أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - ابراهيم محمود - بكو الكردي إلى أين؟: حسن مته في روايته الكردية: القيامة















المزيد.....



بكو الكردي إلى أين؟: حسن مته في روايته الكردية: القيامة


ابراهيم محمود

الحوار المتمدن-العدد: 1691 - 2006 / 10 / 2 - 06:19
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


الحديث عن " بكو" عند عموم الكردي، كما هو الحديث عن إبليس في الإسلام تقريباً، إذ ما إن يُذكَر إبليس إسلامياً، حتى يُبدَأ بذمه عبر لعنه، ولعله " بكو" بدوره الذي اكتسب مرتبة إبليسية كبيرة، في وجدانات غالبية الكرد، حيث لا يُذكَر، إلا ويجري ذمه بطريقة ما، حصيلة موقف منه.
هنا أقول ، إن من الصعب أن يسأل أحدهم، عما يكونه إبليس كدور وكقيمة في التاريخ الأخلاقي والرمزي للبشر،، مثلما من الصعب أن يتساءل الكردي عما يكونه " بكو" في تاريخه.
من السهل، أيضاً، بداية هنا، اعتراض أحدهم، من جهة المقارنة، وهو أن إبليس، أكثر من كونه شخصية لها تاريخها المعلوم: زماناً ومكاناً وثقافة، أو لغة ونسباً، حتى لو عرّف به أنه حقيقة تاريخية( كان كبير الملائكة) كما تقول المدونات التاريخية الاسلامية الكبرى وسواها، في أول عهده، والمتنفذ في شؤون الكون، ولا يمكن التعامل معه، إلا من جهة اعتباره كائناً يمكن تصوره وتخيله، أما بكو، فبوسع المعني الرجوع إلى المصادر التاريخية، ومتابعة سيرة حياته: تاريخ حياة وموت، باعتباره أيضاً كائناً من لحم ودم، ولا يمكن التعامل معه، أكثر من ذلك كمفسد كبيروحاقدوأفاك، صار مضرب المثل في التاريخ الكردي، ليصير رمزاً في هذا المنحى.

مهلاً :
ليكن هذا صحيحاً ، إنما إلى حين، ولنتساءل معاً: ألا يمكن النظر في حقيقة كل منهما، اعتبار أن التذكير بأحدهم شريراً وفاسداً، ومن ثم ربطه بسواه، وكأنه الجامع المانع لهذه الصفة السلبية أو تلك، كما لو أننا نريد تخفيف العبء عنه، نبرر له بعضاً مما يقوم به خطأً؟
العامة، من الذين يتلقون الأمور، يعتبرون ما يقال لهم، ويتم تداوله، لا يحضرهم شك في ذلك، وهكذا يتم توارث ما كان تاريخياً معلوماً بمكان وزمان، خارج التاريخ، وأصحاب العبر ومستثمريها، يهمهم أن يؤكدوا وجهات نظهرهم، بالرجوع إلى ما ذكرنا، دون التفكير في حقيقة مرجعياتهم، والذين يحاولون التفكير، لا يخفون ترددهم، فيما يقرأون ويسمعون.
إبليس، أو مفيستوفيليس، تعرَّض للمناقشة، لم يبق كما هو في التاريخ، كما يعلم المتصوفون الموحّدون بطريقتهم في الاسلام ( الحلاج) مثلاً، ولاحقاً الكردي( أحمد خاني)، كما سنرى، وهكذا الحال عند غوته جبران خليل جبران وتوفيق الحكيم وصادق جلال العظم وابراهيم بدران وغيرهم، على صعد شتى، رغم كل ما قيل ويقال عنه( عن إبليس، أو الشيطان)، حيث يُهمل كثيراً، حتى الآن، ما يكون عليه الإيزيديون معتقداً في هذا المجال،وفي الحيّز الكردي ثقافة نشأة واختلاف تاريخ، باعتبارهم موحدين رواداً،وأنهم خلاف المتصور عنه في الصميم، وليس كما روّج عنهم، كما هو الموقف المبتذل ديناً من إبليس، والدور الموجه به : اسلامياً خصوصاً.
الشخصيات التي تمثل الشر، ومنذ أقدم العصور، قدّمت بصفتها نسخاً إبليسية، ساكنها ومحرك مشاعرها، وموجه أفكارها، هو إبليس ذاته. إن كل قصص الحب التي ذاع صيتها، وكانت نهايتها فجائعية، تبدو، كما لو أنها تتقدم بشكوى تاريخية أبدية، على شخص ما، أكثر من كونه شخصاً عادياً( إبليسياً، شيطانياً)، يمتلىء حقداً وكراهية من الداخل، كان سبب الفجائع تلك، على الأقل، كما يعلمنا شكسبير، في ( عطيل)، من خلال" إياغو"، وكردياً، في حال" بكو"، كما ورد في الحكاية الشعبية ذات الصيت( مم آلان)، ومن ثم تجلت الحكاية في قالبها الشعري الشعبي الملحمي الطابع( مم وزين)، من جهة أحمد خاني، منذ أكثر من ثلاثمائة عام.
السؤال المطروح هنا، وفي الإطار الكردي، هو: هل حقاً يكون بكو، كما كان وهو يحيا في زمن ما ومكان ما؟ وهل حاول أحدهم التعرض لـه، والمساؤلة عما هو عليه مجتمعه؟ وهل انبرى ، ولو من باب المقارنة، عما يعنيه بكو الاسم، وبكو الرمز، والعنف المستخدم في الاستعارة التاريخية والأدبية؟ هل بكو حقاً هو الكردي الوحيد، الذي يستحق أن يكون حمَّال ذموم الآخرين، كلما كان أو ظهر مفسد، أو نمام، أو حاقد دقاق إسفين، وكانت فاجعة إثر قصة حب فاشلة ما، بالبحث عن بكو ما، هو المسؤول عن ذلك، وليس اسماً آخر، لشخص آخر؟
ليس في التاريخ، مثلما في الواقع، مثلما في الأدب، ما يمكن اعتباره الحقيقة المطلقة، وحدهم من يقلبون القول بوجوهه، على وجوه أخرى، يستحدثون وجوحاً مختلفة للحقيقة، وهي في الأساس، وتنتظر دائماً من يومىء إليها. ( إن كل من يشتهي التنقيب في أصقاع الفن الخفية يجد خرائط كثيرة ميسرة)، كما يقول الكسندر إليوت، في ( آفاق الفن)، الترجمة العربية، ص(89).
الأدب صنو الفن، منافسه، والمتداخل معه، مثلما الفكر بدوره، يمارس إبداعاً على طريقته، كلٌّ مما يتقدم، يظل في حالة دأب متواصلة عما يعتبره الآخرون، ما لا يقبل شكاً، ما يكون الحقيقة النافذة: أدباً وفناً وفكراً..
هذا ما يعلمه الكثيرون من الكرد من جهتهم، هذا ما يغفله الكثيرون من الكتاب الكرد، على الأقل، وهم يتناولون مسائل، ويتخذونها موضوعات لهم، تبقيهم في خانة المرضيّ عنهم.
ثمة من يقرن الإبداع، الأدب، الكلمة الكلمة، بما يصدم الآخرين، ليس من باب ( خالف تُعرف)، في منطق المشاكسة البليد، وإنما بطريقة: تحريك الساكن لا ستشراف المغيَّب.
ربما كان الكردي حسن متهHesenê Metê، داخلاً في خانة المفارقة اللافتة، يصدم ليُعلِم، من خلال ما تعوَّده الآخرون. فالأدب تأليب المهمَل على المجمل، نسف النصاب الكمي بالكيف المختلف، والرواية تتكلم في حدود المنعطفات، كما هو المعهود الفعلي فيها.
على الأقل هنا، وليس هناك، فيما تقوله، أو تومىء إليه رواية مته ( القيامة Tofan) المطبوعة في السويد، حيث يكون العنوان استنفارياً من جهة الدلالة، وربما كان في اسمه الكردي، صالحاً في العربية أيضاً، فكلمة ( Tofan) المكتوبة بالكردية، هي ذاتها صيرت كردية، وجرى الأخذ بها، في أكثر من منحى، واكتسب تصورات، لها صلة بمستوى وعي الناس لها، والموقف القيمي منها بالمقابل، كما في قول أحدهمTofan rabû ye: قامت القيامة،Tofan rakir: أقام القيامة،Ev çi tofane: أي قيامة هذه... الخ، ويمكن وضع أكثر من مقابل، وبحسب المقصد والاستخدام، كأن نقول: القيامة، وهو العنوا ن الأنسب للرواية عربياً، كمفهوم فقهي، من ناحية التجاوب مع محتواها، أو : الكارثة، أو الجائحة، أوالحدث الكبير، وذلك تاويلياً...
الحدث هو حدث مته، فهو الذي أثاره، وموضوع الحدث، رغم عراقته تاريخياً،هو ما أشيرَ إليه آنفاً، أي بكو، وبكو، كما هو العنوان في أصله العربي، لكنه هنا أكثر تعرضاً للتغيير والدلالة، إنه من جهة الأصل يعود إلى مصدره : بكر، كما لا يخفى على الملم بالعربية، أما بصدد بكوBeko، فتدخل جملة تصورات في صناعة العالم القيمي الذي أسكِن فيه، حيث يتعطل الاسم في اختزاله المقصود والمشوه، يفارق مصدره دون عودة ظاهرة، في اتجاه واحد، يصار إلى المنقوص فيه حصيلة سلوكية، يفرَّق بينه في مآله الوخيم، ما كان اسماً، وكم همو كثر من ( يبكرون: يوسمون ببكر)، وقد يكون لبكو قرناء، أشباه، لكن قصب السبق في احتواء الاسم، أو تلبيسه المذموم في الحد الأقصى الذي أُجهِر به حتى الآن ، يكون بلا منافس، لتكون اللغة مشاركة في وليمة قتل رمزية بعد الفعلية، والرمزية لا تموت، بقدر ما تنتشر، وتبحث عن هياكلها لتعرّف بها من خلالها، كما في قول أحدهم عن سواه هنا أو هناك، عن أنه : بكو، ويكون الاسم مقلقاً، مزعجاً، لمن يسمعه قريباً أو بعيداً، وهذا وجه آخر من وجوه العقاب الجماعي الذي يتخذ أحياناً طابعاً من القطيعية، أوالقطعية اللامردودة.
أي حدث أثاره مته، أي بكو قدمه لقارئه، من هو بكو: ه هنا، ماالذي استجد ليجد في مسعاه الأدبي، وهل من أرضية معينة، يمكن لبكو:ه هذا، أن يعيد اعتباراً خلافاً للمدرك عن بكوالمألوف، أو المعتبر مألوفاً، بكو: العتيق، الذي يُذم، كلما تم التذكير به .... ؟؟

قيامة بكو:
لا أظن، أن مواجهة أي كاتب ممكنة، وخصوصاً حين يكون روائياً، نظراً للمساحة التاريخية والقيمية الكبيرة المترتبة، تلك التي يكتسحها أو يحددها أدبياً،بالمبرر الذي دفع به إلى اختيار موضوعه هذا أو غيره، هي في محلها، إذ الشيءالممكن والوحيد الذي للقارىء كامل الحق في اعتماده، هو ما يكتبه الروائي: قراءة وإعمال فهم، ومدى حضور الأدب وتجلي رؤيته الإبداعية، وبعدها يمكنه، ومن باب التزود بمعرفة في ما يجهله، ويخص ذاتية الكاتب، وما من شأنه منح كتابته قيمة تاريخية واجتماعية هذه المرة.
في ( القيامة)، يمكن التعامل مع النص الروائي، الذي هو دون تسعين صفحة من القطع الصغير نسبياً، بأكثر من طريقة، لأن طبيعة النص تحدد كثيراً الطريقة الأوجب، بغية التنقيب الأرحب في صلب الملفوظ، والعلاقات القائمة بين مكونات النص، وكيفية استجلاء مناخها الأدبي.
مته، يعتمد اللغة الصوفية، أو يسعى إلى استحداث نص، تتداول في بنيانه لغة المتصوفة العرفانية كثيراً، المظهر السلوكي وطريقة الوجد والجذب، والبعد الكراماتي الأوليائي داخل عالمهم، وتداعياته ومستنبطاته.
إنه نص قلق تماماً، رغم تجلي حرفية الكاتب ، ومهارة السبك الكتابية ومعلمية الطرح. إن في الانتقال من فقرة لأخرى، رغم عدم وجودها مرقمة، أو معنونة داخل أقسام أو فصول، أو فراغات توحي بوجود بدائل، فقط هناك انتقال، يوحي بقفزات إيمائية، مشاهد داخل اللوحة الروائية الواحدة، ولعل في ذلك تأكيداً، على مدى القرب الروحي من الشخصية التي تتأمل دنياها بمرآة مستعارة من بصيرتها الأخروية، أو المتخيلة مما هو روحي ، حيث يكون المعنيون بالحالة التوحيدية هذه، أرواحاً متداخلة، متضافرة في النهاية.
بين ماض هو حاضر، وحاضر يدع الماضي كما هومتزوداً به، طالما أنه يقتحم بهو الحاضر في وضح نهاره، ومستقبل مرسوم بعبء الشعور بالمسؤولية الذاتية من الداخل، وانطلاقاً من اللغة القابلة للتأويل كثيراً، يحاول مته أن يكون مته المختلف، مته الكاتب الذي ينفتح على تاريخ، مشهود له بالعُقد، وهي تتطلب التصدي لها، إنما من خلال الأدب، وتحديداً باستدعاء الرواية هنا.
نعم، كل كتابة فعلية، هي قيامة، ثمة قيامات إذاً، ولكن ثمة قيامة تترك كل شيء، في عهدة الأشباح، وثمة قيامة تمكنّن من رؤية ما وراء الأجسام الكتيمة، وثمة قيامة تعززحيوية الروح بجلجتها، من خلال العالم الذي أُطّرت به، أي مواجهتها باللا ألفة، تجاوباً مع نداء تحول جديد.

لحظة استهلالية:
الاستهلال الذي يكون مزجاً بين لغة الدين واستشرافاً له تاريخياً، يتماشى مع المجتمع الذي ما إن يُذكَر لـه الماضي حتى يتلمس روحه راحةأو استباحة، والاستهلال هنا، من التوراة تحديداً، وما يعنيه الاقتباس التوراتي هنا، من سفر( يوئيل)، ومنذ البداية تقريباً، وهو اسم عبري، يعني( يهوه هو الله)، ولكن بعد تقديم بجملة من عند الكاتب، هكذا ( هذه القصة/ الحكاية" أخبروا بنيكم عنه وبنوكم بنيهم وبنوهم دوراً آخر.).
فثمة دخول في التاريخ، وعدم خروج منه، إلا بعد معرفته، لأن ثمة ما يجب التخلي عنه، حتى لا يكون تخلٍّ عن التاريخ ذاته، وخصوصاً حين التاريخ يكون الذاكرة التي تتطلب ليس تدويناً لمخزونها، وإنما ترتيباً وتشذيباً وإضاءة لها من الداخل.
ثمئذ يكون السؤال: لماذا إصرار الكاتب على السرد الجيلي الواجب توارثه إلى أجل غير مسمى؟ لأن ثمة ضرورة تاريخية، حيث لا يكون تاريخ، إلا حين يتأسس تاريخاً ممكن القراءة، بأوسع مداه، ولعل في الاقتباس استئناساً، وقلباً للغة، إلى لغة أخرى، لا بل وربما كان في ذلك محاكاة ضمنية، في صيغتها المركبة: من جهة الاقتباس الظاهري، الذي لا يعدو أن يكون مجرد قول مستشهد به، ويمكن الاستفادة منه، ومن جهة الاحتراس، حيث لا يجب تفويت المقبوس دون الدخول في روحه التي لأجله كان المقصد، ولو عبر سطح ورقي ، جرى تلونه كتابياً، أي من يكون النص باسمه: يهودياً هنا، أي ضرورة التشبث بالتاريخ وعد التفرط فيه، والتوحد القاعدي روحياً: كردياً هنا، ليكون لهم تاريخ فعلاً.
في الحيّز ذاته، يكون الدخول في التاريخ، استقراء لما توضَّع فيه، لتعميقه مفهومياً، مع فارق المنظور والموقف المبدئي في الكتابة، فبكو هو بعض تاريخ، ولكنه بعض مؤثر وإشكالي، في مداه المتحرك أمامياً في اللغة المحكية خصوصاً، حيث يكاد يسم الكثير من مقومات الذاكرة الكردية الجمعية وجدانياً، ولهذا يستوجب قيامةً على المعطى عنه.

أين هي قيامة بكو، وهل هي قيامة حقاً؟:
ينطلق مته من داخل التاريخ، ومن التاريخ، من خلال لعبة ذكية لافتة، يأخذ من التاريخ، ما أخذه التاريخ هذا كثيراً من أهليه وعبرهم، ويوسع حدود اللعبة، ليكون التاريخ تالياً أوسع مما هو عليه، إنه هنا يستقي من المستقي منه، أي ينهل ممن أخذ منه، بعد أن عمقه مفهوماً، ووسعه أفقاً للنظر.
ثمة ما هو أبعد تاريخياً من أحمد خاني، عندما يكون التذكير بتاريخ بكو( بكر)، بكو عوان، الاسم المضاف لقباً مستفزاً، من خلال المتداول عنه، كما سنرى أكثر فيما بعد، عبر( مم آلآن)، ولكن الصورة تجلو في معماريتها الفنية والأدبية تالياً في القص الشعري، حيث تنقلب الحكاية قصيداً شعرياً، ليكون بعض من هذا القصيد مناسبة مستجدة بوازع أدبي روائي، أوموضوع رواية، وهذه هي الخطورة الكبرى للموضوعات الفاعلة في التاريخ، وكيفية ظهورها بأكثر من صيغة.
قيامة بكو، لأن خاني هو من طلب ذلك، كما جاء في وثيقة أدبية تاريخية، مقتبسة من خاني مودعة في النص الروائي:
أيها القادر أرضاً وسماء
أحمد خاني أنا، عبدك المجبول من التراب
أطلب من جنابك يا ذا الجلال، أن ينبعث بكو ظاهراً للدنيا ، كل ثلاثمائة وثلاثة من السنين بأمروتوجيه منك
ليس القصد من الطلب هذا في أن يرتكب الإثم
كلا، ربما، كان في ذلك تأكيد حكمة ولطفاً إلهيين، يكون عبرة للناس.
المعز لعظمتك
أحمد خاني
21 محرم 1695. ص 46
طبعاً لا يُنسى هنا، أن الشهر هو قمري اسلامي هجري، والسنة شمسية ميلادية.
ولعل مته، في قراءته للتاريخ، يحاول الدخول فيه، بجواز سفر أدبي، إنما ليس دون رصيد قيمي، يمكن استخراجه من النص الأدبي التاريخي، الذي لطالما أُخذ به في ظاهره، من جهة التعامل مع بكو تحديداً، باعتباره الشر الذي يتطلب نبذه، في كل شاردة وواردة كرديتين، حيث يصعد به، باسم " بكر" وليس" بكو" كما هو العنف الموجَّه من داخل اللغة، واللغة الجاري إنماؤها في الوسط الاجتماعي، العنف الذي يقول ما هو مجتمعي ضيق فيه، ويندد به بالمقابل.
خاني أكثر من كونه خاني الذي يُتلفَّظ باسمه دون الدخول في صميمه الروحي، توسيع نطاق قراءة وفهم، على الأٌقل، على مشارف اللغة التي يستعين بها، باعتبارها، لا ينفصل عن رداء الصوفي، في نسج عالمه الأدبي، وبكر وليس بكو هذه المرة، ليس المأخوذ به منبوذاً بإطلاق، وإنما المشار إليه موقَّراً، إنه لا يخرج عن حِرفية المبدع، في بناء الشخصية أكثر من كونها شخصية، يُحكَم عليها من الخارج، كما لو أن الذين يقيمون صلاتهم به، ومن بعيد تجنباً لآفته المرسومة، إنما يخشون ما هم عليه، فيكون النبذ نوعاً من الرجم، تغييباً للجرم المتتابع في دواخلهم، أو تستراً ما عليه.
عميقاً، كما هو المسارالمحلَّق به خانياً، يكون النزول إلى بكو المضحَّى رمزاً، والمؤدي دوراً، لولاه، لما كان خاني، ولربما كان ملتقياً هنا بإبليس ذاته، أو ليس هو القائل بلسان إبليس هذا، أو على لسانه، مع التشديد، على دلالة أن يتحدث أحدهم بلساع سواه، وما يعنيه في المقابل قيمياً:
Eblîsê feqîrê bê cinayet
Hindî te hebû digel înayet
Her rojê di kir hezar î taet
Lewra ku te da wî îstitaet
Wî secde ne kir li xeyrê mabûd
Gêra te ji ber derê xwe merdûd
………
( وإ بليس الفقير بلا جنايه
منحته من حنانيك العنايه
أطاعك كل يوم ألف طاعه
وقد كافأته بالاستطاعه
فلم يسجد لغيرك في رحابك
طريداً صار وهو لصيق بابك
أنظر ديوانه بالكردية، ص 14، والترجمة العربية شعراً هنا، هي من جهتي).
ولحظة الانتقال إلى بكو المتداول، بكرالمؤصَّل فنياً، نلاحظ مدى الوصل بينهما، إنما دون أن نجعل من بكو تابعاً للآخر: إبليس، فله موقعه المختلف، رغم وجود ظل للمطرود الإلهي عليه، نلاحظ مدى الاهتمام من طرف خاني به، وكيف يتبع وفق المتصوَّر كدور، وكقيمة لاحقاً، وليكون ما تصرف به مته قراءة مختلفة له، عما هو محكوم به عند العامة، من الكرد.
يقول خاني، وبلغته أيضاً:
Zahir wî eger mixalefet kir
Batin bi mere miwafeqet kir
Ger ew ni bûya di nêv me hayil
Işqa me di bû betal û zayil
Wî ger çi jibo xwera xirab kir
Der heqqê me wî qewî sewab kir
Ew bû sebebê heqîqeta me
Daxil gerîya terîqeta me
Ewjî di rêya meda şehîde
Tehqîq î bi kin ku ew seîde
( لوَ أنه ظاهراً أبدى شقاقا
فإنه باطناً أسدى وفاقا
لو أنه لم يحل بينا خلافا
لصار العشق وهماً أو جزافا
حقيقتنا به قد استقامت
طريقتنا به قد استدامت
شهيدٌ اسمه في مرتقانا
أجيزوه سعيداً في حِمانا)
لكن يجب ألا يخيَّل للقارىء، وكأن مته ، كان أقصى ما بذله، هو تحويل الحكائي الشعري إلى أدبي روائي، وأن نقاطاً أخرى، استقاهاً من( مم وزين)، كما في التذكير بالوضع المضعضع للكرد، إن الخطاب الروائي لمته، يتجاوز حدود أي نوع من أنواع الميكانيكية في التأثر، حيث خاني ذاته يكون شخصية من شخصياته، وبكو لا يعود بكو الآخر، إنما بكو الذي يظهر، وكأنه يقول ما لم يقله خاني، وهو كذلك، ما اعتبره باطناً، أو الحق الذي يعرفه أهلوه، وأهل التصوف، من خلال حالات وجدهم أكثر انساناً بالحق المتجاوز لما هو دنيوي، ونسبي ومتقلب، حيث يتلمسون حقيقة الأشياء فيما وراء الأشياء، ويكون هنا، كما قيل : خطابهم حجابهم.
هنا، يمكن مكاشفة العتبة الرؤيوية التي يتحرك عليها مته، وهي عتبة المنظور، وما يترتب على منظوره من تسمية الكثير مما يصدم بها الآخرين من بني جلدته، وهو بينهم: ليس بكو كما هومذاع أو مشاع عنه، وكما يجب اتخاذ الموقف الحدي الفالقي منه، ليكون آخذ الموقف بعيداً عن أي لبس ومساءلة عما يكونه هو، ربما في ذلك نوع من قلب العلاقة، إنما من الداخل العميق للمعاش كردياً، وراهناً، أي مواجهة الماضي بالحاضر، واستنطاق الحاضر بدوره.
الناس الذين يعيشون وفق إحداثيات مخططة، وخرائط توجه خطواتهم ، بشكل متوارث، فيكون الخطأ الذي كان التقليد المتَّبع، وطريقة التفكيرالضيقة الأفق هي ذاتها، والعالم المرصود بكائناته وأسمائه وحتى خيالاته وخرافاته، تتموقع في خانات قيمية ليس إلا.
خاني المستعاد عبر مته، بكو المستعاد عبر خاني وعلى لسانه، الماضي المستعاد، وهو قائم حقيقة، طي الحاضر، المستقبل المقلق جهةً، لأن ثمة مصيراً كارثياً يتهدد الكرد، وهنا تكون القيامة المركبة: قيامة خاني وما يشهد به وعليه، والقيامة التي يمكن أن تتبع قيامة عامة، إن استمر الوضع، كما هو الماضي البائس، حيث لم يمض إلا وفق الاعتبار اللنحوي اللغوي فقط.

بين عتمتين:
تبدأ الرواية والمكان معتم، كما تنتهي من خلال تواري بكو ثانية في قبره بعد انبعاثه، بين عتمة الليل، وعتمة القبر وما يحيط بالقبر من هيبة ومساءلة عن الخوف المكاني، يمكن متابعة الأفق المعتم، أو الطريق الذي يصعب سلكه. السارد يكون من جهة الروائي، دون أن يكونه، لأن ليس بالضرورة أن يكون الروائي، وإلا لكانت الرواية تسجيلية، أو متابعة لواقعة حية، يمكن التأكد منها، وفي الحالة هذه، لا يكون السارد بعيداً عن واقع يجري تخيله، دون أن يكون مفارقاً للمبثوث فيه. ثمة نشاط يتم فيه، مثلما ثمة كائنات حية، بشر، حياة تتفعل واقعاً بطرق شتى، فتكون الرؤية الأدبية، ومن خلال جركية السرد، متابعة للجاري واقعاً، وقد تم تركيبه.
تكون البداية هي النقطة الأكثر استثارة، إنها تعرّف بصرخة الكتاب، صرخة المولود، وما يعقبه من تحول وانتظار الآتي، ومن خلال الحركة المتجسدة فيه، يتشكل الانطباع وخاصية التأثر.
تأتي البداية هكذا( حرب، حزن، فرح... ذاك ما يعلمه الله وحده، إنما أنا لا أعلم. لا أعلم أين يكون أيضاً. كل ما يحيط بالمكان كثيف، وشبيه خيمة كردية سوداء. ص 7).
لا يكون الداخل في الحالة التجسيدية للمتصوف، على بيّنة مما يرى أو يسمع، أو ما هو ممتد أمامه، باعتباره يقيناً، لا يجزم فيما يذهب إليه، لا يسمي ما يتراءى له، إنه يصف كما يبدو له من الداخل، حيث يترك اليقين في التأكيد لمن يختص باليقين، كونه من أهل المعرفة، ويقينه احتمال، واحتماله ما يبقيه بين المصدّق والمكذب ، ليس من سوء الظن، إنما حباً في وجود من هو أكبرمنه، من كان، ويكون سبباً، في أن يكون هواه الأول، كان سبب وجوده في الخلق طبعاً. لهذا يضع، أو يعتمد المتناقضات، مزاوجاً بينها، ليحسن التفكير، ويولج في الخفي أكثر، إذ يسند العلم بالشيء، بمن صنع الشيء أو أوجده، كما يؤكد بقوله : لا أعلم، تكراراً، والتكرار ليس فلتة لسان هنا، إنما إبرازلخوف لا يُخفى، لوضع يولّد خوفاً، لعنف جار ٍ، كما سنرى ذلك أكثر لاحقاً، ولعل الكلمة الأولى هي أول اللغة، كما يظهر هنا، في لغة المتصوف، ربما متصوفنا، ومن هو على شاكلته( حربşer e R)، حيث جرى تكريدها( إذا سيقت كردية)، فتكون من حيث المعنى دالة على الحرب، كما في قولنا بالكردية، حيث نصف حرباً كبيرة قائمة ، هكذا şereke giran lidare، وباللغة المحكية كفعل هكذا çêbûye، وقد يذهب بنا المعنى هذا خطوة إلى الأمام، فنقول: الشر حرب في الكردية، طالما أنه يؤلب أناساً على أناس، وليس من شرورإلا لأن حرباً ما تكون قائمة، حيث كل تحديد لأي منهما يومىء إلى الآخر، ولو باختلاف النّسب.
والملفوظ لا يكون ملفوظاً إلا لأن ثمة تضميناً لمعنى معاش، ليس في الداخل نفسياً أو متخيلاً يكون، بقدر ما إن اللغة ذاتها توسع حدود القول، فيكون واقع مترام ٍ للنظر فيما يجري.
أكثر من ذلك، وربما ضمناً، لا يبدو أن البدء بكلمة (şer e: حربٌ)، يتبدى دون الحادث أو الحاصل تالياً، من خلال ما تم ذكره: حزن ، فرح، بسبب الحرب ذاتها، الحرب: الخلاف، الشقاق، لأن هناك ما ليس واضحاً، يثير الخلاف، كما في ذكرالخيمة السوداء تأكيد عتمة، وتأزم حالة، والعتمة أكثر من كونها مفردة أجيز لها الخروج، دون أن تحمَّل بمهمة أداء دور قيمي.
البدء الموسوم، يُتطوَّع مشهداً حركياً عبر العتمة، يقود إلى التوقف عند من يهمه أمره، من به الرواية تأخذ طريقها إلى حيث القيامة في انتظار من يسرد واقعتها، حيث الروائي يلتقي رجلاً: صوفياً كردياً داخل العتمة، مرثياً أمام نار تشتعل، يضرب على الدف، الف ذي الجلد، والجلد طبيعي، وهو يهتز، وكأنه في اهتزازه، يسترجع روح كائنه الحيواني الذي صٌنع منه، يوحد بين الصوفي والكائن الخفي، عبر لمس الأصابع: النقر هنا حوار جسدي مع خارجه، خصوصاً وأن الصوفي أعمى، فليس هناك سوى البصيرة، كما يؤكد وقع الاتصال نظراً بالصوفي، ولقاء الصوفي من الداخل وجدياً بالخفي كونياً: ( صوفي كفيف العينين كلياً، في العتمة هذه، وإزاء هذه النارالمقدسة، مثبتٌ ركبتيه في الأرض، وهوينقرعلى الدف المسنود إلى صدره. ص 7).
كما هي العتمة التي تخيّم على كل شيء، وعتمة الصوفي مضاعفة لحظة المجاهرة ببنيتها: العتمة الطبيعية، وعتمة النظر، باعتباره أعمى كلياً، تكون الأشياء متداخلة، ليس سوى النار، تلك التي تسمح للآخر: السارد، الراوي هنا، برؤية ما يجري، ولكن نار الصوفي التي تدفئه وترعشه، أكثر من كونها ناراً، كما هي بصيرته، إنها لسان حاله، بصره الداخلي لرؤية ما لا يراه الآخرون، حيث تبرزالحالةهذه، مفردة( مقدسة)، فلا تكون النار مجرد نار، وكفى، إنها روحه الأخرى، حيث الحنين إلى خاصية الناركردياً، ربما إلى وضع زرادشتي بالمقابل، كما تابعتُ ذلك، بأكثر من معنى في دراستي عن النار كردياً( نيران الكردي الفاشية)، النار التي تضيء داخل الصوفي : مروان.
إن الوصف الذي يتجلى في لغة الكاتب لاحقاً، والمتعلق بالرابطة الوجدية للصوفي مع الدف، من خلال حركة أصابعه، ووضعيته الجسدية، يشي بأكثر من معنى، لتعميق الحدث الجلل: القيامة!
فالمكان الذي يجد الراوي نفسه فيه، وهو في حالة نفسية خاصة، في عالم حلمي، من خلال الانتشار في المكان بروحه، ينفتح على تاريخ، لطالما ملأ دنيا كرده، وشغلهم روحياً، أي بوطان، وحيث يكون مقام أحمد خاني، المسمى هنا باستمرار( العزيز)، ومفردة العزيزفي الصوفية تتجاوز ظاهر المعنى، كما هو شأن كل مفردة صوفياً ( انظر حول ذلك، مثلاً" د. علي زيعور: الكرامة الصوفية والأسطورة والحلم، بيروت، 1977، الفصل السابع" الجدلية والصراع في الأسطورة والحلم"، وكتابه الآخر: العقلية الصوفية ونفسانية التصوف، بيروت، 1979، الفصل الخامس" مصطلحات التصوف: مصطلحات ذاتانية"...الخ)، الباطن موئل عالمي هنا.
وأن يكون ذكرٌ لخاني، ففي التو يكون توأمه الإبداعي( مم وزين)، وما لهذين من حضور، لم يعد مجرد طارىء تاريخي، أو سرد حكائي عادي، إنما كينونة ذات متنامية كردية، لأسباب تاريخية ومرام ٍ، بالتأكيد.
يوضح الصوفي مروان للراوي ، حيث يحدد موقع خاني كراماتياً، لتوضيح ما سبق ذكره:( يقال أن المسافة الفاصلة والباقية بين حضرة أحمد خاني والله، هي فقط شبران وإصبعان. لكن إن سألتني، عن المسافة الفاصلة بين جنابيهما، لا وجود أيضاً للشبرين والإصبعين. كلا، إن بين جنابه والله حجاب. ص 11).
لا يكون تقديس لأحدهم، إلا ويكون المكان محمولاً بالصفة تلك، إلا ويكون الفضاء الشاغل للمكان هكذا، إلا وتكون اللغة المنقولة والمدوَّنة، كما لو أنها الروح الحية العصية على الفناء، بصوتها المدوي، بطريقة لا يستوعبها، إلا من جرَّب خاصية الشعور الباطني بالقداسة: ( في الأمكنة كلها، على كل شيء، توحدت كلمة حضرة أحمد خاني والله، أحب الله جنابه كثيراً لكن ثمة فرقاً بادياً هنا، بخصوص اختلاف هذين الروحين الطاهرين، من خلال اللغة... اللغة الكردية. لا أدري لماذا، لكن الله قال لجناب أحمد خاني : أنا سعيد وممتن لك لأنك أصَّلت حبي في روح وكيان هذين الشابين ، بماء من ذهب أحلته روايةً ونقشته في صحائف. إنما بالكردية. ص14).
إنه ذهاب بالوجد في اللغة، وعبرها، حيث يكون الآخر، حتى لو كان الله، ناطقاً، أو متكلماً، ومرسوماً وفق متصورات ورغبات صاحب الوجد: الصوفي هنا، كما في القول المنسوب إلى الله، وهو قول ، لم يفه به الله، إنما كائن، هكذا تبدى له خالقه، عشقاً وتقديراً لمن يسميه.
ذلك هو التجلي الأعظم لما يتفكره الصوفي من الداخل، من جهة الكشف والمكاشفة والرؤيا بروحه، وحالة الذوق الغيبية التي يعيشها، والحجاب ليس جداراً، إنما مجرد قماش يسمح سريعاً بنفاذ الصوت، وربما برؤية ما تبادلية ما بين المخلوق الذي ارتفع درجة في التكريم الإلهي ، استثنائية، كما لو أنه صار في مرتبته( أتذكر هنا، حالة الشطط الصوفية التي كان يعيشها الحلاج، وهو يقول شعراً : أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا)، والخالق الذي حن إلى مخلوقه حنين الأخير إليه، شعوراً منه بأهميته وعلو كعبه أوليائياً.
ولأن الصوفي لا يدع الآخر في شك من أمره، يريه علاماته، أمثلته الحسية، كما هو الصوفي الذي يكون حامل الدلالة في رسالة يقر بمكانتها الرمزية، حيث يُعلم الراوي عن حقيقة خاني، خاني الذي يلفظ اسمه بتقدير خاص، يدرك الكردي معناه، رغم أنه عربي، لكنه تكرد عبر ثقافة نافذة تاريخياً، وتشرَّب روحه المحلية، أي ( hezret: حضرة)، وهي كلمة تتعلق بالتوقيروالتفخيم لشخص ما، إنها عملياً تتعلق بالحضور، بمن له اعتبار، ولكن في الصوفية، تكون hezret، مؤبّدة الشخص المعني، كما لو أنه حاضر دون غياب، لأنه مصنَّف ولياً، مباركَاً، وهذا خلاف ما هو متداول عندنا، عندما يقول أحدهم هكذا ( ez hazir im: أنا حاضر، جاهز)،ولا يجد المتحدث غضاضة في التذكيربالمعتبر ولياً أو صاحب كرامات، مقدماً إياه على الله، إذ يُذكر قبله، شعوراً منه بعلو مرتبته، وتعزيزاً للمكانة التي منحت له، والتي قد تجيز له ذلك، ولكن دون نسين حالة الشطط التي تتبلبل بها ذات المتكلم، وروحه، وهو يحيل اللغة إلى ما هو أكثر مضاء من حقيقتها، وذلك بعنف متولَّد على لسانه، كما في ( حضرة خاني) بداية، ويأتي اسم الله لاحقاً. وحقيقة خاني هي في حضرته، في أنه حاضر، كما يشهد من صار صار كرامات، وهو مأخوذ بحبه، أي الرجل الذي سماه الصوفي في الرواية، من جهة انتمائه المكاني şingalî، نسبة إلى منطقة شنغال ، وقد لزم مقام خاني، وهو مزار هنا، ليختفي في اليوم السابع: ( يقال، أنه في الليلة السابعة، لم يكن الشنغالي في موضعه، لم يكن لـه من أثر، حيث يكون مسقط رأس العزيزفي القبر، اختفى ، ولم يترك لـه من أثر هناك . لم يستطع أحد تحديد ما جرى له... ص 12).
دائماً المستجد والمتحوَّل في الليل، والليل هذا يشهد التحولات التي لا يبصرها، ولا يعيشها، إلا من لا ينام، من يبقى مستيقظ البصيرة، إن حجاب الظلمة ينزاح جانباً، وحيث يكون الآخرون، قد استسلموا لسطان النوم، وتبدأ سلطة الأرواح، وروح الولي، صاحب الكرامات تبقى هائمة.
يظهر الراوي ذاته، كما هو الصوفي، متوحدين مع المكان، قريبين من الجهة المكشوفة لهما، حيث يكون المقام الأبدي لكل من مم وزين، وبينهما بكو عوان، والمشهد المرئي بصعوبة ليليٌّ، ولكن النور دائماً يتكفل برؤية الهدف الذي يحرك الأحداث، ولتكون الرواية مؤكدة فعلها: النور الذي يستحضر النار، نور الروح، والنار المادية التي تتخلى عن ماديتها، منشغلة بجوهرها، كما هو الجسد تماماً، حيث الجسد النار، وجوهره : النور : الروح، وهي حقيقة تاريخية قديمة، تم الرهان كثيراً زرادشتياً، وما تعمَّق أكثر( هيراقليطس اليوناني، وقبل أكثر من خمسة عشر قرناً، اعتبر النارروح العالم، أسه: النارتوجه العالم، النارهي الحقيقة توضح الوجود...، هي بعض أقواله، تلك التي بقيت تتفعل فلسفياً حتى الآن، كما يؤكد ذلك نيتشه، في كتابه ( الفلسفة في العصر المأساوي الأغريقي)، باعتباره: البارز وسط الليل الروحاني...)،وربما كان في روح هيراقليطس توقُّد النار الزرادشتية، أو هي تشارك في خاصية النار، وما يتجاوزها ظاهرياً، كما الحال هنا روائياً عند مته.
الليل الذي يؤرخ النار، يظهرها أكثر، لتكون النار متكفلة بمعرفته أكثر، والراوي لا ينسى ذلك، وسط ليله الروحاني، كما تقدم بنا الوصف النيتشوي للحكيم الأفسسي، إذ يستحيل الليل قرطاساً والرواح الناطقة بناريتها وقد صارت نوراً مداداً وكتابة مقروءة، حيث يدخل حالة الوجد، ويرى ما لا يراه الآخرون، حيث يدقق النظر ناحية المقبرة: ( وأنا أرى شيئاً في اللحظة تلك، وأعلم أنه هو، حيث القنديل الذي يكون من جهة قبر العزيز، الذي نوره الناعم والدافىء يلمس زجاج النافذة المواجه لي، ويتراءى لون ذهبي أمام ناظري. ص 17).
هذا التلبس بالحالة الخاصة، حالة الوجد، لا بد أن يقلل من حضور العالم في المحيط، أن يدع العالم الآخر: العالم الداخلي، هو الذي يبرز للعيان، أن تكون الأشياء وقد اكتسبت أسماء أخرى، ولكن من وجهة نظر الحقيقة الداخلية، من جهة المواجهة المرة، مع ما يجري خارجاً، وعبر الصراع الذي لا يهدأ في الذات المنقسمة، صراع الأضداد، صراع الحقيقة مع ذاتها، كما بدأت الرواية بنا، وكما يحاول الروائي مواجهة قارئه، أو مواجهة قارىء ما، أو مواجهة ذاته بالذات، وهو يمضي معه، أو به، على اعتباره كردياً، في مشهده الليلي، مشهد الكردي الذي يعيش تاريخاً مختلفاً، صراع العالم بوجوهه داخله، كما في تتبع الصوفي، وهو قلِق ومقلق في آن، إذ يلاحظ المآسي من حوله، ويتصرف على طريقته، دون أن يكون سلبياً: دع كل شيء لكل شيء، وعش وكأن لا شيء من حولك ! الصوفي مروان الأعمى والمتبصر، هو خيط أريان الأسطوري، درس التاريخ المركَّب إبداعياً من جهةالروائي، لراويه الذي يتكلم ويصغي، ينفعل ويتفاعل، يتنشط ويكون له رد فعل، وهو يصغي إلى صوفيه، ربما قرينه الآخر فيما يعيشه بروحه، وهو يعلق( أي الصوفي)، على ما يجري، بألم، وليس بلامبالاة، كما هو الظاهر في الملفوظ القولي كتابةً ، ومن خلال القراءة: ( ماذا يهمني ، مَن مِن أي ماء، أو شراب يثمل ! من يقتل من لصالح من، ويُقتَل، ماذا يهمني من ذلك ! كلا، لا يهمني، أي ٌّ كان يكذب لصالح من، ويكبر به... خلق الله البعض من التراب، والبعض الآخر من الزبل، بمقادير! ذلك شأنه، وقد قلت أن دخل لي في ذلك. أقولها ثانية، لا شأن لي ، كيف تصرف الله، وبأي تقدير، بأي ذوق ، انشغل بالدنيا وجعلها دائرية. ص 19).
ولعل السؤال الذي يُطرح هنا، هو : هل صحيح كل ما قاله صوفينا؟ أهو حقاً غير معني بما جرى ويجري، يما يدور حوله، بما يمسه ويخصه من قريب، أو من بعيد؟ حسنٌ إذاً، هل الحالة التي يعيشها تبعده عما أورده أو تهجى به، أم تضغه في قلب العالم، وليس على هامشه؟ أليست الأسئلة التي تخص ما سماه، رغم أنها جاءت غفلاً عن الصيغة الاستفهامية للسؤال، هي في حقيقة أمرها، بطاقة تعريف رمزية، لا بل وواقعية به؟ فيما يعيشه وينهمُّ به؟
لكن يبدو أن المسار الذي حدده بنفسه، يقول خلاف ذلك، كما هي لغة الصوفي التي تبعده عن العالم المعاش حواسياً، بينما تضعه اللغة تلك في قلب العالم، طالما الرؤيا، وليس الرؤية، في منبتها أو مستنبتها الوجديين أو الصوفيين، والاستلهاميين، تلغي الجهات، تكاشفها في كليتها .
وهنا يتحتم علينا، التعامل مع الشخصية العمياء حسياً: المتبصرة روحياً، من خلال ما لا تسميه لغته، اللغة ذات الدلالة، كما هم العميان الذين يتبصرون أكثر من سواهم، من هوميروس إلى بشار بن برد إلى المعري، وليس انتهاء بطه حسين وبورخيس، لا بل من خلال اللغة بالذات، على صعيد المهمة التي تقوم بها في هذه الرواية، أو الدور المنوط بها أدبياً، اللغة المقروءة ظاهراً هي تقليد، بينما تتبدى اللغة التي يتكلمها الروائي، ومن خلال شخصياته المركبة من النفَس التاريخي والاستلهامي معاً، هي أصل ما، يُفترض أن يكون أكثر قرباً من ملامسة الحقيقة، كما هي النار التي تبث نوراً، وهو النور الذي يلامس زجاج نافذته المطلة على المقبرة الموسومة.

بين الشك واليقين:
ثمة ما يشبه اليقين إزاء الشك الذي يدحم به الصوفي عالمه، حلقة الوصل بين الراوي وبكو الذي سيستلم منه دفة الكلام، أي يمارس سلطته الرمزية، عبر العذاب الذي لا يخفى على ذي بصيرة نسبية، ما يكونه واقعاً، أي إن الصوفي إذ يتكلم، فإنه لا يقول إلا خلاف ما يمكن أ، يفسَّر ضداً عليه، من جهة تكوينه، وهو يشير إلى وضعه، وابتعاده عن كل إثم ممكن، يُرتكَب في محيطه.
إن التقريع الذي يواجه نفسه، كممارسة صوفية، عقاب ينزله بنفسه، إجراء صوفياً، ليكون كبش فداء، نوعاً من القربان الذاتي، بديلاً عن الآخرين، تكفيراً لخطاياهم، حيث العنف مستشر ٍ.
ثمة ما يقلق من لا يعيش الحالة هذه: الانتماء الدنيوي، والشعور بالآخروي، الإعلاء من قيمة المكان، من جهة تلبيسه بقداسة لافتة، والتشهير بالمكان ذاته، من خلال ذم من هم حوله بصيغة ما، وما في هذا التعبير من عنف ملموس.إن رينيه جيرار، يرى أن كلمة ( sacer) اللاتينية تُترجم أحياناً بـ" مقدس"، وأحياناً بـ" ملعون"، لماذا؟ ( لأنها تتضمن بنفس الوقت معنى الخير والشر)، ومن خلال كتابه ( العنف والمقدس، الترجمة العربية، دمشق، 1992، ص 280) .
هذا المعنى يمكن تلمسه، بجلاء، في كلمة الاستهلال التي أوردها، ودشن بها مته، روايته الأخيرة، وهي( Labîrenta cinan: مأزق النساء)، أفستا، 2000، وهي مأخوذة من "غونارأكلوف Gonnar Ekelof":
الشيطان هوالإله
والإله هو الشيطان
لقد أُعلِمتُ
على أن أضم الاثنين
أحدهما في صيغة
والآخر في صيغة أخرى
لكنهما صيغة واحدة.
وهي معلومة تري مدى فخية اللغة، في ازدواجية معنى كل مفردة فيها، ما عليه الظاهر والباطن، كما هو الصوفي ذاته، فالصوف يشير إلى التقشف، ولكن الصوف غال ٍ، لا يتسنى تأمينه لأي كان، هو خشن لكنه يدفىء، والصوفي إذ يقرّع ذاته، إنما ينبىء عن قدرته النفسية على التحمل، لأنه يرى أكثر مما يراه الآخرون، كما في هذا التقريع: المقبوس التوراتي، ومن سفر( إرميا)، ونصه: ( ملعون اليوم الذي ولدت فيه. اليوم الذي ولدتني أمي لا يكن مباركاً، ملعون الانسان الذي بشر أبي قائلاً قد ولد لك ابن)، وهو من الفقرة الأخيرة للأصحاح العشرين، إنما دون أن يكمل الفقرة، ونهاية الجملة هي ( مفرّحاً إياه فرحاً)، كما لو أنه لا يريد تذكيراً بالفرح، أي الدخول في حالة أخرى.
مته يعود بنامجدداً، إلى التوراة، ولكن المرة هذه، على لسان الصوفي، كما لو أن هذا قد قرأ التوراة، أم أن ذلك جاء تحميلاً من جهة الروائي بالذات، وما يعنيه التحميل من إزاحة لمفهوم الشخصية، وزحزحة للمعنى، خصوصاً وأن الصوفي معروف عنه: ثقافة، ومكاناً هنا.
أكثر من ذلك، ذلك التداخل بين الصوفي وإرميا النبي صاحب الرؤيا والمقرب من خالقه، لكنه المعرض للكثير من التشنيعات والافتراءات، والمعروف عنه بالصبر، والخوف على شعبه كذلك.
الاسم يعني عبرياً ( الرب يؤسس)، فما مجاله الحركي هنا، وهو مقبوس، وملفوظ على لسان، من يمكن الشك في ثقافته؟ أهي محاولة عبورعادية، أم أن تداخلاً لا منطقياً تخلل الرواية ذاتها؟
في التذكير بإرميا تسليط الضوء على وضعه هو، وعلى ما يتجاوزه.
ليس من تقليد هنا، أو محاكاة تماماً، ثمة استنارة بتاريخ،وربما توحيد مسارين، رغم اختلاف التاريخ، ولكن ما أكثر التشابهات، إذ المقبوس هو وضع قبسي، هو تحويل الممكن في موقع إلى ممكن مأخوذ به، في موقع آخر، من باب التعزيز لقيمة معينة، وتجذير الحالة، وفي الوقت ذاته، إفصاح عن بلاغة إخبارية، لتعزيز الثقة بمقول القول.
الصوفي متعّب ذاته، لمقاربة الجوهري فيها، والصوفي مروان، لا يضع اسمه في قائمة الأسماء التي تمضي في قاطرة التاريخ، دون النزول في محطة الجغرافياً، تبدو العملية بالعكس، إذ يمضي في قاطرة المكان الواسع، الجغرافيا الممتدة أمام ناظريه، وفي داخله، متدفقة بحيواتها، وتكون المحظة التاريخية من باب النظروالمناظرة، من باب مكاشفة طريقة تجذره في المكان في الصميم، كما يقول هو ذاته إثر المقبوس السابق مباشرة:( إنما الله ذاته يعلم ، على إنني إذ قلت هذه الكلمات... كيف أن الصغيريحتد على جدته بسبب حفنة من الحمص المقلي، هكذا أنا بدوري... قلت هذه الكلمات محتداً هكذا، مدفوعاً بحرقة قلب ورع. لهذا، فإنني قدر ما أستطيع أفكر وحدي بكل ما هونوراني، بكل ما هو إلهي. أتصرف هكذا، حيث أتعرض لتغييرٍ الليلة، فتتغير حياتي. كيف أقول ذلك... إنني بدوري، أفوض أمري إلى القوى النورانية، روحاً وأفكاراً، مثل جميع خلائق الله. ص 21).
إن كل هذا الحديث المستفيض، في تنوع إحالاته ومجالاته، لا يكون من هدف، إلا ويذكّر بالأبعد منه، كما هو التأويل، أو المفهوم الباطني لحقيقة الأشياء، حيث كل من الصوفي، وما ورد على لسانه، والراوي، وما اعتمل في داخله من مشاعر، كان بُغية الانتقال، إلى حيث يكون قبر العاشقين، إنما الأهم من ذلك، قبر بكو، الذي لا يّذكر إلا وهو مذموم، فتكون قيامة اللغة، وقيامة ما كان خاني أودعه رائعته، أعني فاجعته، أعني ما لم يكن يتداول في أذهان الآخرين، خلاف الكثير من مقصوده، على ألأقل، من جهة ما سماه هو بنفسه، كما رأينا .

صدمة بكو:
يتقدم الراوي من المقبرة، يلتقي بالظل الشفيف لبكو، بكو الخارج من قبره بقرارمرسوم، وقد ترك صدعاً، مثل حفرة، تؤكد ذلك، كما سيتوضح هذا فيما بعد أكثر، ويتردد صدى صوت بكو، بجوار قبره، يسمعه الراوي، واستجابة لخاني، حيث انبعث من جديد، وهو مثقل بالهموم والأوجاع، ولا يمكن إيراد كل ما قاله، لأن الكلمة طويلة، تناسباً مع دوره، ومهمته الصعبة، حيث يكون لقاء التاريخ بالتاريخ، انفتاح الزمن، ولكنه انفتاح بمعنى واحد، وهو استمرارما كان في الحاضر، إنما أكثر مأسوية راهناً، ليكون للحديث وقع مؤلم وآلم أكثر، كما في قوله:( يا كاتب رب العالمين، ألا قم. ها قد قدمت. بناء على طلب جنابك وأمر سماوي خرجت وقدمت. أنا.. كما سمتني لغتك علانية، أنا بكر. لكن جنابك أيضاً يعلم أنهم كانوا يلقبونني في الكردية البائسة، وفي زمننا بـ: بكو عوان. ولا أدري الآن أي وضع، أي سنة، أي زمان هو. لا أدري أي شهر، أي يوم هوأيضاً. لكنني قبل حلول عتمة وضوء قريباً من فناء بيت الله نهضت، وحتى الآن أيضاً أنا في هذه الأمكنة، مترجلاً أطوف منقاداً بالألم والهم. في هذه العتمة والنور أبصرت أشياء كثيرة، وسمعت أشياء كثيرة، أيها العارف. أصغيت من خلال حديث جنابك مباشرة، وحديث الناس، إلى حكايتي أنا وذينك العاشقين. أصغيت حيث تكون عظمتك. قدرك وعظمتك على عيني وعلى رأسي، إنما.. ص27).
الراوي يتابع ما يجري، حيث المناجاة تطول، والموضوع يخص سبب قيامته، ولماذا هو مكلف بهذه المهمة الصعبة، وما الحكمة في ذلك، إلى أن يقول بكو مفاجئه، وهو يشير إلى قبرين العاشقين ، وإلى قبره الملاصق لهما: ( يعلم جنابك أن حدود الطرفين ، هي هذه الشاهدة. هذه الشاهدة وهذا الحجر. فقط هو هذا، حيث الجهتان، الدنييان تنفصلان عن بعضما بعضاً. إنما... الآلام والهموم الرهيبة،والثقيلة الوطء هذه، هي في هذه الجهة من الشاهدة حيث... خصوصاً عندما نتقهقر إلى الوراء. أيها العارف، وقتذاك نحس أكثر بهذا الألم وهذاالهم. وبتأثير من فنك وكتابتك، كان هذا من قسمتي، لكن لا جعل الله ذلك من قسمة أيٍّ آخر. ص 28).
من هنا، تبدأ رواية بكو، الرواية المنتظرة، تلك التي أعد لها الروائي منذ البداية، وأظن أنه على مدى خمس وعشرين صفحة، لم يدخل في تفاصيل منزوعة الصلة ببكو، خصوصاً وأن المساحة التي شغلتها الصفحات المذكورة، تشغل قرابة ثلث الرواية، كون الرواية هذه تخص بكو، وتعود إليه، وخصوصاً أكثر، لأنها في اسمها: العنوان، تعود من جهة الملكية الرمزية إليه، وأكثر من هذه وتلك، لأن الروائي في كل محاولته الكتابية والروائية، لم يقترب من خاني، أو لم يؤم صوب بكو من خلاله، وينبش في تاريخ عاصف، إلا تعقيباً على تعقيب، ولو كان ذلك شعراً وارداً على ما هو نثر( علاقة خاني بمن قبله، حول بكو ورمزيته)، وأن هذه السلسلة الإنشائية المعمارية، لاستجلاء ما هو عاصف هنا وهنا: يكون الكردي هو المعصَف به، أو في مهب العاصفة راهناً.
وأظن أنه إذ مارس كل هذا التتابعات، فلتأكيد فنية خاصة به، دون الوقوع في التكراراللاوظيفي، كما هي اللغة الحرفية للصوفي، أو نوعية المتصوف الذي يعيش العالم بجدية، إنما على طريقته.
بكو لا يتحدث إلا بعد تمهيد، وهو لا يؤكد مشروعيته في الحالة هذه، إلا لأنه في شخصيته الإشكالية، ومن خلال المتداول عنه، كان لا بد من عبور حواجز، يتداخل الراوي ومن يروي عنه، ومن يرسل إليه معلومة ما، كما هي ( مم وزين)، فمفتاح الحدث بيد بكو !

بكو في الذاكرة الجمعية الكردية:
بكو الذي صار جزءاً من الذاكرة الجمعية، وداخلاً في الوجدان الشعبي، لم يعد بإمكانه أن يغيّر صورته، فكما تم تداوله، هكذا استحال رمزاً، وهو رمز لا يقبل التأويل، بقدر ما صار حمال الوجوه المولغة في السلب. والروائي ، إذ يتعرض للحوار الدائر بين بكو المتخيَّل وقد انبعث بقرار إلهي، وكما تمنى خاني، وهي لعبة روائية هنا، يمرر فكرة الزمن، وما تكونه الفكرة هذه من تأثير في الناس، وكيف يكون الناس من زمن لآخر، سوى أن بكو يظهر أن الزمن باق ٍ كما هو، لا بل ، يتحرك نحو الأسوأ، حتى يكون المفارق والمفاجىء للذين، لا يمكنهم أن يأخذوا بحقيقة شيء ما، إلا بما يشبه المعجزة، ما يكون خرقاً للخارق. بكو يظهر ما همو عليه الناس في المكان الذي كان فيه، من جهة الموقف منه، كما يقول محاوره الذي هو من لحم ودم، من سكان المنطقة: بوتان، وهو الصوفي بدوره، واسمه تمر. حيث لا يصدقه في البداية، لوجود أكثر من سبب، أولاً لأن بكومضى قبل حين طويل من الدهر نسبياً، ولأن الاسم الذي يسمى به مرفوض من عامة الناس، كما يؤكد ذلك نفور الآخرمنه، من اسمه، رغم أنه منساق ما هو متردد في وسطه، ليس إلا: ( لا أدري، يقال، على أنه اسم لا خير فيه، اسم منحوس، وقد صار ذلك هنا عادة... لا أحد هنا ينادى عليه باسم بكو . ص 34).
هذه رسالة الآخرين عبره، إليه، وفي الوقت ذاته، فاعلية العادات والتقاليد، في مجتمع، ترك الكثير من الأنشطة التفكيرية الفاعلة جانباً، واستسلم للأعراف، كما لو أن لا فرق هنا، بين ما هو " قبل" و"بعد"، لا وجود لهذه المراحل، والتحولات، فقط ما يتغير، هو وجوه الناس، أسماؤهم، بينما الذهنية تظل هي هي، ماكان ليس سوى ما هو كائن، وما هو كائن، ليس إلا ما كان، وحدة الزمن، باختلاف الناس، وبقاء الذهنية ذات الوجه الواحد الفاقد للاختلاف، هي ذاتها.
إن اللعبة الروائية للكاتب، وفيما انتقاه أسلوباً لمكاشفة بنية الذهنية، تترك القارىء في مواجه مفاعله النفسي، مدى استجابته لما يمكن أن يمسه، وما يكون عليه موقفاً، إذ عندما يقول على لسان الصوفي تمر كلمته هذه، وهو بادي الاستغراب: ( هِم ... تعال وتفرَّج. لقد شابت ذقنك، يرضى عليك ! أي بكو؟ لا بكو هنا، أو من هنا. اسم بكو استحال اسماً زنخاً، ولا أحد ينشغل به. ثمة... ثلاثمائة سنة، ولا أدري كم سنة أخرى، كان هنا بكو. كان في زمنه فاسداً وكذاباً كبيراً، لكن كما قلت، اليوم،لا وجود لاسم كهذا... بوطيو ذلك العهد قبروه أيضاً، وشكراً لله إذاً، لأن شخصاً باسم بكوحقيقة، لم يظهر إلى الدنيا. أريد أن أقول... لست أنا من يريد أن يقول، إنما الروايات هي التي تقول، بدءاً من ذلك، وفيما بعد، في الأمكنة هذه، لم يسم أحدهم ولده باسم كهذا، ومازال الوضع كما هو... ص 36)، فإنه يقول ما يجب أن يقال، كما لو أن الاسم باعتباره علامة، والعلامة تتحرك اجتماعياً في الذاكرة الجمعية: العُرفية، هي التي تمارس تفريقاً بين الممكن واللاممكن، بين القابل للأخذ به، وما يشكل دخولاً في الاستحالة، أو المحظور، وفق ذهنية المفارقات الكبرى، هذه التي تعرّف بأهليها في وحدتهم السلبية، في الفصل المطلق بين الموسوم خيراً بمقاييس مقررة، والمعتبر شراً، بتعريفات نافذة، حيث بكو الذي مات، لم يمت مفهوماً، بقدر ما صار أكقر قابلية للأخذ به، لأنه يُتصوَّر بالطريقة التي يريدها من له فيه غرض أو لا، وهو لا يستطيع مقاومة، لأنه، كما هو معلوم، مفارق الحياة، كما لو أن الأسماء والمسميات، تقيم في الدالات، في منحاها الحسي، وتترك المدلولات جانباً قصياً، كما هي الأونطولوجيا في توضعها الفردي، أو المتسوق، باعتبارة محفوظة ومحروسة، ولتبقى الأنطولوجيا: الوجود هنا، أو الكينونة خارجاً، في خانة العدم، أي إن ذلك، يري مدى الصعوبة الفائقة في التحول، وتفعيل التغييرالمدى مجتمعياً.
ولعل الكلام الذي يوجهه إلى السارد، باعتباره طرفاً في الموضوع، لا بل هو الذي يمكنه، أن يوصل المسموع إلى أبعد مدى زمني ومكاني، إذ كما كان شأن خاني في الموقف من بكو، وكيف صيَّره وسيَّره باسمه ومقامه وسلوكه الذي أُدمِغ به، رغم أنه كان هناك من سبقه في ذلك، ولكن خاني هو الذي أصَّله أكثر في الذاكرة الجمعية، بمعرفة جلية لخاصيتها، هو الذي ساق الذاكرة هذه نحو حتفها الرمزي: أن تحيا وهو ميتة، من خلال عدم الاستعداد للتغيير والتحول، وهو بذلك يحمّل الكاتب، الكاتب الذي يعتبر نفسه ممثل مصير اجتماعي، والرقيب على الذاكرة تلك، وكذلك الضمير التاريخي، مسؤولية تاريخية ووجدانية، باعتباره الممرر والمعبّر للأشياء تقويمياً، من خلال طريقة عرضه لها.
أكثر من ذلك، ليس السارد، إلا الوجه الآخر لخاني، إن ما قام به خاني إبداعياً قد كلف الذاكرة الموسومة الكثيرمن المتاعب، من جهة إتلاف قواها، وتاريخيتها، ولما أراده خاني في باطنه، ولكن الظاهر غلب الباطن، وأقصاه نفياً ونعياً مذمومين، هكذا يكون السارد المخاطَب، ليكون مسمي الباطن، والمشدَّد عليه، ليقول للقارىء: النموذج الأكثر عمقاً في الرؤية، ما عليه أن يقوله لمن حوله، خلاف المتداول عن بكو، وحتى عن خاني نفسه، وربما كان في ذلك بعض الغمز مما كتبه خاني، ولو في السياق، بعض الوزر المحمَّل به، ليكون الكاتب مدركاً لحقيقة خطابه حتى لو إزاء مستقبل يمتد سنوات طويلة، كما الوضع هنا، أن يراعي الشخصية التي يبتدع في تكوينها، وينظر في الوسط الذي يعيش فيه، فيكون السارد الذي يصغي إليه بكو، خاني مختلفاً، ليكون الذين يأتون من بعده، الوجهَ الآخر للحقيقة ذاتها، تلك التي أرادها صاحب( مم وزين)، حيث أعيته الحيلة والوسيلة في إقناع تمر، ماهو عليه، بالطريقة التي تعوَّد عليها: ( ويا كاتب مم وزين، إن كل الذي تحدث فيه الصوفي تمر، لا أريد الآن، أن أفصل فيه، وأعيده لجنابك. لهذا أنت تعلم بأمرك وكراماتك. ص 39)، ليقول ثمئذ بصدد الدور الذي قام به، ومن خلال ماقاله الصوفي تمر له: ( أقول لك باختصار: إن حب ذلك العاشقين، صار حباً إلهياً. لكن كما يقال: لا قمح بدون زؤان، في هذا الحب الإلهي، كان ثمة يد آثمة، كان هناك بكو عوان، كان شريراً في إمارة ذلك الوقت. كان في عهده كذاباً كبيراً، كان فاسداً ونماماً له صيته. هو الذي عكر صفو حب هذين العاشقين، وفي النهاية تصرف كما يريد، كما أملته عليه مفسه، لكن الله لم يهملها عليه. لقد قُتل.. وأهل بوطان في ذلك الوقت، دفنوه بدوره مقابل العاشقين... بدءاً من ذلك اليوم، وفيما بعد، وحتى الآن، للسبب المذكور، لا وجود لاسم ولو وحيد لبكو. لقد نفر الناس من هذا الاسم، الناس آثروا السلامة بالابتعاد عنه. ص 40).

الاسم والتمثيل:
الصوفي تمر، نموذج مجتمع، قد يكون محتوياً إياه فيما يقوله، من باب التمثيل القيمي، بصدد الموقف مما كان ماضياً، ولا زال ساري المفعول، وهو يؤكد مدى تجذر الهوي الديني، وما يتسلسل عبر الدين إلى الوجدان الشعبي، وكيف تتسير ذهنية العامة، الأمر الذي يعني، أن لا قوة قادرة على تحريك الجامد، تحويل ما هو صلب إلى بخار، وفق قانون تحول الكم إلى الكيف اجتماعياً، إلا بوجود قوة موازية على الأقل، حيث كانت رؤية الحفرة المرئية، تلك التي دلت على أن بكو الذي كان، هو ذاته الذي يتكلم، فتبدأ اللغة بالتبلبل، إشارة أولى، إلى أن أول ما يمكن أن يتعرض للتغير، في الواجهة الاجتماعية، تكون اللغة ذاتها، مثلما هي اللغة ذاتها التي تنقل وتنقّل ما هو معمول أو مأخوذ به في المجتمع ، ( فالحاجة إلى العنف تكمن عميقاً في بنية اللغة)، كما قال جان جاك لوسركل، في كتابه ( عنف اللغة، الترجمة العربية، ص 419)، حيث ما يؤخذ به، تم عن طريق العنف، وما تراءى كان ممارسة عنفية مرئية، ولكن الظاهرة هذه عرَضت اللغة نفسها لعنف ، يعرض عنفها المتداول لما من شأنه التغيير في مساره، كما هو الحال إزاء بكو، وهو أكثر من كونه بكو اسماً وقيمة، حيث انذهال الصوفي تمر، مرسوم باللغة التي كانت تُسمع من خلاله قبل قليل، في منتهى الهدوء، وكذلك الانضباط المرئي، فتصدعت الواجهة، واجهته النفسية، لأن ثمة ما يمكنه الشك فيه، من خلال ما لا يُفهم، وهو في هيئة سجود وخشوع أمام بكو، وقد تملكه الرعب: ( اسف... آن إل آه آهي... بسم مي ميم إيلل .... ص 43 ) .
إن الكلمات هذه، لا تعني أنها مجرد حروف متلاصقة، أنها منزوعة الترابط، ويستحيل التعامل معها، إلا من منظور اللامجدي فهماً، بالعكس، إنها بطريقتها هذه، ومن خلال المشهد الحسي الذي كان فيه تمر، ومقابله بكو، وعبر سلسلة الحوارات الطويلة نسبياً، يمكن مقاربة البنية الذهنية له، وكيفية تعرضها للتصدع، إنما بوجود الأداة التي تكون غير مألوفة، ووحده اللامألوف يكون عدو، ومهدد الذهنية التي تستأنس بتاريخها، تستكين للراحة، وفق أطر محددة من التفكير.
البلبلة علامة فارقة للذهنية التي تصطدم بواقعة جديدة، وترى أن لا مجال لتجاهلها، لأنها تشكل خطاباً موجهاً إليها، مثلما أنها كانت في البداية شكلت حالة خلافية فيها، وتأممت في خانة المألوف بعد مرور فترة زمنية، والوعي الديني في كثافته المفهومية، ينصدم أكثرلبنيته المركبة.
إنها الذهنية التي تآلفت مع مجموعة من الأوامروالنواهي، حيث يؤخذ بمصداقيتها، من ناحيتين: دينية ودنيوية، ولكنها حين تلتقي بما هو خلافي، تكون الصدمة أكبر، ولعل اللغة المتلبلة، هي علامة إنذارية وإشهارية بأن الحاصل كان خطأ في التقدير لما كان.
هنا تعود بنا اللغة إلى المكان وأهليه، إلى خاصية المعتقد، وما يقوم عليه مرتكزات لتقويم الأمور والموقف مما هو مستجد، كما في المحاكمة الذاتية التي يجريها الصوفي لذاته، بعد الذي حصل، وهو مذهول: ( يا لي من خطَّاء كبير، إلهي نحن... أهل بوطان يا لنا من خطائين كبار ! اعف عنا كرمى أوليائك وأنبيائك، شيوخك وأتباعهم، يا الله ! لتكن عين الله علينا... ظاهرٌ، أنها القيامة الثانية هنا، علينا... تقوم وحدها في جزيرة بوطان... ص 47).
يبحث الشاعر بالإثم عن الأسباب والمسببات من الخارج، إنه لا يستطيع تحديد ما يجري، في مستجدّه، لا يمكنه إيجاد المخرج تفسيراً منطقياً لما يحدث، إلا اعتماداً على ما سلف، ودائما يكون البحث عن الغيبي، عن اللامسمى، وغير الممكن الجزم به دنيوياً، فثمة دائماً ما يثقل على القوة العقلية، وثمة باستمرار، وهي في وضعيتها تلك، ما يبقيها مهددة بذاتها، وفي ذاتها، طالما الخوف يتوعدها بطريقة ما من الداخل، كما في قول الصوفي، حيث يحيل الجاري إلى أخطاء وذنوب، وبذلك يكون الخطأ الحقيقي غفىً عن الاسم، ولكن هل حقاً ، يكون الواقع هكذا؟
كلا !، والذي يفصح عن ذلك، هو الجاري التذكير به في بوطان ذاته، فتكون الذاكرة الجمعية، في تجليها القطيعي، في هيئة الثكنة التي تسجن الجميع داخلاً، وتعاقبهم، كما لو أن الجميع داخلين في لعبة الانجراف وراء غواية الخطأ المداهم، وبذلك تبقى الذهنية الحاكمة ، الذهنية الانتقادية مؤجلة، أو في طور التأجيل، ولا يعود ثمة مجال للمكاشفة الفعلية للخطأ الحادي واقعياً.
هذه الحالة: الظاهرة، تكون بفعل مسمى، فثمة دائماً من يقوم بارتكاب الأخطاء، وفي نطاق الذهنية القطيعيةالطابع، يكون الخطأ فردياً، ومن قبل المعتبرين أولي أمر، ولكن النتيجة المترتبة ترتد جماعية، لتكون العقوبة جماعية، ولا يعود من مجال لمعرفة من يكون المخطىء أو الآثم، بلغة الدين، أوالمسبب للخلل هنا أو هناك، لأن الغيبي، يعني التمويه على جوهر الموضوع، والشعوربالمسؤولية الجماعية، هو في حقيقة أمره، إعاقة لتجلي أي محاولة تسمي المخطىء مخطئاً، ووفقاً لتصور كهذا، يبرز الصوفي قرباناً مضحى به ذاتياً، لحساب الآثمين الفعليين.
هكذا يكون التوضيح، بلسان القربان المجتمعي، ومن قبل السارد روائياً طبعاً : ( منذ أكثر من ثلاثمائة عام، نحن أهل بوطان، في طريق ضلالة وشائك. أي تراب هذا الذي تعفرنا به، يا الله ! أنا أيضاً مذنب... لربما كان ذلك شأناً وتقديراً إلهيين... شأن الله وتقديره، حيث بالصورة ينزل علي لعنته... شأن الله وقدرته. آمنت بالله، بوسعه أيضاً أن يطبق السماء، وبوسعه كذلك أن يمحو الأرض. وهذه المحنة... ونفاق الناس هذا في بوطان، لعلك تحيله لتقدير إلهي، لئلا ينزل علينا لعنته، يا حضرة بكو . ص 48).
إن اللغة التي يتكلم بها بكو تتراوح بين لسان المتكلم المفرد، والمتكلم الجمعي، حيث الشعور بالخطر الكبير، ومن خلال المتصوَّر عما هو جار ٍ، هو الذي يتهدده من الداخل، فيلوذ بلسان المتكلم الجمعي، لعل في هذا الانتقال،وداخل الكلمة الواحدة، ما يخفف من الرهبة التي تولدها الحالة الجديدة . إذ لا يكون النفاق، والمحنة، والضلال، سوى مفردات، تمتح حضورها من معين لا يؤطَّر، بقدر ما يكون منزوع الجهات، كما يريد ذلك المعنيون بإدارة أمور المجتمع.
إنه لأمر مقلق حقاً، حين يكون الذي يقوم بارتكاب الأخطاء، ويعمل لصالحه، ويحاول التستر عليها، ليشرك في الخطأ الحاصل عموم المجتمع، وكأن تسميته، دخول في إثم أكبر، وهذا يشدد أكثر على مدى نفاذ الحاكمية القطيعية في وعي العامة، كيف لها، أن تبقي العامة باستمرار مثقلين بالأخطاء، ويئنون تحتها، وكأنهم منذورون للخطأ وللتكفير عن الخطأ.
ولكنه قلق، لا يني يتراءى نتاج واقع تاريخي، كما يعلم الضليعون في أمور المجتمع، بصيادي الأخطاء، وكيفية إدارتها، والذين يريدون نفعاً أو انتفاعاً، وكيف يوقعون بالذين لديهم استعداد نفسي، في أن يكونوا مضحين بذواتهم خوفاً من عقاب أكبر، يحدده لهم ، من هم موسومون بأهل الحل والعقد، وبكو في قيامته، يشكل مرصداً لهذا الحالة الظاهرة، وقلباً لجار ٍ داخلاً.

بكو في الداخل أكثر:
أنتقال بكو إلى حلقة أكثر خطورة في السرد الروائي، في الوقت الذي تتسع الدائرة فيه، وتضيق في آن:
اتساعاً: على صعيد المكاشفات والمقارنات، بين ما كان عليه عصر بكو، وما هو عليه العصرالذي انبعث فيه، حيث المفارقات المروّعة أكثر إيلاماً.
ضيقاً: من جهة الاقتراب ممن يعتبرون أنفسهم أولي أمر المجتمع، أي معاينة العصب الحيوي للمجتمع، وكيف ساء أمره، من جهات مختلفة.
في الحالتين، يكون بكو السارد، ناقل الصورة، أو المتكفل بوضع النقاط على الحروف، من وجهة نظره التاريخية والمعتقدية، وهو في الحالة هذه، يكون الشاهد على ما كان حقيقةً يحس بها ويتحسس لها، وعلى ما يجري، ضداً على من كانوا شهوداً عليه، ومن يحاولون أن يستمروا شهود حق، يضحى به : ( نعم، لقد قلت، لقد بدأوا عندنا أيضاً و... اليوم، بمقدار ثلاث وثلاثين حبة من حبات المسبحة هذه ثلاثة وثلاثون منافقاً أشباه أبي لهب، قد قاموا ولا ينقص عدد الخونة فينا. لكن... ليكن أمثال هؤلاء، هؤلاء الثلاثة والثلاثون حجلاً أعداء قومهم، على بيّنة تماماً، على أننا سنرميهم أمام محكمة الشعب ... ص 58).
ذلك هو مشهد من المشاهد التي يتابعها في بوطان، إلى جانب رجل آخر من الشعب نفسه، من الكرد في بوطان، وكيف يكون المنافقون، وهم يمارسون مزاودات باسم الشعب، باسم الكرد، وهم يتوعدون من يحاول التقليل من مكانة الكرد، وتحديد المصير الأسود الذي ينتظرهم ..
ما يراه بكو في بوطان يروّعه، وهو يدخل في حوار مع دليانDelyan، رجل آخر في سلسلة المعاصرين الكرد، الذين يعيشون وقائع لا يطمئن إليها المرء، حيث يعرّفهم بما وراء المرئي، ما ليس حقيقة في الإيمان الظاهري، كما في مواجهته لذلك المتدين دليان بدوره ، وهو يسأله عن شروط الدين، وكما يعرف هو، فيكون ما يصدمه، في جواب بكو: ( لا دين ، يا حجي... لا دين، الإيمان غير موجود، المعتقد غير موجود، الثقة والتقديرغير موجودين. قلت الخليفة، لكن الخليفة غير موجود، قلت الصحابة، لكن الصحابة غير موجودين. هم يقولون، لكن لا شيء من ذلك بموجود، غير موجود، أيها الحجي الطيب، غير موجود. ما يجري اليوم في جزيرة بوطان يا حجي، ما يحدث، ويشاع، مذهل، ولا معنى له، حيث أن لا اسم لكل ذلك، حتى عند الله ذاته. الكتب المقدسة تقول إن كل ما يجري ويحدث، يكون بتقدير من الله. كل شيء يجري، ويحدث، ثمة اسم له عند الله. من قال أن الله خلق الشيء ومنحه اسماً خاصاً؟ هنا، في بوطان، اليوم، والآن، ليس الوضع هكذا، ما يجري اليوم، ما يحدث اليوم، وذلك الذي يقال اليوم، يا حجي، غريب عن تراب بوطان وحدودها، هو خارج الدنيا، وهذا المكان ... الخ. ص70).
توغل بكو في سلسلة المقارنات، بين ما كان، وما هو قائم، يري مدى المنظورالنقدي، وفي قالبه الأدبي لمته، وكيف يحرك بكو راويه الرئيس، إنما يظل مرتبطاً بسلسلة النسب النقدية، بخاني، وعلى طريقته هنا، كما ذكرت، حيث التركيز على وصف المكان، وحالة النهب والبؤس التي يظهر فيها، تشكل صورة شعاعية، إن جاز التعبير، للذين يعيشون فيه، والمسؤول عنه، كما يعلم كاتبه الآخر، أي السارد البادىء بالرواية، وفي موقع يساعد على النظر والتوصيف: ( وفي ذلك الفِناء، أيها العارف، في ذلك المقهى، أدركت.... أدركت أنه في عهدنا، كانت المدينة وإمارة بوطان في وضع أبرز مكانة، والآن بالمقابل، هي في زمن ووضع أبرز رزالة. مدينة سيئة وقميئة، مدينة نمامة وكذابة، قد خرجت من الأرض المقدسة تلك، وكفى. ص 74).
ثمة رثاء للمدينة وسخط عليها، حيث بوطان التي تتموقع في الرواية، تتجاوز مفهوم المدينة الواحدة، إنها أكثر من كونها مجرد مدينة، وساحة لإحداثيات الرواية، حيث تشكل النموذج الأكثر رحابةومهابة أيضاً، لما هو كردي كردستانياً، انطلاقاً من المكانة التاريخية لها، من عراقتها، على صعد مختلفة، وكما نعرفها من خلال خاني الأدب ، وبدرخانيي القوة والثقافة.
ولا يمكن المضي مع بكو، وهو يبرز خلاف المأثورالتاريخي، والمتداول عنه، ولعله بطريقته السردية هذه، بعينه الكاشفة لما يجري، يري مرارة الواقع أكثر، ومن داخل التاريخ، كما في استشهاده لاحقاً بأبيات عدة، تصف المدينة، وكيف تبدت روعتها وفخامتها، في يوم سابق، خلاف ما هي عليه اليوم:
مدينتنا لم تعد كبيرة وعريقة جداً
لم تعد ممتدة على جبال سبعة
لم تعد بثلاثمائة وست وستين بوابة
كل بوابة لم تعد تشرف على ثلاثما ئة وست وستين ولاية
كل ولاية لا تتكون من ثلاثمائة وست وستين مديرية. ص 76.
إنها بداية حكاية( مم وآلان)، حيث الوصف يشكل بطاقة تعريف بأهمية المدينة وقت ذاك، ليكون الدخول في الجانب الاجتماعي والعمراني لها، ليكون الحديث عن حكاية ذاع صيتها، كما هي المدينة التي اشتهرت، وكما كان الوضع أيام خاني، رغم كل ما يمكن أن يقال وقتذاك، ولكن المذكور هنا، خلاف المذكورفي بداية ( مم آلان)، حيث النفي لما ورد هناك.
بكو يتحدث عما كانه، وكيف ضحي به، وزال يضحى به حتى الآن، تهرباً من المسؤولية من قبل من لا يريد الاعتراف بإثمه، أو غلطته، يتحدث بكو عن نوعية الدور الذي كُلف به، وذلك في علاقته بكل من مم وزين: ( بقدرة إلهية بلغت بحبهما السماء العلى ومرتبة سامية. أعيد ذلك، أنا لم أعكر عليهما صفو حبهما، أيها العارف. كان قصدي وهدفي بعملي، الرغبة في ألا يكون حبهما، كما هو حال الكثيرين من الناس اليوم، حباً عادياً، أن يتلوث حبهما. من أجل براءة حبهما، لوثت سمعتي وذاتي، بصورة أخرى، عندما بحثت عن الله، سلكت الطريق الأكثر خطورة، وكما يعلم جنابك بذلك، من أجل هذا الحب المقدس، غامرت بروحي كذلك. إنما الذين يقومون اليوم بمهام مقدسة، ثق تماماً، أنهم، لا يضحون بإصبع واحدة، موافق ! . ص 85).
لم يعد من أمل لبكو في أن يستمر، وهذه مفارقةالمفارقات في التاريخ، حيث ينقلب بكو هذا على تاريخه، تاريخ الناس الذين تصوروه وصوروه السلب المذموم الأقصى، وهو ليس كذلك، بكو صنيع خاني، وخاني الكردي الشاهد على تاريخ، قال فيه كلمته المؤلمة ، بصدد تشرذم الكرد وتنافرهم، ويظهر بكو ، لسان حال خاني، إنما بتركيب مختلف من لدن مته، الشاهد المتكلم باسم خاني حقيقةً، وباسم مته أدبياً، وتكون عودته إلى قبره اضطراراً وفراراً من واقع، هو ذاته، غير قادر على الاستمرارفيه، لأن ليس من أمل يكون باعثاً له على البقاء، وليس من سبب يقنعه وسط المدينة الخراب، والناس الخواء، يكون اختفاؤه جنائزياً من نوع مختلف، مرافقَاً بسماع صوت أذان صباحي شجي، تعميقاً للحدث الحدادي المضاعف، كما هي النهاية المرسومة من جهة الراوي الأول، نهاية تلتقي بالبداية، كما أسلفت : ( وفي اللحظة تلك، أسمع أذان الصوفي مروان، بإيقاع بلالي متناغم . ودون أن أحوّل وجهي عن قبر العزيز هناك، في تلك الأرض المقدسة أصلي ركعتين صباحاً، وكل ما جرى لي، في الليلة تلك، أمام قبر العزيز، لازال يتراءى أمام ناظري، وحتى الآن لم أخبر أحداً بذلك . ص 88).
تنتهي الروية، وتستمر الرواية في الحالات التي لم تسمها الرواية، كما هو خاني الذي استشعر، وسم أشياءه، لتمارس الأشياء هذه حضورها في التاريخ وفي المجتمع، في النفوس والرؤوس، وليكون مته بدوه مسمياً كائناته الموسومة أصلاً، إنما بحلة مختلفة، في عصر، مهما كان الموقف منه مقارنةً، يكون مختلفاً، الرواية التي تشكلت حلقات، وتتالت فيها التأكيدات والتكرارات لكلمات وجمل، توخياً لغايات معلومة، وأخرى تتوقف على نباهة الكاتب، ومنذ البداية كذلك، كما في هذه الأمثلة : ( أنا أعلم، أنا أعلم، ص 7- يعلو، يعلو، ص 8- أنا بدوري... أنا بدوري، ص 20- في هذه الأمكنة، في هذه الأمكنة، ص 36- ليس معقولاً، ليس أمراً معقولاً، ص 38- في الخطوة تلك، في الخطوة تلك، ص 42- أريد أن أعلمه، أريد أن أعلمه، ص 46- أنا بكو، بكو عوان، ص 47- شأن وتقدي إلهي، شأن وتقدير إلهي، ص 48- لا أتكلم زيادة، لا أتكلم، ص 52- على أ،ه صحيح، صحيح، ص 67- المرة الثالثة، المرة الثالثة، ص 69...الخ).
بكو عوان هذا،صار ضليعاً في معرفة من هم حوله ماضياً وحاضراً، شاهداًعلى الحقيقة، تلك التي اعتمدها، وهذه التي يتداولها الناس، وكيف يمثَّل فيها، إن عوان: الاسم الذي يثير القارىء من جهة الدلالة، يبقي بكو في خانة الاتهام والمطاردة، ولكنه في السياق الذي تبدى عليه، يشكل مواجهة لذات القارىء، لتاريخه، لما تعارف عليه، ومحاكمة لمجتمعه الذي يتأزم داخلاً.
ولكن بكو، كما هي الشخصيات المفصلية في الأدب، وبالنسبة للكرد، لا أظنه ينسلخ بسهولة عن الصورة التي لُبّس بها، لأن ذلك يتطلب من يمتلكون بعد النظر، وفراهة الموقف، والحكمة في اتخاذأي قرار كان، أي ما إذا كانوا هم أهلاً للنظر أم لا. هنا يكون السؤال، ويظل السؤال.
بالطريقة هذه، تقف رواية مته هذه، إلى جانب الروايات الكردية الأخرى، تلك التي تعرضت لها، في همومها الحدية، واستنفاريتها، حيث الأمل ضعيف أو مؤجل، كما في حال( مدينة الضباب) لجان دوست، و( الفيلسوف) للقمان بولات، و( خوف بلا أسنان) لحليم يوسف، وهذا التقارب في الرؤية، يفصح عن قلق الكاتب الكردي فيما يعيش ويعاني، ويؤصّل ذاته أدبياً.

بداية لا نهايةً:
ربما كانت قيامة بكو، هي قيامة مته، وهو حي، إما رمزياً هنا، وبوسع سواه، أن يقوم بعمل قياماتي خلافه، شريطة أن يمتلك الشروط التي تمكنه من ذلك.
قد أجدني خلاف مته، في مجمل ما ذهب إليه، إذا حاولت النظر في خاني، وصنيعه التاريخي الموجود أصلاً قبله، من زاوية مختلفة، وكذلك في مته، وما حققه إبداعياً في روايته هذه، ولكن ذلك لا يقلل من أهمية ما يقوم الكاتب به، ما يواجه به ذاته وذات أي كان في وسطه، ومن يصل إليه صوته، حيث حاول، وكانت محاولته لافتة تماماً، أن يقوم بحركة قياماتية من داخل النص، أو عبره، ومن خلاله، باستعادة خاني الذي قلما يلتفت إليه حتى عرفانيو الكرد، أهل الاختصاص، كما يسمون أنفسهم، مقررومصائرأفراد مجتمعهم.
مته، يوسع حدود المعنى، يطالب بقراءة بكو، لا من جهة الدفاع عنه، وتبرئته، حيث لا متهم نصياً، طالما التأويل ينوع في القراءات، وطالما- أكثر- توجد تلميحات تؤكد هذا الجانب خانياً، كما يعزز في القارىء ، فذاذى القراءة التي تشكل اكتشافاً لكل من القارىء وما وراء المقروء دائماً، فتكون كل نهاية عمل ما، استشرافاً لبدايات، وبداية لقراءةت لا تنتهي.
قبل أن أنهي موضوعي هذا، أذكر أنني أهديث كتابي ( وعي الذات الكردية) الذي صدرقبل سنتين إلى " بكو"، مؤكداً دوره، بخلاف المتصوَّر عنه، الأمر الذي أثار واستفز الكثيرين شفاهية وكتابة، دون النظر فيما يكونه بكو واقعاً أو رمزاً، وربما كان في ذلك قيامة من نوع آخر.
لا أعني بذلك أنني فرحت لأن رواية حسن مته، تدخل في إطار كهذا، كما أنني لا أحزن، أو أسخط، إن برز من يكتب بطريقة خلافية، إن فرحي المعرفي، هو في الاكتشاف المعرفي، في التنوع الثقافي الذي يشكل العتبة الكبرى للدخول في المجتمع القابل للتنوير، حتى يكون في مستطاع بكو إن انبعث مرة أخرى، أن يصبح ذات يوم ( مواطناً) كردياً صالحاً، كما عرَّف بنفسه،وليس لائذاً بحفرته من جديد، في مجتمع كردي، وفي مدينة بوطانية معمرة بدورها، تعمَّم قيمة، بمعنى ما.



#ابراهيم_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعذيب الضحية
- التاريخ الكردي من منظور الصوت: عبر رواية كردية
- مدارات محاكمة : نورمبرغ العراقية
- ما هو أبعد من الترجمة كردياً : لالش قاسو ومترجمه المثالي
- الفيلسوف الكردي
- ما هو أبعد من العلم العراقي
- المثقف الكردي المشعوذ
- ثرثرة مفلس
- الصراع الكردي - الكردي: رؤية أدبية، عبر ترجمة فصل من رواية : ...
- مستقرات السرد في الرواية - رومانس المكان-: هيثم حسين في رواي ...
- قلبي على لبنان
- - Mijabad رواية أوديسا الشاعر الكردي- المقام الشعري في رواية ...
- نقد العقل القدري الكردي
- مكائد الأمكنة: حسين حبش وشعرية المكان
- أعلام الكرد الخفاقة
- موسم الهجرة الطويل إلى جنوب كردستان
- الكردي مؤرّخاً
- الدوغماتيكي رغم أنفه
- -النقلة باعتبارها تمرداً في الأدب: سليم بركات في روايته الجد ...
- أهي نهاية المرأة ؟


المزيد.....




- فيديو رائع يرصد ثوران بركان أمام الشفق القطبي في آيسلندا
- ما هو ترتيب الدول العربية الأكثر والأقل أمانًا للنساء؟
- بالأسماء.. 13 أميرا عن مناطق السعودية يلتقون محمد بن سلمان
- طائرة إماراتية تتعرض لحادث في مطار موسكو (صور)
- وكالة: صور تكشف بناء مهبط طائرات في سقطرى اليمنية وبجانبه عب ...
- لحظة فقدان التحكم بسفينة شحن واصطدامها بالجسر الذي انهار في ...
- لليوم الرابع على التوالي..مظاهرة حاشدة بالقرب من السفارة الإ ...
- تونس ـ -حملة قمع لتفكيك القوى المضادة- تمهيدا للانتخابات
- موسكو: نشاط -الناتو- في شرق أوروبا موجه نحو الصدام مع روسيا ...
- معارض تركي يهدد الحكومة بفضيحة إن استمرت في التجارة مع إسرائ ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - ابراهيم محمود - بكو الكردي إلى أين؟: حسن مته في روايته الكردية: القيامة