قصة انضمامي إلى أسرة الباحثين في معهد تاريخ العلوم والتكنولوجيا في موسكو وفصلي منه

محمود الحمزة
(Mahmoud Al-hamza)

الحوار المتمدن-العدد: 7361 - 2022 / 9 / 4 - 02:36
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

(ترجمة بتصرف لمقالتي التي نشرت في كتاب صدر حديثا في المعهد)

أود أن أبدأ من رواية قصة حدثت معي، كانت الحافز في بدء دراستي لتاريخ الرياضيات العربية في القرون الوسطى. كنت طالبا في مرحلة الدكتوراه في كلية العلوم بجامعة الصداقة في موسكو، حيث التقيت صدفة عام 1984 بالمستعرب الكبير الدكتور فالنتين بوريسوف (ت 1987) - مؤلف قاموس روسي- عربي الشهير. وعندما عرّفني عليه أحد الأصدقاء وقال له انني اتخصص بالرياضيات، سألني بوريسوف: هل تعرف الخوارزمي (من أعظم علماء الرياضيات العرب والمسلمين في القرون الوسطى). لكنني حينها بالفعل لم أكن قد سمعت بالخوارزمي. وعندها أضاف بوريسوف: ألا تخجل من كونك عربي ومتخصص بالرياضيات ولا تعرف أكبر عالم رياضيات عربي مسلم، ترك بصماته في تطور الرياضيات العالمية. منذ تلك اللحظة وضعت نصب عيني هدفا وهو دراسة تاريخ الرياضيات العربية في القرون الوسطى. حصلت على شهادة الدكتوراه في الرياضيات عام 1985 وغادرت موسكو وبعد عامين قدمت اول بحث حول مخطوطة الكرجي في الحساب (من القرن 10 م) وشاركت في مؤتمر تاريخ العلوم عند العرب في معهد التراث العلمي العربي في جامعة حلب عام 1987.
وشاءت الأقدار أن أدرّس مادة تاريخ الرياضيات في كلية العلوم بجامعة مصراته بليبيا (عام 1990)، وحينها قمت بوضع محتويات لهذه المادة كوني أول من درّسها في تلك الجامعة. وفي عام 2002 وبناء على إلحاح من طلبة جامعة تعز في اليمن لتقديم كتاب لهم في تاريخ الرياضيات، حيث كنت القي لهم محاضرات في هذا المجال الى جانب المقررات الرياضية المختلفة، لذلك قمت بكتابة كتاب في تاريخ الرياضيات بيدي على الورق، حيث كنت اجلس يوميا للكتابة لمدة ست ساعات خلال 40 يوما متواصلة، لدرجة أن ابهامي الأيمن أصيب بالعطب. وصدر الكتاب واستطاع الطلبة ان يقتنوا كتابا في تاريخ الرياضيات بالإضافة الى مجموعة من الكتب في الرياضيات الجامعية (كتب في التحليل الرياضي والحقيقي والمركب) اعددتها في اليمن. وقال لي الطلبة أنهم حصلوا على كتب في الرياضيات، تم نشرها لأول مرة في جامعة يمنية. ويخبرني باستمرار شباب يمنيون بأن كتبي تعاد طباعتها وتدرس في الجامعات اليمنية حتى اليوم.
وفي عام 2002 عدت الى موسكو بسبب ظروف عائلية غير متوقعة. وبدأت فورا ابحث عن جامعة او معهد أستطيع فيه دراسة تاريخ الرياضيات. فساعدني صديقي زميل الدراسة الجامعية الدكتور فلاديمير سافتشين وهو اليوم بروفيسور والسكرتير العلمي للمجلس العلمي لجامعة الصداقة. فعرفني على البروفيسور الدكتور سيرغي ديميدوف- رئيس قسم تاريخ الرياضيات في معهد تاريخ العلوم والتكنولوجيا التابع لأكاديمية العلوم الروسية، وهو شخصية طيبة ودمثة ومن أشهر مؤرخي الرياضيات في العالم وحالياً يترأس "الأكاديمية الدولية لتاريخ العلوم" ومقرها باريس.
فرحب بي ديميدوف وعرفني على الدكتورة مريم روجانسكايا الباحثة المعروفة في تاريخ الميكانيكا العربية في القرون الوسطى. وهكذا بدأت دراسة مخطوطات الرياضيات العربية في القرون الوسطى. وانضممت لأسرة الباحثين في المعهد. وقد ساعدتني روجانسكايا بالقيام بالخطوات الأولى في دراسة المخطوطات العربية وتعاونت معها للقيام بالترجمة والدراسة التاريخية والرياضية لمخطوطات لابن البناء المراكشي "تلخيص أعمال الحساب" وأبو بكر الحصار (ق 12م) "كتاب علم الغبار" وأبو الحسن القلصادي (ق 15م) "التبصرة في علم الحساب"، كما قمت بدراسة عدد من مخطوطات علماء الاندلس والمغرب العربي ومنهم: ابن الياسمين (ق 12م) ويعيش الأموي (ق 14م) وابن غازي المكناسي (ق 15م) وابن الهائم (ق 16م) وابن حمزة المغربي (ق 16-17م) وغيرهم.
وكانت روجانسكايا ذات قلب طيب، حيث أظهرت اهتماماً بي وبعائلتي وتعاملت معي بشكل انساني وودي.
كما اذكر بكل الود والعرفان مدير المعهد آنذاك الدكتور فلاديمير اورلوف الذي رحب بي وأصدر قرارا سريعاً بتعييني كبير باحثين علميين في المعهد. ولا يسعني إلا أن اتحدث عن مدير المعهد التالي وهو الدكتور ألكسي بوستنيكوف الذي نشأت بيننا صداقة شخصية وقمت بالتنسيق مع مدير معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب الدكتور علاء الدين لولح والتحضير لاتفاقية تعاون علمي وثقافي بين المعهدين، وتم توقيعها في عام 2005 خلال زيارتنا لجامعة حلب، التي تركت انطباعا هائلا لدى الدكتور بوستنيكوف، ولكن الاتفاقية للأسف بقيت حبرا على ورق.
وقمت بالفترة من 2005 وحتى 2008 بتسهيل دعوة الدكتورة روجانسكايا للمشاركة في عدة مؤتمرات علمية عربية في مركز المخطوطات في مكتبة الإسكندرية وفي معهد التراث العلمي العربي بحلب.
وقد جمعتني علاقة متميزة مع مدير آخر للمعهد هو الدكتور يوري باتورين وكان رائد فضاء لمرتين وكان مستشارا للرئيس بوريس يلتسين. وقد اتفقت معه على تأسيس مركز في المعهد لدراسة المخطوطات العربية والإسلامية واعددت مشروعا بذلك وبالإضافة الى مقترح لتنظيم مؤتمر عالمي في تاريخ العلوم العربية في موسكو بالتعاون مع عدد من مراكز الأبحاث المشابهة في حلب والإسكندرية وباريس وغيرها.
ولكن أغلب مشاريعي العلمية توقفت من بداية عام 2011 حيث انطلقت الثورة السورية العظيمة وبدأ نشاطي السياسي، حيث كرست كل وقتي لدعم الثورة من الساحة الروسية.
وسألني بعض الأصدقاء في روسيا كيف تقف ضد نظام الأسد وتنتقد الموقف الروسي الداعم للأسد وفي نفس الوقت تعمل في معهد حكومي تابع لأكاديمية العلوم الروسية؟ فكنت أرد عليهم: أنا مواطن سوري ومواطن في روسيا وأحب البلدين والشعبين. فقد امضيت أجمل سنوات شبابي في موسكو وفي الجامعة حصلت على مؤهلات علمية عالية: البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في الرياضيات. والمدرسة الرياضية السوفيتية من أفضل المدارس العلمية في العالم. كما أقيم عاليا الأدب والثقافة والشعر والموسيقى في روسيا. وأسست أسرة في موسكو: زوجتي روسية ولدي ولدين وابنتين، وعندي 5 احفاد، وجميعهم يحملون ثقافات متنوعة بما فيها الروسية والعربية. وقد امضيت في روسيا حوالي 31 سنة من عمري بينما عشت في سوريا اقل من 25 سنة. لقد كنت دائما مدافعا عن المدرسة العلمية السوفيتية والروسية وافتخر بكوني احمل شهادة الدكتوراه في الرياضيات من جامعة روسية. وقد تأكدت من خلال عملي في التدريس واحتكاكي بخريجي مختلف الدول الغربية والعربية، بأن مستوى التعليم العلمي في الجامعات السوفيتية كان راقياً جداً.
أعود إلى الحديث عن خطواتي الأولى في دراسة تاريخ الرياضيات في معهد تاريخ العلوم والتكنولوجيا في موسكو.
بداية عرضت علي روجانسكايا دراسة كتاب "ميزان الحكمة" للخازني (ق 12م) وهو في الميكانيكا والفيزياء وخواص السوائل، لكنني فضلت دراسة مخطوطات في الرياضيات.
وهنا أتذكر زميلتي في المعهد الدكتورة تاتيانا توكاريفا الباحثة في تاريخ الرياضيات، والمشرفة على مجلة "أبحاث في تاريخ الرياضيات"، لأنها كانت تساعدني باستمرار، واظهرت اهتماما إنسانيا كبيرا بعملي، خاصة في مراجعة أبحاثي باللغة الروسية، وقدمت لي معلومة مهمة عن وجود مخطوطة في الرياضيات باللغة العربية في مكتبة الكلية الشرقية في جامعة سان بطرسبورغ. فسارعت للبحث عنها فحصلت على نسخة منها عن طريق المراسلات الرسمية بين معهدنا وبين الجامعة. وحصلت على ترجمة تلك المخطوطة الى اللغة الروسية من اللغة الفرنسية وهي مخطوطة "تلخيص أعمال الحساب" لابن البناء المراكشي (ق 13-14 م). وجدير بالذكر بأن العالم الروسي الكبير الأكاديمي بافنوتي تشيبيشيف (ت 1894) أوصى بترجمة تلك المخطوطة الى الروسية لأهميتها لمعلمي الرياضيات في الثانويات العامة الروسية، ونشرت ترجمة المخطوطة في أهم مجلة رياضية روسية وهي "ماتيماتيتشسكي سبورنيك" (مجموعة أبحاث في الرياضيات) عام 1865. وكان العثور على هذه المخطوطة مفاجأة جميلة بالنسبة لنا لأن الباحثين الروس الذين سبقونا في تاريخ الرياضيات اهتموا بالرياضيات التي تنسب الى المشرق العربي، ويسرني أن أسجل للتاريخ العلمي بأنني مع الدكتورة روجانسكايا ولأول مرة في روسيا بدأنا بدراسة وترجمة مخطوطات رياضية لعلماء من المغرب العربي والأندلس.
وكما هو معروف فإن العلوم ازدهرت في المشرق العربي الإسلامي من القرن التاسع للميلاد وتركت اثرا كبيرا في التقدم العلمي في الاندلس بدءاً من القرن العاشر للميلاد. كما أن المغرب العربي أصبح موطنا لازدهار العلوم بعد تفكك الدولة العربية الإسلامية في الاندلس في القرن 12 ميلادي. وبشكل عام لعبت الاندلس والمغرب العربي دورا حاسما في انتقال العلوم العربية الى أوروبا بعد ترجمتها الى اللغة اللاتينية لتساهم في النهضة الأوروبية.
وتمكنا في أبحاثنا العلمية في تاريخ الرياضيات في المغرب والاندلس من الوصول الى تعميم لنتائج مهمة منها أن علماء المغرب والاندلس استخدموا هناك 3 طرق لحل المسائل الحسابية والجبرية: 1) الطريقة الحسابية، 2) الطريقة الجبرية (الخوارزمي)، 3) الطريقة الهندسية (طريقة حساب الخطأين او كفات الميزان)
كما اكتشفنا ان طريقة كفات الميزان الرياضية التي تستخدم الأعداد عند ابن البناء، والتوزين عن طريق الميزان عند الحصار، الذي استخدم طريقة كفات الميزان قبل ابن البناء بقرنين من الزمن، بعكس ما كان يعتقد الكثير من مؤرخي الرياضيات.
وخلال عملي في المعهد في الفترة (2002-2016) شاركت في كافة المؤتمرات العلمية السنوية في المعهد بأوراق بحثية. وكذلك شاركت في عشرات المؤتمرات العلمية الدولية في سوريا ومصر والأردن والمغرب العربي وفرنسا وموسكو وسان بطرسبورغ وياروسلاف.
وفي عام 2009 حصلت على منحة من المركز الوطني للأبحاث العلمية (CNRS)في فرنسا لإجراء أبحاث في تاريخ الرياضيات العربية في مركز تاريخ العلوم والفلسفة العربية في القرون الوسطى في باريس. وتم قبولي حينها عضوا في الجمعية الدولية لتاريخ وفلسفة العلو م العربية والإسلامية:
(The International Society for the History of Arabic and Islamic Science and Philosophy).
وفي عام 2014 خلال مشاركتي في مؤتمر علمي في مدينة الرباط أصبحت مستشارا لمركز ابن البناء المراكشي لتاريخ العلوم العربية والاسلامية، وكذلك عضوا في الجمعية السورية لتاريخ العلوم والجمعية الأردنية لتاريخ العلوم. كما كنت عضوا في هيئة تحرير عدد من المجلات العلمية المتخصصة في الرياضيات وطرق تدريسها وتاريخها في أنقرة باللغات الإنجليزية.
ولدي اليوم حوالي 70 بحث علمي وكتاب، أغلبها في تاريخ الرياضيات العربية في القرون الوسطى وفلسفتها وتعريبها (ومنها كتاب في تاريخ الرياضيات). كما اعددت قاموسين في مصطلحات الرياضيات روسي-عربي وانجليزي-عربي. ومنذ أشهر نشر مركز ابن البناء في الرباط نسخة الكترونية لكتابي: "التفكير الرياضي كنموذج للمعرفة العلمية". ومنذ أيام قليلة صدر لي كتاب "الاستشراق الروسي والعالم الإسلامي" عن مؤسسة "وعي للدراسات والأبحاث". ويتضمن تاريخ العلاقات الروحية والثقافية بين العرب والروس خلال ألف سنة من دخول الإسلام والمسيحية الى روسيا، وتاريخ الاستشراق والاستعراب العلمي في روسيا واهم المستشرقين ومؤرخي الرياضيات العربية في روسيا. وتضمن أيضا أسباب تدهور العلم العربي ومواضيع أخرى. واقوم بالعمل على تحديث وتوسيع كتابي "تاريخ الرياضيات وتطورها الفلسفي"، الذي يتضمن تاريخ الرياضيات منذ القدم وحتى القرن العشرين ويركز على الرياضيات العربية في القرون الوسطى وحياة العلماء العرب والمسلمين. وسيترجم الكتاب الى اللغة الإنجليزية وينشر في دار النشر الأمريكية Springer، ويقوم بالترجمة طالبي الذي اعتز به من اليمن الشقيق الدكتور معاذ المحالبي.
وأخيرا لا يمكنني نسيان حادثة اخراجي من المعهد.
فقد استدعاني نائب مدير المعهد وهو شاب غير معروف علميا وقال لي بالحرف: انت لم تحضر اجتماع في المعهد لانتخاب مدير المعهد (في الحقيقة هذا سبب تافه) وعدما قلت له انني اعمل في مكان اخر لان راتب المعهد لا يكفي لمصروف أسبوع، قال لي نحن نعرف كل شيء عنك، واطلب منك اما ان تقدم استقالتك بنفسك واما ان نصدر قرار بفصلك. فقلت له سأقدم استقالتي. وهذا ما حدث. والسبب في ذلك هو سياسي بامتياز لنشاطي السياسي والإعلامي الواسع دعما للثورة السورية في وسائل الاعلام الروسية والعربية ومن خلال المظاهرات والمحاضرات والطاولات المستديرة واللقاءات ضد نظام الأسد المجرم من بداية 2011 ، وكذلك لانتقادي السياسة الروسية في سوريا.
وبالطبع فإنني اعتبر أن العالم الحقيقي لا يمكن أن يدير ظهره لقضايا شعبه وطموحاته المشروعة في أن يعيش حراً كريماً في وطنه.
3/9/2022

#محمود_الحمزة (هاشتاغ)       Mahmoud_Al-hamza#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات