أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم العثماني - غسّان كنفاني في نصوص نادرة















المزيد.....


غسّان كنفاني في نصوص نادرة


إبراهيم العثماني

الحوار المتمدن-العدد: 7315 - 2022 / 7 / 20 - 15:59
المحور: الادب والفن
    


مـــقدّمــة:
مع حلول 8 يوليو/ تموزمن هذه السّنة (2022) تكون قد مرّت خمسون سنة على اغتيال غسّان كنفاني الكاتب المبدع، والنّاقد الطّليعي والصّحفي السّاخر، والسّياسي الألمعي والمناضل الوطني المتيّم بحبّ فلسطين إلى حدّ الاستشهاد في سبيلها. وبمناسبة هذه الذّكرى ارتأينا أن نساهم بهذا المقال وأن نقصر كلامنا على نصوص يبدو أن النّقاد لم يلتفتوا إليها فظلّت موزّعة بين مظانّ المجلاّت الّتي نُشرت بها لأوّل مرّة. ويعود ذلك إلى حدث الاغتيال الّذي عجّل برحيل صاحبها.

1-ضريبة الاغتيال:

قد يكون الاغتيال أو الموت المفاجئ لكاتب من الكتّاب عاملا من العوامل الّتي تمنعه من إصدار كتاباته الموزّعة بين الصّحف والمجلاّت في مؤلّفات، وتحرم القرّاء من الاطّلاع على كلّ إنتاجه وتقويمه تقويما موضوعيّا ومعرفة آرائه ومواقفه من القضايا الّتي كانت مطروحة في عهده. وقد تُبذل، فيما بعد، مجهودات وتتكوّن لجان لجمع تراثه وتمكين المهتمّين بما كتب من معرفة ما ظلّ مغمورا لدراسته. ويحضرنا في هذا الصّدد غسّان كنفاني الّذي جُمعت، بعد اغتياله، رواياته وقصصه ومسرحيّاته ودراساته الأدبيّة وكتاباته السّياسيّة (1)، ونشرت مقالاته السّاخرة الّتي كان يكتبها في صحف متفرّقة باسم مستعار (2)، وتولّت غادة السمان نشر رسائله(3).
ورغم هذا الاهتمام الّذي يُدلّل على قيمة هذا الكاتب فإنّنا عثرنا على نصوص لم تتضمّنها هذه المجلّدات.

2-النّصوص:

أ-أد ب المقاومة في فلسطين جزء من تيّار نضالي شعبي، مجلّة"الطّريق" (اللّبنانيّة) عدد10/11 تشرين 2-كانون 1 –سنة 1968 ص 17.
ب- القصص: مجلّة "الآداب"، عدد5، أيار(مايو) 1968 ص 12-13.
ج- محمود درويش: قفزتان في عشر سنوات، مجلّة "الآداب" عدد3، آذار(مارس) 1969، (عدد ممتاز-الثورة الفدائيّة)ص 27- 28- 166.
هي نصوص ثلاثة توحي عناوينها بأنّ غسّان مبدع وناقد في آن، ينظّر ويكتب فتتفاعل النّظريّة مع الممارسة وتُغنيها فتطوّرها.

3- غسّان ناقدا أدبيّا:

أ أدب المقاومة في فلسطين:

خصّت مجلّة" الطّريق" الأدب الفلسطيني بعدد خاص موسوم ب"أدب المقاومة في فلسطين" وعلّلت اختيارها بقولها "وقرأ العرب أشعارا لتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وسالم جبران وغيرهم من السّرب الشّجاع. وصدرت عنهم بعض الكتب وبعض الدّراسات. وبقيت نواح عديدة مجهولة لدى القارئ العربي عن مختلف جوانب الحركة الفكريّة للسّكان العرب داخل إسرائيل.
هذا العدد يقدّم إسهاما في هذا المجال، يتعدّى مسألة تقديم الشّعر إلى تقديم ألوان أخرى من الأدب: القصّة، والدّراسة، والمقالة، والرّبورتاج، وتعريف ببعض الشّعراء وببعض جوانب الحياة الثّقافيّة للعرب هناك" (هذا العدد ص 8).
يندرج هذا العدد إذن في إطار التّعريف بجوانب أخرى من الحياة الثّقافيّة في فلسطين المحتلّة حتّى تكتمل صورة هذا الإبداع عند المتلقّي العربي الّذي يجد عسرا كبيرا في الوصول إليه للحصار المضروب حوله والاطّلاع عليه لتقويمه والتّفاعل معه أو التّأثّر به.
وقد توجّهت المجلّة إلى عدد من رموز الثّقافة العربيّة بالسّؤال التّالي:" كيف تقيّمون الدّور الوطني والاجتماعي والجمالي الّذي أدّاه شعر المقاومة في فلسطين المحتلّة؟ " لتستطلع آراءهم بعد الهزيمة المدوّية الّتي مُني بها العرب في حزيران 1967. وكان من بين المشاركين نزار قباني وأدونيس وبلند الحيدري ومحمد دكروب... وسنقصر كلامنا على غسّان كنفاني موضوع حديثنا في هذا المقال.
يؤكّد غسّان كنفاني أنّ جوابه عن هذا السّؤال هو تتمّة لعملين أحدهما نُشر منذ ثلاث سنوات"أدب المقاومة في فلسطين المحتلّة" والثّاني" الأدب الفلسطيني المقاوم في إسرائيل من 48 إلى 68" سيصدر بعد أيّام. ويرى أنّ في إجابته إضافة تتمثّل في إبراز ثلاث خصائص للشّعر الفلسطيني:

1-شعر مقاومة شعبي:

وهذا يعني أنّ الشّعر الفلسطيني استحال تيّارا يتّسع ويتعمّق من يوم لآخر لأنّه يستمدّ موضوعاته من نضال شعب خاضع لاستعمار استيطاني بغيض. لذا كان هذا الشّعر غاضبا ملتهبا عاصفا، يحمل وجع الهزيمة ووهج المقاومة، تأوّهات الثّكالى وصمود الأبطال، يعكس الجرح والألم والهدير والتّحدّي. والشّعر في فلسطين ليس شعرا نُخبويّا يتعاطاه عدد محدود من الشّعراء الوطنيين الملتزمين بقضيّة الوطن ويتفاعل معه عدد محدود من المتقبّلين المسيّسين والمناضلين في سبيل تحرير فلسطين. أصبح الشّعر المقاوم تيّارا شعريّا شائعا منتشرا يردّده جمهور واسع وعريض لأنّه يعبّر عمّا يختلج في نفسه ويترجم آماله وتطلّعاته ويستجيب لرغباته وتوقه إلى التّحرّر والانعتاق. وهكذا أصبح هذا الشّعر تقليدا من تقاليد هذا الشّعب ومقوّما من مقوّمات حياته اليوميّة وجزءا من سلوكه المعتاد. وإذا كانت بعض الشّعوب تتميّز بغنائها وفولكلورها ورقصها فإنّ الشعب الفلسطيني يتميّز بشعره المناضل الّذي استمرّ عقودا وعقودا ووسمه شعراء رموز بميسمهم.

2-شعر مسيّس:

بما أنّ هذا الشّعر مقاوم فهو بالضّرورة مصطبغ بالسّياسة، يقاوم عدوّا مغتصبا أرضا ومشرّدا شعبا ومنكّلا بأبنائه شيبا وشبابا. والشّاعر الفلسطيني مناضل إذن لا وقت له للتّيه في عوالم الخيال والرّومنسيّات والغزل. وقد تكون الكتابة في الأغراض الشّعريّة التّقليديّة مضيعة للوقت ولا تجد صدى في نفس المواطن الفلسطيني وهو يرى بيته يُهدّم وأرضه تُصادر. لذا امتزج هذا الشّعر بالسّياسة ويذكر غسّان كنفاني إبراهيم طوقان وعبد الرّحيم محمود وأبا سلمى(عبد الكريم الكرمي). فلا عجب إذن إن تميّز هذا الشّعر بالوطنيّة ومعاداة العدوّ الغاصب والتّحريض عليه.فهوشعر يصف شعبا"يزخر بالحياة والآمال، ويتمسّك بزيتونته وجدار بيته رغم جبروت المستعمر المحتلّ" (4). وليس محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد إلاّ استمرارا للنّهج الّذي رسم أسسه الأوائل وطوّر مرتكزاته اللّأحقون حتّى أصبح تيّارا شعريّا مستقلاّ بذاته متميّزا عن غيره.

3-شعر رائد:

هو شعر رائد ، وقد تجلّت ريادته في أكثر من مجال:
الرّيادة على صعيد العمل التّحرّري
الرّيادة على الصّعيد الاجتماعي:هو شعر ينشد مستقبلا أفضل يقوم على أنقاض واقع الفقر والقمع والعسف والإحباط، ينطلق من حاضر الاستغلال والاضطهاد ليرسم واقعا مغايرا للسائد، متحرّرا من الأغلال والأصفاد.
والشّعر الفلسطيني لا يختلف عن لشّعر العربي بالقضايا الّتي يطرقها والمواضيع الّتي يركّز عليها فحسب بل إنّه اكتسب جماليّة مخصوصة. فقد تجاوز المباشرية والخطاب التّحريضي وشتم العدوّ وراح يبحث عن مقوّمات تستجيب للدّور المناط به. يقول صبري حافظ متحدّثا عن خصائص هذا الشّعر:"بقيت في النّهية كلمات قليلة عن قضايا التّعبير الفنّي في شعر المقاومة، خاصّة وقد كثر اللّغط من المدّعين وذوي الياقات المنشاة حول ضعف هذا الشّعر الفنّي، غير أنّي أرى عكس ذلك تماما، أرى أنّ تفجّر هذا الشّعر بكلّ هذه القضايا الكبيرة هو الّذي يمنحه شكله الخاصّ الفريد، كما أنّ الظّروف القاسية الّتي يُكتب فيها تحت سطوة التّهديد والمصادرة هي الّتي تمنحه أسلوبه الخاص ّذاك.فهو شعر يكتب في الهروب والتّشريد والتّهديد والمقاومة، ومن ثمّ فإنّه يحمل سمات كلّ هذه الظّروف..يضطرّ إلى أن يكون قصيرا وحادّا كالشّظايا، مراوغا كجنديّ حرب العصابات مقتحما مثله...ثمّ يضيف: فشاعر الأرض المحتلّة لا يعرف رفاهيّة البناء الرّمزي ولا يتخبّط في متاهات الغموض، إنّه يعرف هدفه ويعرف قارئه، ويعرف عدوّه بوضوح ساطع شديد."(5).
تلك هي مقوّمات الشّعر الفلسطيني حسب رأي غسّان كنفاني: شعر مناضل مقاوم منغرس في واقع مخصوص حدّد سماته طرفان: عدوّ مغتصب وشعب ثائر رفع البندقيّة في وجهه ليحرّر أرضه ويستعيد كرامته ووطنه السّليب .فكان الشّعر معبّرا عن هذه الآمال والطّموحات وكان هذا المتن الشّعري الّذي ينضاف إلى المدوّنة الشّعريّة العربيّة الحديثة ليغنيها بلون جديد متفرّد يحمل بصمة مخصوصة.
ولم يكتف غسّان كنفاني بقراءة هذه المدوّنة الفلسطينيّة. فقد كان يتابع القصص الّتي تُنشر في الصّحف العربيّة وتتّخذ من فلسطين موضوعا لها للنّظر في كيفيّة معالجة هذه القضيّة. فكان له رأي في خمس أقاصيص نُشرت بمجلّة "الآداب".

ب-القصص:

