أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - رياض عبد - مقدمة في الداروينية وعلم النفس التطوري















المزيد.....

مقدمة في الداروينية وعلم النفس التطوري


رياض عبد

الحوار المتمدن-العدد: 7123 - 2022 / 1 / 1 - 06:16
المحور: الطب , والعلوم
    


لقد مضت أكثر من 161 سنة على نشر كتاب أصل الأنواع والذي سبب ثورة في فهمنا للعلوم الحياتية بحيث أصبحت نظرية التطور لدارون (و كذلك والاس الذي إكتشف الإنتخاب الطبيعي في نفس الوقت وبشكل مستقل تماماً) حجر الزاوية والأساس الذي تستند اليه علوم البايولوجيا , أي أساس فهمنا لكافة الكائنات الحية على كوكب الأرض بما فيها الإنسان.

ومن الضروري أن أشير هنا الى أن في حين أن نظرية التطور بالإنتخاب الطبيعي تعطي تفسيراً ممتازاً لنشوء الأنواع الإ انها لا تفسر بداية ظهور الحياة على وجه الأرض والتي بدأت قبل حوالي ثلاثة ونصف مليار سنة. ولكن ما أن بدأت بوادر الحياة الأولى والتي هي على الأغلب بدأت كجزيئات معقدة لها القدرة على إستنساخ نفسها حتى دخل الإنتخاب الطبيعي على الخط وأصبحت أي صفة تساعد على التكاثر تنتشر مقارنة بغيرها. ويبدو أن الحياة بدأت مرة واحدة على كوكبنا وفي ظروف خاصة ومعينة أو انها بدأت أكثر من مرة ولكن كانت محاولات فاشلة سرعان ما إضمحلت وإنتهت دون أن تترك أثراً. فجميع الكائنات الحية التي تعيش على الأرض اليوم تعود الى سلف مشترك. وأجد من الطريف أحياناً أن البعض الذي يدعي القبول بالداروينية ولكن يرفض أن يكون للإنسان سلف مشترك مع القرود إذ يعتبر ذلك إهانة للإنسان وهو لا يعي أن الموضوع أخطر وأدهى من ذلك بكثير فنظرية دارون تشير أن للإنسان أصل مشترك مع دودة الأرض والذباب ومع الفطريات والبكتريا التي تسبب الكوليرا الخ الخ يعني القرود رحمة مقارنة مع غيرها. كذلك لاحظت في مناقشات مع المؤمنين الذين يرفضون التطور أن البعض يستهزئ بفرضية أن الحياة بدأت بداية طبيعية بدعوى إستحالة ظهورالخلية الأحادية بتعقيداتها هكذا مرة واحدة. وأنا أتفق معهم في ذلك وعلى حد علمي فإنه لا يوجد عالم طبيعي دارويني يقول بهذا فلابد أن الكائنات أحادية الخلية نشأت من تركيبات أبسط بكثير وكما ذكرت فإن بدايات الحياة كانت على الأغلب عبارة عن جزيئات إكتسبت القدرة على أستنساخ نفسها. وعلينا أن نتذكر أن الأرض تكونت قبل أكثر من أربعة ونصف مليار سنة لكن الحياة بأبسط أشكالها لم تظهر الا بعد مليار سنة من ذلك. يعني في الألف مليون سنة الأولى بعد تكون كوكب الأرض لم يكن هناك أي شكل من أشكال الحياة التي نفهمها اليوم. وبعد نشوء الحياة التي بدأت على شكل كائنات أحادية الخلية بسيطة نسبياً وبدون نواة التي تعرف بالبروكاريوت كالبكتريا وثم ظهرت الخلايا الأكثر تعقيداً ذات النواة (والتي يعتقد أنها تكونت من إندماج خليتين بدائيتين) والتي تعرف باليوكاريوت بعد حوالي ألف مليون سنة من ظهور الخلايا البدائية. ولم تنشأ الكائنات المتعددة الخلايا الا قبل حوالي 600 مليون سنة. وذلك يعني أنه خلال ال 4 الاف مليون سنة الأولى من وجود الأرض إقتصرت أشكال الحياة على وجه الأرض على الكائنات المجهرية أحادية الخلية. وأعود الى موقف المؤمنين المستهزئين على مقولة ظهور الخلية الأولى بالصدفة (وهم على حق في ذلك) فهم في نفس الوقت الذي يتخذون موقفاً عقلانياً في رفضهم لظهور كائنات ذات الخلية واحدة هكذا مرة واحدة فإنهم يصدقون ظهور آدم وحواء وجميع أنواع الحيوانات والنباتات والكائنات الحية الأخرى هكذا مرة واحدة من العدم ولا يجدون أي إشكالية في هذا السيناريو الإعجازي الخارق.

وفي رأيي أن نظرية التطور بالإنتخاب الطبيعي تعتبر حداً فاصلاً في تاريخ العلوم والفكر البشري. لذا فأن ما بعد ظهور نظرية دارون ليس كما قبلها والذي يعتقد بغير ذلك فإنه برأيي لم يفهم بعد حقيقة هذه النظرية أو تبعاتها. فالداروينية قدمت لأول مرة في تاريخ البشرية تفسيراً طبيعياً وعلمياً لوجود تركيبات غاية في التعقيد في أجسام الكائنات الحية لا يتضمن أي نوع من المعجزات أو القصص الماورائية. فالداروينية تقول أن بإمكان عملية تدريجية عمياء تستند على أن كل خطوة تعطي الكائن الحي قدرة تنافسية في البقاء والتكاثر مقارنة بغيرها بإمكانها أن تنتج تصميماً غاية في التعقيد وحتى في الجمال. أي أن بإمكان هذه العملية التي لا هدف لها والتي أسماها دارون بالإنتخاب الطبيعي أن تؤدي بعد الاف او ملايين الأجيال الى ما وصفه الفيلسوف الدارويني الأمريكي الشهير دانيال دينيت بظاهرة التصميم من غير مصمم (وهذا مفهوم غاية في الأهمية) أو الى ظاهرة القدرة بدون الإدراك. فقبل تبلور نظرية التطور بالإنتخاب الطبيعي لم يكن هناك بديل للتفسيرات الإعجازية الماورائية لوجود الكائنات الحية أو لتفسير حقيقة وجود تصميم واضح وجلي في الكائنات الحية التي نراها حولنا. لكن كل هذا تغير بشكل كامل بعد ذلك وهذا شكل ألأساس ليس فقط في ثورة في علوم الحياة بل كذلك تعداها الى ثورة في النظر الى الوجود ومعنى الحياة ومكان الإنسان في الكون وغيرها من الأسئلة الكبرى التي أشغلت العلماء والمفكرين وغيرهم لآلاف السنين.

والملاحظ أن العرب والمسلمين هم أقل شعوب الأرض معرفة بنظرية التطور وأقلها دراسة لها وبحثاً فيها حتى أن هناك أقسام للعلوم الحياتية في الكثير من البلدان الإسلامية لا وجود فيها لأي أبحاث أو حتى تدريس لنظرية التطور ناهيك عن نشر أبحاث علمية عنها. ومن الممكن أن نناقش أسباب هذا الإهمال أو الجهل المتعمد لهذه النظرية العلمية في فترة المناقشة إن كان هناك إهتمام بهذه الظاهرة الغريبة.

ومن المثير للإهتمام وعلى العكس من الكثير من النظريات العلمية الحديثة التي أرست دعائم الثورة العلمية الحديثة كالنظرية النسبية لأينشتاين ونظرية فيزياء الكم والتي يصعب فهمها على الشخص العادي أو غير المختص وذلك لإستنادها على الرياضيات المتقدمة الغاية في التعقيد فإن نظرية دارون لنشوء الأنواع بواسطة الإنتخاب الطبيعي هي نظرية بسيطة بإمكان أي شخص أن يفهمها إذا ما بذل جهداً بسيطاً من أجل ذلك. ولكن الغريب أن الكثيرين لازالوا يسيئون فهم هذه النظرية أو أذا فهموا أسسها فإنهم غالباً ما يجهلون تبعاتها وأهميتها.

فجوهر نظرية التطور بواسطة الإنتخاب الطبيعي هي أن الصفات التي تشجع أو تساعد على التكاثر سوف تزداد وتنتشر بالمقارنة مع منافساتها أي الصفات البديلة لها. وهذا يعني بإن الجينات المسببة للصفات الناجحة سوف تنتشر في الأجيال المستقبلية على حساب تلك التي هي أقل نجاحاً. وبعد مرور أجيال متعددة (تعد بالآلاف) تؤدي هذه العملية الى تراكم التغيرات في الأجيال اللاحقة بشكل تدريجي والتي من الممكن أن يؤدي الى ظهور صنف أو نوع جديد من الكائنات الحية يختلف عن السلف شكلا وسلوكاَ وأحياناَ يختلف الصنف الجديد بشكل جذري وتام عن سلفه.

ومع أن دارون لم يكن يعلم بكيفية إنتقال الصفات من السلف الى الخلف حيث أن الجينات وال دي أن أي لم يكن قد إكتشفت بعد (والحقيقة هي أن إكتشاف قوانين الوراثة من قبل غريغور مندل بقيت غير معروفة لأكثر من 35 سنة بعد نشرها ولم ينتبه العالم لإكتشافات مندل الا بعد سنين من وفاته) فإن نظرية دارون قد تم إثباتها في القرن العشرين بعد نشوء علم الجينات الذي وضح كيفية انتقال الصفات من جيل الى جيل. وبعد إكتشاف ال دي أن أي تم إثبات حدس دارون بإن الإنسان نشأ في قارة أفريقيا وأن أقرب الكائنات الى الإنسان هي القرود العظيمة التي يعيش معظمها في أفريقيا الى يومنا هذا. وقد كان هذا الحدس حدساً عبقرياً ومذهلاً بإمتياز فقد أثبتت دراسات ال دي أن أي بما لا يقبل الشك أن أقرب الكائنات الحية على الإطلاق الى البشر هي فصيلة الشمبانزي التي نشترك معها بما يقرب من 98٪ من الجينات أو ال دي أن أي وإن البشر يشتركون مع الشمبانزي بسلف مشترك عاش قبل حوالي 7 ملايين سنة (كذلك بفضل دراسات ال دي أن أي نعرف أن السلف المشترك بين البشر والغوريلا عاش قبل حواي 10 ملايين سنة).

وخلال العقود الستة الأخيرة تسارعت الإكتشافات حتى أننا نعرف اليوم أنه خلال السبعة ملايين سنة التي تفصلنا عن سلفنا المشترك مع الشمبانزي ظهرت أكثر من 10-15 فصيل بشري بعضها كان أكثر شبهاً بالقرود منها بالبشر الذين يعيشون اليوم. لكن منذ مليونين ونصف سنة ظهرت عائلة الهومو والذي كان بدايتها ال هومو هابيليس وثم هومو إريكتس الذي إستمر لأكثر من مليون سنة والذي تطور عنها النياندرثال والدنيسوفان وبشكل منفصل تطورت وظهرت فصيلة الهومو سابينس والتي هي الفصيلة التي ننتمي لها جميعاً وكذا جميع البشر الذين يعيشون على كوكب الأرض اليوم. أي أن البشر الموجودون على كوكبنا اليوم بكافة أشكالهم ينتمون الى نفس الفصيلة وهي الهومو سابينس.
والفرق المهم بين الهومو وما قبلها هي في المشي على ساقين بشكل دائم ونمو حجم الدماغ الى أكثر من ضعف حجمه عند الشمبانزي (حوالي 950 سي سي). ونمو الدماغ هذا إستمر في فصائل النياندرثال (حواي 1400 سي سي) وفصيل السابينس الذي ننتمي اليه (1250 سي سي).

والحقيقة أن خريطة السلالات التي أعقبت إنفصال البشر عن الشمبانزي هي في حالة تغير مستمر بفعل الإكتشافات الأثرية لعلماء المتحجرات وكذلك لعلماء الجينات المتحجرة (وهو علم جديد نشأ في العقدين الماضيين والآن بالإمكان تحليل ودراسة ال دي أن أي للبقايا المتحجرة من العظام وإكتشاف ما إذا كانت لصنوف بشرية مكتشفة أو جديدة وغير معروفة سابقاً). ولكن تبقى حقيقة واحدة يتم تأكيدها وإثباتها بشكل متكرر وهي أن التطور من صنف أو فصيل الى آخر هو قانون الحياة الذي ينطبق على الجميع بما فيه البشر. ومن الأدلة الدامغة على هذه الحقيقة هو أن البحث في كافة العلوم الحياتية من بايولوجيا الى علوم الجينات الى علوم الحفريات الى علوم الأنثروبولوجيا جميعها تشير الى ذات الشيء وهو حقيقة التطور.

إذن ما هي بعض الدروس المهمة التي من الممكن أن نستخلصها من فهمنا للداروينية؟ أن أهم درس هو أن من الممكن إعطاء تفسير علمي وغير إعجازي ولا ما ورائي لوجود الكائنات الحية بما فيها الإنسان. كذلك نعي بإن لا شيء يأتي من العدم وأن لكل كائن وفصيل بما فيه الإنسان تاريخ وبداية طبيعية غير إعجازية من الممكن دراستها والبحث فيها وفهمها بإستخدام الطرق العلمية حصراً. وكون أن الكائنات الحية لها تاريخ طبيعي خالص يستند على إنتخاب صفات ساعدت على البقاء والتكاثر في سابق الأجيال يعني أن الظروف التي واجهت الكائن الحي في الماضي سوف تكون المفتاح لفهم الكثير من صفات هذا الكائن التي نشاهدها اليوم وهذا ينطبق على الصفات الجسدية وكذلك على الصفات السلوكية والسايكولوجية. وهذا ينطبق كذلك على فهم الإنسان. أي أن بعد ظهور نظرية دارون أصبح بالإمكان دراسة الإنسان بذات الطرق العلمية التي ندرس فيها الكائنات الأخرى فالتطور جعل الإنسان جزء من الطبيعة وليس خارجها أو بكلمات أخرى أن الداروينية جعلت تاريخ الإنسان كله تاريخاً أرضياً خالصاً وألغت أي دور أسطوري للسماء في هذا التاريخ.

وقد لخص العالم الهولندي نيكولاس تنبرغن الحائز على جائزة نوبل لسنة 1973 أهمية الداروينية في فهم أي ظاهرة حياتية عندما إقترح بإنه ينبغي على أي باحث أن يأخذ بنظر الإعتبار 4 أنواع من المسببات لفهم أي ظاهرة أحيائية. والمسببات هي: اولاً الوظيفة التي يؤديها العضو أو التركيب للكائن (في السلالات الماضية وفي الوقت الحاضر) ثانيا المراحل التكوينية للعضو أو التركيب التي نشأت أثناء حياة الكائن ثالثاً المراحل التطورية التي صاحبت تكون التركيب أو العضو في السلالات الماضية وكذلك في الكائنات الأخرى الشبيهة ورابعاً فهم كيفية عمل العضو أو التركيب من فسلجة وكيمياء حياتية وغيرها. والواضح أن دراسة هذه المسببات الأربعة والتي تعرف بأسئلة تنبرغن الأربعة لا يمكن فهمها أو سبر أغوارها دون فهم الداروينية.

إذن إذا أخذنا موقفاً داروينياً لفهم صفات الإنسان سوف نتمكن من أن طرح أسئلة تتعلق بوظيفة هذه الصفة في الماضي والتي ساعدت حاملها على البقاء والتكاثر ، كيف تطورت في السلالات الماضية و كيف نشأت أثناء حياة الفرد وأخيراً ما هي الأسس العضوية الكيميائية والجينية وغيرها لتكون هذه الصفات. ولنأخذ مثال لون البشرة. فبعد إنفصال البشر عن الشمبانزي حصلت تغيرات تدريجية ومهمة في السلالات ما فبل البشرية من ضمنها كما أسلفت المشي على ساقين وترك المعيشة في الأشجار والخروج الى السهول المغطاة بالحشائش العالية والتي تعرف بالسافانا في أفريقيا وتصاحب هذا مع فقدان شعر الجسم ونشوء الغدد العرقية (وكلاهما يساعدان على فقدان الحرارة وتبريد الجسم) و تغير لون البشرة من لون فاتح كما هو حال الشمبانزي اليوم الى داكن. ولماذا أصبح لون البشرة داكناً؟ السبب هو أن المشي على ساقين مكن أسلاف البشر من الركض لمسافات طويلة لممارسة الصيد التعاوني والذي لزم فقدان شعر الجسم للتبريد كما أسلفت مما جعل البشرة البيضاء مكشوفة لأشعة الشمس الحارقة وهذا ما يؤدي الى حروق والى مخاطر سرطان الجلد. لذا فإن تغير الجلد الى اللون الداكن بفعل صبغة الميلانين هو عبارة عن حماية للجلد من هذه المخاطر. وهذه الصبغة تطورت بفعل طفرات جينية حصلت بعد إنفصال السلالات البشرية عن الشمبانزي. وسوف تلاحظون أن هذا التفسير يتضمن على الأقل 3 من أسئلة تنبرغن الأربعة. وقد أثبتت الدراسات أن أسلافنا جميعاً الذين خرجوا من أفريقيا كانوا داكني البشرة وأنه إستمر الحال كذلك الى قبل نحو 10 الاف سنة. فلون البشرة الداكن له سلبيات عند المعيشة في مناطق تقل فيها أشعة الشمس (في مناطق خطوط العرض المرتفعة مثلاً) وذلك لتسببها في نقص حاد في فيتامين دي الذي يؤدي الى تشوه العظام وعدم نموها بشكل طبيعي. وبسبب ذلك نجد أن تغيراً وراثياً قد حصل بشكل منفصل في منطقتين من العالم وهي في شمال غرب أوربا وفي شمال شرق آسيا وكلاهما من مناطق خطوط العرض المرتفعة والتي أدت الى تغير لون البشرة من الداكن الى الفاتح. وهذا التغير تم بطفرات وراثية مختلفة لكن أدت الى ذات النتيجة وهي تحول لون البشرة من الداكن الى الفاتح. إذن لاحظوا أن تغيراً حصل في لون البشرة عند مجموعتين بشريتين متباعدتين (واحدة في أقصى غرب أوربا والأخرى في أقصى شرق آسيا) وبتغير جيني مختلف وبطريقة الطفرة العشوائية ثم الإنتخاب الطبيعي وكل هذا لكي يتمكن ذوو البشرة البيضاء أن يصنعوا ما يكفي من فيتامين دي في ظروف إنخفاض كمية أشعة الشمس المتوفرة من أجل نمو العظام بشكل صحي وسليم. وهذا يعني أنه ليس هناك لون مثالي للبشرة عند الإنسان: فقط لون يصلح لبيئة معينة وظروف معينة. لذا نجد أن ذوي البشرة الداكنة معرضين لنقص الفيتامين دي عند المعيشة في البلدان الباردة وأن ذوي البشرة البيضاء تحصل لهم مشاكل كثيرة عند المعيشة في البلدان الإستوائية ولذلك نلاحظ أن الأستراليين من أصل أوربي شمالي هم أكثر البشر عرضة لسرطان الجلد في العالم. وهناك بعض الإستثناءات لهذه الظاهرة من الممكن أن نتحدث عنها فيما بعد.

وسوف أختم ببعض الملاحظات حول التطور وسايكولوجية الإنسان. فكما هو حال الصفات الجسدية فإن التحليل الدارويني للصفات النفسية والسلوكية تتم بطرح نفس الأسئلة الأربعة. وفي البداية من الضروري أن نسأل ما هي التحديات المتكررة التي واجهت سلالات البشر الماضية في البقاء والتكاثر في موطن نشوء وتطور البشرية في أفريقيا؟ وما الذي نعرفه عن ظروف معيشة السلالات البشرية وما قبل البشرية والتي من الممكن أن تكون قد شكلت الأساس للإنتخاب الطبيعي لبلورة صفات سلوكية ونفسية ميزت الإنسان عن الأسلاف غير البشرية؟
الذي نعرفه هو أن الإنسان بعد نزوله من السكن في الأشجار وخروجه الى المعيشة في المساحات المفتوحة كان من الضروري أن يدرأ عن نفسه مخاطر الحيوانات المفترسة وكذلك مخاطر العنف من قبل الجماعات البشرية المنافسة والعدائية. وهذه المخاطر عموماً هي شبيهة بالمخاطر التي تواجهها أصناف الكائنات الأخرى ولذا سوف نتوقع أن يكون هناك شبه في التركيبة السايكولوجية بينها وبين الإنسان كالشعور بالخوف في ظروف معينة وأن يكون هناك شبهاً في التركيبات العصبية والهرمونية بين الإنسان والكثير من الكائنات في جهاز الخوف والأمان وهذا بالتأكيد ما نجده فعلاً. لكن نجد عند الإنسان ما هو أكثر من ذلك فنجد أن غريزة الخوف قد تتفاقم لديه حتى تصبح مشكلة القلق مشكلة دائمة لا تنحصر فقط في أوقات الخطر وإنما تتعداها الى أوقات الأمان وهذا من الأعراض الجانبية على ما يبدو لأزدياد القدرة العقلية والفكرية عند البشر (والتي مكنت البشر من تحسين قدرتهم على التنبؤ بالمستقبل مقارنة بإصناف الحيوانات الأخرى) وهذه القدرة تجعل البعض يظل يجتر سيناريوهات الخطورة دون داعي أو فائدة وهذا بالطبع من مضار ومشاكل القلق المزمن وهي مشكلة شائعة جداً عند البشر. كذلك سوف نتوقع أن يكون جهاز الخوف لدى الإنسان قابل للتحفيز أكثر من الحاجة وذلك لفائدة هذا الجهاز للوقاية من مخاطر البيئة وبعض الأحيان يصبح هذا التحفيز عالة على الفرد بدلاً من أن يكون مفيداً. لكن لاحظوا أن الأسلاف الذين كان لديهم جهاز خوف كفوء تمكنوا من البقاء والتكاثر أكثر من الذين كانوا لامبالين وتعرضوا للإفتراس. وجهاز الخوف لدى الإنسان لا زالت فيه بصمات بيئة الإنسان البدائية فعلى سبيل المثال فإن غالبية البشر لديهم خوف مرضي أو فوبيا من الأفاعي (وهي الفوبيا الأكثر شيوعاً في العالم) حتى لو كانوا يعيشون في بيئة تفتقد للأفاعي في حين أن حالات الخوف المرضي أو الفوبيا من السيارات السريعة أو أسلاك التيار الكهربائي (والتي هي مخترعات حديثة لم تكن موجودة في بيئة الإنسان الأصلية) نادرة مع أنها تسبب الموت لأعداد أكبر مما لا يقاس في ظروف الحياة الحديثة.
وبالإمكان التوسع في الحديث عن خصائص نفسية وسلوكية كثيرة أخرى من وجهة نظر داروينية لكن لا أريد أن أطيل هنا أكثر من هذا على امل تناول جوانب أخرى في مقالات قادمة.



#رياض_عبد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ثورة تشرين الشبابية العراقية: جذورها والى أين؟
- مناقشة في الداروينية والطب ونشوء الإنسان
- الدولة الريعية وإشكالية النموذج الإجتماعي: العراق مثالاً
- الداروينية ونشوء الإنسان (2)
- الداروينية ونشوء الإنسان
- الدين والفكر العلمي: توافق أم تعارض؟
- الطائفية والسياسة العربية
- الطب ونظرية داروين ومقولة الكمال في الخليقة
- داعش والفقه والآثار
- المسلمون والكيل بمكيالين
- سايكولوجية الإرهاب
- هل للمقاومة مواصفات؟
- كره الأجنبي والبلادة السياسية
- الإرهاب و-مظلوميّة- المسلمين


المزيد.....




- إزاي تتغلب على نوبة الهلع المفاجئة.. مارس الهوايات واهتم بلق ...
- لو بتلعب يوجا.. اعرف الأطعمة الصحية لتناولها قبل الجلسة وبعد ...
- ليست كل الكتل سرطانية: 8 من كل 10 فى الثدي تكون حميدة.. اعرف ...
- تقنية حديثة تقيس شدّة الزلازل على القمر بدقة غير مسبوقة
- هل يسبب تناول السكر مرض السكري؟
- 6 نصائح للصيام فى شهر شوال بطريقة صحية
- 5 علامات تشير إلى ارتفاع هرمون الاستروجين
- اعرف أسباب نزيف السرة عند الطفل حديث الولادة .. طبيب متخصص ي ...
- زوجة البحار الروسي في طاقم السفينة المحتجزة لدى طهران تتحدث ...
- كيف تفاعل رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع الهجوم الإيراني عل ...


المزيد.....

- المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B / أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
- ‫-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط ... / هيثم الفقى
- بعض الحقائق العلمية الحديثة / جواد بشارة
- هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟ / مصعب قاسم عزاوي
- المادة البيضاء والمرض / عاهد جمعة الخطيب
- بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت ... / عاهد جمعة الخطيب
- المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض / عاهد جمعة الخطيب
- الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين / عاهد جمعة الخطيب
- دور المايكروبات في المناعة الذاتية / عاهد جمعة الخطيب
- الماركسية وأزمة البيولوجيا المُعاصرة / مالك ابوعليا


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الطب , والعلوم - رياض عبد - مقدمة في الداروينية وعلم النفس التطوري