أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - 10- ضحايا ثقافة الغباء الجمعي















المزيد.....


10- ضحايا ثقافة الغباء الجمعي


ياسين المصري

الحوار المتمدن-العدد: 7326 - 2022 / 7 / 31 - 01:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


عندما يتكلم المرء عن ضحايا ثقافة الغباء الطاغية في المجتمعات المتأسلمة منذ ما يزيد على 1400 عام، يعرف جيدًا أنه من الصعب وصف أي شخص بالغباء حتى وإن كان غبيا بالفعل، بل ومن الأصعب، إطلاق هذه الصفة الرديئة على مجتمع بأسره أو حتى على شريحة مجتمعية منه (راجع المقدمة المنشورة على الموقع في 2022.6.8)، ولكن تاريخ البشرية يعلمنا بأن فترات الغباء الجمعي تنشأ بفعل أيديولوجيات غبية، لا تختلف في شيء عن الإسلاموية، كالفاشية والنازية والشيوعية وغيرها، وهي تمر خلال منظومة جدلية عبر التاريخ، ولا تُصبح تطغى على المجتمع بين ليلة وضحاها. لذا، حين نصف شعباً بالغباء، فلا بد أن يكون الغباء قد تفشّى فيه بشكل وبائي، ولم يعد مُمكناً إنكاره أو حتى إخفاؤه، وغدت ظواهره تتمثل في إنهيار جميع النظم التعليمية والثقافية في الدولة، وبالتبعية، انهيار جميع القيم الأخلاقية والسلوكية، فأصيب المجتمع بالسطحية والرعونة، وصار بالضرورة شعباً هلوعاً، جزوعًا لصغائر الأمور، ومتأثرًا بتوافه الأشخاص والأشياء دون تمييز. ما تشهده مصر حالياً مثال دقيقٌ وجليٌّ لذلك النمط الثابت من الغباء الجمعي العام، ولن يستطيع أحد تغييره، ما لم يعمل على كسر الثوابت وتغيير العقليات المؤمنة بها عن طريق التعليم والإعلام والتثقيف والتهذيب.
المقالات التسع السابقة تناولت المحاور الأساسية التي تقوم عليها ثقافة الغباء الجمعي في المجتمعات المتأسلمة، وتغذي سلوكيات أفرادها بمزيد من الغباء والضياع. تقول الدكتورة وفاء سلطان: « لا يمكن لإنسان أن يقرأ السيرة النبوية لمحمد ويؤمن بها ويخرج إلى الحياة إنسانًا سليمًا نفسيا وعقليا». نعم، نحن نواجه أشخاصًا يقدسون نبيا مفروضًا عليهم على أنه أسوة حسنة، ويصدقونه وهم يعرفون أنه كذاب، وكان يفعل على غير ما يأمر به أتباعه، أو أن يقول على عكس ما يفعل، تبعًا للمنطق السياسي الشائع، وهو أن يتكلم على مستوى ويعمل على مستوى آخر، يقول مثلًا: « فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ»، ثم يقول لقريش: «لقد جئتكم بالذبح»، ويملأ كتابه (القرآن) بالتناقضات الواضحة، فيقول: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} ثم يقول: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}. لا بد أن ينعكس هذا التناقض على فكر المتأسلم ويصاب به، ويعتبره رحمة للعالمين، وأن نبيه على خلق عظيم، تنقلب المفاهيم في عقله. فيفسد بفساد نبيه، ويغدوا ضحية سهلة من ضحاياه!
المتأسلم - أينما كان ومهما كان مستواه العلمي أو العملي أو الاجتماعي - يؤدِّي طقوسًا دينية ذكرت لفظًا، دون تفاصيل في قرآن وأقواله نبيه، ومن ثم اختلقها الخبثاء وفرضوها عليه، لاعتبار أنها موجودة في جميع الديانات الأخرى، كالصلاة والصوم والحج، لكنهم أضافوا إليها فريضة شاذة، بهدف تعبئته نفسيًا واستعماله كأَداة حادة ضد الآخرين، هي فريضة ”الجهاد في سبيل الله“، التي هي أهم عند الله من أهله وعشيرته وماله وتجارته ومسكنه: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (التوبة 24). ومع أنَّ أحدًا لا يستطيع تحديد معالم هذا السبيل، وأين هو! إلَّا أنَّ الخبثاء حددوا وسائله وأساليبه بوضوح، فإمَّا أن يكون فرض كفاية (أي يسقط عن المتأسلم)، إذا قام به ما يكفي من المتأسلمين، أو فرض عين (أي يقوم به بنفسه) كالصلاة والصيام عند هجوم العدو، وعند التقاء الجيشين المتحاربين، وعند استنفار الإمام، أي إعلان ما يعرف بـ”التعبئة العامة“، فلا يتخلف. 
ومادام المتأسلم على قناعة بأنه ينتمي لخير أمة أخرجت للناس، عليه أن يشن الحروب على الآخرين، يأمرهم بالمعروف وينهيهم عن المنكر ويؤمن بالله ( آل عمران 110). ولا يتوقف عند هذا الأمر فحسب، بل يغير المنكر بيده، (أي بالسيف المحمدي البتار)، فإن لم يستطع فبلسانه (أي بالبذاءة النبوية الكريمة)، فإن لم يستطع فبقلبه (أي التقية - المداراة والنفاق - خشية الضرر المادي أو المعنوي)، وذلك أضعف الإيمان (حديث مشهور رواه مسلم النيسابوري عن أبي سعيد الخضري)، وبذلك يكون قد نصَّب نفسه قاضيًا على تصرفات الآخرين والحكم الأخلاقي عليهم بنفسه سواء كانوا في داره أو في دار الكفَّار، يتدخل بشكل سافر وعنيف في شؤونهم الخاصة والعامة، لتغيير ما يراه منكرًا أو تبعًا لما يمليه عليه رجال الدين. وهو ليس بالضرورة، يعاني من قلة التعليم ورداءة التفكير وكثرة الرجعية والتخلف والانحطاط، ودون فهم لمن يتدخل بقدرته على تحديد ما هو المنكر وما هو المباح. وذلك: «لما يترتب عليه من نصر المؤمنين وإعلاء كلمة الدين، وقمع الكافرين والمنافقين وتسهيل انتشار الدعوة الإسلامية بين العالمين، وإخراج العباد من الظلمات إلى النور، ونشر محاسن الإسلام وأحكامه العادلة بين الخلق أجمعين، وغير ذلك من المصالح الكثيرة والعواقب الحميدة للمسلمين»، بحسب المفتي السابق لمملكة آل سعود (بن باز):
https://binbaz.org.sa/articles/76/فضل-الجهاد-والمجاهدين
لماذا إذن كل هذا العداء الإلهي المقدس والضلال الفقهي لدي المتأسلمين ضد المخالفين لهم والمختلفين عنهم؟ لماذا يحب إلههم سفك الدماء؟ هل خلق البشر لنحر بعضهم بعضا، مع أنه إله واحد وقد خلقهم من نفس واحدة (النساء 1)؟
هناك دائمًا علاقة جدلية متبادلة - بالسلب أو الإيجاب - بين جميع الايديولوجيات ونظم الحكم من ناحية وبين مجتمعاتهما من ناحية أخرى، يؤثِّران مباشرة في أفراد المجمتع، والأفراد بدورهم يؤثرون فيهما، حتى وإن كان التأثير المتبادل بطيئا أو غير ظاهر للعيان. الايديولوجية الإسلاموية كما هو واضح، بعيدة كل البعد عن الروحانيات، وتنتهج أسلوبًا فاشيا مع البشر، وتعدُّ أكثر الديانات المعروفة في العالم تأثيرًا في مجتمعاتها، وتأثُّرًا بها، ولذلك تتسبب في نشوء آراء ومذاهب وجماعات وإسلامويات عديدة، ناجمة عن غلبة ما تتضمنه من عوامل سياسية تمس مباشرة وبقوة حياة الناس وعلاقاتهم ببعضهم البعض، ولما فيها من ترابط هيكلي وفقهي وثيق الصلة بنظام الحكم المزعوم للنبي الكريم وقرآنه وأحاديثه، وعلاقاته الجنسية، وما تشمله من كراهية وحروب وصراعات بين الشعوب، أو داخل المجتمع الواحد، خارج البيت أو داخله. إنها حقيقة أيديولوجية سياسية كانت تخص حكم الفرس العباسيين وحدهم، وضعها لهم مجموعة من الخبثاء بزعامة البخاريستاني (راجع المقالتين 3 و4 من هذه السلسلة)، وكان من الطبيعي أن يجد فيها الحكام المتأسلمون من بعدهم وسيلة سياسية ناجعة، تمكنهم من الاستحواذ على السلطة والنفوذ والثروة، واضطهاد وقهر رعاياهم، أطول وقت ممكن في بلادهم أو في أي بلد يغتصبونه. فالمقهور عادة لا يجد بدا من التماهي مع القاهر والانسجام مع قهره له والتعود عليه، وهو بدوره يمارس القهر ما أمكن على كل من يحتك بهم في أماكن العمل أو في البيت أو الشارع. دائرة شيطانية، تؤدي باستمرار وتكرار إلى نشوء العديد من المفاهيم المختلفة، وبلورة الكثير من الآراء المتباينة، وظهور المذاهب المتضاربة، وتشكيل الفرق المتصارعة!، منذ نشأت الديانة وحتى يومنا هذا، بل وتعمل - أكثر من غيرها - على بزوغ ظاهرة ”إدعاء النبوة“ بين حين وآخر (إقرأ كتاب: مدعو النبوَّة في التاريخ الإسلامي، دراسة في الاستخدام السياسي للدين، تأليف: وليد طوفان، مطبوعات دار الخيال ، القاهرة - لندن، ط 1، يناير 2004). الجميع بشتى آرائهم ومذاهبهم وفرقهم المختلفة يريدون الاستفادة من هذه الديانة على حساب الآخرين أسوة بنيهم الكريم، والجميع تجمعهم خواص أساسية، هي: التخلف الحضاري والانحطاط الفكري والتدني الأخلاقي والسلوكي، وسيطرة الغباء الجمعي الشامل، ومحاولة الرجوع بكل شيء في الحاضر إلى الماضي السحيق.
من الطبيعي أن ينطبق هذا على الأغلبية العظمى من المتأسلمين المغيبين والعاجزين عن استعمال عقولهم، ولكن الطامة الكبري تظهر بين النخب التي تقود المجتمع لامتلاكها قدرًا كبيرًا من الثروة أو الامتيازات أو النفوذ أو السلطة أو المهارة أكثر من غيرها، ويعتقدون أنهم يستحقون معاملة تفضيلية بحكم موقعهم، أو ذكائهم المعرفي، أو مكانتهم الاجتماعية، أو ثرواتهم المالية، أو اختيار الشعب لهم، ومن ثم يكون لهم أثر كبير في تغيير وتوجيه حياة الأفراد والمجتمعات، وتوجيه سلوكهم والتحكم في حياتهم وتحديد ثقافتهم … باختصار هم الذين يشكلون الوعي لدي العوام بكل ما يجري في حياتهم ويدور من حولهم. يمكنهم أن يغيروا من تفكيرهم ويرفعوا من شأنهم، ويعطوهم الإحساس بإنسانيتهم، أو يوقِفوا العمل بعقولهم وإيقاعهم في فخ الجهل والانحطاط والتخلف، أي تعميق وترسيخ ثقافة الغباء الجمعي لديهم.
يسمع ضحايا ثقافة الغباء الجمعي نبيهم الكريم يقول : « من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. فقال أبو ذر: وإن زنا وإن سرق؟، قال: وإن زنا وإن سرق. وفي رواية عن علي: رغم أنف أبي ذر». هذا الكلام ليس له من هدف سوى تحويلهم إلى مجرمين، يسرقون ويزنون ويذهبون للحج، ليعودوا من هناك كيوم ولدتهم أمهاتهم. وبذلك يجعلون كعبتهم مكانًا ومرتعا للصوص والزناة! كما كانت دائمًا!، ويقول كذلك: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»، بمعنى صم رمضان وافعل ما شئت، أو صم يوم عرفه ليكفر لك سنة قبلها وسنة بعدها!، ويسمعون الدعاء المشهور على ”اليهود والنصارى“، منذ قرون تلو الاخرى، بتشتيت شملهم وتفريق جمعهم وتيتيم اطفالهم وتجميد الدماء في عروقهم، ورغم ذلك لم يستجيب لهم، ولم يشتت سوى شمل المتأسلمين أنفسهم، ولم يفرِّق سوى جمعهم، ولم ييتم غير أطفالهم! حقيقة لا أدري وأحسب أن أحدًا لا يدري، ماذا يستفيدون من هذا لو أن الله استجاب لدعائهم؟ أليس من الغباء تصوُّر أن الله أكثر غباء من غبائهم، بحيث يستجيب لدعائهم في يوم ما، ويشرح صدورهم، ويزيد من إيمانهم وتسبيحهم بحمده، لرؤية طفل يتيم أو إنسان قد تجمَّدت الدماء في عروقه؟.
جاء في المقال الخامس عن الأزهر وثقافة الغباء الجمعي، أن رجال الدين الإسلاموي جميعًا، دون استثناء، يعانون من العبودية العقلية والفكرية لله ولرسوله، وانهم يورِّثون تلك العبودية للأجيال اللاحقة، ويجري العمل الدؤوب على تعميقها، كبند أساسي في العلاقة المتبادلة بين الديانة ونظم الحكم ومجتمعاتهما. يتضح هذا البند جليًا في الانجذاب الشديد إلى الديانة والتعلُّق الخرافي بها من قبل النخب سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية أو دينية، ومحاولتهم الاستفادة منها والتربُّح من الاتجار بها. ولذلك يتربَّعون على قمة ضحايا الغباء الجمعي المتفشي في المجتمع، مما يحملهم على التخلي عن واجباتهم الأصلية في تطوير آليات صحيحة للعمل السياسي والاقتصادي والثقافي، ومن ثم يعجزون عن تطوير وعي ذاتي لدي القاعدة الشعبية بما يتلاءم مع ضروريات حقوق الإنسان والرقي والتحضر للمجتمع، وعوضًا عن ذلك يسعون جاهدين من أجل الاستحواذ على الشهرة والسطوة والنفوذ، والإثراء السريع على حساب الأغبياء والسذج والمغيبين.
في مصر تحديدًا، وهي دولة رائدة في الهروتلة والهذيان الديني والتخبط السياسي منذ عقود، بفعل تواجد مؤسسة الأزهر على أراضيها، والتحالف القائم بين الفاشيتين السياسية والدينية، لا غرابة في أن نجد سياسيًا مشهورًا أو أستاذا جامعيا مرموقًا أو طبيبا أو مهندسا ناجحًا أو رجل أعمال ثريًا …، وقد جلس مع المغيبين من جميع طبقات المجتمع في خشوع وخضوع تحت أقدام رجل دين، لا يملك من المعرفة سوى القراءة والكتابة، والادعاء بحفظ القرآن ودراسة الأحاديث وقراء الكتب الصفراء، ليتعلَّم منه علوم الحيض والنفاس وفقه الولائم والأعراس ونواقض الوضوء وفقه الفُساء والضراط وآداب الدخول والخروج من المرحاض وكيفية مسح مؤخرته، وهل يبول واقفًا أم جالسًا، وشرب بول البعير للشفاء من جميع الامراض … ، ولكي يعرف نوعية ما يلبس وما يأكل وما يشرب وكيف تكون هيئته، ومعاشرته لزوجته ومفاخذته لصغيرات السن ورضاعة الكبير… وأخيرًا وليس آخرا معرفة إن كان أكل خصية الخروف أو العجل تساعده على ممارسة فحولته مع الحريم … ليكون أسوة حسنة برسوله الكريم!. تجرفه هذه الأسوة الحسنة نحو البلادة واستغلال الآخرين والسطو على أموالهم وسبي بناتهم، ويا حبذا لو تقرب منها بأرتداء زيٍّ مميزٍّ، وشكل مُقَزِّز، وقد ظهرت على وجهه سمة القذارة من أثر السجود (الزبيبة) بشكل واضح وكثيف، وهي سمة خاصة بالمصريين وحدهم من دون المتأسلمين جميعًا!
المشكلة لدي المتأسلمين ليست في الخوف وحده من عقاب الإله المتربص بهم في حياتهم وبعد موتهم، بل فيما يمنحه هذا الإله لهم في الحياة الدنيا من مرونة لابتزاز بعضهم البعض وابتزاز الآخرين تحت مظلة العقاب الإلهي المزعوم. والنخب المتدينة تعرف أن المتأسلم يفكر بأمنياته أو بمخاوفه بدلا من أن يفكر بعقله، لذلك، ليس من النادر أن يتنكر أحدُها لمهنته التي قضى سنوات عديدة في دراستها، ويعلن نفسه فقيها ومفسرًا وداعية، وينخرط فجأة في الشؤون الإسلاموية، فيمزجها بما تعلمه من العلم، ومن ثم يحاط سريعًا بالشهرة ويصبح وجبة دائمة على وسائل الإعلام لينشر هذيانه بشكل فج، بعيدًا عن اللياقة والمداراة والخجل ومراعاة العقل، ويجد دائمًا أعدادًا غفيرة من المستمعين إليه والمعظمين لشخصه، والفاتحين لأبواب الثراء له من لحم أكتافهم، لمجرد أنه سحرهم بحلو الكلام وفن الهرتلة والهذيان! وقد يُكتب له التقديس في حياته وفي مماته، فتقام له المقامات وتتجمع حول قبره الجموع، وتزرف له الدموع، وتتكاثف عليه النذور وإطلاق البخور، وتسْبَح كلماته وخرافاته عبر الأثير، تملأ المنابر والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي والكتب الصفراء!.
هذه النخب تعرف جيدا ما يجري في قاع المجتمع من خلل وفساد وانحطاط وتخلف، وربما تعرف أيضًا مآلاته وعواقبه المدمرة، فهي قد نشأت فيه وجاءت من أعماقه، قبل تخليها عنه ووصولها إلى ما هي عليه، حيث تعيش في عزلة تامة تحميها أبراج ذهبية. تخلت عن دورها الأساسي في التغيير السياسي والاجتماعي وفي الإصلاح وبناء الدولة وترسيخ الوعي العام وتحقيق العدالة والديموقراطية، والدفاع عن قيم الحرية والتعددية والتسامح وحقوق الإنسان، وبدلا من ذلك، راحت تتوافق مع نظم الحكم الفاسدة وتشارك في تفاقم الأزمات الواحدة بعد الأخرى، وتعمل ما في وسعها على تعميق وترسيخ جميع مظاهر الغباء الجمعي، جارفة معها الكثير من آمال الشعب وطموحاته.
إنقسم المجتمع في مصر انقسامًا حادا، وشكلت هذه النخب "طبقة" تعيش في حالة غيبوبة عن الواقع والتاريخ، منعزلة عن الشعب وغارقة في التنظير الفقهي والأدلجة الدينية، عاجزة تمامًا عن الانصهار في نسيجها الاجتماعية، متقوقعة على نفسها، هاربة من أداء دورها الحقيقي في مواجهة الجهل والتخلف والعبودية، أنشأت لنفسها الأبراج الخاصة بها والتي تحول دون تواصلها مع القاعدة، وبذلك سقطت فريسة سهلة للتدجين من قبل السلطات الفاشية الحاكمة، والمشي في ركابها، وتبرير ممارساتها بما فيها السلبية منها، تخلت كلية عن ممارسة سلطتها النخبوية داخل مجالاتها، واتجهت للتأثير على المجالات السياسية، والثقافية العامة لتحقيق مصالحها الشخصية في ظل حكام جهلة وعجزة وحكومات ضعيفة وفاسدة. 
المواطنون من ناحيتهم لا يأبهون إلَّا بما يمكنهم عمله للنجاة بأنفسهم من الحياة في غابة حالة السواد، لا يرون فيها أي موضع لأقدامهم، تتحكم في حركتهم الغرائز الحيوانية، فاقدين الوعي بقواعد السلوك وحسن الزوق ومعايير الأدب والأخلاق. لا تكمن المشكلة في جهلهم أو غبائهم، بقدر ما تكمن في عدم قدرتهم على الوعي بهما، فوعي المرء بجهله أو غبائه يفتح له آفاقًا واسعة للإبداع والتقدم والرقي. ولذلك عندما يذهب أحدهم إلى بلاد الكفار - مهما كان مستواه العلمي - يراها كلها منكر، فيحاول أسلمتهم، والاعتداء على نسائهم، على أساس أنه يجاهد في سبيل الله وأن ما يقوم به غاية الحلال الذي سيدخله جنة نبيه. والمحصلة هي أن يعمد إلى استفزازهم، والتطاول عليهم بتحقير معتقداتهم! وتسفيه سلوكياتهم، لأن خرافات أديانهم جنونًا وخرافات دينه نعمة ورحمة للعالمين!. هذا المتأسلم لا يدرك ولا يتوفر لديه إمكانية إدراك أن الأخلاق ليست من الدين في شيء ولا صلة لها بالحلال أو الحرام الذي تعلمه من أسياده، كان يجب أن يتعلم عوضًا عن ذلك ماهية الصح من الخطأ والنافع من الضار والمفيد من غير المفيد، وأن الأخلاق عبارة منظومة قيم أقرتها الإنسانية بشكل مطلق على أنها جالبة للخير وطاردةً للشر وهي ما يُميزه كإنسان عن غيره من الكائنات الحية الأخرى. الأخلاق أهم شكلٍ من أشكال الوعي الإنساني، وتعد من أفضل القيم والمبادئ التي تحرك الأشخاص والشعوب كالعدل والحرية والمساواة بحيث ترتقي، لتكون مرجعية ثقافية وسنداً قانونياً تستقي منه الدول أنظمتها وقوانينها. وهي السجايا والطباع والأحوال الباطنة والظاهرة التي تُدركها البصيرة والغريزة، فالسلوك الإنساني يقيَّم على ضوء القواعد الأخلاقية التي تحدد له معايير سلوكه، والتي يضعها لنفسه أو يعتبرها التزامات ومبادئ يمشي عليها، وأيضا واجبات تتم بموجبها أعماله. إن الدين أي دين - مهما كان - لا صلة له بالأخلاق، فهو مجرد طقوس، أما الأخلاق ما هي الا سلوك، والتزام المرء بالطقوس الدينية كالصوم والصلاة والحج … لا تعني على الإطلاق أنه صاحب أخلاق حسنة. الطقوس الدينية لا تمثل الفضيلة، وليست ممارسات أخلاقية، بل هي قناعات شخصية لأفراد يمارسونها لغايات واعتقادات تعود عليهم بالفائدة المادية أو المعنوية في حياتهم، بينما مفهوم الأخلاق يتضح في التزام أفراد المجتمع بالصدق والامانة والثقة والمساعدة والنظافة واحترام الذات والآخرين وعدم الخيانة والرشوة والتسلط والنفاق أو أي فعل سيئ آخر، مما هو شائع في المجتمعات المتأسلمة بأسرها، وتظهر لدي المتدين قبل غيرهم. فلا مانع لدي القائد والزعيم أن يتكلم بلسانين ويكذب ويسلب وينهب ويقتل … إلخ كما فعل نبيه الكريم، ويزعم في نفس الوقت أنه على خلق عظيم وأنه اغتصب السلطة ليكمل مكارم الأخلاق، وبالمثل لا مانع من أن يسرق المتدين الاحذية من المساجد، ثم يهرول للجلوس في الصفوف الأولى للصلاة التالية!، ولا مانع للموظف أن يرتشي أو يسرق المال العام والخاص ويضع يافطة أمامه عليها “كله من فضل الله“، ولا مانع لأي متأسلم أن يحج أو يعتمر ليحمل لقب ينصب به على الناس ويسلب أموالهم أو يسبي نساءهم!
مجتمعات الغباء الجمعي يسود فيها تعاطي الكذب ومحاربة الصدق، وشيوع الخداع والدجل والرياء والزيف والنفاق والولاءات الكاذبة والسطحية الفارغة والإيمان بالمظهر والكفر بالجوهر، وانعدام الوعي الذاتي المجتمعي والعمق الحضاري والبعد الثقافي بشكل شامل، ويسود فيها الغيبة والنميمة والكذب والحسد والمدح النفاقي والدعاية الرمادية والتلّون الحرباوي، الغايات الدنيئة فيها تُبَرِّر الوسائل الحقيرة. يجيد أفرادها فن المداهنة، ويرتادون المساجد ويصلون في الشوارع ويحجون ويعتمرون مرارًا وتكرارًا!، وهم لبعضهم البعض مجرد مطية أو وسيلة توصلهم إلى ما يريدون، لأنَّ المُتسلّق أو المُتملّق، الذي يتلوّن حسب المعطيات والمواقف والمصالح يتجرد بكل غباء وقبح وإفلاس فكري من منظومة القيم الأخلاقية ومكوناتها التربوية، ويحاول كسب ود من هم أعلى منه بأيّ وسيلة كانت، وإلحاق الضرر بالآخرين من خلال كذبه وخداعه لهم.
إننا نعيش اليوم في عصر الفوضى الدينية والسياسية، والعبث الفكري بعواطفنا، في غياب الوعي بخطورة التحديات التي تواجهنا، وعدم مقدرة النخب الحاكمة على خلق وعي جديد يواكبها ويساهم في حل المشاكل.
الفاشية العسكرية والدينية المتحكمة في المجتمع المصري لا تترك للمواطن أية فرصة ليتعلم معنى الحياة والدين والأخلاق والكرامة الإنسانية، والخلاصة هي أن منظومة ثقافة الغباء الجمعي يجب أن تستمر، ويجب على ضحاياها التحلي بالزهد والصبر على الفقر والقهر وسوء الحال، وربط الأحجار على بطونهم وتجميد عقولهم، ليدخلوا الجنه في الآخرة، ولكي يبني الفاشيون في الدنيا قصورهم ومجدهم وعزتهم من لحم أكتافهم!، إلى أن يقترب النور الذي يلوح في الأفق، ليزيل الظلام والضلال في يوم ما، ويضع نهاية للمأساة.
حماكم الله منها ودمتم بكل خير.



#ياسين_المصري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 9- الإعلام وثقافة الغباء الجمعي
- 8- حكم الأقلية العسكر في مصر وثقافة الغباء الجمعي
- 7- البلطجة الرسمية وثقافة الغباء الجمعي
- 6- السلفيون وثقافة الغباء الجمعي
- 5- الأزهر وثقافة الغباء الجمعي
- 4- القرآن وثقافة الغباء الجمعي
- 3- محمد وثقافة الغباء الجمعي
- 2 - فكرة ”الله“ وثقافة الغباء الجمعي
- ثقافة الغباء الجمعي - مقدمة
- من يُصلِحُ الملحَ إذا الملحُ فسد؟!
- ثقافة النحر والانتحار!
- من أطلق الوحش؟! 2/2
- مَن أطلق الوَحْش؟! 1/2
- لماذا أفغانستان؟
- الركض وراء لقمة العيش في مصر!
- مصر بين البيادة والقيادة
- وجود الله أو عدم وجوده!
- الانحلال السياسي في مصر
- سياسة ”حلال علينا حرام عليكم“
- شهوة الكلام ونشوة التباهي


المزيد.....




- -كان سهران عندي-.. نجوى كرم تثير الجدل بـ-رؤيتها- المسيح 13 ...
- موعد وقيمة زكاة الفطر لعام 2024 وفقًا لتصريحات دار الإفتاء ا ...
- أسئلة عن الدين اليهودي ودعم إسرائيل في اختبار الجنسية الألما ...
- الأحزاب الدينية تهدد بالانسحاب من ائتلاف نتنياهو بسبب قانون ...
- 45 ألف فلسطيني يؤدون صلاتي العشاء والتراويح في المسجد الأقصى ...
- استعدادا لذبحها أمام الأقصى.. ما هي قصة ظهور البقرة الحمراء ...
- -ارجعوا إلى المسيحية-! بعد تراكم الغرامات.. ترامب يدعو أنصار ...
- 45 ألفا يؤدون صلاتي العشاء والتراويح في المسجد الأقصى
- الأتراك يشدون الرحال إلى المسجد الأقصى في رمضان
- الشريعة والحياة في رمضان- مفهوم الأمة.. عناصر القوة وأدوات ا ...


المزيد.....

- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود
- فصول من فصلات التاريخ : الدول العلمانية والدين والإرهاب. / يوسف هشام محمد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ياسين المصري - 10- ضحايا ثقافة الغباء الجمعي