أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد البسفي - عن -سيد القمني- .. والذين معه ! (1)















المزيد.....


عن -سيد القمني- .. والذين معه ! (1)


محمد البسفي

الحوار المتمدن-العدد: 7240 - 2022 / 5 / 6 - 03:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تحت ظلال مناخ هائج في متغيراته؛ صنعه نمط إنتاج نيوليبرالي متوحش في "الاستهلاك" الذي يُدر الأرباح السريعة الفورية؛ وتقوده وسائل إعلام واتصال جماهيري أكثر "استهلاكية" تُخّدم على تلك الأرباح وتخلق وعي جمعي مهووس بكل جديد ولا يُختزن القديم يطير على أجنحة "عولمة ثقافية" تزدري كل/أي قيمة لصالح إبراز وبلورة ثقافات ما بعد حداثية تُقدس العدمية والفوضية باعثة الروح في فلسفات وتنظيرات نيتشوية تُنصب؛ "فريدريك نيتشه"، نبي العصر المُلهّم.. يصعب مع هكذا مناخ تُمارس داخله أخلاق سوق "التيك آوي" مع كل ما يعن للمجتمع من قضايا، مهما كانت درجة أهميتها، أن يتم تناولها بشكل معمق والتعاطي معها بمنهج علمي يستفيض في الطرح ويستخلص النتائج والمواقف؛ بعيدًا عن سطحية الآراء العابرة وتسجيل المواقف المعلبة..
وبهذا الأسلوب "التريندي" الخبري الاستهلاكي؛ تم التعاطي مع وفاة الكاتب المصري الراحل؛ "سيد القمني"، الذي ما إن تأكد من وفاته رواد مواقع التواصل الاجتماعي من مثقفي "مصر" والعرب؛ نخب وجمهور، حتى فارت الآراء والمواقف سابقة التجهيز منفجرة بعنف في اتجاهين محددين، إما لعن "القمني" وصب ما تيسر من السُباب والشتائم على أم رأسه هو وما يُمثله من "تيار"، أو تمجيد الفقيد ونعيه بإبراز مدى فقد الواقع الثقافي الحالي لعقل مستنير وشخصية استبسلت في معركة ضد الظلام بشجاعة..
وبين الإفراط والتفريط السطحيين يظهر رافد ثالث لآراء سجلت رؤاها وجذرت من مواقفها حيال قضية بلوروا فيها نقاط مرشحة لتكون رؤوس حوار ونقاش مستفيض ومعمق يمكننا التعاطي معها؛ أبعد وأكثر من كونها مجرد توقيع في دفتر عزاء…
في تعالي "تنوير موجه" والتأثير في مجتمع مختطف !
بعد ساعات قليلة من إعلان خبر وفاة الكاتب المصري؛ "سيد القمني"، حرص الدكتور "أشرف منصور"؛ أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، على نعيه عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي؛ (فيس بوك)، مؤكدًا أنه: "من العلامات الفكرية البارزة في عصرنا، تعلمت منه الكثير، واجه التيارات الظلامية وحده في عز قوتها، بمنتهى الشجاعة. موته خسارة كبيرة".
مستطردًا في تدوينة أخرى بنفس اليوم، 07 شباط/فبرير؛ قائلاً: "عندما أفكر في تقييم مجمل أعمال الراحل الأستاذ سيد القمني، أقول إن العبرة هي في الأثر الذي يتركه الكاتب في القاريء. هل تغير تفكير القاريء ؟ هل اختلفت قناعاته ؟ هل راجع مسلماته ؟ هل صارت لديه نظرة مختلفة للأمور ؟.. إذا كانت الإجابة بنعم فالكاتب ناجح ومؤثر وهذا هو ما فعله؛ سيد القمني، لي ولغيري. لروحه السلام".
ليُثير هنا أستاذ الفلسفة إشكالية "التأثير" بوجهها التفاعلي لفكر "ثوري" يُكافح مناخٍ عام طاغٍ بمسلماته وإيمانه بامتلاك الحقيقة المطلقة، ذلك قبل أن يطرح "منصور" الجانب الآخر من "التأثير" كمكون عام تتفاعل داخله أفكارٍ متباينة في صراع تمايزي يفصل بين الراديكالي والأكثر سطحية؛ (والديماغوغية)، كما وصف حال الحركة الإسلامية في "مصر"؛ متخذًا من نظرية المركز والأطراف منطلقًا، عبر تدوينة ثالثة أكد فيها على أن: "مصر هي مركز الحركة الإسلامية بكل تنويعاتها، التنظيمية (حسن البنا)، والتنظيرية (سيد قطب)، والجهادية (محمد عبدالسلام فرج)، والصحوية والسلفية، وهي كذلك مركز مقاومة كل هذه التنويعات: محمد سعيد العشماوي، ورفعت السعيد، وفرج فودة، ونصر حامد أبوزيد، وسيد القمني؛ (وهم الأبرز وغيرهم كثيرون). وكلما أبتعدنا عن المركز خفت الحدة، حدة الحركة وحدة مقاومتها في نفس الوقت، حتى نصل إلى أوروبا وأميركا، حيث المواقف المائعة والغائمة من الطرفين أيضًا، نهاية بالمواقف المضطربة لدى الأكاديميا الغربية. كلما اقتربنا من المركز زادت الراديكالية من الطرفين، وكلما أبتعدنا عن المركز تشوشت المواقف واختلطت. لكن في مصر المركز نجد الظاهرتين في نقائهما الخالص في محل ميلادهما الواحد".
ذلك "التأثير" - بوجهيه - الذي كان للدكتور "محمود خليل"، أستاذ الإعلام والكاتب الصحافي، رؤية أخرى فيه تخلص إلى أن: "الثقافة التي تكرست عبر قرون من الزمان لا تتغير في بضع سنوات"، كحقيقة يرى أن التنويريون قد تجاهلونها في سعيهم نحو تجديد الفكر الديني؛ مما أعاق كثيرًا من تأثيرهم سواءً داخل محيطهم القاعدي لمجتمعهم وأضعف كذلك من تقدم تفاعلهم داخل المناخ العام للحركة الفكرية الجمعية، موضحًا: "لجأ التنويريون في بعض الأحوال إلى طرح أفكار جريئة أخافت العقل الجمعي في بعض الأحوال". (1)
مستعرضًا: أنطلق "طه حسين" يُشكك في بعض النصوص المقدسة ويُردد في كتابه: (في الشعر الجاهلي): "للقرآن أن يُحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل لكن ذلك لا ينهض دليلاً على وجودهما". وفى كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر) دعا إلى الذوبان في ثقافة الغرب: "بحلوها ومرها.. خيرها وشرها". واتجه "إسماعيل أدهم" إلى إنكار الدين وإعلان إلحاده والدفاع عنه في كتاب عَنْوَنه: بـ (لماذا أنا ملحد ؟). ولا خلاف على أن هذه الجرأة المفرطة أخافت المجتمع، وجعلته لقمة سائغة في يد المدافعين عن الثقافة الموروثة، سواءً من بعض رموز السلطة أو من المشايخ الذين كانوا يحققون من وراء ذلك مصالح محددة.
مواصلاً "خليل": بذلت نخبة الجامعيين من المثقفين والمفكرين جهدًا كبيرًا في كشف عوار بعض الأفكار الموروثة، لكنها لم تبذل جهدًا موازيًا في تصحيحها، وإعادة صياغتها، وأكتفت بطرح البديل الغربي كطريق للخلاص. وصورة المستعمر هي الصورة التي حكمت رؤية المصريين للغرب، وقد ظل هذا الأمر حاجزًا حالَ بين نسبة لا بأس بها من أفراد الشعب والرؤى والأفكار الداحضة للفكر الموروث. (2)
ويستمر أستاذ الإعلام في عرض تاريخي لتفاعل المجتمع المصري - كمجتمع عربي إسلامي - مع المستعمر المباشر بما نقله إليه من ثقافات وسلوكيات ومفاهيم حضارية مغايرة للموروث والأصولي من آليات فكرية وحضارية للمجتمع الأصلي ونبذها كمتغيرات إنحرافية وخارجة عن أصل المُعتقد العام. متهمًا "خليل" فكر التنويريون بأنه اكتسب: "صبغة استعمارية" لم تمنحه فرصة للإثمار أو الإزدهار على المستوى الشعبي بالشكل المرجو. مستدركًا: "لكن يبقى أنه تمكن بمرور الوقت من احتلال مساحات جديدة، وساعدت التطورات التكنولوجية المتلاحقة التي بدأت في اختراق الحالة المصرية على المزيد من التمكين له، لتُثبت حقيقة أن: (العلاج بالصدمة) الذي أتبعه بعض رواد التنوير في مواجهة الفكر الموروث لم يُثمر ما طمح إليه من نتائج، وأن فعل الزمن والتطور التكنولوجي أكبر أثرًا في هز الثوابت".
