أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم محمود - مكائد الأمكنة: حسين حبش وشعرية المكان















المزيد.....



مكائد الأمكنة: حسين حبش وشعرية المكان


ابراهيم محمود

الحوار المتمدن-العدد: 1594 - 2006 / 6 / 27 - 09:21
المحور: الادب والفن
    


المكان المتعدد:
كلٌّ منا هو ابن مكانه يعود إليه، أو يستشرفه، أو يستعطفه، أو يستلطفه، أو يراهن عليه، ويُعرَف به " جميعاً"، مثلما هو ابن مجتمعه، مثلما هو المجتمع مفهوم مكاني بامتياز، ولكن كلاً منا، وكما هو مختلف بقواه وإدراكاته لما حوله، رغم وحدة المكان في المجتمع خارجياً، يأتي الاختلاف من جهة التعبير، إلى درجة أن المكان قد ينزاح مفهوماً ودلالة بزاوية كاملة، وفي هذا المقدار الكبير واللافت من الاختلاف، يُبرِز منتمو المكان حقائقهم الداخلية ومواقفهم من المكان.
أزعم هنا أن المكان لم يكن في يوم ما حيادياً جهة التعبير عنه، أو تجسيده فكرياً أو أدبياً وفنياً بصورة خاصة، فكل لقطة فنية( في السينما، في الرسم، غي التمثيل الأدبي تالياً، كونه في الحالة الأولى يشكل خطاباً بصرياً)، هي إظهار المكان وكأنه خلاف ما هو ممتد ملء النظر، وكل تسمية للمكان، أي مكان ، وحديث عنه أو باسمه ، إخراج لـه من حالة لأخرى، هي الحالة التي يمكنها أن تستمر أو تتلكأ في سيرها أهميةً أو قيمة، وكأنه مسعى لتغليب الدال على المدلول، لتبيان نفوذ سلطة ونفاذ رموزها في المكان، ليصار إلى تجريد المكان مما هو فيزيائي أو طبيعي، وليتبدى المكان بمقاسات وهيئات وأبعاد لا حدود لها، واللغة تلعب دوراً كبيراً في ذلك.
المنتمون إلى المكان تاريخياً، المدركون لرمزية المكان، المقدّرون للجانب الجغرافي وكيفية تسمية مناطقه ومواقعه ومسالكه، على وعي ما، بما يتعرض لـه المكان من تغيير أو تحوير أو تفتيت في بنيته: تقسيماً، ونهب ثروات، ونهب قيمة، حيث المنتمي إليه يكون جزءاً منه، أو بعثرة له، لمحو أو استئصال ما يسمى بالذاكرة المكانية، حيث ثمة كثيرون يؤكدون تواريخهم من خلال المكان بمعالمه، وما يمتد أو ينتشر فيه من ينابيع أو غابات أو تلال أو جبال أو طرق خاصة أو آثار....الخ، عدا عن مدى تاثيره في تكوين الذاكرة المكانية، أو ما يسمى بـ( جماليات المكان)، كما ذهب إلى ذلك غاستون باشلار، وهنا ، في ضوء هذا التحديد الذي بات مأثوراً تاريخياً بصدد المكان، يمكن الحديث عن علم المكان السياسي والثقافي والاجتماعي والسيميائي: الآثاري، وهذا لا يخفى على المعنيين به، على من يحاول، لحظة الاستئثار به، المبادرة إلى إخراجه من وضعية مشهدية لأخرى بحسب المنشود منه، ضداً على رغبات وثقافة أهليه بداية، كما في تغيير أسماء الأمكنة، والذين ينتمون إليها، سواء بفرض أسماء جديدة( تدشيناً لثقافة طارئة وجديدة)، أو بتبديل معالمها، وحتى عبر الدفع بأهليها إلى أن تكون أسماؤهم امتداداً للطارىء الجديد مكانياً.
المهتمون بالتاريخ والجغرافيا والسياسة ذات العلامة الايديولوجية والمعتقدية الصارخة، واعتماداً على القوة، على بيّنة من المثار هنا، وراهناً أكثر.
والأدب ليس ببعيد عن لعبة الأمكنة، لعبة العلامات فيها، وما يمكن للعبة هذه، أن تكون مبرِزة مؤثراتها في أي نوع أدبي: شعراً أو قصة أو رواية...الخ.
الأدب مخلوق رمزي بشري، وسواء أقام علاقته بالمكان عبر وسيط بشري( هو الكاتب، وما يكونه الكاتب هذا بتصوره وفكره المختلفين)، بصورة مباشرة( أي التعبير عن المكان باسمه، أو الحديث عنه، ومعرفته من خلال المشار إليه)، أو بصورة غير مباشرة، لحظة تجسيد مكان متخيَّل، كما هو المعهود رمزياً، حيث إن اللغة الأدبية هنا، تكون كفيلة بالإفصاح عما يراد مكانياً، ومن هم أهلو المكان هذا، أو ممثلوه الأصليون.
نحن هنا، بصدد صراع الأمكنة، رغم أنها واحدة، من خلال تنوع الأسماء، وكل اسم يتضمن ثقافة وتأويلات تعود إليها، فثمة بشر،هُم لسان حال مكاني، كما تقول كتاباتهم.
في حال الكردي، ثمة تداخل بين المكان وصاحبه، إلى درجة أن الحديث عن أيٍّ كان، يعني الآخر، فهما وجهان لحقيقة واحدة، وبنسب مختلفة، من ناحية الذين يفصحون عنه في الواقع اليومي( حين يرى الكردي أنه غريب عن مكانه، مسلوب إرادةً، ومنهوب قوىٍ، ومحتكر اسماً، ومهدور قيمةًً عبر أرضه المستولى عليها، وتحت المراقبة يكون، ومن قبل سلطة لا تخفي حقيقتها، وانحيازها القيمي والسلوكي ضداً عليه، وصداً لـه)، وفيما يفكر ويريد إبداعاً، حيث يُحارب فيما يريد التعبير عنه، طالما أن كل كتابة باسمه، محاولة لرد اعتبار للمكان المستَلب، مثلما هي حالة مقاومة صاعدة تاريخياً، لئلا يبقى مهمشاً، كما هو المكان الذي يجري نهبه دون انتظام، لأنه لا يعني للناهب سوى هذا البعد، وهو كيفية استغلاله، كأي غريب عليه قادم ومداهم له بالقوة، كما تؤكد وقائعه، وحالة تحدٍّ لتأميم المكان اسماً في الذاكرة، الاسم الذي كان له، وليس الذي أحيل إليه، كما في التداخل المتنامي والمعمول به بين مقومات وعناصر المكان وما يُعرف به اسمياً، من مثل ( ولات، زِنار،كندال، كلستان، شيندار، رزكار، جيهان، جيندا، كاني...الخ).
وفق سياسة مقايضة مكانية، تتخذ اللغة المعتمدة ولغة الأدب هنا، الإجراء الذي يحقق للمعني بهما، ما يبقيهما فاعلي حياة، وتفعيل أثر.
ويتجلى الشعر الذي لا يخفي عراقته، في استمرارية الذاكرة، دوراً كبيراً بالنسبة للكردي، وخصوصاً حين يصعّد بكل قواه، وفي المهاد الابداعي، إلى العالم الذي يمكنه إضاءة المعتم، لتكون حرب الرموز في اللغة، وعلى الورق، وفي رواق التاريخ السياسي والأدبي، شاهدة فصيحة على سؤدد المكان، وحساسية وخطورة الرهان عليه، بحسب نفاذ قوة المبدع هنا.
المكان كعلائم قوة، والمكان كرهان قوى، والمكان كمأثور لغوي، وكمعطوف على أحد ما، على تاريخ يُؤرشَف فيه وفق مقتضيات وتصورات معينة، والمكان كاستراتيجيا تأكيد حضور ومواجهة مع الذات ومع الآخر، والشعر كمحوّل لما ذُكر إلى مقروء أدبي خارجاً.
حسين حبش، الشاعر الكردي الذي أمضى من العمر حتى الآن ستة وثلاثين عاماً، مأخوذاً بكرديته، ومعايناً لها، حين استقام وعياً،واكتشف الشاعر: الوليد المكاني في ذاته،مذ كان في عفرين الكردية، وكما يؤكد ذلك شعراً، وهو في بون الألمانية، شاهراً المكان الخاص به، رائياً ومرئياً من خلاله، المكان الإنسي، والمكان الكردي الدال عليه، واجباً في ذاته، كما هو واجب وجوده الذي يرى نفسه موجوداً به، كما هم الآخرون ممن يحيلون سواهم إلى الأمكنة التي تعرّف بهم، يقدّم الكثير، عن مكائد الأمكنة( كيف تتزيف، أو تتحور)، وعن شعرية المكان( كيفية إبراز معالمها أدبياً، وشعرياً تحديداً)، إمكاناً ملحوظاً من إمكانات الارتباط بالمكان، وتأكيد كرديته.
محاولتي هنا، ومن خلال الموسوم سالفاً ، تتركز على ديوانين لـه، استطعت الحصول عليهما، هما( غرق في الورد)، والمطبوع في الأردن، سنة 2002، و( هاربون عبر نهر إفروس)، والمطبوع في مصر 2004، وبعض القصائد التي حصَّلتها انترنتياً، وكيف كان اهتمامه بالمكان، وكيف تجلى المكان فنياً عنده، وأي حضور للشعر، يمكن التوقف عنده لاحقاً!

رؤية المكان ورؤياه:
كل مكان يتحدد جغرافياً، ولكنه يتزيا سياسياً، مثلما يتأطر إيديولوجياً، وفي الآن عينه، وفي الطرف الآخر، يتبدى رمزياً في الفن والأدب، وهو يختلف باختلاف المتحدث عنه، أو الزعم أنه الناطق باسمه، أو من يمثله، فالمكان، كما كان يمتد على مرأى النظر، يبقى هكذا، سوى أن الصورة المأخوذة عنه، على الصعيد الجمالي أو القيمي أو الدلالي مغايراً.
ما أكثر أمكنة المكان، ما أقل مكان الأمكنة، ما أوسع المكان، ما أرحبه، ما أضيقه، ما أعمقه، ما أبأسه، ما أبلاه، ما أقومه....الخ، ذلك هو المكان، ولكنه في الحالة هذه، مخلوق فني أو أدبي!
المكان الكردي يتميز بعلو كعبه، بشموخه، باقتداره الذاتي، كما هو مكتوب عنه، ليس باعتباره يستحضر الجبل، ويتحدد فرادة أهمية فائقة، أي عنصرية مكانية كلا! وإنما لأن الشموخ أو السمو أو الاقتدار علامات مرفرفة محلقة في الريح تخليداً، ولرد اعتبارمستلَب، كما في النصوص الشعرية : النضالية أو الكفاحية ( جكرخوين، رشيد كرد، أوصمان صبري، تيريز، سيداي كلش، شيركوبيه كس...الخ)، وإن كان الأخير يفعل المفهوم المكان الكردستاني جبلياً كثيراً، وما تبقَّى، فإن السمو وما يرادفه، يشد من أزر المقاوم لما هو وطيء مكانياً.
- المكان الكردي، يتميز بالرحابة، والوساعة والعمق، وهي صفات وتوصيفات أخرى متداولة وجدانياً، يجري الرهان عليها، لأنها تعزز سلوك المتحدث هنا، إفصاحاً عن فضاء الحرية الواسع، كما نجد في نتاج من ذكرناهم وغيرهم.
- المكان الكردي يتميز بمنحه طابع أنسنة، إنه مكان بكَّاء، موجوع، منهوب، مقيَّد، مجروح في الصميم، ممزق، كما هو الجسد، إعلاماً بتجزئته، وإيحاء إلى وحدته الحيوية، كما لو أن بعضه يبكي بعضه الآخر، ويحن إليه، أو يشتاقه، امتداداً لانسانه الكردي وعنف معاشه.
- المكان الكردي لا يترك كرديه في حل من أمره، بقدر ما يتهدده، لأنه مهدَّد، لا يمنحه فرصة للتنفس، غافلاً عما حوله، عما في نفسه بالمقابل، بصيغ شتى، كونه المعرَّض لما يبعده عن الخصوصية المعطاة له، أوالمنسَّبة إليه كردياً، كما يقول الشعراء أولاء خصوصاً.
- المكان الكردي يتميز بصفائه من الداخل، بنقائه جهوياً، تأكيداً على الصفات التي يريد الكردي: الشاعر طبعاً، التحلي بها، أو هو متصف بها تاريخياً، وإلا لما كان هذا التمزق والنيل الدوري منه، وبالوسع ملاحظة ذلك، في نصوص من ذكرناهم وكثيرين سواهم من بعدهم.
- المكان الكردي معتَّم عليه، حدادي، مكتوم النفس، مرادفاً الكردي فيه، بسبب القهر والهدر اللذين يتعرض لهما قيمياً حتى اللحظة، لهذا يكون التماهي قائماً بين كل من المكان والأديب: الشاعر خصوصاً، بغية إبقائه كطما لو أنه هو هو مؤبد المقام والقوام، وكأن كثرة الشعراء نذر طقوسي مصعَّد به، حتَّمه الجمع الغفير من الكرد، وهم يستشعرون موهبة أدبية أو فنية، على أنفسهم، ليحفظوا للمكان جرحه بكامل شفافيته العميقة، وتاريخه المتوارث، وديمومته.
هنا يظهر المكان مرئياً ورؤيوياً، كون الرؤيا هي بمثابة صوت الراوي السارد في الرواية، كما يرى الحدث أو يكاشفه، وتتجلى الرؤية موضوعاً ملموساً: محسوساً، يستحيل لغة رمزية.
حسين حبش الكردي أولاً، الشاعر تخصيصاً، يمارس لعبته المكانية مشفوعاً بالألم والأمل معاً!

لتكن النهاية بداية:
في جملة من نصوصه الشعرية التي كتبها مؤخراً، يظهر أن الكردي العفريني، المأخوذ بهيبة المكان وشموخه( عفرين تمتد منبسطاً، مثلما ترتقي مرتفعاً، مثلما تتسلسل أمواهاً، كما هو أقصى الجنوب فيه، الجنوب الأقصى المماثل، للغرب الأقصى فيه)، يظهر المكان بكثافة المعنى.
حيث العناوين الطويلة نسبياً بجلاء، وهي تتقدم نصوصها،أو تمارس تعريفاً رمزياً بها قبل الحلول داخلها، وفي مقاطع تتقاسم رؤيا الشاعر للمكان ورؤياه لما عليه المكان واقعاً، إنها العناوين التي تفصح عن زخم شعوري، ولكن عن معاناة بالمقابل، وتوق إلى الأعمق في المتخيَّل، والممكن نسجه أو سرده شعرياً، عناوين لها دلالتها المكانية:
( هكذا بدأت الحكاية، هكذا نضوع خيال الأرجوان)- روجآفا-25/3- 2006.
( أنفاسك قاسية بما يكفي لهدم قيلولة كاملة)- روجآفا-8/1-2006.
( شهوة المصابيح أو هواجس رجل سكران) – روجآفا- 17/9-2005.
( كرنفال لتهميش الموت)- عفرين . نت- 20/5- 2006.
( آمد)- عفرين . نت- 12/ 5-2006.
......الخ.
يتنوع المكان،وفق ما أثرنا من خصوصيات لـه بدءاً من العنوان الفرعي، حيث الفسحة الجغرافية، والتنوع التضاريسي، ومطامع الأعداء وشركاؤهم، عوامل مؤثرة في فعل التنوع هذا، فتكون الحالة ارتحالاً في المكان، استنباطاً لمتحولاته، ومتغيراته المتتابعة، سفراً من المكان وإليه، وقد تعدد صوراً شتى.
في ( هكذا بدأت الحكاية)، تكون الحكاية مغموسة بمضادات، بما يبقيه في مستوى اسمه:
( تنحنحي في الضوء يا سيدتي، ثم مرري يدك على صدع البحر وجسي نبضي هناك في الأعماق
علقي قلبك فوق النياشين ورفرفي في الأقاويل والظنون واللامبالاة).
