|
بنية المكان في رواية (نوارة.. وجه عروس)
أحمد هيهات
الحوار المتمدن-العدد: 7273 - 2022 / 6 / 8 - 15:46
المحور:
الادب والفن
يشكّل المكان في الأعمال الروائية عنصرا ضمن شبكة من العناصر الأخرى التي يسعى المبدع إلى تجسير علاقاتها ضمن تصوّر شامل تمثّله الخطاطة السردية. ويلحظ قارئ (نوارة .. وجه عروس) للكاتب محسن الأكرمين أن المكان فيها ليس مجرد مساحة للتأثيث وإفراغ أحد احتمالات التجربة الإنسانية التي يمثّلها "أسيف"، بل تمّ تقديم المكان كبنية معرفية وكموقف وكانفعال عاطفي. وتتوزع الأمكنة في الرواية وفق معيار "مول" و "رومير" –الذي يتأسس على سلطة الشخصيات على المكان- إلى التفريعات الأربعة حيث يشمل معيار (عندي) –بدلالة بطل الرواية- ستة أمكنة هي (غرفة النوم، البيت، الكرسي، النافذة، السرير، المرآة) ، مقابل مكانين فقط يندرجان تحت معيار (عند الآخرين) وهما: (البرلمان والمنازل العتيقة)، فيما تستأثر الأماكن العامة بتردد أكبر ( أحياء مكناس "الزيتون، تيزمي، سبع لويات، درب برغوتي، صهريج السواني..."، مدينة مكناس، الأزقة والشوارع، الحفرة الفجوة، المسجد، المسرح، المزارات، المقهى، الوطن، البلد، وغيرها...)، على أن المكان المتناهي تمّتقديمه في ثلاثة أصناف هي (السماء، البحر والجنة). ويبدو من القراءة الأولية لهذا الإحصاء أننا إزاء خطاب يتأسس على دائرتين مهيمنتين: (دائرة الذات/ الأنا) التي يمثلها البطل (أسيف)، ودائرة (العام) التي تمثّلها في الغالب فضاءات مدينة مكناس وتحولاتها، وإذا كانت الدائرة الأولى تتسم بكونها تحت مِلك الفرد ويمارس فيها سلطته وقراراته ورؤيته وانفعالاته، فإن الدائرة الثانية لا تُعدّ ملكا لأحد، بل هي للجميع ومن حق الجميع ولا سلطة للأفراد في تغييرها وتدبير أحوالها إلا في ما يتيحه المستوى الرمزي. وعليه فإننا نفترض أن اختلال التوازن في حضور الأمكنة وتوزيعها داخل الرواية لا بدّ أن نجد له صدىً أو أثرا في علاقات الشخصيات فيما بينها من جهة، وعلاقاتها بذواتها ومواقفها من جهة ثانية؛ فضلا عن أثرها في بناء الحدث وتأثرها به. هذا الافتراض سنسعى في الفقرات الموالية إلى اختباره استنادا إلى التصنيف الذي اعتمده "يوري لوتمان" والذي استوحاه فيما بعد "حسن بحراوي"، ويعتمد تصوّر يوري لوتمان للمكان على ثلاثة مفاهيم أساساية: 1- مفهوم التقاطب: ويتم فيه تصنيف المكان وفق تقابلات (مفتوح/ مغلق)، (ضيق/ شاسع)، (عرب/غربي)... 2- مفهوم التراتبية: ويتمثل في الفضاء السجني ذي الطبقات 3- مفهوم الرؤية: وهو الذي يمدّنا بالمعرفة الموضوعية أو الذاتية التي تحملها الشخصية عن المكان.
1- التقاطبات المكانية
o ثنائية المغلق/ المفتوح تشكّل الأماكن المغلقة أماكن إقامة ، وتتمفصل إلى إجبارية (كالسجن والمعتقل) أو اختيارية (كالبيت والمسرح..). وفي (نوارة .. وجه عروس) تواجهنا أولى المفارقات في هذا الشأن، فإذا كان تردد الأماكن العامة أكثر من التي تندرج تحت سلطة الشخصية، فإننا سنفترض أن الأماكن المفتوحة ستكون صدى لتردد الأماكن العامة، وهو ما لم يتحقق إذ نجد أن المغلقة – وتشكّل في أغلبها الساحق أماكن إقامة اختيارية- أكثر حضورا (غرفة النوم، البيت، المنازل العتيقة، المسجد، المسرح، المزارات والأضرحة، المستشفى...) فيما تمثل (الحفرة) مكان إقامة إجبارية وحيدة داخل الرواية، وهذا مقابل قلة الأماكن المفتوحة (المدينة، الوطن، السماء، البحر). وتفسير هذه المفارقة نجده داخل الرواية في أكثر من موضع؛ فإذا كانت مدينة مكناس شاملة لأغلب الأمكنة وتشكّل جزء كبيرا من فضاء الرواية، فإننا أدرجناها ضمن الأمكنة المفتوحة والإقامة الاختيارية، فيما نقرأ في الصفحة 29 أن أسيف "سجين مدينة منسية حملت ناسها كرها". وبالتالي، فإن المدينة ككل يتم تقديمها باعتبارها سجنا، وبالتالي تصير إقامة جبرية للجميع، أي مكانا مغلقا بشكل استثنائي. o أماكن الانتقال استنادا إلى تصنيف حسن بحراوي لأماكن الإنتقال إلى عامة (وهي الأحياء والشوارع) وخاصة (كالمقهى) ، فإننا نجد داخل الرواية أماكن الانتقال العامة باللفظ الجامع تارة (الدرب، الزقاق، الأزقة، الشوارع.. [18 مرة]) أو بأسمائها الفردية العروفة (حي الزيتون، سيدي عمرو، بوعوادة، باب الجديد...)، فيما توزعت أماكن الانتقال الخاصة على ثلاثة أمكنة هي (المقهى [5مرات]، المزارات[6 مرات]، المسرح [5مرات]). إن طغيان أماكن الانتقال العامة يتناغم مع خطاب الإصلاح الذي تحمله الرواية لمدينة مكناس، ويبرره التنويع من أجل وصف حالة الأمكنة أولا، ويُجْملها قول السارد "مكناس مدينة الأشباح" (ص144)؛ ثم لخلق فضاء التوتر والإحباط والنفسيات المشدودة لدى الشخصيات وتوريط المتلقي فيه ثانيا، وذلك في أماكن عدة هي مِلك للجميع، كما لو أن السارد ينقل التدهور في صور كثيرة مختلفة هي أزقة المدينة ودروبها فيقول "إنه التصوّر التشخيصي المركون في غرفة الإنعاش لمدينة مكناس إلى حين المعالجة الشاملة والتنمية المستدامة" (ص147) فـنَهْبُ المياه جعل "الفيض ينقطع عن عراصي الزيتون، القصبة، أكدال، الروى، باب البطيوي، العويجة [...] حتى صهريج السواني نال نصيبه من سوء تدبير المجال البيئي" (ص100)، و "حي الزيتون بات يحمل اسما بدون مسمى، الآجور الأحمر حل مكان منبت أشجار زيتون الإسماعيلية" (ص145) وهي حالات أمكنة استطاع الكاتب أن يرتّب بها نفسية الشخوص عامة، ونفسية البطل بالخصوص إذ صار أسيف "التائه الغريب عن مكانه وذاته ومدينته" (ص35)، كما صارت المدينة كلها "مدينة الأشباح الضالة" (ص146)
2- التراتبية: إن مكناس كمدينة تشكّل مكانا مركّبا داخل الرواية، فهي تشمل أصناف الأمكنة كلها المغلقة والمنفتحة، كما تضم الفرح (منزل الطيب في حفلة الزواج) والحزن (في الأسى والسوداوية الموزعة على مواقع كثيرة)، غير أن كون المدينة سجنا كبيرا يجعلنا أمام تراتبية لا تقدّم السجناء/ الساكنة على نفس الرتبة. فهُم جميعا "أشباح ضالة" (ص146)، لكن منهم من يجد مساحة للفرح (كالطيب في ص143) و(كالمتفرجين في المباراة في ص 146)، ومنهم من يعاش السجم مرّتين، ويُضاعف المراة والاعتقال والسوداوية كبطل الرواية. يقول الراوي: "مسكن أسيف أصبح كمعتقل تازمامارت" (ص115)، فيصير المسكن سجنا صغيرا داخل سجن كبير، بل إن السجن الصغير سيشمل سجنا آخر أصغر هو النافذة حيث "جلس آسيف قبالة نافذة مغلقة" (ص115) فيمعن بالتالي في الأَسر أكثر، وفي الانغلاق، وفي السلبية... إن خروج أسيف من بيته إلى الخارج لم يفضِ بالضرورة إلى الانفتاح، وكسر الطوق، بل إن الكاتب يُمعن في الأسر حتى أن أسيف "في لحظة ضاربة السرعة، قرر سحب وجهه من الأرض والنظر إلى السماء [...] لكن لله الأمر، حتى السماء عاكسته بتلبّد أفق بريقها" (ص159). إن هذا الوصف العام والخاص للأمكنة يسهم بشكل كبير في رسم جو التوتر والحزن والسلبية داخل الرواية، ويؤسس لتجاسر العلاقات بين الشخصيات فيما بينها من جهة، وبينها وبين الأمكنة من جهة ثانية، وهو ما سنتطرق إليه في الفقرات الموالية.
#أحمد_هيهات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوجه الأحمر الصقيل (قصة قصيرة)
-
رسالة مجنون
-
هل يوجد شيء اسمه السعادة؟
-
السيد العبد
-
الفرحة الحزينة
-
جذور التوتاليتارية في العهد الراشدي
-
علاقات خاصة
-
الحزب الحقيقي الذي يستحق أصوات المغاربة
-
وضع الكحل في عيني الأسد
-
الخوف الذي يأبى الموت
-
الخبز الاسفنجي المُحَلَّى
-
الانتخابات المغربية والطريق الضائعة إلى الديمقراطية
-
الموقعة الخاسرة
-
في معايير اختيار المؤلفات في التعليم الثانوي
-
الشمس تستسلم مرة أخرى
-
المسيد أو العصا بدون جزرة
-
أقساط غير مريحة
-
الطائرة الحقيقية
-
من البيت الأحمر إلى البيت الابيض - البوصلة التائهة -
-
القلوب الباردة (قصة قصيرة)
المزيد.....
-
بسبب الأوضاع في لبنان.. عاصي الحلاني ووائل جسار يعتذران عن ا
...
-
رحيل فخري قعوار.. الأديب الأردني العروبي المفتون بقضية التقد
...
-
إنييستا.. اعتزال فنان لا ماسيا الخجول وقاتل دفاعات الخصوم
-
-تحت الركام-.. فيلم يحكي مأساة مستشفى كمال عدوان وصمود طاقمه
...
-
مسلسل عن محمد عبده وفيلم -كابتن ماجد-.. هذا ما كشفه تركي آل
...
-
الدنماركي توماس فينتربيرغ رئيسا للجنة تحكيم مهرجان الفيلم في
...
-
شموع وصلوات وموسيقى في إسرائيل لإحياء ذكرى 7 أكتوبر
-
أقوى إشارة وجودة HD … تردد قناة بطوط كيدز الجديد 2024 على ال
...
-
سليمان الرياعي: التقدم الرقمي أحدث تحولا إستراتيجيا سريعا في
...
-
طوفان الشعر.. كيف وثق الشعراء 7 أكتوبر وتفاعلوا معه؟
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|