أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد زكريا توفيق - هذا هو جسدي، فهل من مشترٍ















المزيد.....

هذا هو جسدي، فهل من مشترٍ


محمد زكريا توفيق

الحوار المتمدن-العدد: 7103 - 2021 / 12 / 11 - 03:58
المحور: الادب والفن
    


نحن الآن في عام 1963م. وهو العام الذي تخرجت فيه من الجامعة. نزلت إلى القاهرة لتأدية امتحان شفهي في هيئة الأرصاد الجوية للعمل في مرصد حلوان، وهي وظيفة تناسب مؤهلي العلمي.

بعد أن أديت الامتحان، فكرت في زيارة صديقي وبلدياتي سامي، وكان لا يزال طالبا في السنة النهائية في نفس الكلية التي تخرجت منها. كان يسكن مع طالب آخر في أحد غرف شقة بالدور الخامس، بعقار قديم يقع في حي خلف الكلية.

الشقة مكونة من خمس غرق وصالة كبيرة ومطبخ صغير ودورة مياه واحدة. الغرف كلها مؤجرة للطلبة. كل غرفة بها طالبان. لكل منهما مكتب صغير وسرير سفري صغير. يشتركون جميعا في استخدام دورة المياه والمطبخ.

الوقت كان وقت غروب، ونحن في نهاية فصل الخريف وبداية الشتاء. عندما وصلت، كان عند سامي ضيف شاب اسمه مدحت، لا يزال طالبا في أحد الكليات العسكرية. عندما علم أنني قد تخرجت من كلية العلوم التي يدرس بها سامي، أخذ يحدثنا بغرور متناهي واحتقار وتعالي.

لأنه في ذلك الوقت، كان النظام الاشتراكي السياسي في مصر، يحدد مرتبات خريج الجامعة بمبلغ 20 جنيها. أما الكليات العسكرية، فخريجها يزيد مرتبه، أول تعيين، عن 50% عن مرتب خريجي الجامعات الأخرى.

كذلك، يركب طالب الكليات العسكرية القطارات والمواصلات العامة درجة أولى بالمجان، أما باقي طلبة الكليات الأخرى، فيركبون القطارات درجة ثانية بأجرة مخفضة. لكن لماذا هذه التفرقة؟ لا أدري.

ربما يكون لأننا قد تعودنا على الذل وحكم الأسياد. بالرغم من استقلالنا وحكمنا لأنفسنا منذ عام 1952. لقد طالت عصور استعمارنا واستغلالنا ومص دمائنا، حتى أصبح الشعور بالدونية معششا في عقولنا ومرسوما في جيناتنا. وإن لم نجد من يستعبدنا ويسوقنا كالبعير، استعبد بعضنا البعض.

أثناء وجود هذا الضيف، أبو دم ثقيل، جاء طالبان من الغرف المجاورة بالشقة. جلسا معنا وتعارفنا. بدأ الحديث عن الدراسة والتخرج والمستقبل. ثم جنح إلى موضوع الحب، فكلنا شبان غير متزوجين. وبدأ كل منا يحكي عن إنجازاته وتجاربه الناجحة أو الفاشلة في العشق والهيام ومغازلة البنات والايقاع بالسيدات.

وإذ يفاجئنا مدحت، طالب الكلية العسكرية، باقتراح مريب. وهو إحضار إمرأة بغي يعرفها. نمارس معها الرزيلة، ونشترك جميعا في سداد أجرتها، والتي كانت لا تزيد عن خمسين قرشا في ذلك الوقت.

بالطبع قد تكهرب الجو، ورفض زميل سامي في الغرفة الاشتراك. ورفضت أنا بدافع الخوف والقرف. إذ كيف يشترك أربعة شبان أو خمسة في النوم مع امرأة واحدة بهذه الطريقة المقززة؟

بالرغم من إصراري على الرفض، ظل مدحت يلح ويطلب مني مرافقته والذهاب معه لإحضار المومس التي يعرف دارها، فهو بالرغم من ملابسه المدنية، لا يريد أن يذهب بمفرده، حتى لا يراه أحد وتسوء سمعته. أخيرا، بدافع الفضول، وتحت ضغط الموجودين، وافقت على مرافقته.

أخذني مدحت وسرنا في حواري ضيقة خلف العمارة التي يسكن بها سامي صديقي. بعد حوالي عشين دقيقة سيرا على الأقدام، وقف مدحت أمام بيت قديم مكون من دور واحد، ينخفض مدخله عن أرض الحارة بقدم على الأقل.

بعد الطرق والانتظار مدة طويلة، فتحت الباب امرأة في منتصف العمر. تلبس ملابس منزلية قديمة. نظرت يمينها ويسارها في الحارة الخالية من المارة، وطلبت منا الدخول بسرعة قبل أن يرانا أحد.

دخلنا كاللصوص، وأغلقت خلفنا الباب. وجدت نفسي في صالة بلاط مظلمة، لم تمسح أو تكنس قط. يتراكم على أرضها شبر تراب. على يمين الباب غرفة، بابها طويل ومغلق بقفل كبير. دخل عبده مع المرأة غرفتها، ليخبرها بسبب الزيارة، ويطلب منها أن تأتي معه.

بينما كان يراودها ويتفق معها على الأجر، نظرت إلى غرفتها من الداخل. الغرفة بها نافذة واحدة مقفلة على الدوام بالشيش وبها قضبان حديدية، لأن الغرفة في الدور الأرضي.

يغطي جزء كبير من زجاج النافذة المكسور، ورق جرائد قديمة صفراء اللون. الغرفة تستخدم كمخزن أثاث، مليئة بالعفش والموبيليا القديمة حتى السقف. الرطوبة عالية ورائحة العفن تزكم الأنوف.

لم يبق من مساحة الغرفة غير طرقة بعرض متر، تمتد من الباب حتى الحائط المقابل. في الركن موقد كيروسين بريموس متهالك، وبراد شاي وحلة وبعض الأطباق والأدوات المنزلية الصاج.

يتدلى من السقف سلك كهرباء طويل عليه أثار الذباب، في نهايته مصباح كهربي، يرسل ضوء برتقالي ضعيف. ثم مخدة وفرشة ولحاف، تفرده المرأة في الطرقة لتنام على الأرض. ولا شيء غير ذلك.

ارتدت المرأة ملابسها على عجل. وطلبت منا السير أمامها حتى تعرف مكان الشقة. طول الوقت، ومدحت يحاول إقناعي بالمشاركة. كل واحد ح يدفع عشرة صاغ بس، المجموع خمسون قرشا.

كنت أفكر في الهرب. الفكرة لم تكن تروقني أبدا. لا بسبب وازع ديني، ولكن كان هناك شيء داخلي يمنعني من التصرف كالحيوانات وكلاب الشوارع. وبالرغم من هذا، قررت البقاء بدافع الفضول لمعرفة ماذا سيحدث.

وصلنا إلى العمارة، ودخلنا الشقة، ثم الغرفة والمرأة تتبعنا. كانت مثل فريسة بائسة وقعت في عش الزنابير. العيون الجائعة تكاد تفترسها افتراسا قبل أن تلمسها. جلست هي على أحد السريرين في الغرفة، وأخذت تهز رجليها بطريقة عصبية، وهي تنظر إلى الأرض.

المرأة كانت في الأربعينيات. نحيفة ومتوسطة الجمال. صبغة الشعر لا تخطئها العين. العطر الرخيص الممزوج بالعرق يهب من حين إلى آخر، يثير الغثيان. عيناها لا تفارقان الأرض، إلا عندما تريد الكلام. تبدو عليها علامات الهم والحزن الشديد.

بينما هي جالسة على السرير تهز جليها من حين لآخر، لمح مدحت شريط طبي لاصق على ساقها الأيسر. فصرخ فيها بعصبية قائلا: "إيه ده؟"

أجابت المرأة وهي في حالة ذعر: "ده، ده، شريط طبي، وما فيش حاجة"، ثم قامت بنزع الشريط من على ساقها وهي تقول: "ده مجرد جرح. وأنا ماشية في الغرفة، رجلي خبطت في الكرسي جرحها"

لكن مدحت لم يقتنع، وبادرها قائلا: "لا، لا. أنتِ تروحي مع السلامة. قومي فذي روحي"

حاولت المرأة إقناعه بأن رجلها سليمة، ولا داعي للخوف من أي مرض معد يكون لديها، لكن بدون فائدة. فقامت تترنح، وسارت ببطء إلى باب الشقة، ونزلت السلالم وهي منكسة الرأس، كالتلميذ الذي رسب في الامتحان.

وقف مدحت يسب ويلعن المرأة، يتباها أمامنا بفحولته وبطولته التي أنقذتنا من كارثة محققة. وهي إحتمال إصابتنا بمرض جنسي.

لم تتحمل أعصابي هذا الموقف. فألقيت السلام وتركت الشقة حتى ألحق بالقطار المتوجه من القاهرة إلى بلدتي. أثناء نزولي على سلالم العمارة، وجدت المرأة جالسة على أحد السلالم تبكي.

رأفت بحالها، فهي رغم كل هذا، إنسانة بائسة. قلت لها لماذا تبكين، فقالت وهي تمسح دموعها: "لي يومين لم أذق فيهما طعم الأكل، وليس معي من النقود شيئا. كنت منتظرة فلوسكم آكل بيها. فتعجبت من حالها، وأخرجت من حافظتي شيئا من النقود، أعطيتها لها.

عندما جلست في القطار بجوار النافذة، مع هبات النسيم وأنا عائد إلى بلدتي، تعجبت من قسوة الحياة بالنسبة للفقراء وكبار السن. فلم يكن في ذلك الوقت نظام المعاشات (معاش الرئيس السادات) قد بدأ.

فكرت في هذه المرأة، التي تعيش وحيدة بمفردها، ولا تجد من يعولها. تعيش في طرقة، مساحتها متر في مترين مثل القبر. تحاول أن تبع جسدها لكي تعيش وتظل على قيد الحياة، لكن لا تستطيع.

أن تضطر المرأة لبيع جسدها، لكي تعيش، هو أمر مؤسف حقا. لكن قمة المأساة تتأتى، عندما لا تجد المرأة من يشترى هذا الجسد، الذي أنهكته الأيام والخطوب.



#محمد_زكريا_توفيق (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الإصلاح الديني يبدأ بالأزهر
- الصراع المرير بين الدين والعلم
- أي جانب من أجدادك قد انحدر من القرود
- أحمد عبده ماهر وحكاية الفيل
- الذئب والحمل
- الثعلب والغراب
- المسرح الإغريقي
- أوريستيا - ثلاثية أسخيلوس – ربات الغضب
- نص - ثلاثية أسخيلوس – حاملات الشراب
- أوريستيا - ثلاثية إسخيلوس – حاملات القرابين
- أثينا (منيرفا)، ابنة زيوس
- قصص وحواديت من العالم القديم (27/27) شارلمان
- قصص وحواديت من العالم القديم (26) نهاية الإمبراطورية الغربية
- قصص وحواديت من العالم القديم (25) ثيودوسيوس العظيم
- قصص وحواديت من العالم القديم (24) قسطنطين العظيم
- قصص وحواديت من العالم القديم (23) بداية الاضمحلال
- قصص وحواديت من العالم القديم (22) تراجان
- قصص وحواديت من العالم القديم (21) نيرون
- قصص وحواديت من العالم القديم (20) تيبيريوس، كاليجولا
- قصص وحواديت من العالم القديم (19) أنطونيو وكليوباترا


المزيد.....




- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...
- الرئيس الايراني يصل إلي العاصمة الثقافية الباكستانية -لاهور- ...
- الإسكندرية تستعيد مجدها التليد
- على الهواء.. فنانة مصرية شهيرة توجه نداء استغاثة لرئاسة مجلس ...
- الشاعر ومترجمه.. من يعبر عن ذات الآخر؟


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد زكريا توفيق - هذا هو جسدي، فهل من مشترٍ