شريف حتاتة
الحوار المتمدن-العدد: 7204 - 2022 / 3 / 28 - 02:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
------------------------------------------------
حلم الطيران
-----------------
السماء من حولى فراغ بنفسجى فاتح ، أترك نفسى للتحليق فى أعماقه . على مسافة بعيدة ألمح نهرا أسمر ينساب ليصب فى زرقة البحر . أضرب بجناحى ضربات سريعة ، متلاحقة . أرتفع فى الجو . جسمى غدا خفيفا ، يعلو ويهبط ، ليحلق من جديد فى يسر . أنطلق على أمواج الهواء دون جهد . تخلصت من جاذبية الأرض ، من القيود التى كانت تكبلنى . أشعر بنشوة منْ أطلق مخزون قدراته ، بسعادة ، ولذة لم أشعر بمثلهما من قبل .
من تحتى يختفى البحر . مكانه أرى جزيرة خضراء كالزمردة الكبيرة تبرق فى الشمس . اتجه إليها . يهبط الليل وأنا سائر . تظهر الكواكب ، والنجوم كالمصابيح المضيئة تشبه كتلا من الثلج . أمد إليها أصابعى لألمسها ، وأظل طائرا فى الفضاء ، حتى أفاجأ بأننى سائر فى شارعنا ، وفى يدى كتاب ، وكيس فيه جرجير وفجل .
هذا الحلم بمختلف تنويعاته ظل يتردد علىّ طوال السنوات .. أقفز من سريرى عندما أصحو منه . أفتح النوافذ تتسلل منها أشعات الشمس . أملأ صدرى حتى آخره بهواء الصباح . أشعر باليوم يمتد أمامى مفعما بالاحتمالات ، بالمجهول ، والاكتشاف ، بالاندهاش . وفى أوقات أخرى يمتد بالضيق .
أسترجع هذا الحلم . أستمد الإقدام والشجاعة ، والخيال الموحى بالتفاؤل منه . فمع الأيام أدركت أن الأحلام نوع من الدليل ، بوصلة توجه خطواتنا ، وتأكدت هذه الفكرة عندما قرأت كتابات العالم النفسانى " يونج " . قد تنبهنا إلى مخاطر لا نعى وجودها ، إلى أفاق لم نسع إلى ارتيادها ، خوفا من القوى التى تقهرنا ، والقيم المتسلطة على حياتنا ، إلى القدرات المدفونة فى أعماقنا لم تنبثق منها بعد ، إلى المكبوت لم يخرج إلى النور لنتخلص منه . فالأحلام خبرة ، وانطباعات ، وأحاسيس مستمدة من حياتنا اختزناها فى أعماقنا ، هى اللاوعى الذى يمكن أن نحوله إلى وعى .
هذه حقيقة أدركها العرافون والدجالون من قبل ، واستغلوها مع الملوك ، والحكام وبسطاء الناس الذين يسعون إلى معرفة المجهول فى حياتهم . ذلك المجهول ، الذى يجعله حلم الطيران ، قابلا للمعلوم ، وخوض التجربة .
فى الفترة الممتدة من 1992 إلى نهاية 1996 قمت بالتدريس مع زوجتى " نوال السعداوى " فى جامعة أمريكية اسمها " ديوك " . المنهج الذى قمنا بتدريسه كان من صنعنا الخاص ، موضوعه العلاقة بين التمرد والإبداع فى حياتنا . فى هذا المنهج كانت قراءات الفصل عبارة عن روايات عربية ، مترجمة إلى الإنجليزية نستقى منها ما نريده . لم نكن نلجأ إلى إلقاء محاضرات . كنا نعتمد على طرح أسئلة تتعلق بالنصوص ، على الحوار ، والمناقشات التى تثيرها هذه الأسئلة وإجابات الطلبة والطالبات . هكذا كانوا يشاركون معنا فى التفكير ، وفى التعبير عن الرأى بدلا من أن يكونوا مجرد متلقين لما نقوله . كنا ننقب عن خزين الإبداع ، والمعرفة الجماعية الموجودة لديهم . لم نكن نتدخل إلا بتوجيه دفة المناقشات فى بعض الأوقات ، لننبه إلى زاوية سقطت منهم ، أو لإبراز العلاقات التى تربط بين الظواهر التى نقوم بدراستها .
كان الحوار حراً ، يتسع للتعبير عن كل ما يخطر على بالهم ، من مسائل عامة أو خاصة حتى لا يتردد أحد منهم فى الإدلاء بما يسعه . ومن بين الأسئلة التى كنا نطرحها سؤال عن أحلامهم خلال اليقظة أو أثناء النوم . فلا حظنا أن أصحاب القدرات الإبداعية المتميزة نسبيا فى الفصل ، كان يتكرر عندهم حلم الطيران ، وإن اختلفت تفاصيله من شخص إلى شخص .
...................................
ضياع شىء ثمين
-------------------
أثناء شهور الصيف ، دعانا أحد أصدقائنا إلى قضاء يوم فى منزله على شاطىء
"سيدى كرير" ، فى الاسكندرية . ونحن جالسين على الشرفة نحتسى الشاى ، دخل صبى من الباب الخارجى . سار فى الحديقة ، وعندما اقترب منا توقف ، وألقى علينا تحية الصباح . دار بينه وبين أصحاب البيت حديث عن شئون الحديقة . تأملته واقفا على السلم ، فارع الجسم ، أسمر اللون بذلك السمار البرونزى الجميل للذين يعيشون على شاطىء البحر . عيناه السوداوان فيهما دفء وعمق ، يغريان على اكتشاف الشخصية الواقفة أمامنا ، يلفت النظر بإشراقه ، بابتسامته تضىء فى الوجه يزحف شعاعها على ملامحه ، وينسكب فى سواد عينيه .
عندما سألناه قال لنا إن أسرته نزحت من " سوهاج " إلى " سيدى كرير" التى ولد هو فيها . إنه يعمل " جناينى " ويساعد أباه فى رعاية عدد من حدائق البيوت المبنية فى القرية . أسرته مكونة من ستة أفراد يساهم فى إعالتها ، لذلك لا يفكر فى الهجرة ، وإن كان يود السفر لرؤية ما هو جديد بالنسبة إليه . ترك المدرسة عند نهاية المرحلة الإبتدائية ، رغم أنه كان يريد مواصلة التعليم ، وذلك حتى يساعد أسرته . ثم سرح فى حزن عميق ، قبل أن يلتفت إلينا من جديد بابتسامة من أسنانه البيض .
أجلسناه على مقعد لنواصل معه الحديث . تدفق فى الكلام كأنه أرتاح إلينا . يرد علينا بهدوء الواثق من نفسه . سنه لم يتعد الاثنتى عشرة سنة قضاها فى القرية الصغيرة ، لكنه يحب البحر والزرع ، والنخيل ، وزهور الحديقة ، وألوان الجهنمية تتسلق الجداران البيض . لا يتابع مسلسلات التليفزيون فلا علاقة لها بحياته . سمع من أبيه أن " عبد الناصر " بنى السد العالى ، وأنصف الفلاحين . يحب أغانى " عبد الحليم حافظ " ، وفى الليل يستمع إلى البرنامج الموسيقى .
سألناه عن أحلامه . قال إنه فى بعض الليالى ، يحلم بأنه نما له جناحان يطير يهما فى السماء فوق شاطئ " سيدى كرير". يحلق فوق القرية كالطائر ، ويرتفع عاليا فتصبح بيوتها صغيرة الحجم .. يجتاز البحر إلى مدينة كبيرة تمتد من تحته . أحيانا يهبط فيها ليجد نفسه سائرا فى شوارعها ، وسط مواكب من الناس والأطفال ، يرقصون على إيقاع الطبل وصوت المزمار فيستيقظ سعيداً .
وأنا استمع إليه تذكرت وجوه الطلبة والطالبات فى جامعة " ديوك " . رأيتهم جالسين فى الفصل على بعد عشرة آلاف ميل من شاطىء البحر الذى نطل عليه . شعرت بمزيج من الدهشة والسعادة إزاء هذا اللحم المشترك الذى جمع بينه ، وبينهم رغم المسافات ، رغم التباين فى الظروف ، والوطن ، والثقافة والتاريخ .
" حلم الطيران " ، فهو حلم إنسانى واحد بالحرية ، بإختراق الحدود ، بإطلاق قدرات الخيال ، والإبداع المكبوتة فينا .
أدركت ونا جالس على مكتبى أخط هذه الكلمات، أنه لم يعد يراودنى هذا الحلم منذ سنوات . تملكنى إحساس بالقلق ، بضياع شىء ثمين لابد من البحث عن وسيلة لاسترجاعه. تراءت أمامى صورة طائر أسمر يحلق فوق زرقة البحر ، وينطلق باحثا عن مدينة تزحف فيها المواكب نحو أفق جديد على صوت المزمار ، والطبل .
..............................
كانت فى " شاتيلا "
----------------------
امرأة نحيلة ، تلف وجهها الشاحب بحجاب أبيض ، وترتدى جلبابا أزرق فيه خطوط سوداء رفيعة . يدها المعروقة تشد على فتحة الجلباب بعصبية مكبوتة . تحكى عن ذلك اليوم فى شهر سبتمبر سنة 1982 . كان سنها إذ ذاك ستة عشر عاما .
