أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمود الصباغ - أرض رأس المال، تاريخ الولايات المتحدة كتاريخ الرأسمالية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية الأمريكية: تاريخ الولايات المتحدة-- القسم الثاني















المزيد.....



أرض رأس المال، تاريخ الولايات المتحدة كتاريخ الرأسمالية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية الأمريكية: تاريخ الولايات المتحدة-- القسم الثاني


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 7080 - 2021 / 11 / 18 - 08:04
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


ترجمة: محمود الصباغ
لم تكن المفاجأة الكبرى في العام 2016 هي صعود دونالد ترامب وانتخابه، فذلك مسار وصت اسسه منذ أكثر من نصف قرن تقريباً على أيدي باري غولد ووتر وجورج والاس ورونالد ريغان وبات بوكانان ونيوت غينغريتش ورئيسين من عائلة بوش، بل أن المفاجأة الكبرى كانت في ظهور بيرني ساندرز الاشتراكي الديمقراطي الفخور بذلك، الذي انصب اهتمامه السياسي على الرأسمالية -لا سيما في شكلها المؤسسي- الذي وصفه بوضوح وحمّله مسؤولية ما ابتليت له البلاد من تفاوتات الاقتصادية، وظلم الاجتماعي، وتركيز السلطة، وإهمال الصحة العامة إلى حد كبير. وقد سعى ساندرز للحصول على دعم الحزب الديمقراطي، بدلاً من الترشح منفرداً أو كطرف ثالث، على الرغم من أنه يعرّف بأنه شخصية مستقلة في مجلس الشيوخ. علماً أنه لم تقم أي شخصية سياسية اشتراكية بمثل هذا من قبل، وربما كان يتوقع، المرء، خروجا سريعاً له من حلبة السباق الرئاسي، فقد فعلت ذلك هيلاري كلينتون بالتأكيد. غير أن ساندرز، وكما نعلم جيداً، اجتذب أتباعاً جماهيرية، خاصة بين الشباب، مما يدل، كما يبدو، على أن الاشتراكية لم تعد لعنة أو أن الرأسمالية مقدسة. ونتيجة لكل هذا، أثبت العام 2016 أنه لحظة رائعة في التاريخ السياسي الأمريكي، بل ربما كان لحظة ذات دلالة مميزة في تاريخ الرأسمالية الأمريكية.
احتفظ الرأسمالية بعلاقة غريبة بتاريخ الولايات المتحدة. ففي حين أن معظم مجتمعات العالم الأورو-أطلسي حددت تاريخها، على الأقل جزئياً، حول انتقالها من الإقطاع إلى الرأسمالية أو مواجهاتها المعقدة (والمتفجرة في كثير من الأحيان) مع الرأسمالية، فإن تاريخ المستعمرات البريطانية في أمريكا الشمالية ( التي سوف تصبح الولايات المتحدة الأمريكية)، يفترض التزامن في الأصول على وجه العموم. وبوسعنا أن نذكر، هنا، ما كتبه المؤرخ كارل ديغلر ذات مرة بأن الرأسمالية أتت إلى أمريكا الشمالية "على متن السفن الأولى"، وبقدر ما يبدو ذلك على قدر من التبسيط، بقدر ما بدو ايضاً أنه يستوعب إحساساً أوسع بأن الملكية الخاصة، والاستحواذ- الجشع، والنزعة الفردية هي الأسس التي بُنيت عليها هذه الدولة. كما أكّد بعض المؤرخين على الصراعات بين الأشكال المختلفة للرأسمالية -التجارية والزراعية والصناعية والشركات- ولكن نادراً ما اعتبرت الرأسمالية في الولايات المتحدة مشكلة تاريخية، باستثناء، ربما، عقدين من الزمن عندما برزت الكتابات ذات الطابع التاريخي الاجتماعي. فقد صاغ لويس هارتز تاريخاً كاملاً لـ "التقليد الليبرالي" في الولايات المتحدة حول غياب الماضي الإقطاعي، وفي حين أن هذه النظرة المسماة "بالإجماع" للتاريخ الأمريكي سرعان ما تعرضت لهجوم شرس على يد الباحثين، فقد لاقت رؤية انفصال تاريخ الولايات المتحدة عن الإقطاع الأوروبي قبولاً، بشكل عام. ومع صعود الليبرالية الجديدة ونهاية الحرب الباردة، اختفت الرأسمالية تقريباً كونها موضوعاً مثيراً للسخرية إلى حد ما، بالنظر إلى الهيمنة التي بدا أن الرأسمالية تحققها في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، فقد أثبت انهيار العام 2008 أنه بمنزلة دعوة علمية واجتماعية واقتصادية للاستيقاظ. واكتسبت دراسة الرأسمالية الأمريكية اهتماماً جديداً وسرعان ما أنتجت الصناعات الصغيرة اللامركزية أو الصناعات المنزلية cottage industries حول تاريخ العبودية، وظهور الأدوات المالية، والاستغلال العنصري الذي بدت تزدهر به الرأسمالية الأمريكية منذ فترة طويلة. ظهرت العديد من القطع -معظمها أحادية ومفسرة بشكل ضيق- لما يمكن أن تكون قصة جديدة كبيرة تتناثر في المجال الأكاديمي، وتثير أسئلة استفزازية غالباً ما تكون منفصلة عن الزمان والمكان. ويعد كتاب جوناثان ليفي "عصر الرأسمالية"، واحداً من أولى الأعمال الكبيرة والتركيبية التي جمعت الكثير من الاهتمام الجديد والتوجه التفسيري لهذا المجال من تاريخ الرأسمالية، وبالتالي سد حاجة فكرية مهمة. إنه كتاب طموح ومثير للإعجاب، وهو عبارة عن قطع أكثر مما هو متوقع من الأدبيات الحديثة، ليس فقط في نطاقه، بل أيضاً في تأكيده على بناء طيف تاريخي قائم على مفاهيم واضحة المعالم. وقد يتشارك هذا الرأي أيضاً مع وجهة النظر الأقدم المذكورة أعلاه، أي، نظرة "الإجماع"، تكثر مما يظن أو يهتم به ليفي نفسه أو العديد من الباحثين الآخرين الذين يتبنون وجهات نظره بالتفكير.