تناول غسّان كنفاني بالنّقد خمسة نصوص قصصيّة موضوعها القضيّة الفلسطينيّة نُشرت بالعدد الماضي (أفريل 1968) من مجلّة "الآداب" لكتّاب ينتمون إلى أقطار عربيّة مختلفة (العراق/ المغرب/ فلسطين). والإشكاليّة الّتي طرحها النّاقد غسّان كنفاني هي كيف يكتب الأديب الملتزم قصّة وطنيّة ناجحة خالية من الشّعارات والخطاب المباشر والبكاء والعويل؟ وكيف تكون مقاربة هذا الضّرب من القصص؟ هل يتمّ الاقتصار على مقاييس فنية صرف ومن ثمّ تكون المعالجة موضوعيّة باردة"لعمل أدبي يتعلّق بفلسطين وخصوصا بالفدائيّين في هذه القترة بالذّات" (ص12). وبعبارة أخرى هل يستطيع غسّان ألاّ يقحم ذاته وهو يتحدّث عن فلسطين والعمل الفدائي وعن تأثير الأدب الفلسطيني في الجماهير الّتي تتلقّاه ودوره في توعيتها؟
لاحظ غسّان كنفاني أنّ هناك نقاطا مشتركة بين هذه الأقاصيص ا لخمس على مستوى الموضوع (القضيّة الفلسطينيّة) والأسلوب. فهي تُمثل تيّارا معيّنا في الكتابة دون أن يسمّيه. ولئن اشتركت جميعها في هاتين الخصيصتين فإنّ قصّة الكاتب العراقي محمد خضير الموسومة ب"تقاسيم على وتر الرّبابة" تمثّل استثناء وتعتبر"واحدة من أجود القصص العربيّة القصيرة المعاصرة" (ص 12). لذا نالت نصيب الأسد من الدّراسة والتّحليل لإجلاء التّجاوز الّذي حقّقته في مسار القصّة العربيّة القصيرة المناضلة. فما موضوع هذه لقصّة؟ وبم تتميّز فنيّا؟
تصوّر هذه القصّة حالة جنديّ مكدود مهدود عاد من ساحة الوغى يجرّ أذيال الخيبة مثخنا بجراح الهزيمة. وقد لاحظ غسّان أنّ محمد خضير أجاد رسم ملامح البطل الخارجيّة المنكسرة والتّناغم القائم بين"الجوّ الخارجي للقصّة" والانكسار النّفسي. فالهزيمة لا تخلّف آثارا ماديّة تجلوها ملامح البطل فحسب بل إنّها تدمّر المشاعر والأحاسيس وتحرم المهزوم من متع الحياة. وقد ترجمت هذه ا لحالة البرودة الجنسيّة الّتي أحسّ بها الجنديّ لمّا وهبته زوجته جسدها المعطّر الّذي ظلّ ينتظره. فلا إثارة ولا رغبة ولا نشوة بعد غيبة . وهكذا تضاعفت مأساة البطل: هزيمة في ساحة الوغى وهزيمة في فراش النّوم. فبم سيعوّض هذا الفشل؟ "كان يلجأ إلى ربابته محاولا أن يستعيد في أوتارها جانبا مشرقا ، ولو واحدا، يغسل مرارته"، ولكن تبوء هذه المحاولة بالفشل وتستحيل ألحان الرّبابة "عواء كعواء صفّارات الإنذار". ومن ثَمّ يظلّ البطل مشدودا إلى أجواء الحرب وتُصبح الألحان الرّقيقة المشنّفة للآذان هي بدورها شبيهة بصفّارات الإنذار الّتي تفقد هوّيتها وتتحوّل إلى عواء. وينقلنا الرّاوي إلى عالم الكلاب والذّئاب وأبناء آوى وأصواتها المزعجة المخيفة، عالم الأرق والكوابيس الّذي يُسلم البطل إلى النّوم ليغيب عن الوجود الّذي فقد فيه أي رابط يشدّه إليه وأيّ متعة من متعه.
ولم يقتصر غسّان كنفاني على النّظر في دلالات هذه الأقصوصة والثّناء على كاتبها الّذي عرف كيف يرسم التّماثل القائم بين الآثار المادية والآثار النّفسيّة الّتي خلّفتها الهزيمة بل تطرّق أيضا إلى مقوّماتها الفنّيّة واختلافها عن النّصوص الّتي تتمحور حول قضيّة الوطن وتفرّدها بجملة من الخصائص:
أ-تجاوز المباشرة والخطابة والنّواح المبالغ فيه:
نجح خضير في تخطّي هذه الهَنات واستنّ لنفسه مسلكا في الكتابة جديدا أثار إعجاب غسّان كنفاني فأثنى عليه وأشاد بهذا الإنجاز.

ب- واقعيّة البطل:

خلت هذه الأقصوصة من التّهويل الّذي يجنح إليه الكتّاب الّذين يتعرّضون لموضوع النّضال(تهويل البطولة، تهويل البطش، تهويل الأمل، تهويل اليأس). تخلّى خضير عن هذا النّموذج وصاغ بطلا نجد مثيلا له فوق أرض الواقع: أفعاله ومشاعره وأحاسيسه خالية من التّطرّف والشّطط اللّذين يُفقدانه كلّ سحنة آدميّة.
ج- نموذج جديد:خال من التّلقين والوعظ والإرشاد.
تلك هي المقوّمات الفنّية الّتي ميّزت هذه الأقصوصة والّتي جعلتها تختلف عن النّصوص الأربعة الأخرى الّتي لم يتوقّف غسّان عندها طويلا.
فأقصوصة"عربة اللّيل" للعراقي موسى كريد تصوّر عدوّا يحمل شابا بعيدا عن أمّه ليقتله ويركّز الكاتب على الأمّ ثم على الشاب ثمّ على الأمّ، ويلاحظ غسّان كنفاني أنّ القصّة تخلّصت من"الخطابيّة والمباشرة والحماس" ولكنّ عيبها هو الميل إلى التّجريد الّذي يحوّل الأبطال إلى أفكار ويجرّدهم من آدميّتهم، والإكثار من التّشابيه والاستعارات الّتي لا تترك أثرا في نفس القارئ.
أمّا أقصوصة "مسيح لا ينهزم" لخناثة بنونة(المغرب) فهي عبارة عن جدل فكري معقّد ومن ثمّ غابت مقوّمات القصّة من مكان وزمان وشخصيّة.لذا هي فكرة وليست قصّة.
ولم يحالف النّجاح رشاد أبو شاور (عمّان) في أقصوصته"أشياء فلسطينيّة" الّتي تصوّر مجموعة من الفدائيين تذهب في اللّيل للقيام بعمليّاتها لكن الكاتب يمر مرورا عابرا على جوّ المخيّم مكتفيا بحوار سريع بين عجوزين، ثمّ ينتقل إلى أربعة من الفدائيين يمشون وينفرد بهم واحدا واحدا لمعرفة مشاعر كلّ واحد منهم.
وعيب هذه الأقصوصة حسب غسّان كنفاني هو طغيان الشّعار عليها والسّقوط في التّفاصيل والجزئيّات الّتي أفقدت الكاتب القدرة على إبراز التّحوّل الّذي عرفه المخيّم من الجوّ السّلبي إلى مخيّم متحفّز متوثّب. فشل أبوشاورإذن في تقديم الفدائي كنموذج للإنسان الجديد المعبّر عن مشاعر جيل وطموحه.
ويختم غسّان كنفاني هذه المتابعة بقراءة أقصوصة"مرفأ في اللّيل الطّويل" للعراقي عبد الرحمان مجيد الرّبيعي.وهي حكاية شاب يسافر إلى طهران ويلتقي فتاة جميلة اسمها "قدسي"، يتبادلان الكلام والجدل وبعض الشعارات "أتعلمين يا قدسي أنّ اسمك هو اسم أكبر جرح في قلب أمّتي؟"، ثمّ تكتب له رسالة قصيرة، ويفكّر في الرّحيل إلى أرضها ثانية. ويرى غسّان كنفاني أنّها قصّة مرتجلة ومن الظّلم تحميلها أبعادا أو أعماقا ليست موجودة فيها.
إنّ ما يميّز غسّان، في هذه المقاربة، هو وعيه المبكّر بأنّ الأدب المقاوم لا يصنعه البكاء والعويل والتّهويل والمبالغة والخطاب المباشر الّذي يحوّله إلى منشور حزبي يفقده أدبيّته الّتي تجعله متفرّدا مختلفا عن النّصوص الإبداعيّة الأخرى. وقد لخّص إبراهيم خليل موقف غسّان من القصّة القصيرة بقوله:"ويحمل هذا البحث أيضا رأي غسّان في القصّة القصيرة. فهو يرى أنّ مضمون القصّة الاجتماعي التّقدّمي غير كاف وحده لجعل القصّة قصّة جيّدة" ثمّ يضيف:"وهذا الرّأي- في الواقع- يضع يدنا على شيء مهم في مجال رؤيا غسّان للأدب الواقعي وللمنهج النّقدي الّذي يجب اتّباعه في دراسة الأدب. فميزة مفهومه للأدب أنّه جدلي- ديالكتيكي- مرن متطوّر بعيد عن الثّبات والجمود الأكاديمي..."(6).
ويعود غسّان كنفاني إلى محمود درويش، مرّة أخرى، ليتابع مسيرته الشّعريّة والتّطوّر الّذي حققته خلال عشر سنوات، والإضافات الّتي تمّت بعد دراستيه السّابقتين(7).

ج- محمود درويش:قفزتان في عشر سنوات

تحدّث غسان، في بداية دراسته عن التّطوّر الّذي قطعه شعر محمود درويش، وقد بدا معجبا بشاعر فلسطين شديد الإعجاب يُكبر فيه روح الالتزام والموهبة الشّعريّة، ويثني على قدرته على الجمع بين الالتزام وتطويره فنّ الشّعر وتفرّده بهذه الميزة الّتي يندر وجودها.
ويشير إلى أنّ محمود درويش عرف تحوّلا نوعيّا خلال سنتين(1961-1963)، وتعكس هذا التّطوّرَ قصائد تقف شاهدا على هذا المنحى الجديد، ويتخيّر غسّان من المدوّنة الدّرويشيّة قصيدين ليبرز الفرق بينهما، قصيدا كتب سنة 1960 وقصيدا كتب سنة 1963ومدارهما على الأرض/فلسطين والمحنة الّتي اُبتُلِيت بها.ففي القصيد الأوّل الموسوم ب"عشقتْ غريبا" يروي درويش قصّة فتاة تعشق"غريبا" من خلال صوتين: صوت الرّاوي/ الشّاعر وصوت الأب. وينقسم القصيد إلى وحدتين، وحدة أولى يرسم من خلالها الشّاعر صورة الفتاة "وهيبة". وهي صبيّة مثل صبايا القرية رمز الاستقامة والطّهارة والفتنة والبراءة والخفّة لكنّها شذّت عن القاعدة ومثّلت استثناء إذ أحبّت"غريبا" فكان هذا الحبّ لعنة حوّلت حياتها إلى جحيم ولوثة دنّست شرف عائلتها. ومن ثمّ اختلف يومها عن أمسها وأفردتها صبايا القرية. كانت جذلى طروبة فأضحت مرتاعة النّظرات واجمة كئيبة، وكانت صديقة الصّبايا فأمست عُرضة للهمس والغمز. أمّا الأب شيخ القرية فقرّر غسل العار الّذي لحقه بلسعات السّوط فعوّض الطّربَ البكاءُ والانتحابُ والصّراخُ، واستحال البيت مناحة تنبعث منها أصوات الاستغاثة ولا مُغيث.
أمّا الوحدة الثّانية فقد رسمها الأب وقامت على المقارنة بينه وبين"الغريب" عاشق ابنته. وقد تميّز خطابه بالحدّة وحفلت لغته بعبارات السبّ والشّتم والتّوعد والتّهديد، وبدت نبرة التّعالي واضحة جليّة وقد سعى إلى إبراز نقاط الاختلاف بينه وبين هذا الغريب، وركّز على العناصر الّتي تكون عادة محدّدة في المصاهرة وتمثّل جملة من القيم العربيّة الأصيلة من قبيل الحسب والنّسب والشّرف والسّيادة. ويبدو الاختلاف، من خلال هذه المفاضلة، كبيرا بين الأب و"الغريب". فالأب هو شيخ القرية وحامي حماها والمؤتمن على شرفها، وهو رمز الجاه والسّؤدد والسّلطة والنّفوذ. أمّا عاشق ابنته فقد توارث الوضاعة، وهو"النّذل ابن النّذل"، غريب وأهله غرباء"، وكلّ غريب دخيل ومنبتّ ويجد عسرا في الاندماج في البيئة الجديدة الّتي يحلّ بها ولا يُزوّج ابنة سيّد القرية. فزواجه يَشين عائلة هذا السيد ويُدنّس شرفها. لذا قابل هذا الحبّ بالتّهديد وتوعّد هذا العاشق بعد أن انتقم من ابنته.
وليست "وهيبة" إلاّ فلسطين الّتي وهبت نفسها من بين أترابها (الأقطار العربيّة الأخرى) لغريب دون أن تقاوم إعراءه، وهذا الغريب هو اليهودي الّذي افتكّ أرضا ليست أرضه فتصدّى له شيخ القرية وحرمه من هذه الزيجة الغريبة. ولعلّه يرمز إلى بعض الشّيوخ الّذين ثاروا في وجه العدوّ الإسرائيلي دفاعا عن أرضهم وعِرضهم. وقد تميّزت لغة القصيد بالمباشرة ومال خطاب الشّاعر إلى السبّ والشّتم.
أمّا القصيد الثّاني فقد كتبه محمود درويش حوالي سنة 1963، وهو موسوم ب"عسل شفاهك"، ظاهره تغزّل بفتاة جميلة وباطنه حديث عن فلسطين السّليبة الّتي وهبت أجمل ما لديها للآخرين وحرمت منه أبناء الوطن. وقد انتقى لها الشّاعر من الطّبيعة أجمل الصّور وأفضل الصّفات. فاختلطت صورة المرأة بصورة الأرض إلى حدّ التّماهي: شفتاها عسل ويداها كأسا خمر وصدرها حرير. ويلاحظ قارئ هذا القصيد أنّ محمود درويش نجح في تجويد لغته وتنويع صوره الشّعريّة وحقولها الدّلاليّة. وهو ما عدّه غسّان كنفاني قفزة مهمّة في مساره الشّعري (ص27).
ولم يكتف غسّان كنفاني بهذه المقارنة الدّاخليّة الّتي أبانت التّطوّر الملحوظ الّذي قطعه شعر محمود درويش بل وجدناه يقيم مقارنة بينه وبين راشد حسين ويتخيّر، من مدوّنته الشّعريّة، قصيدين هما "أمس التقيت بساعة سوداء من ماض مرير" و"بعتِ التّراب المقدّس"، ويستنتج أنّ راشد حسين يرى المسألة من زاوية أنّها "إشكال اجتماعي"...بينما يتجاوز محمود درويش "وجهة النّظر" هذه إلى "فهم متكامل" من موقع اليسار، لجوهر الموضوع، الّذي يمتدّ إلى ماهو أبعد من"إشكال اجتماعي يشكّل شظيّة من شظايا المشكلة" (ص166).
ويعتبر غسّان كنفاني أنّ أوائل الستينات هي الفترة الّتي"وضع فيها محمود درويش يده على بداية الطّريق" (ص166)، ويستشهد بالمجاميع الشّعريّة الّتي صدرت في تلك السّنوات من قبيل"أوراق الزّيتون" (1964)، و"عاشق من فلسطين" (1966)، و"آخر اللّيل" (1967). ويرى أنّ شعره حقّق قفزتين تعود الأولى إلى الانتساب إلى رؤيا أكثر شمولا وجذريّة، وتبلورت الثّانية في أعقاب الخامس من حزيران. ولئن أحدثت هزيمة العرب في 1967 منعرجا في شعر محمود درويش فإنّ سنة 1961 تُعدّ سنة مفصليّة في مسيرته الشّعريّة ومنعرجا حاسما في تطوّر رؤيته و"نقطة قفز قلبت الشّاعر جوهريّا إلى شاعرآخر" (ص27). ويستشهد غسّان بكلام لمحمود درويش يُعدّد من خلاله العوامل الّتي أحدثت هذا المنعرج:
-محاولة إلصاق تهمة به سنة 1961 بسبب كتابة قصيدة عن غزّة، واستدعاؤه إلى التّحقيق وإيقافه لمدّة عشرة أيّام دون تهمة ودون تحقيق.
- انتماؤه إلى الحزب الشّيوعي، وهو انتماء له تأثير كبير في حياته.يقول محمود درويش:"فتحّددت معالم طريقي وازدادت رؤيتي وضوحا، وصرت أنظرإلى المستقبل بثقة وأمان، وترك هذا الانتماء آثارا حاسمة على سلوكي وعلى شعري".
- التّسلح بالنّظريّة الثّوريّة لحماية نفسه من الثّقافة العبريّة الّتي بدأت تغزو الفلسطينيين (8).
ويختم غسّان كنفاني هذه الدّراسة بقوله:"إنّ قصّة محمود درويش في السنّوات العشر الأخيرة هي القصّة الغريبة والمدهشة لامتزاج ذينك الشّيئين المتعاكسين: الماركسيّة والصّوفيّة" (ص 166).

خــــــــاتمــة:

هكذا يؤكّد غسّان كنفاني، مرّة أخرى، أنّه متابع دقيق لما يكتب محمود درويش وشعراء فلسطين المحتلّة، وناقد حصيف لا يكيل المديح ولا يميل إلى التّجنّي، لا يقدّس الرّموز ولا يستخفّ بالشبّان. لا شطط في أحكامه ولا تهويل في تقومه. منطلقه النّصّ ومنتهاه النّص ولاشيء غير النّصّ. يدرس الأدب الفلسطيني وينقده ليثريه بآرائه السّديدة وملاحظاته الدّقيقة وليقدّم للقارئ العربي هذا اللّون الأدبي الجديد ، كما يهتمّ بما يُكتب عن الواقع الفلسطيني ليختبر قدرة الكتاب العرب الشبّان على التّفاعل مع قضيّة هذا الشّعب وتقديمهم نصّا طريفا يجمع بين عمق المضمون النّضالي وتوظيف أساليب كتابة مبتكرة.

الهـــــــــــوامـــش:

1) تولّت دار الطّليعة للطّباعة والنّشر ببيروت ومؤسّسة غسّان كنفاني الثّقافيّة نشر مؤلّفات غسّان تباعأ: المجلّد الأوّل/الرّوايات، ط1/1972، المجلّد الثّاني/ القصص القصيرة، ط1/1973، المجلّد الثّالث: المسرحيّات، ط1، 1978، المجلّد الرّابع: الدّراسات الأدبية، ط1، 1977، المجلّد الخامس: الدّراسات السّياسيّة- منشورات الرّمال/ قبرص، ط1، 2015.
2) رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمان،دار الطّليعة/بيروت، ط1/ 1992.
3) فارس فارس- غسّان كنفاني (العنوان الدّاخلي: غسّان كنفاني- مقالات فارس فارس- كتابات ساخرة)، دار الآداب بيروت ومؤسّسة غسّان كنفاني الثّقافيّة، ط1، 1996.
4) محمّد عيتاني: أعادهم إلينا وأعادنا إلى أنفسنا، مجلّة" الطّريق" م.س. ص16.
5) صبري حافظ: أدب ما بعد حزيران- شعر المأساة في الأرض المحتلّة، مجلّة"الآداب"- العدد الثّالث- آذار( مارس) 1969 ص ص70-76 و92-100.
6) إبراهيم خليل: آراء غسّان كنفاني في الأدب والنّقد، مجلّة" الثّقافة العربيّة"( ليبيا)، العدد السّابع- السنة الثّانية- يوليو/ تموز 1975 ص ص29-33.
7) اُنظر أدب المقاومة في فلسطين المحتلّة 1948- 1966 والأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968.
8) لا يذكر غسّان كنفاني المصدر الّذي أخذ منه هذا الشّاهد لكن تبيّن لنا، بعد التّثبّت، أنّه مأخوذ من حوار أجراه محمّد دكروب مع محمود درويش موسوم ب"حياتي..وقضيّتي..وشعري" انظر" الطريق" عدد10/11 ،1968 ص54-59.



#إبراهيم_العثماني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقّفون والانتماء الطّبقي
- ويستمر الجدل: المثقّفون والإيديولوجيا
- المؤتمر السابع عشر لاتحاد الكتاب التونسيين أو طاحونة الشيء ا ...
- المسألة الاقتصادية في الفكر التونسي الحديث خلال الثلث الأوّل ...
- الحداثة
- الطاهر الهماّمي والنّضال النقابي
- شريط -بدون رصاص- أو بطالة الشباب وانسداد الآفاق
- شريط -أوهام- أوشباب اليوم والأحلام الموؤودة
- فرحات حشاد في الإبداع السينمائي
- من وحي نضالات الحركة الطلاّبيّة: حصاد المطر أم حصاد النّضال؟
- من أدب السّجون: قصّة- في الزّنزانة - والخروج على المألوف
- الطّاهر الهمّامي والمعارك الأدبيّة
- الواقعيّة
- المجلاّت الثّقافيّة التونسيّة بعد 14 جانفي والصّراع في سبيل ...
- المثقّف والثّقافة البديلة
- أي ثقافة نريد بعد ثورة 14 جانفي 2011؟
- غسّان كنفاني بين الغياب والحضور
- الطّاهر الهمّامي المثقّف الموسوعي
- توفيق بكار الكاتب المتفرّد
- توفيق بكّار في عيون دارسيه


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم العثماني - غسّان كنفاني في نصوص نادرة