كانت جالسة مع أسرتها المكونة من عشرة أفراد فى البيت . انضم إليهم ثلاثة من الزوار ، فازدحم البناء الصغير المقام فى حارة من حارات مخيم اللاجئين بالناس .
استغرقوا فى الحديث عن مشاكل حياتهم . لم يكن أحد منهم يعرف أنه فى اللحظة نفسها كان الجنرال " شارون " ، وزير الدفاع الإسرائيلى ، ومهندس الهجوم على
" لبنان " ليس بعيدا . كان يتفق مع قيادات ميليشيا الكتائب على فتح الطريق أمامهم للدخول فى معسكرات " صبرا " و " شاتيلا " حيث يوجد اللاجئون من " فلسطين " . ادعوا أنه فى داخل المعسكر يختفى ألفان من المقاتلين المسلحين ، رغم رحيل عشرة آلاف منهم قبلها بأسابيع . وفى ليلة 16 سبتمبر اقتحم رجال الكتائب المعسكر بعد أن حاصرته القوات الإسرائيلية وأضاءته بالمشاعل الصاروخية المنطلقة فى السماء ، حتى ينكشف أمامهم ، مما يسهل المهمة التى قدموا لتنفيذها .
تنبه الجالسون إلى وجود ضجيج خارج البيت . فخرجت منه جارتهم الحامل مع أخيها الصغير الذى كان سنه تسع سنوات لتستكشف الأمر . أطلق الرصاص عليهما وسقطا قتيلين على الفور . أقتحم رجال الميليشيا البيت ، وأوقفوا الجميع عند أحد الجدران ، ثم دار حوار بينهم حول ما هى الطريقة الأفضل للتخلص من الأشخاص الموجودين فيه . هل يتم قتلهم داخل البيت أم خارجة ؟ . أثناء حالة التردد التى سادت أخذ القرار ، رفع أحد المسلحين مدفعه الرشاش وأطلق عليهم النيران . تقول الراوية التى كانت تحمل أختها الصغيرة ذات العمر الذى لم يتجاوز ستة شهور : " أحسست بشىء على جسمى ، فلما التفت إليه وجدت أن مخ أختى الصغيرة ينزلق فوق ذراعى ". سقطت على الأرض ، وحاولت أن تزحف نحو أمها وهى تصرخ مستغيثة . أطلقوا عليها النار مرة أخرى فصمتت تماما .
تحكى بعد ذلك ، أنها انهارت بدورها على الأرض بعد أن أصابتها رصاصتان إحداهما فى الكتف ، والأخرى عند المرفق ، فتصنعت الموت إلى أن غادر رجال الكتائب البيت ، ثم أخذت تزحف بين أفراد الأسرة لتتفقد حالتهم . أحست أن أمها وأختها مازالتا تتحركان بحركة بسيطة . أختها " سعاد " التى كانت تكبرها بسنة ، كان جسمها ينزف بغزارة ، وكانت عاجزة عن الحركة . بعد قليل اندفعت حاملة أمها إلى الخارج . لكن الحوارى كانت مزدحمة بأجسام الناس المثخنة بالجراح . كان أغلبهم من النساء ، ترقدن وأثوابهن مرفوعة إلى أعلى ، مما يدل على أنهن خضعن لعمليات اغتصاب .
تضيف : " أثناء التجول عثرنا على أعز صديقاتى معلقة من السقف بواسطة خطافين غرسا فى ثدييها . بعد أن خرجت من المعسكر منعنى الجنود الإسرائيليون من العودة إليه لأبحث عن أختى ، فظللت محاطة بالجثث لمدة ثلاثة أيام وعندما عثرنا عليها كانت فاقدة العقل . عاجزة عن السير " .
استمرت المذابح لمدة ثلاثة أيام ، قتل أثناءها ما يزيد عن ألفى رجل ، وامرأة ، وطفل. تتساءل : " ترى لو عاش إخواتى ماذا كانوا سيفعلون فى حياتهم " . ثم تضيف :
" كل حكام إسرائيل متشابهون . " باراك " أو غيره " . ثم يرتعد جسمها وهى تقول :
" لكن " شارون " أفظعهم " .
هذه القصة روتها امرأة فلسطينية أفلتت من مجزرة " صبرا وشاتيلا " .
تسألون عن اسمها . اسمها " نهاد سرور " .
------------------------------------------------------------------------
من كتاب " يوميات رحالة مصرى " 2008
-------------------------------------------------------
#شريف_حتاتة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