أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الدينُ والرؤيةِ الجمالية للعالَم (1)















المزيد.....

الدينُ والرؤيةِ الجمالية للعالَم (1)


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 7400 - 2022 / 10 / 13 - 14:23
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


عبد الجبار الرفاعي

يحتاج الإنسانُ إلى لغةٍ مكتفية بذاتها خارجَ اللغة، يتحدثُ فيها للوجود ويتحدثُ فيها الوجودُ إليه، لغةٍ يتذوقُ فيها إيقاعَ أنغام الوجود وألحانه. الفنُ لغةٌ يتذوقُها كلُّ إنسان مهما كانت لغتُه وثقافتُه وديانتُه. الفنُ ‏لغةُ الروح قبلَ العقل، لغةُ القلب قبلَ الفكر، لغةٌ آسِرةٌ تُصغي إليها المشاعرُ كأجمل ما تصغي لأية لغة. لغةُ الواقع المحسوس تُنهِك القلب، الفنُ ‏لغةٌ يستريحُ فيها القلبُ عندما يُرهقه المكوثُ طويلًا في لغةِ الواقع المحسوس.
الجمالُ تعجزُ أيةُ لغة خارج الفن عن كشفِ حدود معناه. لا يجدُ الجمالُ ناطقًا بصوته أصدقَ من لغة الفن. يتعرف الإنسانُ على ذاته بالفنون السمعية والبصرية بأبهى ما يتعرف، ويشعر بتذوق نمطٍ من الوجود لا يتذوقه خارجها. تذوقُ معنى الجمال حالةٌ يعيشها الإنسانُ كتذوق الحُبّ والإيمان والسعادة وأمثالها من معانٍ وجودية. عندما يحتاجُ الإنسانُ إلى ‏لغةٍ عذبة يشتركُ بتذوقها الجميعُ يجدُ الفنَ ناطقًا بهذه اللغة. الفنُ يخاطبُ الإنسانَ بمعانٍ أكبر ‏من كلماتِه، ويتحدثُ لغةً تضيق بها أيةُ كلمات. ‏لغةُ الفن يشترك بتذوقها الجميع، المباهجُ الحسية يتذوقها الفردُ خاصة ولا تكون بالضرورة مشترَكةً بين الكلّ، مباهجُ الجمال‏ يتذوقها الفردُ مثلما يتذوقها كلُّ إنسان يتمتعُ بذوقٍ سليم.كلّما تعزّز حضورُ الجمال ‏في حياة الفرد والمجتمع اتّسعَ حضورُ القيم السامية‏. اتّساعُ تذوقِ الجمال يرادفُه انحسارُ لغةِ العنف وازدهارُ لغةِ السلام.
لا يخلو أيُّ مجتمع من الدين والأسطورة والفن والحُبّ. الفنُ رديفُ الدين في التاريخ، حيثما عاش إنسانٌ في أيّ مكانٍ وزمانٍ تظهرُ في حياته تعبيراتٌ للدين وتعبيراتٌ للفن. لا تضادَّ بين جوهر الدين وما ينشدُه الفنُّ الأصيل.كلاهما ينشدُ فضحَ ظلام العالم، وإنقاذَ الروح من مواجع الحياة، وتأمينَ ملاذٍ يتنفس فيه الكائنُ البشري بعد اختناقه بحرائق الشرور التي تنهشُ قلبَه، وتعبثُ بكلِّ شيء بهيج في حياته.
الحضورُ الواسع للفنون الجميلة في أيِّ مجتمع يقوّم السلوك، ويخفضُ وتيرةَ التطرف، ويؤثرُ بشكلٍ مباشر على إشاعة الأمن والسلم المجتمعي. الفن الذي أتحدث عنه هو الفن الذي يُهذِّب المشاعرَ والعواطفَ والذوق ويقوّم السلوك. ولا أعني الفن المُمْتَهَن المُبتذَل، الذي يهدر العفاف، ويغوي بالتهتُّك والمجون، ويُحرّض على الكراهية والعنف.
كلُّ مجتمع يتوطنه الحُبُّ، والفنُّ، والتدينُ العقلاني الأخلاقي، تتوطنه قيمُ احترامِ المختلِف في المعتقَد، والعيشِ المشترك في إطار التنوع والاختلاف، وإن كان مثلُ هذا المجتمع يظلُّ حلمًا أكثر من تحقّقه في الواقع. الدينُ والحُبّ والفنُ يغذّي كلٌّ منها الآخرَ ويتغذّى منه. الرؤيةُ الجمالية لله والعالَم تتوالد في سياق التفاعل الإيجابي الخلّاق لهذه العناصر الثلاثة. أتحدثُ هنا عن التدّينِ العقلاني الأخلاقي، والفنِ الأصيل الذي يهذّب الذوقَ والأخلاق. لا أتحدّثُ عن الواقع الذي فرضته إكراهاتٌ تاريخية مريرة مازالت تتحكمُ به حتى اليوم.
لا يمكن أن يستغني الإنسانُ عن الجمالِ، حاجةُ الإنسان لمتعةِ تذوق تجليات الجمال في الوجود رافدٌ يعزّز السلامةَ النفسيةَ والسكينة الروحية. تذوقُ الجمال انكشافٌ متبادَل، ففي الوقت الذي ينكشفُ للإنسان فيه جمالُ الوجود، ينكشف له جمالُ ذاته، بمعنى أنه مثلما ينكشف فيه المُشاهَد بشكل مُضِيء، يتحقّق فيه المُشاهِد بشكل مُضِيء أيضًا. حين يبتهج الإنسانُ بتذوق تجلياتِ جمال الله في الوجود يتكامل بمرتبةٍ أسمى. وقتئذٍ يكونُ الشعورُ الجمالي تعبيرًا عن الشعور الديني، والشعورُ الديني تعبيرًا عن الشعور الجمالي.
يقترن الشعورُ الجمالي بالحُبّ إثباتًا ونفيًا، الحُبّ مرآةُ الجمال، الجمالُ مرآةُ الحُبّ. لا حُبَّ مالم يتجلَّ المحبوبُ جميلًا. عندما يلتقي الانسانُ جمالَ المحبوب كأنه يلتقي نفسَه، لأنه يرى كلَّ ما يتمناه لصورته فيه. الحُبّ مصدر الوعي الجمالي في حياة الكائن البشري، وهو ما يصيّر كلَّ شيءٍ في الوجود جميلًا. الحُبّ يلوّن الحياةَ بأبهى معانيها، ويكشف للإنسان أجملَ صورها المكتنزة. الحُبّ يضيء الحياة، ويبدّد وحشةَ الكائن البشري فيها. حين ينبض قلبُ الإنسان بالحُبّ يرى كلَّ شيءٍ كأنه مخلوقٌ من جمال.
لما كان الدينُ: "حياةً في أُفق المعنى تفرضُه حاجةُ الإنسان الوجودية لإنتاجِ معنىً روحي وأخلاقي وجمالي لحياتِه الفردية والمجتمعية" وهو التعريف الذي نقترحه، يكونُ إنتاجُ المعنى الجمالي أحدَ أهداف الدين المحورية، وفي ضوء هذا الفهم يفرض الدينُ على أتباعه الإسهامَ في رسمِ صورةٍ أجمل للعالَم، والكفُّ عن الإسهام في رسم هذه الصورة لا يعدّ موقفًا إيمانيًّا أصيلًا. التعبيرُ الجمالي عن الدين ضرورةٌ، بوصفه ضمانةً لإحياء رسالة الدين الحيَة المُلهمة لمعاني الخير والمحبة والسلام والتراحم في كلِّ عصر، ويكون هذا التعبيرُ أشدَّ ضرورة عندما يتفشّى قبحُ التعبير المتوحش عن الدين.
مشاهدةُ القلوب لتجلياتِ الجمال الإلهي في الوجود تصيّر كلَّ شيء مرآةً ينعكس عليها ذلك الجمال، وتتذوق في كلِّ شيء جمالًا يشاكله. يتسعُ في فضاء مشاهدة القلوب الأُفقُ الروحي للجمال ليكون أُفقًا كونيًّا مشتركًا، لا تضيقُ فيه مضائقُ المكان والزمان. الأفقُ الروحي للجمال يكفلُ حمايةَ الإنسان من الاغتراب الوجودي، وتكريسَ سكينة الروح وطمأنينة القلب.
شحةُ الجماليات في أعمالنا، وطغيانُ الفنون المبتذلة، واضمحلالُ الأبعاد الجمالية في البناء والعمارة والسينما والمسرح ووسائل الإعلام والدعاية والإعلان وكلِّ شيء، تجعل الإنسانَ ينفرُ من الحياة ويشعرُ بالغربة والاختناق. يكتئبُ الإنسانُ عندما يرى العالَمَ مشوّهًا قبيحًا مظلمًا، لا يبوحُ بأي معنىً جميل يفيضُ على قلبه الطمأنينةَ، وعلى روحه السكينةَ.
إن كان الإنسانُ يعيشُ في ‏مجتمعٍ لا يكترث بالجمال، ويطغى فيه صوتُ الكراهية والعنف، يتبلّد ذوقُه الفني، وتتعطل حواسُّه الخاصة بتذوق الألوان والأصوات والألحان. تذوقُ الجمال يحتاج تربيةَ الذوق الفنيّ منذ الطفولة، ولابد أن تتواصلَ هذه التربيةُ كلَّ حياة الإنسان. تربيةُ الذوق الفني ذاتُ صلةٍ مباشرة بالرؤية الجمالية للعالَم، ونمطِ تمثّلها في اللاشعور الفردي والجمعي. تنعكس رؤيةُ العالَم على صلة الإنسان بما حوله من: بشر، وكائنات حيّة، وأشياء، كما تنعكس على نمطِ صلته بالله. تربيةُ الذوق الفني تدخل عنصرًا أساسيًّا في إنتاج رؤيةٍ مضيئة للعالَم. الرؤيةُ المضيئةُ للعالَم تعيد إنتاجَ الذوق الفني مثلما يعيد الذوقُ الفني إنتاجَها.
إن كانت بصيرةُ الإنسان حاذقةً، وذوقُه الفني صافيًا، وحاسّتُه الجماليةُ مضيئةً، تصبح رؤيتُه للعالَم مضيئة، يرى هذا الإنسانُ صورةَ الله مشرقةً، ويكتشف تجلياتِ جماله. يستطيع مَنْ يمتلك رؤيةً مضيئةً للعالَم أن يسهمَ في تشكيل صورٍ مضيئة للأشياء، إذ يمكنه أن يعيد بناءَ كلِّ شيء في الأرض بشكلٍ يكشف لنا عن جماله، يقول غوته: "يمكنك أن تصنعَ الجمالَ حتى من الحجارة التي توضع لك عثرةً في الطريق".
مَنْ ورّطته الأيامُ وفرضت عليه ظروفُ حياته صلةً بكائنٍ بشري يعجز عن رؤية ما هو جميل في العالَم، ولا يرى شيئًا إلا ويحاول أن يرسمَ له صورةً قبيحة، ولا تتحسّسُ مشاعرُه الفنونَ السمعية والبصرية، ولا يتذوق تجلياتِ جمال الله في الوجود، عليه الهروبُ منه، لئلا تتسمم روحُه، ويلبث حزينًا يبكي قلبُه كلَّ يوم.


#عبدالجبار_الرفاعي
#الفنون_الجميلة



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هاني فحص: روحانية متسامحة في زمن الطوائف
- مناقشة -الرؤى الرسولية- لعبد الكريم سروش (2)
- مناقشة -الرؤى الرسولية- لعبد الكريم سروش
- نسيان الله في تفسير حسن حنفي
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 8
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 1
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 7
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 6
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 5
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 4
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 3
- الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 2
- السياسةُ في الاستبدادِ إلغاءٌ للسياسة
- كتابٌ لمَنْ يريدُ تعلُّمَ التفلسف
- غسيل الأموال
- يولد السلامُ بين الأديانِ في فضاءِ الإيمان
- مقارنة الأديانِ تكشف مكانة كل دين
- يتنوّع التديّن بتنوّع الإنسان والواقع
- نقد تصوّف الاستعباد
- تراثُ المتصوّفة مرآةُ عصره


المزيد.....




- الإحتلال يغلق الحرم الابراهيمي بوجه الفلسطينيين بمناسبة عيد ...
- لبنان: المقاومة الإسلامية تستهدف ثكنة ‏زبدين في مزارع شبعا ...
- تزامنًا مع اقتحامات باحات المسجد الأقصى.. آلاف اليهود يؤدون ...
- “عيد مجيد سعيد” .. موعد عيد القيامة 2024 ومظاهر احتفال المسي ...
- شاهد..المستوطنين يقتحمون الأقصى في ثالث أيام عيد -الفصح اليه ...
- الأردن يدين سماح شرطة الاحتلال الإسرائيلي للمستوطنين باقتحام ...
- طلاب يهود بجامعة كولومبيا: مظاهرات دعم فلسطين ليست معادية لل ...
- مصادر فلسطينية: أكثر من 900 مستعمر اقتحموا المسجد الأقصى في ...
- مئات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى تحت حراسة إسرائيلية مش ...
- سيبدأ تطبيقه اليوم.. الإفتاء المصرية تحسم الجدل حول التوقيت ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الدينُ والرؤيةِ الجمالية للعالَم (1)