أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود حمدون - - تسليم أهالي-















المزيد.....

- تسليم أهالي-


محمود حمدون

الحوار المتمدن-العدد: 7209 - 2022 / 4 / 2 - 22:15
المحور: الادب والفن
    


====
ما أكثر لقاءاتنا وما أندر أن نجتمع على شيء, فكل منّا في شغل عن الآخرين, ننظر لبعضنا غير أننا لا نبصر التفاصيل أو ربما لا تعنينا, فقط نهتم بالمضغ والبلع, نسمو فيما وراء المكان, نرنوا بعيوننا إلى لقمة العيش بمعناها الواسع.
صبيحة اليوم التقينا كلنا, في دائرة كبيرة أجسادنا متلاصقة بتأثير البرد, لا ترى إلاّ وجومًا كبيرًا على الوجوه, كآبة أتت في أوانها, كنت أتفحّص وجوه الحضور, أقلّب عيني فيهم, جميعهم أعرفهم بحكم أننا نفطر معًا , كلّهم بيني وبينهم مسافة كبيرة تمتزج بحذر بالغ.
منّا الموظف الحكومي و الصنايعي الذي يخرج كما نقول على باب الله, آخرون لا نعرف لهم مهنة غير التسول, مثل بائع مناديل ورقية أو أقنعة للوقاية من الفيروسات,بعضهم يمتهن الشحاذة صراحة ولا يخجل أن يمدّ يده, يعتقد عن يقين أنه يستحق أن يعيش, أن له حقوق في ذمتنا باعتبارنا نعيش في مجتمع واحد, الكل يئن, الجميع يعاني, غير أن صمتنا البالغ هو سر بقاءنا حتى الآن .
المضغ والشرود صفتان ملازمتان لزبائن العربة, ليس عن استمتاع بالطعام, فأقسم أنني حتى الآن وعلى رغم أنني أتردد شبه يوميًا لتناول أفطاري من تلك العربة التي تقف على ناصية" الملجأ"بمفترق طرق " الحادقة و قحافة" إلاّ أنني لم أستلذ بطعامي, فقط أبتلعه حتى يستقر بجوفي,يسد رمقي .
ثم أمضي إلى حال سبيلي بعدما أنقد البائع جنيهات, يتحسسها دون أن ينظر إليها ثم يلقيها بجب عميق " بمريلة" تتشعلق برقبته ويربطها حول وسطه بدوبارة من الخلف.

لكن أخوف ما نخافه أن ينفلت لسان أحدنا دونما قصد, فجميعنا لا يثق في بعضه البعض,بخاصة حينما تسلّلت وشاية بوجود مُخبر بيننا يتبع الأمن, يفطر معنا, يصل لعربة الفول قبل باقي الزبائن, ثم يتلكأ في طعامه بتؤدة غريبة, ينصت بجوارحه, يسجِّل بعقله كل شاردة و واردة من هفوات الناس,
لا أعرف مصداقية هذه الفرية, بل لا أعلم إن كانت فرية أم حقيقة , لكن هذا ما يؤكده قدامى الزبائن, بعض قاطني الحي من السكان ممن يمرون علينا, فيحذروننا بأعينهم, بإشارة خفية من أيديهم أن الخطر كامن بينكم.
يجاورني " خميس" صبيحة كل افطار, صدفة لم أجد لها تفسيرًا حتى الآن,يظل ينظر إليّ وأبادله نظرة بأخرى. مازحته غير مرة, يرد باقتضاب من يجهل استقبال الطُرفة أو لا يحب أن يُجهد عقله بعيدًا عن غايته.
لا يخلو حديث "عبد العزيز" وهو موظف بوحدة محلية, من نبرة سخرية حادة من الوضع الحالي, صاح قائلًا ليقطع العزف الموسيقي للأفواه الجائعة:يعجبني "بوتين", هو رئيس بصحيحّ, يعرف ما يفعل, يتلاعب بالجميع, أشعل الدنيا بين أصابعه ولن يطفئ الحريق حتى ينال مبتغاه, هكذا ال... ثم تذكر أمرًا, فنظر بطرف عينه ناحية " خميس" فوجده في دنيا غير الدنيا التي نعيشها.
التقط "صبري" خيط الحديث, هو أيضًا موظف لكن بمديرية الشباب, يتأنق فوق ما المعتاد, يصرّ على صبغ شعره بلون أسود فاحم على رغم كبر سنه البادي على تجاعيد لا حصر لها تغزو وجهه. قال بجفاء: " خلينا في حالنا الزفت"!
ثم أكمل وهو يتطلع لوجوهنا :ألا تدرون أن الحكومة لطالما أدمَنَتْ مفاجأة الخلق كل فترة بقرارات تراها هي أنها تصب في مصلحتنا, بينما نراها نحن أنها تضّر و تأخذ بخناقنا, ونرى أثر قراراتها في ارتفاع ثمن صحن الفول أو "الساندويتش", كما نلمسها في غياب واختفاء بعض الوجوه من حول العربة, فلم يعد يطيق الذهاب إليها والتردد عليها إلّا من تستقر بجيبه من بضعة جنيهات..

فقلت مخاطبًا الكل,لتلطيف حدة الجدل: أي حادثة عالمية لها تأثير علينا مباشرة, ألم تر الأسعار التي اشتعلت دونما سبب فجأة بمجرد اجتياح القوات " الروسية" لأراضي دولة "أوكرانيا"؟!, ثم أكملت خُطبتي للكافة بعدما وضعت آخر قطعة خبز مغموسة في طبق الفول في فمي: لسنا وحدنا, أنظروا إلى دول أوروبا وما يحدث بها من جفاف بالأسواق من السلع الغذائية وغيرها, كنت أصيح بنبرة نحاسية كأنني أخطب ود "خميس" وقومه, إذ كنت ايضًا لا أثق بهذا المتأنق, بل يساورني قلق حيال الجميع, فما يدريني أنه يتجسس كغيره على الباقيين, فمنّا من يتطوع الآن لنقل الأخبار وإظهار حُسن النوايا, كي يُظهر نفسه المؤمن الوحيد بالدولة الجديدة.فبات حالي هو حال الجميع, نؤيد جهرة ونلعن الجميع بما فينا ذواتنا سرًا, نخاف حتى من ظلالنا.
لطالما سخرت من حياة المواطن السوفيتي, التي روّج لها الإعلام الغربية في السبعينات والثمانينات حول جمهوريات الخوف, الحُكم بقبضة الحديد والنار. لطالما تهكّمت على هولاء النعاج وكيف ارتضوا العيش هكذا كالأنعام, ليس لهم إلاّ قليل من علف وماء, عليهم أن يشكروا ويغالوا في مديح من يقتنيهم .
لا تكتمل الدائرة إلاّ بوجود صاحب العربة, الذي يقف على حجر كبير, يطل على روّاده, كإله صغير يرنو لعابديه, كيف لا وهو يُطعم هؤلاء, يؤمن أنه صاحب فضل عليهم وأن أسعاره تقل كثيرًا عن أي مطعم متواضع في الشارع الخلفي بمقدار النصف تقريبًا, على يساره يقف,أ: ابراهيم, كما يحب أن نناديه, نسبق اسمه بلقبه, مثقف, يميل للسمنة بعض الشيء, قمحي البشرة, تستقر على وجه ابتسامة دائمة.
غير أنه اليوم كان مكفهر, مقطب الجبين, كان ينصت للحديث, بيده اليمنى قطعة من الخبز, ظلّت معلقة بالهواء. بينما أذنه معنا, كانت عيناه شاردتان لبعيد, قاطعني بضجر و قال:بئس القوم الذين يخشون غير الله, أظن أننا كلنا نخاف غيره وأنا الأول, لكني سئمت كل شيء, بتُّ أخشى ما سيحدث بالغد بل أخاف من يومي, لا أدري كيف أُكمله, لا آمن على نفسي وعيالي إن عبرنا هذا الشارع من ناصيته للأخرى , فهل يأمن أحدكم؟!
نظر في وجوهنا, علّه لمس وترًا بداخلنا, حتى أن " خميس" أطرق للأرض, رأيته يتمتم وأظن سمعته يقول:" حسبي الله ونعم الوكيل", فهتفت بنبرة ساخرة واضحة: آمن الرجل أن لا إله الاّ الذي نؤمن به, أثارت عبارتي ضحك قِدرة " صاحب العربة", لم يكن هذا اسمه الحقيقي وما كنا نهتم بمعرفته ,لكن تشابه تكوينه الجسدي لدينا مع "قِدرة الفول" فأصبحت هذه الأخيرة علامة على مهنته وصفته واسمه. اهتز جسد "قِدرة",توقف عن غرف الفول بالأطباق الألومنيوم الصغيرة, قال من عليائه: : خميس" هو " الوحيد اللي بيفهم فيكم, اللي قارئ الصورة صح", ثم هوى بقبضة يده على جسد العربة الخشبي و قال: "يا ناس لم يعد الحال كما كان", نتراجع من سيئ لأسوأ,لا تلقوا بذنبكم على " خميس" فهو مثلكم وإن كان يؤدي واجبه باقتدار ومهارة..
,اضطربت لكلام " قِدرة", ثم تمالكت نفسي, ملتُ على المخبر وسألته برفق: مالك؟ أنت بخير؟
فأجابني: تعبت جدًا, أنا مثلكم, بل أشدّكم بؤسًا,أنا منكم لكن سُلّطتَّ عليكم, كسيف معلق برقابكم, أتدرون؟!
فاشرأبت أعناقنا إليه بوجل, فأكمل: صدرت منذ لحظات قرارات اقتصادية جديدة تصب في مصلحتنا, توقف عن حديثه, انفلتت منه ضحك رهيبة وهو يتابع بعينيه امرأة سمينة للغاية تجرجر خلفها أرداف تهتز فتُحدث توابع من هزّات أرضية كلما مرت بقوم هنا أو هناك.
عُدت إليه بعدما تتبعت المرأة شأن الباقيين, سألته: أية قرارات؟
فقال: تم تخفيض قيمة الجنيه مرة أخرى, تعويم جديد, ارتفاعات أكثر في الأسعار, ثم أفاق من غيّه سريعًا بعدما أحسّ أن لسانه زَّل و ندَّت عنه عبارات يثق أن البعض قد يأخذها عليه, ربما تصل لرؤسائه قبلما يغادر العربة. غيّر موضوع الحديث بسرعة وأكمل:لم أعد قادرًا على تكاليف الحياة, برقبتي عائلة كبيرة.كرهت وظيفتي, ألم يئن ليّ أن أعيش في أمن , أن أتنفس هواءً نقيًا مثلكم؟
انبرى سائق عربة أجرة" سرفيس خط رقم 9", نراه على فترات, كان يمضغ طعامه بصوت عال, قال: نقيًا مثلنا؟ أعقب استنكاره: بشخرة: عالية من أنفه, ثم تمخّط وبصق على الرصيف, على وجهه نظرة امتعاض تكفي الكون بمن فيه,ألقى بثلاثة جنيهات معدنية في الهواء فاستقرت على الأرض ومضى.
فقلت ل" خميس" : ما دفعك على التمرّد؟تجاهل سؤالي , نظر لنا وقال: أتعرفون؟ فنظرنا إليه, فأكمل: أثق أنكم تعرفون دروي بينكم صبيحة كل يوم, تظنون أنني أتردد على مقاهي كبيرة, أستمع للناس, لشكاواهم, لنكاتهم أسجل ذلك كله, ثم أرفعه في تقارير يومية.
لن أنفي ظنّكم هذا أو أؤكده, على كلّ أيقنت مؤخرًا أن كل ما أفعله هراء,لا يهتمون به, فهم يؤمنون أن أشد أنواع الرقابة تلك التي يمارسها الناس على بعضهم,بخاصة المثقفين منهم, فأنت واشار إليّ ثم لوى عنقه نحو " ابراهيم" .
و أومأ للمارة بالميدان, أكمل:تراقبون بعضكم, تفعلون ما أفعل ولكن بلباقة, الدولة تدرك هذا وتترككم تقطِّعون في رقاب بعض, يركب بعضكم ظهور بعض, حتى أنها تعرف ما تنشرون على مواقع التواصل الاجتماعي, لا تفتش بصدوركم, بل تترك غيركم يفعل هذا ويرفع تقريرًا إليها, اليوم صار الكل يدافع عن الدين, يحمي الأخلاق بظهره وصدره, يذود عن الديار, لكن أهذا حق فعلا أم يُراد به باطل!!!!
كنت أستمع إليه وأنا أتفحص جريدتي بين يديّ, بصفحتها الثالثة قرأت خبرًا عن دعوى أقامها المحامي الشهير" السعيد صبري" ذلك الذي لا يتوانى عن رفع دعاوى قضائية يوميًا وتقديم بلاغات بالعشرات على فنانين وكُتّاب,
ساءني حديثه, لعلّه بقصد أو دون نكأ جُرحًا كامنًا, ليس لديّ وحدي, بل عند الجميع, فبون شاسع بين أن تعرف وأن تؤمن بما تعرف,أن تعتاد الوضع,أن تُجاهد لتغييره ما استطعت سبيلا.
أدرك جيدًا أنني ممن يتشدّقون بالمعرفة,غير أنهم يخشون التغيير, يرون أن الاقتراب من عتبته رجز يتوجّب التطهّر منه, شردتُ إلى داخلي, لأعماق لم أرد من قبل أن أغوص فيها, لكن بعثت كلمات " خميس" بركانًا تطايرت حممه لأعلى حتى أصابت شظاياه عقلي بمقتل, فوجدتني دون وعي أقول بصوت مسموع: أصبت, أنت صح..
حينها صاح المخبر صيحة عظيمة وهو يُخرج صوتًا مميزًا من أنفه وقال: ليس " السعيد " وحده من يفعل هذا, هم كثيرون بل أنتم كلكم, ثم ختم مرافعته البليغة بكلمة واحدة: الكل أحمق.

ثم راح يتابع بشغف المرأة في عودتها,يُحصي أنفاسها الحارة, يشفق على ثدييها الصاعدين, الهابطين بعنف مع كل خطوة منها. قد علِمَتْ المرأة ما يبغيه الرجل,تُدركَ بخبرتها الحياتية ما يرمي إليه, كما عرف هو أن نظراته الجارحة قد لاقت قبولًا لديها.
وجدتهما يتفقان بأعينهما على صفقة رابحة, حينما انتهى من شغله, التفت إليّ وقال: دعك من " الأهرام", ففي " الجمهورية الجديدة" شفاء وبركة, ثم قفز يعبر بخفة نهر الطريق يتبع آثار " العاهرة "



#محمود_حمدون (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لو رأيتُكِ الآن ..
- لحنُ مميَّز
- ثقب أسود
- دفعة جديدة
- مال قيصر
- ميتا فيرس - وجود وهمي جديد
- محاسبة القرار
- أزمة - رشدي - , قراءة في فقه المسكوت عنه
- قدسية النص وجرأة الخروج عليه


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود حمدون - - تسليم أهالي-