أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - سعيد العليمى - إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا )















المزيد.....



إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا )


سعيد العليمى

الحوار المتمدن-العدد: 7117 - 2021 / 12 / 25 - 02:27
المحور: في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
    


ترجمة سعيد العليمى
فــــهـــــرس

- تقديم

- مدخل

1- الفصل الأول حول إعادة البناء الحاجة لإعادة البناء، معنى إعادة البناء ، التوترات فى فكر ماركس وإنجلز

2- الفصل الثانى التفسير الأرثوذكسى الجدل والمادية الجدلية ، الوعى والإنعكاس ، أولوية قوى الإنتاج ، الضرورة التاريخية

3- الفصل الثالث نقد المادية التاريخية مشاكل المادية الجدلية،الوعى والبناء الفوقى ، مضمون قوى الإنتاج ، التاريخ كنمو لقوى الإنتاج

4 – الفصل الرابع بعض عناصر إعادة بناء المادية التاريخية المادية التاريخية والممارسة الإنسانية ، طابع ونطاق المادية التاريخية ، الممارسة وحل التوترات فى فكر ماركس ، المعتقدات الأساسية لمادية تاريخية أعيد بناؤها .

المراجع

قائمة

تقديم بقلم : إبراهيم فتحى
إعادة بناء المادية التاريخية قد يعنى عند القائلين بها تحريرها من النزعة الإختزالية الإقتصادية التبسيطية التى سادت الحركة الماركسية عددا من العقود ، نزعة تقدم كل الظواهر الاجتماعية والسياسية والايديولوجية والقانونية والجمالية والنفسية باعتبارها يمكن إرجاعها الى القاعدة الإقتصادية . ولكن ماركس إعتاد ان ينفى عن نفسه الاتصاف بهذه الماركسية : " كل مااعرفه هو اننى لست ماركسيا " فى مواجهة تيار ينسب نفسه للماركسية فى فرنسا ويحول التصور المادى التاريخى الى قالب تبسيطى اختزالى يقوم على قوانين شديدة التجريد والاطلاق ، ووضع ماركس بذلك حدا فاصلا بين ماركسيته و" ماركسية " هؤلاء الاصدقاء الخطرين . ويكرر ماركس ثانية العبارة نفسها رافضا ان يكون " ماركسيا " على غرار " ماركسية " الحزب الاشتراكى الديموقراطى الالمانى التى تزعم انها تقوم على مذهب علمى امبريقي خالص وليس فلسفيا ، وترتكز على الحركة الواقعية للطبقة العاملة ، على حين ان علمية ماركسيتها الكاذبة ليست الا تكيفا مع العلاقات الراسمالية ، وان علاقتها بالطبقة العاملة تقف عند حدود الجوانب الاصلاحية البيروقراطية فى الممارسة التلقائية . كما ان انجلز الشيخ عارض شباب الحزب اصحاب الاتجاه الاقتصادى الارثوذكسى ( خطاب الى بلوخ فى 21 سبتمبر 1890 وعبارة ماركس التى ذكرها انجلز " كل مااعرفه هو اننى لست ماركسيا " لايستنتج منها ان ماركس رفض من حيث المبدأ ان اعماله تنشئ نسقا نظريا يقوم على المفهوم المادى للتاريخ ، مفهوم ان قوى الانتاج وفق شروط الملكية ، اى علاقات الانتاج هى العامل المحدد فى التنظيم السياسي وفى التمثيل الثقافى لفترة زمنية . والمادية التاريخية هى المادية الجدلية مطبقة على تحليل الحياة الاجتماعية ، وليس معنى ذلك ان موضوعات المادية التاريخية يمكن الوصول اليها عن طريق منطقى محض مستمد من المبادئ العامة للمادية الجدلية . فإقحام المادية فى التاريخ يتطلب حساب الخصائص النوعية للمجتمع ، وتميزها عن الاشكال الاخرى لحركة المادة ، ولكشف الوسائل المادية للحياة الاجتماعية والقوانين العامة ، والقوى المحركة لتطور المجتمع الانسانى ، وتثور اسئلة هى ماالمجتمع ؟ كيف يتطور، ولماذا يتطور ، وماسبب تقدمه من عصر الى آخر ، واين تقع جذور تحيزاته الرئيسية وماهى نوعيتها . ان الماركسية ( المادية التاريخية ) فى نظريتها الاجتماعية تطرح وتقدم اجابة ، كما تقدم الدليل العلمى على كل من هذه الاسئلة ، وتدحض وجهة النظر التأملية الحدسية للنظرة المثالية للتاريخ ، وستثبت وتقدم الاجابة المادية الجدلية لسؤال الفلسفة الاساسى سؤال علاقة الوجود الاجتماعى بالوعى الاجتماعى ، وحجر الاساس للمادية التاريخية ارساه ماركس فى مقدمة اسهام فى نقد الاقتصاد السياسي وهو نمط انتاج الحياة المادية الذى يشرط العملية العامة للحياة الاجتماعية والسياسية والعقلية . فليس وعى الناس هو الذى يحدد وجودهم ولكنه وجودهم الاجتماعى الذى يحدد وعيهم . وكانت اجابة مادية متسقة عن السؤال الاساسى للفلسفة فى تطبيقه على المعرفة الاجتماعية هى التى مكنت ماركس من ان يرى الاساس الموضوعى للتاريخ ، والمجتمع باعتباره انعكاسا لواقع الحياة فى الوعى الاجتماعى . وترى المادية التاريخية المجتمع باعتباره واقعا موجودا موضوعيا ، باعتباره مجمل علاقات وشروط الحياة الانسانية المشتركة ، نظاما فريدا حيا يتطور وفقا لقوانينه الخاصة الجوهرية التى لايمكن اختزالها الى قوانين طبيعية او مستمدة من الحالة الروحية للفترة ، من الوعى الجمعى وتدحض وجهة النظر الاجتماعية الماركسية اى تفسير مثالى او اية نزعة ارادية . ولكن الآن هل يوجد فى اذهان الجماهير اى مثال منجز ، اى نموذج حى لمرجع قائم للاشتراكية ، هل الاتحاد السوفييتى ومنظومته سابقا ، وحاليا الصين وكوريا الشمالية وفييتنام وكوبا يصلح اى منها نموذجا موحدا للاشتراكية ، هل تكافح الطبقة العاملة فى البلاد الراسمالية المتقدمة من اجل ان تقيم فى بلادها انظمة كهذه ؟ وبالتالى تكتشف القوانين التى لاتتعلق بارادة ووعى الناس وانما تقوم بتحديدهما . ان المادية الجدلية والمادية التاريخية متكاملتان فلايمكن وضع نظرية مادية جدلية عن المجتمع ككل اذا لم يتوفر تفسير مادى للحياة الاجتماعية ، اذا لم يكن قد اكتشف ان المجتمع ايضا شكل لحركة المادة وخاضع فى تطبيقه لقوانين موضوعية مادية كقوانين الطبيعة ، والمادية الجدلية غير ممكنة بدون المادية التاريخية لأن الاجابة العلمية الصحيحة عن المسألة الاساسية فى الفلسفة حول اولية المادة وثانوية الوعى غير ممكنة بدون توضيح سبب ظهور الوعى الانسانى وكيفيته . والدور الذى لعبه فى ذلك التطبيق العملى للاعداد التاريخى للناس ، اذ الاجابة عن هذا السؤال تقدمها المادية التاريخية وحدها ، فالمادية الجدلية والمادية التاريخية مترابطتان عضويا . ولدى دراسة الظواهر الاجتماعية لايمكن اللجوء الى التجربة فى الظروف المختبرية الاصطناعية كما هى الحال بالنسبة للعلوم الطبيعية فلا المجهر ولا التفاعلات يمكنهما ان يساعدا ، لذا فالقدرة على التجريد تتمتع باهمية فائقة فى بحث الظواهر الاجتماعية فى التفكير النظرى وفى الحياة الاجتماعية . وللمادية التاريخية كأى علم آخر مقولاتها الجامعة ، مفاهيمها الاساسية التى تعكس جوانب جوهرية معينة من المجتمع ، ولذلك فان مقولات العلوم الطبيعية لايمكن استخدامها من اجل تفسير الحياة الاجتماعية مقولات الكيمياء والفيزياء والبيولوجيا ، كما ان مفاهيم المادية الجدلية نفسها تعجز عن ذلك دون ان تطبقها على المجتمع ودون ان تملأها نوعيا بالمحتوى الاجتماعى. ويلاحظ ان التغيير اى الكمية والكيفية تبرز فى المجتمع بشكل عمليات تدريجية وثورية اى بشكل اصلاحات وثورات ، وثمة مقولات اخرى فى المادية التاريخية تعكس جوانب الحياة الخاصة ببعض التشكيلات وحدها ولها اهمية جوهرية من اجل فهم تطورها ( مثلا الطبقات ،الدولة ، السياسة ، الحق . ) ولايجوز جعل مقولات المادية التاريخية مطلقة او معالجتها كحقائق نهائية خالدة ، بل علينا ان ننظر اليها باعتبارها تعبر عن نسبية معارفنا ، وهى خيط يقود الى المعرفة يساعدنا على تصور الواقع العيانى بمجموعه وبجوانبه المختلفة ، والمادية التاريخية اكتشفها لأول مرة كل من ماركس وانجلز . فما هى الاسباب التى كانت تشترط امكان وضرورة ظهورها ؟ وللاجابة عن هذا السؤال علينا ان نلتفت الى ظروف العصر التاريخية الموضوعية التى وجدت فيها ، لقد كان انقسام المجتمع قبل ذلك العصر الى فئات يفصل بينها حواجزصارمة يغطى ويحجب التقسيم الطبقى الاساسي للمجتمع ، وكان النضال الطبقى يسير تحت راية الدين ممازاد فى صعوبة فهم دوافعه الحقيقية . اما الراسمالية فقد حطمت هذا التمايز ، وتلك الحواجز وصار الانقسام الطبقى للمجتمع اكثر وضوحا انقسام المجتمع الى طبقتين اساسيتين : البورجوازية والبروليتاريا ، واحتل الصراع بينهما مكان الصدارة فى الحياة الاجتماعية . ولذا فالرأسمالية اذ احدثت انقلابا فى ظروف الحياة فقد خلقت المنطلقات الموضوعية من اجل النفاذ الى جوهر العملية التاريخية ومعرفة قوانينها ، وكان استخدام الامكانات الجديدة من اجل معرفة العملية التاريخية وخلق علم حقيقى صحيح عن المجتمع فى مقدور المثقفين الذين يتبنون ايديولوجية البروليتاريا وهى الطبقة التى من مصلحتها المعرفة العلمية لقوانين التطور الاجتماعى . وبظهور الانتاج الراسمالى وبتطور النضال الطبقى للبروليتاريا توفرت الامكانية لضرورة ظهور الفهم العلمى للتاريخ . وتتجلى عبقرية ماركس فى انه وسع تطبيق المادية لتشمل فهم التاريخ واكتشاف قوانين تطور المجتمع . والمادية التاريخية علم متحزب يعبر عن مصالح البروليتاريا ونضالها الطبقى الموجه لتحرير المجتمع من الاستغلال ومن الملكية الخاصة .... ولكن حزبية المادية التاريخية تتميز بشكل جذرى عن حزبية علم الاجتماع البورجوازى التى تخدم مصالح اقلية ضئيلة وتخفى التناقض الطبقى فى المجتمع الرأسمالى دون موضوعية وتسلك طريق تزوير الواقع على العكس من حزبية المادية التاريخية التى تنسجم مع مهمة المعرفة العلمية للعلاقات الاجتماعية الموضوعية . وليس معنى ذلك ان ماركس لم يخطئ فى بعض تقديراته التاريخية التفصيلية . فقد اخطأ فى تقديره ان آسيا ظل نمطها الانتاجى جامدا لايعرف التطور كما كان شائعا نقلا عن هيجل ايامها . والحقيقة ان الصين كانت اكثر تطورا فى بعض العهود من اوروبا . ويعتبر بتلهايم ان نصوص الماركسية هى ترابط متناقض من الصيغ والتحليلات بعضها ثورى المضمون وكذلك مايترتب عليها من استنتاجات وبعضها الآخر تعبيرات انتقالية مؤقتة فى فكر ماركس وانجلز ولاتشكل جزءا من الماركسية الثورية المرتبطة بالتحويل الاجتماعى . وصدق نظرية ماركس الاجتماعية والاقتصادية يتعلق باعتبارها كلا ، وفى عمومها لا على مجرد صدق جزء او آخر من اجزائها او من صياغتها . ولنأخذ قول لينين عن الماركسية " انها كلية الجبروت لانها صحيحة وهى كاملة ومتسقة وتعطى الناس مفهوما منسجما عن العالم " ولنقارنها بقول لينين نفسه " نحن لانعتبر النظرية الماركسية شيئا اكتمل ولايمكن المساس بها او انتهاك حرمتها ، بل على العكس نحن مقتنعون انها ارست فحسب حجر الاساس للعلم الذى يجب على الاشتراكيين ان يطوروه فى كل الاتجاهات " . ولايوجد فى الحقيقة تناقض الا فى الصياغة بين العبارتين فهناك مستويات للاكتمال ، ولكن الصياغة المختلفة قد ادت فيما بعد اما الى موقف تلمودى جامد ، واما الى موقف يزعم انه لايوجد فى الماركسية الا حجر الاساس وهى بلا بناء . وكانت المعالجة النظرية سمة مميزة لنضال ماركس العملى منذ البداية . ويصل ماركس الى مفهوم للعلم لعب دورا خطيرا عند "الماركسيين" الوضعيين فى التحليل المثالى للملابسات التى تحث او تدفع المواطنين الى افعال من نوع معين يمكن القيام به باليقين نفسه تقريبا الذى يحدد به الكيميائى تشكل مواد معينة فى اى شروط خارجية مركبا كيميائيا . ان كيمياء التفاعل ليست استعارة موفقة للكشف عن آليات الفعل الانسانى والقوانين الاجتماعية . ولاتقول الماركسية بتقدم خطى تطورى غائى لابد ان يحل التناقضات متجها نحو الاشتراكية . ( ولايجئ ذلك فى كتابات ماركس الا من زاوية الخط العام للحركة العمالية العالمية فى المدى الطويل – حينما نموت جميعا ، ونتيجة لتراكم طويل لصراع طبقة مهزومة وطبقة منتصرة وعبر صعود وهبوط ، وصراع ميول وميول مضادة ) فلسنا امام نظرية نهاية التاريخ ، فالمجتمع الذى يخلف الراسمالية هو بداية التاريخ الانسانى الحق ، وله تناقضات تدفعه للامام ليست هى التناحرات بين الطبقات ، ولن يكون فرعا من الفردوس ، وتجسيدا لمستقبل ذهبى يزول فيه كل اغتراب كما يحدد الاه التاريخ ونبيه الامين كارل ماركس ، لاشئ من ذلك فالماركسية لاتقول بأن الصراع لابد ان يحل الى الافضل ، فقد يصير صراعا مقيما فيه تدمر الاطراف المتناحرة بعضها بعضا ، وقد تتأخر الثورة وتتبرجز الطبقة العاملة لاجيال ، بل ان عبارة ان الراسمالية تجدد نفسها ولاتعيش الا بتجديد نفسها هى عبارة ماركس فى البيان الشيوعى وليست عبارة فؤاد مرسى . ومن يقرأ ماركس يرى عشرات المسارات التى يمكن ان يأخذها التنظيم الرأسمالى للمجتمع فى حالة هزيمة الثورة او تعثرها او اخفاقها . ولكن افق الامكانات مفتوح امام الانسانية . فنمط الانتاج الراسمالى مأزوم ، يحكم بالجوع على كثرة من البشرية ويحكم بالاغتراب والللاعقلانية على الذوات البشرية وكأنه قد صمم على تأكيد نبوءات كارل ماركس . ومامن احد يستطيع ان يزعم انه يعرف المصير المنقوش فى اللوح المحفوظ . كما ان نمط حياة الماركسية كان دائما هو الازمة هو الصراع الفكرى هو التناقض بين النظرية العامة والنظرية بعد ان تصبح قوة مادية تعتنقها جماهير محددة فى زمن محدد . والتناقض بين النظرية العامة والنظرية بعد ان تصبح " دولة " ذات مبان واجهزة ومصالح منفصلة عن الذين يدار الحكم باسمهم وفقا لمبدأ التفويض والتمثيل او الابعاد ... وستظل الازمة مستمرة تنتقل من مستوى الى مستوى اعلى .
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------



إ











مقدمة
بالرغم مما قد يبدو من أن هابرماس هو أول من شرع فى إعادة بناء المادية التاريخية، فإن كثيرين قبله وبعده قد انشغلوا بمشاريع طمحت لإعادة البناء . ومع ذلك فليس ثمة مفهوم متفق عليه عما تعنيه إعادة البناء ولا كيف يمكن النهوض بها . فلكل مؤلف مفهومه الظاهر والمضمر لإعادة البناء التى يتم تبرير الحاجة إليها بطرق مختلفة .
وعلى أية حال ، يمكن أن نميز تمييزا عريضا بين نمطين من المقاربة . فقد اقترح ألتوسير فى فرنسا وكون فى إنجلترا تفسيرات نسقية للمادية التاريخية ، تشترك- بالرغم من الاختلافات الواسعة وقلة التقدير المتبادل بين كل منهما- فى الاهتمام بصياغات دقيقة وعلمية انطلاقا من أن القوة التفسيرية للمادية التاريخية تعود إلي أن الأفعال الانسانية والصراعات الطبقية والتغير والتطور الاجتماعى, إنما تنشأ عن عوامل بنيوية يمكن تحديدها بدقة .
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى، فقد صاغ كل من فليشر فى ألمانيا وسارتر فى فرنسا مفهوما مختلفا لإعادة البناء، أقل اهتماما بالدقة العلمية و بالأسباب المحددة بنيويا , وأكثر اهتماما بالحاجة إلى إعادة تشكيل المادية التاريخية كنظرية للممارسة. بمعنى أنه بالرغم من أن التغير الاجتماعى والتطور التاريخى مشروطان بعوامل بنيوية فإنهما ينبغى أن يفسرا فى النهاية كنتاجات للممارسة الانسانية والصراعات الطبقية التى ليست حتمية الحدوث دائما .
وتسود المقاربة الأولى إلى حد كبير داخل العالم الناطق باللغة الانجليزية. إذ لا يقارن تأثير فليشر، ولا سارتر، ولا حتى هابرماس بذلك التأثير الواسع الذى مارسه ألتوسير أولا وكون لاحقا، على الدراسات الماركسية فى الحقل الثقافى الأنجلو- ساكسونى.
على أننى لا أتفق مع هذه النوعية من إعادة بناء المادية التاريخية , لأننى، بصفة عامة، أتصور إعادة البناء بالمعنى الثانى . وإن كان ذلك لا يعنى أننى أتفق تماما مع الطريقة التى نهض بها فليشر وسارتر بمشروعيهما.
وعلى ذلك فليس هدفى هو أن أتدخل فى هذا الجدال إلى جانب نظرية الممارسة، بل أن أقدم مفهوما مختلفا لإعادة البناء يتسم- دون تبنى ماركسية عقائدية أرثوذكسية- بأنه أكثر حساسية للانقطاعات والثغرات التى يمكن أن توجد فى فكر ماركس وانجلز وإلى الحاجة لحلها.
وهناك أسباب تجعل الحلول التى يتم التوصل إليها فى إطار نظرية للممارسة أقل تحددية من تلك التى تنتج عن النظر من خلال العوامل البنيوية فقط . فتعريف العلاقات البنيوية على أنها , ببساطة, ترتيبات متزامنة لعناصر معطاة سلفا، يجعلها ، هى والمصالح المرتبطة بالأوضاع الناشئة عنها، قابلة للتحديد الدقيق . بينما تعريف النشاطات السياسية العملية للطبقات المناضلة بأنها سلسلة من الأحداث المتعاقبة والتى- وإن كانت مشروطة -لا يمكن التنبؤ بها على نحو دقيق من خلال العلاقات البنيوية ؛ يجعلها لا تقبل التحديد الدقيق ويجعل نتائجها غير مؤكدة .
وربما كان ذلك, هو مصدر الميل إلي تحويل العلاقات البنيوية والمصالح المحددة بنيويا- والتى هى مجرد شروط ضرورية للتغير- إلى أسباب مفسرة كافية، وإلي اختزال الممارسات- التى هى الأسباب الحقيقية للتغير- إلى مجرد نتائج محددة سلفا.
ولكن علينا أن نقاوم هذا الإغراء . وإذا كان من الصحيح أن القوة التفسيرية للصراع الطبقى محدودة ، من حيث أنها، كما اقترح كون، لا تقول لنا لماذا تنجح الطبقة الناجحة, فإنه من الصحيح أيضا وبنفس القدر أن القوة التفسيرية للعوامل البنيوية قاصرة أيضا ,لأنها لا يمكن أن تضمن أن الطبقة التى ينبغى أن تنجح سوف تنجح بالفعل . ولعل الاعتراف بهذه الحقيقة هو فى مركز مشروعى لإعادة البناء. ويمكن القول عموما بأن هذا الكتاب لا يهدف إلى ِأن يكون مدخلا سهلا ومنهجيا للأفكار الأساسية للمادية التاريخية، لكنه قد يساعد القارئ غير المتعمق على أن يتبين الموضوعات المتضمنة فيها. ذلك أنه على الرغم من أن مناقشتى لا تتطلب معرفة متخصصة بالماركسية، إلا أنها تفترض توفر معلومات عامة عن المادية التاريخية وتعريفاتها الأساسية. وقد عرضت وجهة نظرى فى أربعة فصول:
فى الفصل الأول حاولت إبراز الحاجة لإعادة بناء المادية التاريخية ودرست بشكل نقدى مفاهيم متعددة عن إعادة البناء . ثم قدمت مفهومى الخاص عن إعادة البناء فى صلته بتعيين بعض التوترات فى أربع نطاقات نوعية فى فكر ماركس وإنجلز.
وفى الفصل الثانى وصفت الطريقة التى تم بها حل الثغرات القائمة في الترابطات الداخلية فى نظرية ماركس وإنجلز من قبل الجيل الثانى من الماركسيين, وكيف تشكلت طبعة أرثوذكسية وعقائدية نتيجة لذلك.
بينما حاولت فى الفصل الثالث القيام بالمهمة المزدوجة وهى انتقاد الحلول الارثوذكسية من ناحية، وتقييم الحجج التى يثيرها النقاد غير الماركسيين ضد المادية التاريخية من ناحية أخرى.
أما الفصل الرابع فهو يجمع الخيوط السابقة جميعا ويحاول أن يقدم بعض عناصر إعادة البناء المؤسسة على نظرية الممارسة. فقدعرضت فيه عناصر نظرية الممارسة، ثم قمت ببحث الوضع النظرى ونطاق المادية التاريخية، وأخيرا حاولت أن أبين كيف يمكن لهذه العناصر أن تسهم فى حل التوترات القائمة فى فكر ماركس وإنجلز بمعنى مختلف عن الحلول الارثوذكسية .

وغنى عن البيان, أننى لا أدعى أنى وجدت كل الإجابات ولا أنني بحثت علي نحو تفصيلي التضمينات الكاملة لإعادة البناء المقترحة من جانبى . ومع ذلك سأكون قد حققت هدفى إذا ما انتهى القارئ إلى أن الأسئلة التى أثرتها والإجابات الأولية التى قدمتها تصب فى الاتجاه الصحيح وتشكل حافزا لمزيد من البحث والمناقشة.

الفصل الأول
حول إعادة االبناء
الحاجة إلى إعادة البناء

تتضمن أية محاولة لإعادة بناء المادية التاريخية إفتراضا مزدوجا : أولا، أنها نظرية ذات قيمة ومازال بإمكانها أن تقدم إسهامات هامة لكل من العلوم الاجتماعية والممارسة السياسية. ثانيا، أن هناك أسبابا معينة تعلل كون صيغتها الراهنة ليست مرضية وتتطلب فحصا دقيقا. والافتراض الأول لايؤخذ ببساطة كأمر مسلم به ، خاصة فى العالم الناطق بالإنجليزية . فقد اتهم كثير من النقاد الماركسية بصفة عامة والمادية التاريخية بصفة خاصة بالتشوش، والغموض، والافتقار للدقة ، والتعمية، والضبابية، والتناقض، وما إلى ذلك ( انظر عرضا لتلك الانتقادات عند ماك مورترى، 1978، ص ص 18-3). ومع ذلك فحتى أكثر النقاد قسوة يقرون بتأثيرها الهام والواسع : " ان ما تتمتع به الماركسية من تأثير هام فى العالم المعاصر يجعلنا فى غير حاجة إلى الاعتذار عن محاولة فهمها وتقييمها" (أكتون، 1955، ص1).
وعلي ذلك فالسؤال الذى يثار إذن هو: لماذا يظل بإمكان مثل هذه النظرية رغم مزاعم تشوشها وتذبذبها المفهومى أن تكون ذات تأثير شديد فى كل من المجالين السياسى والأكاديمى . يبدو الوضع بمثابة مفارقة لدى معظم نقاد الماركسية ، ولكن لا ينبغى أن يظل كذلك بالنسبة للماركسيين غير العقائديين المستعدين للإقرار بأن مستويات الدقة التى إستخدمت تقليديا داخل الماركسية لم تكن رفيعة جدا.
وربما وجدنا تفسيرا لتلك المسألة فى مبدأ التحدد الاجتماعى للمعرفة. إذ لا يمكن لنظرية أن تحيا بشكل خالص على أساس قوة باطنية مفترضة مستمدة من تماسكها الداخلى واستدلالتها الدقيقة. فلو كان التماسك والدقة يكفيان، لحظيت الميتافيزيقا المدرسية بشعبية واسعة. ذلك أن النظرية تحيا وتمارس تأثيرا بقدر ما تدخل وتصبح ذات معنى فى ممارسة الأجيال الجديدة (أنظر كوسيك، 1976،ص ص 86-77، ولارين،1983،ص ص 203-197). كذلك فما أود التدليل عليه هنا هو أن التطور المستمر للماركسية وأهميتها مرتبط بمغزاها بالنسبة للأشكال المعاصرة للممارسة.
لقد ذهب بيرى أندرسون إلي أن الخصيصة الرئيسية للماركسية الغربية (التى تطورت بصفة أساسية فى ألمانيا ، وإيطاليا، وفرنسا) كانت، " انفصالها البنيوى"، عن الممارسة السياسية، وعزلتها عن حركة الطبقة العاملة. فالماركسية الغربية هى نتاج لإخفاق وهزبمة نضال الطبقة العاملة من أجل الإشتراكية الذى أفضى إلى إنزياح النظرية الماركسية عن الأحزاب السياسية الثورية إلى الجامعات . وقد أثر هذا الانفصال بين النظرية والممارسة على مضمون الماركسية حتى أن المناقشات عن القوانين الاقتصادية للرأسمالية والإستراتيجيات السياسية الاشتراكية اختفت تقريبا وحل محلها خطاب فلسفى يركز خاصة على المشاكل المنهجية والأيديولوجية (أنظر أندرسون، 1979aص ص 24-48). والفكرة هنا هى أن الماركسية الغربية تنجح كنظرية لأنها تخفق كمشروع سياسي (أنظر أيضا ماركوس، 1983، ص 101).
ومن الصعب إنكار العناصر الأساسية لتحليل أندرسون النافذ : ذلك أن هزيمة الحركات الاشتراكية بعد الثورة الروسية، والطابع الفلسفى للماركسية الغربية وهجرتها الى مراكز البحث وأقسام الجامعة, كلها حقائق واقعة. ومع ذلك فالطريقة التى يبرهن بها أندرسون علي قضيته تطرح مشاكل خطيرة للنظرية الماركسية. إذ يبدو هنا ربما دون قصد ، أن الصلة بين النظرية والممارسة التى هى فى مركز التحدد الاجتماعى للمعرفة لا تنطبق على تطور الماركسية ذاتها. وهكذا فإن واحدة من المعتقدات الأساسية للمادية التاريخية وهى ربط التطورات الثقافية بأشكال الممارسة الاجتماعية تبدو مدحوضة من قبل الماركسية الغربية ذاتها .
وما أريد أن أدلل عليه هنا هو أنه ليس من الممكن تفسير طابع الماركسية الغربية من خلال التأكيد ببساطة على انفصالها الظاهرى عن الممارسة. فما يكمن وراء تطور الماركسية الغربية ليس هو انفصال النظرية عن الممارسة وإنما بالأحرى وجود شكل نوعى للصلة مع الممارسة. صحيح أننا قد لا نرى هذه العلاقة بسهولة أحيانا. بل وصحيح أيضا أن ماركس عند تحليل الفلسفة الألمانية كان واعيا بمثل هذه الإمكانية , مما جعله يتحدث عن "الاستقلال الظاهرى للنظريين الألمان فى علاقتهم مع الطبقة الوسطى - والذى تمثل فى التناقض الظاهر بين الشكل الذى يعبر به هؤلاء النظريين عن مصالح الطبقة الوسطى وبين هذه المصالح ذاتها "(الأيديولوجية الألمانية، ص 195) . إذ يكتشف ماركس تحت هذا الانفصال الظاهرى علاقة مع الممارسة ذات بعدين . فمن ناحية هناك صلة مباشرة بين النظرية وبين الممارسة المحدودة للطبقة التى تمثلها بالفعل . حيث نجد ارادة كانط الطيبة تتفق تماما مع عجز، ووهن، وبؤس البورجوازيين الألمان (الأيديولوجيا الألمانية، ص 193) . ومن ناحية أخرى هناك صلة بين النظرية وبين الممارسة الناجحة لطبقات أجنبية مشابهة تناضل فى ظل ظروف مختلفة. وهكذا فإن كانط وهيجل ينظران ويطوران الانجازات العملية للبورجوازيتين الإنجليزية والفرنسية من خلال تحويل تلك الإنجازات إلي "أفكار خالصة" و "أفكار مجردة".
ويبدو لى أن هذا هو مفتاح فهم تطور الماركسية الغربية . فهى من ناحية نتاج الممارسة المتقلقلة لحركة الطبقة العاملة التى لم تكن قادرة على تحدى الوضع القائم جذريا والتى انحصرت ، لحد ما، فى صراعات جزئية وإنقسامية تم حلها ضمن إطار دولة الرفاهية. وبطبيعة الحال , فمثل هذه الممارسة لا تعتبر ثورية, ولكنها مع ذلك شكل للممارسة. ويتوافق مع هذه الممارسة اهتمام الماركسية الغربية باكتشاف الملامح الأيديولوجية والثقافية التى سمحت للمجتمعات الرأسمالية بأن تغوى وتدمج الحركة العمالية . ويعود لهذا الواقع العملى ايضا اهتمامها بالبحث النظرى عن مفهوم للدولة لا يجعل منها موضوعا للهجوم المباشر بحيث يمنح الاشتراكية مساحة ما للفعالية .
ومن ناحية أخري , ترتبط الماركسية الغربية بنجاح الممارسة الثورية للطبقة العاملة فى روسيا أولا، وفى عديد من بلدان العالم الثالث فيما بعد. وهذا جانب يقلل بيرى أندرسون من قيمته. لقد مارست الثورة الروسية نفوذا قويا ,على الأقل حتى الحرب العالمية الثانية. ومنذ ذلك الحين اقترنت عملية التحرر من الاستعمار والنضالات المناهضة للإمبريالية بموجة حركات الطبقة العاملة الراديكالية فى الصين، وكوبا، وأنجولا، وشيلى، وموزامبيق، ونيكاراجوا، إلخ.... ، وشكلت مصدرا نفيسا للخبرة والأفكار الجديدة للماركسية الغربية. ومن المهم ادراك أن الماركسية الأوروبية اليوم، مثل الفلسفة الألمانية فى الماضى، مازالت- إلى حد معين- تناقش وتنظر وتطور , علي مستوي الفكر، الانجازات الثورية للطبقات العاملة غير الأوروبية. تعزز هذه السيرورة العملية المطردة لازمنية الماركسية الأكاديمية وملاءمتها في نفس الوقت لأوروبا؛ بينما تتحدى المحدودية العملية لنشاط الطبقات العاملة قدرتها على الإبداع لتطوير أفكار جديدة واستراتيجيات أكثر ملاءمة للمجتمعات الرأسمالية المتقدمة . مع ذلك وفى نفس الوقت تكمن هذه الظروف العملية وراء المحدودية الواضحة للماركسية الغربية، والتى تتمثل فى ميلها للتجريد وإلى تصور تطورها النظرى الخاص كما لو كان عملية مستقلة بذاتها. بهذا المعنى فإنه من الصحيح القول مع أندرسون بأن الماركسية الغربية تتوافق مع عجز الطبقات العاملة الأوروبية. لكن ذلك لم يكن بسبب أنها تكونت بمعزل عن ممارساتها, إنما بسبب أن تلك الممارسة , ظلت, إلي حد ما , محدودة. وهذه الصلة المحدودة تتيح لنا أن نفهم لماذا لا تستطيع الماركسية الغربية أن تحل نظريا التناقضات التى لم تكن الطبقات العاملة الأوروبية قادرة على حلها فى الممارسة .
ويبدو ان أندرسون يولى فى كتاب صدر مؤخرا (1983) اهتماما أكثر لهذه العلاقة حيث يحاول أن يفسر الإستنزاف الظاهر والأزمة التي تعاني منها الماركسية الأوروبية اللاتينية (الفرنسية، الإيطالية، الأسبانية) فى نهاية السبعينات. يلاحظ اندرسون مقارنة بحالة الازدهار التي شهدتها الماركسية فى البلدان الناطقة بالانجليزية، أن ثمة أفولا متزايدا فى المجتمعات الأوروبية اللاتينية التى كانت فيها مزدهرة من قبل . لذلك لم يعد يؤكد كثيرا على فكرة "الانفصال البنيوى" عن الممارسة لكى يفسر هذه الأزمة بل راح يشدد على ما يسميه، "تفسيرا خارجيا" (1983،ص 56). فعند تحليل العوامل المسؤولة عن الأزمة يستخدم ضمنيا الأبعاد الداخلية والخارجية للصلة العملية التى ذكرتها: وهكذا يرى أن انهيار الماركسية الأوروبية اللاتينية يرتبط بإخفاقات الثورة الثقافية الصينية والشيوعية الأوروبية، وهما تجربتان مركزيتان أوهمتا بتجاوز نواقص التجربة السوفيتية (أندرسون، 1983، ص 76).
على أن أندرسون عند تفسيره لازدهار الماركسية فى العالم الناطق بالانجليزية لا يقدم أسبابا مقنعة بنفس الدرجة، بل يعود مرة أخرى للعوامل الداخلية فى التطور الثقافى لهذا التقليد. ويذكر من بينها عنصرا يعتبره شديد الأهمية هو ظهور التأريخ (historiography) الماركسى، وهو الحقل الذى تفوق فيه دائما ممارسوا النظرية من الناطقين بالانجليزية، و يضيف إلي ذلك عنصرا آخر هو القدرة على مقاومة العزلة والعداء السياسى، وهى القدرة الناتجة عن "مادية تاريخية ذات عقل أرسخ وأكثر دقة" (أندرسون، 1983،ص 77). ويبدو لى أن حماس أندرسون تجاه قوة وحيوية الماركسية فى العالم الناطق بالانجليزية يتطلب بعض التخصيص. فالحدود العملية التى تكمن وراء ازدهارها تتشابه مع تلك التى تؤثر على الماركسية الأوروبية اللاتينية، إن لم تكن حتى أسوأ. وإن كان من الصحيح أن العقبات العملية قد تمت معاينتها بطريقة مختلفة. فسبب ذلك إنما يعود إلي الغياب الراهن لأحزاب شيوعية جماهيرية فى المناطق الناطقة بالانجليزية والألمانية. فصعود وسقوط الحركات الشيوعية الأوروبية أثر فقط على الماركسية الأوروبية اللاتينية حيث شعرت بالأزمة على نحو أكثر عمقا. مع ذلك كانت الماركسية الأوروبية اللاتينية تحاول مع كل نواقصها أن تتشبث بالمسائل التى لها صلة عملية بحركات طبقات عاملة قوية نسبيا وراديكالية لعبت فيها الأحزاب الشيوعية دورا حاسما. وعلى النقيض من ذلك, لم تكن هناك فى العالم الناطق بالانجليزية، طبقات عاملة راديكالية لها نفس المكانة . ولم تكن للأحزاب الشيوعية هناك أهمية تذكر. فكانت النتيجة هى أن حيوية النظرية الماركسية- دون انكار إنجازات هامة أخرى- قد تركزت إلى حد كبير على تحليل الماضى (التاريخ ) أو، لاحقا، على رد الاعتبار لوجهة نظر حتموية وتكنولوجية عن التاريخ ( ويمكن ذكر بعض المنتمين للاتجاه الأول مثل : موريس دوب، وإيريك هوبسباوم،و كريستوفر هيل، وإدوارد تومبسون،و رودنى هيلتون،و ايوجين جينوفيز؛ أما الاتجاه الثانى فمن بين المنتمين إليه يمكن ذكر: جيرالد.أ. كون،و ويليام .هـ ، شو ، وجون ماك مورترى ).
ولست أريد هنا أن أنتقص من الانجازات المؤثرة لهذين الخطين من التطور. ولكن من الممكن أن نلاحظ أنهما وإلى مدى معين قد عوضا فكريا عن النواقص العملية للحركة العمالية. فمن ناحية هناك جماعة من المؤرخين اختزلت المادية التاريخية إلى كتابة التاريخ، وأنكرت ضمنيا مكانتها النظرية وعلاقتها الوثيقة بتحليل المجتمع القائم . ومن ناحية أخرى جاء إحياء مفاهيم حتموية عن التاريخ تكرارا بشكل غير مقصود للأرثوذكسية المتحجرة للماركسية السوفيتية و ما صاحبها من ميل إلى قطع العلاقات الوثيقة التى وجدت بين المادية التاريخية وفكرة الممارسة. فالحتمية والضرورة تسدان نقص النشاط الثورى (أنظر حول هذا هرف، 1977، ص 135). وبينما قد يكون ممكنا ادانة الماركسية الغربية بنزعة ثقافية ومنهجية مفرطة، فإن تطورها الموغل فلسفيا لم تغب عنه أبدا رؤية المسائل العملية المتصلة بانتقال محتمل إلى الاشتراكية فى المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. فالاهتمام بالتأريخ وبالمفهوم العام للتاريخ فى الماركسية الناطقة بالانجليزية قد أنتج تحليلات لامعة ودقيقة، ولكن، فى سياق ذلك, كانت المادية التاريخية تتعرض لخطر أن تفقد وضعها النظرى وصلتها مع الممارسة كليهما.
وهكذا نجد أن المادية التاريخية فى مفترق طرق . فالسمات الخاصة للماركسية الغربية التي أكسبتها طابعا نقديا وحاولت أن تطورها بطريقة غير حتموية وغير اقتصادية -علي خلاف الارثوذكسية السوفيتية- قد دخلت فى أزمة عميقة.هذا من ناحية , و من ناحية أخرى فإن الحيوية الجديدة للماركسية فى العالم الناطق بالانجليزية قد أدت لاتجاهات تقلل من الوضع النظرى للمادية التاريخية أو تبعث التفسير الحتموى السوفيتى مع تدعيمه هذه المرة بصياغات دقيقة. ومثل هذا الوضع يجعلنى أدرك مدى الحاجة لإعادة بناء المادية التاريخية كنظرية للممارسة تقدم العناصر الأساسية لفهم التاريخ، والمجتمع والفرد فى علاقاتهم المركبة. إننى أتفق مع هدف فليشر لإعادة بناء "الفلسفة الماركسية كفلسفة إنسانية تحريرية تنبني علي الممارسة " (1973، ص 7). وسيتضح لنا، فيما بعد، المعنى المحدد والنطاق الخاص لهذه النظرية. على أن ما سأركز عليه حاليا هو معنى إعادة البناء.

