنها ذهنية استعمارية فظة، لا تمت بصلة للواقع السوسيولوجي للمنطقة. وإن أردنا التعبير عن الموضوع بلغة السياسة، فانتشار الفكر القوموي والدولة القومية، يعني تعبيد الأرضية الإيديولوجية لإسرائيل في المنطقة، التي ولدت بالتزامن مع انتشار هذا السرطان في الجسد الاجتماعي للشرق الأوسط.
“مدرسة واحدة جميع المواطنين، والمدرسة الواحدة كفيلة بأن تخلق عقلية متجانسة موحدة”، هذا هو شعار الدولة العروبية القوموية المثالية التي نادى بها زكي الأرسوزي (1899م – 1968م)، التجانس والوحدة والتنميط والأمة الواحدة واللغة الواحدة والتاريخ الواحد والعرق الواحد، كأنه يراد إنشاء أمة اعتماداً على علم الوراثة حسب المفهوم النازي الهتلري. كل شيء بدأ مع ما كان يسمى “عصبة العمل القومي” التي أسسها زكي الأرسوزي الضابط العلوي من لواء إسكندرون، الذي تدرب ودرس في السوربون الفرنسية. إنه السلف المشترك لكل التيارات العروبية القوموية الخرافية، وأصلاً هذا النوع مع الفلسفات كان غريباً عن المجتمع الشرق المتعدد الإثنيات والأديان والمذاهب، ولكنه كان البضاعة الرائجة في السوق العالمي وقتها، فلا رأسمال بدون قومية، بدون سوق قومية وميثولوجيا الروح الوطنية والحدود والأمة.. الرأسمالية (الشبكة الاحتكارية التي أمست نظاماً عالمياً ونسقاً متكاملاً منذ القرن السادس عشر) كانت بحاجة لخرافة الروح القوموية والدولة القومية، حيث كانت الدول ذات السيادة، تدفع تكاليف الإنتاج وتحمي أموال الرأسماليين في البنوك وتؤمن لهم الشرعية القانونية، وما الدول القومية سوى شركات خرافية منشأة ذهنياً، وسرطان اجتماعي يتناقض والطبيعة التعددية للمجتمعات البشرية. تأثر الأرسوزي بالفلسفات الفرنسية والقوموية الشائعة في القارة العجوز، وآمن بأن السيادة يجب أن تكون للشعب (أهم مبدأ في الثورة الفرنسية 1789م) وأخذ عن الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون (1859م – 1941م) المثالية الفرنسية وترجم تلك الروح إلى العروبة والأمة العربية الخالدة…! كيف يؤمن الناس بذلك، كأن تؤمن مثلاً بأن الاستهلاك يجلب السعادة، إنها أضحوكة حقاً أن يصل العقال (الإنسان العاقل) إلى هذه المرحلة…!
لا ننكر الحركة التي قادها الأرسوزي ضد الاحتلال التركي للواء إسكندرون في ثلاثينيات القرن المنصرم، ولكنها لم تعطِ نتائجها المطلوبة، حيث احتل اللواء من قبل الأتراك وبمباركة فرنسية عام 1939م. يمكننا اعتبار الأرسوزي الأب الروحي للقومية العربية والبعث العربي الذي أنتج ديكتاتوريات مثل جمال عبد الناصر وصدام الحسين.
كانت اللبنات العقائدية الإيديولوجية قد وضعت، فبنى عليها كل من ميشيل عفلق (1910م – 1989م) وصلاح البيطار (1912م – 1980م)، القوة التنظيمية والترجمة العملية لهذه الأفكار التي ستحول سوريا فيما بعد إلى دولة الأمة الواحدة المذهبية والاستخباراتية العسكرتارية. درس عفلق والبيطار أيضاً في السوربون الفرنسية وتخرجا منها عام 1934م وتتلمذا على يد زكي الأرسوزي. يعتبر ميشيل عفلق اسما بارزاً جداً في الإنشاء التنظيمي والإيديولوجي لحزب البعث ومطور للفكر القوموي العروبي، ويشكل منعطفاً هاماً وتاريخياً لسوريا. ينتمي عفلق إلى أسرة مسيحية أرثوذكسية ذات أصول يهودية حسب بعض المؤرخين، ولد في دمشق وأكمل دراسته الجامعية في باريس. بعدها عاد إلى دمشق وتنقل بينها وبيروت والقاهرة وبغداد. توفي في مشفى في باريس عام 1989م. تأثر عفلق بحركة الانبعاث الإيطالي بزعامة جوزيبي مازيني فحملها بأهدافها إلى الواقع العربي واستورد من الفكرة الإيطالية أهداف (الوحدة – الحرية – الاستقلال) ثم استبدل الاستقلال بالاشتراكية.
في البداية أنشأ الثنائي عفلق والبيطار ما يسمى “حركة الإحياء العربي” وسرعان ما تخليا عن ذلك واستخدما اصطلاح “الانبعاث” حيث قررا أن ما يجري في الأمة العربية هو انبعاث وليس إحياء فقط، وسبق أن استخدم هذا الاصطلاح من قِبل الأرسوزي. تم الإعلان عن حزب البعث العربي في 7 نيسان عام 1947م، وتم فتح فروعه في أغلب البلدان العربية. اندمج حزب البعث العربي مع الحزب العربي الاشتراكي الذي يقوده أكرم الحوراني عام 1952م، وبهذه الشاكلة ولد ما يسمى “حزب البعث العربي الاشتراكي”.
حزب البعث العربي الاشتراكي
أسس حزب البعث لمفهوم العروبة الصارمة والعنصرية، حيث اعتبر عفلق الأمة العربية فوق كل الأمم ووجودها أزلي ومنها ظهرت كل الحضارات، وما الإسلام سوى هدية العروبة للبشرية. كما أتاتورك تركيا وهتلر ألمانيا، حاول عفلق إعادة بعث الأمة العربية من جديد بالعمل الأخلاقي والروحي (برغسون) واعتبر الحس العربي حساً فطرياً ومتعالياً، وليست الأمة العربية طبقات حسب المفهوم الماركسي بل مجتمع أمة يتكون من أفراد متجانسين واعين لذواتهم العروبية. فكل شيء يخضع للمصلحة العليا للأمة العربية المجسدة في الحزب الطليعي مثل تجسد الإله في المسيح لنصرة المظلومين، فيضع الحزب الشمولي المجتمع في عزلة تامة عن الخارج وكأنه مراقب من الأخ الأكبر كما وصفه جورج أوريل في روايته المشهورة “1984”. فنحن أمام ثلاثي مقدس الأمة – السوق – الوطن على شاكلة الثلاثيات اللاهوتية المقدسة مثل الإله – الملك – العبد في الملكيات العبودية القديمة والأب – الابن – الروح القدس في المسيحية الكاثوليكية.
كان الشعار الطنان الأهم للبعثية هو الوحدة العربية، حيث أصبح هوساً للبعثيين الذين ما فتئوا يبحثون عن آلية لتطبيق هذه الأفكار العنصرية تحت سقف واحد وعلم واحد وملك واحد ووطن واحد وجيش واحد. وهذا ما حصل فعلاً حيث اتحدت مصر وسوريا بين عامي 1958م و1961م. وهنا بدأت الفاجعة ودولة الانحطاط وانعدام الديمقراطية وخرافة الأمة الواحدة في سوريا، وبلغة السوسيولوجيا ولجنا عصر رأسمالية الدولة والأمة العربية. فرضت الناصرية السلطة الاستخبارتية العسكرية على سوريا وتم حل كل الأحزاب السورية وكانت وحدة اندماجية ناصرية، وأعلن الرئيسان جمال عبد الناصر وشكري القوتلي عن ولادة الجمهورية العربية المتحدة في 1 شباط عام 1958م من القاهرة، وفي 21 شباط وافق استفتاء شعبي شكلي على الوحدة الاندماجية بين البلدين وأصبح عبد الناصر الرئيس المنتخب بنسبة 99/100 بالمئة للجمهورية العربية المتحدة. وبهذه الشاكلة تم تصفية الديمقراطيين والشيوعيين وكافة الميول الديمقراطية واللامركزية التي كانت موجودة إلى وقتها في سوريا. وبعد صراع طويل بين الناصرية والبعثية نفسها ونتيجة ظروف دولية ودعم إقليمي للانقلاب النحلاوي ضد الاندماج، انتهت الوحدة بين البلدين، ودخلت سوريا في مرحلة دولة الظلام البعثية..
بعد الانفصال الذي وقع في 28 أيلول من عام 1961م، تغير اسم الجمهورية العربية المتحدة، إلى الجمهورية السورية ولكن سرعان ما أصبحت الجمهورية العربية السورية. وبعد سلسلة انقلابات عسكرية، عاد البعث للمشهد السياسي والعسكري بقوة بعد أن تم حله أعوام 1958م. حصل الانقلاب العسكري البعثي بقيادة الضباط صلاح جديد وحافظ الأسد ومحمد عمران، مدعومين من ميشيل عفلق والقيادة المدنية للبعث، في الثامن من آذار عام 1963م وسميت “ثورة الثامن من آذار”.
دمّرت الأفكار القوموية وممارساتها الفظيعة من قبل حزب البعث العربي الاشتراكي بنية المجتمع السوري التعددي، ومارس نوع من الهندسة الاجتماعية تحت مسمى الأمة العرقية الصافية أو ما يصح تسميته بفاشية الدولة القومية. وتم تهجير الآلاف من الكرد من قراهم وبيوتهم ومورست عليهم سياسات الإقصاء والدمج والحرمان من المواطنة والحقوق الإنسانية بكافة أشكالها. حيث يشكل مشروع الحزام العربي أهم إنجاز لحزب البعث العربي الاشتراكي وإيديولوجيته الوضعية المبتذلة. تم تطبيق هذا المشروع الفاشي المقترح من قبل الملازم البعثي محمد طلب هلال في سبعينيات القرن المنصرم الذي كان يهدف إلى تغيير ديمغرافية المنطقة وبناء الأمة الخالدة الصافية. اقترح المشروع في عام 1963م ودخل حيز التنفيذ في أعوام 1973م. حيث يقول هلال في مسودة مشروعه ما يلي: “إذاً يمكننا القول، إنه ليس هنالك شعب بمعنى الشعب (الكردي)، ولا أمة بكاملها، بمعنى الأمة الكردية. ليست المشكلة الكردية الآن، وقد أخذت في تنظيم نفسها، إلا انتفاخ وَرَميّ خبيث، نشأ، أو أنشئ في ناحية من جسم هذه الأمة العربية، وليس له أي علاج، سوى بتره.” ويقترح سياسات التجهيل والتجريد وممارسة الإبادة الثقافية والعطالة عن العمل والتهجير الداخلي والخارجي على الكرد في سوريا وخاصة مناطق الجزيرة السورية. والباقي معروف فالتاريخ بوصلة الحقيقة دائماً وأبداً.
بعد صراعات طويلة بين الأجنحة العسكرية والسياسية في الدولة السورية وخاصة بعد خسارة حرب 1967م مع إسرائيل، قاد حافظ الأسد مع بعض الضباط البعثيين انقلاباً عسكرياً في 16 تشرين الثاني عام 1970 ضد الضابط صلاح جديد ورئيس الجمهورية آنذاك نور الدين الأتاسي وسجنهما وسمى الانقلاب في الأدبيات البعثية بـ “الحركة التصحيحية”. ودخلت سوريا مرحلة الدولة البعثية الشمولية التي يقودها الحزب الواحد، ثم تحولت لدولة العائلة والمذهب. لن ندخل في تفاصيل الأحداث بعدها، حيث كان الحكم يعتمد على المركزية المفرطة والعسكرتارية الاستخباراتية والنظام الشمولي وغياب تام للديمقراطية بكافة أشكالها.
الهدف من هذا السرد المقتضب لتاريخ سوريا، هو الإشارة إلى أن الطبيعة المجتمعية لسوريا، غير قابلة لأن تضبط في دولة قوموية أحادية، بل اللامركزية والأمة الديمقراطية والجمهورية الديمقراطية التعددية هي النموذج المناسب لهذا الموزاييك الثقافي. حيث إن أسطورة الدولة القومية والعروبة، هي التي أوصلت سوريا إلى باب هادس (الجحيم) وعبدت الأرضية لظهور جحافل العصر ودولتهم الداعشية المهزومة56.

هل نموذج الإدارة الذاتية اللامركزية هو حل للمعضلة السورية؟
أفرزت الأزمة السورية التي بدأت 2011م وباتت على مشارف دخولها عامها التاسع، نماذج جديدة بالإدارة لا سيما الدولة المركزية أصبحت هشة وغير مستساغة من قبل المجتمع السوري بكافة مكوناته. حافظت مكونات شمال وشرق سوريا على مناطقها منذ مطلع 2012م وبالتحديد من تاريخ التاسع عشر من تموز وأعلنت الإدارات الذاتية التي تعتمد على الديمقراطية المباشرة عن طريق الكومونات والمجالس. بُعيد الانتهاء العسكري من داعش ودولته المزعومة على يد قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، تدخل سوريا مرحلة جديدة من تاريخها، أو ما يمكن تسميته مرحلة “البحث عن الحل”.
مازال الخطاب الإقصائي المتعالي والقوموي لحكومة دمشق مستمراً رغم سنوات الحرب التي أهلكت المجتمع وراح ضحيتها أكثر من 500 آلف شخص ودمرت البنية التحتية بما يقدر 400 مليار دولار، وهجرت أكثر من نصف المجتمع إلى الخارج بالإضافة لظاهرة الهجرة الداخلية، وارتفاع نسبة البطالة وشح الموارد الرئيسية الحياتية، بالإضافة لانقسام سوريا على مستوى النفوذ حيث النظام ومن ورائه روسيا وإيران يسيطر على قرابة 60 بالمئة من الأرض، أما الاحتلال التركي والمجموعات المسلحة التابعة له فيحتل قرابة 15 بالمئة من الهلال الشمالي الغربي في سوريا، و30 بالمئة تحت نفوذ الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة من التحالف الدولي بقيادة أمريكا. بالرغم من ذلك مازالت الحكومة المركزية الهشة في دمشق، مصرة على لغة التهديد والفوقية والاتهام بالانفصالية والتزعم بالسيادة (اعترفت أمريكا 25 آذار 2019 بشكل رسمي بالسيادة الكاملة لإسرائيل على هضبة الجولان)، حيث اجتمعت قيادات أركان الجيوش السورية والإيرانية والعراقية في 18 آذار 2019 في دمشق، وهدد وزير الدفاع السوري العميد علي أيوب مناطق شرق الفرات وعرض خياري ما سماه المصالحات الوطنية أو تحرير الأراضي التي تسيطر عليها قسد بالقوة بطريقة غير لائقة تعمل على تأزيم الوضع السوري أكثر فأكثر.
لن تحل الأزمة السورية إلا بسبل الحوار الديمقراطي السوري السوري ودمقرطة الدولة السورية. لا أحد سيقبل بسوريا مركزية تحكمها دولة البوليس والاستخبارات بعد الآن، وأصلاً طبيعة المجتمع السوري المتعدد لا تتوافق مع هكذا نظام صارم ومنغلق على ذاته (كما ذكرنا سابقاً). يجب العمل على إجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية وبناء دستور حقيقي يتخذ من اللامركزية والديمقراطية والتعددية أساساً، وفتح الأبواب للأحزاب السياسية والمجتمع المدني للعب دوره، حيث ستلعب الأحزاب دوراً مهماً في سوريا المستقبل.
يمكن للمكونات العلوية والدرزية والكردية والسريانية وغيرها من الشعوب المكونة للموزاييك السوري، العمل على توحيد الجهود المشتركة ودمقرطة الدولة وحثها على الاعتراف الدستوري بالإدارات المحلية الذاتية والديمقراطية التشاركية، حيث الهوية السورية الديمقراطية هي الهوية الجامعة لشتى الإثنيات والمذاهب والأديان57.
“نحو الدولة الوطنية” كيف ستصاغ العلاقة مع الحكومة المركزية؟
الدستور الديمقراطي هو الذي يحدد شكل العلاقة بين الحكومة المركزية ومناطق الإدارات الذاتية. حيث يجب أولاً الاعتراف القانوني والدستوري بشبه استقلالية هذه المناطق، وترتيب العلاقات الإدارية في ظل الحكم الاتحادي الديمقراطي. نستطيع اعتبار العقد الاجتماعي لشمال وشرق سوريا كمسودة مشروع متكاملة، تعتمد على اللامركزية الديمقراطية والتعددية السياسية والاتحاد – التوافق الديمقراطي.