الحكاية هي حكاية الشاعر، سرده الشعري للمكان الذي يهمه ويعمه ويغمه معاً، حكاية الكردي البعيد رؤية، الداخل رؤيا في وعي المكان وحياوته، حيث المكان سرد مفتوح، اغترف الشاعر منه ما استطاع إليه سبيلاً فنياً، المكان الذي يتحرك بمؤثر الرؤيا، بمنطوق إنسي مكاني، أكثر من كونه يهمه أمره، وإلا لما كان حديث عنه، وقد استشرف به أعماقه، إنه المكان الذي يقايضه من خلال تمثيله، بما يبقيه أكثر من كونه مكاناً دون صوت أو حركة أو اسم، فوق مستوى الأقاويل، الظنون، وهذا لا يتم إلا بما تقدم به ، ولم يتأخر عنه. الشعر هنا يهب المكان تاريخه اللائق به هنا كردياً، وكل شعر، يتوخى( نبالة) مكان، تطهيراً له من تعتيم مغرض، يمده للنظر تاريخياً.
لا يقف الشاعر إزاء المكان، حاملاً إياه كما هو، وليس في الإمكان، ولا من باب الاستحالة أن يكون المكان هو المكان الذي يمكن النظر فيه أو إليه، خارج أي متغيَّر شعوري، فثمة من يتكلم، وثمة من يريد أن يكلم الكلام، أن يصعد به، أو يغير فيه، كما هو المكان معيَّر فيه، ليكون تقابل وتحاور من الجهتين بين فعل الكلام، وفعل صورة المكان المتخيَّل، ليكون شعر، والشعر قد يكون اكتشاف المكان من الداخل، تعزيز لما يرد له بقاء، حيث يكون الكلام تجويز المكان.
ليس المكان معادل اليومي، إنما المكثف، ما يتطلب منه تجاوزاً لمكانيته، إنه إمكان المكان الممكن، والدفع به نحو الحد الأقصى من ممكنيته، ليكون ما هو ممكن فيه، وما لا يمكن أن يبقى عليه، وهنا يبرز تمكين الشعر، أي جعل المكان متمكناً من الكائن فيه، كما يتقدم شعراً.
إن التعلق بالمكان، يتجاوز العشقي الذي يذوّب كائنه داخله، حيث يكون عشقاً يوسع حدود الرؤيا، يوحد العلاقة بين العاشق: الشاعر، والمعشوق: المكان، بتوسط العشق المصعّد بهما، إلى درجة أن المكان يتلبس وجوهاً،وربما ينغمر الشاعر بالمكان، فيعدد فيه وجوهاً، وهو بوجه واحد، إمعاناً في ذاكرة، جار تغيير معالمها، أو يكون المبتغى تأكيد شعرية الذاكرة بالذات، كما في( أنفاسك قاسية بما يكفي لهدم قيلولة كاملة):
أفكر في نبوءاتك المقدسة، إشاراتك الصامتة،
وتلك الرعشة التي توقظ سراديب الشهوة من نومها العميق
ما أرعب جمالك
ما أعذب نداؤك السحيق عبر هواء العصور
وما أرهب جروفك ومنحنيات الشغف على سراك
..............
ديمومتك كثيفة وشاسعة على امتداد الزمن
على امتداد القارات والأزمنة العابرة
.............
ترفلين في عروق الجبال الشاهقة
ما أشبهك بالذروة
___________
أومن بك،
بالحب في ذروته الشامخة
لقد توسع المكان وتنوع، ولكنه في بعض منه، فسر بعضه بعضاً، بسبب التعلق بالكلام هذه المرة، وليس بالمكان، أي الكلام الذي يتبدى حاملاً مكانياً مختلفاً، ولكنه مقاربُه معنىً أخيراً.
حبش يغيّر في العنوان، ويعتمد لغة المفارقة، إلى درجة استفزاز القارىء، كما في الربط بين مفردة ( أنفاسك) و( قاسية)، إنها حالة النوم، الحالة التي تكون المفاجآت فيها كثيرة، حالة التحول أيضاً: انتصاف النهار، وهي الحالة التي تقلق وتخيف، حيث الحياة الكامنة في المخاطَبَة تري مدى الرهبة فيها، ليكون التنبه موجوداً بدوره، فيصعب الاقتراب منها، وما يلي العنوان الطويل، من خلال القصيدة، يتبدى أكثر حضوراً بالمراهن عليه، وهو ينشر ما يعتبر صفات لها.
تكون المجهولة المعلومة أثيرة عليه، منذ البداية، حيث ( نبوءاتها المقدسة) تتفعل في صمت، إنها تلك التي تخص المكان، وكيف يكون مستثيراً للآخر، لمن يريد احتيازها.
في مجمل القصيدة يكون المكان عالياً، أولمبياً، حيث إنه يبرز في بعض الحالات مخلاً بوظيفة الشعر، لصالح الحب الذي يفجره كلمات، لكن الشعر خلافه، وحالته المفصحة عن ذلك، يكون لها وضع مختلف، من خلال الصور التي تتقاسم المكان العالي، وتتحرك في منحى واحد: الشغف بالمكان العالي، بنوع من الدوران حول المعنى الواحد، كأنه يريد التأكيد لنفسه أنه هكذا اتجاهاً، وأن الآخر هكذا بدوره: موضوعاً واستلهاماً ومقاماً. فالعصور والزمن والأزمنة، رغم الاختلاف في البدايات، تبث معنى زمنياً، كون جملة ( ما أعذب نداؤك...) تري مقامها التاريخي الكبير، لتكون جملة( ديمومتك كثيفة...) متحركة في ركابها، استعادة لها دون مخالفة أفقها الدلالي تماماً، ولتبدو جملة( على امتداد القارات...) نوعاً من التفسير المرافق، أو الشرح لما سبق، حتى لو تجلت لنا مفردة( القارات) مختلفة، توسع حدود النظر، وهي هكذا من خلال استبطان النص.
وربما يمكن التوقف عند كل من ( جروفك، الجبال الشاهقة، الذروة، الشامخة) متتاليات الصورة المؤدّية لمعنى، يستأثر به الشاعر، ولكن الشعر، كشعر، يخفف من انتشار صداه، حيث التنويع عليه ملموس، في المدى الحسي. طالما أن قائمة الأوصاف الكثيرة ذات المداد الشعري المنسكب أو المتدفق ، تفصح، ببساطة، عن أن قرطاسه الشعري يمتلىء صوراً جمالية، أي يتعمق المكان.
إنه الحب الذي – أحياناً- يربك صاحبه، ليعبّر عما يريد، فيكون الموصوف متفاوت المقام، وتكون العلاقة الواضحة كثيراً، على حساب عمق المتحرك الشعري.
مثلاً، كقارىء، يكفي أن أقرأ( ترفلين في عروق الجبال الشامخة)، حتى أدرك مدى ارتباط الشاعر بمن يتغزل، بجلال المكان الممنوح لمن يعنى به، أما أن يقول ( ما أشبهك بالذروة)، فهي عبارة وصفية تالية، وتزيح الغموض الجميل في السابقة عليها، وفي الوقت ذاته، تسمي المسمى دلالة، فيكون دخول في نوع من الشرح، كون الذروة متخيلة في الأولى.
هكذا تبدو لي عبارة( أومن بك) كعلاقة مباشرة، وما يخص الحب، إذ الاكتفاء بالجملة الأخيرة يشكل انعطافاً على السابقة وعطفاً، وإن لم تُسم، هكذا ( أومن بالحب في ذروته الشامخة) أو حتى ( أومن بالحب الشامخ( بمثابة أمضاءة على كل ما تقدم في الفقرات السالفة، كون الحب: القيمة، هو ذاته يتجذر مكانياً، ويكون المكان في مستوى التلقي، مستوى القابلية للأخذ به تأكيداً لأهميته.