معنى إعادة البناء
إقترح مؤلفون عديدون فى السنوات االماضية , بشكل واضح أو ضمنى, إعادة بناء المادية التاريخية . لكنهم فهموا من إعادة البناء أشياء غاية فى الاختلاف. فبعض النظريات تفهم إعادة البناء بإعتبارها تقديم طريقة خاصة لقراءة ماركس وشرح ما أراد حقا أن يقوله. تبدأ هذه المقاربات من افتراض أن فرضيات ماركس قد استنبطت بشكل غير منهجى وعرضت بشكل غير محكم وأنه يترتب على ذلك، وجوب ادخال بعض الدقة من أجل ادراك مغزاها وتماسكها. وهكذا يرى ألتوسير وجود انفصال متواتر بين أقوال ماركس الصريحة وبين المسائل العلمية الفعلية المختفية وراءها. وغرض إعادة البناء إذن هو إعادة تركيب "إشكالية" ماركس العلمية المختفية بواسطة " قراءة تشخيصية" symptomatic reading تخترق سطح صياغاته (ألتوسير، وباليبار، 1975، ص ص32-28) .
ومن ناحية أخرى، فثمة مفاهيم، "منهجية" أيضا لإعادة البناء تؤكد على الحاجة إلى توضيح نسقى وإلى إعادة تركيب الاطار المقولاتى للماركسية (ماك مورترى، 1978، ص 18)
أو تحاول أن تبدد الغموض الذى يشوش تقييمات ماركس بإدخال ما تتميز به الفلسفة التحليلية المعاصرة من دقة ووضوح (كون ، 1978، ص 9) . ولا تصل المسألة هنا حد القول بضرورة التحقق مما عناه ماركس بالفعل حتى نكتشف المتطلبات المنطقية لنظريته. وهكذا فإن إعادة البناء تعنى إدخال نظام معرفى على أفكار ماركس وتقويمها. ويعتقد فليشر بدوره أن معظم تفسيرات الماركسية لا تولى الاعتبار الواجب لتعقد أفكار ماركس وتميل بشكل مطلق إلى تقديم صياغات جزئية أحادية. وعلى ذلك تتحدد المهمة الأساسية لإعادة البناء فى محاولة تحرير المفهوم الماركسى للتاريخ من النظرة الضيقة للتفسير الأحادى الجانب، لإنقاذه من غرابته وجعله أكثر قابلية لأن يعقل، ولإظهار مرونته وطبيعته "التجريبية" بدلا من دقته المزعومة (فليشر، 1973، ص 12).
وتعنى إعادة البناء أيضا أكثر من مجرد مقاربة "منهجية" لكتابات ماركس بل يمكن أن تكون لها تضمينات أقوى. إذ نجد أن هابرماس ، الذى منح رواجا ثقافيا لمصطلح "إعادة البناء", يصف تلك العملية بأنها تعنى " تفكيك النظرية واعادة تركيبها مرة أخرى فى شكل جديد حتى تحقق هدفها الذى وضعته لنفسها على نحو أكثر كمالا" (1979، ص 95). ومع ذلك فإن هذه العملية تتجاوز إعادة الترتيب البسيطة لنفس العناصر: فالنظرية بصفتها هذه " تحتاج لمراجعة" أى إلى تطوير لأسسها المعيارية بصفة خاصة الأمر الذى يمكن أن يتحقق فقط من خلال نظرية للفعل الاتصالى (ص 97). ويستخلص سارتر بدوره الحاجة لإعادة البناء من الفكرة النقدية التي تذهب إلي أن الماركسية قد أصبحت نوعا قبليا وعقائديا من المعرفة التى تضع الأحداث داخل إطار مفاهيمى قبل دراستها. وتقرر مقدما ماذا يجب أن تكون عليه حقيقة كل شئ (1968، ص 28). وهكذا تتطلب إعادة بناء المادية التاريخية إدماج أنظمة معرفية جديدة فى الماركسية التى سوف " تستعيد ببساطة النطاقات العينية للواقعى" (ص 65) وترصد التحديدات العينية للحياة الانسانية : مثل الوجودية، والتحليل النفسى، وعلم الاجتماع التجريبى. مع ذلك، ومن ناحية أخرى, فعلي مثل هذا الادماج أن يتفادي النظرة الضيقة للحقول المعرفية المستقلة بذاتها : إذ علينا أن نظهرها بوصفها " تعبيرا أعمق عن حركة كلية أكثر اتساعا ... الأمر الذي يتطلب من الماركسيين أن يؤسسوا منهجهم قبليا ، (سارتر، 1976، ص 18) .
وعلى الرغم من أننى أقبل مقدمات اغلب المفاهيم " المنهجية" لإعادة البناء والقائلة بان هناك غموضا فى صياغات ماركس وأن بعض الأفكار فى حاجة لتطوير أكثر، وبعضها الآخر فى حاجة إلى تقويم، إلا أنه يبدو لى أن مهمة إعادة بناء المادية التاريخية تتجاوز مجرد إدخال الدقة والنسقية فى نظرية ماركس . فالمشكلة هى فى تحديد مصادر الغموض . صحيح أن بعضا منها يعود للافتقار للوقت لتطوير ولتأمل أفكار معينة ، كما يرى كون ، ولكن الأفكار الأكثر أهمية من بينها تأتت عن أسباب أعمق, إذا ماحددناها ، تبين لنا أن إدخال المنطق والنظام لا يكفى لتقويمها. وبالمثل، فإنه من الضرورى بالطبع تجنب التأكيد الأحادى الجانب على جوانب جزئية من فكر ماركس. لكن إعادة البناء بالنسبة لى هي أكثر من مجرد النظر الشامل لكلية أفكار ماركس والموازنة الدقيقة بين جماع الأقوال المتعارضة كما يقترح فليشر. فهو يفترض ليس فقط أنه من الممكن أن نجد دائما تماسكا أساسيا وإنما أيضا أن النتيجة ستكون بالضرورة صحيحة ومتوازنة. وعلى أية حال فهذه الافتراضات ليست واضحة بذاتها . وفى رأيى أن مفهوما صحيحا لإعادة البناء يجب أن يكون قادرا على التساؤل عما إذا كانت كل عناصر النظرية متسقة, وعما إذا كان تمفصلها النوعى صحيحا. الأمر الذي يجعلنا علي استعداد لتقبل وجود تعارضات تجعل من الضرورى إما تغيير التوازن بين هذه العناصر أو استبعاد الحلول المقترحة غير الملائمة.
إن مفهومى عن إعادة البناء يسمح أيضا بتقبل فكرة أن صياغة ماركس الخاصة عن نشاطه النظرى تتعارض احيانا مع المغزى الفعلى له . على أية حال، فإن مثل هذا المفهوم يرفض فكرة ألتوسير القبلية حول وجود انفصال متواتر فى كتابات ماركس يجعل إسهاماته خفية عنه هو نفسه. أضف إلى ذلك فإن "الإشكالية العلمية" لماركس والمزعوم خفاؤها عنه قد تحددت قبليا من جانب ألتوسير على أساس معايير مأخوذة من سبينوزا وباشلار. وهكذا يعاد بناء الماركسية بأن ننتقى من بين أفكار ماركس، فقط تلك التى تتناسب مع معايير متصورة من خارجها (أنظر ألتوسير،1976، ص ص 132-141، وإيشيفريا، 1978، ص 13). إذ ليس من المعقول أن نقوم بمحاولة إعادة بناء نظرية معينة بأن ننسب إليها فكرة مسبقة عن تصور للعلم مأخوذ من نظريات أخرى. كما أنه ليس من المعقول أن نساير هابرماس أو سارتر ونحاول أن نملأ الفراغات الجوهرية المزعومة فى فكر ماركس بنظرية جديدة تماما للاتصال أو بإدخال أنظمة معرفية كاملة، تطورت على نحو مستقل، مثل الوجودية والتحليل النفسى. ويمكن القول بأن اتهام هيلر لهابرماس بأنه "لا يأخذ على عاتقه أبدا أن يحلل الياف أنسجة تسمى أعمال OEUVRE ماركس، ولا هو يحاول أن يفهم ذاتا COGITO يسمى كارل ماركس " (هيلر، 1982، ص 22) ينطبق أيضا على سارتر. والنتيجة هى أن هابرماس وسارتر يميلان إلى دمج ماركس مع ماركسية مؤسساتية وإحلال مفاهيم عامة غير تاريخية محل مقولات المادية التاريخية. وهكذا فإن التحول من الانتاج إلى الاتصال يسمح لهابرماس بأن يقلل من أهمية الصراعات الطبقية المؤسسة ماديا وأن يحل محلها فكرة " الاتصال المشوه". يسعى سارتر بدوره لتأسيس المنهج الجدلى قبليا APRIORI، ومن ثم فإن مشاكل التسلسلية، والندرة والانسلاب التى يحددها باعتبارها تواجه الكائنات الانسانية فى كل الأزمنة يبدو أنها تحول التركيز عن الأشكال النوعية تاريخيا للإستغلال الطبقى. باختصار، فإن كلا من هاتين الطريقتين فى إعادة البناء تغير بشكل جذرى ما يعتبره معظم الناس موضوع المادية التاريخية.
إن الغموض الذى يعالجه مفهومى عن إعادة البناء والمتأصل فى التفسيرات أحادية الجانب والعقائدية للماركسية ينبع فيما أظن من بعض التوترات فى عمل ماركس. وهى توترات تنبثق من الصعوبات الكامنة فى المهمة شديدة التعقيد التى طرحها ماركس على نفسه. فثمة ثلاث مشاكل أساسية جديرة بالذكر فى هذا الصدد. الأولى، الإطار الضخم لهدف ماركس، وهو أن يقدم تقييما دقيقا للمقدمات الواقعية التى تسمح بفهم صحيح للمجتمع والتاريخ. فمثل هذا الإطار يطرح مشكلة ما إذا كانت التحليلات العينية لأنماط معينة من الانتاج يمكن أن تتمفصل مع مبادئ أكثر عمومية عن التعاقب التاريخى لتلك الأنماط ، وما إذا كان تنوع حالات تاريخية خاصة يتوافق مع رؤية موحدة للكلية التاريخية . الثانية، هى مشكلة أخذ عناصر من أصول نظرية مختلفة ومن أنظمة معرفية مختلفة ومحاولة إدماجها فى نظرية أرقى. اعنى باختصار انه من ناحية، هناك إدماج العناصر المادية الفلسفية المأخوذة من الفلاسفة البريطانيين للقرن السابع عشر والتنوير الفرنسى للقرن الثامن عشر مع نظرية للممارسة والوعى تؤسس الجانب الفعال للذات والتى استمدت عناصرها الأساسية من المثالية الألمانية، ومن ناحية أخرى هناك ادماج مثل هذه التركيبة الفلسفية مع المادة التجريبية التى قدمتها التحليلات التاريخية والاقتصادية. الثالثة، إن هدف ماركس فى فهم المجتمع والتاريخ مقترن برؤية ما لإكتشاف امكانيات تحرير الانسانية، أى، أنه يريد أن يطور نظرية لا تتسم فقط "بدقة العلوم الطبيعية" ( مقدمة، إسهام فى نقد الاقتصاد السياسى، مختارات ماركس وإنجلز، ص 182) وإنما تتسم أيضا بكونها نقدية وثورية فى جوهرها ( كلمة ختامية، رأس المال، المجلد الأول، ص 29). ومحاولة ماركس تأسيس نظرية علمية وثورية في آن معا تطرح مشكلة التوفيق بين القوانين العلمية العامة وبين ممارسات سياسية نوعية وتطرح كذلك مشكلة ادماج التحليل الدقيق للواقع كما هو مع نقد طابعه المنسلب والمتناقض.
وتنشأ التوترات فى أفكار ماركس بسبب أن التوازنات بين هذه العوامل والتأكيدات التى وضعت فى سياقات نوعية في أعمال ماركس ليست هى نفسها دائما ومن ثم فقد نجد لديه مقاربات تفسيرية مغايرة لنفس المشاكل. وهكذا فمن الممكن أن نجد تأكيدات على القوانين العلمية فى مواضع معينة يتم نقضها بتأكيدات على الممارسات السياسية فى مواضع أخرى، كما يشير ماركس أحيانا إلى المقدمات المادية التقليدية لينتقد المثالية وفى أوقات أخرى يؤكد على المقدمات المثالية لنقد المادية القديمة، ويهيمن عليه فى بعض الأحيان تأثير المفهوم الهيجلى عن الكلية التاريخية والجدل بينما يؤكد فى مرحلة أخرى على خصوصية الحركات التاريخية غير القابلة للاختزال. أعني بإعادة بناء المادية التاريخية إذن تعيين وحل هذه التوترات فى أعمال ماركس، ليس بمعنى محاولة تلطيف التناقضات الظاهرة ولا بمعني أن نحاول بشكل اصطناعى ادماج مقاربات متعارضة, ولكن بمعنى إعادة توازن بعض القضايا أحادية الجانب وبصفة أساسية، القيام باختيارات واضحة بين بدائل تفسيرية متعددة.
ولايستلزم حل التوترات محاولة التحقق على وجه الحصر مما عناه ماركس فعلا- فما عناه ماركس بالفعل ليس واضحا دائما ويمكن أن يكون أيضا غير متاح- ولايستلزم كذلك مراجعة جوهرية ونسقية لمعتقداته . لكنه يستلزم التوصل لتوازنات جديدة لنفس العناصر، التى نجد بعضها ضمنيا فى أعمال ماركس ونستلهم البعض الآخر من خلال المنطق العام لفكره . ويستلزم أيضا تغيير بعض التأكيدات واستبعاد العناصر التفسيرية غير المناسبة . ومن الحقيقى ان كون وماك مورترى ارادا أيضا أن يذهبا إلي ماوراء ما عنيه ماركس أو قاله ليصلا إلى منطق النظام وليجعلا النظرية أكثر معقولية. لكن اهتمامهما كان يتعلق بجعل نظرية ماركس أكثر وضوحا منه إلى الحصول على نظرية أفضل وأكثر مغزى. لذلك كان باستطاعة كون أن يفصل بين دفاعه عن ماركس وبين الحاجة لتكييف تفكيره هو وفقا ل"تفكير" ماركس. وقد تطلب منه دفاعه عن ماركس أن يشترط فى كل رأى أن يكون "فى آن معا جديرا بالتصديق من حيث نسبته إلى ماركس وجديرا بالتصديق من حيث قيمته الخاصة"، ولكن كون بعدما أنجز هذا الأمر أخذ يبدى شكوكا حول دقة النظرية التى دافع عنها. (1983 أ، ص 125، 1983 ب، ص 227) . وعلى النقيض من ذلك فإن مفهومى عن إعادة البناء، ليس معنيا كثيرا بجعل المادية التاريخية جديرة بالتصديق شكليا. وإنما بأن يحل جوهريا التوترات فى أعمال ماركس حتى تصبح أكثر ملائمة كنظرية.
إن اندماج روافد نظرية مختلفة فى فكر ماركس هو حقيقة معترف بها بشكل واسع، لكن حقيقة أنه مصدر التوترات والغموض لم تأخذ حظا كافيا من الاهتمام. لقد حلل ألفرد شميدت بصورة دقيقة الطريقة التى تم بها هذا الادماج على الصعيد الفلسفى. وعارض بشكل مقنع التفسيرات الأحادية لفكر ماركس الفلسفى (1971). ومع ذلك ورغم مقاربته النقدية الأصيلة يبدو لى أنه مثل فليشر يقلل من التوترات التى تنبثق عن مثل هذا المشروع ويبحث عن حلول لها تنسب –بكل سهولة- إلى ماركس نفسه. وعلى النقيض من ذلك، يدرك كورش وجود التوترات فى فكر ماركس، فقط ليستبعد أية محاولات لحلها. وهو يفرق بين "صيغة موضوعية" مستمدة من "مقدمة" 1859 تصور العملية التاريخية كتطور لقوى الانتاج وبين "صيغة ذاتية" مستمدة من البيان الشيوعى تصور التاريخ بلغة الصراع الطبقى. فهو يعتبر هاتين الصيغتين شكلين مستقلين من الفكر الماركسى وأنهما أصيلتان بنفس القدر وليست إحداهما مشتقة من الآخرى (كورش، 1938، ص ص 187، 229) ويعتقد كورش عن صواب أنه ليس من الملائم تلطيف مثل هذه التناقضات الواضحة، ولكنه يخفق فى أن يرى الحاجة لحل التوتر بطريقة أو أخرى. وموقف كورش متناقض ظاهريا خاصة بسبب أنه ينتقد فى نفس السياق إنحرافين فى الماركسية هما: "النزعة الاقتصادية" ، لأنها تختزل كل العلاقات إلى الانتاج المادى بشكل أحادى الجانب، و "النزعة الاجتماعية"، لأنها تستبدل بشكل أحادى " "التفاعلات" الداخلية بعلاقات الانتاج (ص 218) ولكنه لا يحلل أصولها المرتبطة بشكل واضح، على الأقل جزئيا، بالتوتر الذى سبق وأن عينه. وبرفض حل هذا التوتر يحرم كورش نفسه من الأساس الحقيقى الذى باستطاعته الاسهام فى استبعاد الانحرافين اللذين أشار إليهما.

التوترات فى فكر ماركس وإنجلز
تتطلب فكرة إعادة بناء المادية التاريخية من ثم ادراك بعض التوترات فى عمل ماركس من ناحية والرغبة فى حلها من ناحية أخري. على أنه من الضرورى أن نبدأ بتعيين هذه التوترات. إذ يبدو لى أن هناك أربع نطاقات أساسية هى مصدر التوترات الهامة فى فكر ماركس: مفهوم الجدل، تحليل الوعى، آلية التغير الاجتماعى، ومفهوم التاريخ . ولنحلل كل منها بإيجاز: ففيما يتعلق بمفهوم الجدل فإنه من المعروف جيدا أن كتابات إنجلز المتأخرة قدمت فكرة جدل مستقل للطبيعة وكانت معنية بتأسيس القوانين الشاملة للجدل (أنظر ضد دوهرنج وجدل الطبيعة) فهذان الملمحان قد نوقشا على نطاق واسع وشكلا المصدر الرئيسى لفكرة أن ماركس وإنجلز لم يكن لديهما دائما نفس المنظور وأن إنجلز تحديدا تجاوز المفهوم الماركسى الحقيقى للجدل الذى يعطى الأولوية للممارسة الانسانية (أنظر شميدت، 1971، فليشر، 1973، وكارفر 1983).و ليست هذه هى اللحظة التى نناقش فيها مضمون هذه الموضوعات، ولكن من الضرورى أن نؤكد علي أن المشكلة أكثر تعقيدا من مجرد التعارض البسيط بين وجهة نظر ماركس المفترض صحتها عن الجدل و بين استدلالات إنجلز المزعومة وتشويهه لها . وبالرغم من حقيقة أن إنجلز قد طور أفكاره عن الجدل لحد بعيد بنفسه، إلا أنه كان فى تراسل دائم مع ماركس، الذى لم يعلم عن جهوده فقط، وإنما أقرها أيضا (أنظر هوفمان، 1975ص ص 70-15 وجيراتانا، 1975، المجلد الأول، ص ص 147-128).
إذ على النقيض من فكرة كارفر بأن، "ماركس لم يصادق أبدا على الجدل المادى... الذى كان يتابعه إنجلز،" (كارفر، 1983، ص 134)، فإن مسحا متأنيا لكتابات ماركس ذاتها يبين أن هناك مشكلة قائمة مع مفهوم الجدل عند ماركس نفسه. فبداية كانت لديه هو أيضا فكرة تحديد الجدل شكليا. يقول ماركس فى رسالة إلى إنجلز: "إذا ماسنحت لى الفرصة لمثل هذا العمل مرة اخرى ، فلشد ما أود أن أضع فى متناول الذكاء الانسانى العادى- فى صفحتين أو ثلاث صفحات مطبوعة- ما هو عقلانى فى المنهج الذى إكتشفه هيجل الذى غلفه فى نفس الوقت بالغيبيات (14 يناير1858، المراسلات المختارة لماركس وإنجلز، ص 93). وحقيقة أن ماركس لم يفعل هذا أبدا ربما يكون أمرا لا يدعو للأسف بالنسبة لهؤلاء الذين يتبنون مفهوما سليما عن الجدل، ولكن حقيقة أن ماركس أراد أن يفعل ذلك تبين أن فكرة أن ثمة تركيبة قادرة على أن تقنن القوانين الأساسية للجدل بشكل مجرد، لم تكن غريبة تماما عن فكره. فماركس لم ينفر من الإشارة إلى قوانين جدل نوعية فى سياق يوحى بامكانية جدل للطبيعة كما أنه ضاهي بشكل نوعى بين التناقضات فى العلاقات السلعية و بين التناقضات فى حركة الأجسام الفيزيائية إذ يقول :
" سوف ترى أيضا من ختام فصلى الثالث، حيث تناولت تحول المعلم إلى رأسمالى، كنتيجة لتغيرات كمية خالصة- أننى فى هذا النص أستشهد باكتشاف هيجل فيما يتعلق بقانون أن التغيرات الكمية الخالصة تتحول إلى تغيرات كيفية باعتباره صالحا للتاريخ مثل صلاحيته للعلوم الطبيعية" (رسالة إلى إنجلز، 22 يونيه 1867، المراسلات المختارة لماركس وإنجلز، ص 177).
" لقد رأينا فى فصل سابق أن تبادل السلع يتضمن شروطا متناقضة وتنفى بعضها البعض بشكل متبادل. إن تمايز السلع إلى سلع ونقود لا يزيح هذه التناقضات، ولكنه يطور نمطا للتعايش فيما بينها ، يطور شكلا يمكن أن يوجد فيه الواحد بجانب الآخر. هذه هى بصفة عامة الطريقة التى تتوافق بها التناقضات الواقعية. فعلى سبيل المثال، فإنه من قبيل التناقض أن نتصور جسما يسقط بشكل دائم نحو آخر، وفى نفس الوقت يبتعد عنه بشكل دائم. لكن مثل هذا الانتقال المفاجئ هو شكل للحركة وبينما يسمح لهذا التناقض أن يستمر، فإنه يعمل على تسويته فى نفس الوقت" ( رأس المال، المجلد الأول، ص 106 ).
ولكن الأكثر مغزى فيها جميعا مقطع من "رأس المال" يقارن ماركس فيه منهجه الجدلى مع جدل هيجل ويقرر بأنه نقيضه المباشر، فبينما بالنسبة لهيجل تصبح الفكرة ذاتا مستقلة تخلق العالم الخارجى، "فبالنسبة لى، ليست الفكرة شيئا آخر غير العالم المادى منعكسا بواسطة العقل الانسانى، ومترجمة إلى أشكال من الفكر". ويستخلص ماركس من هذا فكرة أن الجدل عند هيجل يقف على رأسه: لذلك "يجب أن يقلب مرة أخرى، إذا كان علينا أن نكتشف النواة العقلية داخل الغلاف الغيبى (كلمة ختامية، رأس المال،المجلد الأول، ص 29). إن وصف ماركس لمفهومه عن الجدل بإعتباره قلبا بسيطا لمفهوم هيجل يوحى بشيئين: الأول، أنه، بالرغم من أن المادة تحل محل الروح، فإن الجدل مازال عملية موضوعية يتطور بواسطتها كيان مادى مستقل بذاته منفصلا عن الممارسة الانسانية، الثانى أن نطاق الجدل يظل كما هو، أى المبدأ الشامل لتفسير العالم.
تكشف لنا هذه المقاطع أن مفهوم إنجلز عن الجدل لم يكن متعارضا مع بعض أفكار ماركس. ولكن هناك من ناحية أخرى عناصر هامة فى فكر ماركس تتعارض بوضوح مع هذا المفهوم. إن نفور ماركس من أى تقنين تجريدى للقوانين الجدلية الذى يستبدل بالتحليلات العينية المبادئ الشاملة قد ظهر فى نقده للاسال. إذ يصرح ماركس فى رسالة إلى إنجلز بأن لاسال، "سوف يتعلم بثمن باهظ أن تطوير العلم بواسطة النقد إلى النقطة التى يكتسب عندها طابعا جدليا هو شئ مختلف بالمرة عن تطبيق نظام للمنطق مجرد وجاهز الصنع على أفكار غامضة لنظام من هذا النوع " (أول فبراير1858، المراسلات المختارة لماركس وإنجلز، ص 95). فحين يؤكد ماركس فى "رأس المال" أن الانتقال من المانيفاكتورة إلى التصنيع الآلى يتضمن تحولا من الكمية إلى النوعية فإنه لا يستخلص ذلك من وجود قوانين جدلية شاملة وإنما من تحليل تاريخى عينى.
وهناك ايضا دليل واضح على ان ماركس لم يكن معنيا بالجدل كمبدأ تفسيرى شامل لكل الاشياء والحركات . فلم يكن وجود التناقضات بالنسبة لماركس نتاجا لمبدأ ميتافيزيقى كامن فى كل الموجودات وانما النتاج الاجتماعى لاوضاع تاريخية نوعية عابرة يمكن تغييرها عمليا . وعلى ذلك فهو يؤكد ان :
فى ذات اللحظة التى تبدأ فيها الحضارة، يبدأ الانتاج فى أن يتأسس على التناقض بين الفئات، والطوائف، والطبقات، وأخيرا على التناقض بين العمل المتراكم والعمل المباشر، وحيث لاتناقض لا تقدم. هذا هو القانون الذى تتبعه الحضارة حتى يومنا هذا. لقد تطورت قوى الانتاج حتى الآن بفضل هذا النظام من التناقضات الطبقية... وفى مجتمع مقبل حيث يكون التناقض الطبقى قد توقف وحين لا تعود هناك أى طبقات، لن تعود الفائدة تتحدد من خلال الحد الأدنى لزمن الانتاج (بؤس الفلسفة، ص 59 وص 61).
وهكذا يبين ماركس أنه ، على خلاف هيجل، يتصور التناقض كشرط محدود تاريخيا للتقدم، إذ يظهر فقط مع الحضارة (أى يستبعد من ثم المشاعات البدائية) ويستمر فقط حتى القضاء على الرأسمالية والنظام الطبقى. ويبين ماركس أيضا أن الجدل بالنسبة له ليس حركة مستقلة موضوعية خالصة للعالم المادى وإنما يرتبط بشكل لا ينفصم بالتناقضات والممارسات الطبقية.
لدينا إذن عند ماركس نفسه فيما يبدو تقييمان متعارضان للجدل. وهو توتر ينبع من ادماجه لعناصر هيجلية فى سياقات مختلفة وبتأكيدات مختلفة. فمن ناحية، تميل بعض تقييمات ماركس للجدل إلى أن تعطى إنطباعا بأن قلبه للجدل الهيجلى لا يؤثر على نطاقه، وعلى "النواة العقلية" له. وبذلك يظهر الجدل كمبدأ ايجابى جاهز للتطبيق الشامل، ولكننا نجد من ناحية أخرى، بعض الاشارات للجدل أكثر تقييدا بشكل واضح وتشى بفكرة عملية النفى من حيث هى عملية محدودة تاريخيا ومرتبطة بشكل لا ينفصم مع الممارسة الانسانية، وتتجه للوصول إلى نهاية. على أن المشكلة بالنسبة لإعادة بناء المادية التاريخية ليست هى محاولة تحديد وجهة نظر ماركس الحقيقية فهذه مهمة مستحيلة. ولكن، حتى إذا كانت ممكنة فما يزال من الضرورى أن نفحص نقديا الحلول التى أعطاها ماركس ومفسرون عديدون آخرون لهذا التوتر حتى نرى ما إذا كانوا مصيبين، وإذا لم يكونوا فعلينا أن نحاول صياغة حل جديد.
المصدر الثانى الهام للتوترات له صلة بتحليل الوعى. فالمبدأ القائل بأنه " ليس الوعى هو الذى يحدد الحياة، وإنما الحياة هى التى تحدد الوعى" (الأيديولوجية الألمانية، ص 37) أو "ليس وعى البشر هو الذى يحدد وجودهم، وإنما على العكس فإن وجودهم الاجتماعى هو الذى يحدد وعيهم " (مقدمة، إسهام فى نقد الاقتصاد السياسى، مختارات ماركس وإنجلز، ص 181) هو جزء حيوى من المادية التاريخية. مع ذلك فإن معنى هذا المبدأ الهام ليس دائما شديد الوضوح. فمن ناحية هناك إتجاه ثابت عند ماركس وإنجلز لتحليل الوعى كإنعكاس للحياة المادية متوافقا في ذلك مع الفكرة الأساسية للمادية الفلسفية القائلة بأن : العالم المادى سابق على ويوجد بشكل مستقل عن الفكر ومن ثم فإنه يمكن للأفكار أن تعكس وتمثل فقط ، أي أ نها مجرد صور للعالم الموضوعى. وهكذا نجد لدي ماركس وإنجلز فى الأيديولوجية الألمانية عبارات مثل: " الانعكاسات الأيديولوجية وأصداء عملية الحياة هذه" ، "التعبيرات الفكرية عن عملية حياتهم المادية" و "الانعكاس المثالى لتعارضات واقعية" (الأيديولوجية الألمانية، ص 36 و 287). فهما يقدمان فى هذا النص للمرة الأولى فكرة أن الوعى هو البناء الفوقى لأساس مادى (الأيديولوجية الألمانية ، ص 89) وهو مجاز سوف يستعملانه باستمرار لتفسير مبدأ أن الوعى ليس مستقلا ذاتيا بل محدداً بشروط معينة. ويعيد ماركس لاحقا، فى رأس المال التأكيد على أن " المثالى- بالنسبة إليه- " ليس شيئا آخر غير العالم المادى منعكسا من قبل العقل البشرى، ومترجما إلى أشكال للفكر" (كلمة ختامية، رأس المال، المجلد الأول، ص 29) ويتحدث إنجلز فى رسالة إلى مهرنج عن "إنعكاس الوقائع الاقتصادية المتغيرة فى الفكر" (14 يوليو1893، المراسلات المختارة لماركس وإنجلز ص 433) وفى " ضد دوهرنج" يصف حتى الاشتراكية الحديثة باعتبارها ليست سوى إنعكاس فى الفكر، للتناقض بين قوى الانتاج وأنماط الانتاج (ضد دوهرنج، ص 317). ثم يعيد إنجلز التأكيد مرة أخرى فى كتابه "لودفيج فيورباخ" على المبدأ المادى فيقول: نحن ندرك المفاهيم فى رؤوسنا مرة أخرى على نحو مادى أى بوصفها صورا للأشياء الواقعية" (لودفيج فيورباخ، الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، ص 609) وتؤكد نظرية الإنعكاس على أن الوعى تعبير عن العالم المادى وتدفقاته، ولكنها- فى حد ذاتها- لا تمنح للوعى أى دور فعال. بل على النقيض من ذلك، يميل الوعى إلى أن يبدو كنتيجة سلبية تحدث داخل العقل ويعيد انتاج عملية خارجية تكونت هى ذاتها بشكل مستقل عن الوعى . ومع ذلك فإننا نجد أن ماركس وإنجلز يؤكدان- من ناحية أخرى- على الجانب الفعال والطابع الإستباقى للوعى. فمنذ أن انفصلا عن فيورباخ أصبحا يدركان أن، "القصور الأساسى لكل مادية سابقة... هو أن ادراك الأشياء، والواقع، والحسى قد جرى تصوره فقط على شكل موضوع أو تأمل، وليس كنشاط إنسانى حسى، كممارسة، وليس كعملية ذاتية ( موضوعات عن فيورباخ رقم 1، الأيديولوجية الألمانية، ص 3 ) وهذا يوحى بأن الوعى ليس فقط تعبيرا وإنما أيضا عنصراً مكوناً للواقع إلى المدى الذى لا يمكن أن يكون فيه هذا الواقع معطى مسبقاً وإنما أنشأته الممارسة الإنسانية. كما تتسم الممارسة الانسانية ليس فقط بكونها واعية وإنما أيضا بحقيقة أنها، علي خلاف نشاط الحيوان، لها هدف يمكن توقع تحققه :
"إن العنكبوت يقوم بعمليات تشبه تلك التى يقوم بها النساج، وتزرى النحلة بكثير من المهندسين فى إنشاء خلاياها. ولكن ما يميز أسوأ مهندس عن أفضل نحلة هو، أن المهندس يقيم بناءه فى تصوره(أولا) عند بدء العمل (رأس المال، المجلد الأول، ص 174).
و بالمثل فعند تحليل العلاقة بين الانتاج والاستهلاك نجد أن ماركس يذهب إلي أن "الاستهلاك يفترض على نحو مثالى وجود موضوع الانتاج كصورة داخلية، كحاجة، كدافع وكهدف". أي أن الاستهلاك يخلق موضوعات الانتاج فى شكل لا يزال ذاتيا (مقدمة، الجروندريسه، ص 92). من الممكن إذن أن نستنبط من هذه الاستشهادات أن الوعى لا يعكس فقط وإنما يساعد أيضا على تشكليل الواقع المادى بالاستباق العقلى لنتائج الممارسة الانسانية. وعلى ذلك فلدينا مرة أخرى تقييمين متعارضين للوعى، أى توتر ناجم عن محاولة ماركس إدماج عناصر المادية الفلسفية مع "الجانب الفعال" الذى طورته المثالية. فمن ناحية جرى تناول الوعى فى سياق تصور مجازى حول "القاعدة- البناء الفوقى"، حيث ظهر الوعى كإنعكاس سلبى للحياة المادية ومن ناحية أخرى جرى تناول الوعى فى سياق نظرية للممارسة فظهر على أنه عنصر فعال وإستباقى.

أما النطاق الثالث فى المادية التاريخية الذى يولد التوترات فيتعلق بتفسير آليات التغير الاجتماعى. فقد أدرك كثير من المؤلفين وجود انفصال متواتر وهام فى هذا الصدد، كما بينت سابقا، وهو الانفصال الذى حدده كورش باكرا جدا بإعتباره تعارضا بين الصيغة الموضوعية ل "المقدمة"، التى تشدد على تطور قوى الانتاج وتنازعها مع علاقات الانتاج" وبين "الصيغة الذاتية" الخاصة بالبيان الشيوعى، التى تؤكد على الصراع الطبقى. وهو التعارض الذى شخصه بيرى أندرسون مؤخرا بإعتباره مشكلة العلاقة بين البنية والذات (1983، ص 34)، أى مشكلة ما إذا كان المحرك الأول للتغير الاجتماعى هو التناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج أم الصراع الطبقى. كذلك يشير ميللر بدوره إلى التناقض الظاهرى المتمثل فى أن معظم أقوال ماركس الصريحة يبدو أنها تحبذ أولوية قوى الانتاج بينما تنتهك تحليلاته التاريخية العينية التصورات الأساسية للحتمية التكنولوجية وتؤكد على أولوية علاقات العمل وأنماط التعاون (1981، ص ص 100-99). وأخيرا يؤكد "ماجالين" مقتفيا أثر ألتوسير وباليبار وجود انفصال واضح بين ماركس الشاب حتى 1859، الذى يؤكد على الدور الديناميكى لقوى الانتاج، وبين ماركس الناضج فى رأس المال، الذى يحبذ دور علاقات الانتاج والصراعات الطبقية التى تشترطها (ماجالين، 1975، ص ص 58-43).
ومع ذلك فإن تحليلا لحدود هذا التوتر تبين تشوشا أساسيا : هل يتضمن التوتر إفتقاراً للوضوح فيما يتعلق بأى من القطبين المتعاكسين ضمن نفس التناقض له الأولوية، أم أنه ينتج عن تردد بشأن أى من التناقضين المختلفين له أولوية تفسيرية ؟ بالنسبة لبعض المؤلفين مثل ماجالين، فإن التناقض بين قوى الانتاج وبين علاقات الانتاج لا يمكن تمييزه بدرجة كافية عن الصراع الطبقى طالما أن الأخير موجود بالفعل فى بنية علاقات الانتاج. وهكذا فإن التوتر الحقيقى ليس بين الصراع الطبقى من ناحية والتناقض بين قوى وعلاقات الانتاج من ناحية أخرى، وإنما هو بالأحرى توتر داخل الأخيرة بين أولوية قوى الانتاج وأولوية علاقات الانتاج. لكن مؤلفين آخرين يرون أن مثل هذا التفسير يخلط المستوى البنيوى مع المستوى الذاتى للتحليل. فالتناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج نزاع موضوعى، غير قصدى أى بكلمات جودلييه، تناقض بين بنيتين لا يتضمن أفراداً أو جماعات (1972، ص 79). أو كما يلاحظ كورش، فإن التاريخ فى هذه الصيغة يتم تفسيره بإعتباره تطورا موضوعيا دون أن تكون ثمة "ذات تاريخية" محركة لهذا التطور (1938، ص 186) وعلى النقيض من ذلك ، يتضمن الصراع الطبقى إسهام الطبقات والجماعات وتنظيماتها السياسية، كما ينطوى على إحالة ضرورية إلى أشكال وعيها، ومقاصدها وإستراتيجياتها.
إن امكانية تحديد التوتر فى هاتين الطريقتين المختلفتين تبين أنه يوجد إنفصال أساسى أعمق، إذ يمكن تفسير التغير الاجتماعى عبر فئة واحدة من التناقضات تتضمن كلا من الجوانب البنيوية والذاتية، كما يمكن تفسيره من خلال تناقضين مختلفين وإن كانا مترابطين. ويبدو أن ماركس وإنجلز فى الأيديولوجية الألمانية يقبلان أحيانا نوعا واحدا فقط من التناقض يظهر ذاته فى أشكال مختلفة:
"من شأن التناقض بين قوى الانتاج وشكل التعامل، أن ينفجر بالضرورة فى كل مناسبة فى صورة ثورات ، متخذا فى نفس الوقت أشكالا ثانوية مختلفة: مثل النزاعات الشاملة، والتصادمات الطبقية، وتناقضات الوعى، ومعركة الأفكار، والصراع السياسى، إلى آخره ويمكن للمرء, من خلال نظرة ضيقة, أن يعزل واحدا من هذه الأشكال ويعتبرها أساس هذه الثورات" (الأيديولوجية الألمانية، ص 74).
ولكن فى أوقات أخرى يبدو أن ماركس وإنجلز يقبلان نوعين مختلفين من التناقضات. وليس هذا أكثر وضوحا فى أى مكان منه فى البيان الشيوعى حيث تترافق فكرة ان الصراع الطبقى هو القوة المحركة للتغير التاريخى مع تفسير للانتقال من الإقطاع للرأسمالية الذى يؤكد على أنه، "لم تعد علاقات الملكية الاقطاعية تتلاءم مع قوى الانتاج التى تطورت بالفعل، لقد تحولت إلى أغلال كثيرة وكان عليها أن تتحطم فتحطمت " (البيان الشيوعى، الأعمال المختارة لماركس وإنجلز، ص 40).
ويسمح كل من نوعى هذا التوتر الأساسى بدوره بحدوث انفصالات أبعد. فإذا أخذنا فكرة نوع واحد من التناقض فإنه من الممكن أن نشدد إما على الدور الديناميكى لقوى الانتاج أو على اولوية علاقات الانتاج، بما فيه هنا الصراع الطبقى. والمقطع المأخوذ من الأيديولوجية الألمانية المستشهد به عاليه يعطى الانطباع بان قوى الانتاج هى التى تهيمن . حيث يذهب إلى أنه من وجهة نظر ضيقة يمكن عزل واحد من الأشكال الثانوية واعتبارها أساس الثورة . ويضيف ماركس قائلا : و هو أمر غاية في السهولة حيث أن الأفراد الذين بدأوا الثورات تتولد لديهم أوهام عن نشاطهم الخاص" (الأيديولوجية الألمانية74). ومضمون هذه العبارة يوحى بأنه مهما ظن الأفراد عن أفعالهم، فإن الثورات قد حدثت ونجحت بسبب طابع قوى الانتاج. وقد جرى التعبير عن هذا أيضا فى رسالة ماركس إلى أننكوف حيث يقول: "إن التاريخ الاجتماعى للبشر هو دائما تاريخ تطورهم الفردى سواء كانوا واعين به أم لا. فعلاقاتهم المادية هى أساس كل علاقاتهم" (28 ديسمبر 1846، المراسلات المختارة لماركس وإنجلز، ص 31).
ومع ذلك، فمن ناحية أخرى، لو تبنى المرء وجهة نظر مادية ضيقة عن قوى الانتاج فسيجد أن ماركس فى تحليله التاريخى يحبذ التغيرات فى علاقات الانتاج والصراع الطبقى باعتبارها سابقة على قوى الانتاج وجديرة بالتالى بان تولد تغيرات فيها. إذ يؤكد ماركس عند وصف نشوء الأشكال الأولى للرأسمالية فى "رأس المال" بأن إدخال أشكال جديدة من التعاون وعلاقات العمل هو الذى يحدث التحول من المهن الحرفية إلى المانيفاكتورة ونفس "الأساس التكنيكى الضيق"، للصناعة الحرفية يستمر فى الاشتغال فى المانيفاكتورة "(رأس المال،المجلد الأول، ص320). وهكذا فإن المرحلة الأولى من نمط الانتاج الرأسمالى، التى تسمى أحيانا من قبل ماركس، الرأسمالية الشكلية المؤسسة على المانيفاكتورة، لم تكن قد تولدت فقط من خلال توسع سابق لقوى الانتاج وإنما كانت هي ذاتها أيضا، غير قادرة لا على السيطرة على إنتاج المجتمع حتى مداه الأقصى ولا علي تثوير هذا الانتاج حتى أعمق أعماقه (نفس المصدر، ص 347).وعلى ذلك فإن التحول من المانيفاكتورة إلى الرأسمالية الصناعية بكل مافى الكلمة من معنى لم يكن من الممكن أن يتولد بواسطة توسع سابق لقوى الانتاج، بل على النقيض من ذلك ظهرت أشكال جديدة من الصراع الطبقى الذى كان رأس المال وفقا له "مجبرا على الدوام على أن يتصارع مع تمردات العاملين" ( نفس المصدر، ص 346)، ومن ثم فقد نشأت المرحلة الثانية للرأسمالية من خلال النزاع بين "الأساس التكنيكى الضيق" الذى قامت عليه المانيفاكتورة، وبين "متطلبات الانتاج" التى خلقتها المانيفاكتورة ذاتها (ص 347).

فاذا اتضحت لنا الآن فكرة وجود نوعين مختلفين من التناقض احدهما بنيوى والآخر بين الطبقات، فمن الممكن أيضا التشديد على أولوية أى منهما دون إنكار تمفصلهما. فتفسير كون مثلا يتسع لأن تتولد التغيرات التاريخية الكبرى عبر الصراع الطبقى ولكن إذا أردنا أن نعرف " لماذا يحدث الصراع الطبقى هذا التغير وليس ذاك فيجب أن نتوجه لجدل قوى وعلاقات الانتاج التى تحكم السلوك الطبقى وهو جدل غير قابل للتفسير من خلال الصراع الطبقى بل أنه هو الذى يحدد ما سيكون عليه نتاج الصراع الطبقى على المدى الطويل" (1983 أ، ص 121). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فمن الممكن أن يعد التناقض البنيوى بمثابة شرط ضرورى للتغير لكنه لا يحكم السلوك الطبقى ولا يحدد نتاج الصراع على المدى الطويل. مما يعنى أن التغير يعتمد فى النهاية على فعالية الصراع الطبقى الذى لا يمكن للتناقض البنيوى أن يضمنه. فعلى الرغم من أن الجدل بين قوى وعلاقات الانتاج هو شرط للتغير إلا أنه لا يمكن أن يفسر أى شئ لأنه يفتقر للفعالية السببية. ومعنى ذلك أننا نستطيع تفسير التغير سببيا بواسطة الصراع الطبقى حتى لو كان ذ لك الصراع مشروطا بعوامل بنيوية.
وبالرغم من أنه من غير الممكن أن نجد عند ماركس وإنجلز إستشهادات قاطعة وواضحة تدعم أيا من هذين الموقفين فيبدو لى أن كتاباتهما تقدم إقتراحات فى كلا الاتجاهين. ففى الأيديولوجية الألمانية، على سبيل المثال، حين يلخصان إستنتاجاتهما حول المفهوم المادى للتاريخ فإنهما يبدءان بالفكرة الأساسية وهى أنه "فى سياق تطور قوى الانتاج تأتى مرحلة تنشأ فيها قوى إنتاج ووسائل تداول لا يمكن إلا أن تكون ضارة فى ظل العلاقات القائمة، فهى لم تعد قوى منتجة بل أصبحت قوى هدامة" والاشارة هنا إلى التناقض البنيوى الأساسى بين قوى وعلاقات الانتاج واضحة، وإن وضعت بطريقة غير متقنة. ثم يتابعان ذلك بأن يضيفا:
"وترتبط بهذا طبقة مدعوة لأن تتحمل كل أعباء المجتمع... وهى طبقة تتناقض أشد التناقض مع كل الطبقات الأخرى... و الشروط التى يمكن في ظلها إستخدام قوى انتاج محددة هى شروط سيطرة طبقة محددة من المجتمع... ومن ثم فكل صراع ثورى يتوجه ضد طبقة سادت حتى ذلك الحين" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 52).
وهذه المقاطع تشير إلى أولوية التناقض البنيوى، وتدعم تفسير كون.
ومع ذلك يصف ماركس وإنجلز فيما بعد الشروط المادية، أى كلا من قوى الانتاج وعلاقات الانتاج، باعتبار أنها انتقلت لكل جيل فارضة عليه شروط حياته، ولكنها تعدل أيضا من جانب الجيل الجديد، الذى " يبين أن الظروف تصنع البشر تماما بقدر ما يصنع البشر الظروف" ، وهكذا فمن اجل تفسير ثورة يلزم وجود عنصرين ماديين: "قوى الانتاج القائمة من ناحية، وتشكل جماهير ثورية تنتفض من ناحية أخرى (الأيديولوجية الألمانية، ص 54) . يوحى لى هذا بالأحرى بمقاربة مختلفة : فمن ناحية، تصبح الظروف الموضوعية شرطا للمارسات الطبقية ولكنها تعدل هى نفسها بواسطة هذه الممارسات الطبقية، ومن ناحية أخرى فوجود جماهير ثورية تنتفض ليس من الضرورى أن يكون محدداً مسبقاً بقوى الانتاج القائمة. ويبدو لى هنا أن ثمة استقلالا ذاتيا نسبيا بين هذين العنصرين وهو ما يبرر انفتاح عقل ماركس وانجلز بالنسبة لما "إذا كان الانفجار الثورى الذى يتكرر بشكل دورى فى التاريخ سوف يكون قويا بما يكفى للإطاحة بأساس ماهو قائم" (الأيديولوجية الألمانية، ص54) .
قد يكون هناك من يري أن بعض هذه التوترات التى عرضتها فى هذا المجال للتغير الاجتماعى هى توترات ظاهرية أكثر منها حقيقية لأنها تنبع من تعريفات خاطئة لبعض المصطلحات التى تؤلفها. فعلى سبيل المثال، عند نقد تعريف كون لنطاق قوى الانتاج يجادل ميللر قائلا أنه " ما لم يكن لدي ماركس قدرة كبيرة علي عدم الإتساق فلا بد من أنه كان يستخدم العبارات بمعان أوسع من المألوف"(1981 , ص 103 ) . ثم بين كيف أن ماركس وانجلز يضمنان فى كثير من المقاطع أنماط التعاون باعتبارها قوى انتاج. وإذا أخذنا هذا التعريف الأوسع، فلن تكون هناك أية مشكلة فى قبول أولوية قوى الانتاج. وربما يكون جدال ميللر ضد كون قادرا على أن يستبعد على الأقل واحدا من التوترات الممكنة التى ذكرتها ولكنه ينقل المشكلة فقط إلى مستوى آخر. إذ ينشأ توتر آخر من تعريفات بديلة ممكنة لقوى الانتاج. فمثل هذا التعريف الواسع يستبعد ضيق الحتمية التكنولوجية كما يحل بعض التناقضات فى تحليل ماركس، ولكنه يجعل من الصعب تمييز قوى الانتاج من علاقات الانتاج. ومن الناحية الأخرى فالتعريف المقيد يتيح تمييزا أكثر وضوحا بين قوى وعلاقات الانتاج ولكنه يختزل نظرية ماركس عن التاريخ إلى حتمية تكنولوجية ضيقة ويجعل بعضا من تحليلاته التاريخية غير متسقة . وعلى أية حال فميللر يدرك أن ثمة توترا حتى عندما يتبنى مفهوما واسعا لقوى الانتاج. فتصريحات ماركس الواضحة عن نظريته فى التاريخ تقترح آلية تفسيرية ضيقة مؤسسة على تقدم قوى الانتاج ، بما فيها علاقات العمل . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن تحليلات ماركس التاريخية فى الجروندريسه تبين أن التغير يمكن أن يحدث أيضا ضمن البنية الاقتصادية وأن علاقات الانتاج يمكن أن تكون فى النهاية ذاتية التحول (ميللر، 1981، ص 144).
وأخيرا، هناك نطاق رابع للتوترات له صلة بمفهوم التاريخ. بالطبع، ليس هذا نطاقا مستقلا عن "النطاقات" الثلاثة التي نوقشت قبلا. فمفهوم ماركس عن التاريخ، معتمد إلى حد بعيد على وجهات نظره حول الجدل، وحول دور الوعى والتناقض بين قوى وعلاقات الانتاج. إلا أنه يمكن التعامل معه بشكل منفصل إلى المدى الذى تكون فيه تأثيرات التوترات المذكورة آنفا على مفهوم التاريخ قد تحولت إلى توترات نوعية جديدة. فمن ناحية، يصف ماركس فى بعض التصريحات التطور التاريخى باعتباره عملية ضرورية تفرض نفسها على الكائنات الانسانية وتؤدى باحكام إلى نهاية معلومة. إذ تبدو هذه العملية فى كتابات ماركس المبكرة باعتبارها نتاج التطور الضرورى للطبيعة الانسانية وفيما بعد، فى أعماله الناضجة، تبدو كعملية من عمليات التاريخ الطبيعى خاضعة لقوانين محددة. وهكذا ففى مخطوطات باريس يبدو التاريخ كعملية أنسنة تمر عبر مرحلة من الانسلاب تنتهى باعادة الجوهر الحقيقى للانسان :
الشيوعية تعرف نفسها بالفعل باعتبارها إعادة تكامل أو عودة الانسان لنفسه، القضاء على غربة الانسان الذاتية... الشيوعية هى الامتلاك الحقيقى للجوهر الانسانى عبر الانسان من أجل استعادة الانسان لنفسه ككائن اجتماعى أى كإنسان.
هذه الشيوعية باعتبارها تجسيدا للنزعة الطبيعية فى اكتمال تطورها، تساوى الانسانية... وعلى ذلك فحركة التاريخ بكاملها هى العمل الفعلى لخلق الشيوعية (المخطوطات الاقتصادية الفلسفية، الكتابات الباكرة، ص ص 8-347) .
لقد هجر ماركس بعد فترة قصيرة للغاية، مفهوم التاريخ كعملية أنسنة. ولكن فكرة تطور ضرورى يقود إلى نهاية معروفة استمرت فى صياغات أخرى.حيث يصبح التاريخ عملية موضوعية وطبيعية تجرى بالتوافق مع قوانين شاملة. وهكذا ففى مقدمة لرأس المال يؤكد ماركس "إن وجهة نظرى لتطور التكوين الاقتصادى للمجتمع، باعتباره عملية من عمليات التاريخ الطبيعى، يمكن لها أقل من أى وجهة نظر اخرى أن تجعل الفرد مسئولا عن العلاقات التى يظل هو ناتجها الاجتماعى (رأس المال، المجلد الأول، ص 21). وبعد بضع سنوات تالية وفى كلمة ختامية لرأس المال يعيد تأكيد فكرة مماثلة حين يستشهد مؤيدا وصفا لمنهجه كتبه ناقد روسى:
إن ماركس معنى بشئ واحد فقط: أن يبين من خلال تقصى علمى صارم، ضرورة وجود أنظمة محددة متعاقبة للأوضاع الاجتماعية. . . يعالج ماركس الحركة الاجتماعية كعملية من عمليات التاريخ الطبيعى ، محكومة بقوانين ليست فقط مستقلة عن الاراده الانسانية، والوعى، والفكر، بل على العكس فإنها هى التى تحدد تلك الإرادة، والوعى، والفكر (نفس النص، ص 27).
وإذا كانت هذه النصوص تصف التاريخ كتعاقب ضرورى للأنظمة الاجتماعية، فإنها قد أكملت بالتقييم الأكثر تفصيلا فى مقدمة 1859 حيث ذكر ماركس الخطوط العريضة لتلك الأنظمة بقوله أن: "أنماط الانتاج: الآسيوى، القديم، الاقطاعى، والبورجوازى الحديث، يمكن أن تعين باعتبارها مراحل متصاعدة للتكوين الاقتصادى للمجتمع (مساهمة فى نقد الاقتصاد السياسى، مختارات ماركس وانجلز، ص 182). يبدو التاريخ من ثم باعتباره عملية أحادية الاتجاه وشاملة حيث تتعاقب مختلف المراحل الاقتصادية الاجتماعية بشكل متصاعد الواحدة بعد الأخرى بحكم العملية الطبيعية وتقود بلا توانى إلى الشيوعية التى بها ينتهى "ماقبل تاريخ" المجتمع الانسانى . وتنتج كل مرحلة تاريخية متناحرة العناصر المادية والتناقضات الكفيلة بحلها. والرأسمالية هى الشكل التناحرى الأخير لهذا التطور وهكذا فهى "تولد نفيها الخاص بصلابة قانون الطبيعة " (رأس المال، المجلد الأول، ص 715) وكون أن هذه العملية لا تنطبق فقط على الرأسمالية البريطانية المتقدمة واضح من ملاحظة ماركس:
"إنها ليست مسألة الدرجة الأعلى أو الأدنى من تطور التناحرات الاجتماعية التى تنتج من القوانين الطبيعية للانتاج الرأسمالى. إنها مسألة هذه القوانين ذاتها، هذه الاتجاهات التى تعمل بضرورة حديدية باتجاه نتائج حتمية. إن البلد الأكثر تطورا من الناحية الصناعية يظهر فقط، للأقل تطورا، صورة مستقبله الخاص" (مقدمة، رأس المال، المجلد الأول، ص 19).

على أن هناك، من ناحية أخرى، عددا من المقاطع التى تتناول التاريخ فى سياق يشدد فوق كل شئ على الممارسة الانسانية وقدرتها على تعديل الظروف:
"ليس التاريخ شيئا سوى تعاقب أجيال منفصلة يستخدم كل منها المواد والأرصدة الرأسمالية وقوى الانتاج التى نقلت إليه بواسطة الأجيال السابقة جميعا. وهكذا، من ناحية، يتواصل النشاط التقليدى فى ظروف متغيرة تماما، ومن ناحية أخرى، يعدل الظروف القديمة بنشاط متغير تماما" (الأيديولوجية الألمانية، ص 50).

وهكذا لم يعد التاريخ يبدو باعتباره عملية غائية مغلقة:
"إن التاريخ لا يفعل شيئا إنه "لا يملك ثروة ضخمة" و "لا يشن معارك" فالانسان، الحقيقى الحى هو الذى يفعل كل ذلك، الذى يمتلك ويقاتل. ليس التاريخ، إذا جاز القول، شخصا خارجيا، يستخدم الانسان كوسائل لتحقيق أهدافه الخاصة، ليس التاريخ شيئا سوى نشاط الانسان وهو يتابع أهدافه " (العائلة المقدسة، ص 110).
فالتأكيد هنا ينصب على حقيقة أن البشر يصنعون التاريخ. حقا، إنهم لا يصنعونه "على هواهم" أو "فى ظل ظروف إختاروها بأنفسهم" (الثامن عشر من برومير- لويس بونابرت، ص 96) ولكنهم ليسوا مجرد "حملة" سلبيين أو "مخلوقات اجتماعية" لعلاقات موضوعية أيضا. إذ يرفض ماركس مفهوما للتاريخ باعتباره "موضوعا" ميتافيزيقيا يكون فيه الأفراد الواقعيون "حملة" فحسب (العائلة المقدسة، ص 94). وفكرة أن التطور الاقتصادى الاجتماعى يمكن أن يعامل باعتباره عملية من التاريخ الطبيعى يمكن أن تتعارض مع تصريح ماركس فى رأس المال بأن "الطبيعة لا تنتج فى جانب ملاك النقود أو السلع، وفى الجانب الآخر بشرا لا يملكون شيئا سوى قوة عملهم الخاص. ليس لهذه العلاقة أساس طبيعى، كما أن أساسها الاجتماعى ليس عاما بالنسبة لكل الحقب التاريخية" (رأس المال، المجلد الأول، ص 166).
ومع هذا التأكيد بأن التاريخ يصنع عمليا من قبل البشر، فإن ماركس وانجلز يظهران ارتيابا فى التجريدات الفلسفية التى تقدم مخططات شاملة يجب أن يتكيف الواقع التاريخى وفقا لها. فهما يقولان عن هذه التجريدات "إنها تخدم فقط فى تسهيل ترتيب المادة التاريخية، للإشارة لتسلسل أطوارها المنفصلة، ولكنها لا تعطى بأية حال وصفة أو مخططا كما تفعل الفلسفة من أجل تصنيف حقب التاريخ على نحو متقن (الأيديولوجية الألمانية، ص 37)، ويؤكد انجلز بعد خمسة وأربعين عاما تالية نفس المسألة: " ينقلب المنهج المادى إلى نقيضه إذا لم يؤخذ باعتباره مبدأ مرشدا فى البحث التاريخى وأخذ بدلا من ذلك كنموذج جاهز الصنع يصوغ المرء وفقا له وقائع التاريخ التى تناسبه" (رسالة إلى ب. إرنست، 5 يونيه 1890 المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص ص 1-390).
وهذا ما يتيح للمرء أن يفهم لم كان ماركس ساخطا على ناقد روسى حيث علق عليه قائلا :
" إنه يصر على تحويل مخططى التاريخى عن تكوين الرأسمالية فى أوربا الغربية إلى نظرية فلسفية تاريخية عن الطريق العام للتطور المرسوم بشكل قدرى لكل الأمم، مهما كانت الظروف التاريخية التى تجد نفسها فيها" (رسالة، نوفمبر 1888، المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص 293).
وهكذا فإن ماركس يرفض مفهوما للتاريخ خطى الاتجاه وشاملا كما أنه يحدد أيضا بأى معنى تحدث عن صلابة العملية التاريخية، فعند توضيح نظريته لفيرا زازوليتش عن تكون الرأسمالية أكد أن "الحتمية التاريخية، لهذه العملية مقصورة بجلاء على بلدان أوربا الغربية" (رسالة، 8 مارس 1881، المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص 319). ولكنه يذهب حتى لمدى أبعد حين يفكر فى فرص حدوث ثورة فى إنجلترا: ففى إجابته على هيندمان، يؤكد ماركس أن "حزبه يعتبر أن ثورة إنجليزية ليست ضرورية فحسب وإنما- ايضا وفقا للسوابق التاريخية- ممكنة" (رسالة، 8 ديسمبر1880، المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص 313).

كذلك تبين تحليلات ماركس العينية للمجتمعات غير الأوربية والمستعمرة مثل الهند والصين أنه لا يعتقد أن سيرورتها الداخلية تتبع النموذج الأوربى أو أنها ديناميكية بما فيه الكفاية لتنتزعها من الركود الألفى . ففى السياق التاريخى المختلف تماما للمجتمعات الآسيوية ، حيث لا تتقدم قوى الانتاج وحيث لا يبدو أن التوازنات السياسية القاسية تغير الأساس الاقتصادى، يمتدح ماركس الدور التمدينى للحكم البريطانى، وبالرغم من أنه ممعن فى انتقاده لوحشية وتحكمية المستعمر إلا أنه يبدو أنه يدافع عن وجهة النظر القائلة بأن الفرصة الوحيدة للتقدم بالنسبة للمجتمعات الآسيوية تكمن فى فرض الرأسمالية عليها بالقوة بواسطة القوى الاستعمارية (مقالات حول الهند والصين، كتابات من المنفى، ص ص 33-325, 25-319, 7-301) ). وأيا كان مانعتقده بشأن هذا الموقف اليوم فإنه متعارض بوضوح مع نظرة للتاريخ تعتبره وكأنه قد من صخرة واحدة. وعلى أية حال، فهذا فى حد ذاته مصدر لتوترات جديدة. فمقالات ماركس حول الهند والصين توحى بأن الاستعمار يمكن أن يكون الواسطة التاريخية التقدمية لتطور الرأسمالية فى بلدان لا يمكن أن تنشأ فيها الرأسمالية تلقائيا، ومع ذلك فهو حين يحلل الحكم البريطانى فى أيرلندا فإنه يتبنى وجهة نظر مختلفة بشكل جذرى:
" إزدهرت كل فروع الصناعة الأيرلندية بين 1783 و 1801، ودمر"الاتحاد" بإلغائه للتعريفات الجمركية الحمائية التى أقرت بواسطة البرلمان الأيرلندى، كل الحياة الصناعية فى أيرلندا... فإذا ما أستقل الأيرلنديون، فسوف تحولهم الضرورة إلى حمائيين" (رسالة، 30 نوفمبر 1867، المراسلات المختارة، ماركس وانجلز، ص ص 5-184).

ومعنى ذلك أنه إذا أرادت أيرلندا أن تتقدم فينبغى أن تتخلص من الحكم الاستعمارى الذى يعوق صناعتها. وهكذا فإن هناك وجهتى نظر متناقضتين كامنتين عند ماركس تتعلقان بتوسع الرأسمالية بواسطة الحكم الاستعمارى.

ويظهر النطاقان الأخيران للتوتر فى فكر ماركس بوضوح خاص، المشاكل التى تنبع من إدماج ماركس لروافد نظرية مختلفة. فمن ناحية نجد تأثير المادية الفلسفية وتأكيدها على استقلال وأولوية الطبيعة . كما يمكن ملاحظة أن ماركس وانجلز قد تأثرا بشكل خاص بالحماس المعاصر للعلم وللقوانين العلمية، ولذا جاء وصفهما للتطور الاجتماعى بلغة سيرورة ضرورية للتاريخ الطبيعى . ومن ناحية أخرى يمارس المنظور الهيجلى الكلى عن التاريخ جاذبية ذات وزن. كما يعبر عن ذلك انجلز:
"لقد كان الحس التاريخى الاستثنائى الذى يكمن فى طريقة هيجل للتعليل هو الذى ميزه عن سائر الفلاسفة الآخرين... لقد كان أول من حاول أن يبين أن هناك تطوراً،وتماسكا جوهريا فى التاريخ، و مهما بدت لنا الآن بعض الأشياء فى فلسفته للتاريخ غريبة، فإن عظمة المفهوم الأساسى مازالت موضع إعجاب حتى اليوم (مراجعة انجلز لمساهمة فى نقد الاقتصاد السياسى، مساهمة فى نقد الاقتصاد السياسى، ص 224) .

علي أن كل ذلك كان مقترنا بنظرية للممارسة ونفور من مخططات التجريد الفلسفى الذى يضاد فكرة العمليات الطبيعية الحتمية. فبينما تشدد المقاطع التى تدور حول القوانين الضرورية للتطور على العلاقات البنيوية التى تشكل الأفراد وسلوكهم على نحو تام، تؤكد التحليلات السياسية ومقاطع أخرى بقوة على الصراع الطبقى وعلى قدرة البشر على تغيير الظروف. وهنا بعض مصادر التوترات التى على أى إعادة بناء للمادية التاريخية أن تحلها. ولكن قبل هذا، فمن الضرورى أن نستكشف الطريقة التى استطاع بها التقليد الماركسى بعد وفاة مؤسسى الماركسية أن ينشئ طبعة أرثوذكسية من المادية التاريخية التى أكدت بشكل أحادى جانبا واحدا فقط من هذه التوترات.

الفصل الثانى
االتـفســير الأرثـوذكســى
بالرغم من أن المادية التاريخية هى بالتأكيد الميراث الفكرى الأكثر أهمية لتعاون ماركس وانجلز، فإن ماركس نفسه لم يستعمل هذا التعبير ولم يقدم تعريفا شكليا ومعالجة منهجية لمضامينها. وكان انجلز هو الذى نحت مصطلحى "المفهوم المادى للتاريخ" (أنظر ضد دوهرنج، مختارات ماركس وانجلز، ص 316) و"المادية التاريخية" (أنظر مقدمة، الاشتراكية: الخيالية والعلمية، مختارات ماركس وانجلز، ص 377) بل حاول حتى تقديم تعريف شكلى لها باعتبارها:
" تلك الرؤية لمجرى التاريخ التى تبحث عن السبب النهائى والقوى المحركة العظمى لكل الأحداث التاريخية الهامة فى التطور الاقتصادى للمجتمع، وفى تغيرات أنماط الانتاج والتبادل، وفى انقسام المجتمع لطبقات متميزة من جراء ذلك، وفى الصراع بين هذه الطبقات الواحدة ضد الأخرى" (المقدمة، الاشتراكية: الخيالية والعلمية، مختارات ماركس وانجلز، ص ص 3-382).
وفى الواقع فإن كتاب انجلز ،ضد دوهرنج، الذى طبع ككتاب فى عام 1878 بعلم وموافقة ماركس، يتضمن أول عرض للمادية التاريخية يكتب بعد صياغتها الأولية فى الأيديولوجية الألمانية ومقدمة 1859.
ورغم صحة احتمال أن يكون انجلز قد بالغ في حديثه عن موافقة ماركس علي المضامين التى وردت فى "ضد دوهرنج" والطبيعة المشتركة لوجهات نظرهما النظرية (أنظر كارفر، 1983، ص ص 152, 8-125) فقد دللت من قبل على انه لا يمكن للمرء بسهولة أن يفصل أفكار انجلز عن قسم على الأقل من فكر ماركس، والتأثير الذى مارسته أكثر إهتمامات انجلز العلمية والطبيعية قد جرى الاعتراف بها من قبل ماركس نفسه (أنظر جيراتانا، 1975، المجلد الأول، ص 118). ومع ذلك فإن حقيقة وجود تأكيدات واهتمامات مختلفة يسمح بامكانية تفسيرات مختلفة ويجب أن يوضع هذا فى الاعتبار بعناية عند دراسة الطريقة التى تطورت بها الماركسية بعد وفاة مؤسسيها. فعلي الرغم من أن لوم انجلز على بناء الماركسية الأرثوذكسية لن يكون مجديا ، فإن كتاباته المتأخرة، خاصة ضد دوهرنج، قد فسرت بطريقة أدت فى آخر الأمر لتطور أرثوذكسية فظة. وكما بين "جيراتانا" ، فإن ضد دوهرنج قد لبى الحاجة إلى تركيبة نسقية وكاملة للإشتراكية وباعتباره كذلك فقد جرى التهليل له من قبل برنشتين، وأدلر، وكاوتسكى وبليخانوف (1975، المجلد الأول، ص ص 53-147). فبالرغم من أن هؤلاء المفكرين قد ذهبوا فى اتجاهات نظرية وسياسية مختلفة، فقد فسروا جميعا ضد دوهرنج باعتباره نظرة عامة للعالم، ودليلا موسوعيا للماركسية المنفصلة عن أصولها النقدية. وما أن تم هذا حتى بات الطريق معبدا للتقنين العقائدى للمبادئ التى اتسمت بالأرثوذكسية.
وعند محاولة فهم كيف تطورت المادية التاريخية إلى أرثوذكسية فإن علينا أن نتجنب تطرفين. فمن ناحية ليس من الممكن أن نؤيد وجهة النظر القائلة بأن الماركسية الأرثوذكسية هى مجرد تشويه للفكر الاصلى لماركس، كما يبدو أن "شميدت" (1971) و "فليشر" (1973) يعتقدان، ومن ناحية أخرى لا بد وأن نرفض فكرة أن الماركسية الأرثوذكسية هى ببساطة تطوير أبعد لفكر ماركس كما يذهب "هوفمان" حين يقول:
"معارضة ماركس بالماركسية، أى معارضة التعاليم الأصلية بالتطورات التى تولدت عنها، لا معنى له وغير ذى جدوى مثل محاولة فصل فيضان نهر عن منبعه الفعلى. لأن الماركسية هى نظرية كارل ماركس كما تطورت عبر المائة عام الأخيرة من التاريخ" (هوفمان، 1975، ص 22).
ويخفق كل من التطرفين فى ادراك وجود التوترات فى فكر ماركس- فالأول يمتدح نظرية ماركس باعتبارها مغايرة للماركسية السوفيتية، بينما يبجل الأخير الماركسية السوفيتية باعتبارها استمرارا لماركس. ومن ثم فإنهما غير قادرين على رؤية أن ظهور الأرثوذكسية متصل بوجود فجوات فى فكر ماركس الذى يسمح بالتأكيدات الأحادية فى اتجاه نوعى واحد. ورغم ذلك لا يمكن للمرء أن يختزل فكر ماركس إلى التاكيدات الأحادية التى يشدد عليها هؤلاء المفسرون.
فى تفسيرنا لظهور الماركسية الأرثوذكسية لا بد لنا أن نضع فى اعتبارنا ليس فقط تفسيرا نوعيا لكتابات انجلز من قبل الجيل الأول من الماركسيين وإنما نضع فى اعتبارنا أيضا حقيقة أن مثل هذا التفسير يمكن أن يجد بعض الدعم لدى ماركس نفسه. ومع ذلك فإن بناء الأرثوذكسية ليس نتيجة بسيطة لخيارات ذهنية. وبالرغم من أننى سوف أركز على الجوانب النظرية للمشكلة وارتباطاتها بعمل ماركس، فمن الضرورى ادراك أن تفسير ماركس وانجلز من قبل الجيل الأول للماركسيين معتمد للغاية على السمات النوعية للمارسات الطبقية التى يشارك ويناضل وفقا لها هؤلاء المفكرون. وهناك اعتباران هامان فى هذا الصدد: الأول، الظروف التى حددت الاستراتيجية والنشاطات السياسية للحزب الاشتراكى الديمقراطى الألمانى- أول حزب ماركسى كبير للطبقة العاملة . ذلك أنه بالنسبة لحركة حديثة النشأة فقد كان أمراً حاسما بالنسبة لها تقوية منظمات الطبقة العاملة وكذلك تأليف النقابات ، وكان توسيع نضالاتها الاقتصادية يحظى بالأولوية . وهذا التأكيد على النضالات الاقتصادية كان قد تحول إلى الاعتقاد بأن الرأسمالية سوف تنهار تقريبا بشكل آلى بالانكشاف البسيط لتناقضاتها الاقتصادية الكامنة (أنظر لاكلاو، 1977،ص ص 126 و 7). فى هذا السياق فإن تفسيرا اقتصاديا لماركس أصبح مهيمنا وهو الذى شدد على حتمية عملية "التاريخ الطبيعى" ، التى كان كاوتسكى ممثلها الأساسى.
على أن إنفجار الحرب العالمية الثانية حطم هذه التوقعات وأدى إلى انشقاق واندماج الحزب الاشتراكى الديمقراطى الألمانى النهائى ضمن النظام الرأسمالى. وكما أشار سلفادورى، فقد كانت هذه النتيجة المفارقة ترجع لحقيقة أن "كانت الاشتراكية الديمقراطية الألمانية تمثل أول حزب عمالى كبير يضطر لأن يتعامل بغير مداورة مع نظام رأسمالى قادته نظريته إلى أن يتوقع نهايته السريعة، وهو النظام الذى انفجر، بدلا من ذلك، نحو الخارج فى امبريالية حشدت دعما جماهيريا واسعا " (سلفادورى، 1917، ص 19) . أما الاعتبار الثانى الهام فله صلة بالتطور المتتالى للحزب البلشفى بعد ثورة 1917 نحو بيروقراطية سلطوية قدت من صخرة واحدة احتكرت تفسير ماركس وانجلز وكانت قادرة من خلال الكومنترن حتى على فرض "خطها الرسمى" العقائدى على الأحزاب الأجنبية (أنظر بولانتزاس، 1977، ص ص 24-17 و 33-223). وهكذا فقد أضيف للنزعة الاقتصادية للأممية الثانية تفسير سوفيتى "رسمى" ثبَت وقنَن المعتقدات الأساسية للمادية التاريخية. ثم اختتمت المرحلة النهائية لهذه العملية الخاصة بتكوين أرثوذكسية، بكتاب ستالين الشهير المطبوع فى عام 1938 ، "المادية الجدلية والتاريخية" (ستالين، 1976)، الذى أصبح ذا نفوذ لحد بعيد والذى مازالت الكتب السوفيتية (أنظر كوسينين وآخرون، 1963 و كوفالسون 1973) وبعض الكتاب الغربيين يكررون ويفسرون الآراء التى وردت فيه (أنظر هوفمان، 1975).
ويمكن وصف العناصر الأساسية للتفسير الارثوذكسى للمادية التاريخية بشكل أفضل بالنظر إلى النطاقات الأربعة للتوتر فى فكر ماركس وانجلز, من أجل توضيح الطريقة التى عوملت بها القضايا الأساسية من قبل الجيل الثانى من النظريين الماركسيين حتى تم تقنينها من قبل ستالين، وكذك الطريقة التى جرى بها توسيع هذه القضايا والدفاع عنها فيما بعد. ويمكن أن يوجز طابع هذه القضايا الأساسية فى أربع نقاط: الأولى هى اعتبار المادية التاريخية امتدادا أو تطبيقا لمبادئ المادية الجدلية على دراسة المجتمع والتاريخ. والثانية أن الوعى هو انعكاس للواقع المادى، حيث أن ، الوجود، العالم المادى، سابق على ويوجد بشكل مستقل عن الوعى. والثالثة أن القوى المنتجة تتجه إلى التطور عبر التاريخ وهى العامل الأساسى المحدد للتغيرات فى البنية الاقتصادية والتى تحدد بدورها التغيرات فى بقية المجتمع. أما النقطة الرابعة فهى أن التاريخ يتطور من خلال مراحل شاملة وضرورية وفقا للمنطق التقدمى للقوانين شبه الطبيعية التى تقود البشرية بشكل حتمى نحو المجتمع اللاطبقى. مع ذلك من الهام أن نوضح، أنه ليس كل المفكرين الذين عرضوا أو دافعوا عن بعض هذه القضايا الأساسية والذين نتناولهم فى هذا الفصل يوافقون بالضرورة على كل القضايا أو المسائل النوعية التى أثيرت من جانبهم.

الجدل والمادية الجدلية
بالرغم من أن لينين يؤكد بثقة أن "ماركس كثيرا ما أطلق على نظرته للعالم اسم "مادية جدلية"، وأن كتاب انجلز "ضد دوهرنج" الذى قرأه ماركس كاملا فى مخطوطته، يعرض تحديدا هذه النظرة للعالم (1972 أ، ص 294)، فإن هذا المصطلح لم يستخدمه لا ماركس ولا انجلز بالفعل. وفى الحقيقة فإن " المادية الجدلية" مصطلح نحته بليخانوف فى العام 1894 باعتباره أكثر الأوصاف دقة لفلسفة ماركس بالتعارض مع كل من "المادية الميتافيزيقية" لهولباخ وهلفسيوس و"المثالية الجدلية" لهيجل (بليخانوف، 1972، ص 220، ملاحظة) . مع ذلك، وبلا شك فإن لينين مصيب حين يرى أن ثمة رابطة بين "ضد دوهرنج" وبين "المادية الجدلية" متصورة باعتبارها فلسفة عامة تختص بالقوانين الجدلية للحركة الملازمة لكل الموجودات. فمن ناحية لا يعرض انجلز الجدل فقط باعتباره مبدأ عاما للحركة يمكن أن يطبق على الطبيعة والتاريخ (مقدمة، ضد دوهرنج ، ص 15، من أجل تعريف للجدل أنظر ضد دوهرنج، ص ص 168 و 9) وإنما يسعى أيضا لأن يطور تطبيقه على الطبيعة لأنه مقتنع بأن "الطبيعة هى برهان الجدل" (ضد دوهرنج، ص 33) معترضا بذلك على قول دوهرنج بأنه لا يمكن أن تكون هناك تناقضات فى الأشياء الواقعية. حيث يدلل انجلز على أن ذلك قد يكون صحيحا مادمنا نعتبرها فى حالة سكون ولكن بمجرد أن نعتبر الأشياء فى حالة حركة, تظهر التناقضات: ف"الحركة هى ذاتها تناقض" (ضد دوهرنح، ص 144).
ويسعى انجلز باتباع هذه الفكرة الأساسية لبيان كيف يشتغل الجدل فى التغيرات الميكانيكية للعناصر الفيزيائية وأيضا فى سيرورة الحياة العضوية، وفى التفاعلات الكيميائية والرياضيات (أنظر ضد دوهرنج، ص ص 170-161). وفيما بعد فى كتابه "جدل الطبيعة" يطور انجلز أكثر ويوسع هذه الأفكار بأمثلة أخرى عن الحرارة ، والكهرباء، والاحتكاك، إلى آخره .. مأخوذة من الفيزياء، وعلم الفلك، والجيولوجيا، والبيولوجيا، وهكذا دواليك. ومن ناحية أخرى، يسعى انجلز متبعا هيجل، إلى تأسيس وتطوير القوانين العامة للجدل التى جردت من التاريخ والطبيعة والمجتمع ويختزلها فى ثلاثة قوانين:
• قانون تحول الكمية إلى كيفية والعكس بالعكس.
• قانون تداخل الأضداد .
• قانون نفى النفى.
وهى القوانين الثلاثة التى طورها كلها هيجل بطريقته باعتبارها مجرد قوانين للفكر (جدل الطبيعة، ص 62).
وهكذا ، فإن انجلز عند عرض هذه القوانين يستلهم بوضوح المفهوم الهيجلى للجدل مع الأخذ فى الاعتبار انه يحتاج الى "قلبه " وهكذا يتم التعامل مع هذه القوانين باعتبارها مستنبطة من الطبيعة والتاريخ وليست مقحمة عليها كقوانين للفكر.
ومع ذلك لا يبدو أن الاختلاف بكل هذه الأهمية حين ندرك أنه بالنسبة لهيجل لم يكن هناك تمييز دقيق بين التاريخ والطبيعة من جانب والفكر من جانب آخر. إذ كان انتاج الفكر، بالنسبة له، هو عملية انتاج الطبيعة والتاريخ فى آن واحد، بحيث يصبح "جدل الأفكار هو فى نفس الوقت جدل المادة" وفقا لتعبير "كوليتى" (1975،ص 11). صحيح أننا يمكن أن نجد عند ماركس شرحاا للجدل باعتباره " قلبا بسيطا" لجدل هيجل (كلمة ختامية، رأس المال، المجلد الأول، ص 29)، ولكن يمكن لنا أن نجد مقاطع أخرى يبدو فيها الاختلاف بين المفهومين أكثر من مجرد عملية قلب (أنظر الفصل الأول). ومثل هذا التوازن لا وجود له لا فى "ضد دوهرنج" ولا فى "جدل الطبيعة" (أنظر كارفر، 1983، ص ص17-116)، ومن ثم ليس من المدهش أن جيل الماركسيين الذى أخذ "ضد دوهرنج" كتقييم نهائى للماركسية تبنى بل وحاول أن يقنن إلى مدى أبعد صيغة هيجلية عن الجدل باعتباره مبدأ شاملا لكل الموجودات.

وهذا واضح تماما عند بليخانوف، الذى يشكل الجدل لديه ليس فقط فلسفة متميزة للحركة تسمى المادية الجدلية وإنما أيضا منطقا أرقى بالنسبة للمنطق الشكلى . فبالنسبة له يمثل تناقض حركة المادة المبدأ المنطقى للهوية لأن "جسما متحركا يوجد ولا يوجد فى مكان معين فى نفس الوقت (بليخانوف، بدون تاريخ، ص 90). أو هو، بمعنى آخر يتبع قول انجلز بأن الحركة تناقض، ولكن إذا كان الأمر كذلك "فيبدو أننا قد نجد أنفسنا مواجهين باحد أمرين: إما أن نعترف ب"القوانين الأساسية للمنطق الشكلى فننكر الحركة، أو ، على النقيض من ذلك، نعترف بالحركة فننكر هذه القوانين" (نفس المصدر ص ص 2-91). ويكمن حل اللغز فى قبول أنه كما أن السكون هو لحظة فقط من الحركة فإن المنطق الشكلى أيضا لحظة خاصة من المنطق الجدلى (ص 94) ومثل هذا الموقف يوضح ويضفى طابعا رسميا على بعض المقترحات الموجودة بالفعل فى "ضد دوهرنج" التى تحبذ الجدل بدلا من المنطق الشكلى من حيث أنه يقدم "نظرة أكثر شمولا للعالم" كما يمثل الصيغة اِلأكثر أهمية للتفكير للعلوم الطبيعية فى الوقت الراهن" (ضد دوهرنج، ص ص 36 و 2-161 و 392). بغض النظر عن هذا فإن بليخانوف يؤكد كثيرا جدا تحول الكم إلى كيف كما يؤكد وجود الطفرات (انقطاعات فى التدرج ) فى تطور كل من المجتمع والطبيعة (بليخانوف، 1972، ص ص 8-77 و 163، بدون تاريخ ص ص 8-35).

يظهر لينين نفس الانبهار بجدل هيجل ويؤكد حتى أن " من المستحيل تماما فهم "راس المال" لكارل ماركس وخاصة فصله الأول بدون درس وفهم متمكن لمنطق هيجل بكامله. وعلى ذلك فرغم مضى نصف قرن لم يفهم أحد من الماركسيين ماركس" ( لينين، 1972 ب، ص 180). لا يهم من ثم أن ماركس لم يترك تحليلا نوعيا للمنهج الجدلى لأنه "ترك منطق "رأس المال وهذا ينبغى أن يستغل لأقصى حد فى هذه المسألة" (لينين، 1972 ب، ص 319). ويفهم لينين بالجدل وحدة المتناقضات التى يجب أن تدرك "فى كل الظواهر وعمليات الطبيعة" (ص 360). ومن ثم فإن جدل المجتمع هو حالة خاصة فقط من الجدل بصفة عامة والذى يمكن أن يوجد أيضا فى الرياضيات، الميكانيكا، الفيزياء، الكيمياء، إلى آخره ، إذ تبين كل العلوم الطبيعية الحركة الجدلية فى الطبيعة، " متمثلة فى تحول الفردى إلى كلى، والعرضى إلى ضرورى، والتحولات والتغيرات والارتباطات المتبادلة للأضداد" (ص 362).

وتتلقي النزعة الأرثوذكسية دفعة قوية مع بوخارين وستالين لأنهما يطوران ويصنفان ويثبتان المعتقدات الأساسية لما سمى بصفة عامة "المادية الجدلية" منذ هذا الوقت. فالمبادئ الخاصة بالمادية فى هذا المفهوم معنية بالعلاقة بين المادة والفكر، وهو الموضوع الذى سأتناوله فى القسم التالى . لكن من الضرورى أن نشير الآن إلى أن هذا فى حد ذاته تحول عن مفهوم ماركس وانجلز فى أمرين مرتبطين للغاية: الأول، أنه بالنسبة لمؤسسى الماركسية فإن نظرية الوعى كانت جزءا من المادية التاريخية وقد جرى تناولها فى هذا السياق. الثانى، أن مناقشة ماركس وانجلز للوعى لم تكن تطويرا فلسفيا مجردا لموضوع المادة والفكر بصفة عامة. والجانب الآخر لهذا المفهوم هو الجدل. ولكن تطويرات انجلز لجدل الطبيعة، بالاضافة إلى بعض تأكيدات ماركس الخاصة - هى التى تقدم قاعدة أرسخ لتجريدات مماثلة. وهكذا تؤسس المادية الجدلية كما قننها بوخارين وستالين منذ بداية ميلادها باعتبارها الفلسفة الأرثوذكسية للماركسية ؛ المستوى الذى تتم داخله مناقشة الوعى والجدل: وهو مستوى المبادئ والتصنيفات العامة المجردة وليس التحليل العينى لمجتمعات تاريخية.
وفيما يتعلق بالجدل ، يميز بوخارين بين طريقتين للنظر فى الطبيعة والمجتمع : وجهة النظر السكونية ووجهة النظر الحركية . الأخيرة منهما فقط هى التي تشكل الموقف "الصحيح" لأنه لا شئ غير قابل للتغير فى العالم، وهكذا يجب أن يفهم كل شئ فى تطوره من نشأته إلى اضمحلاله. هذه هى وجهة النظر الجدلية (بوخارين، 1965، ص ص4-63) وبالاضافة إلى ذلك يجب ألا تعتبر الظواهر حالات منعزلة وإنما تؤخذ فى علاقاتها المتبادلة. هذان إذن هما المبدآن الأساسيان اللذان يتطلبهما المنهج الجدلى: "يجب أن تدرس كل الظواهر فى علاقاتها التى لا فكاك منها، وثانيا، أن يدرس كل مجتمع فى حالة حركته الخاصة (بوخارين ، ص 67). ويستنبط بوخارين منهما نتائج منهجية لدراسة المجتمع : فلابد وأن يدرس كل شكل اجتماعى فى شروطه النوعية ( ص ( 69 ولابد ان يدرس كل شكل اجتماعى فى سيرورة تغيره الداخلية (ص 70)، كما يجب أن تدرس كل المجتمعات فى نموها واختفائها الضرورى (ص70) وهكذا . فأساس الحركة بطبيعة الحال، هو التناقض . ونحن نجد هنا أن فهم بوخارين لهيجل يختزل الجدل إلى عملية من ثلاث مراحل هي: الأطروحة (الوضع الأصلى للتوازن) النقيض (اختلال التوازن)، والتركيب (ائتلاف التناقض) (ص 74) وهى العملية التى يستخدمها لتصنيف نماذج العلاقات بين المجتمع ومحيطه : إلى التوازن المستقر، والتوازن غير المستقر ذى مؤشر ايجابى، والتوازن غير مستقر ذى مؤشر سلبى (ص ص—75 -6).
ويضيف بوخارين بضعة عناصر أخرى عن تحول الكم إلى كيف وعن التغيرات المفاجئة فى الطبيعة والمجتمع (الذى كان أمرا مهما لدى بليخانوف). ولكن ستالين هو الذى وضع أخيرا ما أسماه كولاكوفسكى عن حق"تعاليم ماركسية كاملة لجيل بأسره "(1978، المجلد الثالث، ص 97) وهو الكتيب ذو النفوذ الضخم "المادية الجدلية والتاريخية" والذى هو بالتأكيد ليس خلاقا لحد بعيد لأن كل ما يحتويه قد قيل قبلا من جانب بليخانوف، وبوخارين ولينين، لكنه قدم بشكل منهجى وتربوى ، الطبعة الأخيرة من الأرثوذكسية. أضف إلى ذلك فإنه النص الذى يكرس الوضعية الثانوية للمادية التاريخية :
المادية التاريخية هى توسيع مبادئ المادية الجدلية لتشمل دراسة الحياة الاجتماعية ، هى تطبيق مبادئ المادية الجدلية على ظواهر حياة المجتمع ، على دراسة المجتمع وتاريخه . (ستالين ، 1976ص 835 )
ويعرض ستالين المادية الجدلية باعتبارها تركيبا من المادية الفلسفية والمنهج الجدلى. وسوف أتناول المادية فى القسم التالى، الذى يعالج بصفة أساسية نظرية الوعى . أما بالنسبة للجدل، فيرى ستالين أنه النقيض المباشر للميتافيزيقا، وأنه يمتلك أربعة ملامح أساسية. الأول، لأن الطبيعة هى كل متكامل وبالتالى "فإن أى ظاهرة يمكن أن تفهم وتفسر إذا ما درست فى ارتباطها المتلازم بالظواهر المحيطة" (ستالين، 1976،ص 837). الثانى، أن الطبيعة هى حالة من الحركة المستمرة حيث تنشأ الأشياء دائما، وتتطور وتنحل، وبالتالى يجب أن ندرس الظواهر من منظور الحركة والتغير (ص838). الثالث، أن التطور فى الطبيعة ليس تراكما تدريجيا للتغيرات الكمية وإنما هو تراكم للتغيرات الكمية يتحول فجأة إلى تغيرات كيفية جوهرية متخذا "شكل طفرة من حالة الى أخرى" (ص 838). الرابع، أن "التناقضات الداخلية كامنة فى كل الأشياء وفى ظواهر الطبيعة، لأن لها جميعا جوانبها السبلية والايجابية" (840). والصراع بين هذه الاضداد هو جوهر عملية التطور.
والكتابات السوفيتية تكرر باختلافات طفيفة وتعلق على صياغة ستالين حتى اليوم. وبمكن أن نجد فى الغرب فقط محاولات مستقلة لتبرير جدل الطبيعة دون الإشارة لمبادئ أرثوذكسية معطاة سلفا. فالشيوعيون الفرنسيون يناقشون الموضوع بطريقة غاية فى التجريد وبالأحرى غير حاسمة ولكنهم يقبلون فى النهاية معالجة فلسفية مستقلة لقوانين الجدل بسبب حاجتهم النظرية لتحديد فلسفى لمضامين الجدل (أنظر سيف، 1974، كوتن، 1977 وجايجليه، 1977).
بينما يدافع هوفمان فى بريطانيا العظمى عن جدل الطبيعة مدللا على ذلك بأننا إذا قبلنا بوجود جدل إنسانى فإننا ملزمون بأن نقبل جدل الطبيعة لأنه حتى نفهم الجدل الانسانى جدليا، يجب أن نفهم أصوله Genesis . "ولا يمكن لأصل الانسان أن يفهم منسوبا إلى طبيعة يعتقد بأنها قادرة فقط على الدوران فى حلقات (هوفمان، 1975،ص 60)، أو بمعنى آخر، فإن الطبيعة الميكانيكية لا يمكن أن تنتج الانسان الجدلى (ص 63)، من ثم مالم تكن المادة تتضمن "الانتاجية والابداع التى تسمى جدل " فإن تطورها التاريخى آنئذ لا يمكن أن يفسر عقلانيا، وإذا كان تطور المادة غير قابل للتفسير، فكذلك أيضا تطور الانسان (ص 61). باختصار، يبدو الجدل بالنسبة للأرثوذكسية كمبدأ شامل للحركة كامن فى كل الموجودات ويمكن أن يقدم كفلسفة عامة باستقلال عن الممارسات الاجتماعية. وتطبيقه على المجتمع هو الذى يولد المادية التاريخية.


الوعى بوصفه انعكاسا
لقد رأينا كيف أن هناك توترا عند ماركس وانجلز بين الوعى الاستباقى والوعى كانعكاس. على أنه بعد وفاة ماركس نشأت كثير من التفسيرات التى تدعى أنها ماركسية، وأخذت تختزل الوعى إلى شروطه الاقتصادية وتنكر عليه أى دور فاعل. وقد حدث هذا بشكل غاية فى السرعة حتى أن انجلز نفسه فى أعوامه الأخيرة شعر بأنه مضطر لأن يواجه هذه النظرات وحاول فى سلسلة من الرسائل الهامة أن يقومها. وهو يعترف صراحة قائلا: "ماركس وأنا مسئولان جزئيا عن حقيقة أن الشباب يضعون أحيانا تأكيدا أكبر على الجانب الاقتصادى بأكثر مما يستحق. فقد كان علينا آنذاك أن نؤكد المبدأ الأساسى ضد خصومنا، الذين أنكروه، ولم يتوفر لدينا الوقت دائما، أو المكان أو الفرصة لأن نعطى العوامل الأخرى ما تستحق من فاعلية (رسالة إلى ج. بلوخ، 22-21 سبتمبر 1890، الاعمال الكاملة ص 396 )
لجدال انجلز ثلاث جوانب . الاول ، انه رغم ان العامل الاقتصادى هو المحدد فى نهاية المطاف فليس هو العامل الوحيد لأن " اذا ماأتى الى العالم اى عنصر تاريخى عن عنصر آخر ، هو فى آخر تحليل بفعل الاسباب الاقتصادية ، فانه يرتد ، يستطيع ان يؤثر على محيطه وحتى على الاسباب التى ادت الى قيامه" ( رسالة الى فرانز مهرنج ، 14 يوليو ، 1839 ، المراسلات المختارة لماركس وانجلز ، ص 435) . ولكن هذا تأثير ثانوى فحسب (رسالة الى ك. شميدت، 5 اغسطس ، 1890، المراسلات المختارة لماركس وانجلز ، ص 393). الثانى ، ان الهيمنة النهائية للعامل الاقتصادى على دائرة الوعى " تؤثر ضمن الشروط التى وضعها المجال النوعى نفسه "( رسالة الى كارل شميدت ، 27 اكتوبر ،1890، المراسلات المختارة لماركس وانجلز ، ص 401 ). الثالث ، ان الحركة الاقتصادية تؤكد ذاتها لأن فعالية الوعى تنحل فى جملة لانهاية لها من الاحداث العارضة " ( رسالتان الى ج . بلوخ 21 -22سبتمبر 1890وإلى بورجيوس، 25 يناير1894، المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص ص 443,395).

قد يبدو مفارقة أن كفاح انجلز المتأخر ضد الاختزالية الاقتصادية يمكن أن يقدم فى نفس الوقت بعض العناصر للنظرة الأرثوذكسية للوعى باعتباره مجرد انعكاس للواقع. ولكن يبدو لى أن هذا هو واقع الحال. فانجلز فى هذه الرسائل مازال يشير للوعى باعتباره ليس انعكاسا فحسب (أنظر المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص ص 401-400 و 434)، وإنما أيضا، وبصفة أساسية، يعالجه- ليس فى سياق نظرية الممارسة- وإنما فى سياق المجالات أو الحالات المتكونة سلفا والتى تتفاعل سببيا. فمن ناحية يعطى الوعى بعض التأثير السببى ولكن فقط كإنعكاس معطى للعمليات الاقتصادية وليس باعتباره مستبقا ومشاركا فى صلب بناء هذه العمليات. ومن ناحية أخرى فإن مثل هذا التأثير السببى للوعى قليل المغزى بسبب وجوده فى صورة كثرة من الأحداث العرضية التى تتجه إلى إلغاء ذاتها، وهكذا يتم تأكيد الدور الجوهرى للقوى الاقتصادية. على أن تحليل انجلز للوعى فى سياق مجالات معطاة من الحياة الاجتماعية قد تم التعبير عنه بأفضل شكل، بطبيعة الحال، فى مجاز القاعدة والبناء الفوقى.

ونفس هذا المزيج المتعارض بين النزعة المضادة للاختزالية الاقتصادية وبين الانعكاس يوجد عند بليخانوف. فعند مراجعته اصول مجموعة مقالات "لابريولا" (1970) ينتقد بليخانوف نظرية العامل الاقتصادى باعتبارها تجريداً "يمزق أوصال نشاط الانسان الاجتماعى" (بليخانوف أ، ص 15). وهو يجادل بان الماديين الحقيقيين، "ينفرون من الزج بالعامل الاقتصادى فى كل مكان. أضف إلى ذلك، أنه حتى السؤال عن أى عامل هو المهيمن فى الحياة الاجتماعية يبدو لهم لا معنى له "(ص9) فما نحن بحاجة إليه ليس نظرية لقوى منفصلة تحدد حركة المجتمع بل "نظرة تركيبية للحياة الاجتماعية". فالقانون والأخلاق والدولة وإن كانت تحددها العلاقات الاقتصادية لكن ذلك لايحدث بشكل مباشر أو فوري . وفى الختام يقر بليخانوف بالطابع الاستباقى للوعى: "ليست هناك واقعة تاريخية لا تدين بأصلها للاقتصاد الاجتماعى، لكن ما لا يقل عن ذلك صوابا هو أن نقول بانه ليست هناك واقعة تاريخية لم تسبقها، أو ترافقها، أو تعقبها حالة محددة من الوعى" (ص23).
ومع ذلك يقدم بليخانوف وصفا متسلسلا وبالأحرى ميكانيكيا للقاعدة والبناء الفوقى حيث السبب الأولى لكل الظواهر الاجتماعية هو القوى المنتجة التى تحدد الاقتصاد وهذا بدوره يحدد السياسة وهكذا فى تعاقب زمنى تقريبا ينتهى بأكثر أشكال الوعى تجريدا:
إذا أردنا أن نعبر باختصار شديد عن وجهة النظر التى تبناها ماركس وانجلز فيما يخص العلاقة بين "القاعدة" الشهيرة الآن و "البناء الفوقى" الذى لا يحظى بشهرة أقل فإننا سوف نحصل على شئ كالآتى:
1 - حالة القوى المنتجة.
- 2العلاقات الاقتصادية التي تشترطها هذه القوى
- 3النظام الاجتماعى السياسى الذى تطور استنادا إلى ذلك "الأساس" الاقتصادى المعين
- 4 عقلية البشر الذين يعيشون فى المجتمع، والمحددة جزئيا مباشرة بالشروط الاقتصادية الحاصلة، وجزئيا بكامل النظام الاجتماعى السياسى الذى نشأ على هذ الأساس
- 5 الأيديولوجيات المختلفة التى تعكس خصائص هذه العقلية.(بليخانوف، بدون تاريخ، ص70).
لا يدهشنا إذن أن نجد عند بليخانوف أن سيكلوجية البشر تعكس بصفة عامة بنية المجتمع وأن "سيكلوجية المجتمع تكون دائما متوافقة مع نظامه الاقتصادى" (1972، ص165). تظهر هنا مرة أخرى فكرة الانعكاس فى سياق مجاز الأساس- البناء الفوقى.
أما عند كاوتسكى فتتلقى نظرية الوعى تأكيدا اختزاليا واضحا. ولكن أكثر من الاختزالية الاقتصادية، يقدم كاوتسكى مفهوما ماديا (مؤسس إلى حد بعيد على داروين) حيث يصبح الوعى "سلاحا فى الصراع الاجتماعى من أجل الحياة " (1975 أ،ص 134). بهذا المعنى فإن البشر ليسوا مختلفين عن الحيوانات حيث أنهم يستخدمون الوعى ليعيشوا ويتكيفوا. وهكذا فإن أشكال الوعى جميعا وخاصة القواعد الأخلاقية ليست اعتباطية، إنها تنشأ من الحاجات الاجتماعية (ص 118) إذ " يتطلب كل شكل اجتماعى، حتى يبقى، قوانين أخلاقية محددة متكيفة معه" (119) و هذا يعنى أن المعايير الأخلاقية تتنوع وتتغير مع المجتمع .ومع ذلك فليست هذه عملية ميكانيكية:
فكما هو الحال مع القوانين الأخلاقية كذلك مع بقية البناء الفوقى الأيديولوجى المعقد الذى يقوم على نمط الانتاج. إذ يمكن للبناء الفوقى أن يفصل نفسه عن أساسه، وخلال فترة معينة، يمكن أن يكون له وجود مستقل (كاوتسكى، 1975 أ، ص 123)
ولكن ذلك ليس سببا لافتراض أن الوعى يحدد التطور الاجتماعى. يقبل كاوتسكى , متابعا فى ذلك انجلز, وجود تفاعل متبادل بين الأساس والبناء الفوقى وأنه يمكن للعوامل الأيديولوجية أن تدعم التطور الاقتصادى. ولكن هذا يمكن أن يحدث فقط عندما يعتمد الوعى على الحياة الاجتماعية ويتوافق مع الحاجات الاجتماعية التى تولده (ص 124).
وهذا هو التفسير الوظيفى للوعى الذى استعاده كون (1978) إذ يقول: تتطلب القاعدة الأبنية الفوقية، وطابع الأخيرة يعتمد على حاجة الأولى. وهكذا، بالرغم من أن القوانين الأخلاقية يمكن أن تفصل نفسها وتبقى لمدة طويلة، إلا أنه كلما يتقدم التطور الاقتصادى أكثر ويخلق حاجات جديدة كلما يقوى التناقض أكثر بين الأخلاقية السائدة وحياة أعضاء المجتمع، وتتجه الأخلاق على المدى الطويل إلى التغير حتى تكيف نفسها للحاجات الاجتماعية الجديدة. ثم يقرر كاوتسكى عندئذ أن :
أنزلت المادية التاريخية المبادئ الأخلاقية من أعالى السماوات إلى الأرض فقد أصبحنا نعرف أصلها الحيوانى ونرى أن طريقة تطورها فى المجتمع الانسانى مشروطة بتقدم التطور التكنيكى... والمفهوم المادى للتاريخ وحده هو الذى يطيح بالكامل بالنموذج الأخلاقى باعتباره عاملا معياريا للتطور الاجتماعى,كما أنه وحده الذى يعلمنا أن نستمد أهدافنا الاجتماعية على وجه الحصر من القاعدة المادية المعينة (كاوتسكى، 1975 أ،ص ص -133- 4).
ولهذا فهو يجادل بقوة ضد برنشتين، الذى يعتقد أن العوامل الأيديولوجية، وخاصة الأخلاقية، قد حازت فى ظل الرأسمالية، قدرة اعظم على الفعل المستقل اكثر من ذى قبل (برنشتين،1975 ص 21). وفكرة كاوتسكى هى أن الوعى الانسانى اليوم ليس أقل اعتمادا على نمط الوجود الاجتماعى وأن البشر لا يطرحون على أنفسهم مشاكل يجدون لها حلولا إعتباطية حسب إرادتهم (كاوتسكى، 1975 ب، ص 38).

ويتلقى تطور الأرثوذكسية مع لينين إسهاما حاسما فيما يتعلق بنظرية الوعى . فقد تبنى لينين منذ كتاباته النظرية الباكرة تفسيرا للقاعدة والبناء الفوقى أكد فيه على الطابع الثانوى والاشتقاقى للأخير وأولوية الأول. وقد عبر عن ذلك من خلال تمييزه الحاد بين العلاقات الاجتماعية المادية والأيديولوجية. فالأولى "تتشكل دون أن تمر بوعى الانسان بينما تمر الأخيرة بوعى الانسان قبل أن تتشكل " (لينين، 1976، ص 318). والعلاقات الاجتماعية المادية فقط هى التى تجعل من الممكن علميا ملاحظة الانتظامات والتكرارات فى المجتمع. إذ لا تتيح العلاقات الاجتماعية الأيديولوجية دراسة المجتمع دراسة علمية. وهكذا فللمرة الأولى استبعد الوعى بوضوح من مركز تكوين العلاقات الاجتماعية المادية وهكذا يصبح مجاز القاعدة- البناء الفوقى هو المعبر عن الأقسام المختلفة للحياة الاجتماعية.
وقد اكتملت هذه النظرات الباكرة بدفاع لينين عن المادية الفلسفية وبصفة خاصة عن نظرية الانعكاس التى وفقا لها توجد الأشياء خارجنا وهى تنعكس كصور فى وعينا (لينين، 1975 أ، ص 119)، وعلى حد تعبيره، "المادة هى مقولة فلسفية تشير للواقع الموضوعى الذى أعطى للانسان بواسطة أحاسيسه، والذى ينسخ، ويصور وينعكس بواسطة إحساسنا، بينما يوجد مستقلا عنها" (ص 145) مما يعنى أيضا أن المادة "أولية" وأن "الوعى" ثانوى (ص 38). ومايثير الاهتمام فى مناقشة لينين للمادة والوعى هى أنها مفصولة للمرة الأولى عن المادية التاريخية وموضوعة بشكل واضح فى سياق هذا النظام المعرفى الفلسفى الجديد الذى يسمى "المادية الجدلية" وهو النظام المجرد وغير التاريخى.
وبوخارين وستالين هما اللذان يقننان ويثبتان- فضلا عن جوانب أخرى من الأرثوذكسية- المذهب المتعلق بالوعى كواحد من الموضوعين الأساسيين للمادية الجدلية. يبدأ بوخارين بفكرة أنه كانت هناك أولا مادة غير قادرة على التفكير ثم تطورت المادة عندئذ إلى انسان، قادر على أن يفكر. وهكذا فإن "المادة هى أم الفكر" وليس الفكر هو أم المادة..فالفكر يأتى لاحقا ومن ثم يجب أن يعتبر النتاج، وليس المصدر " (بوخارين، 1965، ص 54) يستنتج بوخارين من ذلك أن المادة توجد دون فكر كموجود موضوعى ومستقل بينما لا يمكن للفكر أن يوجد بدون مادة . وحيث أن المجتمع نفسه، لكونه نتاج الطبيعة، فهو مؤسس على الانتاج المادى، وبدون قوى الانتاج المادية لا يمكن أن يوجد وعى اجتماعى. "فتطور الانتاج المادى" هو الذى يخلق الأساس لنمو مايسمى "الثقافة العقلية" ... وعلى ذلك فإن "الحياة الفكرية للمجتمع هى وظيفة لقوى الانتاج" (ص 61). وهذا لا يعنى بطبيعة الحال، أن الأفكار بلا تأثير ولكن لابد للمرء أن يسأل لم يفكر الناس بطريقة معينة وسوف يجد الاجابة فى الشروط المادية للمجتمع".
ويعدد ستالين بدوره مبادئ المادية الفلسفية الماركسية بشكل مرتب. فأولا: تؤكد المادية أن "العالم فى طبيعته ذاتها مادى" (ستالين، 1976، ص 844). وثانيا: هى تتبنى فكرة أن "المادة، الطبيعة، الوجود، واقع موضوعى يوجد خارج الوعى ومستقل عنه" (ص 845). ونتيجة لهذا، فإن المادة أولية، والوعى ثانوى ومشتق لأنه انعكاس للمادة. وثالثا: تؤكد المادية ان "العالم وقوانينه قابلة تماما للمعرفة" (ص 846) وأن معرفتها صحيحة وحقيقية. ليس هذا صحيحا فقط بالنسبة للطبيعة وإنما أيضا بالنسبة للمجتمع "ومن ثم فإن علم تاريخ المجتمع، بالرغم من كل تعقد ظواهر الحياة الاجتماعية، يمكن أن يصبح علما دقيقا ، كالبيولوجيا" (ص 849). وفى نفس الوقت إذا كانت المادة أولية والوعى ثانوى فإنه (يترتب على ذلك أن الحياة المادية للمجتمع هى أيضا أولية وأن حياته الروحية ثانوية ومشتقة. لكنه يعود فيقرر أن هذا لا يعنى بالطبع أن الأفكار لا مغزى لها أو أنها "لا تؤثر بشكل متبادل على الوجود الاجتماعى" (ص 851) .فهو مثل بوخارين، يتبنى رأى ماركس الباكر بان النظرية تصبح قوة مادية إذا ما استولت على عقول الجماهير، ولكن نظرية كهذه لا تنبثق إلا نتيجة للمهام المطروحة بواسطة تطور الحياة المادية.
هناك القليل جدا مما هو جدير بالذكر فى النصوص السوفيتية اللاحقة، التى تكرر فى الغالب الأعم ستالين ولينين (أنظر على سبيل المثال كيله وكوفالسون، 1973، ص ص 64--60. لكن ما يثير الاهتمام أكثر إنما هو دفاع هوفمان عن نظرية الانعكاس. فهو يبدأ بالطبع مثل أى بطل جيد للأرثوذكسية، بافتراض التماسك النظرى المطلق والتطابق الكلى الكامل بين نظرات ماركس وانجلز ولينين. ويذهب هوفمان، ولديه، بعض الأسباب، إلى أن لينين لم يتردد فى دعمه للنظرية فى دفاتره الفلسفية. لكنه بعد ذلك يدافع عن نظرية الانعكاس استنادا لأسس متنوعة. الأول، أننا إذا لم نقبل بنظرية الانعكاس فإن علاقتنا بالعالم لن تكون قابلة لأن تعقل، إذ سوف يصبح من المستحيل أن نعرف أن هناك أى تطابق بين فكرنا والعالم الخارجى (هوفمان، 1975، ص 73). الثانى، أن الأخذ بفكرة الانعكاس لا يترتب عليه القول بسلبية الوعى، لأن الانعكاس عملية فعالة. فحتى حين يستخدم لينين مصطلحات مثل "نسخ" ، "تصوير" و "انعكاس" فإنه يشير "للنشاطات العملية فى الادراك الانسانى" (ص 81). الثالث، ان ماركس وانجلز لم يرفضا أبدا المادية الفلسفية لعصر التنوير وإنما بنيا على أساسها (ص 83). الرابع، والأهم، هو أن نظرية الانعكاس حاسمة لفهم تمييز ماركس بين الحقيقة والمظهر والذى يجعلنا نتقبل "أن أحدهما هو إنعكاس مضلل للآخر" (ص 93 ). الخامس، إن الممارسة الانسانية ممكنة فقط بسبب أن الأفكار تعكس بالفعل العالم الواقعى (ص 103). وسوف أقدم تحليلا نقديا لهذه الجدالات فى الفصل الثالث.

أولوية قوى الإنتاج
ينشأ عن بعض الصياغات الأولى فى مقدمة 1859 وفى ضد دوهرنج اتجاه للتمييز بين مستويين من التناقضات: أحدهما أساسى وبنيوى ولا صلة له بالممارسة الانسانية الواعية، والآخر، محدد بواسطة المستوى الأول ومشتق منه، ويتضمن النشاطات العملية. المستوى الأول هو الذى يخص التناقض بين قوى وعلاقات الانتاج. والثانى يتطابق عادة مع الصراعات الطبقية. ويؤكد انجلز فى حديثه عن المستوى الأول أن :
"هذا التناقض بين قوى الإنتاج وأنماط الانتاج ليس تناقضا تولد فى ذهن الانسان، مثل التناقض بين الخطيئة الأصلية والعدالة الإلهية. بل يوجد، فى الواقع، بشكل موضوعى، خارجنا، باستقلال عن إرادة وأفعال حتي أولئك الذين أحدثوه" (ضد دوهرنج، ص 317)
ويتضح الطابع الثانوى للطبقات حين يضيف انجلز أن الاشتراكية هى انعكاس نموذجى للتناقض بين قوى الإنتاج وأنماط الانتاج. خاصة فى أذهان "الطبقة التى تعانى مباشرة فى ظلها" (نفس المصدر، ص 318). ولا يعنى ذلك أن هذين النوعين من التناقضات مختلفان كليا ومنفصلان . فالواقع أن انجلز عند تحليله للرأسمالية يشتق الواحد من الآخر فى سلسلة متوسطة : يتجلى التناقض بين قوى وعلاقات الانتاج كتناقض بين الطابع الاجتماعى للانتاج والطابع الخاص للملكية وهذا بدوره يعلن عن نفسه كتناقض بين البروليتاريا والبورجوازية (ص 321).
مازال التناقض البنيوى أولى والتناقض الطبقى مشتق منه. وماهو أكثر، أنه داخل هذا التناقض الأولى فإن قوى الإنتاج هى التى لها الأولوية، وهى التى تؤلف الجانب الديناميكى. وتظل هذه الأولوية قائمة حتى حين لا يكون هناك تناقض مع علاقات الانتاج. يجيب بليخانوف على سؤال لم يدخل البشر فى علاقات اجتماعية معينة بان هذا نتاج "حالة القوى المنتجة" التى لا تعتمد على الارادة الانسانية (بدون تاريخ، ص 84) ويصف بليخانوف هذه العلاقة بأنها سببية: ف "حالة معينة للقوى المنتجة هى سبب علاقات الانتاج المعينة" (ص 54) . ضمن قوى الانتاج فإن وسائل الانتاج، خاصة تطبيقات العمل، تلعب الدور الأهم. وهكذا فهو يستطيع أن يؤكد بان "وجود الاسترالى المتوحش يعتمد بالكامل على عصا الصيد لديه" (بليخانوف، 1972ص 124).
ويقترح بليخانوف تفسيرا وظيفيا للأبنية الفوقية السياسية والأيديولوجية. فهى تكون بالحالة التى هى عليها لأنها تسهل مزيدا من التطور للقوى المنتجة. ولكنها تصبح فى آخر الأمر عقبة أمام هذا التطور (ص 163) وهذا ما ينعكس فى وعى الناس ويقود للصراع الطبقى:
يدافع بعض أعضاء المجتمع عن النظام القديم: وهؤلاء هم أنصار الجمود بينما هناك آخرون- لايقدم لهم النظام القديم ميزة- يناصرون التقدم، إذ تتغير سيكولوجيتهم فى اتجاه علاقات الانتاج التى سوف تحل فى الوقت المناسب محل العلاقات الاقتصادية القديمة التى أصبحت الآن عتيقة (ص 169).
ويتبنى كاوتسكى بدوره فكرة أن "التقدم التكنيكى هو الذى يشكل اساس تطور البشرية بكامله" (1975 أ، ص 81). فما يميز البشر عن الحيوانات ليس الوعى ولا صنع الأدوات، بل التقدم التكنيكى. فالمجتمع الانسانى يتطور ويدخل البشر فى علاقات اجتماعية متعددة من أجل جعل الجهاز التكنيكى شغالا. ولا تصبح العلاقات الاجتماعية عقبة أمام تطور الجهاز التكنيكى إلا بصورة مؤقتة ولفترات قصيرة. ذلك أن مثل هذه العقبات يتم إزالتها عاجلا أم آجلا بواسطة الثورات الداخلية (ص ص 9-88). ويرقى هذا التقييم إلى أن يكون تفسيرا وظيفيا للعلاقات الاجتماعية والأبنية الفوقية السياسية. ومع ذلك فإن كاوتسكى يظل هنا أكثر حذرا من أى ماركسى أرثوذكسى آخر لأنه لا يقبل فكرة أن التطور التكنيكى هو العامل الوحيد الذى يحدد علاقات الانتاج الاجتماعية والنظام السياسي. وهو يعرض تلك الفكرة على النحو التالي:
يفسر المفهوم المادى للتاريخ فى العديد من الأماكن كما لو أن تكنيكا معينا من شأنه أن ينتج نمطا معينا للانتاج وحتى شكلا اجتماعيا وسياسيا معينا. وحيث أن هذا لا يحدث، لأننا نجد نفس الأدوات فى شروط اجتماعية مختلفة، فقد قيل أن المفهوم المادى للتاريخ زائف وأن العلاقات الاجتماعية ليست محددة فقط من جانب التكنيك. وهو اعتراض صائب، ولكنه لا يتعلق بالمفهوم المادى للتاريخ وإنما بكاريكاتيره الذى يخلط التكنيك بنمط الانتاج (كاوتسكى، 1975 أ، ص 109).
فنفس الجهاز التكنيكى يتلائم مع أنماط إنتاج وتقسيمات طبقية مختلفة ، وهو امر يمكن تعليله بالاختلافات فى البيئة الطبيعية والاجتماعية. وهكذا يمكن القول بأن كاوتسكى يتبنى حتمية تكنولوجية لكنها مقيدة.
ويعيد بوخارين أيضا تأكيد أن أى بحث فى المجتمع أى فى شروط نموه وأشكاله ومضمونه، إلخ، يجب أن يبدأ بتحليل للقوى المنتجة، أو للأسس التكنيكية للمجتمع (1965، ص 120) . القوى المنتجة بالنسبة لبوخارين هى نتاج عملية "الأيض Metabolism" بين المجتمع والطبيعة. وهى تحدد المرحلة التى أحرزت فى التطور الاجتماعى (ص 115). ويرفض بوخارين فكرة أن الطبيعة أو النمو السكانى أو العرق هى عناصر أكثر أولية من القوى المنتجة ويصف علاقات الانتاج بأنها امتداد متنام لنظام التكنولوجيا (ص 142). والأبنية الفوقية " تتأسس أيضا مباشرة أو غير مباشرة (من خلال البنية الطبقية )على المرحلة التى جرى بلوغها بواسطة قوى الانتاج الاجتماعية " (ص 155). والخلاصة، أن الكلية الاجتماعية فى كل عناصرها تعتمد على وتشتق من التكنولوجيا. إذ ينشأ التغير الاجتماعى من التناقض بين قوى وعلاقات الانتاج الذى يحدد ويتخذ شكل الصراع الطبقى. لكن التشديد يجرى على الأولوية النظرية والتاريخية للأولى حيث نجد أن "تطور القوى المنتجة يضع البشر فى مواقف متعارضة كلية، وأن الصراع بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج يجد تعبيره فى الصراع بين البشر، وبين الطبقات" (ص 254).
ويصادق ستالين على افكار بوخارين ولكنه ينسب دورا أعظم لمفهوم نمط الانتاج. وهو يبدأ مثل بوخارين بإنكار أن العوامل الجغرافية أو السكانية يمكن أن تحدد طابع النظام الاجتماعى ويصرح بأن القوى الرئيسية التى تحدد ملامح المجتمع هي نمط الانتاج (ستالين، 1976، ص 856) ونمط الانتاج يشمل قوى الانتاج وعلاقات الانتاج، وكل منهما أساسيان بنفس القدر للانتاج. وتاريخ التطور الاجتماعى هو تاريخ تطور أنماط الانتاج التى تعقب الواحدة منها الأخرى. ومع ذلك فإن أولوية القوى المنتجة داخل نمط الانتاج مؤكدة بجلاء. فكل تغيرات وتطورات الانتاج
تبدأ دائما بتغيرات وتطورات فى القوى المنتجة، وفى المحل الأول، بتغير وتطور أدوات الانتاج. وإذن فقوى الانتاج هى العنصر الأكثر حركية وثورية فى الانتاج. إذ تتغير قوى الانتاج فى المجتمع وتتطور أولا، وبعدئذ، واعتمادا على هذه التغيرات وبالتوافق معها، تتغير علاقات الانتاج بين البشر، أى تتغير علاقاتهم الاقتصادية (ستالين، 1976، ص 859).

يمكن لعلاقات الانتاج أن تعوق تطور قوى الانتاج أو تسرع من ذلك التطور ولكن فى المدى الطويل يجب أن تتطابق مع مستوى تطور قوى الانتاج. والافتقار للتطابق هو أساس الثورة الاجتماعية. وهنا يميز ستالين بين وضعين. الأول، هو نشوء قوى الانتاج الجديدة وعلاقات الانتاج المتوافقة معها داخل النظام القديم فى شكل عفوى، باستقلال عن إرادة البشر (ص 869). الثانى، بعد نضوج قوى الانتاج حيث تصبح علاقات الانتاج بمثابة قيد عليها. فهنا ينشأ وضع جديد يتم فيه إزالة هذه العلاقات ومؤيديها (الطبقات الحاكمة) بالفعل الواعى للطبقات الجديدة، بواسطة الأفعال القسرية لهذه الطبقات، أي بواسطة الثورة" (ص 871).
ومرة أخرى، نشأت أفضل وأكثر المحاولات أصالة لتبرير الحتمية التكنولوجية في الغرب وعلى الأخص في العالم الأنجلوساكسوني. ولعله من قبيل المصادفة أن المحاولات الثلاث الأكثر أهمية قد نشرت بشكل مستقل وفى وقت واحد فى 1978. وهى أعمال: شو، وماك مورترى، وكون. ووفقا لشو فإن القوى المنتجة هى المحددة للتغير التاريخى على المدى الطويل. ولكن تأثيرها على علاقات الانتاج ليس آليا. إنه ضرورى ولكنه يستمر كعامل ضغط ينبغى أن يصبح جوهريا قبل أن يحدث تعديلات أساسية. أضف إلى ذلك، فإن التغير فى علاقات الانتاج، يتحدد غالبا، من حيث طبيعته ومن حيث توقيته باعتبارات البناء الفوقى- أى المستويات الأيديولوجية التى يصبح فيها البشر واعين بالتناقضات وبالتوجه لحسمها. لكن هذه العوامل تمارس تأثيرها " فقط بسبب عوامل الضغط الأكثر أساسية لقوى الانتاج" (شو، 1978، ص 58). فقوى الانتاج متأثرة بالتأكيد بعلاقات الانتاج، ولكن هذا لا يعنى أنها محددة بها. فبالنسبة لشو "يتيح التحليل الطبقى لماركس أن يضيق الهوة بين الطابع "الضرورى" لعلاقات الانتاج وبين الأحداث "العارضة" للتاريخ... ولكنه ، يسمح بالكاد بتفسير علمى أو تنبؤ تام (ص ص 2-71). وهكذا فللصراع الطبقى دور تفسيرى ثانوى ولا يمكن أن يتساوى مع التناقض بين قوى وعلاقات الانتاج التى يمكن لها وحدها أن تعلل الوقائع الاقتصادية والاجتماعية الأساسية.

ويلخص ماك مورترى بدوره بوضوح ومنهجية معتقدات الحتمية التكنولوجية. فقوى الانتاج "هى الأسس المادية للوجود والتعبير الانسانى (ماك مورترى، 1978، ص 70) فهى التى " ترفع البشر فوق الحيوان "، و" تجيب على وتشكل موضوعات الاحتياجات الانسانية" و "تحقق وتوسع نطاق القدرات الانسانية". وهى أيضا التى "تضع الحدود، وفى النهاية تدمر، النظام الاقتصادى" . كما أنها، "تزود البنية الفوقية القانونية والسياسية والأيديولوجية بمضمونها". أضف إلى ذلك، فهى "تؤلف الجوهر الأساسى لكل المعرفة الانسانية"، وتتغلب على الندرة على نحو متزايد وتحرر البشر من الصراع من أجل الحياة. كما أن قوى الانتاج تقلل "العمل الضرورى" فهى "القوى المحركة والمحدد النهائى للتاريخ الانسانى" "التكنولوجيا هى، بكلمة، العناية الإلهية الماركسيانية" (ص ص 1-70). أما ماك مورترى فهو- مثل شو- يمنح الصراع الطبقى دورا تابعا وإن كان هاما. ومع ذلك فهو يمضى أبعد من أغلب المؤلفين فى تأكيد أن "الصراع الطبقى بالنسبة لماركس "ذو طابع سياسى" أى ينتمى للبنية الفوقية (ص 116). وهكذا فإن ما يتسم به من تبعية ومن أهمية انما تستمد من الصفات التى أضفاها ماركس على البنى الفوقية: وهى أنها تؤثر على الأساس الاقتصادى بسبب وبقدر ماهى محددة به.
وأما كون فقد قدم إلى حد بعيد أشد الدفاعات تأثيرا عن الماركسية "التكنولوجية التقليدية". فهو يريد أن يدعم الأولوية التفسيرية للقوى المنتجة، التى تعنى أن "طبيعة مجموعة ما من علاقات الانتاج يفسرها تطور القوى المنتجة التى تتضمنها" (كوهن، 1978، ص 139). وهو يربط هذه الأطروحة ب" أطروحة التطور، التى تؤكد أن قوى الانتاج تتجه للتطور عبر التاريخ" (ص134). وتستتبع أطروحة الأولوية هذه أن التغيرات فى قوى الانتاج تحدث تغيرات فى علاقات الانتاج. ولكن التغيرات فى قوى الانتاج ليست فى الأغلب محددة بعلاقات الانتاج. وإذا كانت قوى الانتاج تتجه إلى التطور فإن ذلك بسبب أن البشر عقلانيين ويتجهون بشكل طبيعى لممارسة ذكاءهم من أجل التغلب على الوضع التاريخى للندرة (ص 152).
ومن ناحية أخرى، فإنه من الحقيقى أيضا أن علاقات الانتاج تعزز تطور القوى المنتجة . والطريقة الوحيدة للتوفيق بين هذا القول وبين أطروحة الأولوية إنما تكون بواسطة أدوات التحليل الوظيفى. حيث توجد البنية الاقتصادية على نحو ما توجد عليه وتكتسب طابعها الخاص بسبب أنها وظيفية بالنسبة لتطور القوى المنتجة ( كون ، 1983 ا، ص 119) . وكما يعرضها " تتحقق العلاقات حينما وبسبب انها تدفع التطور " (كون، 1978، ص 165) أو أن "القوى المنتجة تختار البنى وفقا لقدرتها على تعزيز التطور " (ص 162). وبينما لا ينكر كون أن "التغيرات التاريخية الكبرى تحدث بواسطة الصراع الطبقى (1983 أ، ص 121) فإنه ينكر أن يكون الصراع بين الطبقات هو التفسير الأساسى للتغير الاجتماعى. ذلك أن فعالية الصراع الطبقى تعتمد فى النهاية على طابع قوى الانتاج (1978، ص ص 9-148). وهكذا فإن أولوية القوى المنتجة لا تغنى عن الفعل الانسانى، بل على النقيض من ذلك فهى تشتغل من خلال وساطة البشر، مما يعني أن مثل هذه الأفعال لا يمكن أن تقف على المدى الطويل ضد تطور قوى الانتاج.أو بمعنى آخر، فإن وجود بنية اجتماعية لا يقضى على الممارسة الانسانية وإنما يحددها ( أنظر كون، 1974، ص 92 ) .

الضرورة التاريخيــة
قدم مفهوم التاريخ , من بين كل نطاقات التوتر فى فكر ماركس وانجلز, العناصر الأكثر مغزى بالنسبة لتطور الأرثوذكسية. فتأثير المقاطع التي يشير فيها ماركس لتطور المجتمع الانسانى باعتباره عملية مماثلة للتاريخ الطبيعى خاضعة لقوانين للتطور لاراد لها ,لا يمكن أن يقلل من قدره. إذ هنا تجد الأرثوذكسية الضمانتين المؤكدتين االلتين يبدو أنها تتطلبهما لبقائها: الأولى هى، التأكيد بأنه بواسطة اكتشاف قوانين التاريخ فإنها تملك المفتاح العلمى لفهم المجتمعات وتطورها، الثانية، هى التأكيد على أن عملية التاريخ تقود بشكل حتمى إلى الشيوعية. ومع ذلك كانت هناك حاجة منذ البداية الأولى للتوفيق بين حتمية القوانين الطبيعية والممارسة الانسانية. وقد جاهد انجلز فى سنواته الأخيرة مع هذه المشكلة بقدر مافعل مع مشكلة العلاقة بين الأساس والبناء الفوقى. و ليس من الغريب، أنه اقترح حلولا مشابهة جدا لكليهما، اعتمدت بشدة على هيجل. فقد صادق انجلز بالفعل فى ضد دوهرنج على فكرة هيجل بأن الحرية هى وعى الضرورة (ضد دوهرنج، ص 136) ولكنه فى كتابه لودفيج فيورباخ ، وفى عدة رسائل حول البنية الفوقية يتوسع فى تناول المشكلة.
إذ يقر إنجلز , بالرغم من ادراك تقارب التاريخ الانسانى مع التاريخ الطبيعى , بوجود اختلاف أساسى بينهما: ففى الطبيعة "هناك فقط وسائط عمياء لاواعية" بينما فى التاريخ الانسانى " يتمتع الفاعلون جميعا بالوعى، فهم كبشر يتصرفون بترو أو بعاطفة، ويعملون باتجاه غايات محددة ". لكن إنجلز ,على أية حال، يصر على أن هذا التمييز "لا يمكن أن يغير حقيقة أن مجرى التاريخ محكوم بواسطة قوانين عامة داخلية" (لودفيج فيورباخ، الأعمال المختارة لماركس وانجلز، ص 612) والحل الذى يقترحه هو نفسه للتوفيق بين تأثير البنى الفوقية وبين التأثير السببي المحدد , في النهاية, للاقتصاد: هو أن هناك ارادات غاية فى الكثرة وأهداف مرغوبة يتنازع الواحد منها مع الآخر حتى ليبدو على السطح وكأن المصادفة تسود. إذ نادرا ما تتطابق النتائج النهائية لتنازع الأفعال مع الغايات المتوخاة. "ولكن بينما تسود المصادفة على السطح فإنها بالفعل محكومة دائما بقوانين داخلية، خفية. والمسألة هى اكتشاف هذه القوانين فحسب" (ص 612). بمعنى آخر، تؤكد الضرورة ذاتها من خلال الطابع العرضى للأفعال الانسانية.

ويكرر بليخانوف نفس الحجة تقريبا كلمة بكلمة. يتبع البشر غاياتهم الشخصية ولكن نتائج أعمالهم عادة ماتكون غير متوقعة أو مقصودة وهكذا "فمن مملكة الحرية فإننا ندخل مملكة الضرورة (بليخانوف، 1972، ص 108) فالعملية التى تجرى باتفاق مع قوانين معينة هى عملية ضرورية. وهكذا، إذا ما اكتشفت هذه القوانين، فإن النشاط الانسانى يكتسب معنى جديدا لأنه يمكن الآن اتباع هذه القوانين بشكل واع. وهكذا تمر الحرية من خلال الضرورة. وقد أراد الاشتراكيون الخياليون وكذلك الماديون الفرنسيون أن يكتشفوا القوانين التى تحكم التاريخ، ولكنهم بدأوا من الطبيعة الانسانية وهكذا أصبحوا قدريين بمعنى أن "الطريق الذى تسير فيه البشرية كان مرسوما مسبقا فى خيالهم" (ص 239). وعلى النقيض من ذلك , بدأ ماركس من الطرف المعاكس, بدراسة الفعل الانتاجى للانسان على الطبيعة الخارجية متجنبا بذلك القوانين الثابتة فوق التاريخية للتطور ومؤكدا على تغيرية العلاقات الاجتماعية. ومع ذلك، "فبمجرد أن توجد العلاقات الفعلية للبشر فى عملية الانتاج تنشا نتائج محددة تنبع من تلك العلاقات وهكذا تتوافق بهذا المعنى الحركة الاجتماعية مع القانون (ص 239). ويجيب بليخانوف على نقد ستاملر الذي يري أنه ليس هناك معنى فى محاولة تسريع عملية ضرورية بشكل واع ,بأنه:
" لا يمكن للمطامح الانسانية إلا أن تكون عاملا لحركة التاريخ. ولكن البشر يصنعون تاريخهم بطريقة دون أخرى بسبب ضرورة نوعية سبق وأن تناولناها آنفا. فإذا ما وجدت تلك الضرورة، وجدت كأثر لها، تلك المطامح الانسانية التى هى عنصر حتمى للتطور الاجتماعى (فمطامح البشر لا تستبعد الضرورة، وإنماهى نفسها تتحدد بها (بليخانوف، بدون تاريخ، ص 85).

لكنه كاوتسكى الذى يؤكد بحتمية أكثر من أى أحد آخرعلي أن مفهوم ماركس عن التاريخ حتموى ومؤسس على اكتشاف قوانين ثابتة شاملة. إذ يتعامل العلم فقط مع العلاقات الطبيعية والضرورية فإن الفضيلة العظمى لماركس وانجلز أنهما أظهرا أن الوقائع التاريخية تنتمى إلى مجال الضرورة الطبيعية، رافعين التاريخ هكذا إلى مرتبة العلم (أنظر كاوتسكى، 1975ب، ص ص 26-7). ويجيب كاوتسكي علي تساؤل ماركس في "رأس المال": هل يمكن للمجتمع أن يقصر ويقلل من آلام ولادة تطوره الضروري (رأس المال، المجلد الأول، ص 20) ؟ قائلا: نعم، ولكن فقط بافتراض الضرورة. ومعنى ذلك أن كاوتسكى لا يستطيع أن يكتشف أى عامل مخفف للحتمية (1975 ب، ص 8-27).

وكما أشار كورش، لا يشكل التاريخ الانسانى بالنسبة لكاوتسكى فى كليته شيئا سوى تطبيق للقوانين الطبيعية (1973، ص 36). ففى مؤلفه عن المادية التاريخية يريد بوضوح أن يكتشف ما إذا كان تطور المجتمع مرتبطا ارتباطا وثيقا بتطور الأنواع النباتية والحيوانية للحد الذى يؤلف فيه تاريخ البشرية حالة خاصة من تاريخ الكائنات الحية، بقوانينها الأصلية، وإن ظل على علاقة متماسكة مع القوانين العامة للطبيعة الحية (كاوتسكى، 1927، المجلد الثانى، ص 630، مأخوذ من كورش، 1973، ص 38).
لذلك نراه يميز بين قسمين مختلفين من المادية التاريخية. الأول هو الفلسفة العامة للمادية التاريخية التى تعنى بالقوانين العامة, والثانى يتضمن المبادئ التي تحكم التاريخ حتى عصرنا الراهن (كاوتسكى،1927، المجلد الثانى، ص 615، في: كورش، 1973، ص 18). ولا يهم هنا إذا ما تغيرت المبادئ السالفة لأن المفهوم الماركسى عن التاريخ مؤسس على القوانين العامة. والنتيجة الواضحة لهذا الموقف هى حتمية العملية التاريخية. ويمضي كاوتسكي قائلا أن مثل هذا الكلام لا ينطوي على نزعة قدرية لأن المستقبل ليس مضمونا من قوة أعلى. ولكن المستقبل يكون:
مؤكدا وحتميا بمعنى أنه من الحتمى أن يحسن المخترعون من التكنيك، وأن يؤدي جشع الرأسماليين إلى تثوير الحياة الاقتصادية... وأنه من الحتمى أن يطمح العمال المأجورون لساعات عمل أقصر ولأجور أعلى، وأن ينظموا أنفسهم ويناضلوا ضد طبقة الرأسماليين وضد سلطة دولتهم ... ومن الضروري أن يطمحوا إلي امتلاك السلطة السياسية وإلغاء الهيمنة الرأسمالية. فالاشتراكية حتمية لأن الصراع الطبقى وانتصار البروليتاريا حتمي (كاوتسكى، 1975 أ،ص 137).
ومع كل الأهمية التى أولاها لينين للممارسة السياسية والصراعات الطبقية فى تحقيق الاشتراكية فإن كتاباته النظرية الباكرة حتموية تماما- ليس بمعنى أن الاشتراكية ضرورية التحقق حتي بدون ممارسة سياسية واعية, وإنما بمعنى أن الأفعال الانسانية ذاتها تحكمها الضرورة (لينين، 1976 أ، ص 334) ويكرر لينين مرة أخرى أن التطور الاجتماعى ينبغى أن يعامل كعملية من عمليات التاريخ الطبيعى محكومة بقوانين مستقلة عن مقاصد الانسان. فهذه القوانين هى التى تحدد الارادة الانسانية والوعى. ومع ذلك فبعض صياغاته غير موفقة من حيث أنها توحى بأن ضرورة الاشتراكية تؤكد نفسها بغض النظر عن الارادة الانسانية. وهكذا يؤكد على سبيل المثال أنه "إذا ما تمت البرهنة على ضرورة النظام الراهن للأشياء، فإن ذلك يكفى تماما للبرهنة فى نفس الوقت على ضرورة نظام آخر من المحتم أن ينمو من النظام القائم بغض النظر عما إذا كان البشر يؤمنون به ام لا، بل و بغض النظر عما إذا كانوا واعين به أم لا" (لينين، 1975، ص 340). وبخلاف ذلك، يقدم لينين فكرة التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية، التى لم يستخدمها بليخانوف أو كاوتسكى فى تقييماتهم, والتى أصبحت ذات نفوذ بشكل متزايد فى الأزمنة الراهنة. وتستخدم معظم الكتب السوفيتية هذا التعبير لتشير لمراحل تاريخية معينة فى تطور المجتمع التى يجب على كل الأمم أن تمر بها. ويحددها لينين ببساطة باعتبارها "المجموع الكلى لعلاقات الانتاج المعينة" (لينين،1976 أ، ص 320). وقد ذهب سيرينى مؤخرا إلي أن هذا هو المفهوم الأساسى للمادية التاريخية الذى استبعدته الأممية الثانية، والذى أعاد تقديمه لينين، متبعا ماركس (سيرينى،1971). ولكن يبدو من المشكوك فيه أن هذه الفكرة يمكن أن تسبب اختلافا كبيرا فى عملية بناء الأرثوذكسية (لتفنيد آراء سيرينى، أنظر تيكسيه، 1971).

ويصادق بوخارين بدوره تماما على حل انجلز لمشكلة الضرورة والارادة الانسانية ويدعم فكرة الضرورة التاريخية: " المجتمع وتطوره خاضعان للقانون الطبيعى ككل شئ آخر فى الكون" (بوخارين، 1965، ص 46) مما يجعل من الممكن للعلماء الاجتماعيين أن يتنبأوا بمجرى التاريخ، ربما ليس بعد بالدقة المطلوبة لتعيين وقت ظهور الظواهر ولكن بالتاكيد بدرجة من الدقة التى تمكن من التحقق من اتجاهها (ص 49). وهو، مثل بليخانوف، يدافع عن الحتمية ضد نقد ستاملر ويدافع عن أنه "سوف تاتى الاشتراكية بطريقة حتمية لأنه من الحتمى أن البشر، أو طبقات محددة من البشر، سوف تنهض لتحقيقها" (ص 51) وهكذا لا يجب أن نخلط الحتمية مع القدرية.

ويكرر ستالين بايجاز نفس الأفكار عن القوانين العلمية للتاريخ وحاجة الممارسة البروليتارية لأن تؤسس نفسها على "قوانين تطور المجتمع" (1976، ص 848). ووفقا لهذه القوانين فإن تاريخ تطور المجتمع هو قبل كل شئ "تاريخ أنماط الانتاج التى يعقب كل منها الآخر عبر الزمن" (ص 858). ووفقا لهذا المبدأ هناك خمس أنماط من علاقات الانتاج معروفة فى التاريخ: المشاعى البدائي، العبودى، الاقطاعى، الرأسمالى والاشتراكى (862). ومما يمكن ملاحظته هنا أن ستالين قد حذف نمط الانتاج الآسيوى. ومن المحتمل كما أشار كولاكوفسكى أن هذا يرتبط بحقيقة أن مثل هذا المفهوم يجعل من الصعب تقبل فكرة نموذج موحد لتطور كل البشرية كما أنه يثير بعض الشكوك حول أولوية القوى المنتجة وحول فكرة التقدم المحتوم (كولاكوفسكى، 1978، المجلد الأول، ص 350). ومهما يكن من شئ، فمن الملاحظ أن معظم الكتب السوفيتية منذ ذلك الوقت أصرت على تبني مخطط تاريخى شامل وأحادى يقترن بفكرة لينين عن التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية.
فقد جرى التاكيد فى"أسس الماركسية اللينينية" على سبيل المثال، على أن :
كل الشعوب تمر بما هو بصفة أساسية طريق واحد. . . إذ ينطلق تطور المجتمع عبر تشكيلات اقتصادية اجتماعية تحل الواحدة منها محل الأخرى, وفقا لقوانين محددة. أضف إلى ذلك أن أمة تعيش فى أوضاع تشكيلة أكثر تقدما تبين للأمم الأخرى مستقبلها , تماما كما تبين الأخيرة لتلك الأمة ماضيها (كوسينين وآخرون، 1963، ص 125).
وعلى أية حال، يجادل كثير من المدافعين عن الأرثوذكسية، بأنه لا يجب أن نخلط الحتمية مع القدرية. فحتمية مجرى التاريخ لا تحول دون المشاركة الانسانية وإنما هى على النقيض، كما يجزم كون، مؤسسة على مايصمم البشر على فعله وفقا لطبيعتهم العقلانية (1978،ص17، ملاحظة). لذلك ليس هناك تناقض بين أولوية قوى الانتاج وحقيقة أن "التغيرات التاريخية الكبرى تنتج عن الصراع الطبقى" (1983 أ، ص 121). وذلك على النقيض من النزعة القدرية التى تحول الانسان إلى دمية " فجدل التاريخ هو أن البشر يغيرون الظروف تحت ضغط الظروف ذاتها" (كيليه وكوقالسون، 1973، ص 37). وبالرغم من أن هناك "تعاقب لا يرتد من مرحلة باكرة إلى مرحلة لاحقة"، فإن الحركة ذاتها تحدد أهدافا عملية للبشر حتى "تصبح معرفة قوانين التطور ذاتها قوة فى هذا التطور" (كورنفورث، 1977، ص ص 30-27). وأخيرا يجادل هوفمان بأن الحتمية ليست نفيا للحرية وإنما بالأحرى الشرط المسبق للحرية إذ "بدون فهم للضرورة أى فهم ما هو ضرورى، فإن الفعالية تكون مستحيلة. فبدون نشاط قصدى كيف يمكن أن نكون أحرارا" ؟ (1975، ص 149). وهكذا بالنسبة لهوفمان لا يمكن أن تكون الحرية مفارقة للضرورة، وإنما، حتمية القوانين الخارجية لابد وأن تصبح حتمية ذاتية واعية، حتى أنه " بصيغة- مطلقة، فإن الحرية والضرورة متطابقان" (ص 152).

لقد رأينا فى الفصل الأول فيما يتعلق بمفهوم التاريخ أنه كان هناك عند ماركس توتر فى تقييم نتائج الاستعمار بالنسبة لتطور البلدان المتخلفة غير الأوروبية. هذا واحد من المجالات القليلة التى لم يثبت فيها تطور الأرثوذكسية أنه واضح ومتسق كليا حتى النهاية. فقد تابع معظم النظريين فى البداية النتائج التى استخلصت من تحليلات ماركس عن الهند وبصفة عامة دافعوا عن فكرة أن توسع الرأسمالية من المراكز الأوروبية للمناطق المتخلفة كان كفيلا بزيادة قوى الانتاج وفى نهاية الأمر كان من شأنه أن يعزز تطورها الصناعى. وبالرغم من أن نظريات الأمبريالية التى ظهرت فى العقدين الأولين من القرن العشرين لم تكن معنية بصفة خاصة بتحليل آثار الإمبريالية على البلدان التابعة،فإن اغلبها قبل على الاقل ضمنيا ان التطور الصناعى الرأسمالى كان نتيجة محتومة . وهكذا تتبنى روزا لوكسمبورج ، على سبيل المثال ، فكرة أن "المرحلة الإمبريالية من التراكم الرأسمالى تتضمن تنافسا عالميا تشمل التصنيع وتحريرا رأسماليا للمناطق النائية (غيرالأوروبية) حيث حقق رأس المال سابقا فائض قيمته (لوكسمبرج، 1951، ص 419). ويجادل لينين بدوره فى نظريتة عن الإمبريالية بأن:
"تصدير رأس المال يؤثر ويعجل إلى حد بعيد من تطور الرأسمالية فى البلدان التى يصدر إليها. بينما، قد يعيق إلى مدى معين التطور فى البلدان المصدرة له، وهو يفعل ذلك فقط بتوسيع وتعميق التطور الأبعد للرأسمالية عبر العالم (لينين، 1975،ص 76).

وقد كان لينين باتخاذ هذا الموقف متسقا فحسب مع تحليل تطور الرأسمالية فى روسيا، الذى قام به قبل سبعة عشر عاما (1974). فقد ذهب لينين إلى أن روسيا بلد متخلف ملئ بكثير من البنى التقليدية المرنة إلى حد بعيد وأن البورجوازية القومية ضعيفة نسبيا ومعتمدة على الاستثمار الأجنبى . ومع ذلك، فهو يجادل بقوة ضد الشعبيين (النارودنيك)، ويدافع عن أن الرأسمالية ليست فقط تقدمية بصفة عامة وإنما تتطور بسرعة بالفعل فى روسيا. ويرى أن التخلف ، والاعتماد على رأس المال الأجنبى والمنافسة بواسطة بضائع صناعية أوربية عالية الجودة يمكن أن يبطئ لا أن يعيق التطور الرأسمالى. وهكذا يكرر مع ماركس أن المنتجين فى روسيا "لا يعانون فقط من تطور الرأسمالية وإنما أيضا من عدم اكتمال هذا التطور" (لينين، 1974،ص 607). على ذلك، فإن فكرة لينين عام 1916 بأن التصدير الإمبريالى لرأس المال يمكن فقط أن يعجل التطور الرأسمالى فى البلدان التابعة يثبت فقط ويعمم تحليل 1899 الخاص بروسيا.
وعلى أية حال، فإن مؤلف لينين عن الامبريالية، يحتوى، كما أشار وارين، على بذور وجهة النظر المعاكسة، بالرغم من الإعلان الشكلى عن تقدمية النتائج التى تحدثها الإمبريالية

ذلك أن قوة الدفع الأساسية لفكرته حول أن الرأسمالية الاحتكارية طفيلية ومتفسخة وراكدة مقارنة بالرأسمالية التنافسية- كانت متجهة لإعطاء الانطباع بان العلاقة بين البلدان الإمبريالية والمستعمرات وشبه المستعمرات هى مجرد علاقة نهب... والنتيجة الللازمة لهذه المقاربة كلها هى اختزال النظرة التقليدية التى ترى أن الامبريالية سوف تصنع العالم غير الرأسمالى، إلى مجرد عبارة شكلية داخل النصوص المقدسة. بينما أصبحت الامبريالية تعتبر بشكل متزايد العقبة الكبرى فى وجه التصنيع فى العالم الثالث (وارين، 1980، ص ص 3-82).
ومع ذلك أيدت الوثائق الرسمية للأممية الثالثة المذهب التقليدى لوقت طويل. إذ أقرت موضوعة لينين حول المسألة القومية والاستعمارية التى صاغها خلال المؤتمر الثانى فى 1920 والتى تنص على أنه "يجب على كل الأحزاب الشيوعية أن تساعد حركة التحرر الديموقراطية البورجوازية فى هذه البلدان"(آدلر، 1983، ص 79)، ذلك أن هذه العبارة توحى ضمنيا بأن النتاج الطبيعى للإمبريالية فى الأمم المتخلفة كان خلق بورجوازية قومية ديناميكية لابد وأن تقود تحرير بلدانها.
على أن المؤتمر السادس للأممية الشيوعية فى 1928 انقلب على هذا الموقف (أنظر بالما، 1978، ص 897، وارن، 1980ص ص 107 - 9، وسوتكليف، 1972، ص 184) وأكد بوضوح أن الامبريالية كانت عقبة فى وجه التطور الصناعى والقوى المنتجة. وتحول الموقف من تأكيد الدعم لحركات التحرر الديمقراطية البورجوازية إلى التأكيد- فى سياق اخفاق الثورة الصينية- بأن "البورجوازية القومية قد ذهبت بشكل قاطع للجانب المضاد للثورة بجعل نفسها حليفة لأمراء الإقطاع والإمبرياليين" وعلى عكس ماذهبت إليه مقالات ماركس حول الهند أصبحت " سياسات الامبريالية البريطانية تعوق تطور الهند الصناعى وتحتم افقارا متزايدا لجماهير الفلاحين" (أجوستى، 1976، المجلد الثانى، ص ص 3-942). ثم تغير تقييم دور البورجوازية القومية عدة مرات فى المؤتمرات اللاحقة للكومنترن وللحزب الشيوعى السوفيتى، اعتمادا على الأحداث الدولية ومصالح الاتحاد السوفيتى. ولكن تقييم تبعات الإمبريالية بالنسبة للعالم الثالث تبقى هى نفسها منذ 1928 حيث اعتبرت الامبريالية عقبة فى وجه تطور قوى الانتاج وأنها تعوق عملية التصنيع.




الفصل الثالث
نقد المادية الجدلية

يبين العرض التخطيطى schematic للطبعة الأرثوذكسية من المادية التاريخية فى الفصل الثانى أن ظهورها ليس منفصلا تماما عن فكر ماركس وانجلز لأن وجود بعض التوترات أتاح للجيل الأول من الماركسيين أن ينشئ تفسيرا فظا وعقائديا بشكل متزايد عن طريق المبالغة فى التقدير الأحادى لبعض الجوانب الجزئية وتثبيتها كمبادئ راسخة للتحليل العلمى. وهكذا أصبحت المادية التاريخية نظرية مشتقة من قوانين مفترضة شاملة للجدل كامنة فى الطبيعة، تتصور الوعى كانعكاس فحسب للحياة المادية، وتقدم نوعا من الحتمية التكنولوجية، وتفضى لنظرية عامة، غائية وأحادية، للتاريخ، ترسم الطريق الضرورى لتطور الأمم جميعا. ويشير الطابع الجزئى لمثل هذا التفسير بوضوح إلى أن فكر ماركس وانجلز لا يمكن أن يختزل إليه. ولكن إذا أراد المرء نظرية أفضل للمجتمع والتاريخ فلا يكفى- بالرغم من أن ذلك ضرورى- أن يكون واعيا أن لمفهوم ماركس وانجلز جوانب أخرى أيضا. ومع ذلك، تقدم الأرثوذكسية ضمنيا حلولا نوعية للتوترات القائمة عند ماركس وانجلز، فهى لا تقوم على مجرداغفال بعض جوانب فكرهما. ومن ثم، لامفر من نقد هذه الحلول من أجل تبيان عدم ملائمتها حتى لو بدت- وهو ما يبدو صحيحا- أكثر اتساقا مع مقاصد ماركس وانجلز. بهذا المعنى فإن نقد الأرثوذكسية هو شرط مسبق لأى إعادة بناء تسعى لتقديم حلول مختلفة وأفضل.
ولسوء الحظ، يوجد قدر كبير من التشوش بين نقاد المادية التاريخية حول الموضوع المحدد لانتقاداتهم. ذلك أن قلة قليلة منهم قادرة على التمييز بين فكر ماركس وانجلز المركب من ناحية وبين تفسيراته الأرثوذكسية من ناحية أخرى. وهكذا فهم غالبا ما يوجهون انتقاداتهم للماركسية، كمقولة عامة كلية الشمول، أو يفعلون ما هو أسوأ إذ ينسبون لماركس ما هو فى الواقع إما تبسيطات فظة مأخوذة من بعض الكتيبات أو بعض التفسيرات الخاصة لمؤلفين آخرين. وعلى ذلك فمن الضرورى أن نتذكر هذا الأمر حين نسعى لنقد وإعادة بناء المادية التاريخية حتى نتجنب التشوش وحتى نكون منصفين إزاء فكر ماركس والمادية التاريخية. إننى لا أبدأ من افتراض أن الأرثوذكسية لا صلة لها بالتطور الحقيقى لأفكار ماركس وانجلز، ولكننى من ناحية أخرى أرفض ببساطة أن أطابق الواحدة مع الأخرى. وهذه مقدمة ضرورية لأى نقد معقول للمادية التاريخية.