كشبه الاستقلال الاقتصادي، السياسي، العسكري والثقافي. منها أيضاً رفع علم الحكومة المركزية على المؤسسات، دمج القوى العسكرية بالقوات العامة مع الإبقاء على خصوصية القوى المحلية الذاتية، مشاطرة الاقتصاد والثروات، تطوير التعليم الذاتي والمتوافق مع تاريخ المنطقة والبلد، إعطاء صلاحيات أكبر للمجالس والسلطات المحلية، وكل هذه الخطوات تبدأ من الاعتراف الدستوري والقانوني.
ما هو شكل الحكم المناسب للتوافق الديمقراطي؟ هي الدولة الوطنية. إذاً ما هي الدولة الوطنية؟ هي الدولةُ المرتكزة على أساسِ المجتمعات المحققةِ لِتَحَوُّلها الوطني. وهي دولةُ العصر الحديث (العصر الرأسمالي بمعناه الضيق). ولا تقتصر على العصر الرأسمالي فحسب، بل وتُشَكِّل الوضعَ السائدَ أساساً في العصر الديمقراطي أيضاً، أو بالأحرى تؤدي دورها بإدارةِ دفةِ الحكم بالوفاق (الدولة + الديمقراطية). هذا وبالإمكان القول بوجودِ الدولة الوطنية عندما تتواجد كلتاهما، أي عندما يسود نظامُ الدولة + الديمقراطية. وهي تختلف عن دولةِ الأمة من حيث قدرتها على احتضان العديد من الأمم.
لا يختلف مشروع النظام السوري الذي يتخذ من الدولة القومية المركزية أساساً عن مشروع المعارضة، التي تروج لمشروع “دولة المواطنة” التي تصب في نفس خانة النظام السوري ومشروعه. المهم هو النقاش ودعم الوفاق الديمقراطي بين جميع القوى، والدولة الوطنية أو الجمهورية الديمقراطية هي حل توافقي لكل الشعوب والمكونات.
لا يمكن التكهن بمستقبل سوريا في ظل الصراع الإقليمي والدولي على أرضها، حيث تتصارع خمس قوى إقليمية ودولية فيها “أمريكا – روسيا – إسرائيل – إيران – تركيا”، ولكل قوة مصالحها الخاصة في خوض الحرب ووضع شروط السلم. لذا على السوريين الحوار والتوافق على أسس الدولة الوطنية الديمقراطية، فالكرد والعرب والدروز والعلويون وغيرهم، هم أصحاب سوريا الحقيقيون وبنّاؤو الجمهورية السورية الديمقراطية، وإلا لن يختلف مصير سوريا عن البوسنة والعراق58.
نمر بمرحلة عصيبة من تاريخ ما يسمى “حضارتنا الإنسانية”، التي تطوي في داخلها أيما توحش وبربرية وحتى همجية أكثر من همجية جنكيز خان نفسه. في ظل أزمة “المنظومة العالمية” بكافة بنائها وهياكلها السياسية والاقتصادية والمعرفية، تظهر لدينا خيارات متعددة من رحم أزمة النسق القائم، وكل ما هو مطلوب هو الاختيار الصحيح والممارسة السياسية الصحيحة.
بالرغم من تعنت الدولة القومية وانغلاقها الأيديولوجي، ولكن يمكن العيش معها تحت سقف قانوني، يعتمد على العقلية التشاورية. حيث إن النضال القانوني والدستوري مهم جداً للمجتمعات الديمقراطية التي تسعى لإنشاء نظامها الخاص، وطبعاً من غير المنطقي أن تتطلع المجموعات إلى التدول والسلطة على غرار ما تحاول الليبرالية عرضه وكأن الانفصال أو التدول هو الشكل الوحيد لممارسة حق تقرير المصير.
يتحدث يورغن هابرماس عما يسميه “المواطنة الدستورية” و”العقلانية التواصلية” التي تشكل الإطار أو الفضاء الأنسب للمجتمعات لممارسة حقها الديمقراطي قانونياً، ومن الأجدر تسميته بالتوافق الديمقراطي بين القوى الدولتية والمجتمعية الديمقراطية.
النظام الرأسمالي العالمي ينهار من الناحية البنيوية والمعرفية، وبات المجتمع العالمي الكوني أمام خيارات جديدة وقد تكون أسوأ من السابقة، ومن الناحية الكوانتية قد يكتب المناضلون الحقيقيون التاريخ هذه المرة أو لا، فلا شيء مؤكد في ظل هذه الفوضى الكونية…!59

الإحالات والهوامش
1. .دور منظمات المجتمع المدني في التحول الديمقراطي في مصر "2011 ... https://democraticac.de/?p=46938
2. نفس المرجع
3. نفس المرجع
4. نفس المرجع
5. نفس المرجع
6. نفس المرجع
7. نفس المرجع
8. نفس المرجع
9. نفس المرجع
10. نفس المرجع
11. نفس المرجع
12. نفس المرجع
13. نفس المرجع
14. نفس المرجع
15. نفس المرجع
16. نفس المرجع
17. نفس المرجع
18. نفس المرجع
19. نفس المرجع
20. مفهوم الدولة - The Concept of State - الموسوعة السياسية
https://political-encyclopedia.org/dictionary/%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9
21..نفس المرجع
22.نفس المرجع
23..نفس المرجع
24. نفس المرجع
25. نفس المرجع
26. نفس المرجع
27. نفس المرجع
28. نفس المرجع
29.نفس المرجع
30. نفس المرجع
31. نفس المرجع
32. نفس المرجع
33. نفس المرجع
34. نفس المرجع
35. نفس المرجع
36. نفس المرجع
37. نفس المرجع
38. نفس المرجع
39. نفس المرجع
40 نفس المرجع
41. نفس المرجع
42.موضوع.كوم: https://mawdoo3.com
43. نفس المرجع الإدارات اللامركزية بين التاريخ والواقع الراهن
44. الاسم : مروان سمور الفرق بين الدولة والحكومة21 أيلول (سبتمبر) 2020
https://www.politics-dz.com/%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%82-
45. نفس المرجع
46.نورهات حفطارو- الإدارات اللامركزية بين التاريخ والواقع الراهن - مركز الفرات للدراسات20/06/2019
https://firatn.com/?p=1271
47. نفس المرجع
48. نفس المرجع
49. نفس المرجع
50. نفس المرجع
51. نفس المرجع
52. نفس المرجع
53. نفس المرجع
54. نفس المرجع
55. نفس المرجع
56. نفس المرجع
57. نفس المرجع
58. نفس المرجع
59. نفس المرجع



#ابراهيم_محمد_جبريل (هاشتاغ)       Ibrahim_Mahmat#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المرأة في الأدب العربي الإفريقي
- الشعر النثري، لأحمد جابر دراسة أسلوبية نقدية
- الشاعر عبد الله الدرامي
- التعايش والحوار الوطني في إفريقيا


المزيد.....




- نيابة مصر تكشف تفاصيل -صادمة-عن قضية -طفل شبرا-: -نقل عملية ...
- شاهد: القبض على أهم شبكة تزوير عملات معدنية في إسبانيا
- دول -بريكس- تبحث الوضع في غزة وضرورة وقف إطلاق النار
- نيويورك تايمز: الولايات المتحدة تسحب العشرات من قواتها الخاص ...
- اليونان: لن نسلم -باتريوت- و-إس 300- لأوكرانيا
- رئيس أركان الجيش الجزائري: القوة العسكرية ستبقى الخيار الرئي ...
- الجيش الإسرائيلي: حدث صعب في الشمال.. وحزب الله يعلن إيقاع ق ...
- شاهد.. باريس تفقد أحد رموزها الأسطورية إثر حادث ليلي
- ماكرون يحذر.. أوروبا قد تموت ويجب ألا تكون تابعة لواشنطن
- وزن كل منها 340 طنا.. -روساتوم- ترسل 3 مولدات بخار لمحطة -أك ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ابراهيم محمد جبريل - المجتمع المدني والديمقراطية والدولة واللامركزية