أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمود الصباغ - لماذا تحتاج النيوليبرالية إلى الفاشيين الجدد















المزيد.....


لماذا تحتاج النيوليبرالية إلى الفاشيين الجدد


محمود الصباغ
كاتب ومترجم

(Mahmoud Al Sabbagh)


الحوار المتمدن-العدد: 7041 - 2021 / 10 / 8 - 09:17
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


ترجمة: محمود الصباغ.
مرت أربعة عقود، قبل الآن، منذ أن بدأت العولمة النيوليبرالية في إعادة تشكيل النظام العالمي. استطاعت خلالها / وعبر أجندتها المعلنة، أن تقضي، تقريباً، على حقوق العمال، كما فرضت قيودًا صارمة على العجز المالي، نظراً للإعفاءات الضريبية الهائلة وعمليات إنقاذ رأس المال الضخم، والتضحية بالإنتاج المحلي لسلاسل التوريد متعددة الجنسيات، وخصخصة أصول القطاع العام بأسعار مخفضة. والنتيجة اليوم: نظام فاسد، تحدده الحركة الحرة لرأس المال، السهلة نسبياً عبر الحدود الدولية، حتى عندما يتم التحكم، بلا رحمة، في حرية تنقل الناس عن طريق ارتفاع منسوب الخلل في الدخل بين الأفراد, وتذرية الديمقراطية في هب رياح العولمة على نحو متواصل. وبغض النظر عمن سيصل إلى السلطة، وبغض النظر عن الوعود التي قُطعت قبل الانتخابات، فغالباً ما يتم اتباع السياسات الاقتصادية عينها. وبما أنه يمكن لرأس المال، وخاصة المالي منه، أن ينسل من أي بلد على هيئة كتلة أو كتل في غضون مهلة قصيرة للغاية -مما يؤدي إلى حدوث أزمة مالية حادة، إذا ما حصل انعدام ثقة مالية في بلد ما- فإن حكومة تلك البلد مضطرة إلى قلب الوضع الراهن وانتهاج سياسات مالية تراها مناسبة لتمويل والمطالبة فعلاً برأس المال اللازم. أي، تُستبدل سيادة الشعب بسيادة التمويل العالمي والشركات المحلية المندمجة به. وعادة ما تبرر النخب السياسية والاقتصادية هذا الاختزال للديمقراطية وانحسار دورها في المجتمع، على قاعدة السياسات الاقتصادية النيوليبرالية المتبعة سوف تؤدي إلى ارتفاع في الناتج المحلي الإجمالي GDP -يعتبر بمثابة عصارة الخير summum bonum التي يجب أن تستهدفها جميع السياسات المطبقة في البلاد، وقد أدى العصر النيوليبرالي في العديد من البلدان، لا سيما في آسيا، إلى تسارع وتائر النمو بشكل ملحوظ عمما كان عليه في الفترات السابقة التي كانت تسيطر فيها الدولة على الأمور الاقتصادية والاجتماعية. غير أن هذا النمو نادراً ما كان يصيب غالبية الناس، بالطبع: وترتبط السياسات النيوليبرالية، في الواقع، ارتباطاً وثيق الصلة بارتفاع مستويات عدم المساواة في الدخل أكثر من ارتباطها بنمو الناتج المحلي الإجمالي. (حتى أن، خبراء الاقتصاد في صندوق النقد الدولي، مثل: جوناثان دي أوستري وبراكاش لونجاني ودافيد فورسيري، أقروا بهذه النقطة في مقالهم الصادر عام 2016 بعنوان "الليبرالية الجديدة: بيع مفرط"). لكن الليبراليين الجدد سوّقوا رداً قوياً على هذا الاعتراض، بقولهم: ينبغي النظر في زيادة عدم المساواة في الدخل كثمن مقبول ينبغي التضحية به مقابل نمو أسرع، لأن مثل هذا النمو لايزال يثبت أنه يعني تحسناً مطلقاً في ظل ظروف أسوء. وقد كان التصور الإيديولوجي الأساسي للنيوليبرالية هو أن النمو سيرفع كل القوارب*، حتى لو ارتفعت بعض القوارب أكثر من غيرها.
ربما لا يوجد مثال مضاد أفضل لهذا الادعاء من الهند، حيث أدخلت السياسات النيوليبرالية منذ العام 1991 – الأمر الذي حفّز الارتفاع في معايير معينة للفقر المطلق وتردي الزراعة وكذلك إلى الخلل الدراماتيكي في نسب الدخل بين الأفراد. وفي العام 1982، أي بعد أكثر من ستة عقود من فرض ضرائب قوية على الدخل، كان نسبة 1% ممن هم على قمة أصحاب الدخل يمثلون 6 % فقط من الدخل القومي، وتضخم هذا الرقم، بحلول العام 2014، إلى 22% وفقاً لكل من لوكاس تشانسيل وتوماس بيكيتي، وهو أعلى مستوى له منذ قرن. وفي غضون ذلك، ارتفع معدل الفقر أيضاً في المناطق الريفية في الهند ،كما أظهر الخبير الاقتصادي أوتسا باتنايك في تقرير حديث إلى المجلس الهندي لأبحاث العلوم الاجتماعية، حيث كان المعيار لتعريف الفقر هو عدم الحصول على 2200 سعرة حرارية للفرد في اليوم، وزادت نسبة الفقراء في إجمالي السكان من 58 % في أعوام 1993-1994 إلى 68 % بين عامي 2011 و2012 وهو آخر عام تتوفر فيه بيانات مسح عينة كبيرة. وينطبق هذا النمط على المناطق الحضرية أيضاً، حيث كان المعيار 2100 سعرة حرارية للفرد في اليوم: وقد زادت نسبة الفقراء من 57 % إلى 65 % خلال الفترة الزمنية ذاتها. وعلى الرغم من هذه التشققات وغيرها في ذريعة المد المتصاعد الذي سيرفع قوارب النمو والتي أصبحت واضحة تماماً بحلول مطلع القرن، فقد احتفظت الرواية القائلة بأن النيوليبرالية ستفيد الجميع، بذات الطابع حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وذلك لسببين على الأقل: أولاً، قيل إن العولمة النيوليبرالية جعلت أداء شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى يظهر وتائر جيدة، وتوسعت فرصها بفضل الاستعانة بمصادر خارجية لمجموعة من الأنشطة من البلدان المتقدمة وزيادة حصة الفائض الاقتصادي، بسبب تدني الأجور وزيادة إنتاجية الطبقة العاملة، كما ساهمت هذه العولمة النيوليبرالية في الحد بشكل مذهل من الفقر في الصين -شكّك الاقتصادي براناب باردهان بقوة في هذه القصة التقليدية في هذه الصفحات-: ثانياً، ساهمت العولمة النيوليبرالية في تعزيز الآمال في أن النمو السريع سوف "يتدفق" عليهم عاجلاً أم آجلاً، حتى لدى أولئك الذين تضرروا من النظام النيوليبرالي، وهي آمال يغذيها على نحو متواصل المؤسسات الإعلامية التي تهيمن عليها الطبقات الوسطى والعليا. غير أنه سرعان ما انحسرت هذه الآمال، حيث انتهت مرحلة النمو المرتفع للرأسمالية النيوليبرالية في العام 2008 بانهيار فقاعة الإسكان في الولايات المتحدة، مما أفسح المجال لإطالة أمد الأزمة الاقتصادية، والركود في الاقتصاد العالمي. ونظراً لأن الدعامة القديمة للاقتصاد المتدفق إلى الأسفل فقدت مصداقيتها، استدعت الحاجة إلى دعم سياسي جديد للحفاظ على النظام النيوليبرالي، وقد جاء الحل على شكل تحالف بين رأس مال الشركة المتكامل عالمياً وعناصر الفاشية الجديدة المحلية. وظهرت هذه الديناميكية في عدة بلدان حول العالم، من صعود ناريندرا مودي في الهند وجاير بولسونارو في البرازيل إلى دونالد ترامب في الولايات المتحدة.
وبالنسبة لبعض المراقبين، تعكس بعض جوانب إدارة ترامب -مثل مقترحاته الحمائية، ودعمه لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي- ابتعاد الفاشية الجديدة عن النيوليبرالية. لكن هذا التحليل يبالغ في أهمية انفصال ترامب عن الأرثوذكسية النيوليبرالية في ذات الوقت الذي يهمل فيه الرابط المميز بين الفاشية الجديدة والنيوليبرالية في العالم النامي. ولا نحتاج/ من أجل الحصول على دليل على العلاقة بين الفاشية الجديدة والليبرالية الجديدة، إلى النظر أبعد من حقيقة أنه لا يوجد تشكيل سياسي للفاشية الجديدة قد فرض بالفعل ضوابط على التدفقات المالية عبر الحدود. وفي النهاية، لا يمكننا الهروب من هذا التحالف إلا من خلال تنفيذ مثل هذه الضوابط - جنباً إلى جنب مع سياسات الرفاهية المحلية القوية. ولتقويم احتمالات مثل هذا التحول، من الضروري تقدير السمات المميزة للفاشية الجديدة. حيث توجد مجموعات الفاشية الجديدة في جميع المجتمعات الحديثة، لكنها عادة ما تكون على هيثة عناصر هامشية ليس إلا. قد يحتلون مراكز الصدارة في فترات الأزمات فقط، وبدعم من رأس مال الشركات، الذي يوفر الوصول إلى الموارد المالية الضخمة والسيطرة على وسائل الإعلام المملوكة للشركات والوسائل الأخرى التي تساهم في صنع وتشكيل الرأي. وتتمثل إحدى الاستراتيجيات المميزة للفاشية الجديدة، مثل سابقاتها الكلاسيكية، في شيطنة "الآخر"، سواء أكانوا مسلمين في الهند، أم أقليات عرقية وجنسية في الولايات المتحدة والبرازيل. وهي استراتيجيات يختلف تنفيذها من بلد إلى آخر، ويمكن، بالطبع، أن تتخذ هذه الشيطنة أشكالاً متعددة: فقد لا تشير إلى الأزمة الاقتصادية على الإطلاق، بل تركز، بدلاً من ذلك، على حاجة مجتمع الأغلبية لاستعادة "احترام الذات" الذي يُزعم أنه تضرر من قبل الأقلية في الماضي. أو قد تحمل الأقلية المسؤولية عن المشاكل الاقتصادية، بصرف النظر تماماً عن دورها المزعوم في الإضرار باحترام مجتمع الأغلبية لذاته. الحكومات غير الفاشية متهمة "بالقوادة" على هذه الأقلية من خلال اللعب بسياسة "الاسترضاء". وبالإضافة إلى هجماتها على "الآخر"، تردد الفاشية الجديدة أيضاً، مثلما فعلت نظيرتها، الفاشية الكلاسيكية، مهاجمة جميع منتقديها. وتصفهم بأنهم "معادون للقومية" من خلال المساواة بين انتقاد الحكومة وخيانة الأمة. وتلصق في أحزاب المعارضة جميع ما يخطر لها من أنواع المخالفات (انظر في محاكمة لولا في البرازيل). إنها تخلق جواً، في المجتمع، يهيمن عليه من الخوف -من خلال من خلال تقويض استقلال مؤسسات الدولة، وزج الناس في السجون دون محاكمة؛ وكذلك السخرية من القضاء أو الاستفادة منه لمصلحتها؛ أو إلغاء الحقوق الدستورية للشعب؛ وترويع السياسيين المعارضين للانضمام إلى حزب الفاشية الجديدة في الأماكن التي يخسرون فيها الانتخابات؛ وإطلاق العنان لعصابات الشبيحة والبلطجية في الشوارع وعلى وسائل التواصل الاجتماعي لمهاجمة المعارضين؛ وتوجيه اتهامات زائفة ضد المعارضين؛ وما إلى ذلك. وجميع الأحوال، تتلقى هذه الفاشية الجديدة دعماً عبر وسائل إعلام طيّعة وسهلة الانقياد، مما يجعلها تستخدم صعودها لمساعدة قطاع الشركات على مهاجمة حقوق العمال المكتسبة عبر عقود من النضال. وفي حين اعتمدت الفاشية الكلاسيكية على جميع هذه العناصر، فمما لا شك فيه، أن الفاشية الجديدة تنحرف أيضاً عن سابقاتها التاريخية بطرق مهمة.
ظهرت الفاشية الكلاسيكية قبل عولمة رأس المال، بمعنى أنها كانت تحمل بصمة أصلها القومي بشكل أوضح: فقد انهمكت في تنافس شديد مابين إمبريالي مع رأس المال من البلدان المتقدمة الأخرى، وهو التنافس الذي حشدت فيه دعمها لدولتها القومية الخاصة. كان الهدف الفاشي هو إعادة تقسيم عالم مقسّم بالفعل إلى مناطق اقتصادية. بينما تحتل الفاشية الجديدة اليوم، وعلى نقيض الفاشية الكلاسيكية، نظام تمويل معولم، يتم فيه كتم التنافس مابين الإمبريالي بسبب ظاهرة التدفق الحر لرأس المال. وبما أن رأس المال المعولم يطمح، عازماً، على إبقاء العالم بأكمله مفتوحاً لحركته الحرة، فهو لن يشجع، بطبيعة الحال، أي إجراء تنافسي بين الإمبريالية وتجزئة العالم إلى مناطق اقتصادية متنافسة. وتقدم الهند توضيحاً حياً للعلاقة بين الفاشية الجديدة والنيوليبرالية. وذلك لسبب واحد، فالفاشيون الجدد المتفوقون من الهندوس الذين وصلوا إلى السلطة في العام 2014 لم يكن لهم أي علاقة بنضال الهند ضد الاستعمار (في الواقع، اغتال أحدهم المهاتما غاندي). بل هم في الحقيقة نيو ليبراليون، حتى أكثر من الحكومات النيوليبرالية السابقة. يتركز موقفهم السياسي بالكامل، حتى أثناء الوباء، حول إبقاء العجز المالي تحت السيطرة خوفاً من الإساءة إلى التمويل المعولم، والذي بسببه كانت الهند واحدة من البلدان التي تقدم المساعدة الحكومية الأكثر هزالةً للأشخاص المتضررين من الإغلاق. كما أن حكومة الهند اليوم أكثر حرصاً مما سبق على خصخصة مؤسسات القطاع العام وتقديم المساعدة للشركات، لاسيما لتلك القلة من الشركات ي تحظى بأفضلية لدى حكومة. كما كانت، الحكومة الحالية، أكثر حرصاً من أي حكومة سابقة على حماية انتهاكات الشركات في المجال الزراعي وعمليات الإنتاج الصغيرة.
في الواقع، ومنذ الأيام الأولى للنيوليبرالية في الهند، كان هناك ارتفاع مأساوي في أعداد انتحار الفلاحين -أكثر من 300 ألف خلال الفترة التي تلت العام 1991 وحتى العام 2016. ويعود السبب إلى تزايد مديونية الفلاحين، وعدم القدرة على السداد. لقد انفجر الدين في مواجهة ارتفاع تكاليف الخدمات الأساسية المخصخصة الذي ترافق مع انخفاض حاد في أرباح الزراعة الفلاحية بعد إلغاء الدعم على أسعار المحاصيل النقدية، وتقليصه في الحبوب الغذائية. كان الضغط على زراعة الفلاحين، وهو قطاع يوظف ما يقرب من نصف إجمالي القوى العاملة، حاداً للغاية لدرجة أن عدد "المزارعين" تقلص بمقدار 15 مليونًا بين التعدادين، 1991 و 2011. وتحول جزء منهم إلى عمال، وهاجر البعض الآخر إلى المدن بحثاً عن الوظائف غير الموجودة، مما أدى إلى تضخم جيش العاطلين عن العمل أو العمالة الناقصة، وهو ما أدى يدوره إلى إضعاف الموقف التفاوضي للعمال النقابيين القلائل نسبياً. صحيح أنه حدثت زيادة في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي، لكن الصحيح أيضاً، حدوث انخفاض -في الواقع انخفض إلى النصف- في معدل نمو العمالة، مما جعله أقل حتى من المعدل الطبيعي لنمو القوة العاملة. ويهدف التحريض الهائل للفلاحين الذي يهز البلاد حالياً إلى التراجع عن ثلاثة قوانين زراعية سنتها حكومة مودي العام الماضي والتي سمحت بموجبها بتمدد النظام النيوليبرالي. وبينما تنتقد الإدارة الأمريكية، وصندوق النقد الدولي، طريقة تعامل الحكومة الهندية مع التحريض، إلا أنهما يدعمان التوجه نحو تبني تراجع الحكومة عن القوانين الثلاثة. وهكذا فإن الفاشية الجديدة لمودي واضحة تماماً في دفاعها وتعزيزها للأجندة النيوليبرالية.

ما مدى استقرار هذا التحالف العالمي بين النيوليبرالية والفاشية الجديدة؟ وإلى متى يمكن أن نتوقع من دعم الفاشية الجديدة أن يدعم النيوليبرالية التي تترنح تحت وقع الأزمة؟
قد يعتقد البعض أن الفاشية الجديدة قدر وجد ليبقى، بسبب من أن التمويل العالمي لن يقبل باندلاع حروب بين القوى الرأسمالية الكبرى أو الصغيرة ولكن، من ناحية أخرى، تخضع الأنظمة الفاشية الجديدة للقيود عينها التي يفرضها هيمنة التمويل العالمي، وهذا التمويل محدد، من ناحية واحدة، بصورة لا تقبل الجدل، فهو يعطّل من قدرة الفاشية الجديدة على إحياء التشغيل ووضح حد لارتفاع معدلات البطالة. لنتذكر، عملت الفاشية الكلاسيكية على إعادة التشغيل والتوظيف من خلال الإنفاق على التسلح الحكومي الذي تم تمويله بشكل كبير عن طريق الاقتراض -أي من خلال إدارة عجز مالي كبير، وعبر هذه الجهود، كانت اليابان أول دولة خرجت من الكساد الكبير في العام 1931، كما كانت ألمانيا أول دولة أوروبية تخلق طفرة في الأعمال التجارية في العام 1933 في ظل الحكومة النازية. نتيجة لذلك، كانت هناك فترة وجيزة، بين نهاية البطالة الجماعية وبداية أهوال الحرب، عندما تمتعت الحكومات الفاشية بدعم جماهيري كبير.
وتبدو الفاشية الجديدة على النقيض من الفاشية الكلاسيكية لجهة عدم قدرتها على إنهاء البطالة الجماعية. ولا يقتصر الأمر على أن مثل هذا الهدف يتطلب نفقات حكومية أكبر، وهو بالفعل موضوع ازدراء بين النيوليبراليين؛ إذ يجب تمويل هذه النفقات من خلال فرض ضرائب على الرأسماليين أو من خلال عجز مالي - وكلاهما مستبعد في ظل النيوليبرالية. ففرض ضرائب على الرأسماليين سواء من خلال ضريبة الأرباح أو ضريبة الثروة، وفقاً للعقيدة النيوليبرالية، من شأنه أن يؤثر سلباً على "أرواحهم الحيوانية"**، على حد قول كينز -أي مجموع المواقف التي تعزز الاستثمار الأكبر من خلال الرأسماليين. من ناحية أخرى، لا يحبذ التمويل ظهور عجز مالي كبير، فمثل هذا العجز سوف يضع الشرعية الاجتماعية للرأسماليين موضع تساؤل وريبة (خاصة المصالح المالية التي تشكل ما أسماه كينز "المستثمرين العاطلين عن العمل"). ويطرح هذا الموقف مشكلة فيما يتعلق بسيطرة الفاشية الجديدة على السلطة. فقد يؤدي عدم قدرتها على التخفيف من أزمة النيوليبرالية إلى هزيمتها في الانتخابات (بافتراض أنها لا تزورها أو تتجاوزها تماماً): ويمكن القول إن هذا ما حدث في الولايات المتحدة إثر ترامب أمام جو بايدن. ولكن حتى إذا خسرت الفاشية الجديدة على المدى القصير، فإنها سوف تظل منافساً قوياً للعودة إلى السلطة طالما أن الحكومات اللاحقة عادت إلى العمل النيوليبرالي كالمعتاد، كما كان النمط لبعض الوقت. ومن أجل كسر هذه الحلقة، من الضروري ألا تستأنف الحكومة اللاحقة السياسات النيوليبرالية القديمة التي تؤدي إلى الخلل في المساواة والفقر المتزايد والبطالة المتزايدة. يجب أن يكون هناك تحول حاسم نحو دولة رفاهية قوية مع إحياء الخدمات الاجتماعية العامة، والسلع العامة، والعمالة المرتفعة -وعلى وجه التحديد، السياسات التي أحبطتها هيمنة التمويل العالمي. أمّا من الناحية الكميّة، فإن هذا التحول ممكن تماماً. ففي دولة مثل الهند، تشير التقديرات إلى أنه من أجل إرساء خمسة حقوق اقتصادية عامة وقابلة للتقاضي في البلاد -الحق في الغذاء، والحق في العمل (أو الأجر الكامل إذا لم يتم توفير العمالة)، والحق في الرعاية الصحية المجانية من خلال الصحة الوطنية. الخدمة، والحق في التعليم المجاني الممول من القطاع العام (على الأقل حتى مرحلة ترك المدرسة)، والحق في معاش الشيخوخة وإعانة العجز الكافية- تتطلب إنفاق ما نسبته 10 % إضافية من الناتج المحلي الإجمالي فوق ما هو موجود بالفعل لمثل هذه الحقوق. وسوف يتطلب الأمر، من الناحية العملية، زيادة موارد إضافية تصل إلى 7 % من الناتج المحلي الإجمالي، لأن ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي على حساب هذه النفقات سيحقق تلقائياً إيرادات إضافية على أي حال. (ناقشت أنا وجياتي غوش هذه الحسابات في مساهمتنا في الكتاب الذي ظهر مؤخراً " نحن الشعب: تأسيس الحقوق وتعميق الديمقراطية" We the People: Establishing Rights and Deepening Democracy من تحرير نيخيل داي وأرونا روي وراكشيتا سوامي). ويمكن زيادة هذه النسبة البالغة 7 % من خلال ضريبتين فقط، تُفرض فقط على أعلى 1 % من سكان البلاد: ضريبة الثروة بنسبة 2 %، وضريبة الميراث المفروضة على نفس المجموعة إلى حد ثلث ما هو فقط. تنتقل كل عام. اكتسبت ضريبة الثروة أيضاً مكانة في المناقشات العامة في الولايات المتحدة بعد مقترحات بيرني ساندرز وإليزابيث وارين في موسم انتخابات العام 2020؛ حتى أن قلة من المليارديرات الأمريكيين أيدوا اقتراح وارن.
باختصار، هناك فهم عام يتطور في جميع أنحاء العالم بأن الهروب من الوضع الحالي يتطلب تحركاً ملموساً نحو تعزيز إجراءات دولة الرفاهية التي تم التراجع عنها خلال صعود الليبرالية الجديدة.
وسوف يشكّل هذا التحول تحدياً، من الناحية السياسية. وستؤدي محاولات فرض ضرائب على الأثرياء إلى تنفير المستثمرين، وإذكاء المخاوف من هروب رأس المال أو عدم كفاية التدفقات المالية الوافدة لتغطية العجز التجاري الآخذ في الاتساع الذي سيترتب على ذلك. ومهما طال الأمر، لابد في نهاية المطاف أن تتضمن الإجابة السيطرة على التدفقات المالية الخارجة، رغم أن مثل هذه الإجراءات لا تتسبب بالضرورة في كارثة للعالم النامي. يمكن للاقتصادات الكبيرة والمتنوعة إدارة العواقب: وبسبب جفاف التدفقات المالية في أعقاب مثل هذه الضوابط، يمكن التغلب على الصعوبات قصيرة المدى لإدارة العجز التجاري بمرور الوقت من خلال تنويع الإنتاج بهدف زيادة الاكتفاء الذاتي. كما يمكن للاقتصادات الصغيرة أن تدار من خلال التضافر لتشكيل تكتلات تجارية محلية. إن السبب الحقيقي للقلق هو ما إذا كانت الدول المتقدمة، "حراس" العولمة، تفرض عقوبات تجارية وتتدخل بطرق أخرى ضد البلدان التي تحاول الهروب من الفاشية الجديدة من خلال تبني مثل هذه السياسات الاقتصادية المؤيدة للشعب.
إن هجوم الفاشيين الجدد على الديمقراطية هو محاولة أخيرة من جانب الرأسمالية النيوليبرالية لإنقاذ نفسها من الأزمة. ويجب، للهروب من هذا الوضع، تعبئة الرأي العام العالمي بشكل حاسم ضد النيوليبرالية، وحشد دعم الحركات الديمقراطية العالمية. عندها فقط ستنتهي هذه الأرض الخصبة للفاشية الجديدة.

هوامش المترجم
*القصد هنا من مجاز "النمو سيرفع كل القوارب" الإشارة إلى تحركات الأسعار في سوق الأوراق المالية أو الاقتصاد بشكل عام. الفكرة المتعلقة بسوق الأوراق المالية هي أن ارتفاع السوق يؤدي إلى ارتفاع قيمة جميع الأسهم، حتى الأسهم الضعيفة منها. ظهر هذا التعبير بتأثير من "الريغانية" التي ترى أنه إذا كان من يقودون الاقتصاد يعملون بشكل جيد، فسوف يعمل الأخرون بشكل جيد ايضاً-المترجم.
**الأرواح الحيوانية مصطلح استخدمه جون ماينارد كينز في كتابه( النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال- 1936) لوصف فترات الانتعاش الاقتصادي وما يرافق ذلك من "تفاؤل ساذج" وسطحي وفهم غير عميق للمبادئ الاقتصادية، يستعير كينز مصطلحه من المعنى الذي كان متداولاً لوصف الغرائز والميول والعواطف التي تؤثر ظاهرياً على سلوك البشر وتوجهه. فهو يطرح ثقة السلوك الساذج لثقة المستهلك بالاقتصاد المنتعش ويعتبره مثالاً على "الروح الحيوانية" لمثل هذه الثقة. حيث لا يخوض المستهلك غمار نقاش ما حول التوقعات الاقتصادية اللاحقة أو مؤشرات أسواق المال والمضاربة وغيرها، نظراً لأن الانتعاش الاقتصادي يخلق نوعاً من الحصانة الزائفة يشعر بها الأفراد ضد أي خسارة "اقتصادية" محتملة قادمة ولاحظ كينز كيف يستخدم رجال السياسة هذه الظاهرة لتمريرِ سياساتهم الاقتصادية، رغم أنهم، بسب معاندة الواقع لرغباتهم، يفشلون في ذلك في أغلب الحالات.
................
العنوان الأصلي: Why Neoliberalism Needs Neofascists
المؤلف: برابهات باتنيك
المصدر:https://bostonreview.net/class-inequality-politics/prabhat-patnaik-why-neoliberalism-needs-neofascists



#محمود_الصباغ (هاشتاغ)       Mahmoud_Al_Sabbagh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تقلبات المكان المقدس: بناء وتدمير وإحياء ذكرى المشهد الحسيني ...
- الفيلم الفلسطيني بين السردية والواقعية المفرطة والإيديولوجية ...
- الفيلم الفلسطيني بين السردية والواقعية المفرطة والإيديولوجية ...
- الفيلم الفلسطيني بين السردية والواقعية المفرطة والإيديولوجية ...
- دور بريطانيا في الحرب في سوريا
- سياسة بريطانية القديمةالجديدة: لا لدولة فلسطينية مستقلة
- 11/9 إلى الأبد
- فلسطين والفلسطينيون والقانون الدولي
- كيف نتحدث عن فشل منظمة التحرير الفلسطينية
- محو فلسطين لبناء إسرائيل: تحويل المناظر الطبيعية وتجذير الهو ...
- قصة لورنس العرب الحقيقية
- حوار مع هيفاء بيطار: في معنى الشعور بالانتماء
- الأركيولوجيا بين العلم والإيديولوجيا: العثور على أورشليم مثا ...
- الأركيولوجيا بين العلم والإيديولوجيا: العثور على أورشليم مثا ...
- الأركيولوجيا بين العلم والإيديولوجيا: العثور على أورشليم مثا ...
- الأركيولوجيا بين العلم والإيديولوجيا: العثور على أورشليم مثا ...
- الأركيولوجيا بين العلم والإيديولوجيا: العثور على أورشليم مثا ...
- الأركيولوجيا بين العلم والإيديولوجيا: العثور على أورشليم مثا ...
- الأركيولوجيا بين العلم والإيديولوجيا: العثور على أورشليم مثا ...
- الأركيولوجيا بين العلم والإيديولوجيا: العثور على أورشليم مثا ...


المزيد.....




- أين يمكنك تناول -أفضل نقانق- في العالم؟
- ريبورتاج: تحت دوي الاشتباكات...تلاميذ فلسطينيون يستعيدون متع ...
- بلينكن: إدارة بايدن رصدت أدلة على محاولة الصين -التأثير والت ...
- السودان يطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن لبحث -عدوان الإمارات ...
- أطفال غزة.. محاولة للهروب من بؤس الخيام
- الكرملين يكشف عن السبب الحقيقي وراء انسحاب كييف من مفاوضات إ ...
- مشاهد مرعبة من الولايات المتحدة.. أكثر من 70 عاصفة تضرب عدة ...
- روسيا والإمارات.. البحث عن علاج للتوحد
- -نيويورك تايمز-: واشنطن ضغطت على كييف لزيادة التجنيد والتعبئ ...
- الألعاب الأولمبية باريس 2024: الشعلة تبحر نحو فرنسا على متن ...


المزيد.....

- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب
- الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر / أيمن زهري
- المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع / عادل عبدالله
- الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية / زهير الخويلدي
- ما المقصود بفلسفة الذهن؟ / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - محمود الصباغ - لماذا تحتاج النيوليبرالية إلى الفاشيين الجدد