أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد هيهات - المسيد أو العصا بدون جزرة















المزيد.....

المسيد أو العصا بدون جزرة


أحمد هيهات

الحوار المتمدن-العدد: 5182 - 2016 / 6 / 3 - 18:47
المحور: الادب والفن
    


المسيد أو العصا بدون جزرة
في تلك الليلية الصيفية القمراء التي ازدانت بنجوم كثريات العنب ، وزادتها نسمات الهواء العليل من ألقها وجمالها ، استسلم محمد لإغفاءة خفيفة حولتها نعومة الجو المعتدل إلى نوم عميق ، لكن سرعان ما أفسده طارق جديد وما أدراك ما ذلك الطارئ إنه الكوابيس التي لطالما نغصّت على محمد لياليه الطويلة بسبب ما تبثه في روعه من ذعر وخوف ، وما تنشره من ارتعاش في أحاسيسه وعزلة وتيه في مشاعره ، فمرة يصيح ويهتف باسم أمه ويستغيث ويستنجد بها خوفا من عقاب الفقيه – المعلم لأنه لم يستطع إكمال حفظ الآيات التي سُطِرت على لوحه الخشبي قبل موعد الاستظهار .
ومرة يتلو – وهو غارق في نومه – سورا قصيرة من القرآن الكريم بصوت مرتفع ، مقدما الدليل على استحقاقه مسح اللوح الخشبي وتعبئته بآيات أو سور جديدة ، وقد كانت عملية الكتابة على اللوح الخشبي بالنسبة إليه لحظة استراحة وترفيه قبل أن يبلغ أشده في الكتابة ، إذ كان الفقيه – المعلم سي علّال يتكلف بعملية الكتابة التي يوقفها بشكل متكرر ارتفاع صوت أحد التلاميذ بتكراره الآية السابقة أو جزء منها مذكرا سي علال وطالبا منه إملاء الآية التي بعدها ، غير أن العملية أصبحت أكثر صعوبة عندما أضحى محمد ملزما بتنظيف لوحه الخشبي بنفسه بعد حفظ واستظهار محتواه والحصول على رخصة سي علّال بالمسح والنسخ ، فيقوم رفقة زملائه بغسله وطلائه بالصلصال وتركه حتى يجف ليكون جاهزا للكتابة من جديد .
بعد ذلك ينطلق في رحلة التزاحم والتسابق مع الأقران من أجل إشباع ظمإ قلمه المصنوع من القصب أو النخيل للحبر المكون من الصمغ المصنوع أساسا من صوف الضأن المحروق ، وزخرفة اللوح الخشبي بالتداخل والتشاكل بين اللونين الرمادي الفاتح والبني القاتم ، واجتهاد التلاميذ في محاولة محاكاة الرسم العثماني .
رغم محاولات محمد المتكرر من أجل التخلص من هذه الكوابيس بعد مرور سنوات طويلة إلا أن عقله الباطن مازال يحتفظ بتلك المشاهد والذكريات بكل طراوتها وجدتها وتمام تفاصيلها والتي تفرض نفسها عليه كلما استسلم لنوم عميق ، وقد كانت زيارات هذه الذكريات رحيمة في بعض الأوقات إذ تعود به أحيانا إلى لحظات سعيدة كتلك التي كان يقضيها محمد ورفاقه مع الفقيه – المعلم سي علّال عندما يجتمع لهذا الأخير في أسبوع واحد أو أسبوعين مداخيل وهدايا وهبات مادية أو عينية كمداخيل المشارطة السنوية وهبات نهاية الأسبوع وذلك مساء الأربعاء والتي تسمى "لَاربْعِيَّة" ، وهدايا حفل الختمة التي تقام بمناسبة إتمام بعض التلاميذ حفظ القرآن الكريم ، والهدايا والهبات بمناسبة العواشر والختان والعقيقة ومقابل خياطة الجلابيب بالطريقة اليدوية التقليدية .
فكان التلاميذ ومنهم محمد ينسون بذلك – ولو إلى أجل قريب – عبوس سي علال وسُنَّتَه المتبعة في العقاب والتعذيب ، والتي يحرص على استمرارها ورسوخها كدليل على جديته واهتمامه بتعليم تلاميذه ، وقد كان يتلقى من الآباء مقابل ذلك عبارات الشكر والتقدير والامتنان والرضا والاستحسان والتشجيع والاطمئنان كلما رأوا بأعينهم علامات وبصمات العقاب والعذاب على أجساد الأبناء .
وقد كان من أشد بواعث الخوف والرعب في دواخل محمد وعدد غير قليل من أقرانه حرص سي علال وأغلب أمثاله من الفقهاء – المعلمين على ممارسة طقوس العقاب والارهاب ، وعلى خلاف محمد وأشباهه كان التلاميذ الذين تقدموا في حفظ أجزاء من القرآن الكريم قد تعودوا على قسوة سي علال وساديته وألوان العقاب والعذاب التي يواجهونها بأساليبهم الخاصة ، من قبيل المبالغة في إظهار التألم والتأثر بالعقاب ، والتدرب على سرعة إنزال الدموع ،والتي تعقبها لحظات طويلة من الضحك والقهقهة بعد الإفلات من قبضة سي علّال ، لأن الضرب لم يعد ينال منهم ، فقد اكتسبت مختلف أطراف أجسامهم المناعة والحماية بفعل توالي الكدمات حتى أصبحت جلودهم قوية وشبه ميتة .
وقد عمل الكثير من هؤلاء التلاميذ على الانتقام من سي علال بالمقالب المتنوعة من قبيل إفساد الطعام الذي يتناوب أهل القرية على تأمينه ، وذلك بإضافة جرعات زائدة من السكر والملح والفلفل الحار ، وبوضع بعض الحشرات والضفادع في بلغة سي علّال وجلابيبه ، ومنهم من تجرأ على الانتقام بالاعتداء الجسدي والفرار من القرية مدة غير قصيرة أو بشكل دائم .
بعد انصرام الأسبوع الأول من ارتياد محمد الكتّاب واطلاعه على جو التعليم الذي تنفطر له الأكباد ، توسّل واستعطف واسترحم أباه غير ما مرة كي ينقله إلى كتّاب القرية المجاورة عند سي المعطي ، غير أن رفض سي عبد القادر كان قاطعا لأنه لم يُرِد تسليم ابنه إلى فقيه – معلّم لم تعرف عنه الشدة والصرامة وألوان العقاب المعروفة كالركل والرفس واللطم والقرص والفلقة ، ولأنه كان غير حازم وكان يقرب الأولاد منه ويلين لهم ويرفق بهم ، ولم يكن فظا غليظا يبعث الرعب في أفئدتهم .
وفي غمرة الفرحة التي كانت تجتاح وتشمل نفوس وعقول تلاميذ سي علال بعد أن زفت إليهم بكل أسف بشرى انتقاله إلى جوار ربه ، بشكل مفاجئ ودون سابق إنذار إلا ما كان من اشتعال رأسه شيبا واسمرار أديم وجهه وظهور التجاعيد على جبهته وغور عينيه ، في غمرة هذه الأحاسيس السعيدة والطمأنينة والأريحية التي يستمتع بها التلاميذ ، تهاجم محمد تلك اللحظة التي لم يستطع نسيانها رغم مرور أكثر من خمس سنوات على التحاقه بالكتّاب ، يوم دخل ساحة المسيد أول مرة تلميذا رسميا قُبَيْل طلوع الشمس فاشرأبّت إليه الأعناق وتطاولت لتتمكن من رؤية الضحية الجديدة ، وبعد أن ألقى نظرة بانورامية على المشهد ،وجد التلاميذ متحلّقين حول سي علال الذي كان يرتدي سروالا تقليديا قصيرا يعلو الكعبين بحوالي سبع سنتمترات وقميص أبيض ، ويضع جلبابه المطوية على كتفه ، ورأسه الصلعاء السافرة التي فرّت آخر شعيراتها إلى جوار الأذنين ،وعيناه مغمضتان لا تكترثان بالجلبة والأصوات المرتفعة من حوله بالاستظهار .
وعلى حين غرة فوجئ محمد بصراخ أحد المتعلمين بعد أن صفعه سي علال على وجهه بعصاه الطويلة ، فملأ هذا المشهد نفس محمد بالرعب والرغبة في البكاء ، فانخرط دون تفكير في عدو سريع ، وعندما استعاد وعيه وجد نفسه يسابق الأشجار على الطريق فبدت له الأشجار تعدو بسرعة جنونية في الاتجاه المعاكس ، فشعر تجاهها بالرحمة والشفقة لأنه حسبها تلقي بنفسها إلى التهلكة في جحيم المسيد .
ورغم كل الأهوال والويلات التي عاشها محمد وأقرانه مع سي علال أثناء سنوات حفظ القرآن وتعلم أصول القراءة والكتابة في الكتّاب ، ورغم ما يعانيه إلى حدود هذه الأيام خلال نومه من الآثار السيئة للكوابيس المزعجة فإنه يترضى على سي علال الذي اعتمد العصا وأغفل الجزرة ، ويدعو له بالرحمة والمغفرة لقاء كل ما علّمه ، كما يترضى على أبيه ويشكره لعلمه ويقينه أن نيته كانت خالصة وقصده كان حسنا .
قصة قصيرة (03-06-2016)
أحمد هيهات



#أحمد_هيهات (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أقساط غير مريحة
- الطائرة الحقيقية
- من البيت الأحمر إلى البيت الابيض - البوصلة التائهة -
- القلوب الباردة (قصة قصيرة)
- مثلث البيتزا
- كواليس الذاكرة
- النساء أجمل وأكرم وأقوى
- الشذوذ في الشعر العربي : انحراف أم ثورة ؟
- إكسير السعادة
- مكر النهايات
- القطعة
- الإبداع الفني بين الآلهة والشياطين
- فائدة الإبداع بين أفلاطون وأرسطو
- نظرات في فكر الكواكبي
- عودة المجاهد -الارهابي- محمد بن عبد الكريم الخطابي
- مظاهر الاحتفال بعاشوراء : محاولة في فهم وتفسير أصولها
- النظام العلوي الأسدي من الشروق إلى المغيب
- مأساة الحج بين الموقف الإنساني والتوظيف السياسي
- التعليم المغربي في غرفة العمليات من جديد
- أريد أن أصوت ولكن .. حلفت ألا أبيع الدين بالتين


المزيد.....




- الجمعة.. انطلاق نادي السينمائيين الجدد في الرياض
- غدا.. اجتماع اللجنة الفنية للسياحة العربية بمقر الجامعة العر ...
- “مبروك لجميع الطلاب ” رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 الدور ...
- مذكرة تفاهم رباعية لضمان التمثيل القانوني المبكر للأحداث بين ...
- ضحك طفلك طول اليوم.. تردد بطوط على القمر الصناعي لمتابعة الأ ...
- الياباني أكيرا ميزوباياشي يفوز بالجائزة الكبرى للفرنكوفونية ...
- كيف تحولت شقة الجدة وسط البلد إلى مصدر إلهام روائي لرشا عدلي ...
- القهوة ورحلتها عبر العالم.. كيف تحولت من مشروب إلى ثقافة
- تاريخ اليهود والمسيحيين في مكة والمدينة حتى ظهور الإسلام
- رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 لكل التخصصات “تجاري، زراعي، ...


المزيد.....

- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد هيهات - المسيد أو العصا بدون جزرة