هو نفسه المكان الذي يقود الشاعر في مختلف نصوصه الشعرية، مؤكّداً هواه لمن تتشارك حواسه، وقواه الأخرى في رسم أبعاده وتبيان انهمامه به، بنوع من البانورامية الكاملة وصفاً وتوصيفاً، كما في ( كرنفال لتهميش الموت)، من جهة من تستحق الحياة: حبه:
سيغدق عليك القمر عليك قامته النورانية ( الاهتمام بالمكان من عل ٍ طهرانياً)
وأنت مسمَّرة تحت شجرة الحب( تحويل القيمة المثلى: الحب، إلى شجرة ديمومةً وخصوبة)
تشعلين القناديل الظليلة( استمرار الحياة على الأرض، رغم تأكيدها سابقاً)
وتبهجين أرياش العصافير( مشاركة كونية، رغم أن الشجرة جذابة للعصافير)
ثم تطفينها في الزرقة( إحالة إلى الحكمة، وتأكيد لهيبة المكان)
فمك تين/ كلامك غبار الطلع( البدء بإبراز مقومات الحياة في المحبوب كينونة واستحلاء)
قامتك شجرة أكاسيا، قلبك خابية منسية( الحياة التي تتبدى مستمرة في ديمومتها)
مرحباً بزئبق شعرك في شمس العين( تحول الوصف خارجياً مكملاً، معمّقاً ما سبق)
مرحباً بسناجب قدميك في القلم( ثمة خفة في التصوير هنا، تأهيلاً أكثر لما تقدم)
مرحباً بشغبك الذي لا يهاون
ولا يتوعك طيلة الألم( تحوُّل في المتخيَّل، ولكنه تعزيز أكثر لمضاء الحياة فيها)
معدتك دم ونار( إخراج للموصوف من حالة الطبيعي، إلى المجازي تخليداً له)
لذلك قلبك جارح وجسدك حارق( أشبه بشرح، وكذلك هو تعظيم للموصوف )
ونحاسك ثاقب( لعب على المعنى وربط بين متنافرين: النحاس والثاقب، حيث النحاس مؤنسن)
وقمحك فرجار الوقت( وهو التصعيد بالموصوف، وتبيان روع مكانته تاريخياً)
في القصيدة السالفة، حيث يمضي الشاعر طويلاً وعميقاً في نشر أوصافه،والتلون الشعري بها، في إبراز من تكون تلك التي يشغف بها، لتكون كل صفة مؤكدة لسواها، ومتأكدة بها، وليكون المزيد من الوصف مزيداً من تأكيد يديم من يتغزل بمن يتم التغزل به إقامةً مكانية، أو المصادقة على يقينه الشعري فيما يصرح به.
التناصية قوية كثيراً في القصيدة هذه، كما يتبدى لي واقع القصيدة هذه.
إذ ثمة مثالان يتراءيان جلياً للنظر، الأول، وهو الأقدم، يخص ( نشيد الإنشاد)، وذلك التغزل بالمحبوب الذي يتجاوز التأويل الواحد، والآخر يخص بابلو نيرودا، وهو يتلمس في من يحب روائع الطبيعة، المثال الأول تليد وجلي، والثاني، يتم التذكير به، وإن كان تأكيده صعباً، ولكنه تذكير من باب إمكانية المقارنة ليس إلا، ولتبيان وحدة الهوى الشعر، حيث يمكن التأكد من ذلك/ مثلاً بالرجوع إلى ( غزليات نيرودا- الهيئة المصرية العامة للكتاب- طبعة1999- ومن خلال قصيدة: أيتها الجميلة، مثلاً- ص 41-45)، وليكون ماهو ديني إبرازاً لجلالة مكانية، حيث إننا نتلمس في مفردة التين ذاتها، أكثر مما هو مزموري( أي يمكن التغني به تحديداً)، إنه من جهة أخرى قرآني أيضاً( والتين والزيتون)، وربما الشاعر غبر عابىء بالمثار هنا، ولكن لاشعوره موئل الشعر: المرجع والمرتجع أحياناً، يقودنا، مثلما يقوده إلى حيث يتفاجأ بما لم يفكر فيه، كونه منساقاً وراء لذة المتخيَّل، والمتخيَّل يغترف من كل ما يخصب فضاءه.
ليس على الشاعر حرج، إن استعان بالتاريخ، بالجغرافيا، بما هو ديني ، أو ميثولوجي، أو نصوص شعراء آخرين، ما يهم هو ذاك الصهر للمعاني، في حمى المتخيَّل، في سعي الشاعر للقبض على الصورة الأكثر قدرة على استشراف دلالات، وقابلية للتأويلات كذلك.
حبش لا يتناول المكان بمعزل عن الخصوصية التي يضفيها عليه إناسياً( انتروبولوجياً حرفياً)، خصوصيته ككردي، وخصوصيته كشاعر كردي أيضاً، وليس في وسع الشاعر أن يؤكد تجلي ونفاذ الصورة المكانية وخصوصيتها، إلا من خلال إحالة غير مباشرة للقارىء إلى المتكلم في الشعر، أو طبيعة السرد في قول الشعر، وربما تكون التسمية عند الضرورة تعزيزاً لخاصية الانتماء للمكان. هكذا هم الشعراء المكانيون، حين يبرزون في اللحظات التي يحتاجهم المكان، لتجديد دورته التاريخية، باستعصائه واستعلائه على الموت أو النسيان تقادماً، لاستعادة ما كان لـه، ولإبقائه في صحوة التاريخ، وحضرة الجغرافيا، من حيث الارتباط الوجداني، كما هو معدن الشاعر النفيس الماسي الذي يتوهج كلما توقَّد نارياً، وبنوع من التاكيد على أن المنفى قد يقوي نبل الانتماء إليه( أي المكان الذي لأجله ومن أجله) يتوقد داخلاً.
إن ( آمد) الجليلة بقدرها، بتاريخها، بمكانتها، بأصالتها جوهرة الكردي فيما يقول ويعاني، تدفع الشاعر أحياناً، وبسبب نائبات دهرها ومكابداتها، إلى أن يكون واضحاً أكثر مما يجب، شعوراً منه، كما يبدو، ليكون مقروءاً أكثر، ولتكون معلومة أكثر ، من قبل من ينهم بها:
من الغليان إلى الذروة
من البيوت إلى غوايات الحجر
من رفة العين إلى عناق الضوء
يغوصون عميقاً في الكبرياء
ويصافحون الأفق المنزوي
خلف الضباب،
أطفالك آمد
شبابك
نساؤك
رجالك..
آمد
يمدون جسور الحياة
فوق جبروت الطغاة
ويمرغون وجه الخوف
بالتهكم واللامبالاة
ما يعنيني كقارىء وكذواقة للشعر في حدود إمكانه، إلى جانب فنون أخرى، إذ يتداخل ويتكامل معها، هو هذا التشديد على المسافة بين الكلمة ومداها الصوتي والدلالي، هذه المسافة المرسومة مساحة للنظر، ومجالاً مفتوحاً للتأمل، من خلال الرابطة الاستجرارية بين ( من – إلى)، أيما تعنيه البداية المتصوَّرة ، والنهاية المتخيَّلة في أفق الرؤيا الشاعرية، حيث الرحابة حصيلة إرادة في قول الشعر، وفيما تكابد وتجاهد كذلك في سبيله.
إنها المسافة التي يمكن عبرها رؤية الشاعر نفسه، وقد خفَّض جانحيه أحياناً، ليشير إلى حالات تُري واقع الإرادة تلك، ولكنها قد تقلل من كثافة التجربة الشعرية، كما في الأبيات الشعرية الأربع، التي وإن بدت قائمة بذاتها، إلا أنها لا تفارق ما سبق وأن أورده بدايةً، ولتبرز الإيديولوجيا في خضم التواصل مع الشعر لقاء باليومي، حيث ( جسور الحياة- جبروت الطغاة- ويمرغون وجه الخوف) ، كائنات شعرية مكشوفة الملامح، كثيراً ما يتجنب الشاعر التعامل معها، لمن يحاول التوقف عند قصائده في المجمل، فالبدايات تسمي النهايات مجازاً هنا !

في الغرق بين الورد والنهر:
كبير هو الفرق بين أن يغرق المرء في الورد، وصعوبة تلقي المؤثّر الرمزي، حيث الورد جمعاً مشتهىً روحي وبصري كذلك، ويكون الاسم نقيض الجاري باسمه، أو من خلاله، كما هي لعبة المفارقات الشعرية، والغرق في النهر، الذي لا يخالف حقيقته المعاشة، أي أن الغرق غرق فعلي، كما هو معهود في النهر، وإن كان النهر يتبدى بأكثر من هيئة دلالية.
كيف هو المكان في ( غرق في الورد)؟
يتبدى لي أن ديوان ( غرق في الورد) الصادر سنة 2002، كما ذكرت، ديوان معقود بالخوف من الأمل. إنه ديوان خريفي في مناخاته غاالبا، لا يمكن دخوله إلا انصداماً بمشاهده التي تتسلسل فجائع وتشكيات وصلات قربى حدادية، ولا يمكن الخروج منه إلا بكتم الأنفاس.
هنا يظهر الورد دون اسمه، مثلما الغرق يدفع بالقارىء نحو الأسفل، ليكون الما بعد خوفاً مما يليه، ويكون الورد بكل تجلياته دلالةً: نسفاً لما يُعرف عنه، لأن المعاش يستوجب ذلك.
لا أظن- هنا- أن حبش، في إهدائه الديوان إلى زوجته وابنته، يردهما مشاركتين إياه في مأدبة الخريف غالباً، أن تكونا معه، نعم، أما أن تريا ما هو متصوَّر بالكلمات، وبما هو مصدوم به، فهذا مستبعد، أم تُرى الديوان إهداء، تقديراً لما يمكنهما أن تتحملاه ألماً وتكابداه معه؟ ربما كان الوضع هكذا، رغم صعوبة التأكيد، فالمحتوى مكتوى برؤيا مكانية بامتياز.
ولا أظن هنا أيضاً، أن ( المفتتح) يعرّف بالشاعر خارج كونه شاعراً، فما يُظَن أنه نثر، يفصح عن موقف، هو ذاته يتحرك في مضمار الشعر، ويعني إلى أي مدى هو منخطف ألماً ورثاء ذات، ولو حاولنا نثر الجمل هذه، لكنا إزاء نص شعري كالذي يكتبه، خصوصاً وأن ما يلي المفتتح عبارة لافتة، هي ( ملوك الرهانات الخاسرة والألم الباهر):
( ملوك الشفافية والهزال يغيبون في أنفاس فراشة أو على ظهر نحلة أو بين تلافيف معكوسة لجمهوريات بدائية. ص 11).
ليس إلا القليل من المحفَّز الحياتي بين جنبيه، بدءاً من القصيدة الأولى ( مدائح):
نمتدح العمر كي لا يباغتنا
ونحن عرايا الظل
نخطف سيرته قليلاً
أو طيفاً منه
ونتكىء على سراديب الغفوة
مسرجين للحلم أيكته الرهوانة
العمر إغواء وبهتان:
هكذا قالت الريح. ص 13.
يبدأ العمر مكاناً، أو جماليات مكان، مكاناً يعلو مكاناً، كما في الحلم، كما في الأيكة الرهوانة: المجاز الأرحب والأخصب جدارة قيمة شعرية، وكأن الأيكة تشغل المكان كاملاً، كما هو بساط الريح، ولكنه المكان غير المتجانس، المكان الذي لا يستقر على بارقة أمل، كما هو المكان الذي يشار إليه دون أن يسمى، كما هو الشعر الذي يلمّح ولا يصرّح، وكما هي الريح التي تعبث بالمكان، تمارس لعبتها توريةً، وتعنّف الممتد بصرياً واقعاً.
ليس المديح لصحيح الجسم إنما لعليله، لأن الإرادة عاجزة عن الارتقاء بعمر دونها قوىًٍ، فكل ما في الريح مكشوف، وكل ما هو مرئي تشهد عليه الريح غير المستقرة في جهة، وتنشر أخباره، كما هو شأن الكردي، أم أن هذا الإخراج الدلالي اقتحام لداخل العبارة، وتقويل لها؟ لكنه الشاعر الذي يضعنا في مواجهة مدائحه الآلمة، داخل ديوانه الذي يتداخل أفراد عائلته الشعرية، كما هم أفراد أسرة واحدة وبينهم اختلاف في العمر، ولكنهم مأخوذون بالجينة الشعرية والوجدانية ذاتها.
في الرواق الضيق للشعر المعمّر للديوان هذا، ثمة حضور محدود للأمل.
ليس مصادفة، أن يحوّل مجنوناً من قريته( شيخ الحديد)، هو " باجه" ليكون الناطق باسمه، بيانه الخلافي، تحوله الأقصى خارج المألوف، مبتدأه في قول ما هو موجود، وما هو مرغوب عبره، وذلك بعنوان مفصح عن رهان جلي الأبعاد( باجه مفيستو شيخ الحديد):
رأيت دموع " حسي خدر"
تنهمر تلاوة رمل عنيد
على بياض" شيخ الحديد".
رأيتها تكتب طقوساً مسائية
تحلل طبائع الأشجار بسواعد الشمس
وتعظ العصافير بالحذر والمزامير.
وما يلي يبرز هذا الجانب:
" باجه" يجر عائلة النمل إلى المآتم
ولا يبالي إن ماتوا وإن بقوا أحياء
ومن ثم :
باجه ساعة متدلية من سقف السماء
وكذلك:
" باجه" يرمي حجراً إلى وسط الدائرة
يبقي الهرم على رأسه
وأخيراً:
شبحه يتراكض كأطياف الجن حول أسوار
" شيخ الحديد"
مزدرياً قبعات الشرطة والغرباء"! ص 29.
ما علاقة مجنونه بالمكانه، أو مكانه بالمجنون؟ أهو تأكيد على وعي المجنون أكثرمن جنون المعتبَر عاقلاً،جنون المجنون العارف، وشرود العاقل الغافل عما يجري، حيث لا مجال للمقارنة، كون العاقل مطاحاً به، والمكان عبره معتَّم عليه ، مأسوي مثله؟
لا ينفصل الجنون عن المكان ، لأن هذا بحد ذاته محوَّر فيه، خصوصاً وأن المكان عزيز عليه، كونه مسقط رأسه، وفيه يجد ضالته، في مجنون ليس بمجنون، إنما ينسف العلاقة المتعارف عليها، حيث يطيح بالنظام العقلي السائد، ربما بما كان سبباً لجنونه، فهو الذي يُشعر الناس أن ثمة جديداً ما، وهو الذي يشعرهم أن ما يعاش ليس بالإمكان الاستمرار فيه.
إنها الرغبة الشاعرة إذاً، الرغبة بوجود مجنون، ولو أنه مجنون تتم تسميته، باسم غرائبي، غير متداول ( باجه) اسم يقيم في المفارقات، كما هي مفارقات الواقع، وهي رغبته في أن يكون المجنون واجهته للعالم الخارجي، وإدانة له معاً، بجعله خارج طوره، ليستقيم تالياً.
كل مخترق للسائد مقلق، لا يبقي المكان على حاله، فالشبح إيذان بأن هناك ما لا يسر، والشبح لا يظهر إلا ليلاً، إنه الشبح الهاملتي وقد تحوَّر وتغوَّر عميقاً خارج اسمه المكاني، والليل متخم بالترقب والمفاجآت، إنه سكون مريب، ينذر المعنيين بنهار مختلف، أو ما إذا كان النهار المألوف يكون نفسه، كما تقول النهاية، أو تلمّح لها بوضوح، بصدد ازدراء قبعات الشرطة والغرباء، أي الذي جعلوا الواقع مراً، ليستعاد توازن المكان بالمكان .
أوَ ليسَ ( الثالوث الناقص منتفضاً إلى رفاهيته المكتملة)، جواب الشبح، رغبة مستنطق الشبح، استحالة الميتافيزياء إلى فيزياء مكانية إنسية؟ حيث اليد مدخل الجسد، أداته في التعيير، أو في التحرك، وليس في وسع أي كان التواصل مع المكان دون اليد الممتدة:
ليد على يد وتكتمل اليد الغائبة
في المحنة السادسة
ينتفض غبار القيامة عند انبثاق النرجس
من ملكوت الأدغال في الصباح المتهدج
تستيقظ جموع المزامير
من غيبوبتها الطويلة. ص 17.
الشاعر لا يغادر المكان، بقدر ما يظل مستشرفاً إياه، مأخوذاً به من الداخل، معمماً شاعريته عليه، ملبّساً امتداده مداه الصوتي ، كما يظهر، مستعيداً رموزاً لا تخفي عراقتها النسبية من جهة الدلالة، اليد يد الله، يد الغوث، يد اليقين، والمحنة ببعدها الديني والدنيوي، وكذلك القيامة التي تتشكل ، أو تظهر عقب كبائر مروّعة، وتكون الغيبوبة الموسومة، شهادة على أن جديداً قد برز، أن تحولاً جديداً في التاريخ آن أوانه، عبر ملكوت الأدغال، أو جموع المزامير معها.
وتتضح الرؤيا المكانية، والذين يمارسون حياتهم البائسة مكانياً، وهم الكرد:
ليد ثامنة تدور كوهج تنين
وتستمع إلى تدفق السحر
نحو المساحات الغامضة
ليد ثامنة أصابعها غائمة بالحنان
تواكب ألم الأكراد
والجراح الجاثمة على صدر الغابات. ص 19.
تتراءى الأمكنة متداخلة، حيث يكون الشاعر محمولاً بمكانه الخاص، أو مأخوذاً به، وهو في وضعية محددة، ألا وهي وضعية الانكسار والتأسي، ويكون النظر ممتداً بدوره خارجاً، لأن ليس في وسع الشاعر ان يحدد اتجاهه، أن يؤكد الشعر فيه، إن لم يحدد ما يكونه جدوىً، أي نجاعة قول الشعر، وهذا هو المرام في كل ما تفوه الشاعر في وضعيات نفسية خاصة، وفي جميعها كان هوهو، من حيث الموضوعات، ومن حيث اعتباره الشاعر موحّداً الأمكنة في ذاته، أو مقدّماً المكان لسان حاله، أو ما يكونه هو، إنه عين ما يستشعره: حنيناً وتنفساً وقياماً وقعوداً.
الصورة الميثولوجية، أو التي تتبدى مقتطعة ميثولوجية، تقابل واقعاً لا يقبل التعامل معه كما هو، حيث اليد الموسومة في النهاية، اليد المفارقة لما هو معاش: وهج تنين، رغم أن التنين غير ممدوح السمعة، ولكنه في بعض منه، يكون مطلوباً لتصحيح معادلة واقع، عندما يتحدد الكردي فيه، وتكون الطبيعة ذاتها متحدة بالمصاب الكردي الجلل، بانتظار المأمول.
البداية والنهاية كمكان تستعجلان ظهور، قدوم، تجلي، تدخُّل اليد تلك، الماضي والحاضر:
طفولة متيبسة هناك على أسيجة " شيخ الحديد"
الفراغية،
ترنو منفرجة القلب إلى الغسق في الطرف الآخر
طفولة تتباهى بالتمرد على الأبوة ووشم الإله
كهرطقة بالغة الجمال
هي العبث، في أذنيها أقراط البراري
تصغي من ذؤابة جبينها إلى نداء الريح.
الريح. ص 34.
هنا، كما هو الواقع ضاغط عليه، ويتقدم بصلافة، مذ كان طفلاً، ولا تكون الطفولة مجرد الطفولة التي كانها، أي التي عاشها، فقد تتجاوز خاصيتها البيولوجية، تخرج عن مفهومها الطفولة الكائنية: الفردية، وتتعمم دلالات، لتحمل في إهابها بداية الكائن الموسوم، بداية التاريخ، بداية الحياة، وفي الحالات كافة، تنذ ر الطفولة: البداية الشمولية، أو الطفولة المجاز، أو الاستعارة المكانية المشعة بؤرة حدثَية، لتفصح عن أن ما فيها بات في حكم المستحيل تحمُّله أكثر من ذلك.
المكان المعتم والمعتم عليه، والحياة في الصميم المحصورة بين عتمة وعتمة، وترقب الفرج، كما هو الأمل التليد والمألوف، رغبة في التحرر من وطأة الموروث الديني الآلم والعادات. كما هي البدعة الخارقة للمحافظة الخائفة على ذاتها من كل تحول، تحولاً نحو بداية مغايرة تماماً، نحو الجهات المفتوحة، أي المكان الذي لا يعود مسيجاً بما يستبد به، كما تقول الريح مكانياً.
إن قصيدة ( بيتهوفن والأكراد) مكانية بامتياز، شكوى مكان لمكان، مكان كان، لمكان لاذ به الشاعر، وهو المقيم الان في المانيا، في بون، لكنه، كما يظهر الكائن الكردي العفريني، وهو يعاين الكرد من خلال بيتهوفن الموسيقار الرمز، بيتهوفن( القدر يدق الأبواب) مثالاً حياً، للتحول تاريخياً، حيث السمفونية تنطق بالمكان وقد زُحزِح مما يتلبسه:
أنظر إلى قامة بيتهوفن
أراه حزيناً
جموع الأكراد
يعاينون مركز المدينة بخطاهم
ولا يعالجهم سوى الحنين.
يبكي بيتهوفن. ص 44.
يتداخل الشاعر مع بيتهوفن، يلبّسه حالتًه، وقد خرج المكان باسمه، أو خرج هو مرئياً بالمكان، باسم الحالة الكردية، المكان الكردي المتصدع من الداخل، يكون التداخل حنيناً مشتركاً إلى المكان الذي يعنيهما، ولكنه في حالة حبش، يكون الحنين كردياً جمعياً.
بائس هو المكان عند حبش، وكأنه يريد استخدام كل المفردات الشعرية، ومخزون الذاكرة، وذخيرة المخيلة، في الإشهار بالمكان، في إظهار ما عليه المكان من هول المشهد، كما تقول القصيدة الأخيرة، وليست الأخيرة عنده، ومنذ البداية:
من مكان إلى مكان،
يوزعون إفادات مغموسة برائحة الدم والزنازين،
لا دموع.
جمادات داكنة تنغرز في قيافتهم
وهم يدسون رزم الحلم على بلاد يفكرون
بأنها جميلة إلى حد الغاية المبتكرة والطاغية جداً. ص 93.
على ماذا يراهن الشاعر؟ على المبالغة في التشديد على الدفع بالسواد إلى الواجهة، أم التعبير عما هو قائم، باعتباره الحقيقة، وليس الوهم المجسَّد كلاماً ليس عادياً، أعني لغة ليس بوسع أي كان إدراك دلالتها، مثلما هم الذين يستبدون بالمكان، وبالذين يقيمون فيه من الكرد خصوصاً، يزيفون الحقيقة، ويعتمون على الأشياء، وكأن الملحوظ هو حقيقة المكان بالذات.
كل ما في المكان يؤدي وظيفة، وكأنه في وساعته، ومن خلال كائناته قاطبة، إحداثيات التاريخ، مصفوفة وجار تعقٌّب أسمائها، معاينتها، ومكاشفة الخلل المكاني فيها، لتغيير المكان كما تقتضي أصول التغيير، حيث تقف ( الزنازين) ملخصة المكان، حجر عثرة حياتية، ليكون الورد معاوداً نشاطه، ولا يكون غرق في الورق، إلا توحداً في روح الورد: الكون الجدير بالعمران.

الورد المستشرف نهر إفروس Ivros:
يتداخل الورد بما هو رمزي فيه، بمشمومه ومضمومه الجميلين، مع النهر، بما هو رمزي فيه بدوره، بجريانه وسريانه الأثيرين، ليتزحزحا عن خاصيتهما المنشودة، الورد لا يعود لصيق المكان، مرغوباً فيه، والنهر لم يعد ممكناً التمعن فيه مهر حياة، معبراً إلى حيث الأمل.
هنا يرتقي النهر: التاريخ، النهر الموسوم، ذاك الذي كان الآخرون ممن كانوا ينشدون خلاصاً من سياط الجلادين والظلمة في أوطانهم ( الكرد نموذجاً)، يحاولون عبوره، بصفته الحاجز بين عالمين، عالم الرعب والظلام والبؤس والاغتراب ، وعالم الأمان والنور والرفاهية، لكنه يدَّخر في داخله الكثير من صور الموت، من جهة من يرصد كل حركة من ضفة لأخرى، يرتقي إلى مستوى العلامة الفارقة لمحتويات الديوان، إن كل قصيدة تنغمر بمياه إفروس، تحمل علامته، وتتبدى كابوسية غالباً.
كما تقول البداية في ( قطيع الوعول يموت من الظمأ)، والوعول بصفتها مسكونة بحرية الطبيعة، تتحرك حيث تقودها غريزتها، طليقة في البراري، ولكنها أسيرة الخضرة، أو الماء الذي يقلب معايير الأشياء، لتتداخل الوعول هذه، مع الانسان، في سعيه الدائب إلى الحرية، وهو يهيم على وجهه، تاركاً البلاد والعباد، متأملاً الماء الذي يجنّبه خطر الموت، حيث كان:
تركنا خلف ظهورنا قطيع الوعول يموت من الظمأ
ألَّفنا قصصاً
وأدرنا وجوهنا إلى المنافي البعيدة خلف البحار
شممنا الغربة فآلفتنا
نسينا ورود حبنا الأول هناك في خزائن الأشجار. ص 9.
يستحضر المكان أولاً، وتستحضر الجهة المكانية، وتستحضر الحركة بالمقابل.
ثمة المكان الذي لم يعد الاستمرار فيه ممكناً، إذ ليس قطيع الوعول إلا لعبة مجازية تعنيه.
ثمة الوعول داخل المكان، ولكنها الوعول التي تؤكد عنى المكان، ووساعته، وقد ضاقت بالوعول السبل، لقد ضاق المكان، وصار مهدداً لساكنه، رغم كل خيراته.
وثمة الذين تركوا المكان، هجروه مرغمين، كما هي الوعول التي تندفع قطعاناً، تخوض غمار المجهول، خوفاً من الظمأ: جرس الموت المرعب، والمدوي في المكان بالذات.
هذا الاضطرار، لا يترك للحياة المعاشة سبيلاً، إنه يدفع باتجاه ذاكرة أخرى، بحثاً عن ملاذ أكثر أماناً، لتستحيل الغربة وطناً اضطرارياً، بما أنه يضمن حياة أوفر.
هنا، ولأن عنوان الديوان، يشكل عنواناً لقصيدة، فإنه يستحق توقفاً كثيراً، فالعنوان- القصيدة، تشريح لحالة- ظاهرة مؤلمة، وتشخيص لمشهد بشري نازح من مكانه: موطنه، يترصد له النهر، والشاعر يجذّر المشهد في قصيدة مكانية واسعة الأبعاد، ولأنها هكذا، أجدني إزاءها، محاولاً استكشاف شعرية المكان، إلى جانب مأسوية المكان، وهل تمكن الشاعر من التوفيق بينهما.
من وجهة نظري، لا بد من التفريق بين المكانين الآخذين برقاب بعضهما بعضاً: القريب والبعيد، حيث إن الأول يظل مجاوراً ليس للذاكرة فقط، إنما ملازماً لمجمل الحواس والمشاعر، فتكون هذه ساخنة، ويغدو كل حديث عنه لسان حال مشهد جارٍ، مشهد يتم وصفه، ولكن حرارته ونفاذ تأثيره، خصوصاً حين يؤلم، يمنعان من التعبير عنه، خارج مضمار أغلب مؤثراته الفعلية، إن الوصف هنا، يكون في خدمة الحدث المكاني، بينما المكان هو الخيمة، التي مهما وسعت وسمت، يظل المتبدي للسمع والبصر، والذين يعيشون أحداثاُ عاصفة، ويكونون موهوبين، يكون من الصعب التخلص بقوة نابذة: مضادة، من جاذبية عناصرها المكانية، لكأن الحواس والمشاعر المتداخلة تأبى أن تدفع بما جرى إلى خانة الذاكرة، ومن ثم تكون المخيلة فاعلة في ممارسة مونتاجية معينة لمشاهد مقتطعة، والتدخل فيها، ليكون الحدث حدث المخيلة.
بالنسبة للمكان الثاني، وهو المكان البعيد، يمكن التعرف عليه، من خلال بنية السرد، حيث المكان الذي يكون طوع( أمر) المشهد الفني أو الأدبي، يستحيل مكاناً فنياً أو أدبيا ًأكثر.
هذا ليس رهاناً ميكانيكياً، أو مجرد إنشاء لغوي دون إحالات مجسدة يجري الحفر فيها، بصدد الوقائع وأصنافها، والذين يعيشونها ثم يحاولون التعبير عنها، طالما أن مصداقية الوصف لما جرى، تكون فائقة، تقلل من قدرة المرء في إعادة بناء الجاري بغرض آخر، أي نقل المؤثر إلى الآخر: المتفرج أو القارىء، أو للتاريخ...الخ.
في قصيدة ( هاربون عبر نهر إفروس)، ثمة تجربة، مهما كانت حقيقتها، أو أبعادها الحدثية، أجدني إزاء شاعر أخلص للوصف المكاني، للذين كانوا أو حتى يكونوا شهوده، لكنهم لم يبرزوا شهوداً أدبيين لـه بالقدر الكافي، لكأن ذاكرة الشاعر تبقي المكان قريباً، ولا تتمكن من جعله في عداد ملكية الذاكرة البعيدة، لتتدخل الحواس والمشاعر الأدبية، أي تبرز شعرية المكان بالتوافق مع شعرية الرؤيا الأدبية، وليس شعرية واقعة، وسيرنته بالكلمات( من السيناريو).
كيف يمكن التأكيد على ذلك؟ هذا ما تقرره القصيدة ذاتها، كما أرى ، كنموذج مميّز للمكان القريب، يقلل من لذة المتخيّل، لصالح ما يمكن اعتباره لذة المصوَّر تباعاً:
النهر الغاوي، النهر الرشيق
والعنيف جداً
هنا يجد المرء نفسه، كما أرى دائماً إزاء حدث جميل من جهة الانبناء الأدبي، كمطلع يحوي مفارقات تعصف بترتيبيات المكان القريب، تخلخله، لتؤممه شعرياً، فأن يكون النهر غاوياً( من الغواية، وما في الغواية من إيقاع بالآخر، من لعبة فخية، لعبة الجمال القناصة)، تجاوز للمألوف، وكذلك بالنسبة لـ( النهر الرشيق)، إنه في الوقت الذي يدخل في سيرورة المؤثر النفسي للأول، إلا إنه يشكل سيرورة معايرة قليلاً، باعتبار النهر تجلى ذا قوام، من جهة الرشاقة، هكذا بالنسبة للعنف الذي يقرّب النهر من خاصية الكائن البشري، وإن تبدت لي سردية ( الواو) العطفية مقللة من المؤثر المكاني هكذا، إذ يعود القارىء إلى السابق ليتمرأى اللاحق، ولو حذفت الواو، لكان المتخيل النهري العنيف باعثاً لرهبة مكانية أكثر.
النهر الذي كان يوهمهم بالفراديس
وجنات عدن تجري
من تحتها ورود الفجر والخلاص،
حيث قارب الأمان الذي يقلهم
إلى الطرف الآخر،
إلى " أولمب " الحرية
ورماهم على درب الهلاك في طرفة عين
غرباء
غرقى
تتناوش أجسادهم المتعبة أنياب الأسماك الجائعة
وصخب هدير الماء
دون أن ينتبهوا ودون أن يكحلوا
عيونهم بتلك الفراديس
والجنات التي تجري من تحتها ورود الفجر
والخلاص
لم يستطيعوا في تلك المحنة
أن يتركوا خبراً ولا أثر،
لم يتركوا سوى بقايا يوم دموي
في سروال النهر العنيف جداً،
نهر المشنقة والقيامة والجحيم،
نهر إفروس. ص 39-40.
لقد أوردت المتبقي من القصيدة التي تنتمي إلى فئة القصائد المتوسطة طولاً في المجموعة الشعرية، في محاولة لإبقاء القارىء إزاء الجاري وصفاً للمكان الذي اعتبره في الكثير منه قريباً.
الشاعر تجرفه الحالة لصق المكانية، حيث إنه رغم مهارته في توكيد شاعريته، يظل الشاهد أكثر مما هو الشهيد للشعر، وأظن أنه من الصعب على المرء أن يكون شاعراً، بالصورة التي تعرّف القارىء به وعليه، إن لم يقتل في ذاته كائنه اليومي، ليكون هو المختلف.
في البداية أفلح في تدشين القصيدة، لقد تخلى عن حسين حبش المنتمي المكاني القريب، وأسلم القياد لحسين حبش المكاني البعيد، ولكنه وقت لم يدم، مثلما أنه مكان استقطب الوقت حدثياً.
السرد الشعري في اعتباره المكاني القريب، ينحصر بين ( وجنات عدن) إلى ( أن يتركوا خبراً أو أثراً، وليس " أثر" حيث أعتقدها جاءت سهواً في الكتابة)، وقد جاء السرد في المجمل تقريرياً، لكأنه يفيد في وصف ما جرى، إن ذلك بتأثير الحالة الجارية ،أو المتقمَّصة، فإذا كانت الفراديس كافية لتأكيد وتفعيل الرغبة بالمغامرة، لماذا( جنات عدن)؟ وإذا كان أولمب الحرية هو المنشود، لماذا الطرف الآخر والحديث عن الهلاك وغيره؟ وإذا كان الحديث عن الأسماك ودلالاتها الجلية جداً، لماذا الإمعان في وصف ما لم يتحقق للذين كانوا شهداء رغبتهم، لأن المأتي عليه هو الإمكان الشعري وليس المكاني مباشرة؟
إن ما يلي( لم يتركوا سوى بقايا يوم دموي)، محقق لشروط القصيدة الداخلة في صلب المكان البعيد، حيث نهر إفروس بقي الكائن الجغرافي المخيف، وليس الشعري المرغوب فيه قراءة.
أنا أتحدث هنا عن مكائد المكان، عما يمكن أن يكونه أو يشكله المكان، من جهة التعامل معه، في منظورات مختلفة، وما لدى المكان هذا من صادات قوى أو مقاومة لتجييره، ليكون هو وليس هو، كما هو الحديث الشعري عن ( باجه مفيستو شيخ الحديد).
ثمة تبدلات في خصوصيات المكان، من جهة الصياغة، وكذلك من جهة القرب والبعد.
في ( حسرة) مثلاً، القصيدة التي تلي ( نهر إفروس) ترتيباً، يحضر المكان البعيد، وشعرية المكان البعيد، ومهما حاولنا التأمل، يستحيل المكان بعيداً، رغم أن البداية تهيء للخلاف:
ليس لي وطن أخط على جدرانه،
بطبشور الطفولة
" عاش وطني".
ليس لي وطن أتجرعه في الصباح
مع فنجان القهوة...الخ. ص 41.
في مجمل حيثيات القصيدة، يكون حسين حبش الشاعر، وليس حسين حبش الكائن الإنسي المعروف، حيث البساطة في السرد، لا تخفي عمقها. إن الشاعر هنا يحلق بمكانه البعيد طبعاً.
الأمكنة المتفاوتة غموضاً ووضوحاً، طولاً أو قصراً، ترتيب فقرات أو توزيعاً، طول جمل أو قصراً لها...الخ، لا تخفي- حقيقةً- مدى تناوب الأمكنة لـه، لمخيلته أو لحواسه ولمشاعره، وفي الوقت ذاته، توجه الشاعر إلى الحد الأقصى من الشاعرية، أي : شعرية المكان:
يركض في الصدفة
ويستميل الجهات هامساً في قبعاتها المكيدة
يتوعد كنسر ينشغل بالأفق
ويقود المراثي إلى عراء اللهو المبتكر. ص 56.
وهنا:
أجادل العصافير
في الطيران
أراني أخسر
المعركة
وأطير. ص 59.
وهنا:
دم يتسلق مهب الرغبة ويعلو جدار الهلع راسماً
خطوط الصلصال على جبين اللهب
وعلى قوس البسالة الممتدة من العراء إلى العراء. ص 67.
وهنا أخيراً، وليس آخراً، حيث السرد الشعري يخص علاقة عائلية، أو حدثاً عائلياً، يدور حول الصغيرة Hêva، ابنة الشاعر وزوجته هيام:
هيفا
تبكي من الصباح إلى المساء
في كل دمعة من دموعها
تنبت زهرة
أنا وهيام
نملك الآن حديقة أزهار
في البيت. ص 80.
هنا مثلاً، نجد أنفسنا إزاء حكاية، لها بداية ونهاية شعريتان بالتأكيد، حيث إن بكاء الصغيرة يفجّر زهراً، رغم أن البكاء لا يسعد أحداً، وإنما يقلق، وخصوصاً من جهة الصغار، ولكنها لعبة المفارقة، عندما يكون بكاء الصغيرة مجالاً مفتوحاً للذكريات والاهتمام أكثر بها، ولكون دموعها غالية، فواحة، أثيرة على قلب كل من الأم والأب، وهي لقطة شاعرية مكانية شفافة.
في الحالات الآنفة الذكر، تكون المقبوسات متعددة الدلالات، من ناحية راوية الشعر فعلياً، كون الخطاب يتراوح بين ضمير المتكلم المفرد والجمعي، وضمير الغائب، لتنويع القيمة الشعرية، وكذلك بالنسبة للصورة المتخيلة وأبعادها، وهي تتحرك في أفق القصيدة، بغية التجاوب مع الحالة النفسية التي لا تكون قطعاً على وتيرة واحدة، إنما مختلفة استدراجاً وانبناءً.
ومن اللافت، ونحن بصدد المكان، أن التاريخ يُهمَل من قبل الشاعر، أي أن الذي يريد أو يحاول معرفة تحولات الشاعر زمنياً، لا يمكنه مقاربة مصير الشعر، حراكه الرمزي، طبيعة التجربة الشعرية، لأن القصائد لم تأت مقروءة وفق ترتيب زماني غالباً، حتى داخل الديوان الواحد.
في ( غرق في الورد)، جاءت هكذا( 1996-97-95-98-99-2000-98-98-92-94-2001-2000-2000-98-95-95-95-98-2000-96-95-94-2000-2000-2003).
وفي ( هاربون عبر نهر إفروس) جاءت هكذا( 2002-2001-2002-94-94-94-96-2001-2000-2001-96-99- 98-95-2002-97-2001-2003-2000-2003-2000-2000-2000-2002-2003-98-2003).
طبعاً، لا بد من التشديد على أن الشاعر لا يؤرخ للقصيدة من جهة السنة فقط، وإنما اليوم والشهركذلك، وثمة استثناءات ثلاثة، الأول منها، في ( غرق في الورد)، سوى أن التاريخ مقروء في متن القصيدة( أي: الصعود إلى قلعة ALTENAHER)، بينما الاستثناءان الآخران، ففي الديوان الآخر، حيث جاءت قصيدتا( فجيعة النزول من جبل آغري) و( السماء مزرقة الوجه، لكمها الشاعر بالقصائد)،وهذه تُعتبر من أطول القصائد في المجموعة الشعرية، وهي مهمة كذلك، إلى جانب سابقتها، من ناحية الموضوع، فما الذي دفع بالشاعر إلى ترك هذه النصوص غفلاً من التاريخ؟ أماكان على وعي بذلك، وهو الحريص على المكان( المكان الموصوف، والمكان الذي كتب فيه)، أم جرى ذلك فلتة لاشعور؟ وهذا يؤثر في مجال البحث النفسي خصوصاً ناحية علاقة الشاعر بما يكتب، ويبقى التسلسل التاريخي مأخوذاً بعين الاعتبار، كما هو ملاحَظ، كوني لم أورد التواريخ، إلا لتأكيد العنصر المكاني، وكيفية تقاطعه مع الزمان، وبصدد تاريخية التجربة الشعرية وتمرحلها. أظن أن العملية ليست متروكة للمصادفة !
حسين حبش الكردي، حسين حبش الشاعر، يمكن عبور نهره الشعري دون خوف من تيار جارف فيه، وربما يكون التيار جارفاً، ولكنه يحيي ولا يقتل، إنما لا بد من اتقان السباحة الشعرية، لمكاشفة كائناته النهرية، وكذلك شم الورد، حقاً من حقوق الشعر أصالة قيمة.



#ابراهيم_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أعلام الكرد الخفاقة
- موسم الهجرة الطويل إلى جنوب كردستان
- الكردي مؤرّخاً
- الدوغماتيكي رغم أنفه
- -النقلة باعتبارها تمرداً في الأدب: سليم بركات في روايته الجد ...
- أهي نهاية المرأة ؟
- منغّصات الترجمة
- الكردي الرشيد: رشيد كرد
- مغزل الكردي
- هل يصلح الرمز الديني موضوعاً للسخرية؟
- الدولة العشائرية الموقَّرة
- دولة قوية دون شعبها
- السورية تيتانيك 3- مرسى تيتانيك مرسومة
- السورية تيتانيك2- الإبحار الكارثي
- السورية تيتانيك 1- لحظة الإبحار
- عمر الشريف بارزانياً
- فجيعة نفسي بنفسي- من وراء البللور السميك
- رسالة مفتوحة إلى صبحي حديدي: العربي الأثير في مزيج من كرديته ...
- الارتحال إلى الدكتور نورالدين ظاظا 13- دعوا جنازتي تمشي بمفر ...
- تصريح: الكتاب الكردي الأسود


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ابراهيم محمود - مكائد الأمكنة: حسين حبش وشعرية المكان