مشاكل الماديـة الجدليــة
تطور المادية الجدلية أساسا مسألتين: مفهوما للجدل ونظرية الوعى. لنبدأ بالمسألة الأولى. فحين يؤكد انجلز أنه وماركس خلصا الجدل من المثالية و "أخذا يطبقانه" على الطبيعة والتاريخ (ضد دوهرنج، ص 15)، فهو يتعامل مع الجدل ضمنيا على أنه "منهج " مستقل بذاته يمكن أن يطبق فى مجالين متباينين. وهذا الفصل لـ "المنهج" عن "موضوع" الدراسة أو مجال التطبيق هو تصور يحتل مركز المادية الجدلية. لقد أشرت سلفا إلى أن انجلز فى تصوره للجدل كمنهج منفصل ومحاولتة تأسيس "قوانين" مثل هذا المنهج , كان يعتقد أنه يتابع هيجل باستثناء ما كان ضروريا من "قلب هذا الشئ" حتى لا تعتبر هذه القوانين بمثابة قوانين مجردة للفكر. لقد ذكرت أيضا ملاحظة كولليتى حول أنه حيث أن هيجل لم يميز بين المادة والفكر، فقد انتهت المادية الجدلية إلى تبنى جدل للمادة هيجلى تماما (كوللتى، 1975، ص 12). مع ذلك يمكن أن يقال من وجهة نظر أخرى أن المادية الجدلية مضادة للهيجلية بعمق بل وبالأحرى وضعية ، لأن هيجل لم يفصل بين المنهج وبين موضوع الدراسة. بل على النقيض من ذلك , ذهب إلى أن
المعرفة العلمية الحقيقية ... تتطلب انغماسا فى حياة الموضوع ذاته... ومن ثم فليست هناك حاجة لتطبيق مخطط شكلى على المضمون العينى بطريقة خارجية...إذ تكمن طبيعة المنهج العلمى هذه جزئيا فى أنها ليست قابلة للانفصال عن المضمون... (هيجل، 1977، ص 112 و 115).
ويعتقد ماركس أيضا أن المنهج العلمى- كلا من منهج العرض ومنهج البحث- عليه أن يتبع حركة الموضوع "إذ يجب أن يتم تحليل أشكال تطور الموضوع وتتبع ارتباطاته الداخلية المختلفة، أولا. ثم بعد ذلك يمكن للحركة الفعلية أن توصف على نحو صحيح " (كلمة ختامية، رأس المال، المجلد الأول، ص 28).
المشكلة الأساسية لقصور الجدل كمنهج منفصل ومشتق من ثلاثة قوانين شاملة هى تجريده، وافتقاده للصلة بالوضع العينى تاريخيا، وعدم قدرته على التمييز بين الاختلافات الجوهرية للعينى، واختزاله لغنى الحياة إلى اتساق المبادئ المجردة. ولكن أكثر من أى شئ آخر، فإن مثل هذا المفهوم يسقط بشكل حتمى فى الفخ الذى أراد أن يتجنبه، أى، تصور القوانين الجدلية كقوانين خالصة للفكر، كمبادئ قبلية A priori يمكن أن تطبق على الواقع. وفى الحقيقة إذا كان هناك شئ يمكن أن يسمى "جدلا" فلن يكون هو منهج البحث بل حركة الواقع ذاتها. فالمنهج يكون "جدليا" فقط بقدر ما يمتلك ويعبر عن حركة الموضوع،وبقدر ماهو نشاطا عقليا، فهو ايضا جزء من حركة الموضوع. بهذا المعنى فإن الجدل الماركسى والهيجلى يتشاركان فى نفس مفهوم المنهج. وكما أشار إيشفريا، فالمنهج بالنسبة لماركس وهيجل "هو فقط الشكل المعطى للنشاط النظرى المصاحب للحركة الداخلية لمضمون معين" (.254 ص1978). وهكذا فإن الجدل ليس بالدرجة الأولى منهجا أو منطقا منفصلا للتحليل حتى وإن عرضه ماركس مرارا على هذا النحو. إنه بالأحرى الشكل النوعى للحركة الخاصة للواقع والتى ينبغى ان يرصدها النظري.
وعلى أى حال، فإن حقيقة أن الجدل الماركسى والهيجلى يتفقان حول فكرة المنهج باعتباره خاضعا لحركة الموضوع لا يعنى أنهما لابد أن يتفقا بالضرورة فى تقييمهما للحركة الجدلية ذاتها. فوصف هيجل لمثل هذه الحركة مؤسس على مفهوم شامل للتناقض، الذى لكونه كامنا فى كل الموجودات، يتيح لها أن تتغير وتتطور. فـ "التناقض هو ذات المبدأ المحرك للعالم؛ وأنه لمما يثير السخرية القول بأن التناقض غير قابل للتفكير فيه" (هيجل، 1975، ص 174). إذ يشير مفهوم التناقض إلى أن تعارضا شاملا بين طرفين لا يمكن لأحدهما أن يحدد أو يوجد بذاته دون إشارة إلى النقيض (كولليتى، 1975 ، ص 6) وتنبع شموليته عند هيجل من حقيقة أنه كامن فى عملية الانسلاب الذاتى للوعى الذى هو بدوره عملية خلق للمادوية Materiality ، حتى أن كل مايوجد هو بمثابة الضد المناقض للوعى الذاتى أو بالأحرى الوعى الذاتى كنقيض لنفسه . وبدءا من هذه الفكرة، فإن على المادية الجدلية أن تستبدل فقط بحركة الوعى حركة المادة حتى تقدم جدلا للطبيعة مستقلا عن المجتمع الانسانى . مع ذلك فهى تستمر فى اعتبار التناقض مبدأ ميتافيزيقيا عاما يزعم انه قادر علي تفسير تطور كل شئ . بينما لا تعنى المادية التاريخية بمفهوم عام للتناقض يؤكد كلية التناقض الشامل بين قطبين ماديين وإنما تركز على التضادات المشتقة من "الاغتراب الذاتى للانسان"، ومن ممارساته المنسلبة. وتنطوى الطبيعة فى حد ذاتها اما على تناقضات غير شاملة، أضداد حقيقية لا توسطات بينها (نقد مذهب هيجل فى الدولة، الكتابات الباكرة، ص 155) أو تناقضات شاملة لا مكان فيها للإنسلاب الانسانى. فكما أشار باسكار، قد توجد "تناقضات شاملة فى الطبيعة" ولكن لا توجد معقولية جدلية او عقل (1983، ص 127).

إن مفهوما للتناقض يشدد على التعارضات العامة الشاملة كمصدر لكل حركة لا يمكن أن يعبر عن نوع النفى / السلب الذى تعنى به المادية التاريخية بل ويتجه إلى قبول فكرة هيجل " إنه ليس، عيبا أو عدم كمال او نقصا فى شئ أن نشير إلى تناقض فيه" (هيجل، 1976، ص ص 439 و442). بينما الأمر بالنسبة لماركس على النقيض من ذلك، فالتناقض ينشأ لديه من عدم الكمال، لأنه نتيجة عدم قدرة البشر على السيطرة على النتائج الاجتماعية لممارساتهم. وهذا هو السبب فى أن الطبيعة، إذا نظر اليها باستقلال عن المجتمع الانسانى، فإنها لا تتحرك جدليا، ولا تتطور على أساس التناقضات. وهذا هو أيضا سبب عدم كون المنهج العلمى لتحليل الطبيعة جدليا ولا يحيل إلى القوانين الثلاث التى أرساها انجلز. وقد طور شميدت هذه المسألة بقوله بأن القوانين الجدلية، "ليست لها أى صلة على الاطلاق بمنهج العلم الطبيعى ذاته، الذى تكيف حسب المنطق الشكلى وهو غير جدلى بمعنى أنه لا يعكس التوسط التاريخى لموضوعاته" (1971،ص 55). إننى أتفق مع هذا ولكن من الضرورى توضيح حقيقة أن القول بأن منهج العلم الطبيعى مكيف حسب المنطق الشكلى لا يعنى أن المنهج الجدلى الماركسى ليس كذلك a contrario sensu. ذلك أن القول بأن الجدل الماركسى يستتبع نوعا مختلفا من المنطق يعنى إما أن هذا المنطق الشكلى لا ينطبق على دراسة المجتمع أو كما ذهب بليخانوف (بدون تاريخ، ص ص 4-91)،أن المنطق الشكلى هو حالة خاصة فقط من المنطق الجدلى الأعلى الذى يمكن له وحده أن يفهم الحركة.
وهذان البديلان مخطئان بوضوح. الأخير لأنه ليس هنك تعارض بين المنطق الشكلى والحركة. فكما أشار كولاكوفسكى، فإن قبول هذه السذاجة يعنى أن نقع مرة أخرى فى فخ الفلاسفة الإيلين الذين حاولوا أن يثبتوا أن الحركة متناقضة ذاتيا (كولاكوفسكى، 1978، المجلد الثانى، ص 341) أما الأول ، فخطؤه أنه ليس هناك تعارض بين المنطق الشكلى والدراسة الجدلية للمجتمع ، كما تبين تحليلات ماركس فى عدة مناسبات. خذ على سبيل المثال واحدا من مقاطع ماركس فى نظريات فائض القيمة، حيث يصرح بأن "الاقتصاد السياسى الكلاسيكى يناقض نفسه أحيانا"، ثم يضيف بعد بضعة سطور ان تطور الاقتصاد السياسى "يتوازى مع التطور الفعلى للتناقضات الاجتماعية والصراعات الطبقية الكامنة فى الانتاج الرأسمالى" (نظريات فائض القيمة، المجلد الثالث، ص ص 501-500). فكلمة "متناقض" تشير بوضوح حين ورودها لأول مرة لـ "التناقضات المنطقية " للتعليل غير الصائب من جانب الاقتصاد السياسى، الذى ينتقده ماركس. وأما الثانية وهى عبارة "التناقضات الواقعية" فهى تشير إلى التناقضات الكامنة فى الانتاج الرأسمالى. ويرفض ماركس فى نفس السياق التناقض بالمعنى الأول لأنه ينتهك المنطق الشكلى ويقر بالتناقضات بالمعنى الثانى لأنها توجد فى الواقع. وهذا يعنى أن منهج ماركس لا يدعى أنه يستعمل منطقا مختلفا عن المنطق الشكلى. فماركس، كما ذهب إيشفيريا، "بقبوله امكانية مواجهة التناقضات الواقعية، لا يعرضها باعتبارها ذات وجود سابق apriori على المعرفة... فليست التناقضات ذاتها إحدى الجوانب الكامنة في منهجه البحثى بل هي مظهر عارض يوجد فى موضوع التحليل العلمى" (1978، ص 251) . وبمعنى آخر، فإن منهج ماركس جدلى ليس بسبب أنه، فى ذاته، يتضمن تناقضات وإنما لأنه يعبر عن الحركة المتناقضة للواقع الاجتماعى فقط (حول هذا أنظر أيضا باسكار، 1983، ص 125).
وتنبثق ثلاث نتائج هامة من هذاالتحليل: الأولى، هى أنه لو لم يكن الواقع الاجتماعى متناقضا، لما كان هناك منهج جدلى للتحليل . والثانية، حيث أن ماركس يعين حقبة بدائية غير طبقية فى تاريخ البشرية ويتوقع مجتمعا شيوعيا مقبلا بدون تناقضات، فإنه يترتب على ذلك أن التغير الاجتماعى ليس بالضرورة نتاجا للتناقضات وأن هذه التناقضات هى سمات فترة محددة من تطور البشرية فحسب. وحقيقة أن التناقضات توجد فى المجتمع لفترة تاريخية محددة فقط تشير إلى أنها بعيدة عن أن تكون "جذر كل الحركة والحيوية" ، كما تصورها هيجل (1976، ص 439) فالتناقضات - فضلا عن أنها لاتشكل المبدأ الشامل للواقع ، فإنها بالأحرى نتاج "العلاقات الاجتماعية المقلوبة" لعدم قدرة البشر على أن يسيطروا على الشروط الاجتماعية الموضوعية التى أنتجوها عمليا هم أنفسهم. وهكذا فحين يتم تصور الجدل كمبدأ شامل للحركة، فإن المادية الجدلية تصبح هيجلية أكثر منها ماركسية حقا، حتى وإن بدت بعض تطويرات ماركس الخاصة وكأنها تدعم مثل هذه النظرة. فإزاء وجود تشوشات فى بعض كتابات ماركس حول الجدل فليس مما يثير الدهشة أن ناقدين مثل أكتون وبوبر يعتقدان أن المادية الجدلية قد تطورت من قبل ماركس باتباع هيجل إلى حد بعيد (أكتون، 1955، ص 100و81، بوبر 1976, ، ص ص 3-332). ولكن هذا ينبغى أن يرفض ليس فقط لأنه لا ماركس ولا انجلز أنشآ المادية الجدلية كفلسفة منفصلة وإنما بسبب أن هذا ليس تفسيرا صحيحا للجدل الماركسى للأسباب التى قدمناها أعلاه.
وأما النتيجة الثالثة فهى انه إذا كان للجدل صلة بحركة الموضوع ، أكثر منه بمنهج منفصل أو منطق، فيستتبع ذلك أنه لا يمكن أن يدعى لنفسه امتيازا خاصا يبرر له التشوش، والتعريفات الفضفاضة أو ببساطة التصريحات المتناقضة. فبوبر Bober ، على سبيل المثال، يذهب إلى أن أحد عناصر الجدل هو "سيولة" التعريفات (1968، ص 31) وأن انجلز يتبنى هذه الفكرة فى مقدمة المجلد الثالث من رأس المال، حيث يقول "إنه من الواضح بذاته أنه
حيث يتم تصور الأشياء وعلاقاتها الداخلية، ليس باعتبارها ثابتة، وإنما باعتبارها متغيرة، فإن صورها الذهنية، أى الأفكار، تخضع مثلها للتغير والتحول، فلا تظل مغلقة فى تعريفات متصلبة (رأس المال، المجلد الثالث، ص ص 14-13 ). وكارل بوبر يجادل بدوره بأن
الجدل يتسم بأنه غامض ومطاط إلى الحد الذى يفسر ويشرح فيه هذا الوضع الذي لم يكن متنبأ به تماما مثلما يفسر ويشرح الوضع الذى تم التنبؤ به والذى حدث أنه لم يتحقق. ذلك أن أى تطور كان سوف يناسب المخطط الجدلى، فالجدلى ليس فى حاجة إلى أن يخشى أبدا أى دحض بواسطة التجربة المقبلة (ك .بوبر، 1976، ص 334).
ولكن الجدل لا يدور حول الغموض أو المفاهيم السائلة. واقتباس انجلز غامض لأنه ربما يشير إلى التغير التاريخى للأفكار، الذى هو حقيقة، أو إلى الطريقة التى تحدد بها الأشياء ويتحدد بها التغير ذاته، لكن ذلك لا يبرر أى افتقار للتحديد. فحقيقة أن الأشياء وعلاقاتها الداخلية تتغير لا يضمن الافتقار للتعريفات الدقيقة. إذ ينبغى ان تكون النظرية قادرة على أن تفسر التغير دون أن تتطلب تغيرا دائما أو تقلقلا للمفاهيم. ومن ناحية أخرى، ليست مهمة الجدل هى تبرير الوقائع أو التطورات التى لا يمكن بالفعل أن تتضمن فى النظرية. فإذا كانت النظرية تعلل حقا حركة الواقع فلن تكون بحاجة لإجبار عناصر الواقع على أن تتلاءم معها. إن مشكلة ك . بوبر مختلفة إلى حد ما، ولها صلة بنظرته بأن "المادية الجدلية ليست ذات أساس صحيح للتنبؤ العلمى" (ص 333). فهو يعتقد أن الماركسية، كشكل للنزعة التاريخية، تدور حول صنع النبوءات التاريخية وأن "التوقعات" الماركسية لم تتحقق. لكنه يسئ فهم المعنى الذى تهتم فيه الماركسية بالمستقبل. إذ يعتقد أن التاريخ بالنسبة للماركسية محتوم بشكل مطلق (ك . بوبر، 1973، المجلد الثانى، ص 86). ولكن الأمر كما سوف نرى فى القسم التالى ليس بالضرورة هكذا. حيث أن المجتمع لا يتطور كعملية من التاريخ الطبيعى وإنما على أساس ممارسة إنسانية مشروطة (ليست محتومة كليا)، فلا يمكن للتوقعات أن تكون أبدا سوى استباقات لما قد يحاول البشر، فى شرطهم المعين أن يحاولوه، والذى يمكن أن ينجحوا أو يخفقوا فى انجازه . لا يمكن أن تكون هناك أى ضرورة مطلقة لأى حدث مقبل أن يحدث . لا يمكن للجدل أن يزعم التنبؤ بالتطور الحتمى للمستقبل، ولكن هذا ليس نتاج اخفاقه العلمى المزعوم وإنما نتيجة لطبيعة العلم الاجتماعى بأكمله.

وقد برر لوسيان سيف اعتبار الجدل فلسفة منفصلة بالقول بأن التطوير النظرى للجدل ضرورة إذا كان علينا فى التحليل العينى للواقع أن نطبق مفهوما محددا بدقة. ورفع الجدل بذلك إلى مرتبة " علم فلسفى" معنى بـ "القوانين الأساسية ومقولات المعرفة الموضوعية والممارسة التحويلية للعالم " (سيف، 1974، ص 31). ولن يجادل أحد فى أن مسألة ماهو الجدل تحتاج إلى أن يجاب عليها بمصطلحات نظرية. ولكن تضمين الإجابة فى "علم فلسفى" منفصل هى مسألة مختلفة وبالأحرى غير ضرورية. يبرر هوفمان بدوره جدل الطبيعة بالقول بأن الطبيعة الميكانيكية القادرة فقط على أن تدور فى حلقات لا يمكن أن تنتج إنسانا جدليا (1975، ص 60). إن جداله- بغض النظر عن أن افتراضه ينطوى على خطأ لاعتباره أن ما هو غير جدلى يجب أن يدور فى حلقات ، يفترض أن البشر جدليين فى جوهرهم بالذات، وحيث أنهم جزء من الطبيعة، فالطبيعة ذاتها لابد وأن تكون جدلية. لا يدرك هوفمان أن اكتشاف الجدل الاجتماعى لا يستتبع بالضرورة أن يكون المجتمع الانسانى متناقضا بحكم طبيعته. فكما أشرت سلفا، فالتناقض هو ملمح عرضى تاريخى للمجتمع. مكمن قوة نظرية ماركس هو أنها تشكلت بطريقة تجعلها قادرة على توقع تجاوزه . لقد كان المجتمع التاريخى متناقضا خلال فترة معينة ولكن هذا لا يعنى أنه كذلك دائما بحكم طبيعته، ولا أن ذلك يتطلب منطقيا أن يكون ذا طبيعة جدلية. فبالنسبة لماركس ليس التناقض هو الحالة العادية المرغوب فيها بالنسبة للمجتمع. فحين يتصور ماركس انتهاء عصر التناقض بنهاية الرأسمالية فإنه يتبين كم كان ذلك العصر، وهو ما يسميه "ما قبل تاريخ البشرية" بعيدا عن أن يكون "طبيعيا".

الوعى والبـنـاء الفـوقـى
النطاق الثانى للمشاكل الذى جرى التعامل معه من جانب المادية الجدلية له صلة بمفهوم الوعى. لقد سبق ان أشرت إلى أن تطورات المادية الجدلية فى هذا الصدد تشكل تحولا عن ماركس وانجلز من حيث أنهما عالجا الوعى فى سياق المادية التاريخية، ولم ينغمسا فى اعتبارات مجردة عن العقل والمادة بصفة عامة. فقد صرح ماركس بشكل خاص بأن معالجة العلاقة بين الوعى والواقع المادى على مستوى عام مجرد، تجعل من المستحيل فهمها:
من أجل فهم العلاقة بين الانتاج الروحى والانتاج المادى فمن الضرورى قبل كل شئ رصد الانتاج المادى ذاته ليس كمقولة عامة وإنما فى شكل تاريخى محدد. فإذا لم يفهم الانتاج المادى فى شكله التاريخى النوعى، فمن المستحيل فهم ما هو نوعى فى الانتاج الروحى الذى يتوافق معه أو فهم التأثير المتبادل للواحد على الآخر (نظريات فائض القيمة، المجلد الأول، ص 285).
من الصحيح أن ماركس وانجلز يريان فى كتابهما العائلة المقدسة صلة بين مادية عصر التنوير الفرنسى والاشتراكية والشيوعية (أنظر العائلة المقدسة، ص 153) وأنهما تبنيا كثيرا من معتقدات المادية الفلسفية. فهما مثلا، عند الجدال ضد المفهوم الهيجلى عن الفواكه الواقعية النوعية باعتبارها نتائج أو تظاهرات لجوهر "الفاكهة" يؤكدان أن "التفاح، والكمثرى، واللوز، والزبيب التى نعيد اكتشافها فى العالم التأملى ليست سوى مشابهات التفاح، مشابهات الكمثرى، مشابهات اللوز ، ومشابهات الزبيب" (ص 70). إنها تشير إلى أن مفهوم الفاكهة نابع من الادراك الحسي للفواكه الواقعية، وأن فكرة التفاحة هى انعكاس للتفاح الواقعى . أضف إلى ذلك، أنهما يتبنيان أن "الانسان لم يخلق المادة ذاتها" (ص 56) ويصران على وجود عالم واقعى مستقل عن الوعى. من هذه النصوص ومن نصوص اخرى يستنتج هوفمان أنه "من الواضح تماما أنه من المستحيل أن تكون ماديا متماسكا دون أن تعتنق نظرية "الانعكاس" (1975، ص85).

على أية حال ليست المشكلة بالسهولة التى يتصورها هوفمان. ليس فقط بسبب أننا يمكن أن نجد مقتطفات أخرى عند ماركس وانجلز تعطى انطباعا مختلفا، أو أن ماركس كان ناقدا لهذا الجانب المحدد من المادية القديمة فى موضوعاته عن فويرباخ ، بل أيضا لأن علينا أن نفحص نقديا البراهين التى أوردت فى صالح المادية القديمة بشكل عام ونظرية الانعكاس بصفة خاصة، بما فيها تلك التى قدمت من جانب ماركس نفسه. وبادئ ذى بدء فإن الصلة بين المادية الفرنسية والشيوعية, وهي الصلة المقترحة فى "العائلة المقدسة", لم تتم صياغتها داخل المنظور الضيق لنظرية الانعكاس. وما يؤكد عليه ماركس وانجلز بصدد المادية التى ترتبط بالاشتراكية هى حقيقة انه " اذا كانت البيئة تشكل الانسان فعلينا ان نخلق بيئة انسانية " (العائلة المقدسة ، ص 154). واذا كان الانسان يحصل خبراته من العالم الواقعي ، فيجب أن ينظم هذا العالم بطريقة انسانية حقا. والتأكيد هنا ليس على الانعكاس وإنما على التغيير العملى للعالم، وهى مهمة لا يمكن للوعى أن ينظر إليه فيها كانعكاس محض وانما يجب أن يستبق عالما لم يوجد بعد.

لا أحد ينكر أن البشر لم يخلقوا الطبيعة وأنها فى النهاية توجد مستقلة عن الوعى . ولكن من الصعب اعتبار ذلك برهانا لصالح نظرية الانعكاس. فقد انتقد ماركس وانجلز مفهوم فيورباخ التأملى بقولهما أن "العالم الحسى حوله ليس شيئا معطى مباشرة منذ الأزل"، فحتى "العلم الطبيعى المحض استمد مادته وغايته من التجارة والصناعة" لذلك " فالمادة، الطبيعة، الطبيعة التى سبقت التاريخ الانسانى، ليست بأى حال الطبيعة التى يعيش فيها فيورباخ (الأيديولوجية الألمانية، ص ص 40-39). ولكن، حتى لو تبنينا بعد كل هذه الشروط، أولوية الطبيعة الخارجية، كما يفعل ماركس وانجلز، فلا يستتبع ذلك بالضرورة القول بالانعكاس. يحاول هوفمان أن يبرر نظرية الانعكاس على اعتبار أنها الضمان الوحيد لوجود تطابق بين عقلنا والعالم الخارجى. ولكنه لم يفهم أن التعبير عن مثل هذا التوافق بمصطلحات الانعكاس تبسيطى للغاية لأنه من أجل تفسير العالم "الخارجى" فإن على العقل، وقبل كل شئ على العلم، أن يلجأ إلى إنشاء المفاهيم التى ليس لها مرجع تجريبى نوعى. وهذه هى مشكلة مناقشة ماركس لعملية التجريد ومفهوم الفاكهة. ومثل هذا الجدال هو فى أفضل الأحوال جزئى ويبدو مفيدا فقط لمعارضة مثالية هيجل. أما من حيث هو وصف لعملية المعرفة فإنه غير كاف تماما. فلا يجرى التوصل لكل المفاهيم- وبصفة خاصة قلة ضئيلة من المفاهيم العلمية- بواسطة عملية تعميم الأفراد العينيين مثل التفاح والكمثرى. وعلى المرء أن يفكر فقط فى مفاهيم ماركس الخاصة عن القيمة، وفائض القيمة، والعمل المجرد إلخ، ليدرك أنها لا "تعكس" واقعا" قابلا للملاحظة مباشرة.

فنظرية الانعكاس لا تخفق فى تفسير الطابع الاستباقى للوعى فقط وإنما تخفق أيضا فى تفسير وجود المفاهيم المجردة التى ليس لها مرجع تجريبى مباشر. وعلى ذلك فإنه لمما يثير الدهشة أن يقدم هوفمان رأيه مبنيا على فكرة أنه "يمكن للتمييز بين الحقيقة والمظهر ... أن يؤسس فقط على نظرية الانعكاس" (1975، ص 93). وبداية لم يكن موضوع ماركس هو التمييز بين المظهر من ناحية والواقع من ناحية أخرى، لأن هذا يعطى الانطباع بأن المظاهر ليست واقعية، وأنها أوهام محضة. إنما ميز ماركس بين "المظاهر" وبين "النموذج الأساسى" أو بين "الأشكال الظاهراتية" و "العلاقات الداخلية"، فهو لم يعارض المظاهر بالواقع . بل على النقيض من ذلك تبنى بوضوح فكرة أن المظاهر جزء من الواقع :
النموذج النهائى للعلاقات الاقتصادية كما نراها على السطح أى فى وجودها الواقعى وبالتالى فى المفاهيم التى تتكون عنها لدى حملة ووسطاء هذه العلاقات حين يسعون لفهمها، هو غاية فى الاختلاف بل هو على العكس تماما، من نموذجها الأساسى الداخلى ولكن الخفى، والمفهوم المطابق له (رأس المال، المجلد الثالث، ص 209، والتشديد لى).
والآن يبدو لى ان تمييز ماركس ليس فقط غير مؤسس على نظرية الانعكاس ، بل انه على النقيض ، برهان ضده ، او على الاقل يضع حدا هاما لصلاحيته ، لأنه بالرغم من انه يمكن القول بأن المظاهر " تنعكس " عفويا فى عقول حاملي ووكلاء العلاقات الرأسمالية ، فليست العلاقات الداخلية بالتأكيد كذلك ، ويمكن ان تدرك فقط من خلال المفاهيم المجردة التى لايوجد لها مرجع تجريبى . وبالطبع ، كما يقول ماركس ، هناك "توافق" بين النموذج الأساسي والمفهوم العلمى الذى يدركه ، ولكن هذا التوافق ليس انعكاسا لأن النموذج الأساسى مختف بحكم تعريفه ويتجلى من خلال المظاهر فقط ، ومن ثم لايمكن ان يدرك الا من خلال التجريد العلمى .

وكما بينت فى الفصل الثانى، فإن تطور نظرية الانعكاس مقترن بمجاز القاعدة- البناء الفوقى. ولقد ناقشت بعض مشاكل هذه الصورة المكانية فى مكان آخر (لارين، 1983، الفصل الخامس). ومن الضرورى فى السياق الحالى تناول بعض النقاد الذين شككوا فى مفهوم "التحدد" استنادا إلى ان هناك أفكارا أو معتقدات بقيت بعد انتهاء الشروط الاجتماعية التى ظهرت فيها أولا. وهكذا يشير م . بوبر Bober إلى أن أفكار الأكوينى يفترض أن تكون انعكاسا نوعيا للاقطاع "وعلى الماركسيين أن يتساءلوا لم يجد العلماء الكاثوليك اليوم تعاليم ذلك الفيلسوف مقبولة بدرجة بارزة بعد انصرام سبعة قرون بينما الأسس الاقتصادية مختلفة لحد هائل" (م . بوبر Bober، 1968، ص 379). ويقدم كولاكوفسكى حجة مشابهة :
إن حقيقة أن بعض مظاهر البناء الفوقى تظل مستمرة بالرغم من التغيرات الاجتماعية العميقة، هى حقيقة ذات دلالة بالنسبة لمصداقية هذه الطبعة المخففة من المادية التاريخية. فالمسيحية، مثل الإسلام، قد تواصلت خلال عدة أنظمة اجتماعية واقتصادية (كولاكوفسكى، 1978، المجلد الأول، ص 376).

إنه لمما يثير الدهشة أن يتهم م . بوبر Bober وكولاكوفسكى الماركسية بأنها غير قادرة على أن توفق مفهوم التحدد الاجتماعى مع قدرة بعض الأفكار على أن تبقى لعدة قرون. كان ماركس يواجه دوما هذه المشكلة ولم يخضع أبدا لإغراء اختزال صلاحية الأفكار إلى الشروط الاجتماعية التى تولدت فيها. وهكذا فقد صرح بأن "ليس ثمة صعوبة فى فهم أن الفنون اليونانية والملحمة مرتبطة بأشكال معينة للتطور الاجتماعى. لكن الصعوبة تكمن فى أنها مازالت تعطينا متعة فنية وأنها من ناحية معينة تعتبر معيارا "ونموذجا لا يمكن بلوغه" (مقدمة الجروندريسه ، ص 111). وقد قدم ملاحظات مماثلة عن استعمال القانون الرومانى فى المجتمعات البورجوازية. أضف إلى ذلك، أنه كان نقديا للغاية إزاء هؤلاء الذين أرادوا أن يتخلصوا من الأعمال الفنية وثمار الحضارة الأخرى لأنها انتجت فقط داخل مجتمع متناقض فى تضاد مع العمال (أنظر، على سبيل المثال، نظريات فائض القيمة، المجلد الثالث، ص 261). وبالطبع يمكن أن يجادل بأن هذا لا يحل شيئا لأن ماركس بالرغم من أنه كان واعيا بالمشكلة ولم يختزل الأفكار إلى خلفيتها الاجتماعية من أجل طرحها، إلا أنه فعل ذلك على حساب عدم تماسك مفهومه عن التحدد. ولكن هذا صحيح فقط إذا ما أدرك التحدد بطريقة ميكانيكية واختزالية شديدة كفعل سببى مفرد يؤدى اختفاؤه إلى اختفاء نتيجته بشكل ميكانيكى. هذه هى النقطة التى يضع عندها كولاكوفسكى الماركسية فى الوضع الذى لا مخرج منه والذى يجعله يدينها دون وجه حق بقوله أنها : "إذا مافسرت بصرامة، فإنها تتناقض مع المطالب الأولية للعقلانية، وإذا ما فسرت بمرونة، فإنها تصبح حقيقة بدهية" ولا يمكن أن تفسر أى شئ فى مجرى التاريخ (كولاكوفسكى، 1978، المجلد الأول، ص ص 367-364). مع ذلك، "فقد أثرت بعمق على فهمنا للتاريخ" و "تصنع اختلافا أساسيا" فى ادراكنا للمسيحية (ص 369). من الضرورى أن نرفض نقد كولاكوفسكى غير المنصف وبالأحرى السطحى ليس فقط بسبب أنه، كما أشار ماك لينان، ليس استنتاجا يتناسب مع مقدمته المنطقية أن يجعل نظرية عادية أو بدهية تصنع اختلافا أساسيا (1981،ص11) وإنما أيضا وبصفة أساسية، لأن مفهوما للتحدد هو فى آن واحد غير عادى وغير اختزالى يمكن أن ينبنى على أساس نظرية للمارسة قدم ماركس ملامحها الأساسية. وثمة فكرتان يجب أن تهيمنا على تلك العملية. الأولى، أنه ينبغى أن يكون للتحدد صلة بالبشر الذين يكتسبون وينتجون أفكارهم فى عملية إعادة انتاجهم لحياتهم المادية عمليا. والثانية، أن التحدد ليس فعلا سببيا مفردا وإنما عملية مستمرة تنطوى على إعادة إحياء للأفكار فى سياق ممارسات جديدة.

وربما كان النقد الأكثر شيوعا لمجاز القاعدة- البناء الفوقى يدور حول الاستحالة المزعومة للتمييز بدقة بين البنية الاقتصادية من جانب والأبنية الفوقية القانونية والأيديولوجية من جانب آخر. فهو يحاول أن يبين أنك إذا لم تستطع أن تميز بدقة بين القاعدة وبين البناء الفوقى فإنك لن تستطيع بالتالى أن تؤكد أن الأول يحدد الأخير. وهكذا يجادل بلامنتز بأن "كل نوع من النشاط الاجتماعى يتضمن "وعيا" وعلى ذلك فإن التضاد بين الوجود الاجتماعى والوعى مضلل لأنه يوحى بخلاف ذلك" (بلامنتز، 1971، ص 42). كما يرى هيلبرونر أن العناصر التخيلية تنتشر عبر جسم المجتمع وأن هذا يجعل من الصعب "رسم حدود حول المجال المادى" (1980، ص 84). أما ليف فيذهب، بدوره إلى أن البناء الفوقى القانونى والسياسى لا ينفصم عن البنية الاقتصادية وأنه بمصطلحات عامة فإن "التقسيم الثنائى إلى قاعدة- بناء فوقى هو فى الواقع نموذج زائف" (1961، ص ص 112 و 134) ويمكن أن نجد أفكارا مماثلة عند فيدرن (1939، ص 101) وأكتون (1955، ص ص 164- 5 و 167).

وقد أجاب كون على هذه الاعتراضات برد يتضمن جانبين، الأول، أن التمييز بين القاعدة والبناء الفوقى ممكن إلى المدى الذى يمكن أن تحدد فيه البنية الاقتصادية دون استعمال مصطلحات قانونية. الثانى، أن التمييز بين الوجود الاجتماعى والوعى ممكن لأن الوجود الاجتماعى لا يتضمن استعمال الأفكار عند تعريفه. فبالنسبة للجانب الأول يجادل كون بأن القاعدة والبناء الفوقى يمكن أن يدركا ويوصفا باعتبارهما منفصلين رغم أنهما مرتبطان بوثوق وحاضران معا فى الواقع (كون، 1970، ص 141 و 1974، ص 90 و 1978، ص 235). فماركس يتحدث عن علاقات الانتاج أحيانا بمصطلحات الملكية أو الحقوق على القوى المنتجة ولكن من الممكن أن نتجنب هذه المصطلحات القانونية ونستبدل بها مصطلح "سلطة". وهكذا بدلا من حق استعمال وسائل الانتاج أو الحق فى الاحتفاظ بقوة عملك نتحدث الآن عن سلطة استعمال وسائل الانتاج أو سلطة الاحتفاظ بقوة عملك. ليس هذا تغيرا مصطلحيا محضا لأن "حيازة السلطات لا تستتبع حيازة الحقوق التى توافقها ولا تستتبع حيازة الحقوق حيازة السلطات التى توافقها" (كون، 1978،ص 219). وفقا لهذا الاجراء، إذن، يصبح الاختلاف بين البروليتارى والعبد هو أن الأول لديه سلطة أن يمسك قوة عمله بينما الأخير ليس لديه هذه السلطة .
ويبين الجانب الثانى فى الجدال أن الوجود الاجتماعى لا يدرك على مستوى النشاط الاجتماعى وإنما على المستوى البنيوى. إذ تعين البنية الاقتصادية الأدوار الاقتصادية التى يشغلها البشر. و "الوجود الاجتماعى" مساو هنا للدور الاقتصادى الذى يشغله شخص ما، ولكن ينبغى هنا التمييز بين شغل دور ما وبين أدائه. فشغل الدور، والذى يدرك على المستوى البنيوى، لا يتضمن بذاته استعمال أفكار بمعنى عدم وجود رابطة عملية تستلزم ذلك. ولكن أداء الدور قد يتضمن استعمال أفكار بهذا المعنى. وهكذا حين يؤكد ماركس ان الوجود الاجتماعى يحدد الوعى فهو يقدم قضية قابلة للتأكيد تماما (كون، 1974، ص 91). بهذه الطريقة يصبح كون قادراً على استنتاج أنه، إذا كان الأساس الاقتصادى يمكن أن يعرف دون اللجوء إلى العلاقات القانونية وإذا كان الوجود الاجتماعى يمكن أن يعرف دون اللجوء لاستعمال الأفكار، عندئذ تكون العلاقات السببية صحيحة، حيث تصبح فكرة تفسير البناء الفوقى بواسطة القاعدة وتفسير الوعى بواسطة الوجود الاجتماعى متحررة من أى مشاكل منطقية ويمكن إثباتها. وثمة نتيجة مختلفة وإن كانت ذات علاقة بذلك ، هى أن العلاقات والأوضاع، على المستوى البنيوى، تحدد سببيا- وإلى درجة كبيرة- النشاط الاجتماعى، أى أن شغل دور ما يحدد أداءه.

والجزء الأول من جدال كون يبدو مقنعا فيما يتعلق باستبعاد العلاقات القانونية من تعريف الأساس الاقتصادى. إلا أنه، بالنسبة للمفهوم التقليدى عن البناء الفوقى فليس من الواضح تماما ان إحلال "السلطة" محل "الحق" ينجح فى إزالة عناصر مثل الاعتبارات الأخلاقية أو اشكال معينة من الوعى من البنية الاقتصادية (أنظر على سبل المثال، بومبا، 1982، ص 474). يمكن أن يبين هذا باستعمال مثال كون عن التمييز بين البروليتارى والعبد على أساس أن الأول له سلطة أن يمسك عمله بينما الأخير لا يستطيع ذلك. يحدد كون السلطة هكذا: "يكون للانسان سلطة على شئ ما إذا كان وفقط قادرا على الامساك به. على أن تفهم كلمة "قادر" هنا بمعنى غير معيارى (كون، 1978ص 220) ماذا يعنى أن العبد لا يستطيع إمساك قوى عمله ؟ كون ليس شديد الوضوح بشأن ذلك، لكنه أجاب على اعتراض حول هذه النقطة قائلا: "أن سبب إفتقار العبد لهذه السلطة هو أنه إذا لم يعمل فإنه على الأغلب سيقتل، وسوف يموت بالتأكيد" (ص 222) فإذا كان هذا هو ما يعنيه كون، فهناك مشكلة. لأن العبيد يمكن لهم جسديا أن يمسكوا قوة عملهم، وفى الواقع فإنهم فعلوا ذلك فى الماضى. وبعدئذ واجهوا النتائج. فإذا كان من الحقيقى ان الخوف من الموت عائق، فإنه من الحقيقى أيضا ان هذا الخوف قد ذلل فى الماضى فى روما، هاييتى، جامايكا، إلخ، لاعتبارات أخلاقية وأيديولوجية. وعلى أية حال، فبغض النظر عما إذا اختار عبد أن يتمرد أم لا فإنه لا يفتقر إلى سلطة امساك قوة عمله بمعنى أن لديه القدرة البدنية على فعل ذلك بغض النظر عما إذا كان سيفعل أم لا. فذلك يعتمد على أسباب ما فوق اقتصادية مثل الخوف من الموت أو أسباب دينية أخرى.

يستنتج بومبا على أساس جدال مشابه أن التمييز المفهومى بين القاعدة وبين هذا الجانب فى البناء الفوقى ليس ملائما وأنه إذا لم يدخل كون "الوعى كعنصر فى البنية الاقتصادية"، وهو ماسيؤدى إلى مراجعة جادة، فإن العلاقة الوظيفية بينهما سوف يتعذر الدفاع عنها (1982، ص 474). على أن جدال بومبا صالح ضد مفهوم تقليدى للبنية الفوقية يجعلها تتضمن أشكال الوعى الاجتماعى. ولكنه لا يبدو مدركا أن موقف كون يستبعد الوعى من البنية الفوقية حيث يقول: "يتكون البناء الفوقى من مؤسسات قانونية، سياسية ، ودينية، وأخرى غير اقتصادية. ومن المحتمل أن يتضمن الجامعات، ولكنه لا يتضمن المعرفة، لأن المعرفة ليست مؤسسة" (كون، 1978، ص 45). من الحقيقى أن لدى كون غموض حول مضامين البناء الفوقى التى لا يحددها بدقة أبدا، وأنه يركز فى تحليلاته على الأغلب على البناء الفوقى القانونى. ولكن كون على الأقل قد زعم باتساق بأن "البناء الفوقى أصغر كثيرا مما يعتقد كثير من المعلقين. فمن المؤكد أنه من الزائف نسبة كل ظاهرة اجتماعية غير اقتصادية للبنية الفوقية ، فالابداع الفنى مثلا لا ينتمى للبنية الفوقية بوضوح عند ماركس" (1983a ،ص ص 114- 5) . وهكذا فحتى لو كان صحيحا أننا لا نستطيع أن نستبعد أشكالا معينة من الوعى من تعريفنا للقاعدة فإن ذلك لا يؤثر بالضرورة على العلاقة الوظيفية للقاعدة- البناء الفوقى.
لا يعنى استبعاد الوعى من البناء الفوقى بالضرورة أنه ينبغى علينا أن نتصوره كعنصر فى البنية الاقتصادية وهو البديل الذى يقترحه بومبا باعتباره حلا ممكنا. يضمن كون فى القوى المنتجة تلك الأقسام من العلم المتصلة بالانتاجية ولكن، وكما هو معروف جيدا، فإن أحد المبادئ الأساسية لموقفه يستبعد القوى المنتجة من البنية الاقتصادية. وطالما أن كون يفهم البنى الفوقية بوصفها تشمل فقط المؤسسات الضرورية وظيفيا للأساس الاقتصادى، فهو ملزم بان يستبعد من مجاز القاعدة- البناء الفوقى أشكال الوعى الاجتماعى، والمعرفة، والفن، والمعتقدات الدينية والأخلاقية، إلخ . وإذا كانت الجامعات وليس المعرفة هى التى تنتمى للبناء الفوقى، فكذلك تكون الكنائس وليس المعتقدات الدينية كذلك تكون مدارس الفن وليس الابداعات الفنية. وكون هنا أكثر تماسكا فى موقفه من ستالين، الذى يستبعد اللغة من البناء الفوقى لكنه لا يستبعد منه الوعى. لكنى أشك كثيرا جدا فى أن كون يمكن أن يزعم هنا أنه يمثل باخلاص وجهات نظر ماركس وانجلز، اللذين لم يميزا بين المؤسسات وأشكال الوعى فى فهمهما للبنى الفوقية. هذا فى حد ذاته ليس موضع نقد. لقد تبنيت أنا أيضا فكرة أنه "ليس هناك معنى فى تشخيص الوعى كبنية فوقية منفصلة نوعيا" (لارين، 1983،ص 178). فليس ثمة مشكلة عند كون إلا فى ادعائه أنه يمثل ويدافع عن ماركس وانجلز.

وبينما يؤدى استبعاد الوعى من مكونات البناء الفوقى، إلى إزالة بعض المشكلات الخاصة بمجاز القاعدة- البناء الفوقى- إلا أنه لا يستطيع بذاته حل مشكلة كيف يمكن ادراك تحدد الوعى. وهى المشكلة التى يسعى الجزء الثانى من استدلالات كون أن يواجهها بدرجة اقل من النجاح. ليس معنى ذلك أن إجابة كون مخفقة كليا. فكون يريد أن يبرهن- فى جداله ضد أكتون و بلامنتز، وآخرين- على أن العلاقة السببية بين الوجود الاجتماعى والوعى قابلة للإثبات، وهو ينجح بالطبع فى إظهار أنه ليس ثمة صعوبة فى البرهنة على تلك العلاقة السببية من خلال مفهومة البنيوى المقترح للوجود الاجتماعى باعتباره شغلا لدور. وهكذا فإنه من الصحيح تماما أن فكرة كون القائلة بأنه "إذا ما عمل انسان كصاحب متجر فسوف تكون لديه بالتالى أفكار معينة من حيث هو صاحب متجر" قابلة للاثبات. لكن، وكما يدرك كون نفسه، فمدى صحة هذا التأكيد تعتبر مسألة أخرى (1974، ص 91). على أنه يعتقد أن فكرته تلك حقيقية إلى حد بعيد. لكن لسوء الحظ فإننا نجد أن فكرة أن الأدوار الإقتصادية المحددة بمراكز طبقية معينة، تحدد بدورها أفكارا تتطابق معها مباشرة؛ هي فكرة تبعد بعض الشيئ عن الواقع. فأن تجادل بأن مثل هذه العلاقة السببية ممكنة بدون تناقض, شئ، وأن تكون قادرا على إظهار أن المركز الاجتماعى أو االمهنة تحدد مباشرة الأفكار وبالتالى الأداء, شئ مختلف تماما.