يشرح ليفي، على عكس الكثيرين الذين كتبوا عن تاريخ الرأسمالية الأمريكية، كيف ينبغي تعريف الرأسمالية، ويحدد مراحل تطورها والتغيرات الجغرافية. ولا يقدّم، على عكس العديد من أقرانه أيضاً، مجرد تاريخ "اقتصادي": بل أن كتابه عبارة عن دراسة للاقتصادات السياسية المتغيرة والمظاهر الثقافية المصاحبة (باستثناء الدين). وفي الواقع، فإن بعض أفضل الصفحات التي تقع في النصف الأول الكتاب مكرسة للأدب والفكر الاجتماعي والثقافة الشعبية، وللطرق التي واجه بها الأمريكيون التحديات التي أظهرتها العلاقات والقيم الرأسمالية والطرق التي أعادت، من خلالها، الرأسمالية تشكيل ملامح الحياة اليومية. ويبدو أن يمتلك ليفي فهماً للنظرية الاقتصادية التي يجب أن ترضي حتى القراء المتشككين في مجال الاقتصاد، بجانب منظور تاريخي غني يفتقر إليه الاقتصاديون عموماً، إن لم نقل، يرفضوه. وعلى الرغم من التجاوزات العلمية الحالية، فقد فُهمت الرأسمالية بعدة طرق: إما بوصفها شكل من أشكال الاستغلال في العمل واستخراج الفائض، أو خصخصة للممتلكات وتوسيع تداول السلع؛ أو شبكة إنتاج وتبادل كبيرة ومترابطة بشكل متزايد؛ وبما أن جميع هذه الأشياء مجتمعة في أبعاد متعددة. فقد أصر إيمانويل والرشتين، ومؤخراً سفين بيكيرت، على فهم الرأسمالية كنظام عالمي ذي أجزاء معقدة ومتباينة. لا يتعامل ليفي مع هذه التفسيرات. ربما لمنفعة القراء غير المختصين، بل هو يبث في الكتاب أفكاره الخاصة بكل بساطة. فهو يقول أن الرأسمالية هي "رأس المال". و لئلا يتخيل أي شخص أن هذا مجرد حشو، فهو يشرح أن رأس المال ليس شيئاً بل "عملية- سيرورة" يتم فيها تشبع الأصل القانوني بقيمة مالية نظراً لقدرته على تحقيق مكاسب مستقبلية. ليس هذا هو دافع الربح فقط، الذي يعترف ليفي بأنه موجود منذ الأزل؛ بل على الأخص، شكل محدد تاريخياً للاستثمار يمتلك فيه المال والائتمان والتمويل مكونات حاسمة، وتكون النتيجة هي تمكين مالكي رأس المال (أي الرأسماليين).
يقدم ليفي في مقدمة الكتاب تفسيره -بما في ذلك بروز أنواع مختلفة من السيولة- على شكل ثلاث "أطروحات"، على الرغم من صعوبة العثور على أطروحة عامة أو حجة تمتد عبر بقية الكتاب. ويزعم، بالإضافة إلى ما سبق، بإمكانية تقسيم التاريخ الرأسمالي الولايات المتحدة إلى أربعة "عصور" مع تضييق فترات التسلسل الزمني بشكل مطرد. ويطلق على القسم الأول اسم "عصر التجارة"، الذي يأخذنا من إعادة تنظيم بريطانيا لمستعمراتها في أمريكا الشمالية إلى انفصال الولايات التي تملك العبيد: ويستغرق هذا القسم نحو قرنين كاملين. ويسمي القسم الثاني بـ "عصر رأس المال"، الذي بدأ خلال الحرب الأهلية وامتد إلى فترة الكساد الكبير: ويستمل على ثمانية عقود. والقسم الثالث هو "عصر السيطرة"، والذي يشمل الفترة المضطربة من الصفقة الجديدة حتى سبعينيات القرن الماضي: أي حوالي خمسة عقود. أما القسم الأخير فيدعوه "عصر الفوضى"، الذي استهلته "صدمة" أسعار الفائدة لبول فولكر وانتخاب رونالد ريغان، ولا يزال سارياً حتى كتابة هذه السطور ، حسب زعم ليفي، أي حوالي أربعة عقود. ويتابع ليفي شرحه بالقول أن هذه العصور الأربعة تتميز بانتشار أشكال معينة من رأس المال، وكل منها ينشأ نتيجة للأزمات السياسية وتدخلات الدولة. على الرغم من أنه لا يخبرنا عن كيفية تصور الفترة الممتدة من بواكير الاستعمار الإنجليزي حتى العام 1660، كما لا يعطي أي دور للشعوب الأصلية سوى بوصفهم عقبات على طول الطريق، فضلاً عن أنه يقترح أن المستعمرين جلبوا معهم التجارة الرأسمالية بشكل فعال. وهذا يعني أن تاريخه لا يسمح فعلياً بأي وقت لم تكن فيه الرأسمالية تتقدم أو عندما كانت محل نزاع جاد.
ويعرض لفي في قسم عصر التجارة المترامي الأطراف بعضاً من أعظم تحدياته التركيبية بسبب نوعيته الانتقالية. لقد حدد العام 1660 كنقطة انطلاق للرأسمالية بسبب ما كانت إنكلترة تنوي من إنشاء إمبراطورية تجارية بمجرد انحسار الثورة الإنكليزية واستعادة النظام الملكي (بالطبع، كان الإنكليز يستعمرون اسكتلندا وإيرلندا بقبضة حديدية قبل القرن السابع عشر)، لكنه يعترف أيضاً بالتفاوت في التطور الرأسمالي. كان إيرل شافتسبري -وهو "رجل رأسمالي نبيل" كما يسميه ليفي- يأمل في إنشاء مجتمع جديد مليء بالبارونات في ساوث كارولينا، وهي واحدة من عدة مستعمرات مملوكة. (ساعده جون لوك في وضع الخطط). وعلى الرغم من فشل هذه الفكرة إلى حد كبير، إلا أن طريقة توزيع الأراضي في ساوث كارولينا جعلتها أكثر المستعمرات الأمريكية أرستقراطية، ثم أكثرها في الولايات المتحدة لاحقاً. وأثبتت الأسرة، في أماكن أخرى، بما تحمله من تراتبية هرمية للسلطة وتوجهها نحو الكفاف والتجارة المحلية، أنها محور الحياة الاقتصادية حتى القرن التاسع عشر. بينما اعتبر البعض هذا الاقتصاد المنزلي شكلاً من أشكال "الإنتاج السلعي الصغير" ما قبل الرأسمالي، يرى فيه ليفي أنه أساس لتوسيع النمو التجاري بشكل رئيسي بسبب شكلي رأس المال اللذين حددا هذا العصر، أي: الأرض والعبيد.
من المؤكد أن المضاربة بالأراضي كانت منتشرة منذ البداية، وقد أدى الضغط من أجل الحصول على الأرض (يسمي ليفي ذلك المجال الحيوي lebensraum، مستشهداً بطموحات النازيين نحو شرق ألمانيا) إلى اهتزاز سياسات أمريكا الشمالية -التي انخرط فيها كل من الحكومة البريطانية والشعوب الأصلية- لعقود عديدة. أدى هذا الضغط إلى ظهور "سياسة الملكية" التي اجتاحت عصر التجارة حسب تقسيم ليفي. وأدت الثورة الأمريكية إلى زيادة تمكين أرباب الأسر البيض -وخاصةً في المناطق الريفية-، وفي الصراع الذي تلا ذلك بين رؤى هاميلتون وجيفرسون لمستقبل البلاد الاقتصادي، انتصر توجّه جيفرسون وما يسمى بـ "إمبراطورية الحرية"، مما أدى إلى تغذية دورة ائتمان المضاربة التي تتراوح بين الازدهار والانهيار. وضاعفت عملية شراء لويزيانا 1803، حجم الولايات المتحدة تقريباً، ودفعتها نحو النطاق القاري وصنع نسخة من جزر الهند الغربية في وادي المسيسيبي السفلي. ( ومن المستغرب أن لا يذكر ليفي كيف أن عملية شراء لوزيانا على يد جيفرسون قد حصلت بفضل تمرد العبيد الناجح في سان دومينغو، ولما كان م عملية الشراء هذه من تأثير هائل على الصعيد السياسي والاقتصادي والديموغرافي.)
سارت عملية الاستحواذ على الأرض والعبودية جنباً إلى جنب، إلى حد ما خلال عصر التجارة. وشكلت العمالة المستعبدة معظم تجارة التصدير في أمريكا الشمالية في وقت مبكر من منتصف القرن الثامن عشر وساعدت في دفع النمو الاقتصادي للولايات المتحدة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وفي الواقع، وكما يراه ليفي -باتباع المنطق المفاهيمي للعديد من الباحثين الآخرين في مجال ازدهار العبودية والرأسمالية- يلخص الأشخاص المستعبدون حقبة "الأصول الرأسمالية" للعصر: لقد كانوا يمثلون ملكية خاصة مع سيولة معاملات، وركوب موجة دورات الائتمان المتقلبة وتعزيز ثروة أصحابها وقوتهم بشكل مطرد. وشهدت الولايات المتحدة، مع مرور الوقت، ترسيخ رأسماليتين، إحداهما قائمة على الأرض والعمال المستعبدين في الجنوب والأخرى قائمة على مجتمع صناعي متطور في الشمال، حيث "انحرف" الإنتاج عن المنزل وتحول العمل المأجور إلى "نسب استقلال الذكر". ويرى ليفي أن هذه الرأسماليات لم يكن مصيرها الدخول في صراع. ولكن أدى تغيير الأنماط التجارية والاختلاف بين "الجمود الجنوبي والتحول الشمالي"، بعد العام 1840، إلى حدوث أزمة في "الجغرافيا السياسية للتجارة" الأمر الي دفع بعودة خطة إيرل شافتسبري إلى السطح. فانفصل جنوب العبيد، وهنا سوف ينتهي عصر التجارة مع اندلاع الحب التي تلت هذا الانفصال.
من رماد الحرب والانعتاق (أو "التدمير السياسي لرأس المال المستعبَد") نشأ ما أطلق عليه ليفي اسم عصر رأس المال. من الأفضل وصفها بأنها "عصر رأس المال الصناعي" -نظراً لتعريف ليفي، فإن كل عصر للرأسمالية هو بالضرورة عصر رأس المال -شملت هذه الفترة الثورة الصناعية في أمريكا وتحول الولايات المتحدة إلى مجتمع صناعي وحضري بشكل كثيف ومتزايد. ظهر إنتاج السلع الرأسمالية في المقدمة؛ تم تطوير حزام تصنيع جديد يمتد من جهة الشمال الشرقي عبر الغرب الأوسط؛ وصعدت طبقة جديدة من الصناعيين والممولين إلى السلطة؛ وحدثت عملية إعادة تنظيم رئيسية لعملية الإنتاج -الإنتاج الضخم. وتحققت بعض أعظم الثروات في التاريخ الأمريكي في هذا العصر، كما اندلعت بعض أعنف النضالات العمالية.
ولسبب وجيه، يضع ليفي قدراً كبيراً من التركيز على "مسألة النقد". لقد أرست الحرب الأهلية وإعادة الإعمار الأساس لنظام مالي جديد وظهور طبقة جديدة من الممولين الذين أثروا أنفسهم في سوق السندات المدفوع بالحرب، وكانت إحدى أكبر الصراعات -والمستمرة- حول ما إذا كان المعروض النقدي والدائنون أو المدينون سوف يكونوا هم المستفيدون. ربح الدائنون على عدة جبهات، وفي الاقتصاد السياسي الجديد لأمريكا ما بعد الحرب الأهلية، تم دفع مزارعي العبيد الذين كانوا أقوياء في السابق إلى الوراء لصنع السياسات والمستعبدين سابقاً (الذين جعلوا من التحرر وهزيمة الكونفدرالية أمراً ممكناً) وتركوا لعبودية المزارع- على حد تعبير ليفي، كان "اقتصاد رأسمالي أقل كفاءة" من العبودية. الشخصان اللذان يحوم الحديث عنهما في هذا القسم هما أندرو كارنيجي وهنري فورد، فالأول بدأ عمله في مجال السكك الحديدية، وحقق ثروة من التمويل في زمن الحرب، وأصبح رائداً في صناعة الصلب، وهنري فورد، الذي نادى بآليات الإنتاج الضخم وخطوط التجميع، واعتمد على الحكمة التايلورية Taylorism [ بمعنى المبادئ أو الممارسات الإدارية العلمية وكفاءة العمل. المترجم]
لكن الإبحار لم يكن، لا شك، سلساً. فما بين الحرب الأهلية وفجر القرن العشرين، هز الرأسمالية الأمريكية، في المدينة والريف على حد سواء، حدثان ماليان خطيران، أعقب كل منهما فترة كساد اقتصادي عميق (في 1873 و 1893). وخصص ليفي فصلين للاضطرابات الاجتماعية التي تلت ذلك والتي أدخلت مصطلح "الصراع الطبقي" إلى المعجم السياسي للولايات المتحدة. فازت منظمات مثل فرسان العمل Knights of Labor بأتباع جماهيرية، وطالبت بثماني ساعات عمل في اليوم، وشجبت نظام "عبودية الأجور". وقعت الضربات المريرة على طول خطوط السكك الحديدية وفي المصانع، ولك تنتهي إلا بسحقها، في كثير من الحالات، على يد الجيوش الخاصة أو الميليشيات الحكومية أو الجيش الأمريكي أو عن طريق أوامر قضائية. وانضم، في المناطق الزراعية في الجنوب والسهول، تحالف المزارعين ثم الشعبويون إلى نقد الرأسمالية وشاركوا في إيديولوجية "مناهضة الاحتكار" والالتزام بالتعاون مع منظمة فرسان العمل. ومع ذلك، كانت هزائمهم، حسب توصيف ليفي، مقدرة فعلياً. أفسحت "سياسة الملكية" الطريق إلى "سياسة الدخل"، وكان الوعي الطبقي في تلك الفترة هو وعي الطبقة الرأسمالية وليس الطبقة العاملة ("الوعي الطبقي من أعلى") أو المنتجين الزراعيين. وحوّلت لاحقاً النزعة التقدمية، التي تحظى باهتمام محدود هنا، "مكافحة الاحتكار" إلى "مكافحة السيطرة" و "تحرير الفضة" في مجلس الاحتياطي الفيدرالي. لقد تجاهل ليفي بالكامل تقريباً النزعة النقابية والانبهار الواسع النطاق بالهندسة الاجتماعية -بما في ذلك الفصل العنصري- اللذان كانا محوريين لما يسمى "إعادة بناء الشركات" للرأسمالية الأمريكية، باستثناء مثال هنري فورد. ما حُكم عليه بعصر رأس المال هو الكساد الكبير، وما أدى إلى هذا الكساد كان دورة الائتمان الرأسمالية المتكررة باستمرار، هذه المرة بعد أن تسللت إلى بورصة نيويورك، التي ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة – اطلق عليها البعض صفة "عربدة من المضاربة- خلال عشرينيات القرن الماضي قبل انهيار العام 1929. وفي أعقاب ذلك، كان الخطأ يقع على عاتق مجلس الاحتياطي الفيدرالي وإدارة هوفر، وكلاهما كان ملتزماً بمعيار الذهب. على الرغم من الاهتمام بـ "الذكاء الإداري" و "الدولة النقابية"، لم يكن هربرت هوفر مجهّزاً للاعتراف بحجم الأزمة أو التعامل معها، والتي ، كما كتب ليفي، "دمرت الاقتصاد الأمريكي ودمرت معها رئاسته".
أتى فرانكلين روزفلت، والصفقة الجديدة، من تحت أنقاض انهيار العام 1929، بعصر رأسمالي جديد، (يسميه ليفي عصر السيطرة لأهدافه المتمثلة في "إزالة التقلبات" الرأسمالية واستخدام سلطة الدولة لتحقيق عودة الرجال المعيلين إلى العمل. لا نجد، جزئياً، الكثير من المعنى في كتاب ليفي عن الاقتصاد السياسي المتغير للولايات المتحدة في الثلاثينيات، والذي تضمن تأثيراً متزايداً في صفوف الحزب الديمقراطي للصناعات ذات راس المال الكثيف والموجهة دولياً والمصرفيين الاستثماريين الجدد، ولعل ذلك يعود إلى لأن ليفي يمر بطريقة مميزة وفعالة على الفترة ما بين عامي 1900 و 1920. لكنه يدرك عزيمة الشركات في التدخلات المبكرة للصفقة الجديدة (خاصة قانون الانتعاش الصناعي الوطني) وإمكانية هذا النوع من الحل الاستبدادي الواضح في ألمانيا وإيطاليا. لقد تلقى موسوليني ودولته الفاشية تغطية صحفية جيدة جداً في الولايات المتحدة خلال عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن العشرين (كان رئيس إدارة الانتعاش الوطني يحتفظ بصورة لموسوليني في مكتبه)، وحتى الصحفي الليبرالي والتر ليبمان شجع فرانكلين روزفلت على تولي سلطات ديكتاتورية.
دفع استعراض العضلات للحركة العمالية المتشددة الصفقة الجديدة إلى اليسار في نقاط حاسمة في عامي 1934 و 1935 وساعد لفترة من الوقت على تجنب المعارضة المتزايدة للديمقراطيين الجنوبيين، والرابطة الوطنية للمصنعين، وغرفة التجارة الأمريكية، والجناح اليميني شبه فاشي حق. وكانت النتيجة بناء ليبرالية جديدة تركز على أجور الذكور باعتبارها العملة الرئيسية للعدالة التوزيعية والحفاظ على السيطرة الخاصة على الاستثمار. وبالتالي، ستبقى الصفقة الجديدة شكلاً من أشكال الرأسمالية مهما كانت سماتها الديمقراطية الاجتماعية أو شكاوى أعدائها منها.
ومع ذلك، وعلى الرغم من عدد من التطورات الهامة -خروج الولايات المتحدة من معيار الذهب، وتمكين الشركات الكبيرة ذات رأس المال الكثيف رأس المال من العودة إلى الربحية، والاستثمار في الأشغال العامة، وخاصة في الغرب والجنوب (احتضان الكينزية) - كانت الصفقة الجديدة تتعثر مع نهاية الثلاثينيات، حيث أظهرت بعض ميزات "التعافي من البطالة". كانت الحرب العالمية الثانية، كما يقر معظم المؤرخين، هي التي قلبت المد. لقد تبلور ما يسميه ليفي التصنيع "الثالث"، وهو الذي تم بناؤه حول الألمنيوم والطاقة الكهرومائية والإلكترونيات وبدعم من "الحكومة الكبيرة". لقد كسبت الولايات المتحدة
"حرب المصانع"، وبدعم من اتفاقيات بريتون وودز النقدية، ظهرت بقوة غير مسبوقة على المستوى العالمي، مع "دولة وسيطة" محلية مرتبطة بجهاز أمن قومي جديد. تأرجح "مفصلي" لما بعد الحرب حيث صارع العمل ورأس المال حول معنى "الديمقراطية الصناعية" لصالح رأس المال، على الرغم من التنازلات المهمة للعمل المنظم في شكل أجور ومزايا وتعديلات تكلفة المعيشة. لقد بزغ فجر "العصر الذهبي للرأسمالية" على أساس ملكية المنازل والاستهلاك الجماعي في الولايات المتحدة، في حين نشأت "أنواع مختلفة من الرأسمالية" بين الدول الحليفة، مدعومة بالسلع الاستهلاكية الأمريكية.
كانت المشكلة، بحسب ليفي، هي أن ليبرالية ما بعد الحرب لم تصمم أبداً استراتيجية استثمار عام، وبحلول منتصف ستينيات القرن الماضي، هزت الثورات الاجتماعية البلاد، وظهرت حرب جديدة في جنوب شرق آسيا، فضلاً عن المنافسة المتزايدة في السوق العالمية. علاوة على ذلك، وعلى عكس سنوات الصفقة الجديدة، فشل الحزب الديمقراطي في الحفاظ على ائتلاف انتخابي مناسب، خاصة عندما تم تعرّى "المجتمع العظيم". بدأ الديمقراطيون الليبراليون يعانون من الهزائم السياسية، وشهدن الرأسمالية الأمريكية في السبعينيات أزمة عميقة تميزت بالركود والتضخم ("الركود التضخمي")، وتراجع معدلات أرباح الشركات، وتحول رأس المال إلى حزام الشمس Sun Belt ، وظهرت "صدمتين نفطيتين"، وهجوم متزايد من جانب رأس المال ضد مكاسب ما بعد الحرب المتعلقة بالعمل المنظم. تراجعت مداخيل رجال الطبقة الوسطى والعاملة، وبدأت سياسة محافظة جديدة في الازدهار بينهم (على الرغم من أن هذا التاريخ أكثر تعقيداً مما يسمح به كتاب ليفي). وتطلّع الديمقراطيون، لاسيما في فترة إدارة جيمي كارتر، إلى رفع القيود بدلاً من إعادة تنشيط النزعة الكينزية للصفقة الجديدة. وأطلق كارتر على سياسته تسمية "إزالة السيطرة"، وفي العام 1979 عين صقر التضخم بول فولكر رئيساً للمجلي الاحتياطي الفيدرالي. وساعد تصميم فولكر على زيادة أسعار الفائدة بشكل كبير في دفن رئاسة كارتر ودق المسمار الأخير في نعش عصر السيطرة.
ومع ذلك، يمكن القول إن ليفي وضع نهاية عصر السيطرة قبل عقد من الزمان مع الكوارث السياسية لعام 1968 (بما في ذلك هجوم تيت في فيتنام*)، ونمو التضخم، والصدمة النفطية الأولى، وإحباط نيكسون لقابلية تحويل الذهب عالمياً، وصعود رأسمالية حزام الشمس (حيث أصبحت العقارات هي القوة الدافعة والنزعة المحافظة هي المرساة) على حساب حزام التصنيع. في كلتا الحالتين، ظهرت، بدءً من الثمانينيات، فترة جديدة من الرأسمالية الأمريكية يصفها ليفي بعصر الفوضى تسترشد بقطاع مالي قوي، متزايد باطراد، يسعى إلى استثمارات مضاربة وابتكار أدوات جديدة -عمليات الاستحواذ على الأسهم المسيطرة leveraged buyouts، والرهون العقارية عالية المخاطر، ومقايضات التخلف عن سداد الائتمان، والمشتقات المالية- لتغذية صعوده.
أثبتت إدارة ريغان أنها إدارة تسهيلات عظيمة، سواء من خلال تسريع الاتجاه التحرري الذي بدأ في عهد كارتر ومن خلال تقديم المساعدة الفيدرالية لهجوم رأس المال على العمالة، لا سيما في سحق إضراب مراقبي الحركة الجوية المحترفين في العام 1981. و ظهرت أفكاراً "نيوليبرالية" -يستخدم ليفي تعبير نيوليبرالية بتردد- فيما يتعلق بالأسواق والعولمة ودور الحكومة في تعزيز حركة رأس المال. في الواقع، لقد أصبحت الأفكار النيوليبرالية مؤثرية جداً لدرجة أن إدارة كلينتون احتضنتها تماماً في التسعينيات -إلى جانب مقاربة ريغان القاسية لإصلاح الإنعاش والعدالة الجنائية- وفي هذه العملية، دفعت التوسع الهائل لقطاع تكنولوجيا المعلومات والإنترنت. وليس من المستغرب أن كلينتون هو الذي أشرف على تحرير بعض أدوات الائتمان، وتخفيف قواعد الإقراض العقاري، وإلغاء قانون جلاس ستيجال في عصر الصفقة الجديدة، والذي كان له فرض فصل الخدمات المصرفية التجارية والاستثمارية، من خلال اتباع نهج المصرفي الاستثماري ووزير الخزانة روبرت روبين. لقد "التدفق، والسيولة، والمخاطر، والاختيار الفردي، وعدم وضوح الحدود، وانهيار الجدران، [و] العولمة" قيماً لعصر ليفي للفوضى (على الرغم من أنه ليس من الواضح تماماً أي عصر للرأسمالية لم يكن فوضوياً).
اعتقد كل من رأس المال المالي ومجلس الاحتياطي الفيدرالي، تحت قيادة آلان غرينسبان الآن، أنهما قد وجدا مفاتيح الأرباح، وسيولة المعاملات، والتضخم المنخفض، ومعدلات الفائدة المنخفضة، ومزايا الديون الاستهلاكية المتزايدة، خاصة فيما يتعلق بالإسكان. فتكدست أكبر البنوك الاستثمارية في أعمال تجميع الرهن العقاري، متخيلة مصدر عوائد لا نهاية له. ولكن كما نعلم، فقد انهار كل شيء في العام 2008، حيث تعثرت قيمة المنازل وارتفعت معدلات التخلف عن السداد بشكل كبير. تبع ذلك الركود الكبير، الذي أنهى كتاب ليفي. وربما كان على المرء أن يتوقع بداية عصر جديد من الرأسمالية مع قيام إدارة أوباما بوضع السياسة خلال هذه الأزمة الكبرى، غبير أن ليفي يرى هنا المزيد من الاستمرارية فقط، حيث قام أوباما بتشكيل فريق عاد إلى سنوات كلينتون وركز على إنقاذ القطاع المالي. والأمر الذي تغير هو الديناميكيات السياسية فقط: كما قدم ليفي، أسقط اليسار الكرة وسلم زمام المبادرة إلى اليمين، لا سيما حركة "حزب الشاي الجديدة**"، التي ساعدت على حرق الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي للعام 2010 وأرست الأساس للجناح اليميني الشعبوي لليمين الذي سرعان ما تولي حكم معظم الولايات [الأمريكية] ثم مكنت، أي حركة حزب الشاي الجديدة، ترامب من انتخابه في العام 2016.
يعد كتاب "عصور الرأسمالية الأمريكية" كتاباً كبيراً ( حوالي 800 صفحة). ومن الواضح أنه نتاج بحث واسع وتفكير جاد. وسوف يجده أي شخص مهتم بالتاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة ذا قيمة حقيقية. وبالنظر إلى حجمه فقد يتردد المرء في طلب المزيد من الموضوعات والمناقشة. لكن هناك سهو وإغفالات مستهجنة وانقطاعات غريبة تتحدث مباشرة عن سلسلة من الأسئلة ذات الصلة، مثل: كيف تطورت الرأسمالية الأمريكية؟ كيف تحول الاقتصاد السياسي في اتجاه معين؟ كيف يمكننا أن نفهم بشكل أفضل بعض أعمق النضالات التي اندلعت في هذا البلد؟ هل كان للرأسمالية الأمريكية أي منافس مهم؟. لقد بدأ ليفي بتكوين الإمبراطورية البريطانية وإعادة التنظيم السياسي لمستعمرات أمريكا الشمالية البريطانية. كما يضع في اعتباره أثناء البحث "إمبراطورية الحرية" لجيفرسون. ومع ذلك، فإن هذا، إلى حد كبير، آخر ما نسمعه عن الإمبراطورية، والغزو الاستعماري، والأشكال المختلفة للإمبريالية، وامتداد القوة الأمريكية إلى ما وراء حدود البلاد -على الأقل حتى نصل إلى القرن العشرين. وبالكاد يوجد ذكر لضم تكساس (مدفوعاً ليس فقط بالعبودية ولكن أيضاً بالجهود المبذولة للسيطرة على سوق القطن الدولي)، وللحرب الأمريكية المكسيكية، وللاستثمار المالي الضخم في شمال المكسيك بعد الحرب الأهلية (التي كان لها يد في قدوم الثورة المكسيكية)، وسياسة "الباب المفتوح" (المذكورة في سياق مختلف)، والحرب الإسبانية الأمريكية (التي حولت الولايات المتحدة إلى نوع مختلف من الأمة الإمبراطورية)، أو حرب الفيتنام (مذكورة كهامش جانبي للمناقشات الأخرى). مع كل هذا السهو والإغفال، كان من المستحيل، منذ خمسينيات القرن الماضي، عندما أعاد ويليام أبليمان ويليامز والعديد من طلابه صياغة التاريخ "الدبلوماسي" الأمريكي من خلال الإصرار على أن السياسة الخارجية والمحلية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً، التفكير في البحث عن الأسواق، والسعي وراء الحدود الإقليمية والقواعد، وبناء دولة الأمن القومي، والتدخلات ضد الحركات الاشتراكية والشيوعية باعتبارها ليست جزءً أساسياً من تاريخ الرأسمالية الأمريكية. ونحتاج، على أقل تقدير، إلى بعض المنظور للنظر حول ما إذا كان تطور الرأسمالية الأمريكية قد شجع المشاريع الإمبريالية وما تعنيه هذه المشاريع بالنسبة لها. وفي النهاية، كان الاقتصاد السياسي الأمريكي بين عامي 1945 و 1989 منظماً إلى حد كبير حول التهديد المتزايد للاشتراكية والشيوعية. إلى أي مدى ساهمت نهاية الحرب الباردة، ولا سيما تفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية، في فترة وجيزة من التفاؤل بما يسميه ليفي "اقتصاداً جديداً" ولكن في الطابع الفوضوي الواضح للكتلة الشرقية عمر كامل -إلى اضطراب عالمي جديد؟
ليس ليفي هو أول من يجادل بأن عمل الشعوب الأفريقية المستعبدة كان حاسماً للنمو الاقتصادي لأمريكا الشمالية البريطانية ثم للولايات المتحدة الفتية. كما أنه ليس أول من وصف الاستعباد كشكل من أشكال الرأسمالية أو العبيد كأصول رأسمالية. ومع ذلك، فإن هذه الحجج تتجاهل ببساطة النقاشات التي دامت عدة عقود، بدءً من كتاب إريك ويليامز "الرأسمالية والعبودية" (1944) والانتقال من خلال الاقتصاد السياسي للعبودية في كتاب يوجين جينوفيز "الاقتصاد السياسي للعبودية" (1965) و كتاب باربارا فيلدز " العبودية والحرية: الحل الوسط" لباربرا فيلدز (1984) -أي منهما تستحق الكثير من الحاشية- التي عقدت العلاقة بين العبودية والرأسمالية، بسبب أشكال السلطة، واستغلال العمل، والتنمية التي تنطوي عليها أنظمة الاستعباد. حيث تتجاهل هذه الكتابات الأدبيات الغنية وكذلك نظرية التبعية والاقتصاد المزدوج (بمعنى العملية المتناقضة للتطور الرأسمالي) التي ركزت على أمريكا اللاتينية وأفريقيا ولكن تم ربطها مباشرة بالعبودية من قبل باحثين مثل إرنستو لاكلاو. وسوف يصاب بخيبة أمل شديدة أولئك الذين يرتاحون لفهم العبودية كشكل من أشكال الرأسمالية (ربما جوهر الرأسمالية) ولكنهم مهتمون بشكل خاص بمفهوم "الرأسمالية العرقية"، حيث لا يكلف ليفي نفسه عناء معالجة هذا الأمر فحسب -وهناك العديد من الأسباب التي يمكن على أساسها التراجع عن هذا المفهوم- ولكنه يتجنب، أيضاً، إلى حد كبير مسألة ما إذا كانت الرأسمالية الأمريكية تغذي، بطرق أساسية، على استغلال الأشخاص الملونين، سواء داخل الولايات المتحدة أو في أي مكان آخر حول العالم. وما نسميه "جيم كرو***" كان أكثر من مجرد نظام فصل وحرمان من الحقوق. لقد كان نظاماً كاملاً من الهيمنة والتبعية لا ينفصل عن المسار الجنوبي لرأسمالية ما بعد التحرر، وكان إلى حد كبير نموذجاً لتنظيم رأس المال الأمريكي في الخارج -لا يغيب عن بالنا مشاريع مشابهة مثل منطقة قناة بنما وأمريكا الوسطى والفلبين- وكذلك نظام الفصل العنصري "الأبارتيد" في جنوب إفريقيا.
فيما يتعلق بالرأسمالية بشكل أساسي كعملية استثمار، فإن لها آثاراً أوسع من مجرد دراسة العبودية والعرق. كما أنه يحد من منظورنا حول كيفية عمل الرأسمالية، بأشكالها المختلفة، من نزع الملكية واقتلاع وإنهاء واستغلال قاسي. ما يتحرك في كتاب ليفي هو رأس المال، والمحركون هم الرأسماليون. لا يتم إيلاء سوى القليل من الاهتمام، على سبيل المثال، إلى العمالة المهاجرة، في الولايات المتحدة أو في الدوائر العالمية، التي دخلت في صنع الرأسمالية كنظام دولي. إلى أي مدى تنتج الرأسمالية ثم تزدهر بفائض السكان وكذلك فائض القيمة؟ وبالمثل، لا يتم إيلاء اهتمام كبير لمجتمعات المهاجرين وكيف قاموا في نفس الوقت بإشعال وتشغيل محركات الرأسمالية واستنباط الاستراتيجيات والمؤسسات المصممة لحمايتهم من أسوأ آثارها. وهناك القليل من الاعتراف بالتاريخ الطويل للعمال الأمريكيين من الاستبعاد المدني والسياسي. باستثناء فترة وجيزة في منتصف القرن العشرين، كانت الطبقة العاملة الأمريكية تتكون أساساً من أشخاص ذوي وضع مدني غير مستقر وحقوق سياسية محدودة: أناس مستعبدون ونساء وأطفال في القطاعات القيادية قبل الحرب الأهلية؛ المهاجرون الأوروبيون والصينيون، وكثير منهم عادوا إلى ديارهم أو لم يتمكنوا من التصويت، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ المنحدرين من أصل أفريقي الذين فروا من الحرمان والقمع في الجنوب ليجدوا أشكالاً جديدة من التمييز والقمع في الشمال والغرب؛ وتدفقات متزايدة من العمال غير المسجلين، خاصة في العقود الأخيرة، الذين يتعرضون باستمرار لخطر الاعتقال والترحيل. وعلى الرغم من أن ليفي يمكن أن يكون منسجماً مع قضايا الثقافة، إلا أننا نفتقد، في الكتاب، أي توجه يعنى بالحساسيات الجماعية للرأسماليين. واقتراحه بأن عصر معيار الذهب شهد تراجع الوعي الطبقي لرأس المال، لم يعززه كثيراً أو قليلاً أبعد من ذلك، ويرجع هذا في جزء كبير منه إلى عدم وجود رؤية واضحة للعلاقات المتغيرة بين مختلف قطاعات رأس المال والأحزاب السياسية والسياسات التي حكمت البلاد: جوهر الاقتصاد السياسي.
يظهر دونالد ترامب في بضع لمحات في الصفحات الأخيرة من الكتاب؛ كما أن بيرني ساندرز لا يظهر، وكذلك يوجين ف. ديبس، من الحزب الاشتراكي، ولا الحزب الشيوعي في الولايات المتحدة، أو الجبهة الشعبية أو الحزب التقديم 1948, كما أننا لا نرى توماس سكيدمور أو وليام هيتون أو وليام مانينغ أو فاني رايت، الذين كانوا بطريقتهم الخاصة منتقدين للرأسمالية الناشئة في الجمهورية الجديدة، على الرغم من تذكيرنا بالشكوك التي أثارها ديكنز وإيمرسون وملفيل، وعلى وجه الخصوص ثورو. لم يتم العثور على منتقدي الرأسمالية اليمينيين، من المنظرين المؤيدين للعبودية إلى جماعة مزارعي ناشفيل****. ومع ذلك، لا يمكن القول أن ليفي مشجعا للرأسمالية الأمريكية. فكلمات كتابه مصاغة بميزة نقدية طوال الوقت. ومع ذلك فهو أيضاً كتاب وُلِد في عصر نيوليبرالي عندما بدت الرأسمالية تهيمن وتنتشر منتشرة في كل مكان، وعندما ظهر الرأسماليون على أنهم أسياد الكون الذين تنبع قوتهم من اختراع الأدوات المالية والتلاعب بها؛ وعندما اعتبرت المعارضة غير جوهرية ومضللة ولا طائل من ورائها، فحركة "احتلوا وول ستريت" مذكورة بطريقة أبوية، في حين لم يتطرق بتاتا إلى الحركات المناهضة للعولمة التي انتشرت في تسعينيات القرن الماضي، كما تجاوز على الاهتمام المتجدد بالاشتراكية، الذي ساهم في دعم ساندرز في حملتيه الرئاسيتين. واللافت للنظر أن ليفي يختتم كنابه بالتشديد على الأمل في أن تظهر "سياسات ديمقراطية لرأس المال" أو قد يتم تخيل "مستقبل ما بعد الرأسمالية". لكن هناك القليل ما يمكن التنقيب عنه في كتابه عن مثل هذه السياسة أو مثل هذا المستقبل.
....
هوامش المترجم
* هجوم تيت Tet Offensive: عبارة عن سلسلة منسقة من الهجمات قامت بها قوات الفيتوكونغ ولجيش الشعبي الفيتنامي الشمالي بدأت في 30 كانون الثاني- يناير 1968 على أكثر من 100 مدينة وبؤرة سكنية وأماكن تواجد قوات الجيش الفيتنامي الجنوبي والقوات الأمريكية في جنوب فيتنام. بغرض محاولة خلق حالة من عدم الاستقرار وإثارة التمرد بين سكان فيتنام الجنوبية وتشجيع الولايات المتحدة على تقليص مشاركتها في حرب فيتنام. والاسم مشتق من مهرجان السنة القمرية باللغة الفيتنامية الذي صادف موعد الهجوم حيث كان معظم افراد الجيش الفيتنامي الجنوبي في إجازة
** حركة سياسية محافظة مالياً داخل الحزب الجمهوري محافظة لجهة الإجراءات المالية، حيث دعى أعضاؤها إلى خفض الضرائب، والدين القومي وعجز الميزانية الفيدرالية من خلال خفض الإنفاق الحكومي.
*** المقصود قوانين جيم كرو التي فرضت الفصل العنصري في جميع المرافق العامة في جنوب الولايات المتحدة" أي الولايات الكونفدرالية السابقة"، في أواخر القرن التاسع عشر. بقيت قوانين جيم كرو قائمة حتى العام 1965
**** كان مزارعي ناشفيل أو مزارعي فاندربيلت، أو المزارعون الجنوبيون، مجموعة من اثني عشر كاتباً وشاعراً وكتاب مقالات وروائياً أمريكياً، وجميعهم ينتمون إلى الولايات الجنوبية، أصدروا بيان زراعي مؤيد للجنوب، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات نُشرت في العام 1930. شكل المزارعون الجنوبيون فرعًا مهماً من الشعبوية الأمريكية. وساهموا في إحياء الأدب الجنوبي في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي المعروف الآن باسم عصر النهضة الجنوبية. كان معظم هؤلاء الكتاب إما مدرسين أو طلاب في جامعة فاندربيلت في ناشفيل- تينيسي.
ملاحظات
العنوان الأصلي: Land of Capital: The history of the United States as the history of capitalism.
المؤلف: STEVEN HAHN
المصدر: The History of the United States as the History of Capitalism | The Nation



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ...
- رواية -الرئيس والضفدع-: ماذا يعني أن تكون لاعباً سياساً جيدا ...
- -الحب في زمن الحرب: سنواتي مع روبرت فيسك-
- مجرم حرب يموت
- مسائل التاريخ: لماذا علينا الاعتراف بمطالب الفلسطينيين
- ثقافة الحاجز وتقنيات الهيمنة
- لماذا تحتاج النيوليبرالية إلى الفاشيين الجدد
- تقلبات المكان المقدس: بناء وتدمير وإحياء ذكرى المشهد الحسيني ...
- الفيلم الفلسطيني بين السردية والواقعية المفرطة والإيديولوجية ...
- الفيلم الفلسطيني بين السردية والواقعية المفرطة والإيديولوجية ...
- الفيلم الفلسطيني بين السردية والواقعية المفرطة والإيديولوجية ...
- دور بريطانيا في الحرب في سوريا
- سياسة بريطانية القديمةالجديدة: لا لدولة فلسطينية مستقلة
- 11/9 إلى الأبد
- فلسطين والفلسطينيون والقانون الدولي
- كيف نتحدث عن فشل منظمة التحرير الفلسطينية
- محو فلسطين لبناء إسرائيل: تحويل المناظر الطبيعية وتجذير الهو ...
- قصة لورنس العرب الحقيقية
- حوار مع هيفاء بيطار: في معنى الشعور بالانتماء
- الأركيولوجيا بين العلم والإيديولوجيا: العثور على أورشليم مثا ...


المزيد.....




- بايدن يرد على سؤال حول عزمه إجراء مناظرة مع ترامب قبل انتخاب ...
- نذر حرب ووعيد لأمريكا وإسرائيل.. شاهد ما رصده فريق CNN في شو ...
- ليتوانيا تدعو حلفاء أوكرانيا إلى الاستعداد: حزمة المساعدات ا ...
- الشرطة تفصل بين مظاهرة طلابية مؤيدة للفلسطينيين وأخرى لإسرائ ...
- أوكرانيا - دعم عسكري غربي جديد وروسيا تستهدف شبكة القطارات
- -لا استطيع التنفس-.. لقطات تظهر لحظة وفاة رجل من أصول إفريقي ...
- الشرطة تعتقل حاخامات إسرائيليين وأمريكيين طالبوا بوقف إطلاق ...
- وزير الدفاع الأمريكي يؤكد تخصيص ستة مليارات دولار لأسلحة جدي ...
- السفير الروسي يعتبر الاتهامات البريطانية بتورط روسيا في أعما ...
- وزير الدفاع الأمريكي: تحسن وضع قوات كييف يحتاج وقتا بعد المس ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - محمود الصباغ - أرض رأس المال، تاريخ الولايات المتحدة كتاريخ الرأسمالية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية الأمريكية: تاريخ الولايات المتحدة-- القسم الثاني