أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - مظهر محمد صالح - النقود الملكية الحمراء














المزيد.....

النقود الملكية الحمراء


مظهر محمد صالح

الحوار المتمدن-العدد: 7165 - 2022 / 2 / 17 - 21:45
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


ظلت رياح خريف العام 1932 دافئة لاتمتلك في تقلباتها سوى تلك الاوراق الصفراء الجافة الخالية من اللون والوفاء وربما الايمان .وظل شقاء ذلك المعلم الذي تسلق تجمعا سكانياً قرويا في اعالي الفرات في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي ينتظر مصدر عيشه الذي انقطعت سبله منذ اشهر عديدة ،وهو آسف البال ويؤدي خدمات تعليمية جليلة لسكان قرى وقصبات بقيت تغفو بسلام على اخاديد الفرات الاعلى في زروع زينت وديانها و روابيها .ولكن ظل جميع الدائنين وهم من اهل القرى ينتظرون مجيء راتب معلمنا الذي تقطع وصوله منذ امد ليس بالقصير وهو يكابد بنفسه غصة آلامه التي قوامها اسف البال والجيب والحال.
وعلى الرغم من كثرة المدينين من سكان القرية ممن اقترض منهم معلمنا ليسد رمق عيشه بانتظار مصدر رزقه ،فلم يفقده الامل عذوبة وصفاء لحظات سرت الى مسامعه جاءت باصوات شخص ينادي من الضفة الاخرى من الفرات قائلا له ايها الشاب المعلم : وصلك بالبرد الملكي كيسين من قطع النقود وهي المتراكم من معاشات عملك التي لم تدفع طوال الاشهر الماضية. هنا ترامت الى اذان جميع من في القرية من بعيد نتف من اخبار مفرحة تؤشر ان معلمنا قد استعاد انفاسه وطاب عيشه وان روافع القرية المالية ستعمل بفاعلية اعلى بعد ان اصابها شي من الركود والخذلان .
مرت دقائق معدودات حتى خرج رجلان من زورقهما الخشبي الذي اصطف على ساحل النهر وهما مثقلان بكيسين من قماش حملاهما على صدرهما معبئين بقطع نقدية معدنية حمراء شديدة اللمعان من فئة الفلس الملكي الواحد .
تهامست القرية باهلها جميعا ان نظاما نقديا جديدا قد ولجته الدولة العراقية باصدار دينار ملكي كبديل للعملة الربية الهندية وان كل نقد آخر سوى الدينار هو باطل.
مضي يوم جميل انغمس فيه الجميع في جدال حول طبيعة النظام النقدي الملكي الجديد وفئات عملته وبدى الشك يساورهم بالقطعة المعدنية الحمراء وهي الوحيدة التي تغلغلت الى تعاملات قريتهم ذلك بين الرفض والقبول ثم انحدر الجميع في مساء غائم انتهى برفضهم قبول ذلك الفلس الاحمر في تسوية مديونيتهم تجاه معلمهم الوحيد .فكان الرافض الاول لقبول عملة الفلس هو القصاب الذي صعب عليه التحول من بقايا الربية الهندية وكسورها ليقبل بالفلس الجديد الذي صار يشكل واحد من الف من الدينار و يعادل في الوقت نفسه الباون الاسترليني البريطاني . تلاشت يومها احلام معلمنا بعد ان رفضت القرية بقضها وقضيضها قبول التعاطي بالفلس الاحمر وتحول الجميع من فورهم الى اشباح خاوية حينما عزموا التخلي عن قبول النظام النقدي الجديد باصغر فئاته وهو الفلس الملكي الاحمر. صمت الرجل وحبس انفاسه ووهن من شدة حزنه وتلاشت احلامه الجميلة بعد ان سكب في اذنيه صوت الهزيمة الذي خلا من كل النبرات الا نبرة تبشره بحصاد سالب قوامه رفض قبول تسديد ديونه المتراكمة بعملة من معدن احمر لامع تعادل قيمته اللاشي في تلك اللحظات .
قام معلمنا من فوره بتوزيع اكياسه المحملة بالفلاسين الحمراء الملكية الى فقراء القرية ليبشرهم ان نظاما نقديا جديدا سيكون مقبولا بقوة القانون ولكن انتظروا ايها المساكين حتى الربيع القادم بعد ان ان يمضي خريفنا هذا بذكريات قوامها فلس احمر مرفوض.
هنا تذكر الرجل من فوره معاناة والده الذي كان موظفا حكومياً في الادارة العثمانية المتاخرة قبل اقل من عقدين من ذلك التاريخ وتعرض لحادث مماثل جراء تبدل النظام النقدي العثماني( يوم كانت الليرة العثمانية الوحدة معادلة لـ (7.247) غرام من الذهب الخالص، او ما يعادل (4.40) دولار امريكي ذهبي .واثر اعلان الحرب العالمية الاولى اتخذت الدولة العثمانية اجراءات استثنائية بغية تمويل احتياجاتها العسكرية، فأصدرت اوراقاً نقدية لاستعمالها بدلاً عن الليرة الذهبية والنقود الفضية وهو تمويل عاجل للموازنة العثمانية بالتضخم ).
سكت معلمنا في سره هنيهة وتذكر حيرة والده الذي كان موظفا حكوميا في قرى وقصبات الضفة اليمنى المقابلة من اعالي الفرات حين امتنع السكان يومها قبول (الليرة العثمانية الورقية ) التي جاءت براتب والده كبديل الى الليرة الذهبية…متذكراً كيف خرج العراق كسائر اجزاء الدولة العثمانية عن قاعدة الذهب ،وكانت نهايات النظام النقدي للدولة العثمانية قد تمثلت برفض العراقيين ولاسيما في الارياف التعاطي (بالليرة الورقية العثمانية الخالية من الذهب ).تنفس معلمنا الصعداء وهو يقارن بين زمنين متباعدين متماثلين احدهما يوم رفضت قريته قبول التعاطي باصغر وحدة نقدية وهي ( الفلس الملكي الاحمر ) وهم سكان الطرف الايسر من الفرات ،مقابل ،رفض اهل القرى في عهد والده قبول الليرة العثمانية الورقية (بعد تبدل النظام النقدي العثماني )وهم سكان الطرف الايمن المقابل من النهر نفسه.
التحمت هموم الابن مع اباه كموظفين حكوميين عملا في ازمنة حكومية مختلفة واجهتهما محنة عنوانها تبدل النظم النقدية التي فرضتها ظروف الحرب العالمية الاولى ونتائجها على رقعة جغرافية ثابتة لم تتبدل تضاريسها ومناخاتها وطبيعة سكانها .
ختاماً، ليس امام معلمنا وقت ذاك الا ان يتطلع الى آلهة النقود التي ظلت مغتربة في ظلام معبدها الرافديني العلوي وهي تنظر الى عالم نقودي متبدل لامعنى له في نظر رواد وكهنة معبدها .
(( انتهى))



#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعويضات حرب الكويت: مسار داكن في التاريخ الاقتصادي للعراق.
- قراءة إنسانية في قلم المفكر عقيل الخزعلي
- رباعية الفكر الرافديني
- موديل الدولة المشرقية :العراق انموذجاً.
- الحرس الدستوري الجديد في العراق
- تجربتي العملية مع الراحل د. سنان الشبيبي
- المفكر كاظم حبيب : حوارات في ذاكرة الضمير.
- التناثر الديمقراطي والاغتراب الرأسمالي .
- الذاكرة مدينة لاتنام في العصر الرقمي.
- الخصومة في جدل البنية الفوقية السياسية:العراق انموذجاً.
- شهداء خالدون ( الدكتور صفاء الحافظ )
- الخطاب في الاجتماع السياسي في العراق : حوار الحكماء.
- اليسار واليمين : تأملات في رؤى عراقية معاصرة.
- الإنسان رواية
- وعاء الخوص السومري
- هموم العقل العراقي.
- الواقعية في الفكر العراقي المعاصر: شجون وتأملات .
- ومضات في محراب سيد الاحرار.
- الطرق الناعم على جدران العصر الرقمي.
- عندما تفر الجند ببطونها ....!


المزيد.....




- بآلاف الدولارات.. شاهد لصوصًا يقتحمون متجرًا ويسرقون دراجات ...
- الكشف عن صورة معدلة للملكة البريطانية الراحلة مع أحفادها.. م ...
- -أكسيوس-: أطراف مفاوضات هدنة غزة عرضوا بعض التنازلات
- عاصفة رعدية قوية تضرب محافظة المثنى في العراق (فيديو)
- هل للعلكة الخالية من السكر فوائد؟
- لحظات مرعبة.. تمساح يقبض بفكيه على خبير زواحف في جنوب إفريقي ...
- اشتيه: لا نقبل أي وجود أجنبي على أرض غزة
- ماسك يكشف عن مخدّر يتعاطاه لـ-تعزيز الصحة العقلية والتخلص من ...
- Lenovo تطلق حاسبا مميزا للمصممين ومحبي الألعاب الإلكترونية
- -غلوبال تايمز-: تهنئة شي لبوتين تؤكد ثقة الصين بروسيا ونهجها ...


المزيد.....

- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح
- حزب العمل الشيوعي في سوريا: تاريخ سياسي حافل (1 من 2) / جوزيف ضاهر
- بوصلة الصراع في سورية السلطة- الشارع- المعارضة القسم الأول / محمد شيخ أحمد
- تشظي الهوية السورية بين ثالوث الاستبداد والفساد والعنف الهمج ... / محمد شيخ أحمد
- في المنفى، وفي الوطن والعالم، والكتابة / ياسين الحاج صالح


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - مظهر محمد صالح - النقود الملكية الحمراء