ولو كانت مثل هذه المعادلة صحيحة لوجدنا أن الأدوار الاقتصادية للطبقة العاملة تحدد بالضرورة الأفكار الثورية والأعمال الثورية وأنه لن يكون بوسع المثقفين البورجوازيين أن "ينفصلوا" عن طبقتهم ليصبحوا مثقفى البروليتاريا. وإذا أردنا حقا أن نفسر الأفكار التى تتبناها طبقة أو مجموعة اجتماعية فى مجتمع معين فلا يمكن لنا أن ننظر فقط للقوى العامة أو القيود الكامنة فى دورها الاقتصادى وإنما علينا أن نفحص الطريقة النوعية التى تؤدى بها هذه الأدوار. فالأفكار، يتم انتاجها والاختيار بينها وتطويرها فى سياق الممارسات الاجتماعية. وإذا كان من الصحيح أن الخصائص الاقتصادية للدور تضع حدودا على أدائه فإنه من الصحيح أيضا أن هذا الأداء العينى هو الذى يحدد الطابع النوعى للأفكار والمواقف التى يتبناها شاغلو هذه الأدوار. لا يمكن لنا أن نؤكد علاقة مباشرة وضرورية بين أدوار اقتصادية معينة وأفكار معينة. أو، كما اقترح ليفين ورايت ، لا يمكن أن تولد المصالح الطبقية المحددة بنيويا بذاتها القدرات الطبقية (أى الموارد الأيديولجية والتنظيمية) الضرورية لتحققها (ليفين ورايت، 1980، ص 58). وفكرة كون حول أن شغل دور اقتصادى هو الذى يحدد الأفكار والأداء تجعله يكرر أخطاء لوكاش فى تعريف الوعى الطبقى باعتباره "رد الفعل الملائم والعقلانى الذى يعزى إلى موقف خاص نموذجى فى عملية الانتاج" (لوكاش، 1971، ص 51): فلوكاش بتركيزه على رد الفعل النموذجى، المحض، الأكثر عقلانية الذى يمكن أن يعزى إلى مركز طبقى وجد نفسه مدفوعا لأن يهمل العينى التاريخى والظروف العملية التى قد تتيح أو لا تتيح للوعى أن يتطور.
-
مضـمـون قـوى الإنتاج
بالرغم من أن كل المفكرين المنتمين للمنظور الأرثوذكسىى متفقون على أولوية قوى الانتاج فليس واضحا بأى حال أن تعبير "قوى الانتاج" له نفس المعنى لديهم جميعا. ذلك أن المشكلة تبدأ مع ماركس وانجلز نفسيهما لأنهما لم يطورا أبدا تمييزا دقيقا بين قوى وعلاقات الانتاج ولم يحددا مضمونها بدقة تامة. وتتضح حقيقة أن المشاكل المتعلقة بنطاق كل من هذين المفهومين وبالتمايز بينهما هى مشاكل معقدة للغاية، من أننا نجد قلة قليلة من التعريفات لهما، وإن معظم المؤلفين يكتفون باقتراح تصنيفات أو قوائم بالعناصر التى يفترض أنها تنتمى لكل مقولة. غير أن هناك فى العالم الناطق بالانجليزية إتجاهات حديثة تدافع عن المفهوم التقليدى للتاريخ بصفته نموا لقوى الانتاج وتحاول علاج هذا الوضع بادخال تعريفات مفهومية متبوعة بقوائم دقيقة من العناصر التى، يجب تضمينها أو استبعادها من كل مفهوم. وعموما فالتعريفات المفهومية لقوى الانتاج متماثلة. وماك مورترى ، مثلا، يرى أن "قوى الانتاج هى أى شئ يستعمل- أو يمكن أن يستعمل- لخلق قيمة استعمالية مادية" (ماك مورترى، 1978، ص 55) وكون بدوره يتبنى فكرة "أنه لكى توصف وسيلة ما بأنها قوة انتاجية، يجب أن تكون قابلة لأن يستخدمها فاعل منتج وأن يتم الانتاج (جزئيا) نتيجة لاستعمالها، وأن يكون استعمالها مستهدفاالاسهام فى الانتاج من شخص ما" (كون ، 1978، ص 32). وأخيرا، يجزم شو بأن "القوى المنتجة هى تلك العناصر الأساسية والجوهرية فى آن واحد لعملية الانتاج، ليس بالمعنى الواسع الذى يشمل الأنشطة أو العوامل الضرورية للمجتمع ككل حتى يقوم بالانتاج، وإنما بالمعنى الأضيق الذى يشمل العوامل البسيطة لعملية العمل" (شو، 1978، ص10).

هذه التعريفات- على الرغم من تشابهها- تخفى اختلافات هامة، إذ بالرغم من أن المؤلفين الثلاثة يريدون أن يعززوا ماركسية تقليدية فإن واحدا فقط، هو ماك مورترى، الذى يقترب منها على نحو دقيق. فبالنسبة له، كما هو بالنسبة للماركسية الأرثوذكسية، فإن قوى الانتاج تشمل ليس فقط وسائل الانتاج ومهارات العمل بل الناس (العمال) أيضا وأنماط التعاون أو علاقات العمل. فستالين، على سبيل المثال، يذكر بوضوح عند وصف تطور قوى الانتاج أن المانيفاكتورة تستلزم نفس التكنولوجيا والأدوات التى يستلزمها الانتاج الحرفى لكن الاختلاف يكمن فى أنها تتطلب نمطا مختلفا من التعاون (ستالين، 1976، ص 862). ونفس الشئ تكرر فى الكتب السوفيتية الحديثة (أنظر كيليه وكوفالسون، 1973، ص 107). إن الناس ينتمون للقوى المنتجة تتكرر أيضا مرة بعد أخرى (أنظر ستالين، 1976،ص 856 و بوخارين، 1965، ص 115 و كيليه وكوقالسون، 1973، ص 51 وبوجولافسكى وآخرون، 1987، ص 333). لكن شو وماك مورترى وكون، على النقيض من ذلك، يستبعدون البشر من قوى الانتاج على نحو صريح، ولكنهم يختلفون حول أنماط التعاون، التى يتخذون إزاءها ثلاثة مواقف مختلفة. لكن يظل تقييم ماك مورترى هو الأقرب للأرثوذكسية التقليدية لأنه يميز بين "العلاقات التكنولوجية" التى هى "الروابط الفعالة المتضمنة فى قوى الانتاج" وبين علاقات الانتاج التى هى "روابط الملكية بين قوى الانتاج هذه ومالكيها" (ماك مورترى، 1987، ص 73).

هذا التمييز قد جرى تبنيه أيضا، فى سياق مختلف، من جانب فروع متعددة من الألتوسيرية. فباليبار على سبيل المثل يميز بين علاقات الملكية التى تنتمى إلى علاقات الانتاج الاجتماعية وعلاقات الاستحواذ المادية الفعلية الكامنة فى قوى الانتاج (ألتوسير وباليبار، 1975، ص ص 213- 4). كذلك يقترح هارنكر تمييزا مماثلا بين العلاقات التكنولوجية للانتاج وعلاقات الانتاج الاجتماعية (هارنكر، 1968، ص 28). بينما شو، على النقيض من ذلك، يدافع عن وجهة النظر التى ترى أن التعاون ليس قوى انتاج، بالرغم من أنه قد يوسع الكفاءة الانتاجية مثل أى علاقة انتاج أخرى (شو، 1978،ص 24) . بل إن شو فى الواقع يضم كلا من علاقات "الملكية" وعلاقات "العمل" المتضمنة فى عملية الانتاج، فى مفهوم علاقات الانتاج الاجتماعية (ص 31). وحتى تتعقد الصورة أكثر، يقترح كون بدوره حلا آخر يقع بين الفهم التقليدى وفهم شو. فمن ناحية يرى أِن علاقات العمل رغم أنها علاقات انتاج إلا أنها ليست علاقات انتاج اجتماعية (بنية اقتصادية) وإنما علاقات انتاج مادية. ومن ناحية اخرى، فحتى إذا كانت علاقات العمل مادية، مثل قوى الانتاج، فإنها ليست، هى نفسها قوى انتاج (كون، 1987، ص 113) هذا يعنى أن علاقات العمل أو أنماط التعاون ليست علاقات انتاج اجتماعية ولا هى قوى انتاج.

قد تبدو هذه الاختلافات فى وصف مضمون قوى الانتاج غير هامة عند النظرة الأولى لأن ما يعنى حقا المفهوم التقليدى للماركسية هو تأكيد الدور الديناميكى الحيوى لقوى الانتاج باعتبارها القوى المحركة للتاريخ، أيا ما كان مضمونها. هذا صحيح إلى حد معين. مع ذلك فإن مشكلة التعريف لها صلة من ناحية اخرى بالتمييز الملائم بين قوى وعلاقات الانتاج وهذا بدوره شرط ضرورى لأى برهنة على أولوية القوى المنتجة. كما بين ميللر (1981)، فإن ماركس لطالما تعامل مع أنماط التعاون باعتبارها قوى انتاج. فهو فى الأيديولوجيا الألمانية مثلا يرى:
إن انتاج الحياة، حياة المرء الخاصة فى العمل او الحياة الجديدة بالانجاب، تظهر لنا منذ الآن على أنها علاقة مزدوجة : علاقة طبيعية من ناحية، وعلاقة اجتماعية من ناحية أخرى- وإننا نعنى بالعلاقة الاجتماعية التعاون بين عدة أفراد أيًا ما كانت الأوضاع، وبأية طريقة كانت، ولأية غاية كانت. ويترتب على ذلك أن نمطا معينا للانتاج أو مرحلة صناعية معينة، تقترن على الدوام بنمط معين للتعاون أو مرحلة اجتماعية معينة، وهذا النمط للتعاون هو بحد ذاته "قوة منتجة" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 43).
فهنا، يؤكد ماركس أن أنماط التعاون هى قوى انتاجية واجتماعية معاً. ويتضح ذلك من قوله: "القوة الاجتماعية، أى قوى الانتاج المتضاعفة، التى تظهر عبر تعاون أفراد مختلفين وتنجم عن تقسيم العمل" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 48). كما يتحدث ماركس فى مكان آخر عن "قوى الانتاج العامة التى تنشأ عن التركيب الاجتماعى" (الجروندريسه، ص 700) ويعالج ماركس فى رأس المال مرارا موضوع "التعاون" باعتباره قوة انتاج (رأس المال، المجلد الأول، ص ص 305- 17). إن عدد ونوعية النصوص المتضمنة لهذا المعنى هى من الكثرة بحيث يصعب عدم الاتفاق مع ميللر بأنه "لو لم يكن لدى ماركس قدرة ضخمة على عدم الاتساق "لكان قد أدخل أنماط التعاون فى قوى الانتاج" (ميللر، 1981، ص 103).

هذا يعنى، أولا، أن كلا من كون وشو بالرغم من اهتمامهما بالدفاع عن الماركسية التقليدية إلا أنهما لم يفسرا ماركس بصواب فى هذه المسألة: والثانى، أنه على الأقل وبالقدر الذى يتعلق فيه الأمر بهذه المشكلة فإن الماركسية الأرثوذكسية القديمة قد اتبعت ماركس بدقة وفهمته بشكل صحيح. ولكن ذلك ليس ضمانا لكفاءتها. وعلى أى حال، وبصرف النظر عن هذا الاتفاق العام مع ماركس، فإن هناك أسباباً أخرى للاعتقاد بأن التفسير الأرثوذكسى القديم لهذه المسألة أفضل من تفسيرى كون وشو. ومشكلة مثل هذا التفسير، فيما يبدو لى، إنما تنشأ من التمييز بين الخصائص الاجتماعية والمادية للمجتمع وهو التمييز الذى يطرحه كون صراحة ويتبناه شو ضمنيا. إذ يلاحظ أنه، بالرغم من أن شو يعتبر أنماط التعاون علاقات انتاج اجتماعية وكون على العكس يتصورها علاقات انتاج مادية، فكلاهما معنيان بصيانة قوى الانتاج من أى تجاوز إجتماعى، كما لو كانت مادية محضة بشكل حصرى. فكون يعرف الخاصية الاجتماعية على النحو التالى: "لا يوصف شئ ما بأنه اجتماعى إلا إذا ترتبت عليه حقوق أو سلطات لأشخاص- معينين أم غير معينين- تجاه أشخاص آخرين" (1978، ص 94) فمثل هذا التعريف تقييدى لأبعد حد، إذ أنه يطوى مفهوم "الاجتماعى" داخل مفهوم علاقات الانتاج . ومثل هذه الطريقة فى الفهم تتسم بأنها اعتباطية واختزالية دون داع. فماركس نفسه يقدم تعريفا أفضل كثيرا فى المقتطف المذكور عاليه ، حينما يتحدث فى الأيديولوجيا الألمانية عن "الاجتماعى" بالمعنى الذى يشير لتعاون أفراد متعددين، دون التقيد بأوضاع أو طريقة أو غاية معينة (الأيديولوجيا الألمانية، ص 43).

ووفقا لهذا التعريف الأكثر أساسية، فإننى حين أحمل شيئا معك، فإن ما أفعله هو فعل اجتماعى بغض النظر عما إذا كنت أفعله استنادا إلى اتفاق ما، أو تحت تأثير سلطتك (كون، 1978، ص 95). بالطبع الحقوق أو السلطات التى بمقتضاها نحمل الشئ هى أيضا خصائص اجتماعية تحدد مركزنا الطبقى ضمن نظام علاقات الانتاج. ولكن علاقات الانتاج هى جزء فقط من شبكة أعرض من العلاقات الاجتماعية. وهكذا حينما نتبنى تعريفا أعم، ووجهة نظر أكثر ملاءمة للـ "اجتماعى"، فإننا نجد أن ما يسمى "العلاقات التكنولوجية" أو "علاقات العمل" هى اجتماعية أيضا بقدر ما تنطوى على تعدد فى الأفراد المتعاونين فى عملية الانتاج وبصرف النظر عن علاقات سلطتهم الفعالة على وسائل الانتاج ولكل منهم على الآخر . ولأن شو يقبل فكرة أن علاقات العمل هى علاقات إجتماعية فإنه ينتزعها من قوى الإنتاج ويضعها ضمن علاقات الانتاج . ولكن هذا المنحى بدوره ليس ضروريا تماما. إذ لم ينبغى أن تكون هناك مشكلة فى النظر لكل من علاقات الانتاج وقوى الانتاج بوصفهما يتضمنان نوعين مختلفين من العلاقات الاجتماعية ؟ والحقيقة أننا حينما نستبعد علاقات العمل من قوى الإنتاج فإننا نخاطر بحرمان هذا المفهوم من عنصره الأساسى الذى يحدد مستوى الانتاجية عن طريق تأمين تركيب معين بين وسائل الانتاج ومهارات العمل. كيف يمكن لنا أن ندرك مستوى معينا من الانتاجية بالنظر فقط لحاصل الجمع المادى لوسائل الانتاج ومهارات العمل؟ فحتى يمكننا أن نتكلم عن درجة من الانتاجية التى تنمو ويمكن أن تقاس، فإنه لا مفر من تضمين علاقات العمل ضمن القوى المنتجة.


التاريخ كـنمو لقـوى الانتاج

ولا تغير المواقف المختلفة إزاء مضمون قوى الانتاج حقيقة أن معظم المؤلفين ضمن التقليد الأرثوذكسى يقبلون فكرة أن قوى الانتاج هى القوة المحركة الأساسية للتغير فى المجتمع بقدر ما تتطور عبر التاريخ وأنها تشكل المبدأ التفسيرى الأخير لطابع البنية الاقتصادية، والتى تحدد بدورها، طابع البنى الفوقية. ومع ذلك فمن الواضح أن نظرة كون الحصرية لقوى الانتاج ، التى تستبعد كل الخصائص الاجتماعية لها، تختزل إلى حد بعيد المبدأ التفسيرى إلى جوانبه المادية والتكنيكية المحضة. ورغم أن كون يدرك "أننا لا نستطيع أن نستنبط العلاقات الاجتماعية من وضع مادى"، إلا أنه يصر على "أننا نستطيع أن نستدل عليها بهذا القدر أو ذاك، بفضل المعرفة العامة أو النظرية" (كون، 1987، ص 95).
وبما أن كون يعتبر قوى الانتاج مبدأ تفسيريا، ذا طبيعة مادية بحتة، للعناصر الاجتماعية، فقد اتسم تفسيره لنزوع قوى الانتاج للتطور والنمو عبر التاريخ باستبعاد حتمية تطور الجوانب الاجتماعية ، وبالتالى علاقات الانتاج ، وبجعلها تسير وفق ميكانزم مستقل ذاتى الدفع : يعبر عن وجود اتجاه طبيعى للبشر العقلانيين للتغلب على الندرة. ويقع كون بتفسيره لتطور قوى الانتاج بهذه الطريقة فى نفس الخطأ الذى بينته في الفصل الثانى: فيستنتج أن ماهو عقلانى- ولاشك أنه من العقلانى للبشر الأذكياء أن يحسنوا من وضعهم فيما يتعلق بمشكلة الندرة- هو ما يجرى بالفعل فى الواقع التاريخى. وأنا لا أقول أن معادلة كون لا يمكن أن تحدث أو حتى أننا لا يمكن أن نكتشف تاريخيا مثل هذا الاتجاه فى مجتمعات وأحقاب كثيرة. المشكلة هى بالأحرى أن مثل هذه المعادلة المباشرة لا تولى انتباها للعوامل الاجتماعية التى يمكن أن تعوق مثل هذا التطور. ونظرية كون لا تسمح بذلك إلا كحالة عارضة، لأن العلاقات الاجتماعية بحكم تعريفها يفترض أنها لم توجد إلا لتساعد فى تعزيز تطور قوى الانتاج.
ومن الناحية النظرية يمكن اعتبار تصور كون منطقيا تماما. إلا أن المشكلة هى أن الواقع التاريخى لا يتكيف بالضرورة لهذا المنطق دون توسط شروط اجتماعية نوعية. وكما طرحها يوشع كون فإن :
حقيقة أن الأفراد لديهم اهتمام بتحسين وضعهم المادى، وأنهم أذكياء بما فيه الكفاية ليبتكروا طرقا لعمل ذلك، لاتدفعهم- فى غالب الأحيان- إلى الاهتمام بتطوير قوى الانتاج. لكن فى ظل شروط بنيوية خاصة يمكن للاهتمام بتحسين المستوى المادى، أن يترافق مع اهتمام مماثل لتطوير قوى الانتاج (ج . كون، 1982، ص 268 ) .
ولكن المشكلة لا تكمن فقط فى التسليم بأن الرغبة العقلانية فى التغلب على الندرة تتحول مباشرة إلى تكنولوجيا متطورة. ذلك أننا حتى إذا قبلنا جدلا أن تصور كون يحدث فى الواقع أو إذا قصرنا تحليلنا على المجتمعات والحقب التى يوجد فيها تطور ثابت لقوى الانتاج قابلا للاختبار بوضوح، فستظل هناك مشكلة مع فكرة كون بأن علاقات الانتاج تفسر وظيفيا بأنها تتجه دائما نحو تعزيز نمو قوى الانتاج. ذلك أنه رغم التغير التكنولوجى المنهجى والثابت فليس هناك ضمان بأن التناقض الطبقى المشتق من بنية علاقات الانتاج سوف ينتج بشكل فعال تغيرا فى نمط الانتاج، وعلى وجه التخصيص، ليس هناك ضمان بأن الطبقة الثورية التى لها مصلحة فى تحويل علاقات الانتاج سوف تكون قادرة على أن تفعل ذلك. فكما أشار ليفين ورايت ،" ليست هناك علاقة بسيطة صماء بين التغير التكنولوجى والنمو فى الإمكانات الطبقية للطبقة العاملة " (1980، ص 66) .
ولعله قد أصبح واضحا الآن أن المشاكل التى أناقشها ليست مقصورة على تصور كون للمادية التاريخية. ذلك أنها، فى ملامحها الأكثر أساسية توجد فى أى تصور يعطى الأولوية لقوى الانتاج. صحيح أن كون يضاعف المشكلة بإشتقاق الاجتماعى من المادى وبتعريف قوى الانتاج بشكل ضيق بمصطلحات مادية بحتة. ولكن حتى لو أخذنا مفهوما أوسع لقوى الانتاج باعتبارها تشمل علاقات العمل، وحتى إذا اعتبرنا قوى الانتاج جزءا من نمط الانتاج، فسيظل صحيحا أن المعالجة الأرثوذكسية تحاول أن تفسر التغير وطابع علاقات الانتاج بواسطة تطور قوى الانتاج الذى يؤخذ، أياً كانت الأسباب، كأمرمسلم به. إنه لمما يثير الدهشة قلة انتباه الأرثوذكسية السوفيتية والحتميات التكنولوجية الأخرى، لتحليلات ماركس المتعددة للمجتمعات غير الأوربية، حيث شدد على أن أحد ملامحها الأساسية هو "الطابع الراكد لقواها المنتجة". فثمة وجهة نظر متصلة بدءا من رسائله الباكرة ومقالاته حول الهند والصين حتى التحليل الناضج للتشكيلات الاقتصادية ما قبل الرأسمالية في "الجروندريسة" وفى" رأس المال"، تستخدم في تفسير المجتمعات الآسيوية مفاهيم شديدة الاختلاف عن تلك التى استخدمت فى تفسير تطور أوربا الغربية.
إذ يتحدث ماركس، عند الاشارة إلى الهند فى رسالة لانجلز، عن "االطابع الراكد لهذا الجزء من آسيا- بالرغم من كل الحركات التى لا معنى لها على السطح السياسى" ، ويرى فى نظام القرية: " الأساس المتين للاستبداد الآسيوى والركود، الذى لا يتحطم إلا تحت تأثير الإكراه الخارجى للحكم البريطانى" (14 يونيه 1853، المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص ص 79- 80 ) . وتلح مقالات ماركس حول الهند على أنه "على الرغم من تغير المظهر السياسى لماضى الهند، فإن وضعها الاجتماعى قد ظل ساكنا منذ أقدم العصور" ، وقد ظلت الروافع البنيوية لمثل هذا المجتمع منذ الأزمنة السحيقة هى "النول اليدوى ودولاب الغزل" (مقالات عن الهند والصين، كتابات من المنفى، ص 304). ويذكر قراءه ، وهو يجادل بشدة ضد أى نظرة رومانتيكية عن حياة القرية، أن هذه المجتمعات قد تلوثت بنظام الطائفة والعبودية، الذى حول وضعا إجتماعيا متطورا ذاتيا إلى قدر طبيعى لا يتغير أبدا" (ص 306). فبغض النظر عن الغزوات المتلاحقة "فالمجتمع الهندى لا تاريخ له على الاطلاق" لأن كل امبراطورية جديدة كانت تتـأسس "على الأساس السلبى لهذا المجتمع غير المقاوم غير المتغير" (ص 320).
ويواصل ماركس فى رأس المال، بشكل أكثر تفصيلا، نفس التحليل للحياة الاقتصادية للجماعات الهندية، التى وصفت من خلال مفهوم "تقسيم للعمل غير قابل للتغير" (رأس المال، المجلد الأول، ص 337)، حيث يقول ماركس:
إن بساطة تنظيم الانتاج فى هذه الجماعات المكتفية ذاتيا التى تعيد انتاج نفسها على الدوام فى نفس الشكل... تزودنا بمفتاح سر عدم قابلية المجتمعات الآسيوية للتغير، والتى تتعارض بصورة لافتة للنظر مع الانحلال الدائم وإعادة تأسيس الدول الآسيوية، والتغيرات التى لا تتوقف للأسر الحاكمة. إذ تبقى بنية العناصر الاقتصادية بعيدة تماما عن السحب العاصفة للسماء السياسية . (رأس المال، المجلد الأول، ص ص 338- 9).

وقد انتهى ماركسِ، فى الوقت الذى انهى فيه كتابه "الجروندريسة" إلى تصور الملامح الخاصة لهذه المجتمعات بلغة نمط انتاج مختلف هو "نمط الانتاج الآسيوى"، الذى ذكره للمرة الأولى والوحيدة فى مقدمة 1859. ويتسم نمط الانتاج هذا بغياب الملكية الخاصة للأرض، التى تسيطر عليها الدولة ، لكنه يعتمد على القرى المكتفية ذاتيا، التى تدفع الخراج لدولة مركزية مسئولة فى حالتها النموذجية عن الرى والمشاريع المائية الكبيرة.
ومن الخطأ الاعتقاد بأن ماركس قصر فكرة "المجتمعات الآسيوية" هذه أو، نمط الانتاج الآسيوي، على البلدان الآسيوية جغرافيا. إذ يجد ماركس فى الواقع ملامح آسيوية فى أمريكا ماقبل الاستعمار- خاصة بيرو، والمكسيك- والسلت ومجتمعات قبلية أخرى (أنظر الجروندريسة، ص 473). وقد كشف المسح الشامل الذى اجراه ميلوتى لكتابات ماركس أن قائمة البلدان والأقاليم التى ذكرت فى ارتباط بكل أو بعض السمات الآسيوية تشمل أيضا- بغض النظر عن الهند والصين- مصر، ومابين النهرين وفارس والجزيرة العربية وتركيا ، وجاوه، ومناطق الهند الشرقية، وروسيا، وأسبانيا تحت حكم المغاربة (ميلوتى، 1982، ص 77). إن مجرد تعدد وامتداد الأقاليم التى أشير إليها فى سياق نمط الانتاج الآسيوى كان ينبغى أن يكون قد نبه المفكرين الماركسيين إلى حقيقة أن فكرة أولوية قوى الانتاج إذا كانت صالحة على الاطلاق، فإنها تشتغل فى مساحة جغرافية محددة للغاية وفقا لتقييم ماركس الخاص ، وينبغى من ثم ممارسة حذر شديد قبل اعتبارها مبدأ شاملا لتاريخ البشرية. والواقع، كما رأينا فى الفصل الثانى، أن كولاكوفسكى ذهب إلى أن الماركسية الأرثوذكسية، فى زمن ستالين، استبعدت "نمط الانتاج الآسيوى"، تحديدا بسبب أنه يلقى ظلالا من الشك على الطابع الشمولى لنظرية مقبولة للتاريخ تقوم أساسا على فكرة نموذج موحد للتطور فى كل مكان مدفوعا بالتطور المستمر لقوى الانتاج (كولاكوفسكى، 1978، المجلد الأول، ص 350) وبغض النظر عما إذا كان كولاكوفسكى محقا أم لا فى الاعتقاد بأنه كانت هناك محاولة للتخلص من عنصر نظرى غير ملائم, لأسباب نفعية، فمازال من الصحيح أن مثل هذا المفهوم يواجه الماركسية بمشكلة يجب أن تحل بدلا من أن يتم تجنبها.
وعلى أية حال، لا يعنى ذلك أن علينا أن نقبل بالضرورة فكرة نمط انتاج آسيوى كأداة تحليلية مماثلة لمفاهيم أنماط الانتاج الاقطاعية والرأسمالية. وقد وقع فى الأعوام القليلة الماضية جدال هام داخل الماركسية بين من يرون فى هذا المفهوم إمكانية تطوير مفهوم متعدد المسارات للتاريخ لا يتطلب الوجود العالمى للاقطاعية (أنظر على سبيل المثال، ميلوتى 1982 و راى، 1978) وهناك من يرفضون مثل هذه الفكرة باعتبار أنه يتعذر الدفاع عنها (أنظر أندرسون، 1979 ب، و هيندس وهيرست، 1975). هناك بالفعل شئ غريب للغاية فى مقولة تحليلية مجردة مفترضة، قابلة للتطبيق على نحو شامل، صنفت على أنها "آسيوية". الأمر الذى يعطينا انطباعا بأن ماركس قد صك مفهوما وظفه كسلة مهملات ألقى فيه بسلسلة من الحالات التاريخية المختلفة التى يجمع بينها أنها لم تتطور باتجاه الرأسمالية مثلما حدث لأوربا الغربية. فحتى المدافعين عن ذلك المفهوم يجدون من الصعب عليهم أن يحددوا البنية الطبقية التى تسم نمط الانتاج الآسيوى. فميلوتى، على سبيل المثال، يعى جيدا مشكلة تقرير ممن تتشكل الطبقة المستغلة، إذا وضعنا فى إعتبارنا أن هناك مستويين من"الإستغلال"- داخل القرية من ناحية وبين القرية والدولة المركزية من ناحية أخرى . وعلى ذلك فهو يري أن الموظفين المركزيين للدولة ( الماندارين، البيروقراطيون والعسكريون) يشكلون طبقة تستولى على ريع الأرض (ميلوتى، 1982، ص ص 60-1). ولكن عليه عندئذ أن يلاحظ أن ماركس لم يفكر فى البيروقراطية باعتبارها طبقة. وأن واحدا من ملامح نمط الانتاج الآسيوى هو غياب الملكية الخاصة لوسائل الانتاج. بينما يرى أندرسون بدوره أن ماركس اعتمد على تقييمات لآسيا كانت نتيجة لمعلومات إستعمارية أسئ تفسيرها ، وهو يرى كذلك أن الطابع الراكد للإمبراطوريات الشرقية ليس سوى وهم. وهكذا يستنتج أن نمط الانتاج الآسيوى "عانى ضعفا فى توظيفه بصفة أساسية باعتباره مرتكزا لمقولة توليدية للتطور غير الأوروبى " ومن ثم يقترح أنه ينبغى لمثل هذه الفكرة أن، "يجري دفنهاعلي النحو اللائق الذى تستحقه (أندرسون، 1979ب، ص ص 488-495 و 548).

وأيا كان الأمر، فالمسألة لا تختص كثيرا بما إذا كان مفهوم نمط الانتاج الآسيوى صائبا فكريا, وإنما بواقعة أن ماركس نظر إلى كثير من المجتمعات غير الأوروبية باعتبارها تفتقر إلى الدافع للتطور الذاتى وتتطلب التدخل "الثورى" الخارجى للقوى الاستعمارية حتى تسنح لها فرصة تطوير قوى انتاجها . كما طرح ماركس، ذلك بالنسبة لحالة الهند، حيث يقول: "على انجلترا أن تنجز مهمة مزدوجة فى الهند: واحدة تدميرية، وأخرى تجديدية- إبادة المجتمع الآسيوى القديم، وارساء الأسس المادية للمجتمع الغربى فى آسيا" مقالات عن الهند والصين، كتابات من المنفى، ص 320). ويبدو أن نفس الفكرة كانت فى ذهن ماركس وانجلز حينما ساندا الغزو الأمريكى الشمالى للمكسيك وبصفة عامة التوسع الأمريكى الشمالى فى المحيط الباسيفيكى. كما يعرض ذلك انجلز:
لقد شهدنا بسرور غزو أمريكا للمكسيك وهو مايشكل تقدما بالنسبة لبلد مشغول حتى الوقت الحاضر بذاته على وجه الحصر، ممزق بحروب أهلية مستمرة وممنوع من كل تطور، بلد كان فى أفضل الأحوال على حافة السقوط فى التبعية الصناعية لانجلترا، وقد ألقى بهذا البلد بواسطة العنف فى الحركة التاريخية. ولعله فى صالح تطورها الخاص أن تكون المكسيك فى المستقبل تحت نفوذ الولايات المتحدة. كما أنه من صالح تطور كل أمريكا أن تهيمن الولايات المتحدة، بواسطة احتلال كاليفورنيا على المحيط الباسيفيكى (المجلة البروكسلية الألمانية ، مواد عن تاريخ أمريكا اللاتينية ، 1979، ص 183).

بالطبع يمكن القول بأن ماركس كان مخطئا تماما حول هذا ليس فقط بسبب أن تقييمه لدور الاستعمار كان غاية فى التفاؤل وإنما أيضا، كما حاول أندرسون أن يبين، بسبب أن الطابع " الراكد" للمجتمعات الآسيوية ليس سوى أسطورة . حقا لم ينكر ماركس وجود تغيرات سياسية جوهرية فى هذه المجتمعات ولكنه أنكر بالتأكيد أنها أثرت فى البنية الاقتصادية ، وبطبيعة الحال فإن نمط علاقات انتاج سكونى يعنى قوى انتاج سكونية. وعلى العكس من ذلك، يذهب أندرسون إلى أن قوى الانتاج فى الصين الامبراطوية كانت ولحد بعيد قد حققت "معظم الشروط المسبقة التكنولوجية المحضة لتصنيع رأسمالى باكرا للغاية أسبق من أوروبا. فقد امتلكت الصين صدارة تكنولجية شاملة ومتفوقة على الغرب في أواخر العصور الوسطى تقريبا" (أندرسون، 1979ب،ص 54) واستنادا إلى ذلك يمكن الاستدلال على أن نظرية ماركس الأكثر عمومية عن التاريخ باعتباره نموا لقوى الانتاج صالحة عالميا بالرغم وعلى الضد من ملاحظاته الهيجلية ذات النزعة المركزية الأوروبية حول "شعوب بلا تاريخ" و"اقتصاديات راكدة". ولكن مثل هذا الجدال لا يصمد للنقد سواء أكان ذلك بسبب أن الصين لم تصبح رأسمالية أو، كما يدرك أندرسون، بسبب توقف النمو التكنولوجى أو حتى مضيه فى اتجاه عكسى (نفس المصدر، ص 541).
والواقع أن أحد الاستنتاجات التى يستخلصها أندرسون من تحليله التاريخى لنهاية الاقطاع الأوروبى، يتمثل فى أنه:
على العكس من المعتقدات الشائعة لدى الماركسيين، فإن الخاصة المميزة لأزمة أحد أنماط الانتاج، ليست هى تلك التى نجد فيها أن قوى الانتاج (الاقتصادية) المتأججة بالنشاط تنفجر منتصرة فى وجه علاقات الانتاج (الاجتماعية) القديمة، وتؤسس على وجه السرعة مجتمعا وانتاجية عالية على أنقاضها. بل تميل قوى الانتاج، فى حالتها النموذجية، إلى التوقف ثم التراجع داخل اطار علاقات الانتاج القائمة، التى عليها فى هذه الحالة أن تتغير وتعيد تنظيم نفسها قبل أن تتشكل قوى الانتاج الجديدة، وتتآلف لتكون نمط انتاج عالمى جديد (أندرسون، 1978، ص 204).
ومما يثير الدهشة أن نجد أندرسون فى مؤلف لاحق وكأنه يصادق تماما على مفهوم كون التكنولوجى (أنظر أندرسون، 1980، ص ص 55 و 56). لكنه من الواضح تماما, وأيا كان تفسيرنا لموقف أندرسون ,فإن مثاله عن الصين يبين أنه حتى مع تطور وتغير قوى الانتاج فإن ذلك لا يفضى بالضرورة إلى تغيرات متوقعة فى علاقات الانتاج وفقا لما تذهب إليه أطروحة الأولوية. وبالرغم من أن ماركس قد يكون قد شدد على الطابع السكونى للبلدان غير الأوروبية، فإن الحقيقة المجردة بوضوح هى أن مستويات متشابهة للتطور التكنولوجى قد تنتج علاقات انتاج مختلفة تماما وأنه من ثم لا ضرورة لأن يتبع تطور المجتمعات غير الأوروبية نفس النموذج. كما أن التطور الأوروبى يشكك فى فكرة الأولوية الشاملة لقوى الانتاج. أما لماذا شدد ماركس للغاية على تأكيد أولوية قوى الانتاج فى تصريحاته النظرية العامة عن التاريخ ؟ فيبدو أن هناك عنصرين هامين فى الاجابة على هذا السؤال. الأول، هو أن الرأسمالية كانت موضوع تحليله الأساسى، لذلك اتجه ماركس لتعميم الدور الحاسم الذى قامت به قوى الانتاج فى توسعها ولم يدرك النتائج النظرية لتحليلاته الخاصة لأنماط الانتاج الأخرى، رغم أنها قد تكون متشظية ومتناثرة. الثانى، أن ماركس كان بالتأكيد خاضعا لنفوذ وتأثير عقيدة القرن التاسع عشر فى التقدم المستمر للعلم والتكنولوجيا.

لقد رأينا سلفا كيف أن الأممية الثالثة فى 1928 قد عكست موقفها الأصلى، بالنسبة لتقييم ماركس الإيجابى لنتائج الإمبريالية. فمنذ تلك اللحظة أصبح الخط الأرثوذكسى هو تأكيد أن الإمبريالية عقبة فى وجه تطور القوى المنتجة. ومثلما كان ماركس مخطئا تماما فى اعتقاده أن المجتمعات غير الأوربية كانت بصفة أساسية ساكنة فى قوى انتاجها وأن التدخل الاستعمارى كان ينحو لأن يكون مفيدا لهذه البلدان لأنه سيفضى إلى تصنيعها؛ أخطأت الأرثوذكسية الجديدة فى اعتقادها بأن قوى الانتاج كانت ستتقدم طبيعيا وتتبع النموذج الأوربى لو لم تكن الامبريالية قد منعتها من ذلك. ويمثل وارين 1980) ) موقف ماركس اليوم بينما باران (1957) وفرانك (1969) يتبنيان وجهة نظر الأرثوذكسية الجديدة. وخبرة ما يسمى البلدان غير المتطورة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، تبين أن الإمبريالية لم تفض إلى تصنيع الأقاليم المتخلفة ولا أعاقت تطورها بشكل مطلق وكما ذهب كاردوسو وفاليتو إلى أن عمليات التطور التابع او التصنيع التابع ممكنة وهى تبين أن قوى الانتاج ليست راكدة ولا ذاتية الدفع (كاردوسو وفاليتو، 1979).
والنتيجة الأولى لرفض أولوية قوى الانتاج هى تحول تفسير التغير الاجتماعى فى المجتمعات التناحرية من التناقض البنيوى بين قوى وعلاقات الانتاج إلى الصراع الطبقى. إذ كانت التقييمات الأرثوذكسية عادة للصراع الطبقى تعطيه وضعا مشتقا وخاضعا ، ومعتمدا كلية على العوامل "البنيوية". فأندرسون، على سبيل المثال، بعد مصادقته على كون، يرفض فكرة أن الاضطراب والاختلال هو وظيفة الصراع الطبقى بوصفها "غواية " سهلة وأن الأزمات تتطابق مع المواجهات الطبقية : إذ يرى أن "هجوم الأزمات الاقتصادية الكبرى، سواء أكانت فى ظل الإقطاع أو الرأسمالية، إنما يأخذ، فى حالته النموذجية، كل الطبقات الاجتماعية على حين غرة مستخرجا من أعماقها البنيوية ما كان كامنا فيها" (أندرسون، 1980،ص 55). إنه من الصعب فهم كيف يكون من الممكن داخل الماركسية أن نفصل أصل الأزمات عن الصراعات الطبقية. فالأزمات هى بحكم تعريفها تعبير عن التناقض الأساسى لنمط الانتاج (نظريات فائض القيمة، المجلد الثانى، ص 500). إذ يستتبع التناقض بين رأس المال والعمل، على سبيل المثال، تناقض بين البروليتاريا والبورجوازية على مستوى الشكل، واقتطاع فائض القيمة بواسطة انتاج السلع على مستوى المضمون. وعلى ذلك ففى الأزمة يتجلى نفس التناقض الأساسى بوصفه شاملا لكل من المشكلة الاقتصادية الخاصة بانتاج السلع وتحقيق فائض القيمة من ناحية، وللصراع الطبقى من ناحية أخرى. ونتيجة الصراع هى التى تحدد كيف تعالج المشكلة الاقتصادية. حقيقة أن الطبقات قد لا تكون مدركة تماما أو واعية عند انفجار الأزمة لايعنى غياب الصراع الطبقى فى مركز الأزمة . لذلك ينتقد أندرسون، (مثل كون) تومبسون لإدخاله الوعى فى تعريف الأوضاع الطبقية (كون، 1978،ص 73 و أندرسون، 1980، ص 40)، لقد كان عليه أن يدرك أن الصراع الطبقى أيضا لا يعتمد بالضرورة على الوعى التام للطبقات المنخرطة فيه (أنظر ستيه كروا، 1983،ص 60 و 1984، ص 100).

أما النتيجة الثانية فهى التخلى الضرورى عن النظرية أحادية الخط للتاريخ باعتباره سلسلة من المراحل التى يجب أن تمر بها جميع الأمم. إذ ليس هناك نموذج موحد للتطور مسير بآلية شاملة. فالتطور التاريخى الأوروبى الذى وصفه ماركس بلغة تعاقب معين لأنماط الانتاج لا يحدث فى كل مكان ولا توجد هناك أى ضرورة شاملة لهذا التسلسل المعين. وربما كان هذا هو النقد الأعم الوحيد للنظرية الماركسية عن التاريخ، وقد طور بأشكال مختلفة من قبل النقاد مثل ك .بوبر popper(1973، ص ص 82 و 107)، وليف1961)،ص ص 104- 6)، و كولاكوفسكى (1978، المجلد الأول، ص ص6-365)، و م .بوبر (1968، ص 8-326)، وأكتون (1954، ص ص 71-168)، وهوك (1955، ص 36) وحديثا جيدنز (1981، ص ص 1 و2 و3-20). ولكن يبدو أن قلة منهم تدرك أن ماركس نفسه رفض بوضوح تحويل مخططه التاريخى عن تكوين الرأسمالية فى أوروبا الغربية "إلى نظرية فلسفية تاريخية للطريق العام للتطور مفروض كالقدر على كل الأمم" (رسالة، نوفمبر، 1877، المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص 293). وكذلك فمما يثير الدهشة ما نجده من استعداد النقاد لللمطابقة بين ماركس والماركسية الأرثوذكسية. حتى حين يكون النقاد واعين بوجود توترات فى فكر ماركس، فإنهم يميلون لحلها دوما بمعنى تقليدى .

وقد كانت الأرثوذكسية منذ زمن بليخانوف حريصة دائما على ألا تخلط النزعة الحتمية مع النزعة القدرية، التى تستتبع السلبية واهمال التدخل السياسى الانسانى فى العمليات الاجتماعية. إذ تؤكد الضرورة التاريخية ذاتها ولكنها تفعل ذلك فحسب من خلال أفعال البشر، الذين هم من ثم "أدوات هذه الضرورة" (بليخانوف، 1976 ب، ص ص 14-13). وعلى أية حال، فبالرغم من أن الماركسية الأرثوذكسية لا يمكن أن تتهم بتجاهل الممارسة الانسانية والصراع الطبقى، فإن مفهومها عن الممارسة باعتبارها "أداة الضرورة"، يظل عرضة للنقد. أولا، لأنه كما بينت سلفا، لا يمكن لنا أن نشتـق من حقيقة العقلانية الانسانية أن البشر سوف يتبنون مجرى محددا للفعل، أو كما طرح ذلك نقاد آخرون لا يستتبع وجود مصلحة طبقية عامة بذاتها فى تحويل المجتمع أن مثل هذه الطبقة تمتلك القدرات على تحويل المجتمع. وثانيا، لأنه فى تصور الممارسة كأداة للضرورة فإن الأرثوذكسية تختزلها بهذا القدر أو ذاك إلى نشاط آلى أو ميكانيكى لا يملك البشر حرية فى السيطرة عليه أو تغييره. فالأمر ليس فقط كما تصور بليخانوف أن البشر لا يستطيعون مقاومة الرغبة ليخدموا كأدوات للضرورة وأنهم لذلك، يفترض أن تتم برمجتهم بحيث يرغبون فى تحقيق غايات معينة باعتبارها "المولدات الثقافية" وهى التى انتقدها جيدنز (1981، ص 18). فحتى إذا افترضنا أن ما يرغبون فيه يدفع آليا إلى ممارسة سياسية فعالة تتجه لإنجازه، فمثل هذه الممارسة تبدو وكأنها محددة سلفا بشكل مطلق مثل الأدوار المسرحية التى يجب أن يقوم بها الممثلون. فإذا كان من الصحيح أن البشر مشروطون بالظرف المادية المستقلة عن إرادتهم. فذلك لا يعنى أنهم يتجهون إلى الفعل فى إتجاه معين، حتى ولو أمكن لنا أن نبرهن أن لهم مصلحة حقيقية فى عمل ذلك. فإذا كانت حتمية الشروط المادية تؤدى بطبيعة الحال إلى ظهور مشكلات قابلة للحل، فليس ثمة ما يضمن أن تكون تلك الحلول إنجازا ناجحا على الدوام.
الفصل الرابع

بعض عناصر إعادة بناء المادية التاريخية

المادية التاريخية والممارسة الإنسانية

أكدت فيما سبق كيف أن هناك حاجة لإعادة بناء المادية التاريخية كنظرية للممارسة بالتعارض مع تفسير حتموى وغائى يختزل التطور الاجتماعى إلى عملية مماثلة للتاريخ الطبيعى ومنظمة بقوانين لا راد لها. وقدمت الفكرة الأساسية وراء هذه المحاولة من قبل ماركس نفسه حين صرح بأن "الناس يصنعون تاريخهم الخاص، ولكنهم لا يصنعونه بالطريقة التى تروقهم بالضبط، إنهم لا يصنعونه فى ظروف يختارونها بأنفسهم، وإنما فى ظروف يواجهون بها، معطاة ومنقولة من الماضى" (الثامن عشر من برومير، مختارات ماركس، ص 96). وقد أكملت هذه الفكرة من خلال فكرة ماركس الواضحة بأن "الناس يغيرون الظروف، وأن التوافق بين تغيير الظروف وبين النشاط الانسانى أو تغير الذات يمكن أن يتصور ويفهم عقليا فقط باعتباره ممارسة ثورية" (أطروحات حول فيورباخ ،الأيديولوجيا الألمانية، ص 4). ولعله من الضرورى اكتشاف معنى هذه الأفكار بتفصيل أكبر حتى نرى ما إذا كان من الممكن أن تصبح مفتاح حل التوترات التى حددتها فى فكر ماركس وانجلز.
لقد بدأ ماركس بفكرة أن "الحياة الاجتماعية بأكملها هى بصفة أساسية ذات طبيعة عملية. وكل الأسرار التى تؤدى بالنظرية إلى الغيبيات تجد حلها العقلانى فى الممارسة الانسانية وفى ادراك هذه الممارسة" (أطروحات حول فيورباخ، ص 8، الأيديولوجيا الألمانية، ص 5). ومما له مغزى كبير أنه فى صياغة ماركس وانجلز الأولى للمادية التاريخية يلعب مفهوم الممارسة دورا محوريا. فعند وصف المقدمات التى يجب أن تبدأ منها المادية التاريخية يؤكد ماركس وانجلز "إنها إنما تبدأ من الأفراد الواقعيين من نشاطهم والشروط المادية لحياتهم، سواء اكانت قائمة بالفعل أم نتجت عن نشاطهم" (الأيديولوجيا الألمانية، ص31). إذ يجب أن تنتج الكائنات الانسانية أولا، وسائل إعادة إنتاج حياتها المادية. ولكن عملية الانتاج هذه تظهر كعلاقة مزدوجة "باعتبارها عملية طبيعية من ناحية، وعلاقة اجتماعية من ناحية أخرى، بمعنى أنها تشير لتعاون أفراد متعددين" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 43). وهو تعاون قائم على تنظيمات سياسية وقانونية خاصة ومعزز بواسطة عقائد معينة وأشكال من الوعى.
والممارسة هى نشاط قصدى وهادف. وهى لا تحول الطبيعة فقط وإنما تحول الكائنات الانسانية نفسها. إذ تعيد الممارسة انتاج الحياة العضوية للأفراد بينما تظل أيضاَ بمثابة "شكل محدد للتعبير عن حياتهم، نمط للحياة محدد من جانبهم" (الأيديولولجيا الألمانية، ص 31). والمجتمع ككل بالنسبة لماركس هو نتيجة الممارسة. إذ يتساءل "ما هو المجتمع، أيا كان شكله؟ ويجيب: هو نتاج فعل البشر التبادلى. لكنه يضيف مباشرة إضافة هامة: هل البشر أحرار فى اختيار هذا الشكل أو ذاك من المجتمع؟ كلا عل الاطلاق" (رسالة إلى ب.ف. أننكوف، 28 ديسمبر 1846، مختارات ماركس وانجلز، ص30). هذا يعنى أنه بالرغم من أن الممارسة هى الحقيقة الاجتماعية الأساسية فإنها ليست حرة بشكل مطلق أو غير مشروطة. إذ تبلور الممارسات الانسانية نفسها فى الواقع فى صورة "سلطة موضوعية" ، تتموضع فى بنى وعلاقات اجتماعية لم يتحكم فى صنعها البشر حتى ظهور نمط الانتاج الرأسمالى. وموضعة الممارسة على هذا النحو تفرض حدودا على الممارسات البشرية الفعلية. وهذا هو معنى قول ماركس بأن الناس يصنعون التاريخ ولكن ليس بالطريقة التى تروقهم.

تريد النظرية الماركسية اذن أن تبتعد عن تصور الممارسة باعتبارها إما فعل حر لأفراد خارج أية شروط أو نشاط محتم كليا يكون فيه البشر مجرد حوامل agents. والنظريات البنيوية عن الفعل تصور الكائنات الانسانية ليس كممثلين حقيقيين للتاريخ وإنما بالأحرى كحملة قوى وعلاقات لا يسيطرون عليها. وهكذا فبالنسبة لألتوسير فإن الممارسات تتشكل فى مجموعة من النماذج أو البنى، حيث تصبح الكائنات الانسانية بالنسبة لها حملة أو دعامات فقط (1970،ص 158). وفى الطرف النقيض، تتصور النظريات الحركية actionalist عن الفعل، الأفراد باعتبارهم ممثلين أحرار للتاريخ وكأن أفعالهم لا تتحدد بأى شئ خارجها. فسارتر مثلا، يؤسس نظريته فى الممارسة على شمولية الفرد (1968، ص 57) وهذا مرتبط بوجوديته، حيث يعد الوعى الفردى بالنسبة لها أساس حرية راديكالية (أنظر بوستر، 1979، ص 22). وبينما نجد لدى ألتوسير أن البنى تكوينية والذوات مكوًنة، فإننا نجد لدى سارتر أن الفرد تكوينى والبنى مكوًنة. وهكذا فهما يمزقان الذات والموضوع والوحدة الخاصة بهما، وهى التى حاول ماركس أن يحفظها بواسطة مفهوم الممارسة على وجه التحديد.
ولعلنا ندرك الآن لماذا تعتبر الممارسة مفهوما مركزيا لهذا الحد للمادية التاريخية: إذ هى تؤلف نقطة الالتقاء والوحدة بين الكائنات الانسانية والطبيعية، بين كل من الاجتماعى والمادى، والذوات والبنى، والوعى والواقع. وتظهر الممارسة باعتبارها عملا وكذلك أيضا كتعبير عن الذات، كإعادة انتاج عضوية وكذلك كإعادة انتاج اجتماعية، كنشاط مادى وكذلك أيضا كنشاط اجتماعى، كإعادة انتاج للعلاقات الاجتماعية وكذلك أيضا كتحويل سياسى للعلاقات الاجتماعية. وقد طرح كوسيك ذلك قائلا: "الواقع الاجتماعى الانسانى يتم اكتشافه من خلال مفهوم الممارسة، كنقيض لمفهوم الكائن المعطى أى كعملية تشكيل للكائن الانسانى وفى نفس الوقت، كعملية تحديد لنوعه الخاص. فالممارسة هى مجال الكائن الانسانى" (1976، ص 136). إن شمولية الممارسة فى معالجة ماركس تشكل أساس مركزيتها بالنسبة للمادية التاريخية فضلا عن أنها أيضا مصدر مشاكلها كمفهوم. إذ تنطوى المفاهيم متعددة الأبعاد على صعوبتين أساسيتين، أنها تميل من ناحية إلى أن تكون غامضة مفتقرة للتحدد، ومن ناحية أخرى يمكن لها بسهولة أن تختزل إلى أحد أبعادها دون الأخرى. لقد سبق أن ذكرت أمثلة عن الاختزالية فى مفاهيم سارتر وألتوسير. فلقد اتهم ماركس نفسه من قبل هابرماس (1972، و1982، ص 268) وفيلمر (1971) باختزال الممارسة إلى فعل أداتى وبعدم اعتبار التفاعل الداخلى الاتصالى، لذلك يذهب هابرماس إلى أن الذوات لا "تنتج" سياق حياتها الاجتماعية بنفس الأسلوب الذى تصنع به السلع كما يرفض فيلمر فكرة أن مملكة الحرية "تنتج" طبقا لنموذج الفعل الأداتى.
إنه لمن الصحيح بالفعل أن ماركس أدمج فى نفس المفهوم شكلين من النشاط الانسانى الذى ميز بينهما الاغريق باعتبارهما الممارسة PRAXIS والمزاولة POIESIS. لقد كانت الممارسة PRAXIS بالنسبة للإغريق سياسية بصفة أساسية أو نشاط فنى. وقد كانت المزاولة POIESIS هى النشاط المادى لانتاج أو صنع شئ ما. وهكذا فحين ميز الاغريق بين النظرية والممارسة فهم لم يشيروا إلى التفكير باعتباره مختلفا عن الفعل وإنما بالأحرى إلى نمطين من الحياة: الحياة التأملية والحياة السياسية. بالنسبة لأرسطو "الحياة العملية هى حياة مواطنة نشطة، هى الاسهام النشط فى حياة المدينةPolis . أما الحياة النظرية على الضد من ذلك فهى حياة انفصال عن المشاركة السياسية" (لوبكوفيكز، 1967،ص 5). وعلى أية حال، فحقيقة أن ماركس ضمن كلا من الممارسة PRAXIS والمزاولة POIESIS فى مفهوم الممارسة لا تعنى بالضرورة انه اختزل الممارسة إلى مزاولة POIESIS أو إلى فعل أداتى كما يذهب هابرماس وفيلمر. حقا، يشدد ماركس على العمل باعتباره جوهريا لأنه العملية التى تخلق بها الكائنات الانسانية وجودها المادى. فهو فى مخطوطات باريس يثنى على هيجل لادراكه طبيعة العمل ولتصوره للانسان الموضوعى "باعتباره نتاج عمله الخاص" (المخطوطات الاقتصادية الفلسفية، الكتابات الباكرة، ص 386) ولكن ماركس كان واعيا تماما أنه بالرغم من أن العمل يمثل بعدا جوهريا للممارسة فليس من الضرورى أن يكون فى حد ذاته عاملا محررا. لذلك ينتقد هيجل فى نفس السياق لأنه "يرى الجانب الايجابى فقط وليس السلبى للعمل" (ص 386).
ذلك أنه بينما تشبع الكائنات الانسانية حاجاتها بواسطة العمل وتذلل عقبات الطبيعة، فإن العمل لكونه يجرى فى ظل شروط اجتماعية نوعية أنتجها البشر وليست بالضرورة مختارة أو مسيطر عليها من قبلهم، فيمكن أن يصبح مصدر انسلاب وانحطاط. وبالنسبة لماركس فإن العمل المنتج، من حيث هو عملية مستمرة، لايعيد انتاج ذاته فقط وإنما يعيد أيضا انتاج العلاقات الاجتماعية المستلبة والمتناقضة التى يجرى فى ظلها: فالانتاج الرأسمالى، بوصفه عملية مرتبطة باعادة الانتاج، لا ينتج سلعا فحسب، ولا فائض قيمة فقط، وإنما ينتج أيضا ويعيد انتاج العلاقات الرأسمالية، أى الرأسمالى من ناحية، والعامل المأجور من ناحية أخرى" (رأس المال، المجلد الأول ص 575). وهكذا فإنه من الصحيح أنه بالنسبة لماركس لا يمكن لانتاج الواقع الاجتماعى أن ينفصل عن العمل. فليس هناك نشاط نوعى منفصل عن العمل قادر على بناء علاقات الانتاج الأساسية. ولكن ماركس لم يعتبر أبدا أن العمل ايجابى على نحو حصرى وقادر بالضرورة أن يحدث التحرر. لذا فهو يعطى أيضا أهمية أساسية لـ "تغير الظروف، التى يجب تصورها كممارسة ثورية" (أطروحات حول فيورباخ، 3،الأيديولوجيا الألمانية، ص 4).
وبالرغم من أن تمييز ماركس بين العمل والممارسة الثورية يغطى البعدين الأكثر أساسية للممارسة فإنه لا يستنفذهما. فالعمل هو بالتأكيد الشكل الأساسى لممارسة إعادة الانتاج، لكن هناك أيضا، ضمن نمط الانتاج الرأسمالى، ممارسة إعادة إنتاج ذات طابع سياسى على وجه الخصوص، موجهة للابقاء على علاقات الانتاج الاجتماعية القائمة ولتوفير الحماية لها. وهناك أيضا أشكال مختلفة من الممارسة الثورية. وقد يسعى البعض للسلطة السياسية بدون تغيير علاقات الانتاج. لكن بالنسبة لماركس، على العكس، فإن تغيير علاقات الانتاج يعتبر أساسيا بالنسبة لذلك النوع من الممارسة الثورية. أضف إلى ذلك، أن هناك اختلافات أخرى تفصل، مثلا، بين تمرد الفلاحين فى القرن السادس عشر فى ألمانيا وبين الثورة البلشفية فى العام 1917. فكل حقبة تاريخية بما تتسم به من تنوع أنماط انتاجها تطرح خطوطا نوعية وممكنات للممارسة الانسانية. فمن خلال النشاط العملى للكائنات الانسانية يصنع التاريخ. لكن الممارسة الانسانية لا تظل هى نفسها دائما.
لايكاد يوجد فى بداية التاريخ الانسانى أى شكل للوجود الفردى والممارسة السياسية. فكما يقول ماركس "يصبح البشر أفرادا فقط من خلال سيرورة التاريخ. فالفرد البشرى يظهر أصلا باعتباره كائنا نوعيا، كائنا عشيريا، أو حيوانا قطيعيا- لكنه لا يظهر بأى طريقة كانت باعتباره حيوانا سياسيا بالمعنى السياسى (الجروندريسه، ص 496). بعدئذ، وحين انبثقت أشكال ملكية الأرض والتبعية الشخصية (العبودية، الاقطاعية) أصبح من المستحيل تصور العمل وأشكال الاستغلال باعتبارها منفصلة عن الاعتبارات السياسية والدينية. ولم تستطع تمردات العبيد والفلاحين أن تفهم بالكامل الطابع الحقيقى للتناقضات الاجتماعية ولذلك صاغت برامجها الراديكالية بتعبيرات دينية. وأخيرا مهدت الطريق لحكم غيرها من الطبقات (أنظر حرب الفلاحين فى ألمانيا) لم تغير الثورات السياسية البنى الاقتصادية والاجتماعية الأساسية. غير أنه مع نشأة الرأسمالية تم اكتساب الاستقلال الشخصى وإن كان قد تأسس على "تبعية موضوعية" (الجروندريسه، ص 158) إذ يصبح العمل والممارسات السياسية متمايزة للمرة الأولى بوضوح ، ويصبح من الممكن تقدير أهمية النظام الانتاجى نظريا. وطبقا لماركس فإن هذا هو الشرط المسبق للبروليتاريا حتى تصبح منخرطة فى ممارسة ثورية واعية تماما تسعى لإزالة النظام الطبقى ذاته. فبينما كانت الثورة البورجوازية امتدادا سياسيا للتغيرات الاقتصادية التى جرت مسبقا، يطرح ماركس الآن ثورة سياسية عليها أن تغير الاقتصاد . وإلى أن ينتهى نمط الانتاج الرأسمالى فإنه من الممكن الحديث عن "ممارسة منسلبة" طالما لم تصبح العلاقات الاجتماعية بعد تحت السيطرة الجماعية. وبافتراض نجاح الممارسة الثورية فى تحويل علاقات الانتاج، فإنه من الممكن الحديث عن "ممارسة متحررة" بقدر ماتكون العلاقات الاجتماعية الجديدة خاضعة لسيطرة الأفراد الجماعية.
لعله من الأهمية بمكان ألا تصور الممارسة الثورية باعتبارها "نشاطا حرا" معارضا للعمل باعتباره "نشاطا ضروريا". فالنشاط الثورى مشروط أيضا بالبنى الاقتصادية والاجتماعية، ومع ذلك فهو ليس نتيجة آلية لهذه الظروف. فالممارسة الثورية ليست تحكمية ولا متصورة مسبقا بشكل مطلق. ويذهب ماركس فى الأيديولوجيا الألمانية إلى أن هيمنة الظروف المادية على الأفراد تضع أمامهم مهمة تحويل مثل هذه التبعية "إلى السيطرة والسيادة الواعية على تلك القوى (الأيديولوجيا الألمانية، ص 51). ومع ذلك فماركس واضح بنفس القدر فيما يتعلق بأن الكائنات الانسانية لا تتجه بالضرورة لانجاز تلك المهمة بشكل محتوم. لذلك فهو يستطيع أن يؤكد بأنه "ليست الشيوعية بالنسبة لنا هى حالة راهنة يجب أن تتأسس، ولا مثالا على الواقع أن يكيف نفسه معه. نحن نقصد بكلمة شيوعية هنا الحركة الواقعية التى تزيل الوضع الراهن للأشياء (الأيديولوجيا الألمانية)، ص 41). وبهذا المعنى تتوسط الممارسة الثورية بين الضرورة والحرية.

طابع ونطاق المادية التاريخية
يؤدى مفهوم الممارسة إلى نتيجتين هامتين بالنسبة للمادية التاريخية، فهو أولا، يحدد الطبيعة النظرية للمادية التاريخية والطابع التاريخى لموضوعها. وهو ثانيا، يحدد الدور الحاسم للانتاج المادى وخاصة لنمط الانتاج الرأسمالى من أجل فهم التاريخ. والمادية التاريخية تؤكد فى المحل الأول على الرابطة بين النظرية والتاريخ. ولكن ذلك لا يعنى أنها تدور حول كتابة التاريخ بمعنى سرد للأحداث الماضية. فالتأريخ مختلف عن التاريخ. فبينما يُعنى التأريخ بتفسير الأحداث الماضية وكتابتها، يعنى التاريخ بالعملية الكونية الشاملة التى يبنى البشر بها عمليا حياتهم، وهو يتضمن ليس الماضى فقط وإنما أيضا الحاضر والمستقبل. فالمادية التاريخية معنية بالتأكيد بفهم الماضى، لكن ليس بالضرورة عن طريق سرد الأحداث التاريخية فى خصوصيتها، إذ هى تتعلق فوق كل شئ بفهم الحاضر من أجل تغييره وهكذا تشكل المستقبل. وعلى ذلك فليست المادية التاريخية نظرية منفصلة عن التاريخ (ألتوسير وباليبار، 1975،ص 105،هيندس وهيرست، 1975، ص 317). وليس التأريخ منفصلا عن النظرية (تومبسون، 1978، ص ص ،223 ، 236).

حين أقول أن المادية التاريخية هى نظرية عن التاريخ أعنى أنها محاولة لتطوير مقولات يمكن أن تطبق لفهم التشكيلات الاجتماعية ضمن نطاق التاريخ. ليست المادية التاريخية بالتأكيد فلسفة عامة أو تقييما مفارقا للمسار الضرورى للتاريخ ولكنها معنية بالتاريخ بمعنى أنها تنشئ المفاهيم الضرورية لجعل العمليات التاريخية قابلة لأن تعقل . وهذا يعنى أن المادية التاريخية ككل النظريات تستخدم التجريد لتشكيل مفاهيمها. ولكن هذه العملية التجريدية ليست منفصلة عن مستوى الملاحظة، حيث يجب أن تتم فى توافق معها (أنظر ويللر، وكذلك ويللر، 1973، ص 20).
وبينما نجد أن تومبسون محق حين يجادل ضد ألتوسير بأن المادية التاريخية ليست فلسفة مستقلة أو نظرية منفصلة عن التاريخ (1978، ص 236). لا يبدو مع ذلك أنه يدرك أن المادية التاريخية كنظرية لا يمكن أن تنشأ ببساطة من ملاحظة الأحداث التاريخية بواسطة عملية تعميم. إذ تتطلب المادية التاريخية كنظرية مفاهيم مجردة، ليس بمعنى توحيد تعميمات مشتقة من مجموعات مختلفة من الملاحظات ولكن بمعنى تأسيس فرضيات غير قابلة للملاحظة المباشرة مرتبطة الواحدة منها بالأخرى من أجل تفسير الظواهر التاريخية القابلة للملاحظة. إذ لا يمكن للملاحظة الخاصة عن تعاقب الأحداث التاريخية أن تولد من ذاتها مفاهيم مجردة مثل قوى الانتاج، وعلاقات الانتاج، والطبقة، وفائض القيمة وارتباطاتها الداخلية. وإن كان ذلك لا يعنى أن هذه المفاهيم وعلاقاتها النظرية قد نشأت بمعزل عن الأحداث التاريخية، كما يؤكد هيندس وهيرست (1975، ص ص 310، 312، 317)، فمثل هذه المفاهيم يجب أن تتوافق مع الملاحظات التجريبية ، ولكنها ليست مجرد نتيجة لها. لذلك لا تستغرق المادية التاريخية فى التأريخ ولا يمكن لنا أن نتصور الأولى كنتاج مباشر للأخير.
ويمكن أن يجادل بأن وضع "النظريات العامة" مشكوك فيه وأن ماركس نفسه رفض دراسة المقولات العامة مثل "الانتاج بشكل عام" أو "العمل بشكل عام". وعلى سبيل المثال، فهو يؤكد بأننا "حينما نتحدث عن الانتاج، حينئذ، فالمقصود دائما هو الانتاج فى مرحلة محددة من التطور الاجتماعى" (مقدمة، الجروندريسه، ص 85). وحين يشير إلى العناصر العامة لعملية العمل يصر ماركس على أنه "مثلما لا يدلك مذاق العصيدة على من زرع الشوفان، لا تدلك هذه العملية البسيطة من نفسها عن ماهى الظروف الاجتماعية التى جرت فى ظلها" (رأس المال، المجلد الأول، ص 179). ويمكن أن نستنتج من ذلك كما يفعل بولانتزاس، أن صياغة نظرية عامة عن الاقتصاد أو الدولة أو البنى الفوقية مسألة مستحيلة لأن موضوعاتها النظرية ليست ثابتة. فما هو ممكن ومشروع هو نظرية عن الاقتصاد الرأسمالى أو الاقتصاد الاقطاعى ولكن ليس نظرية عامة (بولانتزاس، 1987، ص ص 17-24). لكن بولانتزاس لا يطور نتائج هذا الموقف بالنسبة للمادية التاريخية ويقتصر على القول بان واحدة من سمات جدارة الماركسية هى أنها رفضت "النظريات العامة المجردة، الغامضة، الضبابية، التى تتظاهر بأنها تكشف الأسرار الكبرى للتاريخ، والسياسة، والدولة والسلطة" (ص 22).
يبدو لى أن هذا النوع من الجدال يتضمن تشوشا. إذ يبدو من الضرورى التمييز بين عمومية النظرية وبين عمومية موضوع هذه النظرية، حيث الموضوع هنا يجرى تجريده من التحديدات التاريخية النوعية. فأن نتحدث عن "نظرية عامة للمجتمع" ليس نفس الشئ عندما نتحدث عن "نظرية للمجتمع بصفة عامة"، فماركس لم يكن لينكر أبدا الطابع النظرى العام للمادية التاريخية ولكنه كان سيرفض مفهوما للمادية التاريخية كنظرية عن المجتمع بصفة عامة. أضف إلى ذلك، أنه يمكن فقط لنظرة عامة عن المادية التاريخية أن تقترح فكرة أننا لا يمكن أن ندرس الانتاج، أو العمل أو المجتمع بصفة عامة، بدون الرجوع إلى تحديدات تاريخية نوعية. فالوضع النظرى العام للمادية التاريخية له صلة بطابع التجريد العلمى وتطوير المفاهيم غير القابلة للملاحظة من أجل فهم مجتمعات تاريخية نوعية. وما يتعين أن يرفض ليس هذا الطابع النظرى العام الضرورى وإنما اختزال موضوعة إلى مقولة عامة. فنتيجة مثل هذا الاختزال هى المحاولة الخاطئة لاشتقاق العينى الخاص من المجرد العام واستبدال تقييم منطقى مافوق تاريخى بالتحليل التاريخى.
بالطبع، لا ينكر ماركس أن كل المجتمعات، كل أحقاب الانتاج والعمل، بينها عناصر معينة مشتركة ومن ثم فإن المفاهيم العامة للعمل، الانتاج أو المجتمع، باعتبارها "تجريدات عقلانية، مفيدة لأنها تثبت المظاهر العامة وتجنبنا التكرار" (مقدمة، الجروندريسه، ص 85). ولكن من أجل فهم نوعية كل شكل من المجتمع يؤكد ماركس أولوية هذه التحديدات التى ليست مشتركة. إذ لا يمكن لنا أن نفهم مرحلة تاريخية خاصة للمجتمع باستنباطها من مفهوم المجتمع بصفة عامة كما لو كانت الأولى مجرد تركيب منطقى نوعى من العناصر الثابتة الكامنة فى الأخير، كما يعرض ذلك ماركس: "هناك سمات تشترك فيها كافة مراحل الانتاج، وتؤسس باعتبارها (سمات) عامة بواسطة الذهن، ولكن ما يسمى بالشروط العامة المسبقة لكل انتاج ليست أكثر من تلك اللحظات المجردة التى لا يمكن لمرحلة تاريخية واقعية من الانتاج أن تفهم بها (مقدمة، الجروندريسه، ص 88). وبالاضافة لهذه المفاهيم العامة التى تغطى عناصر مشتركة بالنسبة لكل الأحقاب يجب أن تكون لدينا مفاهيم مجردة أخرى ترصد العناصر التى ليست عامة أو مشتركة. من ثم فإنه من الممكن تأكيد أنه ليس هناك تناقض بين الطابع النظرى العام للمادية التاريخية والطابع التاريخى لموضوعها.
لقد سبق لى أن أكدت الرابطة بين المادية التاريخية والتاريخ، مفهوما ليس بمعنى التأريخ وإنما بمعنى العملية التى ينتج بها البشر عمليا شروط حياتهم المادية. هذا هو مايسميه ماركس وانجلز "المقدمة الأولى لكل التاريخ الانسانى"، أى، حقيقة أن البشر ينتجون حياتهم المادية بواسطة نشاطهم و "يميزون أنفسهم عن الحيوانات بمجرد أن يبدأوا فى انتاج وسائل معيشتهم" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 31). يؤكد ماركس وانجلز بهذه الطريقة الأهمية الحاسمة للانتاج من أجل فهم التاريخ. هكذا يبدأ ماركس مقدمة عام 1857 بقوله أن: "الموضوع المطروح أمامنا، فى بادئ الأمر، هو الانتاج المادى" (الجروندريسه، ص 83). مع ذلك تمضى مقدمة 1857 أبعد من الأيديولجيا الألمانية فى أنها تقدم مسألتين منهجيتين هامتين بالنسبة لكيف ينبغى أن يدرس الانتاج. الأولى والتى سبق ذكرها، لها صلة بفكرة أن المادية التاريخية لا يمكن أن تبدأ من مفهوم الانتاج بصفة عامة ولكنها يجب أن تتناول الانتاج "فى شكل تاريخى معين" (نظريات فائض القيمة، المجلد الأول، ص 285). المسألة الثانية توضح الأولى ولها صلة بفكرة أن المادية التاريخية لا يمكن أن تبدأ من أشد نظم الانتاج بدائية وإنما يجب أن تحلل أولا أكثرها تقدما حتى تكون قادرة على فهم الأولى.
فيما يتعلق بالمسألة الأولى، يقدم ماركس مفهوم نمط الانتاج باعتباره المقولة الأساسية فى تحليل الانتاج فى شكل تاريخى. لكنه لسوء الحظ لا يحدده بدقة، ولايوضح علاقته بمجتمعات تاريخية نوعية. على أنه يكاد يوجد تعريف لنمط الانتاج فى الجروندريسه حين يتحدث ماركس عن : "نمط انتاج نوعى.. يظهر فى آن معا كعلاقة بين الأفراد، وكعلاقة نشطة نوعية بينهم وبين الطبيعة غير العضوية، نمط نوعى للعمل (الجروندريسه، ص 495). فمثل هذا القول يوحى بأن الكتابات، التى تصف نمط الانتاج باعتباره تركيبا من قوى الانتاج وعلاقات الانتاج هى كتابات صائبة (لانج، 1974، ص 17، ميلوتى، 1982، ص 3، لاكلاو، 1969،ص 282 ، 1977،ص 34). ومن الهام أن نفهم الطبيعة التجريدية لهذا المفهوم. كما طرحه لاكلاو، حيث يرى أن نمط الانتاج "ليس مرحلة من التطور التاريخى العينى. وليس هناك، من ثم، تحولا تاريخيا يمكن أن يفسر على وجه حصرى بكشف المنطق الداخلى لنمط انتاج محدد" (لاكلاو، 1977،ص 42). وتحتوى المجتمعات التاريخية أو "التشكيلات الاجتماعية" عادة على عدة أنماط انتاج، واحد منها مهيمن . (يلاحظ أننى لا أتبع هنا الفكرة اللينينية عن التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية كحقبة أو فترة تاريخية، وإنما أفهمها كمجتمع تاريخى عينى). وتجرى التغيرات التاريخية فى تشكيلات اجتماعية معينة وتفسر بمساعدة مفهوم نمط الانتاج. ولكن تلك التغيرات لا تستنبط ببساطة من المنطق الاقتصادى لأى نمط محدد للانتاج (برتراند، 1979، ص ص 56-7).

ويلاحظ أن ماركس لم يوضح أبدا هذه العلاقة بطريقة مرضية. وقد كان مخطئا فعلا فى بعض المناسبات حين خلط بين المستويين: الأمر الذى يجعلنا نذهب أحيانا إلى الاعتقاد أن منطق نمط الانتاج يكفى لفهم كيف ومتى يتغير أو يتطور نمط الانتاج هذا . ومع ذلك فإن تحليل تحولات نمط الانتاج يمكن أن تتم فقط على مستوى التشكيلة الاجتماعية. لذلك لا يمكن للتاريخ أن يتصور كتعاقب ضرورى لأنماط الانتاج. هذه الطريقة فى الفهم لها نتائج هامة بالنسبة للمادية التاريخية والتحليل التاريخى. فعلى سبيل المثال، على المستوى التجريدى يفترض فى نمط الانتاج الرأسمالى أن يتمخض عن زيادة هائلة فى قوى الإنتاج . ولكن فى الوضع العينى لتشكيلة إجتماعية تاريخية يمكن لنمط الإنتاج الرأسمالى أن يستنفذ طاقته الكامنة فى مرحلة مبكرة للغاية، نتيجة لتمفصله مع أنماط انتاج أخرى وظروف تاريخية نوعية مثل الإمبريالية. لذا كان على ماركس وانجلز أن يدركا أنه فى حالة أيرلندا فإن الإمبريالية البريطانية قد "دمرت الحياة الصناعية"، وأعاقت تطورها، على خلاف الموقف الذى اتخذاه قبل ذلك فيما يتعلق بالهند والصين. وثمة حالة أخرى لها صلة بالموضوع هى الرأسمالية التابعة للبلدان غير المتطورة المعاصرة. وهكذا، وبغض النظر عن مشاكل أخرى، فإن فكرة ماركس بإنه لا يتحلل نظام اجتماعى قبل أن تتطور قواه الإنتاجية تماما، لا يمكن أن تطبق على مستوى نمط الانتاج ولكنها تصبح معقولة ضمن الظروف التاريخية النوعية لتشكيلة اجتماعية، ذات ترتيب نوعى لأنماط انتاج وعلاقات دولية معينة. وقد يفسر هذا جزئيا لم نجحت الثورات الاشتراكية حيث كان نمط الانتاج الرأسمالى معاقا بانماط انتاج ماقبل رأسمالية مرنة أو معاقا بالحكم الاستعمارى. ولكن، رغم أن هذا قد يكون معقولا أكثر من الموقف التقليدى الذى يحيل القول الفصل لنمط الانتاج، ماتزال هناك مشكلة مع فكرة أن التغير الاجتماعى أو الثورات الاشتراكية يسببها تطور أو استنفاذ القوى الانتاجية.
وفيما يتعلق بالمسألة الثانية، يقدم ماركس فكرة أن المادية التاريخية يجب أن تبدأ بدراسة الانتاج الراسمالى، الذى سوف يقدم مفتاحا لفهم أنظمة الانتاج الباكرة :
إن المجتمع البورجوازى هو التنظيم التاريخى للانتاج الأكثر تطورا وتعقيدا. والمقولات التى تعبر عن علاقاته، وادراك بنيته، تتيح أيضا التبصر بواسطتها فى بنية وعلاقات انتاج كل التشكيلات الاجتماعية المنقرضة... فتشريح الانسان يتضمن مفتاح تشريح القرد. إن صلة التطورات العليا بالنوع الحيوانى الأدنى لا يمكن فهمها إلا بعد معرفة التطور الأعلى بالفعل. وهكذا يزودنا الاقتصاد البورجوازى بمفتاح فهم القديم (مقدمة الجروندريسه، ص 105).

وقد أصبح الأمر على ذلك النحو لأنه فى ظل نمط الانتاج الرأسمالى فقط يجرى تحقق الدور المحدد للانتاج بحيث ينفصل الانتاج للمرة الأولى عن المؤسسات الدينية، والسياسية، وبنى القرابة، ويصبح مجالا متخصصا مستقلا بذاته. هذا ينتج مفاهيم ومقولات لم يكن من الممكن انتاجها هكذا من قبل.
خذ على سبيل المثال، مفهوم القيمة. يسأل ماركس لماذا لم يستطع حتى مفكر عظيم كأرسطو، أن يفكر فيه فى اليونان القديمة. وإجابته هى:
أن تنسب قيمة للسلع... هى طريقة فى التعبير فحسب عن أن كل العمل، من حيث هو عمل انسانى، متساو، ونتيجة لذلك فهو عمل ذو نوعية متساوية. بينما كان المجتمع الإغريقى مؤسسا على العبودية، وكان أساسه الطبيعى، هو عدم تساوى البشر وقوى عملهم. لم يكن من الممكن حل لغز سر التعبير عن القيمة، وهو أن كل أنواع العمل متساوية ومتكافئة ، حتى تكون فكرة المساواة البشرية قد حازت بالفعل شعبية راسخة. الأمر الذى يصبح ممكنا فقط فى مجتمع تتخذ فيه الكتلة العظمى من نتاج العمل شكل السلع (رأس المال، المجلد الأول، ص56 ).

ويرتبط ذلك أيضا بحقيقة أن انتزاع العمل الفائض يمكن أن يدرك بصفته كذلك عندما يظهر الاستيلاء الاقتصادى الرأسمالى على فائض العمل فى التاريخ، لأنه ضمن الرأسمالية فقط يمكن أن يتحدد الانفصال بين تكافؤ القيم التبادلية فى السوق وبين الاستيلاء على فائض القيمة عند مستوى الانتاج.
وقد يبدو هذا متناقضا ظاهريا لأن انتزاع العمل الفائض ضمن الرأسمالية مختف بسبب مظاهر السوق بينما انتزاع العمل الفائض ضمن الاقطاعية كان واضحا تماما وكان فائض العمل مميزا بدقة عن العمل الضرورى . تتقوم المسألة، على أى حال، فى أن الاقتصاد لم يكن يمثل مستوى مستقلا ذاتيا فى المجتمع الاقطاعى، أى مستقلا عن المؤسسات الدينية والسياسية، لذا فإن مفهوم فائض العمل بالذات لم يكن له معنى كمفهوم اقتصادى ولم يكن من الممكن بلوغه دون فكرة القيمة والعمل المجرد. فالاقطاعية مثلها مثل العبودية، يمكن أن يفهما بدقة بوصفهما نمطى انتاج، فقط حينما يتيح ظهور الرأسمالية تطور المقولات الجوهرية لإدراك أنظمة الإنتاج الأسبق. على أن ذلك لا يعنى أن المادية التاريخية يجب أن تنسب إلى الماضى مؤسسات وعلاقات هى نموذجية للرأسمالية فقط. فقد كان ماركس متيقظا إلى أن يشير إلى أن الانتاج الرأسمالى يزودنا بمفتاح القديم "ولكن ليس على الاطلاق على طريقة هؤلاء الاقتصاديين الذين يمحون كل الاختلافات التاريخية ويرون العلاقات البورجوازية فى كل أشكال المجتمع (مقدمة،الجروندريسه ، ص 105). فصحيح أن العلاقات الاقتصادية الرأسمالية تتيح لنا فهم العلاقات الاقطاعية والعبودية لكن لا يجب علينا أن نطابق الواحدة مع الأخرى.
ويتصور البعض أحيانا أن الموضوع الرئيسى لنظرية ماركس كان المجتمع الرأسمالى على وجه الحصر لسبب بسيط هو أنه ليست هناك معالجة منتظمة لأنظمة الانتاج الأسبق عدا الشذرات المتناثرة والاشارات المكتوبة لأغراض المقارنة عند تحليل نمط الانتاج الرأسمالى. ومع ذلك فحقيقة أن ماركس كان قادرا على إكمال دراساته عن الانتاج الرأسمالى دون سواه، لا تعنى أنه قد تخلى عن المادية التاريخية ومشروع دراسة أنماط انتاج أخرى. وهو يعرض لذلك قائلا: أن "هذه المؤشرات، حين تتواكب مع رصد صحيح للحاضر، تقدم مفتاحا لفهم الماضى أيضا- وهو عمل، بحكم جدارته، نأمل أن نكون قادرين على الاضطلاع به أيضا" (الجروندريسه، ص 461). ومع ذلك، فحقيقة أن المادية التاريخية تطورت بدءاً من ظهور الرأسمالية ونتيجة لظهورها تم تفسيرها من قبل بعض الكتاب، ماركسيين وغير ماركسيين، باعتبارها تعنى أن المادية التاريخية متعلقة بالرأسمالية فقط ويجب الا تطبق إلا عليها. فلوكاش، على سبيل المثال، يرى أن المادية التاريخية هى بمثابة "معرفة الذات للمجتمع الرأسمالى". وكسلاح أيديولوجي هى "فى المحل الأول، نظرية عن المجتمع الرأسمالى وبنيته الاقتصادية" (لوكاش، 1971، ص 229). حقا يمكن للمادية التاريخية كمنهج علمى أن تطبق أيضا على المجتمعات الأسبق ولكن "هناك صعوبة منهجية ذات وزن" تكمن "فى الاختلاف البنيوى بين عصر الحضارة والحقب التى سبقته" (ص 232).
ولكى يوضح لوكاش هذا الاختلاف البنيوى يقتبس المقطع الشهير الذى يؤكد فيه ماركس على أنه "فى كل الحالات التى تكون فيها الملكية العقارية هى العامل الحاسم، تهيمن العلاقات الطبيعية، بينما فى الحالات التى يكون فيها العامل الحاسم هو الرأسمال، تهيمن العناصر الاجتماعية التى تطورت تاريخيا" (مقدمة، الجروندريسه، ص 107، ولكن هذه الترجمة مأخوذة عن ص 213، إسهام فى نقد الاقتصاد السياسى). ويذهب جيدنز، لاحقا، فى نقده للمادية التاريخية إلى أن تنسيق الموارد السلطوية يشكل فى المجتمعات غير الرأسمالية المحور المحدد للدمج والتغيير الاجتماعيين. بينما نجد فى الرأسمالية، أن الموارد الموزعة تضطلع بأهمية خاصة للغاية"• (جيدنز، 1981،ص 4، أنظر أيضا ص ص 105 و 109). وهو يستنتج أن المادية التاريخية حين تجعل الأولوية للموارد الموزعة فإنها تبتعد تماما عن أن تكون نظرية كلية للتاريخ.

والواقع أننى لا أجد هذه الجدالات مقنعة تماما. فحقيقة أن المادية التاريخية يجب أن تبدأ تحليلها بالانتاج الرأسمالى، لا يترتب عليه بالضرورة أنها يجب أن تقتصر على الرأسمالية. ونفس المقطع الذى يقتبسه لوكاش من ماركس تدعيما لفكرة تضييق نطاق فعالية المادية التاريخية يقترح تمييزا نظريا هو بمثابة استنتاج عام للمادية التاريخية ذاتها! فالنظرية العامة للمادية التاريخية هى التى تطرح فكرة أن العلاقات الطبيعية تهيمن حتى قبل ظهور الرأسمالية وأن الابداعات الاجتماعية التاريخية تهيمن من ذلك الوقت فصاعدا. فالمادية التاريخية هى التى تقترح الطابع التاريخى للمقولات والمفاهيم وتسعى لتفسير الاختلافات الحاسمة بين المجتمعات الرأسمالية وما قبل الرأسمالية. أضف إلى ذلك، حين يضع ماركس مثل هذا التمييز فهو لا يصف مجتمعا بدائيا لا تاريخيا، حيث لا تنتج العلاقات الاجتماعية عمليا من قبل البشر، بالتعارض مع المجتمع الرأسمالى التاريخى، حيث ينتج البشر علاقاتهم. وإنما يميز ماركس فحسب بين نوع من المجتمع يمكن فيه للمرة الأولى، أن يصبح البشر واعين ويحاولون السيطرة على علاقاتهم الاجتماعية.
وجيدنز محق حين يؤكد على أهمية القوة لاقتطاع فائض الانتاج فى مجتمعات ماقبل الرأسمالية بينما فى المجتمعات الرأسمالية، يقتطع فائض القيمة بواسطة وسائل اقتصادية فقط. لكن لا يستتبع ذلك أن الموارد السلطوية فقط هى القاعدة المركزية للسلطة فى المجتمعات ماقبل الرأسمالية. إذ لا تكون هناك سلطة لأشخاص دون امتلاك الأرض، التى تحدد علاقات اجتماعية معينة. وبالنسبة لماركس فمن الواضح تماما أن "الأفراد فى مجتمع كهذا، بالرغم من أن علاقاتهم تبدو شخصية أكثر، يدخلون فى ارتباطات الواحد مع الاخر فقط كأفراد منطوين ضمن تعريف معين: كسيد اقطاعى وتابع، كمالك أرض وقن، إلخ (الجروندريسه، ص 163). لذلك فمحاولة فهم القاعدة المركزية للسلطة فى المجتمعات ماقبل الرأسمالية بلغة أولوية الموارد السلطوية هو أمر موضع تساؤل. ذلك أن المسألة هى تفسير على أى أساس تحققت السلطة أو السيطرة على الأفراد. ليست هذه عملية تحكمية محضة. بخلاف ذلك، فالاجابة الوحيدة على سؤال من له السلطة فى المجتمع ماقبل الرأسمالى هى: هؤلاء من تصادف أن لهم السلطة. وكما أشار بوتومور "هذا لا يكاد يوضح شيئا، فهو لا يقول لنا كيف تأتى لهؤلاء الأفراد بالذات ِأن يشغلوا مراكز السلطة" (1964، ص 32،أنظر ايضا رايت، 1983).


الممارسة وحل التوترات فى فكر ماركس

لقد بدأت بفكرة أن مادية تاريخية أعيد بناؤها عليها أن تحل بعض التوترات التى كانت قائمة فى فكر ماركس وانجلز ذاتيهما. وقد أوضحت كيف قدمت الماركسية الأرثوذكسية حلا معينا لهذه التوترات باقتراح مفهوم للمادية التاريخية يفترض أنه مشتق من القوانين الشاملة للجدل الكامنة فى الطبيعة، التى تعتبر الوعى مجرد انعكاس للمادة، والتى تعد التقدم التكنولوجى السبب الأساسى للتغير الاجتماعى والتى تفضى إلى مفهوم أحادى خطى وغائى للتطور التاريخى. وينطوى نقد هذا التفسير الأرثوذكسى الذى عرضته فى الفصل الثالث، وإن كان سلبيا ومعارضا، على العناصر الأولى لحل مختلف. ولن أكرر هنا الحديث عنها. ولكن من الضرورى أن أوضح بطريقة أكثر إيجابية، وإن بايجاز، السبيل الذى يمكن به لنظرية الممارسة أن تسهم بحلول جديدة للتوترات المذكورة آنفا.

وفيما يتعلق بمفهوم الجدل فلا بد من التأكيد على أن ماركس حين وصف مفهومه بأنه قلب لمفهوم هيجل فإنه أساء فهم الطبيعة الحقيقية لنظريته. وعلى الرغم من أننى لا أقبل الفكرة الألتوسيرية التى تذهب إلى أن هناك انفصالا منهجيا بين نظرية ماركس الحقيقية وفهمه لها، أتصور أن ماركس كان مخطئا فى هذه المسألة النوعية حين اعتقد أن المسألة كانت فقط مسألة قلب الجدل الهيجلى رأسا على عقب، وسبب ذلك مرتبط بمفهوم الممارسة. كان انتاج الفكر بالنسبة لهيجل هو نفسه انتاج للواقع بوصفه نقيضه، مما يعنى أن عملية الموضعة (انتاج الموضوع) كانت فى نفس الوقت عملية انسلاب للوعى: أى أن الموضعة كانت بمثابة خلق للوعى بصورة مقلوبة. وقد رفض ماركس أن يطابق بين الموضعة والانسلاب. فالعالم الاجتماعى الموضوعى منتج بواسطة الممارسة المادية. والممارسة الانسانية تبلور ذاتها ليس فقط فى المنتجات المادية الضرورية للحياة، وإنما أيضا فى علاقات اجتماعية ومؤسسات. وهذه الموضعة للممارسة الانسانية ليست فى حد ذاتها انسلابية. إنما يأتى الانسلاب مما وصفه ماركس فى الأيديولوجيا الألمانية بأنه "نمط مادى محدود من النشاط" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 36) لأنه، بالرغم من أنه ينتج العالم الاجتماعى الموضوعى، فإنه لا يسيطر عليه.

الانسلاب إذن ذو صلة بافتقار السيطرة الانسانية على نتائج الممارسة الانسانية، وليس ناتجا عن الحقيقة البسيطة المتعلقة بأن الممارسة الانسانية تموضع ذاتها فى نتائج معينة. وهكذا ففى الإنسلاب يشتغل قلب عكسي : إذ تتحكم الشروط الموضوعية التى أنتجها البشر عمليا فى منتجيها، فتصبح الذوات موضوعات والعكس بالعكس. وفكرة القلب هذه تقع فى مركز فكرة التناقض. ولكن، بينما تتسم عملية القلب هذه، بالنسبة لهيجل بأنها معطى بالضرورة فى أى عملية موضعة، فإنها تتسم، بالنسبة لماركس، بأنها تجرى فقط ضمن شروط اجتماعية نوعية حيث يهيمن "نمط مادى محدود من النشاط" . لذلك، يصبح التناقض بالنسبة لهيجل هو جوهر كل الأشياء التى هى نتاج الانسلاب الذاتى للوعى. أما بالنسبة لماركس، فعلى النقيض من ذلك، يظهر التناقض حيث لا يسيطر البشر على العلاقات الموضوعية وعلى المؤسسات التى أنتجوها عمليا هم أنفسهم، الأمر الذى يعنى أن عملية الموضعة، وإعادة انتاج الحياة المادية،
"تبدو من وجهة نظر العمل كعملية فقد لشئ ممتلك، بينما تبدو من وجهة نظر رأس المال كاستيلاء على عمل منسلب... ولكن من الواضح أن عملية القلب هذه هى ضرورة تاريخية فحسب، أى ضرورة لتطوير قوى الانتاج من نقطة انطلاق أو قاعدة تاريخية نوعية فحسب، ولكنها ليست ضرورة مطلقة للانتاج بأى شكل من الأشكال بل إنها بالأحرى فى طريقها للزوال، فقد كان الغرض الكامن لهذه العملية والنتيجة التى حققتها فى الوقت نفسه هى ابطال مفعول هذه القاعدة ذاتها (االجروندريسه، ص ص 831-32).
وهكذا، فلكى نعيد بناء المادية التاريخية لا يعود التناقض هو القانون الشامل للحركة ولا يمكن أن يشتق الجدل الاجتماعى من الجدل الطبيعى. فالتطور الجدلى مرحلة من التاريخ رأى ماركس أنها تبلغ نهايتها باختفاء الطبقات وسيطرة البشر، فى نهاية الأمر، على علاقاتهم. ذلك أن "الأفراد المتطورون من جميع النواحى، الذين تخضع علاقاتهم الاجتماعية، بوصفها علاقاتهم الخاصة الجماعية، لسيطرتهم الجماعية، ليسوا نتاجا للطبيعة، بل للتاريخ (الجروندريسه، ص 162) وهذا يعنى أيضا أن حل التناقض له صلة بأفعال الأفراد أنفسهم وليس بعمليات طبيعية او بنيوية يتصور أنها منفصلة عن الممارسة الانسانية، أو يتصور أنها تحرر البشر من الخارج فحسب. فالممارسة الانسانية متداخلة فى كل من ظهور التناقضات وحلها ومعنى ذلك أن نمطا ماديا محددا من النشاط يسبب نشوء التناقضات ، وبقدر ماتنقل الممارسة الثورية السيطرة على العلاقات الاجتماعية للمجتمع ، ينحل التناقض . الأمر الذى لم يكن ممكناً بالكامل أبدا قبل الرأسمالية لأن حل التناقض كان بالضرورة جزئيا، لأنه أفسح مجالا فقط لتناقض جديد. وهكذا يرى ماركس أن البروليتاريا تحتل وضعا يسمح لها ليس فقط بالقضاء على التناقض الرأسمالى النوعى بهزيمة البورجوازية، وإنما أيضا بالقضاء على نفسها كطبقة، أى القضاء، فى نهاية الأمر على النظام الطبقى ذاته "إن شرط تحرر الطبقة العاملة هو القضاء على كل الطبقات" (بؤس الفلسفة، ص 161).
ويمكن القول أن تفسير الوعى بلغة الإنعكاس، الذى توحى به بعض كتابات ماركس وانجلز، قد رفض بالفعل لعدة أسباب وجيهة، ذكرت فى الفصل الثالث، حيث برزت أيضا فكرة الطابع الاستباقى للوعى. ونحن نجد أن حل هذا التوتر فى فكر ماركس وانجلز ينطلق مرة أخرى من نظرية الممارسة. ذلك أن الواقع لا يجب أن يتصور "فى شكل موضوع " بل فى شكل ممارسة بمعنى أن الوعى لا يمكن أن يفهم كتأمل سلبى لعالم معطى سلفا وإنما يفهم كعملية فعالة ترافق وتستبق التكون العملى للواقع. وهذا يعنى أن البشر يبلغون معرفة الواقع بقدر ما ينتجون ويتملكون هذا الواقع. الوعى اذن "لا يعكس الواقع فقط بل يستبقه ويجسده أيضا"، وقد عبر ماركس عن هذا كما يلى :
انتاج الأفكار والمفاهيم والوعى، يتمازج مباشرة فى البداية مع النشاط المادى والتفاعل المادى للبشر- فهو لغة الحياة الواقعية. فقد كان التصور والتفكير وتفاعل البشر يبدو فى تلك المرحلة كدفق مباشر لسلوكهم المادى. ينطبق نفس الشئ على الانتاج الذهنى كما يعبر عنه لدى سائر الناس فى لغة السياسة، والقوانين، والأخلاق، والدين، والميتافيزيقا، إلخ، ... إذ لا يمكن للوعى أن يكون أى شئ سوى الوجود الواعى، ووجود البشر هو عملية حياتهم الفعلية... فالبشر وهم يطورون انتاجهم المادى وتفاعلهم المادى، يغيرون عالمهم الواقعى، ويغيرون فى نفس الوقت أيضا تفكيرهم ونتاجات أفكارهم (الأيديولوجيا الألمانية، ص ص 36-7).
وعند محاولة فهم الوعى فى سياق الممارسة كان ماركس يميز نفسه عن كل من هيجل وفيورباخ. فبالنسبة لهيجل كان الفكر قد أصبح هو منتج الواقع. أما بالنسبة لفيورباخ فقد كان الواقع أوليا والفكر مشتقا منه. بينما تعنى معالجة الوعى فى سياق الممارسة أن الوعى ليس تأملا مجردا فى عالم معطى وليس هو، فى الوقت نفسه، الذى يخلق العالم، فهناك اختلاف بين تمثلات الحس المشترك التى ينشئها البشر فى روتين حياتهم العملية، التى، تتيح لهم أن يتعاملوا مع محيطهم المباشر، وبين الادراك النظرى أو العملى للواقع الذى يرصد مايكمن وراء مظاهره . ومع ذلك فإن هذا الاختلاف الذى تقبله ماركس، لا يستتبع انفصال العلم عن الممارسة. وبالنسبة لامتداح فيورباخ فيما يبدو للمعالجة المستقلة والتأملية للعلوم الطبيعية، التى يمكن لها أن تكشف فقط عن عناصر الواقع التى لا يستطيع الآخرون ان يروها، يرد ماركس: "أين سيكون العلم الطبيعى دون صناعة وتجارة؟ فحتى مثل هذا العلم الطبيعى "الخالص" يستمد غايته ومادته من التجارة والصناعة أى من النشاط الحسى للبشر" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 40).

ويتيح هنا فهم الصلة بين الوعى والممارسة للمادية التاريخية أن تفسر الأيديولوجيا والتحدد الاجتماعى للوعى بطريقة موحية أكثر وأفضل من الطريقة التقليدية المتاحة بواسطة مجاز الأساس- البناء الفوقى. فمثل هذا المجاز يتسم بالجمود حتما لأنه يتجه لتجزيئ الواقع إلى مستويات يعتبرها مادية، إنه يتجه إلى اعطاء طابع مادى لمجالات المجتمع المدنى التى تؤخذ هكذا باعتبارها معطاة وليس باعتبارها أنتجت عمليا، ومن ثم، فإنه يتجه لاختزال الظواهر الديناميكية مثل الوعى والصراع الطبقى الذى يشمل المجتمع بأسره إلى مستوى واحد معين باستبعاد المستويات الأخرى (أنظر ويليامز، 1977، ص ص 75-82).
ومن المهم أن نفهم أن الأيديولوجيا والتحدد الاجتماعى لا يتطابق الواحد منهما مع الآخر. ونحن نجد مثل هذا التطابق فى التقليد المانهايمى حيث تعتبر كل المعرفة الاجتماعية أو التاريخية أيديولوجية بقدر ماهى محددة اجتماعيا. ويفترض أن التحدد الاجتماعى يقلل من مصداقية فكر ما لأنه يربط هذا الفكر بموقف اجتماعى نوعى وجزئى (مانهايم، 1972،ص 255). على أن المادية التاريخية لا تسير فى هذا الطريق ومفهومها عن الأيديولوجيا يجعل نطاق تطبيقها أضيق كثيرا. ليس ذلك لأن المادية التاريخية متحيزة وتنتقد بشكل أحادى الجانب وجهات نظر الآخرين بينما ترفض أن تقبل تحددها الاجتماعى الخاص. فالتحدد الاجتماعى للوعى، الذى تتبناه المادية التاريخية والذى تقبله بالتأكيد فى حالتها الخاصة- لا يؤثر بحد ذاته فى صلاحية الأفكار. إذ من الصحيح أن كل وعى محدد اجتماعيا ولكن ليس من الصحيح أن كل وعى أيديولوجيا. فالأيديولوجيا بالنسبة لماركس وانجلز لها صلة بنوع معين من الوعى المشوه الذى يخفى التناقضات الاجتماعية وهكذا يساعد موضوعيا على إعادة انتاج تلك التناقضات. من أين تأتى هذه الأفكار المشوهة التى تخفى التناقضات؟ مرة اخرى، تقدم نظرية الممارسة الاجابة. لقد رأينا سلفا أن كل الأفكار تنتج فى سياق الممارسة، ولكن ماركس يمضى أبعد ويجد أن الأفكار يمكن أن تكون تعبيرا واقعيا أو وهميا عن الممارسة. إذ يقول: "الأفكار هى التعبير الواعى- الواقعى أو الوهمى- عن علاقاتهم الواقعية وأنشطتهم، عن انتاجهم، عن تفاعلهم، عن سلوكهم الاجتماعى والسياسى" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 36). الأيديولوجيا إذن ذات صلة بالأفكار التى تعبر عن الممارسة بشكل غير ملائم . وسبب ذلك ليس خطأ ما فى العملية الادراكية، بل هى حدود الممارسة ذاتها فـ "إذا كان التعبير الواعى عن العلاقات الواقعية لهؤلاء الأفراد وهمى، وإذا كانوا قد قلبوا الواقع فى خيالهم رأسا على عقب، فإنما مرد ذلك هو نمط نشاطهم المادى المحدود وعلاقاتهم الاجتماعية المحدودة الناشئة منه" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 36، التشديد لى).
تشير حدود الممارسة هذه إلى حقيقة، سبق ذكرها، وهى أن البشر ينتجون عالما اجتماعيا لا يسيطرون عليه، "تثبيت للنشاط الاجتماعى " وتعزيز ما ننتجه نحن أنفسنا كسلطة موضوعية فوقنا، تتجاوز سيطرتنا (الأيديولوجيا الألمانية، ص 47) . هذا هو سبب ما يحدث من "عمليات القلب" أو من التناقضات . فإلى الحد الذى يكون فيه البشر غير قادرين عمليا على حل هذه التناقضات، وإلى الحد الذى لا يسيطرون فيه عمليا على مثل هذه "السلطة الموضوعية". فإنهم يسعون لحل المشاكل فى خيالهم ويسقطونها فى أشكال أيديولوجية للوعى. وهكذا فإن الأيديولوجيا هى حلول، على مستوى الذهن، للتناقضات التى لم تحل عمليا. ونتاج الحل الذهنى الخالص هو اخفاء التناقض وإعادة انتاجه (أنظر لارين، 1979، 1983) ومن ثم، فليست كل الأفكار، وليست حتى كل الأفكار الخاصة بالطبقة الحاكمة، بالضرورة أيديولوجية أى تقلل من مغزى التناقضات الاجتماعية. ومع ذلك فكل الأفكار محددة اجتماعيا. ولكن هذا لا يتضمن بالضرورة تحيزا، ولا تجزيئية أو صلاحية مقيدة.

ويجب أن يفهم التحدد الاجتماعى أيضا فى سياق الممارسة بحيث تكون الأفكار هى التعبير- الواقعى أو الوهمى- عن الممارسات الانسانية. مع ذلك لا ينبغى لنا أن نختزل التحدد الاجتماعى للأفكار إلى الوضع الاجتماعى الذى نشأت فيه. فالمادية التاريخية لا تسعى إلى اختزال أشكال الوعى الاجتماعى بردها إلى خلفيتها الاجتماعية. وحقيقة أن أشكال الوعى الاجتماعى- أعمال الأدب والفن أو الأعمال النظرية والعلمية- تبقى بعد زوال الظروف الاجتماعية التى ولدتها تشير إلى أن التحدد هو فى آن معا مشكلة أكثر دقة وأكثر تعقيدا مما تبدو عليه فى الوهلة الأولى. لقد أشار كوسيك بنفاذ بصيرة إلى أن "حياة العمل ليست نتاجا للعمل ذاته ولا مجرد نتاج للظروف الخارجية" فحياة العمل ليست نتاج وجوده المستقل ذاتيا وإنما نتاج التفاعل المتبادل بين العمل والنوع الانسانى" (كوسيك، 1976، ص 81). إن عملا فنيا يبقى لا لأنه ينطوى فى ذاته على صلاحية شاملة وإنما لأنه يمكن أن يدخل فى ممارسة أجيال جديدة وأن يتمفصل معها، ويتخذ من خلالها معنى . وإذا كان ذلك كذلك، إذن لا يمكن للمادية التاريخية أن تفهم التحدد كفعل سببى مفرد. التحدد هو عملية دائمة من انتاج وإعادة انتاج الأفكار ضمن سياقات جديدة وممارسات تعطيها معنى مجددا. التحدد له صلة ليس فقط بتكوين الأفكار وإنما أيضا بقدرتها على البقاء. لذلك يجب أن يفهم كعملية مستمرة حيث تنتج الأفكار كما يعاد إحياؤها أيضا بواسطة ممارسات اجتماعية جديدة.

ويلاحظ أن هذا المفهوم للتحدد يتجاوز المفهوم الارثوذكسى لتحدد الأفكار بواسطة البنية الاقتصادية. وليس هذا بسبب أننى أريد أن أنكر التأثيرات المحددة للبنية الاقتصادية وإنما لأن مفهوما للتحدد مؤسسا على الفعالية الوحيدة للبنية الاقتصادية يعتبر مسألة اشكالية. فإذا نظرنا إلى المجموع الإجمالى لعلاقات الانتاج، فإننا نجد أن البنية الاقتصادية تضع حدودا لانتاج الأفكار ولطابع المؤسسات السياسية والتعليمية. ولكن، إذا اختزلنا مفهوم التحدد إلى "وضع الحدود" بواسطة ترتيب بنيوى، فسنواجه إحدى مشكلتين: إما أن نعتبر وضع الحدود مجرد شرط لتعيين إطار عام يتسع لخيارات عملية عديدة ولتطوير كثير من الأفكار الممكنة، وفى هذه الحالة فإننا لا نعرف لم تمت خيارات معينة أو طورت أفكار معينة بدلا من أخرى مكافئة بشكل متساو مع الشروط البنيوية، أو أن نفهم الحدود باعتبارها محددة بالكامل وسببا كافيا ينتج بدقة هذه الأنشطة العملية والأفكار المتطلبة من قبل البنية، وفى مثل هذه الحالة لا يكون للبشر خيار سوى أن يتصرفوا ويشعروا فى اتجاه معين تم تحديده بواسطة البنية.
يبدو لى أن مفهوم التحدد يمكن أن يمضى أبعد من الخيار الأول دون أن ينكر الحرية الانسانية مثل الخيار الثانى. ويتم ذلك عن طريق ادخال مفهوم الممارسة. إذ بينما تعتبر البنية الاقتصادية شرطا للممارسات الاجتماعية التى تضع حدودا وخيارات معينة فإن الممارسات الاجتماعية ذاتها هى التى تحدد بشكل أكثر خصوصية الأفكار التى يطورها البشر. فعلى سبيل المثال ، ليس هناك شك فى أن البنية الاقتصادية تشرط وتضع حدودا لممارسات وأفكار الطبقة العاملة. ولكن ما إذا كانت الطبقة العاملة ستطور أفكارا ثورية معينة أم لا، مسألة تعتمد فى النهاية على طابع ممارستها الاقتصادية والسياسية، وعلى شكل تنظيمها والنضالات الطبقية العينية المنخرطة فيها. إذ يمكن للبنية الاقتصادية أن تؤسس فقط مصلحة عامة فى اتجاه معين ولكنها لا يمكن ان تضمن تطبيقها العملى. بالطبع هذا المفهوم للتحدد عن طريق الممارسة يعتبر أقل دقة لحد بعيد من التحدد بواسطة البنية المقترح من قبل كون. لكنه يتميز على الأقل باتاحة الفرصة للتقصى العينى لطابع ونوعية الممارسات الطبقية والنضالات التى تقدم مفتاح تفسير أشكال معينة من الوعى والتى قد تكون الطبقة المعنية قد طورتها. بينما لا يتطلب التحدد بواسطة البنية الاقتصادية وحدها أى تقصى نوعى عن الممارسات الطبقية: فهو يفترض أن كلا من ممارسات الطبقة وأفكارها تتسق مع النموذج الذى حددته البنية، ونوع التقصى الوحيد الممكن لمثل هذا النموذج هو استكشاف لماذا لم تحدث التأثيرات السياسية والأيديولوجية المتوقعة دائما. على أن الهدف من مثل هذا التقصى سيكون هو تبيان الطبيعة الاستثنائية أو الشاذة لهذه الحالات. فكما يبرر ذلك كون فإن" نظرية للتاريخ ليست مسئولة عن الأحداث الشاذة"(1978، ص 156).

والآن، فقد رأينا أنه فيما يتعلق بالتحدد، فإننا نجد أن النظرة الارثوذكسية التقليدية التى جددها كون حديثا تدافع عن أولوية قوى الانتاج التى تفترض أن لديها ميلا أصيلا للتطور ومن ثم تختار علاقات الانتاج التى يمكن أن تؤمن تطورها. بينما نجد أن ألتوسير وباليبار وماجالين، على النقيض من ذلك، يجادلون فى صالح أولوية علاقات الانتاج. ويرى هذا الاتجاه أن قوى الانتاج ليست سوى "الآثار اللازمة" أو أنها"تجسيدات لعلاقات الانتاج" . وسواء أكان الصواب فى جانب هذا الاتجاه أو ذاك، فإن هذا النوع من المناقشة محدود بحكم طبيعته لأنه معنى بتقرير أى عامل بنيوى هو المحدد فى النهاية، ولكنه لايطرح إمكانية ألا تكون الأولوية لأى من هذين العاملين البنيويين. وقد وصفت هذا البديل باعتباره توترا آخرا فى فكر ماركس وانجلز: هل التغير الاجتماعى فى أنماط الانتاج التناحرية يفسر بلغة الصراع الطبقى أم بلغة العوامل البنيوية والتناقضات البنيوية فيما بينها؟ رغم أن كون يدافع عن أولوية قوى الانتاج ويدافع ألتوسير وباليبار عن أولوية علاقات الانتاج فهم جميعا يوافقون على أن الصراع الطبقى مشتق وأنه غير تفسيرى لأنه محدد ومتشكل وفقا للبنى.

وكلا الموقفين لا يأخذان فى الاعتبار الذوات الفاعلة حين يفسران الآلية الأساسية للتغير. فبالنسبة لكون لا تتضمن قوى الانتاج البشر أو أى عناصر اجتماعية أخرى، فهى ذات طبيعة مادية وتتجه للتقدم بالضرورة بغض النظر عن الارادة الانسانية والتنظيم الاجتماعى. صحيح أن كون يرى أن "التاريخ هو تطور للسلطة الانسانية" ولكنه يضيف مباشرة أن "مجرى تطوره ليس خاضعا للارادة الانسانية" (1978، ص 148) أما بالنسبة لباليبار وألتوسير فلا يمكن لعلاقات الانتاج أن تختزل لعلاقات بين البشر والطبقات ليست هى الفاعل لتلك العلاقات وإنما هى مجرد دعائم لها. وبالنسبة لكلا الموقفين فالذوات الفاعلة المقسمة إلى طبقات يتم تصورها كمجرد دعائم او حملة. ولكنهم ينسون ماهو، من وجهة نظرى، حاسم، وهو، أن كلا من قوى الانتاج وعلاقات الانتاج هى نتاجات اجتماعية أنتجت بواسطة الممارسة الانسانية، وأنها تبلورات لعملية الممارسة التى ينتج فيها البشر وجودهم المادى. وهى باعتبارها كذلك فإنها تضع شروطا للبشر بالتأكيد، ولكن هؤلاء البشر يمكن أيضا أن يعدلوها ويغيروها. لقد عبر ماركس وانجلز عن ذلك بوضوح تام:

تنطوى كل مرحلة على نتيجة مادية، هى حصيلة من القوى الانتاجية، أى علاقة مكونة تاريخيا مع الطبيعة وبين الأفراد الواحد مع الآخر، وهى تسلم لكل جيل من الجيل السابق له، وهى تتكون من كتلة من قوى الانتاج، ومن الأرصدة الرأسمالية، ومن الظروف، صحيح أنها من ناحية تعدل من قبل الجيل الجديد، لكنها من ناحية أخرى تملى عليه أيضا شروطه الحياتية الخاصة وتمنحه تطورا محددا وطابعا نوعيا. إنها تبين أن الظروف تصنع البشر بقدر ما يصنع البشر الظروف (الأيديولوجيا الألمانية، ص 54).
ويضيف قائلا:
ويمكن القول إذن أن قوى الانتاج والعلاقات الاجتماعية هما جانبان مختلفان من تطور الفرد الاجتماعى... والطبيعة لا تصنع آلات، أو قاطرات، أو سكك حديدية أو تلغراف كهربائى، أو مغازل آلية إلخ. فهذه نتاجات الصناعة البشرية.. إنها تجسيدات الدماغ الانسانى، خلقت باليد الانسانية ، وباتت قوة المعرفة نتاجات موضوعية (الجروندريسه، ص 706).

فكل قوة انتاجية إذن هى قوة مكتسبة، أى نتاج فاعلية سابقة. وبالتالى فالقوى الانتاجية نتاج طاقة بشرية عملية، بيد أن هذه الطاقة هى نفسها مشروطة بالظروف التى يجد البشر أنفسهم فيها، بالقوى الانتاجية التى أكتسبت من قبل، بالشكل الاجتماعى الذى وجد قبل أن يوجدوا هم. (رسالة إلى ب. ف. أننكوف، 28ديسمبر 1846، المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص 30).

من ناحيتى ، فإننى غير مقتنع بـأن أعزو" الأولوية " لنتيجة اجتماعية ما ، سواء أكانت قوى الانتاج أم علاقات الانتاج. فالأولوية يمكن أن ترتبط فقط بالانتاج العملى للبشر، وتحويلهم لحياتهم المادية. وبطبيعة الحال، تتضمن هذه الممارسة كلا من قوى الانتاج وعلاقات الانتاج كنتائج وشروط مسبقة لإعادة الانتاج المادية. لكن لا يمكن أن يفسر التغير تماما كأثر بنيوى لهذه النتائج الاجتماعية. فالتغير مشروط بها فقط ولكنه ليس محتما بالكامل. فالبشر بنشاطهم العملى هم الذين يحدثون التغير ضمن مجموعة من الخيارات المحدودة. وإذا كان من الصحيح أن البشر لا يختارون بحرية قواهم المنتجة وعلاقات الانتاج الخاصة بهم حيث أنها انتقلت إليهم من الجيل السابق- فإن ذلك لا يجعلهم عاجزين بشكل مطلق عن تغييرها ولا يمنع هذا وجود امكانات عديدة لمحاولة تغييرها.
إن التوترات فى مفهوم ماركس وانجلز عن التغير الاجتماعى يجب ان تحل من ثم لصالح النشاط السياسى العملى والصراع الطبقى- ليس صراعا طبقيا إعتباطيا بشكل مطلق وعشوائى، وإنما صراع طبقى مشروط بالبنية الاقتصادية ومستوى قوى الانتاج. ومع ذلك فهذه الشرطية لا تلغى الاختيارات إنما تحددها فقط. التناقض الرئيسى لأى نمط انتاج تناحرى هو ذلك الذى يولد الصراع الطبقى، أى التناقض بين المنتجين المباشرين ومالكى وسائل الانتاج، بين الفلاحين والسادة الاقطاعيين، بين العمل ورأس المال. فالصراع بين هذين الطرفين المتضادين هو الذى ينتج تغيرا اجتماعيا ذا أهمية. لقد تحدث ماركس وانجلز حقا عن التناقض بين قوى الانتاج وعلاقات الانتاج باعتباره السبب الأساسى للتغير الاجتماعى. المشكلة هى أننا لا يمكن أن نتحدث بدقة عن التناقض بينهما لأن من شروط التناقض بحكم التعريف أن يكون كل طرف فيه مستغرق فى الآخر. وأن يعرف كل واحد منهما من خلال التضاد مع الآخر بحيث لا يوجد أى منهما منفردا بذاته. بينما علاقات الانتاج وقوى الانتاج هما حدان متغايران وليسا بطبيعتهما الأساسية متضادين ، لأنه فى بداية نمط الانتاج يفترض فى الأولى أن تحفز تطور الأخيرة . وكثير من المؤلفين واعون بهذه المشكلة. إذ يقترح شاف Schaff على سبيل المثال، أنه فى هذا السياق يستعمل ماركس "التناقض" بمعنى مختلف ليعنى "أن قوى المجتمع الانتاجية غير قادرة على أن تشتغل ضمن علاقات الانتاج القائمة، أى أن ثمة عدم توافق بينهما، أى تنافرا" (شاف، 1960،ص 246). لكن من الواضح ، أنه ليس من المقبول أن نعطى تعريفات مختلفة لنفس المفهوم. ويرى آخرون، مثل ماجالين (1975، ص 63) ، وإيشفيريا (1978، ص 223)،و بتلهايم (1974، ص 23) أنه بدلا من التحدث عن التناقض ينبغى التحدث عن علاقة تطابق او عدم تطابق. وعلى أية حال، فإنه يمكن القول أنه، فى حين أن التناقض الأساسى لنمط انتاج هو أحد مكونات وجوده بالذات منذ ابتدائه، فإن علاقة من عدم التطابق قد تظهر متأخرة فى تطور نمط الانتاج، وبالتالى فالتناقض الأساسى بين المنتجين المباشرين وملاك وسائل الانتاج هو الذى يحدد ظهور "عدم التطابق" أو "عدم التوافق" وليس العكس.
والواقع أنه من بين كل التوترات التى وجدتها عند ماركس وانجلز، فمن المحتمل أن التوتر الذى يتعلق بتفسير التغير الاجتماعى هو الذى رجحت فيه أفكار ماركس وانجلز رأيا على الآخر، وهو ، أولوية القوى المنتجة. فوزن الأدلة المتضمنة بهذا المعنى مؤثر للغاية، خاصة إذا ما أخذنا تفسيرا أوسع من تفسير كون وجعلنا قوى الانتاج تشمل أشكال التعاون الاجتماعى. ولكن بالرغم من هذا فإن مهمة إعادة بناء المادية التاريخية تتطلب أن تقام توازنات جديدة يمكن أن تجعلها نظرية أفضل حتى لوبات ضروريا تغيير فكر ماركس وانجلز. لقد انتقد كون "بلامنتز" تحديدا لأنه ميال " لأن يرى فى المجتمع مجموعة من الأنشطة فقط، وليس مراكز،" و "يركز على ما يسميه "الحياة الاجتماعية" ويخفق فى تمييزها عن البنية الاجتماعية التى تجرى فيها" (كون، 1974، ص 92). أنا نفسى لا أدافع عن موقف بلامنتز وأوافق على أنه يتعين أن نميز الممارسات الاجتماعية عن العلاقات البنيوية. وأوافق حتى على وجهة نظر كون الخاصة بأن التحديدات البنيوية وحدها يمكن " أن تستخدم لكشف شبكة الارتباطات التى تصل أعضاء المجتمع" (1974، ص 93). مع ذلك لا أوافق على محاولة كون لتفسير التغير الاجتماعى كنتيجة مباشرة ولا مفر منها، للعلاقات البنيوية واشتقاق السلوك الانسانى آليا من التوقعات الخاصة بالوظيفة المحددة بنيويا. فمن المؤكد أن العلاقات البنيوية والتوقعات المستمدة من الخصائص الوظيفية تؤثر وتشرط السلوك ومن ثم تحدد التغير، ولكن ليس بصورة حتمية.
وقد ميز كل من فليشر (1973)، وويلمر (1971) تمييزا قيما بين ماهو ضرورى عمليا وماهو ضرورى حتما. فالأخير تغير أو نمط فى السلوك يتحتم حدوثه. ولكن هذا النوع من الضرورة خارج حدود المادية التاريخية. فالاشتراكية بالنسبة للمادية التاريخية ضرورة عملية فقط، أى، نمط للحياة يجب أن ينشأ، بمعنى أنها مهمة موضوعة أمام البشر لانجازها، ويحتمل أن يخفقوا فى تحقيقها. ولكن بالطبع، فبدون شروط بنيوية معينة، تصبح الاشتراكية وهما أو حلما. إذ تظهر فكرة الاشتراكية بالذات مع نشوء، الرأسمالية فقط حيث خلقت شروط بنائها لأول مرة. ومع ذلك، فليس الشرط الضرورى بنيويا كافيا بشكل حتمى. ولهذا لا يمكن أن نستنبط ببساطة انه بسبب أن الشروط البنيوية للاشتراكية قائمة فإن الاشتراكية يتحتم أن تتحقق. وإنما هى قد تتحقق فقط إذا ما نجح البشر فى احداثها عمليا. وليست هذه بأية حال نتيجة محتومة. ويذكرنا لوكاش- وهو محق فى ذلك- بأن لينين اعتقد أنه بالنسبة للرأسمالية لم يكن هناك "وضع لا يمكن الخروج منه. مع أنه أيا ما كان الوضع الذى قد تجد الرأسمالية نفسها فيه، فسوف تكون هناك دائما بعض "الحلول الاقتصادية" البحتة المتاحة" (لوكاش، 1971، 306).

وإذا كان الأمر كذلك، فإنه من الصعب قبول وصف ماركس لتطور المجتمعات كما لو كان عملية من التاريخ الطبيعى محكومة بقوانين مستقلة تقود بشكل حتمى إلى الشيوعية. فعلى الأقل لا يمكن أن يتصور الانتقال إلى الاشتراكية بهذا الشكل. وعلى النقيض مما نتوقع، تظهر كتابات ماركس السياسية الناضجة إدراكا متزايدا لعدم اليقين بمثل هذه العملية مقارنة بإشارات نظرية أكثر ميلا للحتمية فى بعض الكتابات الباكرة. بينما دافع ماركس وانجلز فى 1844 عن أن المسألة ليست هى ما يعتبره هذا البروليتارى أو ذاك، أو حتى البروليتاريا بأجمعها هدفها الخاص، إنها مسألة ما هى البروليتاريا، وماذا ، بالتوافق مع هذا الوجود، سوف تكون مجبرة على أدائه تاريخيا" (العائلة المقدسة، ص 44)، كذلك يؤكد ماركس بمناسبة الحرب الفرنسية- البروسية فى 1870 ومشيرا للطبقة العاملة الأوروبية أنهم:
"إذا تخلوا عن واجبهم، وبقوا سلبيين، فإن الحرب الهائلة لن تكون سوى نذير لعداوات دولية أكثر دمارا، سوف تؤدى فى كل أمة إلى انتصار مجدد على العمال من قبل أمراء الحرب، والأرض، ورأس المال (خطاب المجلس العام إلى أعضاء الأممية، الأممية الأولى ومابعدها، (ص 186).
وهكذا نجد أن الوصف القاطع للوعى الطبقى البروليتارى كتطور ضرورى مشتق من وجود البروليتاريا قد استبدلت به فكرة أن تحقيق الوعى الطبقى يعتمد إلى حد بعيد على مواقف وممارسات لا يمكن ضمانها ويجب أن تتطور وسط "ظروف شديدة الصعوبة" (ص 185).
ويطرح هنا سؤال عما إذا كان رفض النزعة الخطية أحادية المسار وإبدال نظرية للممارسة بها يحول العملية التاريخية إلى مسألة غير محددة عشوائية بدون عقلانية قابلة لأن تدرك، تاركة الماركسية هكذا فارغة (جيلنر، 1983 و 1984). لا أظن ذلك. ومع ذلك فالمسألة هى التحقق من ماذا تعنى العقلانية فى التاريخ. إنها لا يمكن أن تعنى معنى محتوما سابقا على الممارسة الانسانية، إلا إذا كنا نريد أن نعود للفلسفات الكلاسيكية التى عرضت التاريخ باعتباره تحققا للفكرة أو العقل أو العناية الالهية. كما تناول ذلك كوسيك بقوله:
ليس العقل شيئا يضعه التاريخ طوال مساره سابقا على الزمان، حتى يتبدى كعقل فى العملية التاريخية، ولكنه بالأحرى يشكل ذاته كعقل فى مجرى التاريخ. ووفقا لمفهوم العناية الالهية يشكل العقل التاريخ، وهو ذاته يتبدى تدريجيا فى تحقق التاريخ. وعلى نقيض ذلك، يرى المفهوم المادى، أن العقل إنما يتشكل فى سياق العملية التاريخية، ومن ثم، يكتسب التاريخ معقولية، فالتاريخ ليس عقلانيا بذاته وبصورة حتمية (كوسيك، 1976، ص 144).
فمعنى التاريخ ، إذن، ليس مستقلا عن البشر الذين يصنعون حياتهم عمليا. وهؤلاء البشر، عند تحقيقهم لأنفسهم ككائنات عملية لا يفعلون ذلك وفقا لخطة محتمة. وهكذا فمعنى التاريخ إنما يتشكل من خلال الفعالية العملية التى يحقق البشر من خلالها أنفسهم. ولكن، وكما أن هذه الفعالية العملية ليست حرة بشكل مطلق وإنما مشروطة بظروف مادية وعلاقات أنتجها البشر أنفسهم، فإن العقل فى التاريخ، أيضا، ليس محددا سلفا بشكل كلى وليس لانهائيا فى امكانياته.
ففى رسالة إلى ب. ف. أننكوف، يجادل ماركس بأنه "نتيجة هذه الحقيقة البسيطة، وهى أن كل جيل جديد يجد نفسه مالكا للقوى الانتاجية التى اكتسبها الجيل السابق- وأنها تخدمه على اعتبارها المواد الخام من أجل الانتاج الجديد، يقوم تماسك التاريخ البشرى" (رسالة 28 ديسمبر 1846، المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص ص 30-1). وهذا يعنى أن ثمة استمرارية فى الطريقة التى يصنع بها البشر التاريخ، إذ ليس عليهم أن يبدأوا مجددا فى كل مرة من لاشئ. ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن معنى التاريخ معطى فى الظروف المادية المتراكمة باستقلال عن الممارسات الانسانية. فأشكال الممارسة المتموضعة، وقوى الانتاج وعلاقات الانتاج المعطاة كلها أمور حاسمة فى نشوء التماسك فى التاريخ ولكنها تفعل ذلك فى حدود ارتباطها بالممارسة الانسانية فقط لأنه بالرغم من أنها تشرط الممارسة فإن الممارسة تغيرها أيضا وفى النهاية يمكن القول أن الممارسة الانسانية هى التى تعطى الشروط معنى. ومن ثم، فإن معنى التاريخ ليس شيئا معطى بل منتج بواسطة النشاط العملى المشروط للبشر. ومثل هذا المفهوم يستبعد فكرة وجود هدف نهائى يتحتم تحقيقه ويرفض مفهوم وجود دافع باطنى يقود التاريخ نحو غاية ضرورية. كما عبر عن ذلك فليشر بقوله:
ليس التاريخ تقدما نحو انسانية وحرية أعلى، وإنما هو تعبير عن الامكانية المتزايدة لمثل هذا التقدم فحسب. إذ يكمن الاحتمال المتأصل فى التاريخ بأسره فى حقيقة أن تحقق الممكن هو دائما مسألة مبادرات حرة وتركيبات خلاقة، وأن نوعيتها ونجاحها ليس مضمونين مقدما (فليشر، 1973، ص 80).
ومن خلال هذا السياق يمكننا أن نفهم لماذا لايمكن حل التضارب عند ماركس فيما يتعلق بنتائج الاستعمار فى آسيا وأيرلندا نهائيا وعلى نحو حاسم فى أى من الاتجاهين المذكورين فى نهاية الفصل الأول. فقد كان الاختيار هو اختيار بين إمبريالية تعزز تطور قوى الانتاج أو إمبريالية تشكل عقبة فى وجه تصنيع العالم الثالث. وقد كان الرأى الأخيرهو الموقف التقليدى منذ 1928، بينما حاول وارين حديثا(1980) أن يعيد إحياء الموقف الأول. ولا يتناسب أى من هذين الموقفين المتطرفين، مع مادية تاريخية أعيد بناؤها. لأنهما يقترحان مجرى ثابتا للتاريخ يبدو محتما بشكل سابق على أى تحليل عينى. وكما بينت فى الفصل الثالث، فإن تجربة بلدان العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية تتمثل فى أنه بالرغم من أن الإمبريالية لم تفض إلى تصنيع البلدان التابعة فإنها لم تمنع بشكل مطلق تطور قواها الانتاجية. وإنه لمما يثير السخرية، أن ندافع، كما يفعل وارين، عن أن الإمبريالية نافعة فى كل مكان، ولكن من ناحية أخرى من المستحيل إنكار وجود عملية ديناميكية إلى حد ما فى التطور التابع لبعض بلدان العالم الثالث. ويمكن أن تتعايش هاتان الإمكانيتان جنبا إلى جنب لأن الامبريالية لا يمكن أن تفهم كإملاء خارجى محض ينتج نتائج متشابهة فى كل مكان، ولكن، كما ذهب كاردوسو وفالتو (1979). فالامبريالية تحدث تأثيرها وتمارس نفوذها دائما من خلال التمفصل مع الصراع الطبقى الداخلى فى بلدان العالم الثالث.

المعتقدات الأساسية لمادية تاريخية أعيد بناؤها

ربما يكون مفيدا فى نهاية هذا المؤلف أن نلخص أهم المبادئ فيما تقترحه مادية تاريخية أعيد بناؤها والمنظور النوعى الذى تسهم به فى العلوم الاجتماعية. ولتحقيق ذلك سوف أعتبر أربع نطاقات مترابطة داخليا أو وجهات نظر هى: المجتمع، والوعى، والتاريخ والفرد.
المجتمع :
1- ليس المجتمع مجموعا بسيطا للأفراد "ولكنه يعبر عن مجمل العلاقات الداخلية، العلاقات التى يتعامل من خلالها هؤلاء الأفراد" (الجروندريسه، ص 265). ولكن هذا المفهوم يجب أن يستكمل بفكرة أن المجتمع أيا كان شكله هو "نتاج فعل البشر التبادلى" (رسالة إلى ب.ف. أنتكوف، 28 ديسمبر 1846، المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص 30). إذ يدخل البشر فى علاقات اجتماعية أثناء عملية انتاج حياتهم عمليا.
2- لعله من الضرورى من أجل فهم المجتمع أن ننظر أولا وقبل أى شئ إلى عملية الانتاج، وهى العملية التى بواسطتها يغير الأفراد الطبيعة، ورغم أن الأفراد هم الذين يقومون بها، إلا أنها فى نفس الوقت عملية تعاونية أو اجتماعية.
3- لا ينبغى أن يحلل لا المجتمع ولا الانتاج "بصفة عامة" ولكن يجب أن يقيما فى "شكل تاريخى محدد".
4- يقدم مفهوم "نمط الانتاج"، مفتاح التحليل التاريخى للمجتمع ويتضمن اقتران نظام نوعى من علاقات الانتاج بمستوى معين لقوى الانتاج.
5- يشمل نظام علاقات الانتاج شكلين نوعيين، واحد للسيطرة على وسائل الانتاج والآخر، لانتزاع فائض القيمة. وهو يحدد بالتالى تمييزا طبقيا نوعيا بين المنتجين المباشرين وهؤلاء الذين يسيطرون على وسائل الانتاج، والنظام السياسى والقانونى يؤمن كل من ملكية وسائل الانتاج وانتزاع فائض العمل.
6- تبدأ المادية التاريخية بتحليل نمط الانتاج الرأسمالى الذى يمكن أن تطور منه المفاهيم والرؤى اللازمة لتحليل أنماط انتاج أخرى.

7- مفهوم نمط الانتاج هو أداة تحليلية مجردة تتيح تحليل التشكيلات الاجتماعية العينية. ومن ثم فإن نمط الانتاج ليس "مرحلة تاريخية" ولا يمكن لنا أن نشتق من منطقه الداخلى التطور العينى والتقدم المتوقع لمجتمع محدد. ويلاحظ أن معظم المجتمعات العينية تمتلك أكثر من نمط انتاج فى وقت واحد.
8 - تشكل علاقات الانتاج وقوى الانتاج المحددة بواسطة الاقتران النوعى لأنماط انتاج قائمة فى سعى مجتمع معين، المجمل الأساسى للظروف التى تحدد شروط حياة الأفراد وممارساتهم. ولكن يمكن للأفراد أن يغيروا هذه الظروف ضمن جملة من الخيارات المحددة التى تتيحها ذات الظروف. فليس التغير الاجتماعى من ثم اعتباطيا من ناحية، ولا محتوما سلفا على نحو مطلق من ناحية أخرى.

الوعى
1- ينتج الوعى الاجتماعى فى سياق الممارسات الاجتماعية وهو ليس مجرد انعكاس لما يبدو أنه واقع موضوعى ولكنه يستبق نتائج الممارسة.
2- طالما أن الطبقة الحاكمة هى القوة المادية الحاكمة للمجتمع "فإن أفكار الطبقة الحاكمة هى، فى كل مرحلة، الأفكار السائدة" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 95).
3 - تكشف المادية التاريخية عن شكل معين من الوعى المشوه االذى يخفى التناقض ويسمى الأيديولوجيا. ولا يجب أن نخلط الأيديولوجيا بالأفكار السائدة. فليس من شأن الأفكار السائدة جميعا أن تخفى التناقض بالضرورة.
4 - بالرغم من أن كل أيديولوجيا تخدم مصالح الطبقة الحاكمة، لأن إخفاء التناقض يساعد على إعادة انتاج تلك المصالح، لكن ذلك لا يعنى أن الطبقة الحاكمة فقط هى التى تنتج الأيديولوجيا. إذ يمكن لكل الطبقات بما فيها البروليتاريا أن تنتج الأيديولوجيا لأنها منخرطة فى "نمط للنشاط مادى ومحدود".
5 - كل الأفكار محددة اجتماعيا ولكن ليس كل الأفكار أيديولوجيا.
6 - التحدد الاجتماعى للوعى هو عملية مستمرة من إعادة إحياء الأعمال الثقافية والفنية فى سياق ممارسات جديدة. وصحة الأفكار ليست مقصورة على الوضع الاجتماعى الذى نبعت منه.
7 - يختلف العلم عن الحس العام فى السعى إلى اختراق ظواهر الواقع من أجل الوصول للعلاقات الداخلية ويستتبع هذا انشاء مفاهيم ونماذج ليس لها مرجع تجريبى مباشر.
8 - لا يدعى منهج المادية التاريخية امتلاك أى "منطق جدلى" خاص ويمكن أن يقال أن المادية التاريخية جدلية فقط إلى الحد الذى يكون فيه موضوع دراستها جدليا. والواقع الجدلى الذى يتحرك فى شكل تناقضى يمكن ويجب أن يدرس وفقا لقواعد المنطق الشكلى.

التاريخ
1- ليس هناك معنى شامل كامن أو غاية ضرورية للتاريخ. "ليس التاريخ شيئا سوى نشاط البشر فى متابعة أهدافهم" (العائلة المقدسة، ص 110). وليس التاريخ تحققا لخطة مقدرة سلفا.
2- "يصبح" التاريخ عقلانيا من خلال الفعالية العملية التى يمارسها البشر. ومن ثم، فنشاط البشر العملى هو الذى يعطى التاريخ معناه. وليست هناك عقلانية مؤسسة مسبقا للتاريخ.
3- ليست المادية التاريخية نظرية غائية. فهى لا تعتقد أن ثمة هدفا نهائيا محتم الحدوث، ولا هى تعتقد فى دافع طبيعى وباطنى يدفع التاريخ إلى الأمام.
4- ترفض المادية التاريخية المفهوم الخطى الأحادى المسار الذى يرسم "الطريق العام للتطور الذى يرسمه القدر لكل الأمم" (المراسلات المختارة لماركس وانجلز، ص 293).
5- يكتسب البشر كينونة فردية خلال سيرورة التاريخ ولكن لايمكن أن يستنبط التاريخ من الطبيعة الانسانية أو الجوهر الانسانى.
6- ليس التقدم فى التكنولوجيا وفى نوعية العلاقات الاجتماعية شيئا كامنا فى التاريخ ولكنه إمكانية تعتمد على الممارسة الانسانية حينما تتوافر الظروف الاجتماعية المناسبة.
7- بالرغم من أن التناقض أساس التغير التاريخى بالنسبة لأغلب تاريخنا الحضارى، فإن المادية التاريخية لا تدافع عن أن كل تغير تاريخى يسببه التناقض والصراع الطبقى. لقد كان هذا هو الحال فقط بالنسبة للمجتمعات التى هيمنت فيها أنماط الانتاج التناحرية وبالنسبة للتغيرات الاجتماعية الكبرى فقط.
8- يصنع البشر التاريخ حتى لو لم يدركوا أنهم يصنعوه. وحتى لو لم يسيطروا على نتائجه. وعلى أية حال، فالمادية التاريخية تطرح فكرة أنه من الممكن للبشر الآن أن يصنعوا التاريخ بشكل واع بتجاوز كل أشكال الهيمنة الطبقية وبأن يسيطروا جماعيا على علاقاتهم الاجتماعية.
1 - رغم أن المادية التاريخية ليست فى المقام الأول نظرية حول الفردية، فإن كثيرا من النتائج بالنسبة لمفهوم الفرد يمكن أن تشتق منها. كبداية، تؤكد المادية التاريخية الجانب الفاعل للأفراد. إذ لا يعيد البشر بواسطة الممارسة انتاج حياتهم المادية والمجتمع الذى يعيشون فيه فحسب بل هم أيضا يغيرون، فى نفس الوقت "طبيعتهم ذاتها" بواسطة "التأثير فى العالم الخارجى وتغييره" (رأس المال، المجلد الأول، ص 173).
2 - ولكن البشر لا يتصرفون كليا وفقا لإرادتهم الحرة، إذ إنهم مشروطون بالمنتجات المتموضعة لممارستهم الخاصة: فهم يولدون داخل علاقات اجتماعية معينة لم يختاروها ويتلقون قوى انتاج معينة من الماضى.
3 - رغم أن الظروف تحدد شروط حياة البشر، فإن باستطاعتهم أن يغيروا الظروف وهذا ما يمكن فهمه كممارسة ثورية.
4 - يستطيع البشر أن يكتسبوا كينونة فردية لأنفسهم فقط وسط المجتمع (الجروندريسه، ص 84) وخلال عملية التاريخ (الجروندريسه، ص 496).
5 - تجد المادية التاريخية فى التاريخ عملية الاتجاه إلى التفردية التى جرت ضمن علاقات اجتماعية أكثر تطورا وأكثر تعقيدا على االدوام. ففى البداية، لم يكن للفرد تقريبا أية أهمية، وكان البشر مدمجون كلية فى العشيرة والقطيع ثم تابعون شخصيا لسيد أو إقطاعى فيما بعد. لكن مع الرأسمالية بدأ الأفراد يكتسبون استقلالا شخصيا هو رغم ذلك "مؤسس على التبعية الموضوعية". أى على " علاقات اجتماعية أصبحت مستقلة والآن تدخل هذه العلاقات فى تعارض مع مايبدو أنه الأفراد المستقلين... بطريقة يبدو فيها الأفراد محكومون بواسطة التجريدات "بينما كانوا فى السابق يعتمدون الواحد منهم على الأخر" (الجروندريسه، ص 164).
6 - تقترح المادية التاريخية فكرة أن مرحلة ثالثة ممكنة فى عملية التفردية هى مرحلة: "الفردية الحرة المؤسسة على التطور الشامل للأفراد وعلى سيطرتهم على انتاجيتهم الاجتماعية والجماعية وكذلك على ثروتهم الاجتماعية (الجروندريسه، ص 158). وعلى أية حال، فبالرغم من أن المرحلة الرأسمالية الثانية تخلق شروط الثالثة. فليست هذه عملية آلية بل هى مطروحة أمام الممارسة الانسانية لانجازها، فهى مهمة قد يخفق الأفراد فيها.
7 – لاتقترح المادية التاريخية جماعية مقبلة يذوب الفرد فيها فى الجماعة وانما مجتمعا يكون فيه التطور الحر لكل فرد شرطا للتطور الحر للجميع .
8 - لا تقترح المادية التاريخية "نزعة انسانية طبقية" بالتعارض مع الحرية الشخصية (ألتوسير). وإنما تتصور المادية التاريخية الطبقة باعتبارها ذات "وجود مستقل ضد الأفراد. إذ أن هؤلاء الأفراد يجدون شروط حياتهم محددة سلفا... وهكذا يصبحون مصنفين تحتها" (الأيديولوجيا الألمانية، ص 77). ومن ثم تسعى المادية التاريخية لتحرير الأفراد بالقضاء على الطبقات جميعا بما فيها البروليتاريا.



#سعيد_العليمى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل أفاق أصحاب الوهم الدستورى ؟
- حزب العمال الشيوعى المصرى وقواعد العمل السرى فى ظل الدولة ال ...
- فى معنى المقاطعة الايجابية النشطة فى العام الثانى للثورة
- فى ذكرى رحيل مناضل : الشاعر حسن عقل وحلمه
- ثلاث صور
- حزب العمال الشيوعى المصرى وقواعد العمل السرى فى ظل الدولة ال ...
- حزب العمال الشيوعى المصرى ومسألة الحب الحر *
- البورجوازية البيروقراطية بين الفهم الماركسى وشعوذة المتمركسي ...
- حول قرار إلغاء حالة الطوارئ فى مصر هل يغير شيئا ؟ ملاحظات مو ...
- هل تجاوزنا أزمة غياب القيادة الثورية ؟
- حول تاريخية التوراة والبحوث الآثارية
- الموقف من تشكيل الأحزاب الدينية
- الرأى الربانى فى مشروع الدستور الإخوانى
- كيف توظف ردود الأفعال - عن شارلى إبيدو
- الحذلقة فى الحلقات الثورية ف . ا . لينين
- لم تكن بينى وبين عيون إيتى إستر رولو بندقية ( 1 )
- ماركس ومفاهيمه الأولية عن الثورة المضادة
- عشاق أفنيون - إلزا تريوليه ( النص كاملا )
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى فى القضية الوطنية فى مرآة الإ ...
- ماركسيون لاقوميون يساريون - ردا على جينارو جيرفازيو ( النص ك ...


المزيد.....




- رصدته كاميرا بث مباشر.. مراهق يهاجم أسقفًا وكاهنًا ويطعنهما ...
- زلة لسان جديدة.. بايدن يشيد بدعم دولة لأوكرانيا رغم تفككها م ...
- كيف تتوقع أمريكا حجم رد إسرائيل على الهجوم الإيراني؟.. مصدرا ...
- أمطار غزيرة في دبي تغرق شوارعها وتعطل حركة المرور (فيديو)
- شاهد: انقلاب قارب في الهند يتسبب بمقتل 9 أشخاص
- بوليتيكو: المستشار الألماني شولتس وبخ بوريل لانتقاده إسرائيل ...
- بريجيت ماكرون تلجأ للقضاء لملاحقة مروجي شائعات ولادتها ذكرا ...
- مليار دولار وأكثر... تكلفة صد إسرائيل للهجوم الإيراني
- ألمانيا تسعى لتشديد العقوبات الأوروبية على طهران
- اكتشاف أضخم ثقب أسود في مجرة درب التبانة


المزيد.....

- عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها / عبدالرزاق دحنون
- إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا ) / ترجمة سعيد العليمى
- معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي / محمد علي مقلد
- الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة ... / فارس كمال نظمي
- التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية / محمد علي مقلد
- الطريق الروسى الى الاشتراكية / يوجين فارغا
- الشيوعيون في مصر المعاصرة / طارق المهدوي
- الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في ... / مازن كم الماز
- نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي / د.عمار مجيد كاظم
- في نقد الحاجة الى ماركس / دكتور سالم حميش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - في نقد الشيوعية واليسار واحزابها - سعيد العليمى - إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا )