|
مناقشة -الرؤى الرسولية- لعبد الكريم سروش
عبدالجبار الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 7380 - 2022 / 9 / 23 - 11:31
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مناقشة "الرؤى الرسولية" لعبد الكريم سروش -1
عبد الجبار الرفاعي
لكلٍّ من العلم والفن والغيب حقيقةٌ على شاكلته، يمكن التعرّفُ على هذه الحقيقة في فضائها الخاص. للغيبِ حقيقتُه ومظاهرُه وفضاؤه، مثلما للعلم حقيقتُه وفضاؤه وقوانينه، وهكذا للفن حقيقتُه وفضاؤه. التعرّفُ على الغيبِ في القرآن الكريم يكونُ من خلال ما تتحدّث به آياتُه. لا يخضع الغيبُ في اكتشافِ ذاتِه ومعرفةِ حقيقته للعلمِ ومناهجِه المعروفة، وإن كانت العلومُ هي الأداة الأساسية في التعرّف على تأثير الغيب في الواقع ودراسةِ تعبيراته في الحياة الفردية والمجتمعية. يمكن اعتمادُ مناهج البحث العلمي في دراسة كلِّ شيء ينتمي للطبيعةِ في القرآن، ومن العبثِ تطبيقُ هذه المناهج في اكتشاف ذات الحقائق الميتافيزيقية وما هو خارج الطبيعة. الوحي بوصفه حقيقةً غيبية ينتمي إلى ما بعد الطبيعة، لذلك لا يصحّ تطبيقُ مناهجِ وأدوات علمِ النفس وغيرِه من العلوم في الكشفِ عن ذات الغيب وتحليلِ مضمونه ومعرفةِ حقيقته. عندما تحاول نظرياتُ علم النفس أن تفسِّر الوحيَ فإن أولَ ما تبدأ به هو نزعُ مضمونه الغيبي، والنظرُ إليه على أنّه حالةٌ سيكولوجية يعيشها النبي. أخفقتْ محاولاتُ اكتشاف الغيب بوسائل العلوم المعروفة، وأدخلت الإنسانَ في متاهات تبدأ بالإنكار وتنتهي بالإنكار، كمَن يحاول معرفةَ ذاتِ الله وكنهَه بأدوات العلوم ومناهجها المعروفة. الآياتُ القرآنية تتحدّث عن الغيبيات بلغةٍ رمزية، تستعين أحيانًا بالمحسوسات بغيةَ تقريب ما لا صورةَ له بصور المادي وخصائصه وصفاته. الصورُ المحسوسة يدركها الإنسانُ عبر الحواس، إلا أنه لا يعرف حقائقَ الغيبيات وذواتَها، وإن كان يمكن تقريبُها للذهن عبر التمثيل بالأشياء المادية. الوحي طورٌ وجودي استثنائي للإنسان، يتسعُ فيه وجودُ النبي ويتكاملُ عبر صلته بالله. ليس الوحي استنارةً ذاتية مقطوعة الصلة بالله، أو صورًا ذهنية مجردة، أو نشاطًا للمخيلة، أو ظاهرةً بيولوجية نشأت عن نشاط هرموني، أو تساميًا للروح من دون صلة بالله. في ضوء ما تقدّم يمكن مناقشةُ رأي الدكتور عبد الكريم سروش في: "الرؤى الرسولية"، الذي يذهب فيه إلى أن ما جاء من مشاهد للقيامةِ في القرآن الكريم وقصصِ الأنبياء وغيرِها لم يكن النبيُّ محمد "ص" فيها ناقلًا لأخبار تلقاها، بل كانت أحلامًا ورؤىً وقعتْ له وشاهدها مباشرةً بنفسه في منامه، يتحدّثُ النبيُّ في القرآن عن مشاهداته ولا يروي عن غيره. يتساءل سروشُ عن المناظرِ والمشاهداتِ المتنوعةِ الواردةِ في آيات القرآن: "أين وقعت تلك المناظر والمشاهدات؟" ويجيب بقوله: "وقعت في الرؤيا" . وأن ما ورد في القرآن على لسان النبي من مشاهد للجنة والنار والقيامة ويوم الحساب، وما وقع من حوادث للأنبياء، مثل انشقاق البحر لموسى وغيرها، رآها النبيُّ في أحلامه، وتحدّثَ عنها ووصفها كما رآها. يقول سروش: "هو رآها بنفسه وعينه. كان ناظرًا وراويًا لتلك المناظر، رأى أهلَ الجنة يتنازعون الشراب، ورأى أهلَ النار تسلخ جلودهم كلما نضجت" . ينبّهُ الدكتورُ عبد الكريم سروش إلى أن لغةَ الأدب وما فيها من مجازاتٍ وكناياتٍ واستعاراتٍ وتشبيهات غيرُ لغةِ الأحلام. لغةُ الأحلام تتحدّثُ عن مشاهدات مباشرة، مَنْ يرى الرؤيا يشاهدُ الحدثَ ويصف ما رآه، ويصوّر المواقفَ والأحداثَ والوقائع كما شاهدها هو. وذلك يعني أنه لا يتحدثُ لغةَ المجازات والاستعارات والكنايات والتشبيهات. يقول سروش: "لغة الأحلام لا تحتوي على المجازات والاستعارات والكنايات، بمعنى أن التصورات التي يراها الحالم في منامه لا تحمل إلا على معانيها الحقيقية، وليست بحاجة إلى مراجعة القواميس اللغوية للوقوف على معاني الألفاظ ودلالتها. ولعل مفسري الأحلام هم القادرون على فهم دلالتها… لغة الأحلام تختلف عن لغة الأدب" . الأحلامُ غيرُ منتظمةٍ في سياقٍ منطقي، ولا تكون بالضرورة محكومةً بنظام السببية المعروف، ولا تنطبق عليها دائمًا قوانينُ الطبيعة المكتشفة. كثيرًا ما يرى الإنسانُ الأحلامَ مشتتة خارجَ إطار التراتبية المعروفة للحوادث في الواقع الذي يعيشه. يقول سروش: "لابد من الإذعان إلى أن تلك الفوضوية ليست من فعل الأعداء ولا غفلة الجامعين، ولا هي دون علم صاحب الوحي، وإنما راوي السور المبتنية على الرموز والرؤى غالبًا ما يفتقر إلى المنطق والتسلسل فيفقد الانسجام والانتظام. هذا هو أدب المنام، ولا وجود لليقظة فيه" . وقد يختلط الواقعُ بالأحلام بالخيال، ففي "حديث النبي عن حروب زمانه خلطَ بين الواقع والخيال، حيث ينقل خبرَ نزول آلاف الملائكة لنصرة المؤمنين" . في سياق مناقشة رأي العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان بكون "المراد من السماء التي تسكنها الملائكة عالمًا ملكوتيًّا، ذا أفق أعلى نسبة إلى هذا العالم المشهود"، يجيب سروش بقوله: "ولو تنبّه صاحبُ الميزان إلى أن رمي الشياطين بالشهب كان في عالم الرؤيا لما احتاج إلى كل تلك التأويلات، ولذهب إلى خبير في الأحلام والأنثربولوجيا يدله على معنى أن شخصًا في تاريخ وجغرافية الحجاز ومن ثقافة تلك الحقبة، يرى في المنام أن الشياطين تقذف الشهب" . هذا ملخص شديد لما أفاده الدكتور عبد الكريم سروش في "الرؤى الرسولية". إن كان الإنسانُ لا يبلغ مرتبةَ النبوة إلا إذا تسامت كينونتُه الوجودية وتحقّق بكمالٍ استثنائي يؤهله لهذا المقام الإلهي، فلا يمكن أن تكون الرؤى في المنام وسيلةً لتكاملِه وبناءِ استعدادِه الوجودي لمقامٍ يؤهله لتحمل الوحي وتلقِّيه. النبوة مقامٌ لا يناله كلُّ إنسان، المرتبة الوجودية للنبوة تتحقّقُ باستعدادٍ وتأهيلٍ بشري واصطفاءٍ إلهي. لم تعرف التربيةُ إعدادَ إنسان وتأهيلَه لأيةِ مهمةٍ حياتية عبر الأحلام، فكيف يمكن افتراضُ إعداد إنسانٍ تُناط به وظيفةٌ إلهية استثنائية، ويصطفيه اللهُ ويوكل إليه أداءَ مهمةٍ عظمى في الحياة، ويؤهله لتحمّل رسالته من خلال أحلامٍ يراها في المنام. الإنسانُ العادي لا يمكن إعدادُه لتحمِّل أية مسؤولية باعتماد الأحلام، فكيف إذا كانت مسؤوليةُ هذا الإنسان إلهيةً وهي أكبرُ من كلِّ مسؤولية، ووظيفتُه أعظمُ من كلِّ وظيفة. وكيف إن أناطَ اللهُ بهذا الإنسان بناءَ أسس التوحيد في مجتمعٍ مُشرِك، وتحمّلَ رسالةَ الله الخاتمة للعالمين. إنها وظيفةٌ لم يكن بإمكانه إنجازُها إلا بعد أن يتحقّقَ بطورٍ وجودي أوسع وأعمق وأغنى وأسمى. لا تكتسبُ النبوةُ مقامَها السامي من الأحلام، ولا يمكن أن يكتسبَ إنسانٌ إمكاناته الوجودية وقدرته على تحمّل الرسالة الإلهية من المنام. يلزمُ من القول بالأحلام النبوية أن تكونَ مهمةُ النبي في إبلاغِ الرسالة وتلقيها أهونَ من مهمة رجل العلم والسياسة والعسكر والتجارة وأمثالهم، لأن إعدادَ هؤلاء لا يمكن أن يعتمد على الأحلام. يكونُ إعدادُ الإنسان للمهمات الكبيرة من خلالِ برامجَ تربوية وتعليمية، وتراكمِ خبرات عملية تتطلب المواظبةُ عليها إنفاقَ سنوات عديدة من أعمارهم من أجل التأهيل لمثل هذه المهمات، مضافًا إلى توفر مواهب ومؤهلات ذاتية تمكّنهم من التصدي لها. يمكن تشبيهُ النبوة بحالةِ استضافة الغيب للإنسان واستضافةِ الإنسان للغيب. هذا المستوى الفريد من الضيافة، الذي يكون المُضيّفُ فيه اللهَ والضيفُ النبي، لا يمكن أن تتوفر الإمكانات الوجودية لتنفيذه بكفاءة تتناسب معه عبر رؤى في المنام. الوحيُ ليس شعورًا نفسانيًّا باطنيًّا، وليس حوارًا صامتًا تستبطنه الذات،كي نتعرفَ على حقيقته بقراءةِ مدرسةِ التحليل النفسي للأحلام ونظرياتِ علماء النفس وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة. الوحيُ حقيقةٌ من حقائق الغيب، هذه الحقيقةُ ينكشفُ فيها الإلهيُّ للبشري، ويتجلّى فيها للإنسانِ ما هو إلهي. شهودُ الإنسان للإلهي لا يتحقّقُ إلا إذا تكامل الإنسانُ في طورٍ وجودي يفتقر إليه غيرُه من البشر؛ ذلك ما يؤهله لأن يكون نبيًّا. تظهر تمثُّلاتُ الوحي وآثارُه في لغة وثقافة وتقاليد ومواقف الإنسان فردًا وجماعة، وهذه الآثار تُدرسها العلوم والمعارف البشرية المتنوعة كما تُدرس غيرُها من الظواهر في حياة الإنسان، لكن لا يمكن أن ندرس البُعدَ الغيبي في الوحي بأدوات هذه العلوم والمعارف... يتبع الحلقة الثانية في الأسبوع القادم.
#عبدالجبار_الرفاعي
#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نسيان الله في تفسير حسن حنفي
-
الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 8
-
الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 1
-
الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 7
-
الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 6
-
الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 5
-
الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 4
-
الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 3
-
الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحد – 2
-
السياسةُ في الاستبدادِ إلغاءٌ للسياسة
-
كتابٌ لمَنْ يريدُ تعلُّمَ التفلسف
-
غسيل الأموال
-
يولد السلامُ بين الأديانِ في فضاءِ الإيمان
-
مقارنة الأديانِ تكشف مكانة كل دين
-
يتنوّع التديّن بتنوّع الإنسان والواقع
-
نقد تصوّف الاستعباد
-
تراثُ المتصوّفة مرآةُ عصره
-
الفهمُ ضربٌ من تحقّق الموجود
-
التربية تغذّيها العواطف قبل العقل
-
الصراع الحضاري في فكر مالك بن نبي
المزيد.....
-
مصر: ضجة بعد توافد أعداد غفيرة على مولد السيد البدوي..وعضو ب
...
-
-لا تنتقد اليهود-.. حرية التعبير في أوروبا موجهة ضد المسلمين
...
-
النحات ميثم العبدال يحوّل آلام الجد الفلسطيني إلى منحوتة بعن
...
-
اسلامي: تقنية الإشعاع تسهم مباشرة في رفع جودة المنتجات الزرا
...
-
بالفيديو.. السيدة مريم العذراء في الجمهورية الاسلامية الايرا
...
-
مستعمرون وجيش الاحتلال يهاجمون قاطفي الزيتون في رام الله ونا
...
-
باستراتيجية -الهيكل المُعقد-.. ما حجم تواجد الإخوان بأوروبا؟
...
-
قوات الاحتلال تعتقل أربعة مواطنين من سلفيت وتغلق مدخل المدين
...
-
ما بعد الرؤية الترمبية .. القضية الفلسطينية برعاية عربية إسل
...
-
وسط صمت بريطاني مريب.. تحذيرات من تغلغل الإخوان في أوروبا
المزيد.....
-
نشوء الظاهرة الإسلاموية
/ فارس إيغو
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
المزيد.....
|