وإن كان "خليل" قد خلط بين أجيال من المثقفين والمفكرين متباينة تاريخيًا؛ سواءً من حيث الدافع الذاتي أو الواقع المجتمعي، في سلة واحدة لظاهرة أراد هو وحدتها عبر حقب تاريخية ممتدة.. جاءت رؤية الروائي والكاتب الصحافي؛ الدكتور "أحمد الخميسي"، واضعة حدودًا واضحة بين أجيال المفكرين التاريخيين؛ الذين دُرج على تسميتهم: بـ"الرواد"، لتُميزهم عن المحدثين اللاحقين عليهم تحت مُسمى: "التنويريون".
حينما يستعر "الهوس الديني": هذا هو المطلوب !
لذا يستهل "الخميسي" تحليله بتسجيل ملاحظة أن "المفكر التنويري"، هو وصف غامض مرتبط بإثارة القضايا الدينية. ويرى: "أن ذلك المفكر التنويري وأخوته جعلوا من القضايا الدينية موضوع جهدهم كله، وأبحاثهم، وبالتالي أصبحوا في واقع الأمر الوجه الآخر للمتطرف الديني، الذي لا يرى العالم إلا من خلال ثقب صغير، وهكذا فإن التنويري والمتطرف، الإثنين، ينطلقان فعليًا من نفس الركيزة، أي رؤية العالم عبر الديانة، ولا يبحثان خلف ذلك عن قضية أخرى، وإذا كنت لن تجد في تاريخ الإخوان المسلمين دفاعًا عن قضية اجتماعية محددة، فإنك أيضًا لن تجد عند الإخوان المتنوريين دفاعًا عن قضية اجتماعية أو سياسية واضحة، لأنهم تخصصوا في موضوع الدين ولا يجدون شيئًا جديرًا بالاهتمام خارج تلك الدائرة". (3)
موضحًا: "لقد قامت حركة التنوير على أن: (الدين لله والوطن للجميع)، أي أن الدين شأن شخصي، وأن دور المفكرين هو البحث في القضايا التي تجمع أبناء الوطن على اختلاف عقائدهم الدينية، أي القضايا المتعلقة بالصحة والتعليم والحريات والسكن والعمل، لكن ذلك التنويري يغض النظر عن كل ما يجمع أبناء الوطن، ويبذل كل جهده في حقل آخر، ذاتي، وخاص، وهو الإيمان، وفقه الدين، وما شابه".
لافتًا: "ولم يسبق أن سمعت بموقف واضح من أحد أولئك التنويريين من قضية التعليم على سبيل المثال، وهم حينما يكثرون الكلام عن الإرهاب، فإنهم يتناولونه من جانب واحد، ويلزمون الصمت التام حين يتعلق الأمر بالإرهاب الصهيوني أو الأميركي".
مؤشرًا على أزمة "التأثير" لدى تلك الفئة من التنويريين قائلاً: "إنهم يرون التنوير عملية ذهنية ثقافية تستبدل أفكارًا بأفكار، بمعزل تام عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ولهذا لم تتجذر قط حركة أولئك المفكرين التنويريين، ولم تستطع دفع التنوير إلى الأمام، بقدر ما أثارت ضوضاء أحاطت شخوصهم بهالة نجومية".
فالتنوير بمعناه الحقيقي؛ في رأي "الخميسي": "معركة اجتماعية، والفكر أحد أسلحتها، لكنها معركة تتم في المجال الملموس، حيث القضايا الاقتصادية، والسياسية، والدستورية، وغير ذلك، وليس ثمت تنوير مطلق معلق في فراغ، لأن كل تنوير مرتبط بقضايا المجتمع الملحة، لهذا يستحيل على الكتب كافة أن تنجح في تنوير إنسان تعس بلا مسكن ولا عمل ولا علاج، ومن باب أولى فإن فتح موضوع الدين لن يُساعد على تنويره في شيء. وشتان بين مفكري التنوير الجدد وبين مشروع التنوير الحقيقي عند؛ طه حسين، الذي قام على أن التعليم، قال التعليم ولم يقل الثقافة، هو مستقر كل تنوير، وهكذا وضع العميد الأساس الاجتماعي للقضية. وفي حينه ربط كل المفكرين الكبار بين التنوير والظروف الاجتماعية المحددة". (4)
ويواصل الأديب المصري استعراض المنجزات الفكرية لجيل "الرواد" من المفكرين ومدى تأثيرها على مجتمعهم ومحيطهم التاريخي؛ كـ"رفاعة رافع الطهطاوي"، حين قام بترجمة الدستور الفرنسي؛ بغية وضع حجر الأساس في مواجهة الحاكم المستبد بالدعوة إلى سلطات ثلاث منفصلة: قضائية وتنفيذية وتشريعية. وكذلك "علي عبدالرازق"؛ في كتابه: (الإسلام وأصول الحكم)، الذي يؤكد "الخميسي" بأنه لم يُناقش المسلمين في إعتقادهم الديني، بقدر ما كان يتصدى لفكرة الخلافة الإسلامية دفاعًا عن استقلال مصر.
ويجمل الدكتور "أحمد الخميسي" رؤيته لذلك التيار الذي يُمثله ذاك النمط من "التنويري"؛ في جملة أخيرة قائلاً: "لكن المفكرين التنويريين الجدد، أثاروا من الضجيج أكثر مما حركوا التطور".
وبعيدًا عن ما انتهى إليه "محمود خليل" من العلاج التكنولوجي الصادم الذي أنهى - في نظره - الإشكالية النمطية عن "المستعمر بحضارته المتقدمة ومدى تقبل المجتمع المتخلف لسماتها"؛ بانتصار التنويريين في معركتهم ضد الموروث الظلامي.. فتلك القضية أعقد من ذلك التسطيح المقولب؛ لها من التشعبات والتفريعات التي تدفع الى التناول المعمق والبحث الجدي المهتم، وهذا ما اقترب منه "الخميسي"، في تسجيل رأيه، حول إشكالية التنوريون الجدد ومدى تأثيرهم داخل مجتمع مغلق بمسلمات منتهية اليقين؛ حينما ركز على مستويات منجز تلك الفئات الحاملة لمسميات ولافتات التنوير وحجمها الضحل بالنسبة لتنمية مجتمعاتهم وتطويرها اجتماعيًا قبل تجريدها في أهداف "ثقافية" تهمش البُعد الاجتماع/الاقتصادي، وهذا يسوقنا إلى مشكلة "المنهج" - بجانب أزمة التأثير - التي يُعانيها إنتاج تلك الفئة من المثقفين، والتي تُحاول السطور القادمة تحليلها، ولكن مع اقترابًا أكثر تحديدًا لدور هؤلاء "التنويريين" وتقييم آلية ذلك النوع "المختار"؛ (والأوحادي)، من التثقيف والتوعية داخل مجتمعاتنا النامية؛ أجملت صفحة باسم (جلجامش لوكالباندا)، تعود للأستاذ "ياسر شعبان"؛ في مقال مسهب نُشر يوم 08 شباط/فبراير، موقفًا أكثر جذرية وراديكالية؛ بعنوان: "التنوير وغياب وحدة قضايا الصراع".
مستهلاً الكاتب بتقييمه الشخصي لـ"القمني"؛ كواحد من أبرز من تصدروا تلك الفئة من المثقفين خلال السنوات الماضية، قائلاً: كان "سيد القمني" أحد الذين تصدوا للخطاب الإسلامي في عنفوان الصحوة الإسلامية وللجيل الجديد؛ فإن كتابات "سيد القمني" أو "فرج فودة"؛ (على ما قد يسمها البعض بالهشاشة أو عدم الأكاديمية أو الضحالة المعرفية أو التعسف في طرح النتائج)، كانت في ذلك الوقت عمل انتحاري في حد ذاته؛ وليس أدل على ذلك من التكلفة التي تحملها "فرج فودة" بفقدان حياته اغتيالاً، فقد كانت الهجمة شرسة من الجماعات وكان المجتمع المصري يدفع تكلفتها بأكمله من دم أبناءه..
منتقلاً إلى تشريح المناخ السياسي والثقافي للمجتمع المصري خلال الحقبة الأخيرة من القرن الماضي؛ كممهد موضوعي لظهور وانتشار ذلك الصنف التنويري؛ لافتًا: وكان التصدي للصحوة الإسلامية؛ في سياق النقد المعرفي الشامل والممارسة العملية المغايرة، أمرًا غير ممكن بعد إنهيار "الاتحاد السوفياتي" وانتهاج؛ "رفعت السعيد"، لسياسة السقف المنخفض. وقد أدى ذلك الإنهيار إلى تصدع في التيار اليساري في "مصر" وانفضاض الناس من حوله.. وشهد عقد التسعينيات حركة ردة عميقة في المجتمع المصري عن كل مظاهر الحداثة بفعل تغلغل أفكار الصحوة الإسلامية بين الناس، خاصة مع فقدان اليسار تدريجيًا لحواضنه الشعبية وقياداته في نفس الوقت.
فقد ساد شعور بعدم جدوى الاستمرار؛ وبدأ الجميع في البحث عن الخلاص الفردي، وكانت الهجرة أو فرصة السفر للخارج متوفرة للجميع؛ خاصة أصحاب المؤهلات العليا، ثم تطور الأمر بعد ذلك مع دخول أموال التمويل في الميدان السياسي والثقافي لتفرض أجندات وأولويات غير وطنية؛ فتضخم الثانوي وتفتت الرئيس ملقيه في الظل مبدأ وحدة قضايا الصراع.
متابعًا: كان "سيد القمني" ابن هذا السياق المضطرب والملتبس العدائي لكل مضامين التنوير ومظاهره؛ وكان الهجوم يأتي من كل مكان؛ من شرائط الكاسيت ومن فوق المنابر ومن الدروس الدينية التي تُعقد في الزوايا والمساجد للجماعات، حتى من تلفزيون الدولة عبر ما يُبثه "الشعراوي" و"مصطفى محمود"؛ وإن كان بدرجة أهدأ من خطاب الجماعات.. كانت "مصر" تتأمر على نفسها؛ تُدمر نفسها ذاتيًا.
كانت كتابات "سيد القمني"؛ هي بنت هذه اللحظة التاريخية.. من انحسار عام للقوى التقدمية وموجة الصحوة الإسلامية؛ التي بدى أنها ستجرف الجميع في النهاية.. شارك "سيد القمني" وغيره من نخبة تلك الفترة، في مواجهة موجة التدمير الذاتي تلك.. وكان المنطق الذي يُحرك تلك النخبة هو أن أفضل طريقة لمواجهة التيار الإسلامي هو تفنيد منطقه من الداخل وتبين تهافت طرحه، لكن العيب القاتل الذي وقع فيه هذا الخطاب التنويري هو أنه عالج خطاب الصحوة الذي كان يتسنم التراث ويمتطيه كأنه وحدة مغلقة معزولة ومقطوعة عن السياق العالمي الذي تحكمه المنظومة الرأسمالية؛ وكأن النص التراثي يمتلك قوىً سحرية جعلته يطفوا على سطح الأحداث تلقائيًا بدون أن يكون من وراءه من يُحرك ويُمول ويحصد المكاسب..
وهنا يؤشر المقال أكثر: كان الشعار البديل في مقابلة: "الإسلام هو الحل"؛ هو: "العلمانية هي الحل".. تلك العلمانية التي حمَلها من رفعها شعارًا مضامين أكثر مما يحوي اللفظ نفسه من مضامين تخص مجتمع نشأته في "أوروبا الغربية"؛ فاتهم أن العلمانية هي نتاج سياق من التفاعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي أنتج في النهاية ذلك المظهر الخارجي لمجتمع قد تُجادل مع نفسه طوال 300 عام.. ذلك المظهر الذي لا يُمثل مضمونًا أو محرك داخليًا أو آليه إنتاج بقدر ما يُمثل طلاء وشعار.
كانت أزمتهم أنهم تجاهلوا الأسباب الداخلية للأزمة التي تمر بها "مصر"؛ وهي متلازمة التخلف والتبعية وعدم تجذر مفردات الحداثة ولا توطنها.. وأن حل أزمة "مصر" ليس في نقد التراث كوحدة صراع منعزلة؛ بل في تقديم خطاب يُحلل استمرار علاقة التبعية التي كرست لبقاء سمات التخلف ومحاولة إيصال ذلك للجماهير..
ويطرح الكاتب سؤال محوري مازلنا ندور حوله في المجتمعات العربية والنامية: لكن السؤال هل كان ذلك ممكنًا في ظل موجة الجذر للتيار التقدمي ؟.. الإجابة: لا للأسف؛ فأغلب المنتسبين للتيار التقدمي في تلك الحقبة المظلمة قد لجأ للعزلة وأبتعد عن الشارع؛ لأن الشارع وقتها كان طاردًا بشكل عدائي لأي فكر تقدمي..
والسؤال الثاني هل يوجد تناقض بين تقديم خطاب نقدي للتراث؛ في حد ذاته، وبين تقديم خطاب سياسي ناقد للأسباب الجوهرية لأزمة الحاضر ؟.. الإجابة: لا.. لا يوجد تعارض في الأصل.. لكن المشكلة تكمن عندما يتم استخدام أدبيات نقد التراث التي يتم إنتاجها عبر استخدام أدوات المنهج المادي كمطية لخطاب سياسي لترويج التطبيع مع الكيان (الصهيوني) أو إنكار لظاهرة الاستعمار وتآمره على واقعنا أو إنكار الدور المدمر للتمويل الأجنبي أو إنكار الأسباب الاقتصادية الاجتماعية للتخلف؛ وتحميل التراث كل حمل الأزمة أو الترويج لحلول وهمية أو مدمرة كالنيوليبرالية المتوحشة أو السلام مع "إسرائيل" أو الترويج للمركزية الغربية بشكلها اللاعلمي؛ وإنكار لأي مُنجز حضاري للحضارة الإسلامية أو التأصيل لعزل "مصر" عن محيطها ومجالها الحيوي العربي..
مشيرًا إلى: إن خطورة التنوير مع غياب وحدة قضايا الصراع؛ يجعل من نقد التراث عملية مدمره للذات، لأنها تنزع الإنسان من نقطة ثبات وتدفعه لإسقاط المقدس في سبيل تبني رؤية معادية للذات الوطنية في جوهرها.. الخطورة أن عملية نقد التراث هنا تُصبح مجرد معبر وجسر لنوع آخر من التدمير الذاتي لا تختلف عن خطورة الخطاب الإسلامي إلا في الأسلوب اللاعنيف ومدى الانتشار، ففي حين ينتشر الخطاب الإسلامي المهندس بين قطعان الجماهير المغيبة، ينتشر خطاب التنوير المنقوص بين النخب المثقفة المغيبة أيضًا.
مشددًا: إن نقد التراث الديني بشكل عام؛ إن اعتبرناه جسرًا، فلابد أن ينتهي بنا إلى مفردات جديدة هي منطق جديد من التفكير العلمي والوطني والتقدمي ينطلق بنا من حالة ثبات وجمود لحالة حركة وفاعلية اجتماعية تُقاوم مفردات التخلف والتبعية وتنتزع الاستقلال السياسي والاقتصادي أو تُبشر به وتؤدلج له..
لكن نخبة التنوير تلك لم تصنع مثل هذا الجسر، ولكنها صنعت جسرًا نحو العدو، جسرًا نحو تعميق التبعية للمجتمع كله وتعميق عزلة النخب المثقفة؛ بل أفقدتها أدواتها الفكرية التقدمية التي لو كانت تمتلكها لصار خطابها الحاضر وقدرتها على الفعل السياسي أقوى..
مستدركًا: لا أنكر أن أقوى أعمال "سيد القمني" هي: (الحزب الهاشمي) و(حروب دولة الرسول)؛ التي شكلت مع إنتاج؛ "خليل عبدالكريم"، مشروع كبير لعقلنة السيرة وتقديمها كحركة تاريخية خالية من الخرافات، في وقت كان الخطاب الديني يُصر على ترويج البُعد الخرافي اللاعقلاني في السيرة.. لكن في المقابل عندما تحدث "سيد القمني"؛ وصرح برؤيته السياسية، كشف عن سوءته وعيبه القاتل، فقد جعل مشروعه جسرًا لاستبطان رؤية استعمارية.
مختتمًا الكاتب أطروحته: ".. كانت الصحوة الإسلامية وبالاً على عقول الجماهير؛ وكان التنوير المنقوص وبالاً على عقول النخب المثقفة.. ورغم ذلك يظل في الإمكان الاستفادة من ذلك الإنتاج بعد إعادة توظيفه وفصله عن الخطاب السياسي الملحق به".
وتبقى الإشكالية منغلقة على تأزم مجتمع عربي "متخلف" ماديًا (صناعيًا وإنتاجيًا قبل واقعه الثقافي)، منتهب الموارد والثروات؛ مستلب الإرادة والتفكير المستقل عن "السيد المتبوع".. وتفاعل ذلك التأزم مع خطاب ديني (مهندس/موجه) بفعل فاعل؛ وخطاب تنويري يفصل الجزئي عن الكلي الاجتماعي/التأريخي/الجغرافي وليس أخيرًا الاقتصادي، أيضًا لا تخفى ملامح هندسته الموجهة إلينا..
………………………………………………………….
المصادر:
(1) د. محمود خليل - "التكنولوجيا.. والعلاج بالصدمة" - صحيفة (الوطن) القاهرية؛ عدد يوم السبت 12 شباط/فبراير 2022.
(2) نفس المصدر.
(3) د. أحمد الخمبيسي - "المفكر التنويري" - جريدة (الدستور) المصرية؛ السبت 12 شباط/فبراير 2022.
(4) نفس المصدر.



#محمد_البسفي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- انتفاضات تائهة .. أم ثورات ملونة ؟ (3) .. عندما بدأت -حرب ال ...
- انتفاضات تائهة .. أم ثورات ملونة ؟ (2) .. ثورة مضادة بألف وج ...
- انتفاضات تائهة .. أم ثورات ملونة ؟ (1) .. مانفيستو إجهاض أهد ...
- في رحاب -السيد- .. القادم إلى البيت الأبيض ! (2)
- في رحاب -السيد- .. القادم إلى البيت الأبيض ! (1)
- الحرب بالوكالة وخصخصة الجيوش !
- -يوم الدين- .. مساحة انتصار الهوية على مجتمع بلا ملامح !
- الرقص على إيقاعات -السيد- !
- ال (CIA) بين الهيمنة والتحالف !
- الدولة .. العمق الصلب !
- -الهرم الأمني- سر القدر المُسيطر !
- مواقع التواصل الاجتماعي توؤد ذاكرة الشعوب !
- العولمة تصنع تاريخ ال (تيك آواي) !
- تحت السيطرة العنكبوتية !
- الكورونا .. بداية أخرى للتاريخ !
- من يكتب التاريخ ؟
- أحاديث العولمة .. -د. أحمد الخميسي- يٌشرَح جدلية العلاقة بين ...
- أحاديث العولمة .. -رضا خالد- يكشف جدلية رد فعل -داعش- أمام ق ...
- أحاديث العولمة .. -محمد حلمي هلال- : أدرك منظرو العولمة بأقت ...
- رسائل اجتماعية .. في الدراما الرمضانية !


المزيد.....




- عمليات المقاومة الاسلامية ضد مواقع وانتشار جيش الاحتلال
- إضرام النيران في مقام النبي يوشع تمهيدا لاقتحامه في سلفيت
- أبسطي صغارك بأغاني البيبي..ثبتها اليوم تردد قناة طيور الجنة ...
- إيهود أولمرت: عملية رفح لن تخدم هدف استعادة الأسرى وستؤدي لن ...
- “بابا تليفون.. قوله ما هو هون” مع قناة طيور الجنة 2024 بأعلى ...
- قائد الثورة الاسلامية يستقبل المنتخب الوطني لكرة قدم الصالات ...
- “نزلها لطفلك” تردد قناة طيور بيبي الجديد Toyor Baby بأعلى جو ...
- تقرير فلسطيني: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى
- مصر.. هيئة البث الإسرائيلية تكشف اسم رجل الأعمال اليهودي الم ...
- كهنة مؤيدون لحق اللجوء يصفون حزب الاتحاد المسيحي بأنه -غير م ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد البسفي - عن -سيد القمني- .. والذين معه ! (1)